تحفة الأقران في ما قرئ بالتثليث من حروف القرآن حرف الشِّين
فمن ذلك قولُه تعالى أفي سورة " الواقعة ": (فَشَارِبُونَ
شُرْبَ الْهِيمِ (55) .
قُرىء بضمّ الشِّين وفتحها وكسرها:
فأمّا قراءة الضّمّ فقرأ بها نافع وعاصم وحمزة، ووجهُها أنّه
مصدر.
وقيل: اسم لِما شُرِب.
وأمّا قراءة الفتح فقرأ بها باقي السبعة، والأعرج، وابن
المُسَيَّب.
ومالك بن دِينار، وابن جُرَيج.
ووجهُها أنه مصدر.
وأما قراءة الكسر فقرأ بها مجاهد وأبو عثمان النَّهدي.
ووجهُها أنّه اسم لا مصدر، يراد به المشروب، مثل الطِّحن يُراد
به المطحون.
(1/109)
حرف الشِّين
فمن ذلك قوله تعالى في سورة " النساء ": (وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ)
قُرىء بفتح الصاد وكسرها
وضمّها حيث وقع، إلاّ قولَه تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
النِّسَاءِ) ، فقد اتّفقَ السبعة على فتح الصاد منه.
فأمَّا قراءة الفتح فقرأ بها السبعةُ إلاّ الكسائي، ووجهُها
أنّه اسم
مفعول، المعنى: أنّ الله أحصنَهنّ بالأزواج أو بالإسلام. ويمكن
أن
يكون اسم فاعل على ما نقلَه ثعلبٌ عن ابن الأعرابيّ: من أنّ
أحْصَنَ يكون
اسمُ الفاعل منه " مُفْعَلاً " بفتح العين، وهو شاذٌّ.
وأمّا قراءة الكسر فقرأ بها الكسائيّ، ووجهُها أئه اسم فاعل،
والمعنى
أنّهنّ أحْصَنَّ فُروجَهنَّ.
وأما قراءة الضمّ فقرأ بها يزيد بن قُطيب، ووجهها أنَّ ضمَّ
الصاد
(1/110)
إتباع لضمِّ الميم.
تتميم:
فإن قلتَ: لأيّ شيءٍ اتّفق السبعةُ على الفتح من قوله تعالى:
(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ) ؟
قيل في الجواب: إنّ المراد بهنّ ذوات الأزواج، فأزواجهنّ
أحصنوهنّ.
فهنّ مفعولات لا غير.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " الرعد ": (صِنْوَانٌ وَغَيْرُ
صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ)
قرئ بكسر الصاد فيهما وضمّهما وفتحهما:
فأما قراءة الكسر فقرأ بها السبعة، ووجهها أنه جَمع وواحده
صِنو.
كقِنو وقِنوان، وهي لغة أهل الحجاز.
وأما قراءة الضمّ فقرأ بها ابن مُصَرِّف، والسُّلَمي، وزيد بن
عليّ رضي
الله عنهما، ووجهها أنه أيضاً جمع صِنو، كذِئب وذُؤبان، وهي
لغة تميم
وقيس.
وأما قراءة الفتح فقرأ بها الحسن وقتادة، ووجهها أنه اسم جمع،
نحو
(1/111)
السَّعدان لنبت، لأنّه ليس من أبنية
الجموع.
تتميم:
الصِّنو في اللغة: الفَرع يَجْمَعُه وآخرَ أصلٌ واحد، وأصلُه
المِثل، ومنه
قيل للعمِّ: صنو. وتثنيته صِنوان، وجمعه صِنوان.
والفرق بينهما أنّ النون في التثنية مكسورة، وأن النون في
الجمع يجري عليها الإعراب، وأنّ الألف في التثنية علامة إعراب
وتقلب ياء في النصب والجرّ، والألف في الجمع ثابتة على حالها
ولا تدلّ على إعراب.
ونظير صنو وصنوان قنو وقنوان، ولا ثالث لهما.
واعلم أنّ هذه الآيةَ الكريمةَ مُنَبِّهة على قُدرته عزّ وجلّ
وتدبيره، فإن
هذه المخلوقاتِ لا بُد لها من صانعٍ مُدَبرٍ قديير على ما
يشاء، حكيمٍ في
تدبيره.
وانظر إلى الشجر تخرجُ أغصانُها وثمراتُها في وقت معلوم لا
تتأخّر عنه
ولا تتقدّم، ثم يتصعّد الماء في ذلك الوقت عُلُوّاً، وليس من
طبعه إلا التَّسَفُّل، ثم يتفرَّقُ ذلك الماءُ في الورق
والأغصان والثمر، كل
بقسطه وبقدر ما فيه صلاحُه، ثم تختلفُ طعومُ الثمار والماءُ
واحد
(1/112)
والشجرُ جنس واحد، وكلُّ ذلك دليل على
مُدَبَر دَبَّرَه وأحكمَه، لا يُشْبِهُ
المخلوقات.
وقد نظم بعضُهم في هذا المعنى فقال في كتابه " الصادح والباغم
":
والأرضُ فيهاعِبر للمُعْتَبِرْ. . . تُخْبِرُ عن صُنعِ مليكٍ
مُقتدرْ
تُسقَى بماءٍ واحدٍ أشجارُها. . . وبقعةٌ واحد قَرارُها
والشمسُ والهواء ليس يَخْتَلِفْ. . . وأُكْلُها مُخْتَلِف لا
يَأتَلِفْ
لو أَنَّ ذا من عمل الطبائعِ. . . أو أنّه صَنعةُ غيرِ صانعِ
لم يختلفْ وكان شيئاً واحداً. . . هل يُشبهُ الأولادُ إلا
الوالدا
الشمسُ والهواءُ يا معاندُ. . . والماءُ والتُّرابُ شيء واحدُ
فما الذي أوجبَ ذا التَّفاضُلا. . . إلا حكيم لم يُرِدهُ
باطِلا
سبحانَه من مُحْكمٍ قديرِ. . . حي عليمٍ مُبْدعٍ بصيرِ
(1/113)
ومن ذلك قوله تعالى في هذه السورة الرعد،:
(وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) .
قُرىء بفتح الصاد وضمّها وكسرها:
فأما قراءة الفتح فقرأ بها السبعة إلاّ الكوفيّين، ووجهها
ظاهر.
ويحتمل (صدّوا) أن يكون متعدّياً فيكون المفعول محذوفاً،
التقدير:
صدُّوا أنفسهم أو غيرهم.
ويحتمل أن يكون لازماً فلا يكون هنا مفعول محذوف.
وأما قراءة الضمّ فقرأ بها الكوفيّون، ووجهها أن (صُدُّوا)
مبني
للمفعول، وهو متعدّ.
وأما قراءة الكسر فقرأ بها ابن وثّاب، ووجهها أن أصله
(صُدِدوا) بضمّ
الصاد وكسر الدال، ثمِ كسرت الصاد إتباعا للدال، ثم أدغموا
فقالوا
(صِدُّوا) وهي لغة بني ضبّة. ومثله قراءة ابن وثّاب أيضا:
(هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا) بكسر الراء.
(1/114)
تتميم:
وقرأ ابن أبي إسحق (وصَدٌ) بفتح الصاد وتنوين الدال، ووجهها أن
يكون معطوفاً على (مَكْرُهم) .
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " القَصَص ": (فَبَصُرَتْ بِهِ
عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) .
قرئ بضمّ الصاد وفتحها وكسرها:
فأما قراءة الضمّ فقرأ بها السبعة، ووجهها أنه جاء على " فعُل
" بضمّ
العين نحو: ظرُف وشرُف، والمضارع منه " يفعُل " بضمّ العين.
وأما قراءة الفتح فقرأ بها قتادة، ووجهها أنه جاء على " فعَل "
بفتح
العين نحو ضرَب، ومضارعه يمكن أن يكون بالضمّ أو بالكسر.
وأما قراءة الكسر فقرأ بها عيسى، ووجهها أنه على " فعِل " بكسر
العين
نحو علِم، ومضارعه " يفعَل " بالفتح.
تتميم:
يقال: بصُر بالشيء بَصارة: إذا علمه، قال تعالى: (بَصُرْتُ
بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) .
والبصير: العالم.
و (عَنْ جُنُبٍ) قيل: معناه عن بعد، وكذا قيل في قوله تعالى:
(1/115)
(وَالْجَارِ الْجُنُبِ) .
قال الشاعر:
فلا تَحْرِمَتي نائلاً عن جَنابةٍ. . .
أي: عن بعد.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " غافر ": (وَصُدَّ عَنِ
السَّبِيلِ) .
قرئ بفتح الصاد وضمّها وكسرها:
فأما قراءة الفتح فقرأ بها السبعة إلا الكوفيّين، ووجهها أنّه
مبني
للفاعل، والفاعل (فرعون) أي: وصدّ فرعون عن السبيل، و (صدّ)
غير
متعدّ، ويمكن أن يكون متعدياً والمفعول محذوف، والتقدير: وصدّ
فرعونُ قومَه؛ لأن الصدّ يتعدّى ولا يتعدّى.
وأما قراءة الضمّ فقرأ بها الكوفيّون، ووجهها أنّه مبنى
للمفعول.
والمُقام ضمير عائد على فرعون الذي كان فاعلاً في القراءة
الأولى، وكان
التقدير: صدّ اللهُ فرعونَ عن السبيل، فلما بُني للمفعول حُذف
الفاعل
(1/116)
وأقيم ضمير فرعون مقام الفاعل.
وأما قراءة الكسر فقرأ بها ابن وثّاب، ووجهها ما تقدّم في قوله
تعالى:
(وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) ، من إتباع حركة الصاد لحركة
الدال المقدَّرة.
تتميم:
وقرأ أيضاً هنا ابن أبي إسحق، وعبد الرحمن بن أبي بَكرة:
(وصَدٌّ)
بفتح الصاد ورفع الدال والتنوين، ووجهها أن يكون معطوفاً على
(سوء
عمله) والله أعلم.
(1/117)
|