تحفة الأقران في ما قرئ بالتثليث من حروف القرآن

حرف العين
فمن ذلك قولُه تعالى في سورة " البقرة ": (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) .
قرئ (بَدِيعُ) برفع العين ونصبها وجرّها:
فأمَّا قراءة الزَفع فقرأ بها السبعة، ووجهُها أنّه مرفوع على أنّه خبرُ مبتدأ
محذوف، والتقدير: هو بديع.
وأما قراءة النصب فلم يَنْسِبْها الشيخ أثير الدّين، وإنّما قال: وقرئ شاذّاً بالنّصب. ووجهُها أنّه منصوب على المدح، التقدير: أمدحُ بديعَ
السموات.
وأمّا قراءة الجر فلم ينسبها أيضاً، ووجهُها أنّه مجرور على البدل من
قوله تعالى: (لَهُ) .
تتميم:
(كُلٌّ) في الآية مبتدأ محذوفة المضاف، واختُلِفَ في تقديره: فمنهم
من قَدرَه: كل مَن في السموات والأرض، وهو الصحيح عندهم.
وقدَّره

(1/120)


الزمخشري: كلّ من جعلوا له ولدا.
واستبعدوه من وجهين:
أحدهما أنّ المجعولَ ولداً لم يَجْرِ ذِكرُه. وفيه نظر.
الثاني: أن الخبر وهو (قانتون) يشترك فيه المجعول وغيره.
وقوله تعالى: (قانتون) هو الخبر، وجُمعَ حملاً على المعنى؛ لأنّ
"كلاّ " لفظها مفرد ومعناها جمع، وإذا حُذِف ما يُضاف إليه جاز مراعاة
معناها نحو هذه الآية، وكقوله تعالى: (وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ)
(وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ) ، (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.
والحمل على المعنى هو الكثير، ويجوز مراعاة اللفظ كقوله تعالى:
(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) .
وقوله تعالى: (بَدِيعُ) هو صفة مُشَبّهة باسم الفاعل، التقدير: مُبدع.
و (السموات) مشبّهة بالمفعول.
والأصل: بديعٌ سماواتُه، برفع السموات على الفاعلية، نحو حَسَنٌ وجهه، ثم نقلوا الضمير من

(1/121)


(السموات) إلى (بديع) فصار فاعلا، وانتصب (السموات) على التشبيه
بالمفعول به، ثم بعد النصب جرّوها بالإضافة، فجرّها الآن من نصب.
ونصبها من رفع.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " الأنعام ": (عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
قرئ (بديع) برفع العين ونصبها وجرّها:
فأما قراءة الرفع فقرأ بها السبعة، ووجهها أنه خبر مبتدأ محذوف، أي:
هو بديع، وقيل: مبتدأ، و (أَنىَّ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) . خبره، وجوّز أبو البقاء أن
يكون فاعل (تعالى) .
وأما قراءة النصب فقرئت في الشاذِّ، ولم ينسبها أبو حيَّان، ووجهها
النصب على المدح.
وأما قراءة الجرّ فقرأ بها المنصور، ووجهها أنّه عطف بيان (لله) من
قوله تعالى: (وجعلوا للهِ) .

(1/122)


ومن ذلك قوله تعالى في سورة " الأنفال ": (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى)
قرئ بكسر العين من (الْعُدْوَةِ) وضمّها وفتحها:
فأما قراءة الكسر فقرأ بها ابن كثير، وأبو عمرو.
وأما قراءة الضمّ فقرأ بها باقي السبعة.
وأما قراءة الفتح فقرأ بها زيد بن عليّ رضي الله عنهما، وذلك كلّه
لغات.
ويحتمل في قراءة الفتح أن يكون الأصل مصدراً ثم سمّي به.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " يونس " عليه السّلام: (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) .
قرئ برفع العين من (مَتَاعَ) ونصبها وجرّها:
أما قراءة الرفع فقرأ بها السبعة، ووجهها الرفع على خبر مبتدأ

(1/123)


محذوف، أي: هذا متاع، و (بغيكم) على هذا مبتدأ، و (على أنفسكم)
الخبر، ويمكن أن يكون (متاع) خبراً عن (بغيكم) ، و (على أنفسكم)
يتعلق بـ (بغيكم) .
وأما قراءة النصب فقرأ بها زيد بن علي رضي الله عنهما، وهارون عن
ابن كثير، ووجهها النصب على المصدرية.
وقيل: مصدر في موضع الحال: أي متمتعين.
وقيل: ظرف، من باب: مَقْدَم الحاجّ، أي: وقت متاع، و (على أنفسكم) ، على هذا خبر لـ (بغيكم) . وإذا كان (متاعَ) منصوباً على الحال أو الظَّرف، فالعامل فيه اسم الفاعل الذي يتعلّقُ به
(على أنفسكم) ولا يعمل فيه (بغيكم) لأنه مصدر، ويلزم منه الفصل
بين المصدر ومعموله بالخبر وهو (على أنفسكم) .
وقيل: انتصب (متاع) على أنّه مفعول بـ (بغيكم) والخبر محذوف، التقدير: طلبكم متاع الحياة الدنيا ضلال.
وأما قراءة الجرّ فنقلها أبو البقاء ولم ينسبها، ووجهها الجر على النعت
للأنفس، والتقدير: ذوات متاع، ويجوز أن يكون المصدر يراد به اسم
الفاعل، أي: متمتعات الدنيا.

(1/124)