روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني الم (1) ذَلِكَ
الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى
هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
سورة البقرة
هذا هو الاسم المشهور وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله تعالى
عنه هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة وهو معارض لما روي
من منع ذلك وتعين أن يقال السورة التي يذكر فيها البقرة وكذا
في سور القرآن كله ومن ثمة أجاز الجمهور ذلك من غير كراهة
ويمكن أن يوفق بأنه كان مكروها في بدأ الإسلام لاستهزاء الكفار
ثم بعد سطوع نوره نسخ النهي عنه فشاع من غير نكير وورد في
الحديث بيانا لجوازه وقد تقدم بعض الكلام على هذا، وكان خالد
ابن معدان يسميها فسطاط القرآن وورد في حديث مرفوع في مسند
الفردوس وذلك لعظمها ولما جمع فيها من الأحكام التي لم تذكر في
غيرها حتى قال بعض الأشياخ: إن فيها ألف أمر وألف نهي وألف خبر
قيل وفيها خمسة عشر مثلا ولهذا أقام ابن عمر رضي الله تعالى
عنهما ثماني سنين على تعلمها وورد في حديث المستدرك تسميتها
سنام القرآن وسنام كل شيء أعلاه وكأنه لذلك أيضا،
وروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «أي القرآن
أفضل فقالوا الله ورسوله أعلم قال سورة البقرة ثم قال وأيها
أفضل؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال آية الكرسي،
وهي مدنية وآياتها مائتان وسبع وثمانون على المشهور وقيل ست
وثمانون وفيها آخر آية نزلت وهي قوله تعالى: وَاتَّقُوا
يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة: 281] وقد
نزلت في حجة الوداع يوم النحر ولا تخرج بذلك عن كونها مدنية
كما لا يخفى، ووجه مناسبتها لسورة الفاتحة أن الفاتحة مشتملة
على بيان الربوبية أولا والعبودية ثانيا وطلب الهداية في
المقاصد الدينية والمطالب اليقينية ثالثا، وكذا سورة البقرة
مشتملة على بيان معرفة الرب أولا كما في يُؤْمِنُونَ
بِالْغَيْبِ [البقرة: 3] وأمثاله وعلى العبادات وما يتعلق بها
ثانيا وعلى طلب ما يحتاج إليه في العاجل والآجل آخرا وأيضا في
آخر الفاتحة طلب الهداية وفي أول البقرة إيماء إلى ذلك بقوله
هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] ولما افتتح سبحانه الفاتحة
بالأمر الظاهر وكان وراء كل ظاهر باطن افتتح هذه السورة بما
بطن سره وخفي إلا على من شاء الله تعالى أمره فقال سبحانه
وتعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم هي وسائر
الألفاظ التي يتهجى بها «كبا تا ثا» أسماء مسمياتها الحروف
المبسوطة التي ركبت منها الكلمة لصدق حد الاسم المتفق عليه
واعتوار خواصه المجمع عليها
(1/101)
على كل منها، ويحكى عن الخليل أنه سأل
أصحابه كيف تنطقون في الباء من ضرب والكاف من لك فقالوا- باء
كاف- فقال: إنما جئتم بالاسم لا الحرف وأنا أقول- به كه- وما
روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «قال سمعت رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم يقول: من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى
فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول لم حرف ولكن ألف حرف
ولام حرف وميم حرف»
فالمراد به غير المصطلح إذ هو عرف جديد بل المعنى اللغوي وهو
واحد حروف المباني فمعنى ألف حرف إلخ مسمى ألف وهكذا ولعله صلى
الله تعالى عليه وسلم سمى ذلك حرفا باسم مدلوله فهو معنى حقيقي
له وما قيل: انه سماه حرفا مجازا لكونه اسم الحرف وإطلاق أحد
المتلازمين على الآخر مجاز مشهور ليس بشيء فإن أريد من الم
مفتتح سورة الفيل يكون المراد أيضا منه مسماه وتكون الحسنات
ثلاثين وفائدة النفي دفع توهم أن يكون المراد بالحرف فيمن قرأ
حرفا الكلمة وإن أريد نحو ما هنا فالمراد نفسه ويكون عدد
الحسنات حينئذ تسعين وفائدة الاستئناف دفع أن يراد بالحرف
الجملة المستقلة كما في الإبانة لأبي نصر عن ابن عباس قال: آخر
حرف عارض به جبريل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الم
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ والمعنى
لا أقول إن مجموع الأسماء الثلاثة حرف بل مسمى كل منها حرف
وإنما لم يذكر تلك الحروف من حيث إنها أجزاء بأن يقابل (1) ألف
حرف ولام حرف تنبيها على أن المعتبر في عدد الحسنات الحروف
المقروءة التي هي المسميات سواء كانت أجزاء لها أو لكلمات أخر
لا من حيث إنها أجزاء لتلك الأسماء فيكون عدد الحسنات في نحو
ضرب ثلاثين.
والحاصل أن الحروف المذكورة من حيث إنها مسميات تلك الأسماء
أجزاء لجميع الكلم مفردة بقراءتها ومن حيث إنها أجزاء تلك
الأسماء لا تكون مفردة إلا عند قراءة تلك الأسماء والمعتبر في
عدد الحسنات الاعتبار الأول دون الثاني ذكر ذلك بعض المحققين
ثم إنهم راعوا في هذه التسمية لطيفة حيث جعلوا المسمى صدر كل
اسم له كما قاله ابن جني وذلك ليكون تأديتها بالمسمى أول ما
يقرع السمع ألا ترى أنك إذا قلت جيم فأول حروفه جيم وإذا قلت
ألف فأول حروفه ألف التي نطقت بها همزة ولما لم يمكن للواضع أن
يبتدىء بالألف التي هي مدة ساكنة دعمها باللام قبلها متحركة
ليمكن الابتداء بها فقالوا لا كما- لا- كما يقوله المعلمون لام
ألف فإنه خطأ (2) وخص اللام بالدعامة لأنهم توصلوا إلى اللام
بأختها في التعريف فكأنهم قصدوا ضربا من المعاوضة فالألف هي
أول حرف المعجم صورة الهمزة في الحقيقة ويضاهي هذا في إيداع
اللفظ دلالة على المعنى البسملة والحمدلة والحوقلة وتسميه
النحاة نحتا وحكم أسماء الحروف سكون الإعجاز ما لم تكن معمولة
وهل هي معربة أم مبنية أم لا ولا خلاف مبني على الاختلاف في
تفسير المعرب والمبني فالخلاف لفظي. وللناس فيما يعشقون مذاهب.
والبحث مستوفى في كتبنا النحوية، وقد كثر الكلام في شأن أوائل
السور والذي أطبق عليه الأكثر وهو مذهب سيبويه وغيره من
المتقدمين أنها أسماء لها وسميت بها إشعارا بأنها كلمات معروفة
التركيب فلو لم تكن وحيا من الله تعالى لم تتساقط مقدرتهم دون
معارضتها وذلك كما سموا بلام والد حارثة بن لام الطائي وبصاد
النحاس وبقاف الجبل واستدل عليه بأنها لو لم تكن مفهمة كان
الخطاب بها كالخطاب بالمهمل والتكلم بالزنجي مع العربي ولم يكن
القرآن بأسره بيانا وهدى ولما أمكن التحدي به وإن كانت مفهمة
فأما أن يراد بها السور التي هي مستهلها على
__________
(1) قوله بأن بقابل إلخ كذا بخطه وفيه ما يحتاج إلى التأمل اهـ
مصححه.
(2) وما قاله بشار في وصف سكران يخط في الطريق لام ألف فأراد
بخط معوجا كلام ومستقيما كألف فافهم اهـ منه.
(1/102)
أنها ألقابها بناء على ذلك الإشعار أو غير
ذلك والثاني باطل لأنه إما أن يكون المراد ما وضعت له في لغة
العرب وظاهر أنه ليس كذلك أو غيره وهو باطل لأن القرآن نزل
بلسان عربي مبين فلا يحمل على ما ليس في لغتهم وعورض بوجوه،
الأول أنا نجد سورا كثيرة افتتحت «بالم- وحم» والمقصود رفع
الاشتباه، الثاني لو كانت أسماء لوردت ولاشتهرت بها والشهرة
بخلافها كسورة البقرة وآل عمران، الثالث أن العرب لم تتجاوز ما
سموا به مجموع اسمين كبعلبك ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة
أسماء وأربعة وخمسة فالقول بأنها أسماء السور خروج عن لغتهم،
الرابع أنه يؤدي إلى اتحاد الاسم والمسمى، الخامس أن هذه
الألفاظ داخلة في السور وجزء الشيء متقدم على الشيء بالرتبة
واسم الشيء متأخر عنه فيلزم أن يكون متقدما متأخرا معا وهو
محال، وأجيب عن الأول بما يجاب عن الأعلام المشتركة من أنها
ليست بوضع واحد، وعن الثاني بأنه
ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم «يس قلب القرآن ومن قرأ حم
حفظ إلى أن يصبح»
وفي السنن «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سجد في «ص»
وإذا ثبت في البعض ثبت الجميع إذ لا فارق مع أن شهرة أحد
العلمين لا يضر علمية الآخر فكم من مسمى لا يعرف اسمه إلا بعد
التنقير لاشتهاره بغيره كأبي هريرة وذي اليدين وعدم اشتهار
بعضها لكونه مشتركا فترك لاحتياجه إلى ضميمة «كالم» هنا، وعن
الثالث بأن التسمية بثلاثة أسماء مثلا إنما تمتنع إذا ركبت
وجعلت اسما واحدا فأما إذا نثرت نثر أسماء الأعداد فلا لأنها
من باب التسمية بما حقه أن يحكى.
وقد وردت التسمية بثلاثة ألفاظ- كشاب قرناها، وسر من رأى،
ودارابجرد- وسوى سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر
وطائفة من أسماء حروف المعجم، وعن الرابع بأن هذه التسمية من
تسمية مؤلف بمفرد والمفرد غير المؤلف فلا اتحاد ألا ترى أنهم
جعلوا اسم الحرف مؤلفا منه ومن غيره «كصاد» فهما متغايران ذاتا
وصفة، وعن الخامس بأن تأخر ما هو متقدم باعتبار آخر غير مستحيل
والجزء مقدم من حيث ذاته مؤخر من حيث وصفه وهو الاسمية فلا
محذور، وقال بعضهم: كونها أسماء الحروف المقطعة أقرب إلى
التحقيق لظهوره وعدم التجوز فيه وسلامته مما يرد على غيره
ولأنه الأمر المحقق وأوفق للطائف التنزيل لدلالته على الإعجاز
قصدا ووقوع الاشتراك في الأعلام من واضع واحد فإنه يعود بالنقض
على ما هو مقصود العلمية وكلام سيبويه وغيره ليس نصا فيها
لاحتمال أنهم أرادوا أنها جارية مجراها- كما يقولون- قرأت بانت
سعاد وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] أي ما أوله ذلك
فلما غلب جريانها على الألسنة صارت بمنزلة الأعلام الغالبة
فذكرت في باب العلم وأثبتت لها أحكامه على أن ما ذكر في
الاعتراض الثالث مما لا محيص عنه إذ عدم وجود التسمية بثلاثة
أسماء وأربعة وخمسة في كلام العرب مما لا شك فيه وما نقل عن
سيبويه مجرد قياس محتاج للإثبات كما ذكره السيد السند، هذا
ووراء هذين القولين أقوال أخشى من نقلها الملال والذي يغلب على
الظن أن تحقيق ذلك علم مستور وسر محجوب عجزت العلماء- كما قال
ابن عباس- عن إدراكه وقصرت خيول الخيال عن لحاقه، ولهذا قال
الصديق رضي الله تعالى عنه: لكل كتاب سر وسر القرآن أوائل
السور، وقال الشعبي: سر الله تعالى فلا تطلبوه.
بين المحبين سر ليس يفشيه ... قول ولا قلم للخلق يحكيه
فلا يعرفه بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا الأولياء
الورثة فهم يعرفونه من تلك الحضرة وقد تنطق لهم الحروف عما
فيها كما كانت تنطق لمن سبح بكفه الحصى وكلمه الضب والظبي صلّى
الله عليه وسلّم كما صح ذلك من رواية أجدادنا أهل البيت رضي
الله تعالى عنهم بل متى جنى العبد ثمرة شجرة قرب النوافل علمها
وغيرها بعلم الله تعالى الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في
الأرض ولا في السماء، وما ذكره المستدل سابقا من أنه لو لم تكن
مفهمة كان الخطاب بها
(1/103)
كالخطاب بالمهمل إلخ فمهمل من القول وإن جل
قائله لأنه إن أراد إفهام جميع الناس فلا نسلم أنه موجود في
العلمية وإن أراد إفهام المخاطب بها وهو هنا الرسول صلّى الله
عليه وسلّم فهو مما لا يشك فيه مؤمن وإن أراد جملة من الناس
فيا حيهلا إذ أرباب الذوق يعرفونها وهم كثيرون في المحمديين
والحمد لله.
نجوم سماء كلما انقض كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
وجهل أمثالنا بالمراد منها لا يضر فإن من الأفعال التي كلفنا
بها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه كرمي الجمرات والسعي بين الصفا
والمروة والرمل والاضطباع والطاعة في مثله أدل على كمال
الانقياد ونهاية التسليم فلم لا يجوز أن يأمرنا من لا يسأل عما
يفعل جل شأنه بما لم نقف على معناه من الأقوال ويكون المقصود
من ذلك ظهور كمال الانقياد من المأمور للآمر ونهاية التسليم
والامتثال للحكيم القادر.
لو قال تيها قف على جمر الغضى ... لوقفت ممتثلا ولم أتوقف
على أن فيه فائدة أخرى هي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط
به سقط وقعه عن القلب وإذا لم يقف على المقصود منه مع القطع
بأن المتكلم به حكيم فإنه يبقى قلبه منقلبا إليه أبدا ومتلفتا
نحوه سرمدا ومتفكرا فيه وطائرا إلى وكره بقدامى ذهنه وخوافيه
وباب التكليف اشتغال السر بذكر المحبوب والتفكر فيه وفي كلامه
فلا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في بقاء العبد ملتفت الذهن
مشتغل الخاطر بذلك أبدا مصلحة عظيمة ومنة منه عليه جسيمة ربما
يرقى بواسطتها إلى حظائر القدس ومعالم الأنس وأول العشق خيال
وهذا لا ينافي كون القرآن عربيا مبينا مثلا لأنه بالنسبة إلى
من علمت.
وأما التحدي فليس بجميع أجزائه وكون أول السورة مما ينبغي أن
يكون مما يتحدى به غير مسلم، ومن عجائب هذه الفواتح أنها نصف
حروف المعجم على قول وهي موجودة في تسع وعشرين سورة عدد الحروف
كلها على قول، واشتملت على أنصاف أصنافها من المهموسة
والمجهورة والشديدة والمطبقة والمستعلية والمنخفضة وحروف
القلقلة وقد تكلم الشيخ الأكبر قدس سره على سر عدد حروفها
بالتكرار وعدد حروفها بغير تكرار وعلى جملتها في السور وعلى
إفرادها في «ص» و «ق» و «ن» وتثنيتها في «يس» و «طه» وأخواتهما
وجمعها من ثلاثة فصاعدا ولم بلغت خمسة حروف ولم وصل بعضها وقطع
بعض؟ فقال قدس سره في فتوحاته أعاد الله تعالى علينا من طيب
نفحاته ما حصله: اعلم أن مبادئ السور المجهولة لا يعلم حقيقتها
إلا أهل الصور المعقولة فجعلها تبارك وتعالى تسعا وعشرين سورة
وهو كمال الصورة وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس: 39]
والتاسع والعشرون القطب الذي به قوام الفلك وهو علة وجوده وهو
سورة آل عمران الم اللَّهُ [آل عمران: 1] ولولا ذلك ما ثبتت
الثمانية والعشرون وجملتها على تكرار الحروف ثمانية وسبعون
حرفا فالثمانية حقيقة البضع
قال صلّى الله عليه وسلّم: «الإيمان بضع وسبعون»
وهذه الحروف ثمانية وسبعون فلا يكمل عبد أسرار الإيمان حتى
يعلم حقائق هذه الحروف في سورها كما أنه إذا علمها من غير
تكرار علم تنبيه الله فيها على حقيقة الإيجاد وتفرد القديم
سبحانه وتعالى بصفاته الأزلية فأرسلها في قرآنه أربعة عشر حرفا
مفردة مبهمة فجعل الثمانية لمعرفة الذات والسبع الصفات منا
وجعل الأربعة للطبائع المؤلفة فجاءت اثنتا عشرة موجودة وهذا هو
الإنسان من هذا الفلك ومن فلك آخر متركب من أحد عشر ومن عشرة
ومن تسعة ومن ثمانية حتى يصل إلى فلك الاثنين ولا يتحلل إلى
الأحدية أبدا فإنها مما انفرد بها الحق سبحانه ثم إنه تعالى
جعل أولها الألف في الخط والهمزة في اللفظ وآخرها النون،
فالألف لوجود الذات على كمالها لأنها غير مفتقرة إلى حركة،
والنون لوجود الشطر من العالم وهو عالم التركيب وذلك نصف
الدائرة الظاهرة لنا من الفلك والنصف الآخر النون المعقولة
عليها التي لو ظهرت
(1/104)
للحس وانتقلت إلى عالم الروح لكانت دائرة
محيطة ولكن أخفى هذه النون الروحانية التي بها كمال الوجود
وجعلت نقطة النون المحسوسة دالة عليها فالألف كاملة من جميع
وجوهها والنون ناقصة فالشمس كاملة والقمر ناقص لأنه محو فصفة
ضوئه معارة وهي الأمانة التي حملها وعلى قدر محوه وسراره
إثباته وظهوره ثلاثة لثلاثة فثلاثة غروب القمر القلبي الإلهي
في الحضرة الأحدية وثلاثة طلوع القمر القلبي الإلهي في الحضرة
الربانية وما بينهما في الخروج والرجوع قدما بقدم لا يختل أبدا
ثم جعل سبحانه وتعالى هذه الحروف على مراتب منها موصول ومنها
مقطوع ومنها مفرد ومثنى ومجموع ثم نبه أن في كل وصل قطعا وليس
في كل قطع وصل فكل وصل يدل على فصل وليس كل فصل يدل على وصل
والوصل والفصل في الجمع وغير الجمع والفصل وحده في عين الفرق
فما أفرده من هذا فإشارة إلى فناء رسم العبد أولا أو ما أثبته
فإشارة إلى وجود رسم العبودية حالا وما جمعه فإشارة إلى الأبد
بالموارد التي لا تتناهى والإفراد للبحر الأزلي والجمع للبحر
الأبدي والمثنى للبرزخ المحمدي الإنساني والألف فيما نحن فيه
إشارة إلى التوحيد والميم إشارة إلى الملك الذي لا يبيد واللام
بينهما واسطة ليكون بينهما رابطة، فانظر إلى السطر الذي يقع
عليه الخط من اللام فتجد الألف إليه ينتهي أصلها وتجد الميم
منه يبتدىء نشؤها ثم تنزل من أحسن تقويم وهو موضع السطر إلى
أسفل سافلين منتهى تعريف الميم ونزول الألف إلى السطر مثل قوله
«ينزل ربنا إلى السماء الدنيا» وهو أول عالم التركيب لأنه سماء
آدم عليه السلام ويليه فلك النار فلذلك نزل إلى أول السطر فإنه
سبحانه وتعالى نزل من مقام الأحدية إلى مقام إيجاد الخليفة
نزول تقدس وتنزيه لا نزول تمثيل وتشبيه وكانت اللام واسطة وهي
نائبة مناب المكون والكون فهي القدرة التي عنها وجد العالم
فأشبهت الألف في النزول إلى أول السطر ولما كانت ممتزجة من
المكون والكون فإنه سبحانه وتعالى لا يتصف بالقدرة على نفسه
وإنما هو قادر على خلقه فكان وجه القدرة مصروفا إلى الخلق فلا
بد من تعلقها بهم ولما كانت حقيقتها لا تتم بالوصول إلى السطر
فتكون هي والألف على مرتبة واحدة طلبت بحقيقتها النزول تحت
السطر أو عليه كما نزل الميم فنزلت إلى إيجاده ولم تتمكن أن
تنزل على صورته فكان لا يوجد عنها إلا الميم فنزلت نصف دائرة
حتى بلغت إلى السطر من غير الجهة التي نزلت منها فصارت نصف فلك
محسوس تطلب نصف فلك معقول فكان منهما فلك دائر فكان العالم كله
في ستة أيام أجناسا من أول يوم الأحد إلى آخر يوم الجمعة وبقي
يوم السبت للانتقال من مقام إلى مقام ومن حال إلى حال فصار الم
فلكا محيطا من ورائه علم الذات والصفات والأفعال والمفعولات
فمن قرأها بهذه الحقيقة حضر بالكل للكل مع الكل إلى آخر ما
قال، وذكر في كتاب الإسراء إلى المقام الأسرى ما يشير إلى
دقائق أفكار وخفايا أسرار مبنية على أعداد الحروف وهي ثلاثة
آلاف وخمسمائة واثنين وثلاثين (1) وأول التفصيل من نوح إلى
إشراق يوح ثم إلى آخر التركيب الذي نزل فيه الكلمة والروح فبعد
عدده تضربه وتجمعه وتحط منه طرحا وتضعه
يبدو لك تمام الشريعة حتى إلى انخرام الطبيعة، ومما يستأنس به
لذلك ما
رواه العز ابن عبد السلام أن عليا رضي الله تعالى عنه استخرج
وقعة معاوية من «حمعسق»
واستخرج أبو الحكم عبد السلام بن برجان في تفسيره فتح بيت
المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة من قوله تعالى: الم غُلِبَتِ
الرُّومُ [الروم: 1] وذكر الشيخ قدس سره كيفية استخراج ذلك
بغير الطريق الذي ذكره وهو أن تأخذ عدد «الم» بالجزم الصغير
فيكون ثمانية وتجمعها إلى ثمانية البضع في الآية فتكون ستة عشر
فتزيل الواحد الذي للألف للأس فتبقى خمسة عشر فتمسكها عندك ثم
ترجع إلى العمل في ذلك بالجمل الكبير. وهو الجزم فتضرب ثمانية
البضع في
__________
(1) قوله واثنين وثلاثين كذا بخط المؤلف ولعله سبق قلم منه إذ
مقامه الرفع فيقال واثنان وثلاثون اهـ مصححه. [.....]
(1/105)
أحد وسبعين واجعل ذلك كله سنين يخرج لك في
الضرب خمسمائة وثمانية وستون سنة فتضيف إليها الخمسة عشر التي
مسكتها عندك فتصير ثلاثة وثمانين وخمسمائة سنة وهو زمان فتح
بيت المقدس على قراءة غلبت بفتح الغين واللام وسيغلبون بضم
الياء وفتح اللام انتهى وإذا علمت أن هذه الفواتح السر الأعظم
والبحر الخضم والنور الأتم.
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا ... ونور ولا نار وروح ولا جسم
«فاعلم» أن كل ما ذكر الناس فيها رشفة من بحار معانيها ومن
ادعى قصرا فمن قصوره أو زعم أنه أتى بكثير فمن قلة نوره
والعارف يقول باندماج جميع ما ذكروه في صدف فرائدها وامتزاج
سائر ما سطروه في طمطام فوائدها فإن شئت فقل كما أنها مشتملة
على هاتيك الأسرار يشير كل حرف منها إلى اسم من أسمائه تعالى
وإن شئت فقل أتى بها هكذا لتكون كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدى
بالقرآن وإن شئت فقل جاءت كذلك ليكون مطلع ما يتلى عليهم
مستقلا بضرب من الغرابة أنموذجا لما في الباقي من فنون الإعجاز
فإن النطق بأنفس الحروف في تضاعيف الكلام وإن كان على طرف
الثمام يتناوله الخواص والعوام لكن التلفظ بأسمائها إنما يتأتى
ممن درس وخط. وأما من لم يحم حول ذلك قط فأعز من بيض الأنوق
وأبعد من مناط العيوق ولا سيما إذا كان على نمط عجيب وأسلوب
غريب منبىء عن سر سرى مبني على نهج عبقري بحيث يحار فيه أرباب
العقول ويعجز عن إدراكه ألباب الفحول وإن شئت فقل فيها جلب
لإصغاء الأذهان وإلجام كل من يلغو من الكفار عند نزول القرآن
لأنهم إذا سمعوا ما لم يفهموه من هذا النمط العجيب تركوا اللغط
وتوفرت دواعيهم للنظر في الأمر المناسب بين حروف الهجاء التي
جاءت مقطعة وبين ما يجاورها من الكلم رجاء أنه ربما جاء كلام
يفسر ذلك المبهم ويوضح ذلك المشكل وفي ذلك رد شر كثير من
عنادهم وعتوهم ولغوهم الذي كان إذ ذاك يظهر منهم وفي ذلك رحمة
منه تعالى للمؤمنين ومنة للمستبصرين وإن شئت فقل:
إن بعض مركباتها بالمعنى الذي يفهمه أهل الله تعالى منها يصح
إطلاقه عليه سبحانه فيجري ما
روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: يا كهيعص ويا حمعسق
على ظاهره، وإن أبيت فقل المراد يا منزلهما وإن شئت فقل غير
ذلك حدث عن البحر ولا حرج.
وعندي فيما نحن فيه لطائف وسبحان من لا تتناهى أسرار كلامه فقد
أشار سبحانه بمفتتح الفاتحة حيث أتى به واضحا إلى اسمه الظاهر
وبمبدأ سورة البقرة إلى اسمه الباطن فهو الأول والآخر والظاهر
والباطن وأشار بتقديم الأول إلى أن الظاهر مقدم وبه عموم
البعثة نحن نحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر، وأيضا في
الأول إشارة إلى مقام الجمع وفي الثاني رمز إلى الفرق بعد
الجمع وأيضا افتتاح هذه السورة بالمبهم ثم تعقيبه بالواضح فيه
أتم مناسبة لقصة البقرة التي سميت السورة بها وَإِذْ
قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ
ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة: 72] وأيضا في الحروف رمز إلى
ثلاثة أشياء فالألف إلى الشريعة واللام إلى الطريقة والميم إلى
الحقيقة فهناك يكون العبد كالدائرة نهايتها عين بدايتها وهو
مقام الفناء في الله تعالى بالكلية وأيضا الألف من أقصى الحلق
واللام من طرف اللسان وهو وسط المخارج والميم من الشفة وهو
آخرها فيشير بها إلى أن أول ذكر العبد ووسطه وآخره لا ينبغي
إلا لله عز وجل، وأيضا في ذلك إشارة إلى سر التثليث فالألف
مشير إلى الله تعالى واللام إلى جبريل والميم إلى محمد صلى
الله تعالى عليه وسلم
وقد قال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه في الألف ست صفات من
صفات الله تعالى الابتداء والله تعالى هو الأول والاستواء
والله تعالى هو العدل الذي لا يجور والانفراد والله تعالى هو
الفرد وعدم الاتصال بحرف وهو سبحانه بائن عن خلقه وحاجة الحروف
إليها مع عدم حاجتها وأنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني
ومعناها الألفة وبالله تعالى الائتلاف،
وبقيت أسرار وأي أسرار يغار عليها العارف الغيور من الأغيار.
ومن الظرف أن بعض الشيعة استأنس بهذه الحروف
(1/106)
لخلافة الأمير عليّ كرم الله تعالى وجهه
فإنه إذا حذف منها المكرر يبقى ما يمكن أن يخرج منه «صراط على
حق نمسكه» ولك أيها السني أن تستأنس بها لما أنت عليه فإنه بعد
الحذف يبقى ما يمكن أن يخرج منه ما يكون خطابا للشيعي وتذكيرا
له بما ورد في حق الأصحاب رضي الله تعالى عنهم أجمعين وهو «طرق
سمعك النصيحة» وهذا مثل ما ذكروه حرفا بحرف وإن شئت قلت «صح
طرقك مع السنة» ولعله أولى وألطف، وبالجملة عجائب هذه الفواتح
لا تنفد ولا يحصرها العد.
وكل يدّعي وصلا لليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاكا
وقد اختلف الناس في إعرابها حسبما اختلفت أقوالهم فيها فإن
جعلت أسماء للسور مثلا كان لها حظ من الإعراب رفعا ونصبا وجرا
فالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف والنصب
بتقدير فعل القسم أو فعل يناسب المقام وجاز النصب بتقدير فعل
القسم فيما وقع بعده مجرور مع الواو ونحو ق وَالْقُرْآنِ [ق 1]
مع أنه يلزم المخالفة بين المتعاطفين في الإعراب أن جعلت الواو
للعطف واجتماع قسمين على شيء واحد إن جعلت للقسم وهو مستكره
كما قاله الخليل وسيبويه لأن المعطوف عليه في محل يقع فيه
المجرور فيكون العطف على المحل ويقدر الجواب من جنس ما بعد أن
كانت للقسم أولا حاجة للتقدير ويكتفى بجواب واحد إذ لا مانع من
أحد القسمين مؤكدا للآخر من غير عطف أو يقال هما لما كانا
مؤكدين لشيء واحد وهو الجواب جاز ذلك ولا وجه وجيه للاستكراه
وإن كان للضلالة أب فالتقليد أبوها والجر على إضمار حرف القسم.
وقول ابن هشام أنه وهم لأن ذلك مختص عند البصريين باسم الله
سبحانه وبأنه لا جواب للقسم في سورة البقرة ونحوها ولا يصح جعل
ما بعد جوابا وحذفت اللام كحذفها في قوله:
ورب السماوات العلى وبروجها ... والأرض وما فيها المقدر كائن
لأن ذلك على قلته مخصوص باستطالة القسم وهم لا يخفى على الوليد
إذ مذهبنا كوفي واتباع البصري ليس بفرض وكثيرا ما يستغنى عن
الجواب بما يدل عليه والمقسم عليه مضمون ما بعده وهو قرينة
قريبة وبهذا صرح في التسهيل وشروحه، وحديث الاستطالة ليس بلازم
بل هو الأغلب كما صرح به ابن مالك.
ثم ما كان من هذه الفواتح مفردا كص أو موازنا له كحم بزنة
قابيل يتأتى فيه الإعراب لفظا أو محلا بأن يسكن حكاية لحاله
قبل ويقدر إعرابه وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث وما خالفهما
نحو كهيعص يحكى لا غير وجازت الحكاية في هذه الأسماء مع أنها
مختصة بالأعلام التي نقلت من الجمل كتأبط شرا لرعاية صورها
المنبئة عن نقلها إلى العلمية وفي الألفاظ التي وقعت أعلاما
لأنفسها كضرب فعل ماض لحفظ المجانسة مع المسمى في الإشعار
بأنها لم تنقل عن أصلها بالكلية لأنها لكثرة استعمالها معدودة
موقوفة صارت هذه الحالة كأنها أصل فلما جعلت أعلاما جازت
حكايتها على تلك الهيئة الراسخة تنبيها على أن فيها سمة من
ملاحظة الأصل وهو الحروف المبسوطة. والمقصد الإيقاظ وقرع العصا
فتجويز الحكاية مخصوص بهذه الأسماء أعلاما للسور وإلا فلم تجز
الحكاية كذا في الحواشي الشريفة الشريفية وإطباق النحاة على أن
المفردات تحكي بعد من وأي الاستفهاميتين وبدونهما كقولهم دعنا
من تمرتان مخالف لدعوى الاختصاص التي حكاها كما لا يخفى وإن
أبقيت على معانيها مسرودة على نمط التعديد لم تعرب لعدم
المقتضي والعامل وكذا إذا جعلت أبعاضا على الصحيح (1) أو مزيدة
للفصل
__________
(1) وقيل لها محل لتنزيلها منزلة ما هي أبعاض له وهو واه وإن
ذهب إليه صاحب الدر المصون اهـ منه.
(1/107)
مثلا نعم إن قدرت بالمؤلف من هذه الحروف
كانت في حيز الرفع على ما مر وإن جعلت مقسما بها يكون كل كلمة
منها منصوبا أو مجرورا على اللغتين في الله لأفعلن وهل ذلك
المجموع نحو «الم» و «حم» أو للألف والحاء مثلا على طريق
الرمان حلو حامض؟ خلاف والظاهر الأول وجوز بعضهم الرفع
بالابتداء والخبر قسمي محذوفا وتصريح الرضي باختصاص ذلك فيما
إذا كان المبتدأ صريحا في القسمية يجعله غير مرتضى، وجعل بعضهم
النصب في البعض مخصوصا بما إذا لم يمنع مانع كما في ص
وَالْقُرْآنِ [ص: 1] فيتعين الجر للزوم المخالفة بين
المتعاطفين واجتماع القسمين حينئذ وفيه ما تقدم فلا تغفل،
وبقيت أقوال مبنية على أقوال لا أظنها تخفى عليك إن أحطت خبرا
بما قدمناه لديك فتدبر، وفي كون هذه الفواتح آية خلاف فقال
الكوفيون: الم آية أينما وقعت وكذلك المص وطسم وأخواتهما وطه
ويس وحم وأخواتها وكهيعص آية وحم عسق آيتان وأما المر وأخواتها
الخمس فليست بآية وكذلك طس وص وق ون. وقال البصريون: ليس شيء
من ذلك آية وفي المرشد أن الفواتح في السور كلها آيات عند
الكوفيين من غير تفرقة وليس بشيء كقول بعض أن الم في آل عمران
ليست بآية ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً
لِلْمُتَّقِينَ جملة مستأنفة وابتداء كلام أو متعلقة بما قبلها
وفيه احتمالات أطالوا فيها وكتاب الله تعالى يحمل على أحسن
المحامل وأبعدها من التكلف وأسوغها في لسان العرب وذلك إشارة
إلى الكتاب الموعود به صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله تعالى:
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا كما قال الواحدي
أو على لسان موسى وعيسى عليهما السلام لقوله تعالى:
وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُوا الآية ويؤيده ما روي عن كعب عليكم بالقرآن فإنه فهم
العقل ونور الحكمة وينابيع العلم وأحدث الكتب بالله عهدا،
وقال في التوراة يا محمد إني منزل عليك توراة حديثة تفتح بها
«أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا
كما قاله غير واحد أو إلى ما بين أيدينا والإشارة بذلك للتعظيم
وتنزيل البعد الرتبي منزلة البعد الحقيقي كما في قوله تعالى:
فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يوسف: 32] كما اختاره
في المفتاح أو لأنه لما نزل عن حضرة الربوبية وصار بحضرتنا بعد
ومن أعطى غيره شيئا أو أوصله إليه أو لاحظ وصوله عبر عنه بذلك
لأنه بانفصاله عنه بعيد أو في حكمه، وقد قيل: كل ما ليس في
يديك بعيد.
ولما لم يتأت هذا المعنى في قوله تعالى: هذا كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ [الإنعام: 92، 155] لأنه إشارة إلى ما عنده
سبحانه لم يأت بذلك مع بعد الدرجة وهذا الذكر حروف التهجي في
الأول وهي تقطع بها الحروف وهو لا يكون إلا في حقنا وعدم ذكرها
في الثاني فلذا اختلف المقامان وافترقت الإشارتان كما قاله
السهيلي، وهو عند قوم تحقيق ويرشدك إلى ما فيه عندي نظر دقيق
وأبعد بعضهم فوجه البعد بأن القرآن لفظ وهو من قبيل الأعراض
السيالة الغير القارة فكل ما وجد منه اضمحل وتلاشى وصار منقضيا
غائبا عن الحس وما هو كذلك في حكم البعيد، وقيل لأن صيغة
البعيد والقريب قد يتعاقبان كقوله تعالى في قصة عيسى عليه
السلام: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ [آل عمران: 58] ثم قال
تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران: 62]
وله نظائر في الكتاب الكريم ونقله الجرجاني عن طائفة وأنشدوا:
أقول له والرمح يأطر متنه ... تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
وليس بنص لاحتمال أن يكون المراد إنني أنا ذلك الذي كنت تحدث
عنه وتسمع به، وقول الإمام الرازي: إن ذلك للبعيد عرفا لا وضعا
فحمله هنا على مقتضى الوضع اللغوي لا العرفي مخالف لما نفهمه
من كتب أرباب العربية وفوق كل ذي علم عليم والقول بأن الإشارة
إلى التوراة والإنجيل- كما نقل عن عكرمة- إن كان قد ورد فيه
حديث صحيح قبلناه وتكلفنا له وإلا ضربنا به الحائط وما كل
احتمال يليق، وأغرب ما رأيناه في توجيه الإشارة أنها إلى
(1/108)
الصراط المستقيم في الفاتحة كأنهم لما
سألوا الهداية لذلك قيل لهم ذلك الصراط الذي سألتم الهداية
إليه هو الكتاب وهذا إن قبلته يتبين به وجه ارتباط سورة البقرة
بسورة الحمد على أتم وجه وتكون الإشارة إلى ما سبق ذكره والذي
تنفتح له الآذان أنه إشارة إلى القرآن. ووجه البعد ما ذكره
صاحب المفتاح ونور القرب يلوح عليه، والمعتبر في أسماء الإشارة
هو الإشارة الحسية التي لا يتصور تعلقها إلا بمحسوس مشاهد فإن
أشير بها إلى ما يستحيل إحساسه نحو ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ
[غافر: 62، 64، الإنعام: 102، يونس: 3، فاطر: 13، الزمر: 6] أو
إلى محسوس غير مشاهد نحو تِلْكَ الْجَنَّةُ [مريم: 63]
فلتصييره كالمشاهد وتنزيل الإشارة العقلية منزلة الحسية كما في
الرضي فالإشارة هنا لا تخلو عن لطف، وقول بعضهم إن اسم الإشارة
إذا كان معه صفة له لم يلزم أن يكون محسوسا- وهم محسوس-
والكتاب كالكتب مصدر كتب ويطلق على المكتوب كاللباس بمعنى
الملبوس والكتب- كما قال الراغب- ضم أديم إلى أديم بالخياطة،
وفي المتعارف ضم الحروف بعضها إلى بعض والأصل في الكتابة النظم
بالخط وقد يقال ذلك للمضموم بعضه إلى بعض باللفظ ولذا يستعار
كل واحد للآخر ولذا سمي كتاب الله وإن لم يكن كتابا والكتاب
هنا إما باق على المصدرية وسمي به المفعول للمبالغة أو هو
بمعنى المفعول وأطلق على المنظوم عبارة قبل أن تنظم حروفه التي
يتألف منها في الخط تسمية بما يؤول إليه مع المناسبة وقول
الإمام- إن اشتقاق الكتاب من كتبت الشيء إذا جمعته وسميت
الكتيبة لاجتماعها فسمي الكتاب كتابا لأنه كالكتيبة على عساكر
الشبهات أو لأنه اجتمع فيه جميع العلوم أو لأن الله تعالى
ألزمك فيه التكاليف على الخلق- كلام ملفق لا يخفى ما فيه،
ويطلق الكتاب كالقرآن على المجموع المنزل على النبي المرسل
صلّى الله عليه وسلّم وعلى القدر الشائع بين الكل والجزء ولا
يحتاج هنا إلى ما قيل في دفع المغالطة المعروفة بالجذر الأصم
ولا أرى فيه بأسا إن احتجته واللام في الكتاب للحقيقة مثلها في
أنت الرجل والمعنى ذلك هو الكتاب الكامل الحقيق بأن يخص به اسم
الكتاب لغاية تفوقه على بقية الأفراد في حيازة كمالات الجنس
حتى كأن ما عداه من الكتب السماوية خارج منه بالنسبة إليه،
وقال ابن عصفور: كل لام وقعت بعد اسم الإشارة وأي في النداء
وإذ الفجائية فهي للعهد الحضوري وقرىء تنزيل الكتاب، والريب
الشك وأصله مصدر رابني الشيء إذا حصل فيك الريبة وهي قلق النفس
ومنه ريب الزمان لنوائبه فهو مما نقل من القلق إلى ما هو شبيه
به ويستعمل أيضا لما يختلج في القلب من أسباب الغيظ، وقول
الإمام الرازي: إن هذين قد يرجعان إلى معنى الشك لأن ما يخاف
من الحوادث محتمل فهو كالمشكوك وكذلك ما اختلج في القلب فإنه
غير مستيقن مستيقن رده، فالمنون من الريب أو يشك فيه ويختلج في
القلب من أسباب الغيظ على الكفار مثلا مما «لا ريب فيه» أو فيه
ريب وفرق أبو زيد بين رابني وأرابني فيقال رابني من فلان أمر
إذا كنت مستيقنا منه بالريب وإذا أسأت به الظن ولم تستيقن منه
قلت أرابني وعليه قول بشار:
أخوك الذي إن ربته قال إنما ... أراب وإن عاتبته لان جانبه
وبعض فرق بين الريب والشك بأن الريب شك مع تهمة، وقال الراغب:
الشك وقوف النفس بين شيئين متقابلين بحيث لا يترجح أحدهما على
الآخر بأمارة، والمرية التردد في المتقابلين وطلب الأمارة من
مري الضرع أي مسحه للدر، والريب أن يتوهم في الشيء ثم ينكشف
عما توهم فيه، وقال الجولي: يقال الشك لما استوى فيه
الاعتقادان أو لم يستويا ولكن لم ينته أحدهما لدرجة الظهور
الذي تنبني عليه الأمور والريب لما لم يبلغ درجة اليقين وإن
ظهر نوع ظهور ولذا حسن هنا لا رَيْبَ فِيهِ للإشارة إلى أنه لا
يحصل فيه ريب فضلا عن شك ونفى سبحانه الريب فيه مع كثرة
المرتابين- لا كثرهم الله تعالى- على معنى أنه في علو الشأن
وسطوع البرهان بحيث لا يرتاب العاقل بعد النظر
(1/109)
في كونه وحيا من الله تعالى لا أن لا يرتاب
فيه حتى لا يصح ويحتاج إلى تنزيل وجود الريب عن البعض منزلة
العدم لوجود ما يزيله، وقيل: إنه على الحذف كأنه قال لا سبب
ريب فيه لأن الأسباب التي توجبه في الكلام التلبيس والتعقيد
والتناقض والدعاوى العارية عن البرهان وكل ذلك منتف عن كتاب
الله تعالى، وقيل معناه النهي وإن كان لفظه خبرا أي لا ترتابوا
فيه على حد فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [البقرة: 197] وقيل معناه
لا ريب فيه للمتقين فالظرف صفة وللمتقين خبر وهُدىً حال من
الضمير المجرور أي لا ريب كائنا فيه للمتقين حال كونه هاديا
وهي حال لازمة فيفيد انتفاء الريب في جمع الأزمنة والأحوال
ويكون التقييد كالدليل على انتفاء الريب و «لا» لنفي اتصاف
الاسم بالخبر لا لنفي قيد الاسم فلا تتوجه إليه ليختل المعنى
نعم هو قول قليل الجدوى مع أن الغالب في الظرف الذي بعد لا هذه
كونه خبرا وإنما لم يقل سبحانه لا فيه ريب على حد لا فِيها
غَوْلٌ [الصافات: 47] لأن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد وهو
أن كتابا غيره فيه الريب كما قصد في الآية تفضيل خمر الجنة على
خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها فليس فيها ما
في غيرها من العيب قاله الزمخشري وبعضهم لم يفرق بين ليس في
الدار رجل وليس رجل في الدار حتى أنكر أبو حيان إفادة تقديم
الخبر هنا الحصر وهو مما لا يلتفت إليه، وقرأ سليم أبو الشعثاء
لا ريب فيه بالرفع وهو لكونه نقيضا لريب فيه وهو محتمل لأن
يكون إثباتا لفرد ونفيه يفيد انتفاءه فلا يوجب الاستغراق كما
في القراءة المشهورة ولهذا جاز لا رجل في الدار بل رجلان دون
لا رجل فيها بل رجلان فلا لعموم النفي لا لنفي العموم والوقف
على فِيهِ هو المشهور وعليه يكون الكتاب نفسه هدى وقد تكرر ذلك
في التنزيل وعن نافع وعاصم الوقف على لا رَيْبَ ولا ريب في حذف
الخبر، وذهب الزجاج إلى جعل لا رَيْبَ بمعنى حقا فالوقف عليه
تام إلا أنه أيضا دون الأول، وقرأ ابن كثير «فيهي» بوصل الهاء
ياء في اللفظ وكذلك كل هاء كناية قبلها ياء ساكنة فإن كان
قبلها ساكن غير الياء وصلها بالواو ووافقه حفص في فِيهِ
مُهاناً [الفرقان: 69] وملاقيه وسأصليه، والباقون لا يشبعون
وإذا تحرك ما قبل الهاء أشبعوه، وقرأ الزهري وابن جندب بضم
الهاء من الكنايات في جميع القرآن على الأصل «والهدى» في الأصل
مصدر هدى أو عوض عن المصدر وكل في كلام سيبويه ولم يجئ من
المصادر بهذه الزنة إلا قليل كالتقى، والسرى، والبكى بالقصر في
لغة ولقى كما قال الشاطبي وأنشد:
وقد زعموا حلما لقاك فلم أزد ... بحمد الذي أعطاك حلما ولا
عقلا
والمراد منه هنا اسم الفاعل بأحد الوجوه المعروفة في أمثاله
وهو لفظ مؤنث عند ابن عطية ومذكر عند اللحياني وبنو أسد يؤنثون
كما قال الفراء فهو كالهداية وقد تقدم معناها. وفي الكشاف هي
الدلالة الموصلة إلى البغية واستدل عليه بثلاثة وجوه، الأول
وقوع الضلال في مقابله كما في قوله تعالى: لَعَلى هُدىً أَوْ
فِي ضَلالٍ [سبأ: 24] والضلال عبارة عن الخيبة وعدم الوصول إلى
البغية فلو لم يعتبر الوصول في مفهوم الهدى لم يتقابلا لجواز
الاجتماع بينهما، والثاني أنه يقال مهدي في موضع المدح كمهتد
ومن حصل له الدلالة من غير الاهتداء لا يقال له ذلك فعلم أن
الإيصال معتبر في مفهومه، والثالث أن اهتدى مطاوع هدى ولن يكون
المطاوع في خلاف معنى أصله ألا ترى إلى نحو كسره فانكسر وفيه
بحث. أما أولا فلأن المذكور في مقابلة الضلالة هو الهدى اللازم
بمعنى الاهتداء مجازا أو اشتراكا وكلامنا في المتعدي ومقابله
الإضلال ولا استدلال به إذ ربما يفسر بالدلالة على ما لا يوصل
ولا يجعله ضالا على أنه لو فسرت الهداية بمطلق الدلالة على ما
من شأنه الإيصال أوصل أم لا، وفسر الضلال المقابل لها- تقابل
الإيجاب والسلب- بعدم تلك الدلالة المطلقة لزم منه عدم الوصول
لأن سلب الدلالة المطلقة سلب للمقيدة إذ سلب الأعم يستلزم سلب
الأخص فليس في هذا التقابل ما يرجح المدعى، وأما ثانيا فلأنا
لا نسلم أن الضلالة عبارة عن
(1/110)
الخيبة إلخ بل هو العدول عن الطريق الموصل
إلى البغية فيكون الهدى عبارة عن الدلالة على الطريق الموصل،
نعم إن عدم الوصول إلى البغية لازم للضلالة ويجوز أن يكون
اللازم أعم، وأما ثالثا فلأنه لا يلزم من عدم إطلاق المهدي إلا
على المهتدي أن يكون الوصول معتبرا في مفهوم الهدى لجواز غلبة
المشتق في فرد من مفهوم المشتق منه، وأما رابعا فلأنا لا نسلم
أن اهتدى مطاوع هدى بل هو من قبيل أمره فأتمر من ترتب فعل
يغاير الأول فإن معنى هداه فاهتدى دله على الطريق الموصل فسلكه
بدليل أنه يقال هداه فلم يهتد على أن جمعا يعتد بهم قالوا: لا
يلزم من وجود الفعل وجود مطاوعه مطلقا ففي المختار لا يجب أن
يوافق المطاوع أصله ويجب في غيره ويؤيده قوله تعالى: وَما
نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الإسراء: 59] مع قوله
سبحانه: وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً
[الإسراء: 60] فقد وجد التخويف بدون الخوف ولا يقال كسرته فما
انكسر والفرق بينهما مفصل في عروس الأفراح، وأما خامسا فلأن ما
ذكره معارض بما فيه الهداية وليس فيه وصول إلى البغية وقد مر
بعضه ولهذا اختلفوا هل هي حقيقة في الدلالة المطلقة مجاز في
غيرها أو بالعكس أو هي مشتركة بينهما أو موضوعة لقدر مشترك؟
وإلى كل ذهب طائفة، قيل (1) والمذكور في كلام الأشاعرة أن
المختار عندهم ما ذكر في الكشاف وعند المعتزلة ما ذكرناه
والمشهور هو العكس- والتوفيق بأن كلام الأشاعرة في المعنى
الشرعي والمشهور مبني على المعنى اللغوي أو العرفي- يخدشه
اختيار صاحب الكشاف مع تصلبه في الاعتزال ما اختاره مع أن
الظاهر في القرآن المعنى الشرعي فالأظهر للموفق عكس هذا
التوفيق، والحق عند أهل الحق أن الهداية مشتركة بين المعنيين
المذكورين وعدم الإهلاك وبه يندفع كثير من القال والقيل
«والمتقين» جمع متق اسم فاعل من وقاه فاتقى ففاؤه واو لا تاء،
والوقاية لغة الصيانة مطلقا وشرعا صيانة المرء نفسه عما يضر في
الآخرة والمراتب متعددة لتعدد مراتب الضرر فأولاها التوقي عن
الشرك والثانية التجنب عن الكبائر- ومنها الإصرار على الصغائر-
والثالثة ما أشير إليه بما
رواه الترمذي عنه صلّى الله عليه وسلّم «لا يبلغ العبد أن يكون
من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس»
وفي هذه المرتبة يعتبر ترك الصغائر ولذا قيل:
خل الذنوب كبيرها ... وصغيرها فهو التقى
واصنع كماش فوق أر ... ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة ... إن الجبال من الحصى
وفي هذه المرتبة اختلفت عبارات الأكابر، فقيل: التقوى أن لا
يراك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك، وقيل: التبري عن الحول
والقوة، وقيل: التنزه عن كل ما يشغل السر عن الحق، وفي هذا
الميدان تراكضت أرواح العاشقين وتفانت أشباح السالكين حتى قال
قائلهم:
ولو خطرت لي في سواك إرادة ... على خاطري سهوا حكمت بردتي
وهداية الكتاب المبين شاملة لأرباب هذه المراتب أجمعين فإن
أريد بكونه هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إرشاده إياهم إلى تحصيل
المرتبة الأولى فالمراد بهم المشارفون مجازا لاستحالة تحصيل
الحاصل وإيثاره على العبارة المعربة عن ذلك للإيجاز، وتصدير
السورة الكريمة بذكر أوليائه تعالى وتفخيم شأنهم واعتبار
المشارفة بالنظر إلى زمان نسبة الهدى فلا ينافي حسن التعقيب ب
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ لأن ذلك كما قيل بالنظر إلى زمان إثبات
تلك النسبة كما يقال قتل قتيلا (2)
__________
(1) قائله الجلال الدواني اهـ منه.
(2) قوله قتل قتيلا كذا بخطه اهـ مصححه.
(1/111)
دفن في موضع كذا وربما جعل التقدير هم
الذين في جواب من المتقون وحمل الكل على المشارفة يأباه السوق
وقد يقال المتقين مجاز بالمشارفة والصفة ترشيح بلا مشارفة ولا
تجوز كما هو المعهود في أمثاله أو نقول هو على حد نبينا محمد
صلى الله تعالى عليه وسلم الشفيع يوم المحشر فلا إشكال وإن
أريد به إرشاده إلى تحصيل إحدى المرتبتين الأخيرتين فإن عني
بالمتقين أصحاب المرتبة الأولى تعينت الحقيقة وإن عني بهم
أصحاب إحدى الطبقتين الأخيرتين تعين المجاز لأن الوصول إليهما
إنما يتحقق بهدايته المرقية، وكذا الحال فيما بين المرتبة
الثانية والثالثة فإن أريد بالهدى الإرشاد إلى تحصيل المرتبة
الثالثة فإن عني بالمتقين أصحاب المرتبة الثانية تعينت الحقيقة
وإن عني بهم أصحاب المرتبة الثالثة تعين المجاز، ولفظ الهداية
حقيقة في جميع الصور وأما إن أريد بكونه هدى لهم تثبيتهم على
ما هم عليه وإرشادهم إلى الزيادة فيه على أن يكون مفهوما داخلا
في المعنى المستعمل فيه فهو مجاز لا محالة ولفظ المتقين حقيقة
على كل حالة كذا حققه مولانا مفتي الديار الرومية ومنه يعلم
اندفاع ما قيل إن الهداية إن فسرت بالدلالة الموصلة يقتضي أن
يكون هُدىً لِلْمُتَّقِينَ دالا على تحصيل الحاصل كأنه قيل
دلالة موصلة إلى المطلوب للواصلين إليه وإن فسرت بالدلالة على
ما يوصل كان هناك محذور آخر فإن المهتدي إلى مقصوده يكون
دلالته على ما يوصله إليه لغوا، ووجه الاندفاع ظاهر لكن حقق
بعض المحققين أن الأظهر أنه لا حاجة إلى التجوز هنا لأنه إذا
قيل السلاح عصمة للمعتصم والمال غنى للغني على معنى سبب غناه
وعصمته لم يلزم أن يكون السلاح والمال سببي عصمة وغنى حادثين
غير ما هما فيه، فما نحن فيه غير محتاج للتأويل وليس من المجاز
في شيء إذ المتقي مهتد بهذا الهدى حقيقة، وقد اختلف أهل
العربية والأصول في الوصف المشتق هل هو حقيقة في الحال أو
الاستقبال وهل المراد زمان النسبة أو التكلم من غير واسطة
بينهما؟ والذي عليه المحققون أنه زمان النسبة، وقد ذهب السبكي
والكرماني إلى أن من قتل قتيلا فله سلبه حقيقة وخطآ من قال إنه
مجاز ولا يقال إنه لا مفاد لإثبات القتل لمقتول به لأن قصد
البليغ بمعونة القرينة العقلية أن القتل المتصف به صادر عن هذا
القاتل دون غيره فكأنه قيل لم يشاركه فيه غيره فسلبه له دون
غيره، ومن هنا جعل المعنى فيما نحن فيه لا هدى للمتقين إلا
بكتاب الله تعالى المتلالئ نور هدايته الساطع برهان دلالته
وإذا علق حكم على اسم الإشارة الموصوف نحو عصرت هذا الخل مثلا
فهناك تعليقان في الحقيقة تعليق الحكم السابق بذات المشار إليه
وتعليق الإشارة والمعتبر زمان الإشارة لا زمان الحكم السابق
فإذا صح إطلاق الخل على المشار إليه واتصافه بالخلية مثلا في
زمان الإشارة- مع قطع النظر- عن الحكم السابق كان حقيقة وإلا
فمجاز فافهم وتدبر.
ثم لا يقدح في كونه هدى ما فيه من المجمل والمتشابه لأنه لا
يستلزم كونه هدى هدايته باعتبار كل جزء منه فيجوز أن يذكر فيه
ما فيه ابتلاء لذوي الألباب من الفحول بما لا تصل إليه الأفهام
والعقول أو لأن ذلك لا ينفك عن بيان المراد منه كما ذهب إليه
الشافعية فهو بعد التبيين هدى وتوقف هدايته على شيء لا يضر
فيها كما أنه على رأي متوقف على تقدم الإيمان بالله تعالى
ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فقد نص الإمام علي أنه (1) كل
ما يتوقف صحة كون القرآن حجة على صحته لا يكون القرآن هدى فيه
كمعرفة ذات الله وصفاته ومعرفة النبوات لئلا يلزم الدور إلا أن
يكون هدى في تأكيد ما في العقول والاعتداد به، وبعض صحح أن
القرآن في نفسه هدى في كل شيء حتى معرفة الله تعالى لمن تأمل
في أدلته العقلية وحججه اليقينية كما يشعر به ظاهر قوله تعالى:
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ
__________
(1) لعلها أن اهـ مصححه.
(1/112)
هُدىً لِلنَّاسِ [البقرة: 185] ويكون
الاقتصار على المتقين هنا بناء على تفسيرنا الهداية مدحا لهم
ليبين سبحانه أنهم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال تعالى:
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: 45] مع عموم
إنذاره صلى الله تعالى عليه وسلم وأما غيرهم فلا وَإِذا
قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً [الإسراء: 45]
ولا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء: 82] وأما
القول بأن التقدير- هدى للمتقين والكافرين- فحذف لدلالة
المتقين على حد سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] فمما
لا يلتفت إليه هذا ولا يخفى ما في هذه الجمل والآيات من
التناسق ف الم أشارت إلى ما أشارت وذلِكَ الْكِتابُ قررت بعض
إشارتها بأنه الكتاب الكامل الذي لا يحق غيره أن يسمى كتابا في
جنسه أي باب التحدي والهداية ولا رَيْبَ فِيهِ كالتأكيد لأحد
الركنين وهُدىً لِلْمُتَّقِينَ كالتأكيد للركن الآخر.
وخلاصته هو الحقيق بأن يتحدى به لكمال نظمه في باب البلاغة
وكماله في نفسه وفيما هو المقصود منه، وقيل: بالحمل على
الاستئناف كأنه سئل ما باله صار معجزا؟ فأجيب بأنه كامل بلغ
أقصى الكمال لفظا ومعنى وهو معنى ذلك الكتاب ثم سئل عن مقتضى
الاختصاص بكونه هو الكتاب الكامل فأجيب بأنه لا يحوم حوله ريب
ثم لما طولب بالدليل على ذلك استدل بكونه هُدىً لِلْمُتَّقِينَ
لظهور اشتماله على المنافع الدينية والدنيوية والمصالح
المعاشية والمعادية بحيث لا ينكره إلا من كابر نفسه وعاند عقله
وحسه، وقد يقال الإعجاز مستلزم غاية الكمال وغاية كمال الكلام
البليغ ببعده من الريب والشبه لظهور حقيته وذلك مقتض لهدايته
وإرشاده فإن نظر إلى اتحاد المعاني بحسب المال كان الثاني
مقررا للأول فلذا ترك العطف وإن نظر إلى أن الأول مقتض لما
بعده للزومه بعد التأمل الصادق فالأول لاستلزامه ما يليه وكونه
في قوته يجعله منزلا منه منزلة بدل الاشتمال لما بينهما من
المناسبة والملازمة فوزانه وزان حسنها في أعجبتني الجارية
حسنها وترك العطف حينئذ لشدة الاتصال بين هذه الجمل. وفيها
أيضا من النكت الرائقة والمزايا الفائقة ما لا يخفى جلالة قدره
على من مرّ ما ذكرناه على فكره.
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ صفة للمتقين قبل، فإن أريد
بالتقوى أولى مراتبها فمخصصة أو ثانيتها فكاشفة أو ثالثتها
فمادحة وفي شرح المفتاح الشريفي إن حمل المتقي على معناه
الشرعي- أعني الذي يفعل الواجبات ويترك السيئات- فإن كان
المخاطب جاهلا بذلك المعنى كان الوصف كاشفا وإن كان عالما كان
مادحا وإن حمل على ما يقرب من معناه اللغوي كان مخصصا، واستظهر
كون الموصول مفصولا قصد الإخبار عنه بما بعده لا إثباته لما
قبله وإن فهم ضمنا فهو وإن لم يجر عليه كالجاري وهذا كاف في
الارتباط، والاستئناف إما نحوي أو بياني كأنه قيل ما بال
المتقين خصوا بذلك الهدى، والوقف على المتقين تام على هذا
الوجه حسن على الوجه الأول والإيمان في اللغة التصديق أي إذعان
حكم المخبر وقبوله وجعله صادقا وهو إفعال من الأمن كأن حقيقة
آمن به آمنه التكذيب والمخالفة ويتعدى باللام كما في قوله
تعالى: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء:
111] وبالباء كما في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الإيمان أن تؤمن بالله» الحديث،
قالوا: والأول باعتبار تضمينه معنى الإذعان والثاني باعتبار
تضمينه معنى الاعتراف إشارة إلى أن التصديق لا يعتبر ما لم
يقترن به الاعتراف وقد يطلق بمعنى الوثوق من حيث إن الواثق صار
ذا أمن وهو فيه حقيقة عرفية أيضا كما في الأساس ويفهم مجازيته-
ظاهر كلام الكشاف- وأما في الشرع فهو التصديق بما علم مجيء
النبي صلّى الله عليه وسلّم به ضرورة تفصيلا فيما علم تفصيلا
وإجمالا فيما علم إجمالا وهذا مذهب جمهور المحققين لكنهم
اختلفوا في أن مناط الأحكام الأخروية مجرد هذا المعنى أم مع
الإقرار؟ فذهب الأشعري وأتباعه إلى أن مجرد هذا المعنى كاف
لأنه المقصود والإقرار إنما هو ليعلم وجوده فإنه أمر
(1/113)
باطن ويجري عليه الأحكام فمن صدق بقلبه
وترك الإقرار مع تمكنه منه كان مؤمنا شرعا فيما بينه وبين الله
تعالى ويكون مقره الجنة لكن ذكر ابن الهمام أن أهل هذا القول
اتفقوا على أنه يلزم أن يعتقد أنه متى طلب منه الإقرار أتى به
فإن طولب ولم يقر فهو كفر عناد، وذهب إمامنا أبو حنيفة رحمه
الله وغالب من تبعه إلى أن الإقرار وما في حكمه كإشارة الأخرس
لا بد منه فالمصدق المذكور لا يكون مؤمنا إيمانا يترتب عليه
الأحكام الأخروية كالمصلي مع الرياء فإنه لا تنفعه صلاته ولعل
هذا لأنه تعالى ذم المعاندين أكثر مما ذم الجاهلين المقصرين
وللمانع أن يجعل الذم للإنكار اللساني ولا شك أنه علامة
التكذيب أو للإنكار القلبي الذي هو التكذيب، وحاصل ذلك منع
حصول التصديق للمعاند فإنه ضد الإنكار وإنما الحاصل له المعرفة
التي هي ضد النكارة والجهالة، وقد اتفقوا على أن تلك المعرفة
خارجة عن التصديق اللغوي وهو المعتبر في الإيمان نعم اختلفوا
في أنها هل هي داخلة في التصور أم في التصديق المنطقي فالعلامة
الثاني على الأول وأنه يجوز أن تكون الصورة الحاصلة من النسبة
التامة الخبرية تصورا وأن التصديق المنطقي بعينه التصديق
اللغوي ولذا فسره رئيسهم في الكتب الفارسية «بكرويدن» وفي
العربية بما يخالف التكذيب والإنكار وهذا بعينه المعنى اللغوي.
ويؤيده ما أورده السيد السند في حاشية شرح التلخيص أن المنطقي
إنما يبين ما هو في العرف واللغة إلا أنه يرد أن المعنى المعبر
عنه «بكرويدن» أمر قطعي وقد نص عليه العلامة في المقاصد ولذا
يكفي في باب الإيمان التصديق البالغ حد الجزم والإذعان مع أن
التصديق المنطقي يعم الظني بالاتفاق فإنهم يقسمون العلم
بالمعنى الأعم تقسيما حاصرا إلى التصور والتصديق توسلا به إلى
بيان الحاجة إلى المنطق بجميع أجزائه التي منها القياس الجدلي
المتألف من المشهورات، والمسلمات ومنها القياس الخطابي المتألف
من المقبولات والمظنونات، والشعري المتألف من المخيلات فلو لم
يكن التصديق المنطقي عاما لم يثبت الاحتياج إلى هذه الأجزاء
وهو ظاهر وصدر الشريعة على الأخير فإن الصورة الحاصلة من
النسبة التامة الخبرية تصديق قطعا فإن كان حاصلا بالقصد
والاختيار بحيث يستلزم الإذعان والقبول فهو تصديق لغوي وإن لم
يكن كذلك كمن وقع بصره على شيء فعلم أنه جدار مثلا فهو معرفة
يقينية وليس بتصديق لغوي فالتصديق اللغوي عنده أخص من المنطقي.
وذهب الكرامية إلى أن الإيمان شرعا إقرار اللسان بالشهادتين لا
غير، والخوارج والعلاف وعبد الجبار من المعتزلة إلى أن كل طاعة
إيمان فرضا كانت أو نفلا، والجبائي وابنه وأكثر معتزلة البصرة
إلى أنه الطاعات المفترضة دون النوافل منها، والقلانسي من أهل
السنة والنجار من المعتزلة- وهو مذهب أكثر أهل الأثر- إلى أنه
المعرفة بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان، قيل: وسر
هذا الاختلاف- الاختلاف- في أن المكلف هو الروح فقط أو البدن
فقط أو مجموعهما والحق أن منشأ كل مذهب دليل دعا صاحبه إلى
السلوك فيه، وأوضح المذاهب أنه التصديق ولذا
قال يعسوب المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه إن الإيمان معرفة
والمعرفة تسليم والتسليم تصديق،
ويؤيد هذا المذهب قوله تعالى: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ
الْإِيمانَ [المجادلة: 22] وقوله تعالى: وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] وقوله تعالى:
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل: 106]
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم ثبت قلبي على دينك»
حيث نسبه فيها وفي نظائرها الغير المحصورة إلى القلب فدل ذلك
على أنه فعل القلب وليس سوى التصديق إذ لم يبين في الشرع بمعنى
آخر فلا نقل وإلا لكان الخطاب بالإيمان خطابا بما لا يفهم
ولأنه خلاف الأصل فلا يصار إليه بلا دليل واحتمال أن يراد
بالنصوص الإيمان اللغوي فهو الذي محله القلب لا الإيمان الشرعي
فيجوز أن يكون الإقرار أو غيره جزءا من معناه يدفعه أن الإيمان
من المنقولات الشرعية بحسب خصوص المتعلق ولذا بين صلى الله
تعالى عليه وسلم متعلقه دون معناه
فقال: «أن تؤمن بالله وملائكته» الحديث
فهو في المعنى اللغوي مجاز في كلام
(1/114)
الشارع والأصل في الإطلاق الحقيقة، وأيضا
ورد عطف الأعمال على الإيمان كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [البقرة: 277 وغيرها] والجزء
لا يعطف على كله وتنزل الملائكة والروح على أحد الوجهين بتأويل
الخروج لاعتبار خطابي وتخصيصها بالنوافل بناء على خروجها خلاف
الظاهر وكفى بالظاهر حجة، وأيضا جعل الإيمان شرط صحة الأعمال
كقوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ [النساء: 124،
طه 112] وهو مؤمن مع القطع بأن المشروط لا يدخل في الشرط
لامتناع اشتراط الشيء لنفسه إذ جزء الشرط شرط، وأيضا ورد إثبات
الإيمان لمن ترك بعض الأعمال كما في قوله تعالى: وَإِنْ
طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] مع
أنه لا يتحقق للشيء بدون ركنه، وأيضا ما ذكرناه أقرب إلى الأصل
إذ لا فرق بينهما إلا باعتبار خصوص المتعلق كما لا يخفى، وقد
أورد الخصم وجوها في الإلزام، الأول أن الإيمان لو كان عبارة
عن التصديق لما اختلف مع أن إيمان الرسول صلى الله تعالى عليه
وسلم لا يشبهه إيمان العوام بل ولا الخواص، الثاني أن الفسوق
يناقض الإيمان ولا يجامعه بنص وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ
إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ
إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ [الحجرات: 7] ولو كان بمعنى
التصديق لما امتنع مجامعته، الثالث أن فعل الكبيرة مما ينافيه
لقوله تعالى: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: 43]
مع قوله تعالى في المرتكب وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ
[النور: 2] ولو كان بمعنى التصديق ما نافاه، الرابع أن المؤمن
غير مخزي لقوله تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التحريم: 8] وقال سبحانه في قطاع
الطريق ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ [المائدة: 33] فهم ليسوا بمؤمنين مع
أنهم مصدقون.
الخامس مستطيع الحج إذا تركه من غير عذر كافر لقوله تعالى:
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ
الْعالَمِينَ [آل عمران: 97] مع أنه مصدق، السادس من لم يحكم
بما أنزل الله مصدق مع أنه كافر بنص وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما
أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة: 44]
السابع أن الزاني كذلك بنص
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «لا يزني الزاني وهو مؤمن»
وكذا تارك الصلاة عمدا من غير عذر وأمثال ذلك، الثامن أن
المستخف بنبي مثلا مصدق مع أنه كافر بالإجماع. التاسع أن فعل
الواجبات هو الدين لقوله تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ
وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ
الْقَيِّمَةِ [البيّنة: 50] والدين هو الإسلام لقوله تعالى:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: 19]
والإسلام هو الإيمان لأنه لو كان غيره لما قبل من مبتغيه لقوله
سبحانه وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ
يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85] العاشر أنه لو كان هو التصديق
لما صح وصف المكلف به حقيقة إلا وقت صدوره منه كما في سائر
الأفعال مع أن النائم والغافل يوصفان به إجماعا مع أن التصديق
غير باق فيهما، الحادي عشر أنه يلزم أن يقال لمن صدق بإلهية
غير الله سبحانه مؤمن وهو خلاف الإجماع، الثاني عشر أن الله
تعالى وصف بعض المؤمنين به عز وجل بكونه مشركا فقال: وَما
يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ
[يوسف: 106] ولو كان هو التصديق- لامتنع مجامعته للشرك- سلمنا
أنه هو ولكن ما المانع أن يكون هو التصديق باللسان كما قاله
الكرامية كيف وأهل اللغة لا يفهمون من التصديق غير التصديق
باللسان؟ وأجيب عن الأول بأن التصديق الواحد وإن سلمنا عدم
الزيادة والنقصان فيه من النبي والواحد منا إلا أنه لا يمتنع
التفاوت بين الإيمانين بسبب تخلل الفعلة والقوة بين أعداد
الإيمان المتجددة وقلة تخللها أو بسبب عروض الشبه والتشكيكات
وعدم عروضها، وللنبي الأكمل الأكمل صلى الله تعالى عليه وسلم:
وللزنبور والبازي جميعا ... لدى الطيران أجنحة وخفق
ولكن بين ما يصطاد باز ... وما يصطاده الزنبور فرق
(1/115)
وعن الثاني بأن الآية ليس فيها ما يدل على
أن الفسوق لا يجامع الإيمان فإنه لو قيل حبب إليكم العلم وكره
إليكم الفسوق لم يدل على المناقضة بين العلم والفسوق وكون
الكفر مقابلا للإيمان لم يستفد من الآية بل من خارج ولئن سلمنا
دلالة الآية على ما ذكرتم إلا أن ذلك معارض بما يدل على عدمه
كقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ
بِظُلْمٍ [الإنعام: 82] فإنه يدل على مقارنة الظلم للإيمان في
بعض، وعن الثالث بأنا لا نسلم أن فعل الكبيرة مناف للإيمان
وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:
2] على معنى لا تحملنكم الشفقة على إسقاط حدود الله تعالى بعد
وجوبها، وعن الرابع بأن ما ذكر من الآيتين ليس فيه دلالة لأن
آية نفي الخزي إنما دلت على نفيه في الآخرة عن المؤمنين مطلقا
أو أصحابه صلى الله تعالى عليه وسلم وآية القاطع دالة على
الخزي في الدنيا ولا يلزم من منافاة الخزي يوم القيامة للإيمان
منافاته للإيمان في الدنيا، وعن الخامس بأنا لا نسلم كفر من
ترك الحج من غير عذر وَمَنْ كَفَرَ [البقرة: 126، آل عمران:
97، النور: 55، لقمان: 23] ابتداء كلام أو المراد من لم يصدق
بمناسك الحج وجحدها ولا يتصور مع ذلك التصديق، وعن السادس بأن
معنى مَنْ لَمْ يَحْكُمْ [المائدة: 44، 45، 47] الآية من لم
يصدق أو من لم يحكم بشيء مما نزل الله أو المراد بذلك التوراة
بقرينة السابق، وعن السابع بأنه يمكن أن يقال معنى
«لا يزني الزاني وهو مؤمن»
أي آمن من عذاب الله أي إن زنى- والعياذ بالله- فليخف عذابه
سبحانه وتعالى ولا يأمن مكره أو المراد لا يزني مستحلا لزناه
وهو مؤمن أو لا يزني وهو على صفات المؤمن من اجتناب المحظورات،
وهذا التأويل أولى من مخالفة الأوضاع اللغوية لكثرته دونها
وكذا يقال في نظائر هذا، وعن الثامن بأنا لا ننكر مجامعة
الكبائر للإيمان عقلا غير أن الأمة مجمعة على إكفار المستخف
فعلمنا انتفاء التصديق- عند وجود الاستخفاف مثلا سمعا- والجمع
بين العمل بوضع اللغة وإجماع الإمة على الإكفار أولى من إبطال
أحدهما، وعن التاسع بأن الآية قد فرقت بين الدين وفعل الواجبات
للعطف وهو ظاهرا دليل المغايرة، سلمنا أن الدين فعل الواجبات
وأن الدين هو الإسلام لكن لا نسلم أن الإسلام هو الإيمان وليس
المراد بغير الإسلام في الآية ما هو مغاير له بحسب المفهوم
وإلا يلزم أن لا تقبل الصلاة والزكاة مثلا بل المغاير له بحسب
الصدق فحينئذ يحتمل أن يكون الإسلام أعم وهذا كما إذا قلت من
يبتغ غير العلم الشرعي فقد سها فإنك لا تحكم بسهو من ابتغى
الكلام، وظاهر أن ذم غير الأعم لا يستلزم ذم الأخص فإن قولك
غير الحيوان مذموم لا يستلزم أن يكون الإنسان مذموما، وعن
العاشر بأنه مشترك الإلزام فما هو جوابكم فهو جوابنا على أنا
نقول التصديق في حالة النوم والغفلة باق في القلب والذهول إنما
هو عن حصوله والنوم ضد لإدراك الأشياء ابتداء لا أنه مناف
لبقاء الإدراك الحاصل حالة اليقظة، سلمنا إلا أن الشارع جعل
المحقق الذي لا يطرأ عليه ما يضاده في حكم الباقي حتى كان
المؤمن اسما لمن آمن في الحال أو في الماضي ولم يطرأ عليه ما
هو علامة التكذيب، وعن الحادي عشر بأن عدم تسمية من صدق بإلهية
غير الله مؤمنا إنما هو لخصوصية متعلق الإيمان شرعا فتسميته
مؤمنا يصح نظرا إلى الوضع اللغوي ولا يصح نظرا إلى الاستعمال
الشرعي، وعن الثاني عشر بأن الإيمان ضد الشرك بالإجماع وما
ذكروه لازم على كل مذهب ونحن نقول: إن الإيمان هناك لغوي إذ في
الشرعي يعتبر التصديق بجميع ما علم مجيئه به صلّى الله عليه
وسلّم كما تقدم فالمشرك المصدق ببعض لا يكون مؤمنا إلا بحسب
اللغة دون الشرع لإخلاله بالتوحيد والآية إشارة إليه، وقولهم
أهل اللغة لا يفهمون إلخ مجرد دعوى لا يساعدها البرهان. نعم لا
شك أن المقر باللسان وحده يسمى مؤمنا لغة لقيام دليل الإيمان
الذي هو التصديق القلبي فيه كما يطلق الغضبان والفرحان على
سبيل الحقيقة لقيام الدلائل الدالة عليها من الآثار اللازمة
للغضب والفرح ويجري عليه أحكام الإيمان ظاهرا ولا نزاع في ذلك
وإنما النزاع في كونه مؤمنا عند الله تعالى والنبي صلّى الله
عليه وسلّم ومن بعده كما كانوا يحكمون بإيمان من تكلم
بالشهادتين كانوا يحكمون بكفر المنافق فدل على أنه لا يكفي في
الإيمان فعل اللسان وهذا مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان
وكأنه
(1/116)
لهذا اشترط الرقاشي والقطان مواطأة القلب
مع المعرفة عند الأول والتصديق المكتسب بالاختيار عند الثاني،
وقال الكرامية: من أضمر الإنكار وأظهر الإذعان وإن كان مؤمنا
لغة وشرعا لتحقق اللفظ الدال الذي وضع لفظ الإيمان بإزائه إلا
أنه يستحق ذلك الشخص الخلود في النار لعدم تحقق مدلول ذلك
اللفظ الذي هو مقصود من اعتبار دلالته، هذا وبعد سبر الأقوال
في هذا المقام لم يظهر لي بأس فيما ذهب إليه السلف الصالح وهو
أن لفظ الإيمان موضوع للقدر المشترك بين التصديق وبين الأعمال
فيكون إطلاقه على التصديق فقط وعلى مجموع التصديق والأعمال
حقيقة كما أن المعتبر في الشجرة المعينة- بحسب العرف- القدر
المشترك بين ساقها ومجموع ساقها مع الشعب والأوراق فلا يطلق
الانعدام عليها ما بقي الساق فالتصديق بمنزلة أصل الشجرة
والأعمال بمنزلة فروعها وأغصانها فما دام الأصل باقيا يكون
الإيمان باقيا
وقد ورد في الصحيح «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله
إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق»
وقريب من هذا قول من قال: إن الأعمال آثار خارجة عن الإيمان
مسببة له ويطلق عليها لفظ الإيمان مجازا ولا مخالفة بين
القولين إلا بأن إطلاق اللفظ عليها حقيقة على الأول مجاز على
الثاني وهو بحث لفظي. والمتبادر من الإيمان هاهنا التصديق كما
لا يخفى «والغيب» مصدر أقيم مقام الوصف وهو غائب للمبالغة
بجعله كائن هو وجعله بمعنى المفعول يرده كما في البحر أن الغيب
مصدر غاب وهو لازم لا يبنى منه اسم مفعول وجعله تفسيرا بالمعنى
لأن الغائب يغيب بنفسه تكلف من غير داع أو فيعل خفف كقيل وميت-
وفي البحر- لا ينبغي أن يدعى ذلك إلا فيما سمع مخففا ومثقلا،
وفسره جمع هنا بما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بداهة العقل،
فمنه ما لم ينصب عليه دليل وتفرد بعلمه اللطيف الخبير سبحانه
وتعالى كعلم القدر مثلا، ومنه ما نصب عليه دليل كالحق تعالى
وصفاته العلا فإنه غيب يعلمه من أعطاه الله تعالى نورا على حسب
ذلك النور فلهذا تجد الناس متفاوتين فيه- وللأولياء نفعنا الله
تعالى بهم الحظ الأوفر منه.
ومن هنا قيل: الغيب مشاهدة الكل بعين الحق فقد يمنح العبد قرب
النوافل فيكون الحق سبحانه بصره الذي يبصر به وسمعه الذي يسمع
به ويرقى من ذلك إلى قرب الفرائض فيكون نورا فهناك يكون الغيب
له شهودا والمفقود لدينا عنده موجودا ومع هذا لا أسوغ لمن وصل
إلى ذلك المقام أن يقال فيه إنه يعلم الغيب قُلْ لا يَعْلَمُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ
[النمل: 65] .
وقل لقتيل الحب وفيت حقه ... وللمدعي هيهات ما الكحل الكحل
واختلف الناس في المراد به هنا على أقوال شتى حتى زعمت الشيعة
أنه القائم وقعدوا عن إقامة الحجة على ذلك والذي يميل إليه
القلب أنه- ما أخبر به- الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في
حديث جبريل عليه السلام وهو الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله
واليوم الآخر والقدر خيره وشره لأن الإيمان المطلوب شرعا هو
ذاك لا سيما وقد انضم إليه الوصفان بعده وكون ذلك مستلزما
لإطلاق الغيب عليه سبحانه ضمنا والغيب والغائب ما يجوز عليه
الحضور والغيبة مما لا يضر إذ ليس فيه إطلاقه عليه سبحانه
بخصوصه فهذا ليس من قبيل التسمية على أنه لا نسلم أن الغيب لا
يستعمل إلا فيما يجوز عليه الحضور وبعض أهل العلم فرق بين
الغيب والغائب فيقولون الله تعالى غيب وليس بغائب ويعنون
بالغائب ما لا يراك ولا تراه وبالغيب ما لا تراه أنت، ولا يبعد
أن يقال بالتغليب ليدخل إيمان الصحابة رضي الله تعالى عنهم به
صلى الله تعالى عليه وسلم إذ ليس بغيب بالنسبة إليهم أو يقال
الإيمان به عليه الصلاة والسلام راجع إلى الإيمان برسالته مثلا
إذ لا معنى للإيمان به نفسه معرى عن الحيثيات. ورسالته غيب نصب
عليها الدليل كما نصب لنا وإن افترقنا بالخبر والمعاينة أو أنه
من إسناد ما للبعض إلى الكل مجازا كبنو فلان قتلوا فلانا أو
المراد أنهم يؤمنون
(1/117)
بالغيب كما يؤمنون بالشهادة فاستوى عندهم
المشاهد وغيره. واختار أبو مسلم الأصفهاني أن المراد أن هؤلاء
المتقين يؤمنون بالغيب أي حال الغيبة عنكم كما يؤمنون حال
الحضور لا كالمنافقين الذين إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا
قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا
إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: 14]
فهو على حد قوله تعالى: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ
بِالْغَيْبِ [يوسف: 52] ويحتمل أن يقال حال غيبة المؤمن به،
ففي سنن الدارمي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن الحارث بن
قيس قال له عند الله نحتسب ما سبقتمونا إليه من رؤية رسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم فقال ابن مسعود عند الله نحتسب
إيمانكم بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم ولم تروه إن أمر محمد
صلى الله تعالى عليه وسلم كان بينا لمن رآه والذي لا إله إلا
هو ما من أحد أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ الم ذلِكَ الْكِتابُ
لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إلى قوله:
الْمُفْلِحُونَ ولا يلزم من تفضيل إيمان على آخر من حيثية
تفضيله عليه من سائر الحيثيات ولا تفضيل المتصف بأحدهما على
المتصف بالآخر فإن الأفضلية تختلف بحسب الإضافات والاعتبارات
وقد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل، ويا ليت ابن مسعود رضي
الله تعالى عنه سكن لوعة الحارث بما
ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم مرفوعا «نعم قوم يكونون بعدكم
يؤمنون بي ولم يروني»
وما كان أغناه رضي الله تعالى عنه عما أجاب به إذ يخرج الصحابة
رضي الله تعالى عنهم عن هذا العموم الذي في هذه الآية كما يشعر
به قراءته لها مستشهدا بها، وبه قال بعض أهل العلم وأنا لا
أميل إلى ذلك وقيل المراد بالغيب القلب أي يؤمنون بقلوبهم لا
كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والباء على الأول
للتعدية وعلى الثاني والثالث للمصاحبة وعلى الرابع للآلة وقرأ
أبو جعفر وعاصم في رواية الأعشى عن أبي بكر بترك الهمزة من
يؤمنون وكذا كل همزة ساكنة قد يتركان كثيرا من المتحركة مثل لا
يُؤاخِذُكُمُ [البقرة: 225] ويُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ [آل عمران:
13] وتفصيل مذهب أبي جعفر طويل وأما أبو عمرو فيترك كل همزة
ساكنة إلا أن يكون سكونها علامة للجزم مثل يُهَيِّئْ لَكُمْ
[الكهف: 16] وَنَبِّئْهُمْ [الحجر: 51، القمر: 28] واقْرَأْ
كِتابَكَ [الإسراء: 14] فإنه لا يترك الهمزة فيها وروي عنه
أيضا الهمز في الساكنة وأما نافع فيترك كل همزة ساكنة ومتحركة
إذا كانت فاء الفعل نحو «يؤمنون» و «لا يؤاخذكم» واختلفت قراءة
الكسائي وحمزة ولكل مذهب يطول ذكره وَيُقِيمُونَ من الإقامة
يقال أقمت الشيء إقامة إذا وفيت حقه قال تعالى لَسْتُمْ عَلى
شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [المائدة:
68] أي توفوا حقهما بالعلم والعمل ومعنى يقيمون الصلاة يعدلون
أركانها بأن يوقعوها مستجمعة للفرائض والواجبات أولها مع
الآداب والسنن من أقام العود إذا قومه أو يواظبون عليها
ويداومون (1) من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعلتها نافقة
أو يتشمرون لأدائها بلا فترة عنها ولا توان من قولهم قام
بالأمر وأقامه إذا جدّ فيه أو يؤدونها ويفعلونها وعبر عن ذلك
بالإقامة لأن القيام بعض أركانها فهذه أربعة أوجه، وفي الكلام
على الأولين منها استعارة تبعية وعلى الأخيرين مجاز مرسل،
وبيان ذلك في الأول أن يشبه تعديل الأركان بتقويم العود بإزالة
اعوجاجه فهو قويم تشبيها له بالقائم ثم استعير الإقامة من
تسوية الأجسام التي صارت حقيقة فيها لتسوية المعاني كتعديل
أركان الصلاة على ما هو حقها، وقيل الإقامة بمعنى التسوية
حقيقة في الأعيان والمعاني بل التقويم في المعاني كالدين
والمذهب أكثر فلا حاجة إلى الاستعارة ولا يخفى ما فيه فإن
المجازية ما لا شبهة فيها دراية ورواية وذاك الاستعمال مجاز
مشهور أو حقيقة عرفية، وفي الثاني بأن نفاق السوق كانتصاب
الشخص في حسن
__________
(1) فإن قلت إذا كان بمعنى المداومة ينبغي أن يتعدى بعلى لأنها
تتعدى بها كما في قوله تعالى الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ
دائِمُونَ أجيب بأنه إذا تجوز بلفظ عن معنى آخر وكان عملهما في
الحرف الذي تعديا به مختلفا يجوز فيه إعمال عمل لفظ الحقيقة
وعمل لفظ المجاز ويكون ذلك كالترشيح والتجريد ألا ترى ان نطقت
الحال يعني دلت وتعديه بعلى اهـ منه.
(1/118)
الحال والظهور التام فاستعمل القيام فيه
والإقامة في إنفاقها ثم استعيرت منه للمداومة فإن كلّا منهما
يجعل متعلقه مرغوبا متنافسا فيه متوجها إليه وهذا معنى لطيف لا
يقف عليه إلا الخواص إلا أن فيه تجوزا من المجاز وكأنه لهذا
مال الطيبي إلى أن في هذا الوجه كناية تلويحية حيث عبر عن
الدوام بالإقامة. فإن إقامة الصلاة بالمعنى الأول مشعرة بكونها
مرغوبا فيها وإضاعتها تدل على ابتذالها كالسوق إذا شوهدت قائمة
دلت على نفاق سلعتها ونفاقها على توجه الرغبات إليها وهو
يستدعي الاستدامة بخلافها إذا لم تكن قائمة، وفي الثالث بأن
القيام بالأمر يدل على الاعتناء بشأنه ويلزمه التشمر فأطلق
القيام على لازمه، وقد يقال بأن قام بالأمر معناه جد فيه وخرج
عن عهدته بلا تأخير ولا تقصير فكأنه قام بنفسه لذلك وأقامه أي
رفعه على كاهله بجملته فحينئذ يصح أن يكون فيه استعارة تمثيلية
أو مكنية أو تصريحية ويجوز أن يكون أيضا مجازا مرسلا لأن من
قام لأمر على أقدام الإقدام ورفعه على كاهل الجد فقد بذل فيه
جهده، وفي الرابع بأن الأداء المراد به فعل الصلاة والقيد خارج
عبر عنه بالإقامة بعلاقة اللزوم إذ يلزم من تأدية الصلاة
وإيجادها كلها فعل القيام وهو الإقامة لأن فعل الشيء فعل
لأجزائه أو العلاقة الجزئية لأن الإقامة جزء أو جزئي لمطلق
الفعل ويجوز أن يكون هناك استعارة لمشابهة الأداء للإقامة في
أن كلّا منهما فعل متعلق بالصلاة.
وإلى ترجيح أول الأوجه مال جمع لأنه أظهر وأقرب إلى الحقيقة
وأفيد وهو المروي عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عنه ولعل ذلك
منه عن توقيف من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو حمل
لكلام الله سبحانه وتعالى على أحسن محامله حيث إنه المناسب
لترتيب الهدى الكامل والفلاح التام الشامل وفيه المدح العظيم
والثناء العميم ولا يبعد أن يقال باستلزامه لما في الأوجه
الأخيرة وتعين الأخير كما قيل في
حديث «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن
محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك
فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام»
لا يضر في أرجحية الأول في الكلام القديم إذ يرد أنه لو أريد
ذلك قيل يصلون والعدول عن الأخصر الأظهر بلا فائدة لا يتجه في
كلام بليغ فضلا عن أبلغ الكلام ولكل مقام مقال فافهم
والصَّلاةَ في الأصل عند بعض بمعنى الدعاء ومنه
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب
وإن كان صائما فليصل»
وهي عند أهل الشرع مستعملة في ذات الأركان لأنها دعاء بالألسنة
الثلاثة الحال والفعل والمقال، والمشهور في أصول الفقه أن
المعتزلة على أن هذه وأمثالها حقائق مخترعة شرعية لأنها منقولة
عن معان لغوية والقاضي أبو بكر منا على أنها مجازات لغوية
مشهورة لم تصر حقائق وجماهير الأصحاب على أنها حقائق شرعية عن
معان لغوية. وقال أبو علي ورجحه السهيلي الصلاة من الصلوين
لعرقين في الظهر لأن أول ما يشاهد من أحوالها تحريكهما للركوع
واستحسنه ابن جني وسمّي الداعي مصليا تشبيها له في تخشعه
بالراكع الساجد، وقيل أخذت الصلاة من ذاك لأنها جاءت ثانية
للإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل للآتي مع صلوى السابق وأنكر
الإمام الاشتقاق من الصلوين مستندا إلى أن الصلاة من أشهر
الألفاظ فاشتقاقها من غير المشهور في غاية البعد وأكاد أوافقه
وإن قيل: إن عدم الاستشهار لا يقدح في النقل وقيل من صليت
العصا إذا قومتها بالصلي، فالمصلي كأنه يسعى في تعديل ظاهره
وباطنه مثل ما يحاول تعديل الخشبة بعرضها على النار وهي فعلة-
بفتح العين- على المشهور وجوز بعضهم سكونها فتكون حركة العين
منقولة من اللام وقد اتفقت المصاحف على رسم الواو مكان الألف
في مشكوة، ونجاة، ومناة، وصلاة، وزكاة، وحياة حيث كن موحدات
مفردات محلات باللام وعلى رسم المضاف منها كصلاتي بالألف وحذفت
من بعض المصاحف العثمانية، واتفقوا على رسم المجموع منها
بالواو على اللفظ قال الجعبري: ووجه كتابة الواو الدلالة على
أن أصلها المنقلبة عنه واو وهو اتباع للتفخيم وهذا معنى قول
ابن
(1/119)
قتيبة بعض العرب يميلون الألف إلى الواو
ولم أختر التعليل به لعدم وقوعه في القرآن العظيم وكلام
الفصحاء والمراد بالصلاة هنا الصلاة المفروضة وهي الصلوات
الخمس كما قاله مقاتل أو الفرائض والنوافل كما قاله الجمهور
والأول هو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وادعى
الإمام أنه هو المراد لأنه الذي يقع عليه الفلاح لأنه صلى الله
تعالى عليه وسلم لما بين للأعرابي صفة الصلاة المفروضة
قال «والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها فقال عليه الصلاة
والسلام أفلح الأعرابي إن صدق»
«والرزق» بالفتح لغة الإعطاء لما ينتفع الحيوان به. وقيل: إنه
يعم غيره كالنبات وبالكسر اسم منه ومصدر أيضا على قول. وقيل
أصل الرزق الحظ ويستعمل بمعنى المرزوق المنتفع به. وبمعنى
الملك وبمعنى الشكر عند أزد- واختلف المتكلمون في معناه- شرعا
فالمعول عليه عند الأشاعرة ما ساقه الله تعالى إلى الحيوان
فانتفع به سواء كان حلالا أو حراما من المطعومات أو المشروبات
أو الملبوسات أو غير ذلك والمشهور أنه اسم لما يسوقه الله
تعالى إلى الحيوان ليتغذى به ويلزم على الأول أن تكون العواري
رزقا لأنها مما ساقه الله تعالى للحيوان فانتفع به وفي جعلها
رزقا بعد بحسب العرف كما لا يخفى، ويلزم أيضا أن يأكل شخص رزق
غيره لأنه يجوز أن ينتفع به الآخر بالأكل إلا أن الآية توافقه
إذ يجوز أن يكون الانتفاع من جهة الإنفاق على الغير بخلاف
التعريف الثاني إذ ما يتغذى به لا يمكن إنفاقه إلا أن يقال
إطلاق الرزق على المنفق مجاز لكونه بصدده والمعتزلة فسروه في
المشهور تارة بما أعطاه الله تعالى عبده ومكنه من التصرف فيه
وتارة بما أعطاه الله لقوامه وبقائه خاصة، وحيث إن الإضافة إلى
الله تعالى معتبرة في معناه وأنه لا رازق إلا الله سبحانه وأن
العبد يستحق الذم والعقاب على أكل الحرام وما يستند إلى الله
تعالى عز وجل عندهم لا يكون قبيحا ولا مرتكبه مستحقا ذما
وعقابا قالوا: إن الرزق هو الحلال والحرام ليس برزق وإلى ذلك
ذهب الجصاص منا في كتاب أحكام القرآن وعندنا الكل منه وبه
وإليه قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء: 78] ولا حول
ولا قوة إلا بالله وإِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى:
53] والذم والعقاب لسوء مباشرة الأسباب بالاختيار نعم الأدب من
خير رأس مال المؤمن فلا ينبغي أن ينسب إليه سبحانه إلا الأفضل
فالأفضل كما قال إبراهيم عليه السلام: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ
يَشْفِينِ [الشعراء: 80] وقال تعالى: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] فالحرام رزق في
نفس الأمر لكنا نتأدب في نسبته إليه سبحانه والدليل على شمول
الرزق له ما
أخرجه ابن ماجة وأبو نعيم والديلمي من حديث صفوان بن أمية قال
جاء عمرو بن قرة «فقال يا رسول الله إن الله قد كتب عليّ
الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفي بكفي فأذن لي في الغنى من
غير فاحشة فقال صلّى الله عليه وسلّم لا إذن لك ولا كرامة ولا
نعمة كذبت أي عدو الله لقد رزقك الله تعالى رزقا حلالا طيبا
فاخترت ما حرم الله تعالى عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من
حلاله»
وحمله على المشاكلة كالقول بأنه يحتمل
قوله عليه الصلاة والسلام فاخترت إلخ
كونه رزقا لمن أحل له فيسقط الاستدلال لقيام الاحتمال خلاف
الظاهر جدا. ومثل هذا الاحتمال إن قدح في الاستدلال لا يبقى
على وجه الأرض دليل والطعن في السند لا يقبل من غير مستند وهو
مناط الثريا كما لا يخفى والاستدلال على هذا المطلب كما فعل
البيضاوي وغيره بأنه لو لم يكن الحرام رزقا لم يكن المتغذي به
طول عمره مرزوقا وليس كذلك لقوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] ليس
بشيء لأن للمعتزلة أن لا يخصوا الرزق بالغذاء بل يكتفوا بمطلق
الانتفاع دون الانتفاع بالفعل بل التمكن فيه فلا يتم الدليل
إلا إذا فرض أن ذلك الشخص لم ينتفع من وقت وفاته إلى وقت موته
بشيء انتفاعا محللا لا رضعة من ثدي ولا شربة من ماء مباح ولا
نظرة إلى محبوب ولا وصلة إلى مطلوب بل ولا تمكن من ذلك أصلا
والعادة تقضي بعدم وجوده ومادة النقض لا بد من تحققها على أنه
لو قدر وجوده لقالوا: إن ذلك ليس محرما بالنسبة إليه، ومن اضطر
غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه- وأيضا لهم أن يعترضوا بمن عاش
يوما مثلا ثم مات قبل أن يتناول حلالا ولا حراما وما يكون
جوابنا لهم يكون جوابهم لنا على أن الآية
(1/120)
لم تدل على أن الله تعالى يوصل جميع ما
ينتفع به كل أحد إليه فإن الواقع خلافه بل دلت على أنه سبحانه
وتعالى يسوق الرزق ويمكن من الانتفاع به فإذا حصل الإعراض من
الحلال إلى الحرام لم يقدح في تحقق رازقيته جل وعلا، وأيضا قد
يقال: معنى الآية ما من دابة متصفة بالمرزوقية فلا تدخل مادة
النقض ليضر خروجها كما لا يدخل السمك في قولهم كل دابة تذبح
بالسكين أي كل دابة تتصف بالمذبوحية فالاتصاف أن هذا لا يصلح
دليلا، والأحسن الاستدلال بالإجماع قبل ظهور المعتزلة على أن
من أكل الحرام طول عمره مرزوق طول عمره ذلك الحرام والظواهر
تشهد بانقسام الرزق إلى طيب وخبيث وهي تكفي في مثل هذه المسألة
والأصل الذي بني عليه التخصيص قد تركه أهل السنة قاعا صفصفا
«والإنفاق» الانفاد يقال أنفقت الشيء وأنفدته بمعنى والهمزة
للتعدية وأصل المادة تدل على الخروج والذهاب ومنه نافق
والنافقاء ونفق وإنما قدم سبحانه وتعالى المعمول اعتناء بما
خول الله تعالى العبد أو لأنه مقدم على الانفاق في الخارج
ولتناسب الفواصل والمراد بالرزق هنا الحلال لأنه في معرض وصف
المتقي ولا مدح أيضا في إنفاق الحرام قيل ولا يرد قول الفقهاء
إذا اجتمع عند أحد مال لا يعرف صاحبه ينبغي أن يتصدق به فإذا
وجد صاحبه دفع قيمته أو مثله إليه فهذا الانفاق مما يثاب عليه
لأنه لما فعله بإذن الشارع استحق المدح لأنه لما لم يعرف صاحبه
كان له التصرف فيه وانتقل بالضمان إلى ملكه وتبدلت الحرمة إلى
ثمنه على أنه قد وقع الخلاف فيما لو عمل الخير بمال مغصوب عرف
صاحبه كما قال ابن القيم في بدائع الفوائد فذهب ابن عقيل إلى
أنه لا ثواب للغاصب فيه لأنه آثم ولا لرب المال لأنه لا نية له
ولا ثواب بدونها وإنما يأخذ من حسنات الغاصب بقدر ماله. وقيل:
إنه نفع حصل بماله وتولد منه ومثله يثاب عليه كالولد الصالح
يؤجر به وإن لم يقصده، ويفهم كلام البعض- وهو من الغرابة
بمكان- أن الغاصب أيضا يؤجر إذا صرفها بخير وإن تعد واقتص من
حسناته بسبب أخذه لأنه لو فسق به عوقب مرتين مرة على الغصب
ومرة على الفسق فإذا عمل به خيرا ينبغي أن يثاب عليه- ومن يعمل
مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره- ولا يرد على
ذلك
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «لا يقبل الله صدقة من غلول»
وقوله: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا»
لأن مآل ما ذكر أن الثواب على نفس العدول من الصرف في المعصية
إلى الصرف فيما هو طاعة في نفسه لا على نفس الصدقة مثلا بالمال
الحرام من حيث إنه حرام والفرق دقيق لا يهتدى إليه إلا بتوفيق.
وقد اختلف في الإنفاق هاهنا فقيل- وهو الأولى- صرف المال في
سبل الخيرات أو البذل من النعم الظاهرة والباطنة وعلم لا يقال
به ككنز لا ينفق منه. وعن ابن عباس الزكاة، وعنه وعن ابن مسعود
نفقة العيال، وعن الضحاك التطوع قبل فرض الزكاة أو النفقة في
الجهاد. ولعل هذه الأقوال تمثيل للمنفق لا خلاف فيه، وبعضهم
جعلها خلافا ورجح كونها الزكاة المفروضة باقترانها بأختها
الصلاة في عدة مواضع من القرآن ومن التبعيضية حينئذ مما لا
يسأل عن سرها إذ الزكاة المفروضة لا تكون بجميع المال وأما إذا
كان المراد بالإنفاق مطلقه الأعم مثلا ففائدة إدخالها الإشارة
إلى أن إنفاق بعض المال يكفي في اتصاف المنفق بالهداية والفلاح
ولا يتوقف على إنفاق جميع المال وقول مولانا البيضاوي تبعا
للزمخشري:
إنه للكف عن الإسراف المنهي عنه مخصوص بمن لم يصبر على الفاقة
ويتجرع مرارة الإضافة وإلا فقد تصدق الصديق رضي الله تعالى عنه
بجميع ماله ولم ينكره عليه صلى الله تعالى عليه وسلم لعلمه
بصبره واطلاعه على ما وقر في صدره، ومن هاهنا لما قيل للحسن بن
سهل لا خير في الإسراف قال لا إسراف في الخير، وقيل النكتة في
إدخال من التبعيضية هي أن الرزق أعم من الحلال والحرام فأدخلت
إيذانا بأن الإنفاق المعتد به ما يكون من الحلال وهو بعض من
الرزق و «ما» في الآية إما موصولة أو مصدرية أو موصوفة والأول
أولى فالعائد محذوف، واستشكل بأنه إن قدر متصلا يلزم اتصال
ضميرين متحدي الرتبة والانفصال في مثله واجب وإن قدر منفصلا
امتنع حذفه إذ قد أوجبوا ذكر المنفصل معللين بأنه لم ينفصل إلا
لغرض وإذا حذف فاتت الدلالة عليه، وأجيب على اختيار كل. أما
الأول فبأنه لما
(1/121)
اختلف الضميران جمعا وإفرادا جاز اتصالهما
وإن اتحدا رتبة كقوله:
لوجهك في الإحسان بسط وبهجة ... أنا لهماه قفو أكرم والد
وأيضا لا يلزم من منع ذلك ملفوظا به منعه مقدرا لزوال القبح
اللفظي، وأما الثاني فبأن الذي يمنع حذفه ما كان منفصلا لغرض
معنوي كالحصر لا مطلقا كما قال ابن هشام في الجامع الصغير،
وأشار إليه غير واحد وكتبت من متصلة بما محذوفة النون لأن
الجار والمجرور كشيء واحد وقد حذفت النون لفظا فناسب حذفها في
الخط قاله في البحر وجعل سبحانه صلات الَّذِينَ أفعالا مضارعة
ولم يجعل الموصول أل فيصله باسم الفاعل لأن المضارع فيما ذكره
البعض مشعر بالتجدد والحدوث مع ما فيه هنا من الاستمرار
التجددي وهذه الأوصاف متجددة في المتقين واسم الفاعل عندهم ليس
كذلك، ورتبت هذا النحو من الترتيب لأن الأعمال إما قلبية
وأعظمها اعتقاد حقيقة التوحيد والنبوة والمعاد إذ لولاه كانت
الأعمال كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء أو قالبية وأصلها الصلاة
لأنها الفارقة بين الكفر والإسلام وهي عمود الدين ومعراج
الموحدين والأم التي يتشعب منها سائر الخيرات والمبرات ولهذا
قال صلى الله تعالى عليه وسلم «وجعلت قرة عيني في الصلاة»
وقد أطلق الله تعالى عليها الإيمان كما قاله جمع من المفسرين
في قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ
[البقرة: 143] أو مالية وهي الإنفاق لوجه الله تعالى وهي التي
إذا وجدت علم الثبات على الإيمان وهذه الثلاثة متفاوتة الرتب
فرتب سبحانه وتعالى ذلك مقدما الأهم فالأهم والألزم فالألزم
لأن الإيمان لازم للمكلف في كل آن والصلاة في أكثر الأوقات
والنفقة في بعض الحالات فافهم ذاك والله يتولى هداك.
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ
مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ عطف على الموصول
الأول مفصولا وموصولا والمروي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله
تعالى عنهم أنهم مؤمنو أهل الكتاب وحيث إن المتبادر من العطف
أن الإيمان بكل من المنزلين على طريق الاستقلال اختص ذلك بهم
لأن إيمان غيرهم بما أنزل من قبل إنما هو على طريق الإجمال
والتبع للإيمان بالقرآن لا سيما في مقام المدح، وقد دلت الآيات
والأحاديث على أن لأهل الكتاب أجرين بواسطة ذلك وبهذا غايروا
من قبلهم وقيل التغاير باعتبار أن الإيمان الأول بالعقل وهذا
بالنقل أو بأن ذاك بالغيب وهذا بما عرفوه كما يعرفون أبناءهم
فأولئك على هدى حينئذ إشارة إلى الطائفة الأولى لأن إيمانهم
بمحض الهداية الربانية وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إشارة
إلى الثانية لفوزهم بما كانوا ينتظرونه أو بأن أولئك من حيث
المجموع كان فيهم شرك وهؤلاء لم يشركوا ولم ينكروا، وقيل
التغاير بالعموم والخصوص مثله في قوله تعالى: تَنَزَّلُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ [القدر: 4] والتخصيص هنا بعد التعميم
للإشارة إلى الأفضلية من حيثية أنهم يعطون أجرهم مرتين وقد
يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل وفي ذلك ترغيب أهل الكتاب في
الدخول في الإسلام، وقال بعضهم إن هؤلاء هم الأولون بأعيانهم
وتوسيط العطف جار في الأسماء والصفات باعتبار تغاير المفهومات
ويكون بالواو والفاء وثم باعتبار تعاقب الانتقال في الأحوال
والجمع المستفاد من الواو هنا واقع بين معاني الصفات المفهومة
من المتعاطفين والإيمان الذي مع أولهما إجمالي وعقلي ومع
ثانيها تفصيلي ونقلي وإعادة الموصول للتنبيه على تغاير
القبيلين وتباين السبيلين وقد يعطف على المتقين والموصول غير
مفصول لما يلزم على الوصل الفصل بأجنبي بين المبتدأ وخبره
والمعطوف والمعطوف عليه والتغاير بين المتعاطفين باعتبار أن
المراد بالمعطوف عليه من آمن من العرب الذين ليسوا بأهل كتاب
وبالمعطوف من آمن به صلى الله تعالى عليه وسلم من أهل الكتاب
وقد رجح بعض المحققين احتمال أن يكون هؤلاء هم الأولون وتوسط
الواو بين الصفات بأن الإيمان بالمنزلين مشترك بين المؤمنين
قاطبة فلا وجه لتخصيصه بمؤمني أهل الكتاب والإفراد بالذكر لا
يدل على أن الإيمان بكل بطريق الاستقلال فقد أفرد الكتب
المنزلة من قبل في
(1/122)
قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ
وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ
[البقرة: 136] ولم يقتض الإيمان بها على الانفراد وبأن أهل
الكتاب لم يكونوا مؤمنين بجميع ما أنزل من قبل لأن اليهود لم
يؤمنوا بالإنجيل ودينهم منسوخ به وبأن الصفات السابقة ثابتة
لمن آمن من أهل الكتاب فالتخصيص بمن عداهم تحكم وجعل الكلام من
قبيل عطف الخاص على العام لا يلائم المقام.
وأجيب أما أولا فبأن المتبادر من السياق الإيمان بالاستقلال لا
سيما في مقام المدح وإليه يشير ما جاء أنهم يؤتون أجرهم مرتين
والخطاب في الآية للمسلمين بأن يقولوا دفعة ولم يعد فيها
الإيمان والمؤمن فلا ترد نقضا، وأما ثانيا فلأن إيمان أهل
الكتاب بكل وحي إنما هو بالنظر إلى جميعهم فاليهود اشتمل
إيمانهم على القرآن والتوراة، والنصارى اشتمل إيمانهم على
الإنجيل أيضا، ويكفي هذا في توجيه المروي عمن شاهدوا نزول
الوحي ولا يرغب عنه إذا أمكن توجيهه وكون المفهوم المتبادر
ثبوت الحكم لكل واحد إن سلم لا يرده ولا يرد أن اليهود الذين
آمنوا على عهد نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم لم يؤمنوا قبل
ذلك بالتوراة وإلا لتنصروا لأن فيها نبوة عيسى كما فيها نبوة
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذ قد ورد فيها- إن الله
جاء من طور سيناء وظهر بساعير وعلن بفاران- وساعير بيت المقدس
الذي ظهر فيه عيسى، وفاران جبال مكة التي كانت مظهر المصطفى
صلى الله تعالى عليه وسلم لأنا نقول إنهم آمنوا بالتوراة
وتأولوا ما دل منها على نبوة المسيح عليه السلام فبعض أنكر
نبوته رأسا ورموه بما رموه- وحاشاه وهم الكثيرون- وبعض
كالعنانية قالوا: إنه من أولياء الله تعالى المخلصين العارفين
بأحكام التوراة وليس بنبي وهؤلاء قليلون مخالفون لسائر اليهود
في السبت والأعياد ويقتصرون على أكل الطير والظباء والسمك
والجراد وهذا الإيمان وإن لم يكن نافعا في النجاة من النار إلا
أنه يقلل الشر بالنسبة إلى الكفر بالتوراة وإنكارها بالكلية مع
الكفر بعيسى عليه السلام وربما يمدحون بالنظر إلى أصل الإيمان
بها وإن ذموا بحيثية أخرى وكأنه لهذا يكتفى منهم بالجزية ولم
يكونوا طعمة للسيوف مطلقا والقول بأنهم مدحوا بعد إيمانهم
بالقرآن بالإيمان بالتوراة نظرا إلى أسلافهم الذين كانوا على
عهد موسى عليه السلام فإنهم مؤمنون بها إيمانا صحيحا على وجهها
كما أنهم ذموا بما صنع آباؤهم على عهده على ما ينطق به كثير من
الآيات ليس بشيء إذ لا معنى لإيتائهم أجرين حينئذ والفرق بين
البابين واضح. ثم النسخ الذي ادعاه المرجح خلاف ما ذكره
الشهرستاني وغيره من أن الإنجيل لم يبين أحكاما ولا استبطن
حلالا وحراما ولكنه رموز وأمثال ومواعظ والأحكام محالة إلى
التوراة وقد قال المسيح ما جئت لأبطل التوراة بل جئت لأكملها
وهذا خلاف ما تقتضيه الظواهر وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه،
وأما ثالثا فلأن ثبوت الصفات لمن آمن من أهل الكتاب لا يضرنا
لأنها مذكورة في الأول صريحا وفي الثاني التزاما، وأما رابعا
فلأنا لا نسلم أن ذلك العطف لا يلائم المقام فنكات عطف الخاص
على العام لا تخفى كثرتها على ذوي الأفهام فدع ما مر وخذ ما
حلا، وعندي بعد هذا كله أن الاعتراض ذكر والجواب أنثى لكن
الرواية دعت إلى ذلك ولعل أهل مكة أدرى بشعابها وفوق كل ذي علم
عليم على أن الدراية قد تساعده كما قيل بناء على أن إعادة
الموصول وتوصيفه بالإيمان بالمنزلين مع اشتراكه بين جميع
المؤمنين واشتمال الإيمان بما أنزل إليك على الإيمان بما أنزل
من قبلك يستدعي أن يراد به من لهم نوع اختصاص بالصلة وهم مؤمنو
أهل الكتاب حيث كانوا مطالبين بالإيمان بالقرآن خصوصا قال
تعالى: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ
[البقرة: 41] مؤمنين بالكتب استقلالا في الجملة بخلاف سائر
المؤمنين، ثم المتبادر من أهل الكتاب أهل التوراة والإنجيل
وحمله على أهل الإنجيل خاصة وقد آمن منهم أربعون واثنان
وثلاثون جاؤوا مع جعفر من أرض الحبشة وثمانية من الشام لا
تساعده رواية ولا دراية كما لا يخفى، والإنزال الإيصال
والإبلاغ ولا يشترط أن يكون من أعلى خلافا لمن ادعاه نحو
(1/123)
فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ [الصافات: 177]
أي وصل وحل وإنزال الكتب الإلهية قد مر في المقدمات ما يطلعك
إلى معارجه، وذكر أن معنى إنزال القرآن أن جبريل سمع كلام الله
تعالى كيف شاء الله تعالى فنزل به أو أظهره في اللوح كتابة
فحفظه الملك وأداه بأي نوع كان من الأداء.
وذهب بعض السلف إلى أنه من المتشابه الذي نجزم به من غير بحث
عن كيفيته. وقال الحكماء إن نفوس الأنبياء عليهم السلام قدسية
فتقوى على الاتصال بالملأ الأعلى فينتقش فيها من الصور ما
ينتقل إلى القوة المتخيلة والحس المشترك فيرى كالمشاهد وهو
الوحي وربما يعلو فيسمع كلاما منظوما ويشبه أن نزول الكتب من
هذا وعندي أن هذا قد يكون لأرباب النفوس القدسية والأرواح
الإنسية إلا أن أمر النبوة وراء ذلك وأين الثريا من يد
المتناول.
وفعلا الإنزال مبنيان للمفعول وقرأهما النخعي وأبو حيوة ويزيد
بن قطيب مبنيين للفاعل وقرىء شاذا- بما أنزل إليك- بتشديد
اللام ووجه ذلك أنه أسكن لام أنزل ثم حذف همزة إلى ونقل كسرتها
إلى اللام فالتقى المثلان فأدغم.
وضمير الفاعل قيل الله وقيل جبريل عليه السلام وفي البحر أن
فيه التفاتا لتقدم.. مِمَّا رَزَقْناهُمْ فخرج من ضمير المتكلم
إلى ضمير الغيبة ولو جرى على الأول لجاء- بما أنزلنا إليك وما
أنزلنا من قبلك- وأتى سبحانه بصلة ما الأولى فعلا ماضيا مع أن
المراد بالمنزل جميعه لاقتضاء السياق، والسباق له من ترتب
الهدى والفلاح الكاملين عليه ولوقوعه في مقابلة ما أنزل قبل
ولاقتضاء يؤمنون المنبئ عن الاستمرار والجميع لم ينزل وقت تنزل
الآية لأمرين: الأول أنه تغليب لما وجد نزوله على ما لا يوجد
فهو من قبيل إطلاق الجزء على الكل والثاني تشبيه جميع المنزل
بشيء نزل في تحقق الوقوع لأن بعضه نزل وبعضه سينزل قطعا فيصير
إنزال مجموعه مشبها بإنزال ذلك الشيء الذي نزل فتستعار صيغة
الماضي من إنزاله لإنزال المجموع، هذا ما حققه من يعقد عند
ذكرهم الخناصر وفيه دغدغة كبرى. وأهون منه أن التعبير بالماضي
هنا للمشاكلة لوقوع غير المتحقق في صحبة المتحقق، وأهون من ذلك
كله أن المراد به حقيقة الماضي ويدل على الإيمان بالمستقبل
بدلالة النص. وما قيل من أن الإيمان بما سينزل ليس بواجب إلا
أن حمله على الجميع أكمل فلذا اقتصر عليه لا وجه له إذ لا شبهة
في أنه يلزم المؤمن أن يؤمن بما نزل وبأن كل ما سينزل حق وإن
لم يجب تفصيله وتعيينه، وقد ذكر العلماء أن الإيمان إجمالا
بالكتب المنزلة مطلقا فرض عين وتفصيلا بالقرآن المتعبد
بتفاصيله فرض كفاية إذ لو كان فرض عين أدى إلى الحرج والمشقة
والدين يسر لا عسر، وهذا مما لا شبهة فيه حتى قال الدواني: يجب
على الكفاية تفصيل الدلائل الأصولية بحيث يتمكن معه من إزالة
الشبه وإلزام المعاندين وإرشاد المسترشدين، وذكر الفقهاء أنه
لا بد أن يكون في كل حد من مسافة القصر شخص متصف بهذه الصفة
ويسمى المنصوب للذب ويحرم على الإمام إخلاؤها من ذلك كما يحرم
إخلاؤها عن العالم بالأحكام التي يحتاج إليها العامة وقيل لا
بد من شخص كذلك في كل إقليم وقيل يكفي وجوده في جميع البلاد
المعمورة الإسلامية ولعل هذا التنزل لنزول الأمر وقلة علماء
الدين في الدنيا بهذا العصر.
أمست يبابا وأمسى أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على
لبد
وإلى الله تعالى المشتكى وإليه الملتجى.
إلى الله أشكو إن في القلب حاجة ... تمر بها الأيام وهي كما
هيا
«والآخرة» تأنيث الآخر اسم فاعل من أخر الثلاثي بمعنى تأخر وإن
لم يستعمل كما أن الآخر- بفتح الخاء- اسم تفضيل منه وهي صفة في
الأصل كما في- الدار الآخرة. وينشىء النشأة الآخرة- ثم غلبت
كالدنيا. والوصف الغالب قد يوصف به دون الاسم الغالب فلا يقال
قيد أدهم للزوم التكرار في المفهوم وهو وإن كان من الدهمة إلا
أنه يستعمله
(1/124)
من لا تخطر بباله أصلا فافهم. وقد تضاف
الدار لها كقوله تعالى: وَلَدارُ الْآخِرَةِ [يوسف: 109] أي
دار الحياة الآخرة وقد يقابل بالأولى كقوله سبحانه وتعالى:
لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ [القصص: 70] والمعنى
هنا الدار الآخرة أو النشأة الآخرة والجمهور على تسكين لام
التعريف وإقرار الهمزة التي تكون بعدها للقطع، وورش يحذف وينقل
الحركة إلى اللام «والإيقان» التحقق للشيء كسكونه ووضوحه يقال
يقن الماء إذا سكن وظهر ما تحته وهو واليقين بمعنى خلافا لمن
وهم فيه قال الجوهري اليقين العلم وزوال الشك يقال منه يقنت
بالكسر يقينا وأيقنت واستيقنت كلها بمعنى، وذهب الواحدي وجماعة
إلى أنه ما يكون عن نظر واستدلال فلا يوصف به البديهي ولا علم
الله تعالى. وذهب الإمام النسفي وبعض الأئمة إلى أنه العلم
الذي لا يحتمل النقيض، وعدم وصف الحق سبحانه وتعالى به لعدم
التوقيف، وذهب آخرون إلى أنه العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه
شاكا فيه سواء كان ضروريا أو استدلاليا، وذكر الراغب أن اليقين
من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتها يقال علم يقين ولا
يقال معرفة يقين وهو سكون النفس مع ثبات الحكم، وفي الأحياء-
والقلب إليه يميل- أن اليقين مشترك بين معنيين. الأول عدم الشك
فيطلق على كل ما لا شك فيه سواء حصل بنظر أو حس أو غريزة عقل
أو بتواتر أو دليل وهذا لا يتفاوت. الثاني وهو ما صرح به
الفقهاء والصوفية وكثير من العلماء وهو ما لا ينظر فيه إلى
التجويز والشك بل إلى غلبته على القلب حتى يقال فلان ضعيف
اليقين بالموت وقوي اليقين بإثبات الرزق فكل ما غلب على القلب
واستولى عليه فهو يقين وتفاوت هذا ظاهر، وقرأ الجمهور
يُوقِنُونَ بواو ساكنة بعد الياء وهي مبدلة منها لأنه من أيقن
وقرأ النميري بهمزة ساكنة بدل الواو وشاع عندهم أن الواو إذا
ضمت ضمة غير عارضة كما فصل في العربية يجوز إبدالها همزة كما
قيل في وجوه جمع وجه أجوه فلعل الإبدال هنا لمجاورتها للمضموم
فأعطيت حكمه وقد يؤخذ الجار بظلم الجار، وغاير سبحانه بين
الإيمان بالمنزل والإيمان بالآخرة فلم يقل- وبالآخرة هم
يؤمنون- دفعا لكلفة التكرار أو لكثرة غرائب متعلقات الآخرة وما
أعد فيها من الثواب والعقاب وتفصيل أنواع التنعيم والتعذيب
ونشأة أصحابهما على خلاف النشأة الدنيوية مع إثبات المعاد
الجسماني كيفما كان. إلى غير ذلك مما هو أغرب من الإيمان
بالكتاب المنزل حتى أنكره كثير من الناس وخلا عن تفاصيله على
ما عندنا التوراة والإنجيل فليس في الأول- على ما في شرح
الطوالع- ذكر المعاد الجسماني وإنما ذكر في كتب حزقيل وشعياء
والمذكور في الإنجيل إنما هو المعاد الروحاني فناسب أن يقرن
هذا الأمر المهم الغريب الذي حارت عقول الكثيرين في إثباته
وتهافتوا على إنكاره تهافت الفراش على النار بالإيقان وهو هو
إظهارا لكمال المدح وإبداء لغاية الثناء، وتقديم المجرور
للإشارة إلى أن إيقانهم مقصور على حقيقة الآخرة لا يتعداها إلى
خلاف حقيقتها مما يزعمه اليهود مثلا حيث قالوا: لَنْ يَدْخُلَ
الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً [البقرة: 111] ولَنْ
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة:
80] وزعموا أنهم يتلذذون بالنسيم والأرواح إذ ليس ذلك من
الآخرة في شيء وفي بناء يوقنون على «هم» إشارة إلى أن اعتقاد
مقابليهم في الآخرة جهل محض وتخييل فارغ وليسوا من اليقين في
ظل ولا فيء أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ الظاهر أنه
جملة مرفوعة المحل على الخبرية فإن جعل الموصول الأول مفصولا
على أكثر التقادير في الثاني ويتبعه فصله بحسب الظاهر إذ لا
يقطع المعطوف عليه دون المعطوف فالخبرية له وإن جعل موصولا
وأريد بالثاني طائفة مما تقدمه وجعل هو مفصولا كان الإخبار عنه
وذكر الخاص
بعد العام كما يجوز أن يكون بطريق التشريك بينهما في الحكم
السابق- أعني هدى للمتقين- يجوز أن يكون بطريق إفراده بالحكم
عن العام وحينئذ تكون الجملة المركبة من الموصول الثاني وجملة
الخبر معطوفة على جملة هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الموصوفين- بالذين
يؤمنون بالغيب- والجملة الأولى وإن كانت مسوقة لمدح الكتاب
والثانية لمدح الموصوفين بالإيمان بجميع الكتب إلا أن مدحهم
ليس إلا باعتبار إيمانهم بذلك الكتاب فهما متناسبتان باعتبار
إفادة مدحه وفائدة
(1/125)
جعل المدح مقصودا بالذات ترغيب أمثالهم
والتعريض على ما قيل بمن ليس على صفتهم والتخصيص المستفاد من
المعطوف بالقياس إلى من لم يتصف بأوصافهم فلا ينافي ما استفيد
من المعطوف عليه من ثبوت الهدى للمتقين مطلقا. نعم ليس هذا
الوجه في البلاغة بمرتبة فصل الموصول الأول فهو أولى، وعليه
تكون الجملة مشيرة إلى جواب سؤال إما عن الحكم أي إن المتقين
هل يستحقون ما أثبت لهم من الاختصاص بالهدى أو عن السبب كأنه
قيل ما سبب اختصاصهم أو عن مجموع الأمرين أي هل هم أحقاء بذلك
وما السبب فيه حتى يكونوا كذلك؟ فأجيب بأن هؤلاء لأجل اتصافهم
بالصفات المذكورة متمكنون على الهدى الكامل الذي منحهم إياه
ربهم تعالى بكتابه. ومعلوم أن العلة مختصة بهم فيكونون مستحقين
للاختصاص. فالجواب مشتمل على الحكم المطلوب مع تلخيص موجبه وضم
نتيجة الهدى تقوية للمبالغة التي ضمنها تنكير هدى أو تحقيقا
للحكم بالبرهان الآتي أيضا ولذا استغنى عن تأكيد النسبة أو
الجملة الاسمية مؤكدة، وقد يقال: إنه بين الجواب مرتبا عليه
مسببيه أعني الهدى والفلاح لأن ذلك أوصل إلى معرفة السبب ولا
حاجة حينئذ إلى التأكيد، والأمر على التقدير الثالث ظاهر وجعل
الجملة مشيرة إلى الجواب على احتمال وصل الأول وفصل الثاني مما
لا يخفى انفصاله عن ساحة القبول، وإذا وصل الأول وعطف الثاني
تكون هذه الجملة مستأنفة استئنافا نحويا، والفصل لكمال الاتصال
إذ هي كالنتيجة للصفات السابقة أو بيانيا والفصل لكونها
كالمتصلة فكأن سائلا يقول ما للموصوفين بهذه الصفات اختصوا
بالهدى؟ فأجيب بأن سبب اختصاصهم أنه سبحانه قدر في الأزل
سعادتهم وهدايتهم فجبلتهم مطبوعة على الهداية
والسعيد سعيد في بطن أمه
لا سيما إذا انضم إليه الفلاح الأخروي الذي هو أعظم المطالب،
أو يقال: إن الجواب بشرح ما انطوى عليه اسمهم إجمالا من نعوت
الكمال وبيان ما تستدعيه من النتيجة أي الذين هذه شؤونهم أحقاء
بما هو أعظم من ذلك، وهذا المسلك يسلك تارة بإعادة من استؤنف
عنه الحديث- كأحسنت إلى زيد- زيد حقيق بالإحسان وأخرى بإعادة
صفته- كأحسنت إلى زيد صديقك القديم- أهل لذلك وهذا أبلغ لما
فيه من بيان الموجب للحكم وإيراد اسم الإشارة هنا بمنزلة إعادة
الموصوف بصفاته المذكورة مع ما فيه من الإشعار بكمال تميزه بها
وانتظامه لذاك في سلك الأمور المشاهدة مع الإيماء إلى بعد
منزلته وعلو درجته، هذا وجعل أولئك وحده خبرا وعَلى هُدىً حال
بعيد كجعله بدلا من- الذين- والظرف خبرا. وإنما كتبوا واوا في
أُولئِكَ للفرق بينه وبين إليك الجار والمجرور كما قيل، وقيل:
إنه لما كان مشارا به لجمع المذكر وكان مبنيا ومباينا للشائع
من صيغ الجموع جبر في الجملة بكتابة حرف يكون في الجمع في بعض
الآنات. ومن المشهور- ردوا السائل ولو بظلف محرق- وفي قوله
سبحانه عَلى هُدىً استعارة تمثيلية تبعية حيث شبهت حال أولئك-
وهي تمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به- بحال من
اعتلى الشيء وركبه ثم استعير للحال التي هي المشبه المتروك
كلمة الاستعلاء المستعملة في المشبه به وإلى ذلك ذهب السعد،
وأنكر السيد اجتماع التمثيلية والتبعية لأن كونها تبعية يقتضي
كون كل من الطرفين معنى مفردا لأن المعاني الحرفية مفردة
وكونها تمثيلية يستدعي انتزاعهما من أمور متعددة وهو يستلزم
تركبه.
وأبدى قدس سره في الآية ثلاثة أوجه. الأول أنها استعارة تبعية
مفردة بأن شبه تمسك المتقين بالهدى باستعلاء الراكب على مركوبه
في التمكن والاستقرار فاستعير له الحرف الموضوع للاستعلاء.
الثاني أن يشبه هيئة منتزعة من المتقي والهدى وتمسكه به
بالهيئة المنتزعة من الراكب والمركوب واعتلائه عليه فيكون هناك
استعارة تمثيلية تركب كل من طرفيها لكن لم يصرح من الألفاظ
التي بإزاء المشبه به إلا بكلمة عَلى فإن مدلولها هو العمدة في
تلك الهيئة وما عداه تابع له ملاحظ في ضمن ألفاظ منوية وإن لم
تقدر في نظم الكلام فليس في «على» استعارة أصلا بل
(1/126)
هي على حالها قبل الاستعارة كما إذا صرح
بتلك الألفاظ كلها. الثالث أن يشبه الهدى بالمركوب على طريق
الاستعارة بالكناية وتجعل كلمة عَلى قرينة لها على عكس الوجه
الأول. وهذا الخلاف بين الشيخين في هذه المسألة مما سارت به
الركبان وعقدت له المجالس وصنفت فيه الرسائل، وأول ما وقع
بينهما في مجلس تيمور- وكان الحكم نعمان الخوارزمي المعتزلي-
فحكم- والظاهر أنه لأمر ما- للسيد السند والعلماء إلى اليوم
فريقان في ذلك ولا يزالون مختلفين فيه إلا أن الأكثر مع السعد
وأجابوا عن شبهة السيد بأن انتزاع شيء من أمور متعددة يكون على
وجوه شتى فقد يكون من مجموع تلك الأمور كالوحدة الاعتبارية وقد
يكون من أمر بالقياس إلى آخر كالإضافات وقد يكون بعضه من أمر
وبعضه من آخر وعلى الأولين لا يقتضي تركيبه بل تعدد مأخذه
فيجوز حينئذ أن يكون المدلول الحرفي لكونه أمرا إضافيا
كالاستعلاء حالة منتزعة من أمور متعددة فلجريانها في الحرف
تكون تبعية ولكون كل من الطرفين حالة إضافية منتزعة من أمور
متعددة تمثيلية، ولعل اختيار القوم في تعريف التمثيلية لفظ
الانتزاع دون التركيب يرشد المنصف إلى عدم اشتراط التركيب في
طرفيه وإلا لكان الأظهر لفظ التركيب، وقد أشبعنا القول في ذلك
وذكرنا ما له وما عليه في كتابنا- الأجوبة العراقية عن الأسئلة
الإيرانية- وفي هذا القدر هنا كفاية. وفي تنكير هُدىً إشارة
إلى عظمته فلا يعرف حقيقته ومقداره إلا اللطيف الخبير وإنما
ذكر الرب مع أن الهدى لا يكون إلا منه سبحانه تأكيدا لذلك
بإسناده إليه جل شأنه، وفيه مناسبة واضحة إذ حيث كان ربهم ناسب
أن يهيئ لهم أسباب السعادتين ويمنّ عليهم بمصلحة الدارين وقد
تكون ثم صفة محذوفة أي عَلى هُدىً أي هدى وحذف الصفة لفهم
المعنى جائز وقيل يحتمل أن يكون التنوين للإفراد أي على هدى
واحد إذ لا هدى إلا هدى ما أنزل إليه صلى الله تعالى عليه وسلم
لنسخه ما قبله. ومِنْ لابتداء الغاية أو للتبعيض على حذف مضاف
أي من هدى ربهم، ومعنى كون ذلك منه سبحانه أنه هو الموفق لهم
والمفيض عليهم من بحار لطفه وكرمه وإن توسطت هناك أسباب عادية
ووسائط صورية على أن تلك الوسائط قد ترتفع من البين فيتبلج صبح
العيان لذي عينين. وقد قرأ ابن هرمز- من ربهم- بضم الهاء وكذلك
سائر هاءات جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعي فيها
سبق كسر أو ياء وأدغم النون في الراء بلا غنة الجمهور وعليه
العمل، وذهب كثير من أهل الأداء إلى الإدغام مع الغنة ورووه عن
نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وأبي جعفر ويعقوب،
وأظهر النون أبو عون عن قالون، وأبو حاتم عن يعقوب، وهذه
الأوجه جارية أيضا في النون والتنوين إذا لاقت (1) لاما
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفلاح الفوز والظفر بإدراك
البغية وأصله الشق والقطع ويشاركه في معنى الشق مشاركه في
الفاء والعين نحو- فلى وفلق وفلذ- وفي تكرار اسم الإشارة إشارة
إلى أن هؤلاء المتصفين بتلك الصفات يستحقون بذلك الاستقلال
بالتمكن في الهدى والاستبداد بالفلاح والاختصاص بكل منهما
ولولاه لربما فهم اختصاصهم بالمجموع فيوهم تحقق كل واحد منهما
بالانفراد فيمن عداهم وإنما دخل العاطف بين الجملتين لكونهما
واقعتين بين كمال الاتصال والانفصال لأنهما وإن تناسبا مختلفان
مفهوما ووجودا فإن الهدى في الدنيا والفلاح في الآخرة وإثبات
كل منهما مقصود في نفسه وبهذا فارقا قوله تعالى: أُولئِكَ
كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ
[الأعراف: 179] فالثانية فيه مؤكدة للأولى إذ لا معنى للتشبيه
إلا بالإنعام المبالغة في
الغفلة فلا مجال للعطف بينهما وهُمُ يحتمل أن يكون فصلا أو
بدلا فيكون الْمُفْلِحُونَ خبرا عن أولئك أو مبتدأ- والمفلحون-
خبره والجملة خبر.. أُولئِكَ وهذه الجملة لا تخلو عن إفادة
الحصر كما لا يخفى. وقد ذكر غير
__________
(1) قوله إذا لاقت كذا بخطه والأولى لاقتا كما هو ظاهر اهـ
مصححه.
(1/127)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ
غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ
بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
واحد أن اللام في- المفلحون- حرف تعريف
بناء على أن المراد الثبات على الفلاح فهو حينئذ مما غلبت عليه
الاسمية أو ألحق بالصفة المشبهة فهي إما للعهد الخارجي للدلالة
على أن المتقين هم الذين بلغك أنهم مفلحون في العقبى وضمير
الفصل إما للقصر- أو لمجرد تأكيد النسبة ولا استبعاد في جريان
القصر قلبا أو تعيينا بل إفرادا أيضا أو للجنس- فتشير إلى ما
يعرفه كل أحد من هذا المفهوم فإن أريد القصر كان الفصل لتأكيد
النسبة ولتأكيد الاختصاص أيضا وإن أريد الاتحاد كان لمجرد
تأكيد النسبة. وتشبث المعتزلة والخوارج بهذه الآية لخلود تارك
الواجب في العذاب لأن قصر جنس الفلاح على الموصوفين يقتضي
انتفاء الفلاح عن تارك الصلاة والزكاة فيكون مخلدا في العذاب
وهذا أوهن من بيت العنكبوت فلا يصلح للاستدلال لأن الفلاح عدم
الدخول أو لأن انتفاء كمال الفلاح كما يقتضيه السياق، والسباق
لا يقتضي انتفاءه مطلقا ولا حاجة إلى حمل المتقين على
المجتنبين للشرك ليدخل العاصي فيهم لأن الإشارة ليست إليه فقط
فلا يجدي نفعا ككون الصفة مادحة كما لا يخفى، وهاهنا سر دقيق
وهو أنه سبحانه وتعالى حكى في مفتتح كتابه الكريم مدح العبد
لباريه بسبب إحسانه إليه وترقى فيه ثم مدح الباري هنا عبده
بسبب هدايته له وترقى فيه على أسلوب واحد فسبحانه من إله
ماجدكم أسدى جميلا، وأعطى جزيلا، وشكر قليلا، فله الفضل بلا
عد، وله الحمد بلا حد.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ كلام مستأنف يتميز به
حال الكفرة الغواة المردة العتاة سيق إثر بيان بديع أحوال
أضدادهم المتصفين بنعوت الكمال الفائزين بمطالبهم في الحال
والمآل، ولم يعطف على سابقه عطف القصة على القصة لأن المقصود
من ذلك بيان اتصاف الكتاب بغاية الكمال في الهداية تقريرا
لكونه يقينا لا مجال للشك فيه، ومن هذا بيان اتصاف الكفار
بالإصرار على الكفر والضلال بحيث لا يجدي فيهم الإنذار، والقول
إنهما مسوقان لبيان حال الكتاب وإنه هدى لقوم وليس هدى لآخرين
لا يجدي نفعا لأن عدم كونه هدى لهم مفهوم تبعا لا مقصود أصالة
على أن الانتفاع به صفة كمال له يؤيد ما سبق من تفخيم شأنه
وإعلاء مكانه بخلاف عدم الانتفاع. وقيل إن ترك العطف لكونه
استئنافا آخر كأنه قيل ثانيا ما بال غيرهم لم يهتدوا به؟ فأجيب
بأنهم لإعراضهم وزوال استعدادهم لم ينجع فيهم دعوة الكتاب إلى
الإيمان وليس بشيء لأنه بعد ما تقرر أن تلك الأوصاف المختصة هي
المقتضية لم يبق لهذا السؤال وجه، وأغرب من هذا تخيل أن الترك
لغاية الاتصال زعما أن شرح تمرد الكفار يؤكد كون الكتاب كاملا
في الهداية نعم يمكن على بعد أن يوجه السؤال بأن يقال: لو كان
الكتاب كاملا لكان هدى للكفار أيضا فيجاب بأن عدم هدايته إياهم
لتمردهم وتعنتهم لا لقصور في الكتاب.
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته ... والذنب للطرف لا للنجم في
الصغر
والعطف في قوله تعالى إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ
الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ لاتحاد الجامع إذ الجملة الأولى
مسوقة
(1/128)
لبيان ثواب الأخيار، والثانية لذكر جزاء
الأشرار مع ما فيهما من الترصيع والتقابل وقد عد التضاد وشبهه
جامعا يقتضي العطف لأن الوهم ينزل المتضادين منزلة المتضايفين
فيجتهد في الجمع بينهما في الذهن حتى قالوا: إن الضد أقرب
خطورا بالبال مع الضد من الأمثال. وصدرت الجملة بأن اعتناء
بمضمونها وقد تصدر بها الأجوبة لأن السائل لكونه مترددا يناسبه
التأكيد وتعريف الموصول إما للعهد (1) والمراد من شافههم صلّى
الله عليه وسلّم بالإنذار في عهده وهم مصرون على كفرهم أو
للجنس كما في قوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا
يَسْمَعُ [البقرة: 171] وكقول الشاعر:
ويسعى إذا أبني ليهدم صالحي ... وليس الذي يبني كمن شأنه الهدم
فهو حينئذ عام خصه العقل بغير المصرين، والإخبار بما ذكر قرينة
عليه أو المخصص عود ضمير خاص عليه من الخبر لا الخبر نفسه وقد
ذكر الأصوليون ثلاثة أقوال فيما إذا عاد ضمير خاص على العام
فقيل يخصصه وقيل لا وقيل بالوقف ومثلوه بقوله تعالى:
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ [البقرة: 228] فإن الضمير في بعولتهن للرجعيات فقط.
وما ذكره بعض أجلة المفسرين أن المخصص هنا الخبر أورد عليه أن
تعين المخبر عنه بمفهوم الخبر ينافي ما تقرر من أن المخبر عنه
لا بد أن يكون متعينا عند المخاطب قبل ورود الخبر فلو توقف
تعين المخبر عنه على الخبر لزم الدور. والكفر بالضم مقابل
الإيمان وأصله المأخوذ منه الكفر- بالفتح- مصدر بمعنى الستر
يقال كفر يكفر من باب قتل، وما في الصحاح من أنه من باب ضرب
فالظاهر أنه غير صحيح (2) وإن لم ينبه عليه في القاموس وشاع
استعماله في ستر النعمة خاصة وفي مقابل الإيمان لأن فيه ستر
الحق ونعم الفيض المطلق، وقد صعب على المتكلمين تعريف الكفر
الشرعي الغير التبعي واختلفوا في تعريفه على حسب اختلافهم في
تعريف الإيمان إلا أن الذي عول عليه الشافعية رحمهم الله تعالى
أنه إنكار ما علم مجيء الرسول صلّى الله عليه وسلّم به مما
اشتهر حتى عرفه الخواص والعوام فلا يكفر جاحد المجمع عليه على
الإطلاق بل من جحد مجمعا عليه فيه نص وهو من الأمور الظاهرة
التي يشترك في معرفتها سائر الناس كالصلاة وتحريم الخمر ومن
جحد مجمعا عليه لا يعرفه إلا الخواص كاستحقاق بنت الابن السدس
مع بنت الصلب فليس بكافر ومن جحد مجمعا عليه ظاهرا لا نص فيه
ففي الحكم بتكفيره خلاف، وأما ساداتنا الحنفية رضي الله تعالى
عنهم فلم يشترطوا في الإكفار سوى القطع بثبوت ذلك الأمر الذي
تعلق به الإنكار لا بلوغ العلم به حد الضرورة وهذا أمر عظيم
وكأنه لذلك قال ابن الهمام: يجب حمله على ما إذا علم المنكر
ثبوته قطعا لأن مناط التكفير التكذيب أو الاستخفاف ولا يرد على
أخذ الإنكار في التعريف أن أهل الشرع حكموا على بعض الأفعال
والأقوال بأنها كفر وليست إنكارا من فاعلها ظاهرا لأنهم صرحوا
بأنها ليست كفرا وإنما هي دالة عليه فأقيم الدال مقام مدلوله
حماية لحريم الدين وصيانة لشريعة سيد المرسلين صلّى الله عليه
وسلّم وليست بعض المنهيات التي تقتضيها الشهوة النفسانية كذلك
فلا يبطل الطرد بغير الكفر من الفسق فلبس شعار الكفار مثلا ليس
في الحقيقة كفرا كما قاله مولانا الإمام الرازي وغيره إلا أنهم
كفروا به لكونه علامة ظاهرة على أمر باطن وهو التكذيب لأن
الظاهر أن من يصدق الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لا يأتي به
فحيث أتى به دل على عدم التصديق وهذا إذا لم تقم قرينة على ما
ينافي تلك الدلالة ولهذا قال بعض المحققين: إن لبس شعار الكفرة
سخرية بهم وهزلا ليس بكفر. وقال مولانا الشهاب وليس ببعيد إذا
__________
(1) وهو الأولى دراية ورواية اهـ منه.
(2) مثل ذلك لابن الطيب في حاشية القاموس وفيه أن الذي قال
الجوهري: انه من باب ضرب هو الكفر بمعنى الستر وهو صحيح باتفاق
وهو غير الكفر الذي هو ضد الإيمان فإنّه من باب نصر أفاده شارح
القاموس اهـ مصححه.
(1/129)
قامت القرينة وأنا أقول إذا قامت القرينة
على غرض آخر غير السخرية والهزل لا كفر به أيضا كما يظنه بعض
من ادعى العلم اليوم وليس منه في قبيل ولا دبير ولا في العير
ولا النفير ثم الإنكار هنا بمعنى الجحود ولا يرد أن من تشكك أو
كان خاليا عن التصديق والتكذيب ليس بمصدق ولا جاحد وأنه قول
بالمنزلة بين المنزلتين وهو باطل عند أهل السنة لأنه يجوز أن
يكون كفر الشاك والخالي لأن تركهما الإقرار مع السعة والأعمال
بالكلية دليل كما قاله السالكوتي على التكذيب كما أن التلفظ
بكلمة الشهادة دليل على التصديق وقيل هو هاهنا من أنكرت الشيء
جهلته فلا ورود أيضا، وفيه أن الإنكار بمعنى الجهل يقابل
المعرفة فيلزم أن يكون العارف الغير المصدق كأحبار اليهود
واسطة فالمحذور باق بحاله. وعرف في المواقف الكفر بأنه عدم
تصديق الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض ما علم مجيئه به
بالضرورة ولعله أيضا يقول بإقامة بعض الأفعال والأقوال مقام
عدم التصديق واعترض على أخذ الضرورة بأن ما ثبت بالإجماع قد
يخرج من الضروريات وكذا براءة عائشة رضي الله تعالى عنها ثبتت
بالقرآن، وأدلته اللفظية غير موجبة للعلم فتخرج عن الضروريات
أيضا.
وأجيب بأن خروج ما ثبت بالإجماع عن الضروريات ممنوع والدلالة
اللفظية تفيد العلم بانضمام القرائن وهي موجودة في براءة عائشة
رضي الله تعالى عنها ولقد عد أصحابنا رضي الله تعالى عنهم في
باب الاكفار أشياء كثيرة لا أراها توجب إكفارا والإخراج عن
الملة أمر لا يشبهه شيء فينبغي الاتئاد في هذا الباب مهما
أمكن، وقول ابن الهمام:
ارفق بالناس وفي أبكار الأفكار- في هذا البحث- ما يقضي منه
العجب ولا أرغب في طول بلا طول وفضول بلا فضل. واستدل المعتزلة
بهذه الآية ونحوها على حدوث كلامه سبحانه وتعالى لاستدعاء صدق
الإخبار بمثل هذا الماضي سابقه المخبر عنه أعني النسبة بالزمان
وكل مسبوق بالزمان حادث، وأجيب بأن سبق المخبر عنه يقتضي تعلق
كلامه الأزلي بالمخبر عنه فاللازم سبق المخبر عنه على التعلق
وحدوثه وهو لا يستلزم حدوث الكلام كما في علمه تعالى بوقوع
الأشياء فإن له تعلقا حادثا مع عدم حدوثه أو يقال: إن ذاته
تعالى وصفاته لما لم تكن زمانية يستوي إليها جميع الأزمنة
استواء جميع الأمكنة فالأنواع كل منها حاضر عنده في مرتبته
واختلاف التعبيرات بالنظر إلى المخاطب الزماني رعاية للحكمة في
باب التفهيم، وقيل غير ذلك مما يطول ذكره، وقد ذكرنا في
الفائدة الرابعة ما يفيدك ذكره هنا فتذكر وسَواءٌ اسم مصدر
بمعنى الاستواء وهو لا يثنى ولا يجمع وقد استغنوا عن تثنيته
بتثنية «سي» إلا شذوذا وكأنه في الأصل مصدر كما قاله الرضي
ورفع على أنه خبر أن وما بعده مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل:
إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه- أو خبر مبتدأ محذوف-
تقديره الأمران سواء ثم بين الأمرين بقوله سبحانه
أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ أو خبر لما بعده أي
إنذارك وعدمه سيان وهو المشهور على ألسنة الطلبة في مثله وأورد
عليه أمور: الأول أن الفعل لا يسند إليه. الثاني أنه مبطل
لصدارة الاستفهام. الثالث أن الهمزة وأَمْ موضوعان لأحد
الأمرين وكل ما يدل على الاستواء لا يسند إلا إلى متعدد فلذا
يقال: استوى وجوده وعدمه ولا يقال أو عدمه. الرابع أنه على
تقدير كونه خبرا يلزم أن لا يصح تقديمه لالتباس المبتدأ
بالفاعل. ويجاب أما عن الأول فبأنه من جنس الكلام المهجور فيه
جانب اللفظ إلى جانب المعنى، والعرب تميل في مواضع من كلامهم
مع المعاني ميلا بينا ومن ذلك- لا تأكل السمك وتشرب اللبن- أي
لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن ولو أجري على ظاهره لزم عطف
الاسم المنصوب على الفعل بل المفرد على جملة لا محل لها. ودعوى
البيضاوي- بيض الله تعالى غرة أحواله- أنه استعمل فيه اللفظ في
جزء معناه وهو الحدث تجوزا فلذا صح الإخبار عنه كما يجوز
الإخبار عما يراد به مجرد لفظه كضرب ماض مفتوح الباء على ما
فيها لا تتأتى فيما إذا كان المعادلان- أو أحدهما بعد همزة
التسوية- جملة اسمية كما في
(1/130)
قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْكُمْ
أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ [الأعراف: 193]
ويدخل في الميل مع المعنى مع أنه لا يلزم عليه الخروج عن
الحقيقة وقد نقل ابن جني عن أبي علي (1) أنه قال: الجملة
المركبة من المبتدأ والخبر تقع موقع الفعل المنصوب بأن إذا
انتصب وانصرف القول به والرأي فيه إلى مذهب المصدر كقوله
تعالى: هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ
شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ [الروم:
28] وكقوله سبحانه وتعالى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ
يَرى [النجم: 35] ألا ترى أن الفاء جواب الاستفهام وهي تصرف
الفعل بعدها إلى الانتصاب بأن مضمرة والفعل المنصوب مصدر لا
محالة حتى كأنه قال أعنده علم الغيب فرؤيته وهل بينكم شركة
فاستواء، وأما عن الثاني والثالث فبأن الهمزة وأَمْ انسلخا عن
معنى الاستفهام عن أحد الأمرين ولما كانا مستويين في علم
المستفهم جعلا مستويين في تعلق الحكم بكليهما، ولهذا قيل تجوز
بهما عن معنى الواو العاطفة الدالة على اجتماع متعاطفيها في
نسبة ما من غير ملاحظة تقدم أو تأخر، ثم إن مثل هذا المعنى وإن
كان مرادا إلا أنه لا يلاحظ في عنوان الموضوع بعد السبك كما لا
يلاحظ معنى العاطف فلا يقال في الترجمة هنا إلا الإنذار وعدمه
سواء من غير نظر إلى التساوي حتى يقال إذا كان تقدير المبتدأ
المتساويان يلغو حمل سواء عليه فيدفع بما يدفع، وقد قال الإمام
الآقسراي: إن أنذرتهم إلخ انتقل عن أن يكون المقصود أحدهما إلى
أن يكون المراد كليهما وهذا معنى الاستواء الموجود فيه، وأما
الحكم بالاستواء في عدم النفع فلم يحصل إلا من قوله سَواءٌ
عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ وذكر أنه
ظفر بمثله عن أبي علي الفارسي، وكلام المولى الفناري يحوم حول
هذا الحمى، وذهب بعض المحققين إلى
أنهما في الأصل للاستفهام عن أحد الأمرين وهما مستويان في علم
المستفهم، وقد ذهب ذلك الاستواء هنا إذ سلخ عنهما الاستفهام
وبقي الاستواء في العلم وهو معنى قول من قال الهمزة وأَمْ
مجردتان لمعنى الاستواء فيكون الحاصل فيما نحن فيه المتساويان
في علمك مستويان في عدم الجدوى وهذا على ما فيه تكلف مستغنى
عنه بما ذكرناه ومثله ما ذكر العاملي من أن تمام معناهما
الاستواء والاستفهام معا فجردا عن معنى الاستفهام وصار المجرد
الاستواء ولتكرر الحكم بالاستواء بمعنى واحد يحصل التأكيد كأنه
قيل سواء الإنذار وعدمه سواء وهو بعيد عن ساحة التحقيق كما لا
يخفى ويوهم قولهم بالتجريد أن هناك مجازا مرسلا استعمل فيه
الكل في جزئه، والتحقيق أنه إما استعارة أو مستعمل في لازم
معناه ثم المشهور أنه لا يجوز العطف بعد سواء بأو إن كان هناك
همزة التسوية حتى قال في المغني: إنه من لحن الفقهاء، وفي شرح
الكتاب للسيرافي سَواءٌ إذا دخلت بعدها ألف الاستفهام لزمت
أَمْ كسواء على أقمت أم قعدت فإذا عطف بعدها أحد اسمين على آخر
عطف بالواو لا غير نحو سواء عندي زيد وعمرو فإذا كان بعدها
فعلان بغير استفهام عطف أحدهما على الآخر- بأو- كقولك سواء
عليّ قمت أو قعدت فإن كان بعدها مصدران مثل سواء عليّ قيامك
وقعودك فلك العطف بالواو وبأو. وإنما دخلت في الفعلين بغير
استفهام لما في ذلك من معنى المجازاة، فتقدير المثال إن قمت أو
قعدت فهما عليّ سواء، والظاهر من هذا بيان استعمالات العرب-
لسواء- ولم يحك في شيء من ذلك شذوذا فقراءة ابن محيصن من طريق
الزعفراني- سواء عليهم أنذرتهم أو لم تنذرهم- شاذة رواية فقط
لا استعمالا كما يفهمه كلام ابن هشام فافهم هذا المقام فقد غلط
فيه أقوام بعد أقوام. وأما عن الرابع فبأن النحاة قد صرحوا
بتخصيص ذلك بالخبر الفعلي دون الصفة نحو زيد قام فلا يقدم
لالتباس المبتدأ بالفاعل حينئذ فإذا لم يمتنع في صريح الصفة
فعدم امتناعه هنا أولى على ما قيل، وإنما عدل سبحانه عن المصدر
فلم يأت به على الأصل لوجهين:
__________
(1) أي في إعراب الحماسة اهـ منه.
(1/131)
لفظي وهو حسن دخول الهمزة وأم لأنهما في
الأصل للاستفهام وهو بالفعل أولى، ومعنوي وهو إيهام التجدد
نظرا لظاهر الصيغة، وفيه إشارة إلى أنه صلى الله تعالى عليه
وسلم أحدث ذلك وأوجده فأدى الأمانة وبلغ الرسالة وإنما لم
يؤمنوا لسبق الشقاء ودرك القضاء لا لتقصير منه وحاشاه فهو وإن
أفاد اليأس فيه تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم.
وعلى هنا باعتبار أصل معناه لأن الاستواء يتعدى بعلى كقوله
تعالى: اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54، يونس:
3، الرعد: 2، الفرقان: 59، السجدة: 4، الحديد: 4] وقيل بمعنى
عند- ففي المغني- على تجرد للظرفية، وعلى ذلك أكثر المفسرين
والقول بأنها هنا للمضرة كدعاء عليه ليس بشيء لأن سَواءٌ
تستعمل مع على مطلقا فيقال- مودتي دائمة سواء علي أزرت أم لم
تزر- «والإنذار» التخويف مطلقا أو الإبلاغ وأكثر ما يستعمل في
تخويف عذاب الله تعالى ويتعدى إلى اثنين كقوله تعالى: نَّا
أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
[النبأ: 40] فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً [فصلت:
13] فالمفعول الثاني هنا محذوف أي العذاب ظاهرا ومضمرا واستحسن
أن لا يقدر ليعم، وفي البحر: الإنذار الإعلام مع التخويف في
مدة تسع التحفظ من المخوف فإن لم تسع فهو إشعار وإخبار لا
إنذار ولم يذكر سبحانه البشارة لأنها تفهم بطريق دلالة النص
لأن الإنذار أوقع في القلب وأشد تأثيرا فإذا لم ينفع كانت
البشارة بعدم النفع أولى. وقيل لا محل للبشارة هنا لأن الكافر
ليس أهلا لها. وقوله عز من قائل لا يُؤْمِنُونَ يحتمل أن تكون
مفسرة لإجمال ما قبلها مما فيه الاستواء والكفر وعدم نفع
الإنذار في الماضي بحسب الظاهر مسكوت فيه عن الاستمرار ولا
يُؤْمِنُونَ دال عليه ومبين له فلا حاجة إلى القول بأن هذا
بالنظر إلى مفهوم اللفظ مع قطع النظر عن أنه إخبار عن المصرين
وهي حينئذ لا محل لها من الإعراب كما هو شأن الجمل المفسرة،
وعند الشلوبين لها محل لأنها عطف بيان عنده ويحتمل أن تكون
حالا مؤكدة لما قبلها وصاحب الحال ضمير عليهم أو أنذرتهم وليس
هذا كزيد أبوك عطوفا لفقد ما يشترط (1) في هذا النوع هاهنا وأن
تكون بدلا، إما بدل اشتمال لاشتمال عدم نفع ما مر على عدم
الإيمان، أو بدل كل لأنه عينه بحسب المآل أو خبرا بعد خبر أو
خبر مبتدأ محذوف- أي هم لا يؤمنون- أو خبر إن والجملة قبلها
اعتراض.
وفي التسهيل: الاعتراضية هي المفيدة تقوية وهي هنا كالعلة
للحكم لدلالتها على قسوة قلوبهم وعدم تأثرها بالإنذار وهو مقتض
لعدم الإيمان، وحيث إن الموضوع دال على عدم الإيمان في الماضي
والمحمول على استمراره في المستقبل اندفع توهم عدم الفائدة في
الإخبار وجعل الجملة دعائية بعيد، وأبعد منه ما روي أن الوقف
على- أم لم تنذر- والابتداء- بهم لا يؤمنون- على أنه مبتدأ
وخبر بل ينبغي أن لا يلتفت إليه، وقرأ الجحدري سَواءٌ بتخفيف
الهمزة على لغة الحجاز فيجوز أنه أخلص الواو ويجوز أنه جعل
الهمزة بين بين أي بين الهمزة والواو (2) وعن الخليل أنه قرأ:
«سوء» عليهم بضم السين مع واو بعدها فهو عدول عن معنى المساواة
إلى السب والقبح وعليه لا تعلق أعرابيا له بما بعده كما في
البحر، وقرأ الكوفيون وابن ذكوان- وهي لغة بني تميم-
أَأَنْذَرْتَهُمْ بتحقيق الهمزتين وهو الأصل، وأهل الحجاز لا
يرون الجمع بينهما طلبا للتخفيف فقرأ الحرميان وأبو عمرو وهشام
بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية إلا أن أبا عمرو وقالون وإسماعيل
بن جعفر عن نافع وهشام يدخلون بينهما ألفا وابن كثير لا يدخل،
وروي تحقيقهما عن هشام مع إدخال ألف بينهما وهي قراءة ابن عباس
وابن أبي إسحاق. وروي عن ورش كابن كثير وكقالون إبدال الهمزة
الثانية ألفا فيلتقي ساكنان على غير حدهما عند البصريين، وزعم
الزمخشري أن ذلك لحن وخروج عن كلام العرب من وجهين «أحدهما»
الجمع بين ساكنين على غير حده «الثاني» أن طريق تخفيف الهمزة
__________
(1) فقد اشترط النحاة فيه الوقوع بعد جملة اسمية طرفاها
معرفتان جامدان وعاملها محذوف أبدا اهـ منه
(2) ولامها على هذا واو لا ياء وفي المشهور همزتها منقلبة عن
ياء فهو من باب طويت اهـ منه.
(1/132)
المتحركة المفتوح ما قبلها هو بالتسهيل بين
بين لا بالقلب ألفا لأنه طريق الهمزة الساكنة وما قالوه مذهب
البصريين، والكوفيون أجازوا الجمع على غير الحد الذي أجازه
البصريون، وهذه القراءة من قبيل الأداء، ورواية المصريين عن
ورش وأهل بغداد يروون التسهيل بين بين كما هو القياس فلا يكون
الطعن فيها طعنا فيما هو من السبع المتواتر إلا أن المعتزلي
أساء الأدب في التعبير، وقد احتج بهذه الآية وأمثالها من قال
بوقوع التكليف بالممتنع لذاته بناء على أن يراد بالموصول ناس
بأعيانهم، وحاصل الاستدلال أنه سبحانه وتعالى أخبر بأنهم لا
يؤمنون وأمرهم بالإيمان وهو ممتنع إذ لو كان ممكنا لما لزم من
فرض وقوعه محال لكنه لازم إذ لو آمنوا انقلب خبره كذبا وشمل
إيمانهم الإيمان بأنهم لا يؤمنون لكونه مما جاء به صلى الله
تعالى عليه وسلم وإيمانهم بأنهم لا يؤمنون فرع اتصافهم بعدم
الإيمان فيلزم اتصافهم بالإيمان وعدم الإيمان فيجتمع الضدان،
وكلا الأمرين من انقلاب خبره تعالى كذبا واجتماع الضدين محال
وما يستلزم المحال محال «وأجيب» بأن إيمانهم ليس من المتنازع
فيه لأنه أمر ممكن في نفسه وبإخباره سبحانه وتعالى بعدم
الإيمان لا يخرج من الإمكان، غايته أنه يصير ممتنعا بالغير
واستلزام وقوعه الكذب أو اجتماع الضدين بالنظر إلى ذلك لأن
إخباره تعالى بوقوع الشيء أو عدم وقوعه لا ينفي القدرة عليه
ولا يخرجه من الإمكان الذاتي لامتناع الانقلاب وإنما ينفي عدم
وقوعه أو وقوعه فيصير ممتنعا بالغير واللازم للمكن أن لا يلزم
من فرض وقوعه نظرا إلى ذاته محال، وأما بالنظر إلى امتناعه
بالغير فقد يستلزم الممتنع بالذات كاستلزام عدم المعلول الأول
عدم الواجب. وقيل في بيان استحالة إيمانهم بأنهم لا يؤمنون أنه
تكليف بالنقيضين لأن التصديق في الإخبار بأنهم لا يصدقونه في
شيء يستلزم عدم تصديقهم في ذلك والتكليف بالشيء تكليف بلوازمه،
وقوبل بالمنع لا سيما اللوازم العدمية. وقيل لأن تصديقهم في أن
لا يصدقوه يستلزم أن لا يصدقوه وما يستلزم وجوده عدمه محال،
ورد بأنه يجوز أن يكون ذلك الاستلزام لامتناعه بالغير كما فيما
نحن فيه، وقيل لأن إذعان الشخص بخلاف ما يجد في نفسه محال.
واعترض بأنه يجوز أن لا يخلق الله تعالى العلم بتصديقه فيصدقه
في أن لا يصدقه نعم إنه خلاف العادة لكنه ليس من الممتنع
بالذات كذا قيل، ولا يخلو المقام بعد عن شيء وأي شيء، والبحث
طويل واستيفاؤه هنا كالتكليف بما لا يطاق وسيأتيك إن شاء الله
تعالى على أتم وجه. ثم فائدة الإنذار بعد العلم بأنه لا يثمر
استخراج سر ما سبق به العلم التابع للمعلوم من الطوع والإباء
في المكلفين لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ
بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] فإن الله تعالى لو أدخل ابتداء
كلّا داره التي سبق العلم بأنها داره لكان شأن المعذب منهم ما
وصف الله تعالى بقوله: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ
مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا
رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ
وَنَخْزى [طه: 134] فأرسل رسلا مبشرين ومنذرين ليستخرج ما في
استعدادهم من الطوع والإباء- فيهلك من هلك عن بينة ويحيا من
حيي عن بينة- فإن الذكرى تنفع المؤمنين- وتقوم به الحجة على
الآخرين إذ بعد الذكرى وتبليغ الرسالة تتحرك الدواعي للطوع
والإباء بحسب الاستعداد الأزلي فيترتب عليه الفعل أو الترك
بالمشيئة السابقة التابعة للعلم التابع للمعلوم الثابت الأزلي
فيترتب عليه النفع والضرّ من الثواب والعقاب وإنما قامت الحجة
على الكافر لأن ما امتنع من الإتيان به بعد بلوغ الدعوة وظهور
المعجزة من الإيمان. لو كان ممتنعا لذاته مطلقا لما وقع من أحد
لكنه قد وقع فعلم أن عدم وقوعه منه كان عن إباء ناشىء من
استعداده الأزلي باختياره السيئ وإن كان إباؤه بخلق الله تعالى
به فإن فعل الله تعالى تابع لمشيئته التابعة لعلمه التابع
للمعلوم والمعلوم من حيث ثبوته الأزلي غير مجعول فتعلق العلم
به على ما هو عليه في ثبوته الغير المجعول مما يقتضيه استعداده
الأزلي ثم الإرادة تعلقت بتخصيص ما سبق العلم به من مقتضى
استعداده الأزلي فأبرزته القدرة على طبق الإرادة قال تعالى:
أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [طه: 50] فلهذا قال: قُلْ
فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ
أَجْمَعِينَ [الإنعام: 149] لكنه لم يشأ إذ لم يسبق به العلم
لكونه كاشفا للمعلوم وما في استعداده الأزلي فالمعلوم المستعد
للهداية في نفسه كشفه عما هو
(1/133)
عليه من قبوله لها، والمستعد للغواية تعلق
به على ما هو عليه من عدم قبوله لها فلم يشأ إلا ما سبق به
العلم من مقتضيات الاستعداد فلم تبرز القدرة إلا ما شاء الله
تعالى فصح أن لله الحجة البالغة سبحانه إذا نوزع لأن الله
تعالى قد «أعطى كل شيء خلقه» وما يقتضيه استعداده وما نقص منه
شيئا ولهذا
قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «فمن وجد خيرا فليحمد الله»
فإن الله متفضل بالإيجاد لا واجب عليه ومن وجد غير ذلك فلا
يلومن إلا نفسه لأنه ما أبرز قدرته بجوده ورحمته مما اقتضته
الحكمة من الأمر الذي لا خير فيه له إلا لكونه مقتضى استعداده
فالحمد لله على كل حال ونعوذ به من أحوال أهل الزيغ والضلال،
وإنما قال سبحانه سَواءٌ عَلَيْهِمْ ولم يقل عليك لأن الإنذار
وعدمه ليسا سواء لديه صلى الله تعالى عليه وسلم- لفضيلة
الإنذار الواجب عليه- على تركه، وإذا أريد بالموصول ناس معينون
على أنه تعريف عهدي كما مر كان فيه معجزة لإخباره بالغيب وهو
موت أولئك على الكفر كما كان خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ
وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ
عَذابٌ عَظِيمٌ إشارة إلى برهان لميّ للحكم السابق كما أن سواء
عليهم إلخ على تقدير كونه اعتراضا برهان إني، فالختم والتغشية
مسببان عن نفس الكفر، واقتراف المعاصي سببان للاستمرار على عدم
الإيمان أو لاستواء الإنذار وعدمه فالقطع لأنه سؤال عن سبب
الحكم، والختم الوسم بطابع ونحوه والأثر الحاصل، ويتجوز بذلك
تارة في الاستيثاق من الشيء والمنع منه اعتبارا بما يحصل من
المنع بالختم على الكتب والأبواب، وتارة في تحصيل أثر عن أثر
اعتبارا بالنقش الحاصل، وتارة يعتبر معه بلوغ الآخر، ومنه ختمت
القرآن والغشاوة- على ما عليه السبعة- بكسر الغين المجمعة من
غشاه إذا غطاه، قال أبو علي: ولم يسمع منه فعل إلا يائي فالواو
مبدلة من الياء عنده أو يقال لعل له مادتين وفعالة عند الزجاج
لما اشتمل على شيء كاللفافة ومنه أسماء الصناعات كالخياطة
لاشتمالها على ما فيها وكذلك ما استولى على شيء كالخلافة، وعند
الراغب: هي لما يفعل به الفعل كاللف في اللفافة فإن استعملت في
غيره فعلى التشبيه، وبعضهم فرق بين ما فيه هاء التأنيث وبين ما
ليس فيه، فالأول اسم لما يفعل به الشيء كالآلة نحو حزام وإمام،
والثاني لما يشتمل على الشيء ويحيط به (1) وحمل الظاهريون
الختم والتغشية على حقيقتهما وفوضوا الكيفية إلى علم من لا
كيفية له سبحانه، وروي عن مجاهد أنه قال: إذا أذنب العبد ضم من
القلب هكذا- وضم الخنصر- ثم إذا أذنب ضم هكذا- وضم البنصر-
وهكذا إلى الإبهام ثم قال: وهذا هو الختم والطبع والرين، وهو
عندي غير معقول، والذي ذهب إليه المحققون أن الختم استعير من
ضرب الخاتم على نحو الأواني لإحداث هيئة في القلب والسمع مانعة
من نفوذ الحق إليهما كما يمنع نقش الخاتم- تلك الظروف- من نفوذ
ما هو بصدد الانصباب فيها فيكون استعارة محسوس لمعقول بجامع
عقلي وهو الاشتمال على منع القابل عما من شأنه أن يقبله ثم
اشتق من الختم ختم، ففيه استعارة تصريحية تبعية، وأما الغشاوة
فقد استعيرت من معناها الأصلي لحالة في أبصارهم مقتضية لعدم
اجتلائها الآيات والجامع ما ذكر، فهناك استعارة تصريحية أصلية
أو تبعية إذا أولت الغشاوة بمشتق أو جعلت اسم آلة على ما قيل،
ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية بأن يقال شبهت حال
قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم مع الهيئة الحادثة فيها المانعة من
الاستنفاع بها بحال أشياء معدة للانتفاع بها في مصالح مهمة مع
المنع من ذلك بالختم والتغطية ثم يستعار للمشبه اللفظ الدال
على المشبه به فيكون كل واحد من طرفي التشبيه مركبا والجامع
عدم الانتفاع بما أعد له بسبب عروض مانع يمكن فيه كالمانع
الأصلي وهو أمر عقلي منتزع من تلك
__________
(1) وهذا في غير المصادر وأما فيها فعن أبي علي فعالة- بالكسر
في المصادر- يجيء بما كان صنعة ومعنى متقلدا كالكتابة والخلافة
وبالفتح في غيره فافهم. اهـ منه.
(1/134)
العدة (1) ثم إن إسناد الختم إليه عز وجل
باعتبار الخلق والذم والتشنيع الذي تشير إليه الآية باعتبار
كون ذلك مسببا عما كسبه الكفار من المعاصي كما يدل عليه قوله
تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النساء:
155] وإلا أشكل التشنيع والذم على ما ليس فعلهم كذا قاله مفسر
وأهل السنة عن آخرهم فيما أعلم. والمعتزلة لما رأوا أن الآية
يلزم منها أن يكون سبحانه مانعا عن قبول الحق وسماعه بالختم
وهو قبيح يمتنع صدوره عنه تعالى على قاعدتهم التزموا. للآية
تأويلات ذكر الزمخشري جملة منها حتى قال: الشيطان هو الخاتم في
الحقيقة أو الكافر إلا أن الله سبحانه وتعالى لما كان هو الذي
أقدره أو مكنه أسند الختم إليه كما يسند إلى السبب نحو- بنى
الأمير المدينة، وناقة حلوب- وأنا أقول:
إن ماهيات الممكنات معلومة له سبحانه أزلا فهي متميزة في
أنفسها تميزا ذاتيا غير مجعول لتوقف العلم بها على ذلك التميز
وإن لها استعدادات ذاتية غير مجعولة أيضا مختلفة الاقتضاءات
والعلم الإلهي متعلق بها كاشف لها على ما هي عليه في أنفسها من
اختلاف استعداداتها التي هي من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها
إلا هو واختلاف مقتضيات تلك الاستعدادات فإذا تعلق العلم
الإلهي بها على ما هي عليه مما يقتضيه استعدادها من اختيار أحد
الطرفين الخير والشر تعلقت الإرادة الإلهية بهذا الذي اختاره
العبد بمقتضى استعداده فيصير مراده بعد تعلق الإرادة الإلهية
مرادا لله تعالى فاختياره الأزلي بمقتضى استعداده متبوع للعلم
المتبوع للإرادة مراعاة للحكمة وأن اختياره فيما لا يزال تابع
للإرادة الأزلية المتعلقة باختياره لما اختاره، فالعباد
منساقون إلى أن يفعلوا ما يصدر عنهم باختيارهم لا بالإكراه
والجبر وليسوا مجبورين في اختيارهم الأزلي لأنه سابق الرتبة
على تعلق العلم السابق على تعلق الإرادة والجبر تابع للإرادة
التابعة للعلم التابع للمعلوم الذي هو هنا اختيارهم الأزلي
فيمتنع أن يكون تابعا لما هو متأخر عنه بمراتب فما من شيء
يبرزه الله تعالى بمقتضى الحكمة ويفيضه على الممكنات إلا وهو
مطلوبها بلسان استعدادها وما حرمها سبحانه شيئا من ذلك كما
يشير إليه قوله تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [طه: 50]
أي الثابت له في الأزل مما يقتضيه استعداده الغير المجعول، وإن
كانت الصور الوجودية الحادثة مجعولة. وقوله تعالى:
فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس: 8] أي الثابتين لها
في نفس الأمر والكل من حيث إنه خلقه حسن لكونه بارزا بمقتضى
الحكمة من صانع مطلق لا حاكم عليه ولهذا قال عز شأنه أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] وما تَرى فِي خَلْقِ
الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك: 3] أي من حيث إنه مضاف إليه
ومفاض منه وإن تفاوت من جهة أخرى وافترق عند إضافة بعضه إلى
بعض، فعلى هذا يكون الختم منه سبحانه وتعالى دليلا على سواء
استعدادهم الثابت في علمه الأزلي الغير المجعول بل هذا الختم
الذي هو من مقتضيات الاستعداد لم يكن من الله تعالى إلا إيجاده
وإظهار يقينه طبق ما علمه فيهم أزلا حيث لا جعل ما ظَلَمَهُمُ
اللَّهُ
[آل عمران: 117] تعالى في إظهاره إذ من صفته سبحانه إفاضة
الوجود على القوابل بحسب القابليات على ما تقتضيه الحكمة
وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل: 33] حيث كانت
مستعدة بذاتها لذلك فحينئذ يظهر أن إسناد الختم إليه تعالى
باعتبار الإيجاد حقيقة ويحسن الذم لهم به من حيث دلالته على
سوء الاستعداد وقبح ما انطوت عليه ذواتهم في ذلك الناد
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ
وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف: 58]
وأما ما ذكره المفسرون من أن إسناد الختم إليه تعالى باعتبار
الخلق فمسلم لا كلام لنا فيه، وأما أن
__________
(1) وليس للإسناد إلى الخاتم والغشي في هاتين مدخل في هذا
التمثيل كما لا مدخل له في قولك أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى،
وهل هذا التمثيل يبقى في الفعل وحده أو في لفظ مركب ملحوظ بعضه
ومنفك في الإرادة؟ ارتضى الشريف المرتضى الثاني وغيره الأول،
وعليه إنما صرح بالختم والتغشية لأنهما الأصل والعمدة في تلك
الحالة المركبة فيلاحظ باقي الأجزاء بألفاظ متخيلة إذ لا بد في
التركيب من ملاحظات قصدية متعلقة بتلك الأجزاء ولا سبيل إلى
ذلك إلا بتخيل ألفاظ بإزائها تدبر وافهم اهـ منه.
(1/135)
الذم باعتبار كون ذلك مسببا عما كسبه
الكفار إلخ فنقول فيه: إن أرادوا بالكسب ما شاع عند الأشاعرة
من مقارنة الفعل لقدرة العبد من غير تأثير لها فيه أصلا وإنما
المؤثر هو الله تعالى فهو مع مخالفته لمعنى الكسب وكونه
كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا
جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النور: 39] لا يشفي عليلا ولا
يروي غليلا إذ للخصم أن يقول أي معنى لذم العبد بشيء لا مدخل
لقدرته فيه إلا كمدخل اليد الشلاء فيما فعلته الأيدي السليمة
وحينئذ يتأتى ما قاله الصاحب ابن عباد في هذا الباب: كيف يأمر
الله تعالى العبد بالإيمان وقد منعه منه وينهاه عن الكفر وقد
حمله عليه، وكيف يصرفه عن الإيمان ثم يقول أَنَّى يُصْرَفُونَ
[غافر: 69] ويخلق فيهم الإفك ثم يقول فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ
[الإنعام: 85، يونس: 34، فاطر: 3، غافر: 62] وأنشأ فيهم الكفر
ثم يقول لِمَ تَكْفُرُونَ [آل عمران: 70، 98] وخلق فيهم لبس
الحق بالباطل ثم يقول لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ
[آل عمران: 71] وصدهم عن السبيل ثم يقول لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران: 99] وحال بينهم وبين الإيمان ثم
قال وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا [النساء: 39] وذهب بهم عن
الرشد ثم قال فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [التكوير: 26] وأضلهم عن
الدين حتى أعرضوا ثم قال فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ
مُعْرِضِينَ [المدثر: 49] ؟!! فإن أجابوا بأن الله أن يفعل ما
يشاء ولا يتعرض للاعتراض عليه المعترضون لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: 23] قلنا لهم: هذه
كلمة حق أريد بها باطل وروضة صدق ولكن ليس لكم منها حاصل لأن
كونه تعالى لا يسأل عما يفعل ليس إلا لأنه حكيم لا يفعل ما عنه
يسأل وإذا قلتم لا أثر للقدرة الحادثة في مقدورها كما لا أثر
للعلم في معلومه فوجه مطالبة العبد بأفعاله كوجه مطالبته بأن
يثبت في نفسه ألوانا وإدراكات وهذا خروج عن حد الاعتدال إلى
التزام الباطل والمحال، وفيه إبطال الشرائع العظام ورد ما ورد
عن النبيين عليهم الصلاة والسلام. وإن أرادوا بالكسب فعل العبد
استقلالا ما يريده هو وإن لم يرده الله تعالى فهذا مذهب
المعتزلة وفيه الخروج عما درج عليه سلف الأمة واقتحام ورطات
الضلال وسلوك مهامه الوبال.
مسا ولو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطلاق
وإن أرادوا به تحصيل العبد بقدرته الحادثة حسب استعداده الأزلي
المؤثرة لا مستقلا بل بإذن الله تعالى ما تعلقت به من الأفعال
الاختيارية مشيئته التابعة لمشيئة الله تعالى على ما أشرنا
إليه فنعمت الإرادة وحبذا السلوك في هذه الجادة، وسيأتي إن شاء
الله تعالى بسطها وإقامة الأدلة على صحتها وإماطة الأذى عن
طريقها إلا أن أشاعرتنا اليوم لا يشعرون وأنهم ليحسبون أنهم
يحسنون صنعا ولبئس ما كانوا يصنعون.
ما في الديار أخو وجد نطارحه ... حديث نجد ولا خل نجاريه
وأما ما ذكره المعتزلة لا سيما علامتهم الزمخشري فليس أول
عشواء خبطوها وفي مهواة من الأهواء أهبطوها ولكم نزلوا عن منصة
الإيمان بالنص إلى حضيض تأويله ابتغاء الفتنة واستيفاء لما كتب
عليهم من المحنة وطالما استوخموا من السنة المناهل العذاب
ووردوا من حميم البدعة موارد العذاب، والشبهة التي تدندن هنا
حول الحمى أن أفعال العباد لو كانت مخلوقة لله تعالى لما نعاها
على عباده ولا عاقبهم بها ولا قامت حجة الله تعالى عليهم وهي
أوهى من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت، وقد علمت جوابها مما
قدمناه لك- وليكن على ذكر منك- على أنا نرجع فنقول إن أسندوا
الملازمة- وكذلك يفعلون- إلى قاعدة التحسين والتقبيح، وقالوا:
معاقبة الإنسان مثلا بفعل غيره قبيحة في الشاهد لا سيما إذا
كانت من الفاعل فيلزم طرد ذلك غائبا، قيل: ويقبح في الشاهد
أيضا أن يمكن الإنسان عبده من القبائح والفواحش بمرأى ومسمع ثم
يعاقبه على ذلك مع القدرة على ردعه ورده من الأول عنها وأنتم
تقولون: إن القدرة التي بها يخلق العبد الفواحش لنفسه مخلوقة
لله تعالى على علم منه عز وجل أن العبد يخلق بها
(1/136)
لنفسه ذلك فهو بمثابة إعطاء سيف باتر لفاجر
يعلم أنه يقطع به السبيل ويسبي به الحريم وذلك في الشاهد قبيح
جزما «فإن قالوا» ثم حكمة استأثر الله تعالى بعلمها فرقت بين
الغائب والشاهد فحسن من الغائب ذلك التمكين ولم يحسن في الشاهد
«قلنا على سبيل التنزل والموافقة لبعض الناس» ما المانع أن
تكون تلك الأفعال مخلوقة لله تعالى ويعاقب العبد عليها لمصلحة
وحكمة استأثر بها كما فرغتم منه الآن حذو القذة بالقذة؟! على
أن في كون الخاتم في الحقيقة هو الشيطان مما لا يقدم عليه حتى
الشيطان ألا تسمعه كيف قال فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ [ص: 82] فلا حول ولا قوة إلا بالله وليكن هذا
المقدار كافيا في هذا المقام ولشحرور القلم بعد إن شاء الله
تعالى على كل بانة تغريد بأحسن مقام «والقلوب» - جمع قلب- وهو
في الأصل مصدر سمي به الجسم الصنوبري المودع في التجويف الأيسر
من الصدر وهو مشرق اللطيفة الإنسانية، ويطلق على نفس اللطيفة
النورانية الربانية العالمة التي هي مهبط الأنوار الإلهية
الصمدانية وبها يكون الإنسان إنسانا وبها يستعد لاكتساب
الأوامر واجتناب الزواجر وهي خلاصة تولدت من الروح الروحاني
ويعبر عنها الحكيم بالنفس الناطقة ولكونها هدف سهام القهر
واللطف ومظهر الجمال والجلال ومنشأ البسط والقبض ومبدأ المحو
والصحو ومنبع الأخلاق المرضية والأحوال الردية، وقلما تستقر
على حال وتستمر على منوال- سميت قلبا- فهي متقلبة في أمره
ومنقلبة بقضاء الله وقدره.
وفي الحديث «إن القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح»
وقد قال الشاعر:
قد سمي القلب قلبا (1) من تقلبه ... فاحذر على القلب من قلب
وتحويل
وتسمية الجسم المعروف قلبا إذا أمعنت النظر ليس إلا لتقلب
هاتيك اللطيفة المشرقة عليه لأنه العضو الرئيس الذي هو منشأ
الحرارة الغريزية الممدة للجسد كله ويكنى بصلاحه وفساده عن
صلاح هاتيك اللطيفة وفسادها لما بينهما من التعلق الذي لا يعلم
حقيقته إلا الله تعالى وكأنه لهذا
قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا
صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب»
وكثير من الناس ذهب إلى أن تلك المضغة هي محل العلم، وقيل: إنه
في الدماغ وقيل إنه مشترك بينهما وبني ذلك على إثبات الحواس
الباطنة والكلام فيها مشهور. ومن راجع وجد أنه أدرك أن بين
الدماغ والقلب رابطة معنوية ومراجعة سرية لا ينكرها من كان له
قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. لكن معرفة حقيقة ذلك متعززة كما
هي متعذرة والإشارة إلى كنه ما هنالك على أرباب الحقائق وأصحاب
الدقائق متعسرة،
ومن عرف نفسه فقد عرف ربه،
والعجز عن درك الإدراك إدراك. والسمع مصدر- سمع سمعا وسماعا-
ويطلق على قوة مودعة في العصب المفروش أو المبطل في الأذن تدرك
بها الأصوات ويعبر به تارة عن نفس الأذن وأخرى عن الفعل نحو
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء: 212] ،
والأبصار- جمع بصر- وهو في الأصل بمعنى إدراك العين وإحساسها
ثم تجوز به عن القوة المودعة في ملتقى العصبتين المجوفتين
الواصلتين من الدماغ إلى الحدقتين التي من شأنها إدراك الألوان
والأشكال بتفصيل معروف في محله وعن العين التي هي محله، وشاع
هذا حتى صار حقيقة في العرف لتبادره وهو المناسب للغشاوة
لتعلقها بالأعيان ويناسب الختم ما يناسب الغشاوة، وإنما قدم
سبحانه الختم على القلوب هنا لأن الآية تقرير لعدم الإيمان
فناسب تقديم القلوب لأنها محل الإيمان والسمع- والأبصار طرق
وآلات له- وهذا بخلاف قوله تعالى: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ
وَقَلْبِهِ [الجاثية: 23] فإنه مسوق لعدم المبالاة بالمواعظ
ولذا جاءت الفاصلة أَفَلا تَذَكَّرُونَ [يونس: 3، هود: 24، 30،
النحل: 87، المؤمنون:
__________
(1) وقيل سمي قلبا لأنه لب كما سمي العقل لبا اهـ منه. [.....]
(1/137)
85، الصافات: 155، الجاثية: 23] فكان
المناسب هناك تقديم السمع، وأعاد جل شأنه الجار لتكون أدل على
شدة الختم في الموضعين فإن ما يوضع في خزانة إذا ختمت خزانته
وختمت داره كان أقوى في المنع عنه وأظهر في الاستقلال لأن
إعادة الجار تقتضي ملاحظة معنى الفعل المعدى به حتى كأنه ذكر
مرتين، ولذا قالوا في مررت بزيد وعمرو: مرور واحد، وفي مررت
بزيد وبعمرو: مروران، والعطف وإن كان في قوة الإعادة لكنه ليس
ظاهرا مثلها في الإفادة لما فيه من الاحتمال. ووحد السمع مع
أنه متعدد في الواقع ومقتضى الانتظام بالسباق واللحاق أن يجري
على نمطهما للاختصار والتفنن مع الإشارة إلى نكتة- هي أن
مدركاته نوع واحد ومدركاتهما مختلفة- وكثيرا ما يعتبر البلغاء
مثل ذلك، وقيل: إن وحدة اللفظ تدل على وحدة مسماه- وهو الحاسة-
ووحدتها تدل على قلة مدركاتها في بادىء النظر فهناك دلالة
التزام ويكفي مثل ما ذكر في اللزوم عرفا (1) ومنه يتنبه لوجه
جمع القلوب كثرة والأبصار قلة وإن كان ذلك هو المعروف في
استعمال الفقهاء في جميعها على أن الأسماع قلما قرع السمع-
ومنه قراءة ابن أبي عبلة في الشواذ- وعلى أسماعهم، واستشهد له
بقوله:
قالت ولم تقصد لقيل الخنا ... مهلا لقد أبلغت أسماعي
والقول بأنه وحدة للأمن عن اللبس كما في قوله:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا ... فإن زمانكم زمن خميص
ولأنه في الأصل مصدر والمصادر لا تجمع فروعي ذلك- ليس بشيء-
لأن ما ذكر مصحح لا مرجح وأدنى من هذا عندي تقدير مضاف مثل-
وحواس سمعهم- وقد اتفق القراء على الوقف على سمعهم وظاهره دليل
على أنه لا تعلق له بما بعده فهو معطوف على عَلى قُلُوبِهِمْ
وهذا أولى من كونه هو وما عطف عليه خبرا مقدما لغشاوة أو
عاملان فيه على التنازع وإن احتملته الآية لتعين نظيره في قوله
تعالى: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ [الجاثية: 23]
والقرآن يفسر بعضه بعضا ولأن السمع كالقلب يدرك ما يدركه من
جميع الجهات فناسب أن يقرن معه بالختم الذي يمنع من جميعها وإن
اختص وقوعه بجانب إلا أنه لا يتعين، ولما كان إدراك البصر لا
يكون عادة إلا بالمحاذاة والمقابلة جعل المانع ما يمنع منها
وهو الغشاوة لأنها في الغالب كذلك كغاشية السرج، ومثل هذا يكفي
في النكات ولا يضره ستره لجميع الجوانب كالإزار، وما في الكشف:
من أن الوجه أن الغشاوة مشهورة في أمراض العين فهي أنسب بالبصر
من غير حاجة لما تكلفوه، ويكشف عن حالة النظر في المعنى اللغوي
ممن لا غشاوة على بصره.
ولعل سبب تقديم السمع على البصر مشاركته للقلب في التصرف في
الجهات الست مثله دون البصر. ومن هنا قيل: إنه أفضل منه، والحق
أن كلّا من الحواس ضروري في موضعه، ومن فقد حسا فقد علما،
وتفضيل البعض على البعض تطويل من غير طائل (2) وقد قرىء
بإمالة: «أبصارهم» ووجه الإمالة- مع أن الصاد حرف مستعل وهو
مناف لها لاقتضائها لتسفل الصوت- مناسبة الكسرة واعتبرت على
الراء دون غيرها لمناسبة الإمالة الترقيق، والمشهور عند أهل
العربية أن ذلك لقوة الراء لتكرره على اللسان في النطق به فإنه
يرتعد ويظهر ذلك إذا شدد أو وقف عليه فكسرته بمنزلة
__________
(1) وقيل في توجيه الافراد أن المراد سمع كل واحد وهذا وإن كان
حقه الإفراد إلا أن حمل الجمع على كل فرد فرد جائز لا واجب كما
قيل في قوله تعالى: نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا على وجه اهـ منه.
(2) ويحكى عن أبي يوسف عليه الرحمة أنه سئل عن- اللوزينج
والفيلوذج- أيهما أحسن؟ فقال: لا أحكم من دون حضور الخصمين
فأتي بهما وأكل منهما ثم قال: كلما أردت أن أحكم لأحدهما على
الآخر أتى الآخر بشاهدين عدلين فيمنعني من الحكم اهـ منه.
(1/138)
كسرتين فقوي السبب حتى أزال المانع، ولعل
مرادهم أنه متكرر طبعا كما يدركه الوجدان إلا أنه يجب المحافظة
لئلا يقع التقرير فإنه مضر في الأداء حتى سمعت من بعض
الشافعية: أن من كرر الراء في تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته
والعهدة على الراوي، والجمهور على أن عَلى أَبْصارِهِمْ خبر
مقدم لغشاوة والتقديم مصحح لجواز الابتداء بالنكرة مع أن فيه
مطابقة الجملة قبله لأنه تقدم الجزء المحكوم به فيها وهذا
كذلك، ففي الآية جملتان خبريتان فعلية دالة على التجدد واسمية
دالة على الثبوت حتى كأن الغشاوة جبلية فيهم وكون الجملتين
دعائيتين ليس بشيء، وفي تقديم الفعلية إشارة إلى أن ذلك قد وقع
وفرغ منه، ونصب المفضل وأبو حيوة وإسماعيل بن مسلم غِشاوَةٌ
فقيل هو على تقدير جعل كما صرح به في قوله تعالى: وَخَتَمَ
عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً
[الجاثية: 23] وقيل:
إنه على حذف الجار، وقال أبو حيان: يحتمل أن يكون مصدرا من
معنى ختم لأن معناه غشي وستر كأنه قيل تغشية على سبيل التأكيد
فيكون حينئذ قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوما عليها مغشاة، وقيل
يحتمل أن يكون مفعول ختم والظروف أحوال أي ختم غشاوة كائنة على
هذه الأمور لئلا يتصرف بها بالرفع والإزالة، وفي كل ما لا
يخفى، فقراءة الرفع أولى، وقرىء أيضا بضم الغين ورفعه، وبفتح
الغين ونصبه، وقرىء «غشوة» - بكسر المعجمة- مرفوعا وبفتحها
مرفوعا ومنصوبا، و «غشية» بالفتح والرفع و «غشاوة» بفتح
المهملة والرفع، وجوز فيه الكسر والنصب من الغشا بالفتح والقصر
وهو الرؤية نهارا لا ليلا، والمعنى أنهم يبصرون إبصار غفلة لا
إبصار عبرة أو أنهم لا يرون آيات الله تعالى في ظلمات كفرهم
ولو زالت أبصروها، وقال الراغب: العشا ظلمة تعرض للعين، وعشي
عن كذا عمي قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ
[الزخرف: 36] فالمعنى حينئذ ظاهر والتنوين للإشارة إلى نوع من
الأغطية غير ما يتعارفه الناس ويحتمل أن يكون للتعظيم أي غشاوة
أي غشاوة، وصرح بعضهم بحمله على النوعية والتعظيم معا كما حمل
على التكثير والتعظيم معا في قوله تعالى: فَقَدْ كُذِّبَتْ
رُسُلٌ [فاطر: 4] واللام في لَهُمْ للاستحقاق كما في لَهُمْ
فِي الدُّنْيا خِزْيٌ
[البقرة: 114، المائدة: 41] وفي المغني: لام الاستحقاق هي
الواقعة بين معنى وذات وهنا كذلك إلا أنه قدم الخبر استحسانا
لأن المبتدأ نكرة موصوفة ولو أخر جاز ك أَجَلٌ مُسَمًّى
عِنْدَهُ [الإنعام: 2] ويجوز كما قيل أن يكون تقديمه للتخصيص-
فلا يعذب عذابهم أحد ولا يوثق وثاقهم أحد- (1) وكون اللام
للنفع واستعملت هنا للتهكم مما لا وجه له لأنها إنما تقع له في
مقابلة عَلى في الدعاء وما يقاربه ولم يقل به أحد ممن يوثق به
هنا ولا يقال عليهم العذاب، والظاهر أن الجملة مساقة لبيان
إصرارهم أن مشاعرهم ختمت وأن الشقوة عليهم ختمت، وهي معطوفة
على ما قبلها وليست استئنافا ولا حالا، وقال السالكوتي: عطف-
على الذين كفروا- والجامع أن ما سبق بيان حالهم وهذا بيان ما
يستحقون، أو على خبر إن والجامع الشركة في المسند إليه مع
تناسب مفهوم السندين، وجعل ذلك لدفع ما يتوهم عدم استحقاقهم
العذاب على كفرهم لأنه بختم الله تعالى وتغشيته ليس بوجيه كما
لا يخفى.
والعذاب في الأصل الاستمرار ثم اتسع فيه فسمي به كل استمرار
ألم، واشتقوا منه فقالوا: عذبته أي داومت عليه الألم قاله أبو
حيان، وعن الخليل- وإليه مال كثير- أن أصله المنع يقال عذب
الفرس إذا امتنع عن العلف، ومنه العذب لمنعه من العطش ثم توسع
فأطلق على كل مؤلم شاق مطلقا وإن لم يكن مانعا ورادعا ولهذا
كان أعم من النكال لأنه ما كان رادعا كالعقاب، وقيل: العقاب ما
يجازى به كما في الآخرة، وشمل البيان عذاب الأطفال والبهائم
__________
(1) قاله بهاء الدين الغافقي اهـ منه.
(1/139)
وغيرهما، وخص السجاوندي العذاب بإيصال
الألم إلى الحي مع الهوان فإيلام الأطفال والبهائم ليس بعذاب
عنده، وقيل: إن العذاب مأخوذ في الأصل من التعذيب ثم استعمل في
الإيلام مطلقا، وأصل التعذيب على ما قيل: إكثار الضرب بعذبة
السوط، وقال الراغب أصله من العذب فعذبته أزلت عذب حياته على
بناء مرضته وقذيته والتنكير فيه للنوعية أي لهم في الآخرة نوع
من العذاب غير متعارف في عذاب الدنيا، وحمله على التعظيم
يستدعي حمل ما يستفاد من الوصف على التأكيد ولا حاجة إليه،
والعظيم الكبير، وقيل: فوق الكبير لأن الكبير يقابله الصغير
والعظيم يقابله الحقير والحقير دون الصغير، فالصغير والحقير
خسيسان والحقير أخسهما، والعظيم والكبير شريفان والعظيم
أشرفهما. فتوصيف العذاب به أكثر في التهويل من توصيفه بالكبير
كما ذكره الكثير ممن شاع فضله إذ العادة جارية بأن الأخس يقابل
بالأشرف والخسيس بالشريف فما يتوهم من أن نقيض الأخص- أعم- مما
لا يلتفت إليه هنا، نعم يشكل على دعوى أن العظيم فوق الكبير
قوله عز شأنه في الحديث القدسي: «الكبرياء ردائي والعظمة
إزاري»
حيث جعل سبحانه الكبرياء مقام الرداء والعظمة مقام الإزار،
ومعلوم أن الرداء أرفع من الأزار فيجب أن يكون صفة الكبر أرفع
من العظمة، ويقال: إن الكبير هو الكبير في ذاته سواء استكبره
غيره أم لا، وأما العظمة فعبارة عن كونه بحيث يستعظمه غيره،
فالصفة الأولى على هذا ذاتية وأشرف من الثانية ويمكن أن يجاب
على بعد بأن ما ذكروه خاص بما إذا استعمل الكبير والعظيم في
غيره تعالى أو فيما إذا خلا الكلام عن قرينة تقتضي العكس، أو
يقال: إنه سبحانه جعل العظمة وهي أشرف من الكبرياء إزارا لقلة
العارفين به جل شأنه بهذا العنوان بالنظر إلى العارفين بعنوان
الكبرياء فلقلة أولئك كانت إزارا ولكثرة هؤلاء كانت رداءا
وسبحان الكبير العظيم، وذكر الراغب: إن أصل عظم الرجل كبر عظمه
ثم استعير لكل كبير وأجري مجراه محسوسا كان أو معقولا معنى كان
أو عينا، والعظيم إذا استعمل في الأعيان فأصله أن يقال في
الأجزاء المتصلة والكبير يقال في المنفصلة، وقد يقال فيها
أيضا: عظيم وهو بمعنى كبير كجيش عظيم، وعظم العذاب بالنسبة إلى
عذاب دونه يتخلله فتور وبهذا التخلل يصح أن يتفاضل العذابان
كسوادين أحدهما أشبع من الآخر وقد تخلل الآخر ما ليس بسواد،
وقد ذهب المسلمون إلى أنه يحسن من الله تعالى تعذيب الكفار،
وهذه الآية وأمثالها شواهد صدق على ذلك. وقال بعضهم: لا يحسن
وذكروا دلائل عقلية مبنية على الحسن والقبح العقليين فقالوا:
التعذيب ضرر خال عن المنفعة لأنه سبحانه منزه عن أن ينتفع بشيء
والعبد يتضرر به ولو سلم انتفاعه فالله تعالى قادر أن يوصل
إليه النفع من غير عذاب، والضرر الخالي عن النفع قبيح بديهة،
وأيضا أن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان فتكليفه متى حصل ترتب
عليه العذاب وما كان مستعقبا للضرر من غير نفع قبيح، فأما أن
يقال لا تكليف أو تكليف ولا عذاب، وأيضا هو الخالق لداعية
المعصية فيقبح أن يعاقب عليها، وقالوا أيضا: هب أنا سلمنا
العقاب فمن أين القول بالدوام؟ وأقسى الناس قلبا إذا أخذ من
بالغ في الإساءة إليه- وعذبه وبالغ فيه وواظب عليه- لامه كل
أحد وقيل له: إما أن تقتله وتريحه وإما أن تعفو عنه فإذا قبح
هذا من إنسان يلتذ بالانتقام، فالغني عن الكل كيف يليق به هذا
الدوام؟! وأيضا من تاب من الكفر ولو بعد حين تاب الله تعالى
عليه، افترى أن هذا الكرم العظيم يذهب في الآخرة أو تسلب عقول
أولئك المعذبين فلا يتوبون أو يحسن أن يقول في الدنيا:
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] وفي الآخرة لا يجيب
دعاءهم إلا ب اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:
108] .
بقي التمسك بالدلائل اللفظية وهي لا تفيد اليقين فلا تعارض
الأدلة العقلية المفيدة له على أنا ندعي أن أخبار الوعيد في
الكفار مشروطة بعدم العفو وإن لم يكن هذا الشرط مذكورا صريحا
كما قال ذلك فيها من جوز العفو عن الفساق، على أنه يحتمل أن
تكون تلك الجمل دعائية أو أنها إخبارية لكن الأخبار عن استحقاق
الوقوع لا عن الوقوع
(1/140)
نفسه، وهذا خلاصة ما ذكر في هذا الباب،
وبسط الإمام الرازي الكلام فيه ولم يتعقبه بما يشرح الفؤاد
ويبرد الأكباد وتلك شنشنة أعرفها من أخزم، ولعمري أنها شبه
تمكنت في قلوب كثير من الناس فكانت لهم الخناس الوسواس فخلعوا
ربقة التكليف وانحرفوا عن الدين الحنيف وهي عند المؤمنين
المتمكنين كصرير باب أو كطنين ذباب فأقول: وَما تَوْفِيقِي
إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
[هود: 88] نفي العذاب مطلقا مما لم يقله أحد ممن يؤمن بالله
تعالى واليوم الآخر حتى أن المجوس لا يقولونه مع أنهم الذين
بلغوا من الهذيان أقصاه فإن عقلاءهم- والعقل بمراحل عنهم-
زعموا أن إبليس عليه اللعنة لم يزل في الظلمة بمعزل عن سلطان
الله تعالى ثم لم يزل يزحف حتى رأى النور فوثب فصار في سلطان
الله تعالى وأدخل معه الآفات والشرور فخلق الله تعالى هذا
العالم شبكة له فوقع فيها فصار لا يمكنه الرجوع إلى سلطانه
فبقي محبوسا يرمي بالآفات فمن أحياه الله تعالى أماته ومن أصحه
أسقمه ومن أسره أحزنه وكل يوم ينقص سلطانه فإذا قامت القيامة
وزالت قوته طرحه الله تعالى في الجو وحاسب أهل الأديان وجازاهم
على طاعتهم للشيطان وعصيانهم له، نعم المشهور عنهم أن الآلام
الدنيوية قبيحة لذاتها ولا تحسن بوجه من الوجوه فهي صادرة عن
الظلمة دون النور، وبطلان مذهب هؤلاء أظهر من نار على علم،
ولئن سلمنا أن أحدا من الناس يقول ذلك فهو مردود، وغالب الأدلة
التي تذكر في هذا الباب مبني على الحسن والقبح العقليين وقد
نفاهما أهل السنة والجماعة وأقاموا الأدلة على بطلانهما وشيوع
ذلك في كتب الكلام يجعل نقله هنا من لغو الكلام على أنا نقول
أن لله تعالى صفتي لطف وقهر ومن الواجب في الحكمة أن يكون
الملك- لا سيما ملك الملوك- كذلك إذ كل منهما من أوصاف الكمال
ولا يقوم أحدهما مقام الآخر ومن منع ذلك فقد كابر، وقد مدح في
الشاهد ذلك كما قيل:
يداك يد خيرها يرتجى ... وأخرى لأعدائها غائظه
فلما نظر الله سبحانه إلى ما علمه من الماهيات الأزلية
والأعيان الثابتة ورأى فيها من استعد للخير وطلبه بلسان
استعداده ومن استعد للشر وطلبه كذلك أفاض على كل بمقتضى حكمته
ما استعد له وأعطاه ما طلبه منه ثم كلفه ورغبه ورهبه إتماما
للنعمة وإظهارا للحجة إذ لو عذبه وأظهر فيه صفة قهره قبل أن
ينذره لربما قال: لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا
فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه:
134] فالتعذيب وإن لم يكن فيه نفع له سبحانه بالمعنى المألوف
لكنه من آثار القهر ووقوع فريق في طريق القهر ضروري في حكمته
تعالى وكل ما تقتضيه حكمته تعالى وكماله حسن، وإن شئت فقل: إن
صفتي اللطف والقهر من مستتبعات ذاته التي هي في غاية الكمال
ولهما متعلقات في نفس الأمر مستعدة لهما في الأزل استعدادا غير
مجعول. وقد علم سبحانه في الأزل التعلقات والمتعلقات فظهرت طبق
ما علم ولو لم تظهر كذلك لزم انقلاب الحقائق وهو محال.
فالإيمان والكفر في الحقيقة ليسا سببا حقيقيا وعلة تامة
للتنعيم والتعذيب وإنما هما علامتان لهما دعت إليهما الحكمة
والرحمة. وهذا معنى ما
ورد في الصحيح «اعملوا فكل ميسر لما خلق له»
أما من كان- أي في علم الله- من أهل السعادة المستعدة لها
ذاته- فسييسر- بمقتضى الرحمة- لعمل أهل السعادة لأن شأنه تعالى
الإفاضة على القوابل بحسب القابليات، وأما من كان في الأزل
والعلم القديم من أهل الشقاوة التي ثبتت لماهيته الغير
المجعولة أزلا- فسييسر بمقتضى القهر- لعمل أهل الشقاوة، وفي
ذلك تظهر المنة وتتم الحجة ولا يرد قوله تعالى: فَلَوْ شاءَ
لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل: 9] لأن نفي الهداية لنفي
المشيئة ولا شك أن المشيئة تابعة للعلم والعلم تابع لثبوت
المعلوم في نفس الأمر كما يشير إليه قوله تعالى في المستحيل
الغير الثابت في نفسه: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ
فِي الْأَرْضِ [الرعد: 33] وحيث لا ثبوت للهداية في نفسها لا
تعلق للعلم بها. وحيث لا تعلق لا مشيئة، فسبب نفي إيجاد
الهداية نفي المشيئة وسبب نفي المشيئة تقرر عدم الهداية في
نفسها فيوؤل الأمر
(1/141)
إلى أن سبب نفي إيجاد الهداية انتفاؤها في
نفس الأمر وعدم تقررها في العلم الأزلي: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ
فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ [الأنفال: 23] فإذا انتقش هذا
على صحيفة خاطرك، فنقول قولهم الضرر الخالي عن النفع قبيح
بديهة ليس بشيء لأن ذلك الضرر من آثار القهر التابع للذات
الأقدس ومتى خلا عن القهر- كان عز شأنه عما يقوله الظالمون-
كالأقطع الذي ليس له إلا يد واحدة بل من أنصفه عقله يعلم أن
الخلو عن صفة القهر يخل بالربوبية ويسلب إزار العظمة ويحط شأن
الملكية إذ لا يرهب منه حينئذ فيختل النظام وينحل نبذ هذا
الانتظام. على أن هذه الشبهة تستدعي عدم إيلام الحيوان في هذه
النشأة لا سيما البهائم والأطفال الذين لا ينالهم من هذه
الآلام نفع بالكلية لا عاجلا ولا آجلا مع أنا نشاهد وقوع ذلك
أكثر من نجوم السماء فما هو جوابهم عن هذه الآلام منه سبحانه
في هذه النشأة مع أنه لا نفع له منها بوجه فهو جوابنا عن
التعذيب في تلك النشأة، وقولهم إن الكافر لا يظهر منه إلا
العصيان فتكليفه متى حصل ترتب عليه العذاب إلخ: ففيه أن الكافر
في علم الله تعالى حسب استعداده متعشق للنار تعشق الحديد
للمغناطيس وإن نفر عنها نافر عن الجنة نفور الظلمة عن النور
وإن تعشقها فهو إن كلف وإن لم يكلف لا بد وأن يعذب فيها، ولكن
التكليف لاستخراج ما في استعداده من الإباء لإظهار الحجة
والكفر مجرد علامة ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
[النحل: 33] وقولهم هو سبحانه الخالق لداعية المعصية مسلم لكنه
خلقها وأظهرها طبق ما دعا إليه الاستعداد الذاتي الذي لا دخل
للقدرة إلا في إيجاده وأي قبح في إعطاء الشيء ما طلبه بلسان
استعداده وإن أضر به ولا يلزم الله تعالى عقلا أن يترك مقتضى
حكمته ويبطل شأن ربوبيته مع عدم تعلق علمه بخلاف ما اقتضاه ذلك
الاستعداد، وقولهم هب أنا سلمنا العقاب فمن أين الدوام إلخ:
قلنا الدوام من خبث الذات وقبح الصفات الثابتين فيما لم يزل
الظاهرين فيما لا يزال بالإباء بعد التكليف مع مراعاة الحكمة،
وهذا الخبث دائم فيهم ما دامت حكمة الله تعالى الذاتية
وذواتهم- كما يرشدك إلى ذلك- قوله سبحانه: وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الإنعام: 28] ويدوم المعلول ما
دامت علته أو يقال العذاب وهو في الحقيقة البعد من الله لازم
للكفر والملزوم لا ينفك من اللازم، وأيضا الكفر مع ظهور
البرهان في الأنفس والآفاق بمن لا تتناهى كبرياؤه ولا تنحصر
عظمته أمر لا يحيط نطاق الفكر بقبحه وإن لم يتضرر به سبحانه
لكن الغيرة الإلهية لا ترتضيه وإن أفاضته القدرة الأزلية حسب
الاستعداد بمقتضى الحكمة، ومثل ذلك يطلب عذابا أبديا وعقابا
سرمديا وشبيه الشيء منجذب إليه، ولا يقاس هذا بما ضربه من
المثال إذ أين ذلة التراب من عزة رب الأرباب، وليس مورد
المسألتين منهلا واحدا، وقولهم من تاب من الكفر ولو بعد حين
تاب الله تعالى عليه، أفترى أن هذا الكرم العظيم يذهب في
الآخرة أو تسلب عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون إلخ: ففيه أن
من تاب من الكفر فقد أبدل القبيح بضده وأظهر سبحانه مقتضى ذاته
وماهيته المعلومة له حسب علمه فهناك حينئذ كفر قبيح زائل
وإيمان حسن ثابت، وقد انضم إلى هذا الإيمان ندم على ذلك الكفر
في دار ينفع فيها تدارك ما فات والندم على الهفوات فيصير الكفر
بهذا الإيمان كأن لم يكن شيئا
مذكورا إذ يقابل القبيح بالحسن ويبقى الندم وهو ركن التوبة
مكسبا على أن ظهور الإيمان بعد الكفر دليل على نجابة الذات في
نفسها وطهارتها في معلوميتها والأعمال بالخواتيم فلا بدع في
مغفرة الله تعالى له جودا وكرما ورحمة الله تعالى- وإن وسعت كل
شيء ببعض اعتباراتها- إلا أنها خصت المتقين باعتبار آخر كما
يشير إليه قوله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ
فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف: 156] فهي
كمعيته سبحانه الغير المكيفة، ألا تسمع قوله تعالى مرة: ما
يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا
خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا
أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ [المجادلة: 7] ، وتارة إِنَّ
اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ
مُحْسِنُونَ [النحل: 128] وكرة إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة:
40] وطورا إِنَّ مَعِي رَبِّي [الشعراء: 62] ولا ينافي كون
الرحمة أوسع دائرة من الغضب كما يرمز إليه الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] أن الكفار المعذبين أكثر من
(1/142)
المؤمنين المنعمين كما يقتضيه قوله تعالى:
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [هود: 17، الرعد:
1، غافر: 59] وكذا حديث البعث لأن هذه الكثرة بالنسبة إلى بني
آدم وهم قليلون بالنسبة إلى الملائكة والحور والغلمان وَما
يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31] وَيَخْلُقُ
ما لا تَعْلَمُونَ [النحل: 8] فيكون أهل الرحمة أكثر من أهل
الغضب على أن أهل النار مرحومون في عذابهم وما عند الله تعالى
من كل شيء لا يتناهى وبعض الشر أهون من بعض وهم مختلفون في
العذاب، وبين عذاب كل طبقة وطبقة ما بين السماء والأرض وإن ظن
كل من أهلها أنه أشد الناس عذابا لكن الكلام في الواقع بل منهم
من هو ملتذ بعذابه من بعض الجهات. ومنهم غير ذلك، نعم فيهم من
عذابه محض لا لذة لهم فيه ومع هذا يمقتون أنفسهم لعلمهم أنها
هي التي استعدت لذلك ففاض عليها ما فاض من جانب المبدأ الفياض
كما يشير إليه قوله تعالى: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ
مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [غافر: 10] ومن غفل منهم عن ذلك نبهه
إبليس عليه اللعنة كما حكى الله عنه بقوله: فَلا تَلُومُونِي
وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم: 22] ولا تنفعهم التوبة هناك
كما تنفعهم هنا إذ قد اختلفت الداران وامتاز الفريقان وانتهى
الأمد المضروب لها بمقتضى الحكمة الإلهية. وقد رأينا في الشاهد
أن لنفع الدواء وقتا مخصوصا إذا تعداه ربما يؤثر ضررا ومن
الكفار من يعرف أنه قد مضى الوقت وانقضى ذلك الزمان وأن التوبة
إنما كانت في الدار الدنيا ولهذا قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ
لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [المؤمنون: 99] ولما
كان هذا طلب عارف من وجه جاهل من وجه آخر قال الله تعالى في
مقابلته كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [المؤمنون:
100] ولم يغلظ عليه كما أغلظ على من قال: رَبَّنا أَخْرِجْنا
مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ [المؤمنون:
107] حيث صدر عن جهل محض فأجابهم بقوله اخْسَؤُا فِيها وَلا
تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] فلما اختلف الطلب اختلف الجواب
وليس كل دعاء يستجاب كما لا يخفى على أولي الألباب، وقولهم بقي
التمسك بالدلائل اللفظية وهي لا تفيد اليقين فلا تعارض الأدلة
العقلية المفيدة له فيقال فيه إن أرادوا إن هذه الأدلة العقلية
مفيدة لليقين:
فقد علمت حالها وأنها كسراب بقيعة وليتها أفادت ظنا وإن أرادوا
مطلق الأدلة العقلية فهذه ليست منها على أن كون الدلائل
اللفظية لا تفيد اليقين إنما هو مذهب المعتزلة وجمهور
الأشاعرة، والحق أنها قد تفيد اليقين بقرائن مشاهدة أو متواترة
تدل على انتفاء الاحتمالات، ومن صدق القائل يعلم عدم المعارض
العقلي فإنه إذا تعين المعنى وكان مرادا له فلو كان هناك معارض
عقلي لزم كذبه، نعم في إفادتها اليقين في العقليات نظر لأن
كونها مفيدة لليقين مبني على أنه هل يحصل بمجردها والنظر فيها-
وكون قائلها صادقا- الجزم بعدم المعارض العقلي وأنه هل للقرينة
التي تشاهد أو تنقل تواترا مدخل في ذلك الجزم وحصول ذلك الجزم
بمجردها ومدخلية القرينة فيه- مما لا يمكن الجزم بأحذ طرفيه-
الإثبات والنفي فلا جرم كانت إفادتها اليقين في العقليات محل
نظر وتأمل «فإن قلت» إذا كان صدق القائل مجزوما به لزم منه
الجزم بعدم المعارض في العقليات كما لزم منه في الشرعيات وإلا
احتمل كلامه الكذب فيهما فلا فرق بينهما.
«قلت» أجاب بعض المحققين بأن المراد بالشرعيات أمور يجزم العقل
بإمكانها ثبوتا وانتفاء ولا طريق إليها، وبالعقليات ما ليس
كذلك وحينئذ جاز أن يكون من الممتنعات فلأجل هذا الاحتمال ربما
لم يحصل الجزم بعدم المعارض العقلي للدليل النقلي في العقليات
وإن حصل الجزم به في الشرعيات وذلك بخلاف الأدلة العقلية في
العقليات فإنها بمجردها تفيد الجزم بعدم المعارض لأنها مركبة
من مقدمات علم بالبديهة صحتها أو علم بالبديهة لزومها مما علم
صحته بالبديهة، وحينئذ يستحيل أن يوجد ما يعارضها لأن أحكام
البديهة لا تتعارض بحسب نفس الأمر أصلا.
(1/143)
هذا وقال الفاضل الرومي هاهنا بحث مشهور
وهو أن المعنى بعدم المعارض العقلي في الشرعيات صدق القائل وهو
قائم في العقليات أيضا وما لا يحكم العقل بإمكانه ثبوتا أو
انتفاء لا يلزم أن يكون من الممتنعات لجواز إمكانه الخافي من
العقل فينبغي أن يحمل كل ما علم أن الشرع نطق به على هذا القسم
لئلا يلزم كذبه وإبطال قطع العقل بصدقه فالحق أن النقلي يفيد
القطع في العقليات أيضا ولا مخلص إلا بأن يقال المراد أن النظر
في الأدلة نفسها والقرائن في الشرعيات يفيد الجزم بعدم المعارض
لأجل إفادة الإرادة من القائل الصادق جزما. وفي العقليات
إفادته الجزم بعدمه محل نظر بناء على أن إفادته الإرادة محتملة
انتهى. وقد ذهب الشيخ الأكبر قدس سره إلى تقديم الدليل النقلي
على العقلي فقال في الباب الثاني والسبعين والأربعمائة من
الفتوحات:
على السمع عولنا فكنا أولي النهى ... ولا علم فيها لا يكون عن
السمع
وقال قدس سره في الباب الثامن والخمسين والثلاثمائة:
كيف للعقل دليل والذي ... قد بناه العقل بالكشف انهدم
فنجاة النفس في الشرع فلا ... تك إنسانا رأى ثم حرم
واعتصم بالشرع في الكشف فقد ... فاز بالخير عبيد قد عصم
أهمل الفكر فلا تحفل به ... واتركنه مثل لحم في وضم
إن للفكر مقاما فاعتضد ... به فيه تك شخصا قد رحم
كل علم يشهد الشرع له ... هو علم فبه فلتعتصم
وإذا خالفه العقل فقل ... طورك الزم مالكم فيه قدم
ويؤيد هذا ما روي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن
للعقل حدا ينتهي إليه كما أن للبصر حدا ينتهي إليه، وقال
الإمام الغزالي: ولا تستبعد أيها المعتكف في عالم العقل أن
يكون وراء العقل طور آخر يظهر فيه ما لا يظهر في العقل كما لا
تستبعد أن يكون العقل طورا وراء التمييز والإحساس ينكشف فيه
عوالم وعجائب يقصر عنها الإحساس والتمييز إلى آخر ما قال ففيما
نحن فيه في القرآن والسنة المتواترة ما لا يحصى مما يدل على
الخلود في النار، وفي العذاب دلالة واضحة لا خفاء فيها
فتأويلها كلها بمجرد شبه أضعف من حبال القمر، والعدول عنها إلى
القول بنفي العذاب أو الخلود فيه مما لا ينبغي لا سيما في مثل
هذه الأوقات التي فيها الناس كما ترى، على أن هذه التأويلات في
غاية السخافة إذ كيف يتصور حقيقة الدعاء من رب الأرض والسماء
أم كيف يكون التعليق بعد النظر في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ
لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ
لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48، 116] أم كيف يقبل أن يكون الأخبار
عن الاستحقاق دون الوقوع على ما فيه في مثل قوله تعالى:
كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [الإسراء: 97] كُلَّما
نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها
[النساء: 56] ؟! سبحانك هذا بهتان عظيم. وأما ما ينقل عن بعض
السلف الصالح- وكذا عن حضرة مولانا الشيخ الأكبر ومن حذا حذوه
من السادة الصوفية رضي الله تعالى عنهم- من القول بعدم الخلود
فذلك مبني على مشرب آخر وتجل لم ينكشف لنا، والكثير منهم قد
بنى كلامه على اصطلاحات ورموز وإشارات قد حال بيننا وبين فهمها
العوائق الدنيوية والعلائق النفسانية، ولعل قول من قال بعدم
الخلود ممن لم يسلك مسلك أهل السلوك مبني على عدم خلود طائفة
من أهل النار وهم العصاة مما دون الكفر وإن وقع إطلاق الكفر
عليهم حمل على معنى آخر كما حمل على رأي في
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من ترك الصلاة فقد كفر» ،
على أن الشيخ قدس سره كم وكم صرح في كتبه بالخلود فقال في
عقيدته الصغرى أول الفتوحات: والتأبيد لأهل
(1/144)
النار في النار حق، وفي الباب الرابع
والستين في بحث ذبح الموت ونداء المنادي يا أهل النار خلود ولا
خروج ما نصه: ويغتم أهل النار أشد الغم لذلك ثم تغلق أبواب
النار غلقا لا فتح بعده وتنطبق النار على أهلها ويدخل بعضهم في
بعض ليعظم انضغاطهم فيها ويرجع أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها
ويرى الناس والجن فيها مثل قطع اللحم في القدر التي تحتها
النار العظيمة تغلي كغلي الحميم فتدور في الخلق علوا وسفلا
كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً. وذكر الشيخ عبد الكريم
الجيلي في كتابه المسمى بالإنسان الكبير، وفي شرح لباب الأسرار
من الفتوحات: أن مراد القوم بأن أهل النار يخرجون منها هم عصاة
الموحدين لا الكفار، وقال: إياك أن تحمل كلام الشيخ محيي الدين
أو غيره من الصوفية- في قولهم بانتهاء مدة أهل النار من
العصاة- على الكفار فإن ذلك كذب وخطأ وإذا احتمل الكلام وجها
صحيحا وجب المصير إليه انتهى، نعم قال قدس سره في تفسير
الفاتحة من الفتوحات فإذا وقع الجدار وانهدم الصور وامتزجت
الأنهار والتقى البحران وعدم البرزخ صار العذاب نعيما وجهنم
جنة ولا عذاب ولا عقاب إلا نعيم وأمان بمشاهدة العيان إلخ،
وهذا وأمثاله محمول على معنى صحيح يعرفه أهل الذوق لا ينافي ما
وردت به القواطع، وقصارى ما يخطر لأمثالنا فيه أنه محمول على
مسكن عصاة هذه الأمة من النار، وفيه يضع الجبار قدمه ويتجلى
بصفة القهر على النار فتقول قط قط ولا تطيق تجليه فتخمد ولا
بعد أن تلحق بعد بالجنة وإياك أن تقول بظاهره مع ما أنت عليه
وكلما وجدت مثل هذا لأحد من أهل الله تعالى فسلمه لهم بالمعنى
الذي أرادوه مما لا تعلمه أنت ولا أنا لا بالمعنى الذي ينقدح
في عقلك المشوب بالأوهام فالأمر والله وراء ذلك والأخذ بظواهر
هذه العبارات النافية للخلود في العذاب وتأويل النصوص الدالة
على الخلود في النار بأن يقال الخلود فيها لا يستلزم الخلود في
العذاب لجواز التنعم فيها وانقلاب العذاب عذوبة مما يجر إلى
نفي الأحكام الشرعية وتعطيل النبوات وفتح باب لا يسد. وإن سولت
نفسك لك ذلك قلبنا البحث معك ولنأتينك بجنود من الأدلة لا قبل
لك بها وما النصر إلا من عند الله وكان حقا علينا نصر
المؤمنين، ولا يوقعنك في الوهم أن الخلود مستلزم لتناهي
التجليات فالله تعالى هو الله وكل يوم هو في شأن فَخُذْ ما
آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف: 144] ولا أظنك
تجد هذا التحقيق من غيرنا والحمد لله رب العالمين وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ.
هذه الآية وما بعدها إلى آخر القصة معطوفة على قصة إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا وكل من المتعاطفين مسوق لغرض إلا أن فيهما
من النعي على أهل الضلال ما لا يخفى وقد سيقت هذه الآية إلى
ثلاث عشرة آية لنعي المنافقين الذين ستروا الكفر وأظهروا
الإسلام فهم بحسب الظاهر أعظم جرما من سائر الكفار كما يشير
إليه قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ
الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] والناس- أصله عند
سيبويه، والجمهور- أناس وهو جمع أو اسم جمع لإنسان، وقد حذفت
فاؤه تخفيفا فوزنه فعال، ويشهد لأصله إنسان وإنس وأناسي ونقصه
وإتمامه جائزان إذا نكر فإذا عرف بأل فالأكثر نقصه ومن عرف خص
بالبلاء ويجوز إتمامه على قلة كما في قوله:
إن المنايا يطلع ... عن على الأناس الآمنينا
وهو مأخوذ من الأنس ضد الوحشة لأنسه بجنسه لأنه مدني بالطبع
ومن هنا قيل:
وما سمي الإنسان إلا لأنسه ... ولا القلب إلا أنه يتقلب
أو من آنس أي أبصر قال تعالى: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ
ناراً [القصص: 29] وجاء بمعنى سمع وعلم، وسمي به لأنه ظاهر
محسوس، وذهب السكاكي إلى أنه اسم تام وعينه واو من نوس إذا
تحرك بدليل تصغيره على نويس فوزنه فعل. وفي الكشاف أنه من
المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان ورويجل، وقيل: من نسي
بالقلب لقوله تعالى
(1/145)
في آدم عليه السلام: فَنَسِيَ وَلَمْ
نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما فوزنه حينئذ «فلع» ولا يستعمل في الغالب إلا في
بني آدم، وحكى ابن خالويه عن ناس من العرب: أناس الجن، قال أبو
حيان: وهو مجاز وإذا أخذ من نوس يكون صدق المفهوم على الجن
ظاهرا لا سيما إذا قلنا: إن النوس تذبذب الشيء في الهواء، وعن
سلمة بن عاصم أنه جزم بأن كلا من ناس وأناس مادة مستقلة واللام
فيه إما للجنس أو للعهد الخارجي فإن كان الأول فمن نكرة موصوفة
وإن كان الثاني فهي موصولة مرادا بها عبد الله بن أبيّ
وأشياعه، وجوز ابن هشام وجماعة أن تكون موصولة على تقدير الجنس
وموصوفة على تقدير العهد لأن بعض الجنس قد يتعين بوجه ما وبعض
المعينين قد يجهل باعتبار حال من أحواله كأهل محلة محصورين
فيهم قاتل لم يعرف بعينه كونه قاتلا وإن عرف شخصه فلا وجه
للتخصيص عند هؤلاء، وقيل: إن التخصيص هو الأنسب لأن المعرف
بلام الجنس لعدم التوقيت فيه قريب من النكرة وبعض النكرة نكرة
فناسب من الموصوفة للطباق والأمر بخلافه في العهد، وعلى هذا
الأسلوب ورد قوله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ [الأحزاب:
23] وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ [التوبة: 61]
لأنه أريد في الأول الجنس، وفي مرجع الضمير في الثاني طائفة
معينة من المنافقين، ولما كان في الآية تفصيل معنوي لأنه
سبحانه ذكر المؤمنين ثم الكافرين ثم عقب بالمنافقين فصار نظيرا
للتفصيل اللفظي، وفي قوة تفصيل الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق-
تضمن الإخبار عمن يقول بأنه من الناس- فائدة، ولك أن تحمله على
معنى من يختفي من المنافقين معلوم لنا ولولا أن الستر من الكرم
فضحته فيكون مفيدا أيضا وملوحا إلى تهديد ما، وقيل: المراد
بكونهم من الناس أنهم لا صفة لهم تميزهم سوى الصورة الإنسانية،
أو المراد التنبيه على أن الصفات المذكورة تنافي الإنسانية
فيتعجب منها- أو مناط الفائدة- الوجود أي إنهم موجودون فيما
بينهم أو إنهم من الناس لا من الجن إذ لا نفاق فيهم، أو المراد
بالناس المسلمون والمعنى أنهم يعدون مسلمين أو يعاملون
معاملتهم فيما لهم وعليهم، ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من
الكلف والتكلف ولكل ساقطة لاقطة، واختار أبو حيان هنا أن تكون
مِنَ موصلة مدعيا أنها إنما تكون موصوفة إذا وقعت في مكان يختص
بالنكرة في الأكثر، وفي غير ذلك قليل حتى أن السكاكي على علو
كعبه أنكره ولا يخفى ما فيه، ولا يرد على إرادة العهد أنه كيف
يدخل المنافقون مطلقا في الكفرة المصرين المحكوم عليهم بالختم
وإن وَمِنَ النَّاسِ الآية وقع عديلا لأن الذين كفروا بيانا
للقسم الثالث المذبذب فلا يدخل فيه لأن المراد بالمنافقين
المصممون منهم المختوم عليهم بالكفر كما يدل عليه صُمٌّ بُكْمٌ
عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة: 18] لا مطلق المنافقين
ولأن اختصاصهم بخلط الخداع والاستهزاء مع الكفر لا ينافي
دخولهم تحت الكفرة المصرين، وبهذا الاعتبار صاروا قسما ثالثا
فالقسمة ثنائية بحسب الحقيقة ثلاثية بالاعتبار، وفي قوله تعالى
يقول وآمنا مراعاة للفظ مِنَ ومعناها ولو راعى الأول فقط لقال
آمنت أو الثاني فقط لقال يقولون ولما روعيا جميعا حسن مراعاة
اللفظ أولا إذ هو في الخارج قبل المعنى والواحد قبل الجمع ولو
عكس جاز، وزعم ابن عطية أنه لا يجوز الرجوع من جمع إلى توحيد
ويرده قول الشاعر:
لست ممن يكع أو يستكينو ... ن إذا كافحته خيل الأعادي
واقتصر من متعلق الإيمان على الله واليوم الآخر مع أنهم كانوا
يؤمنون بأفواههم بجميع ما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم لأنهما المقصود الأعظم من الإيمان إذ من آمن بالله تعالى-
على ما يليق بجلال ذاته- آمن بكتبه ورسله وشرائعه، ومن علم أنه
إليه المصير استعد لذلك بالأعمال الصالحة، وفي ذلك إشعار بدعوى
حيازة الإيمان بطرفيه المبدأ والمعاد وما طريقه العقل والسمع
ويتضمن ذلك الإيمان بالنبوة أو أن تخصيص ذلك بالذكر للإيذان
بأنهم
(1/146)
يبطنون الكفر فيما ليسوا فيه منافقين في
الجملة لأن القوم في المشهور كانوا يهودا وهم مخلصون في أصل
الإيمان بالله واليوم الآخر على ظنهم، ومع ذلك كانوا ينافقون
في كيفية الإيمان بهما ويرون المؤمنين أن إيمانهم بهما مثل
إيمانهم فكيف فيما يقصدون به النفاق المحض وليسوا مؤمنين به
أصلا كنبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم والقرآن أو أنهم
قصدوا بتخصيص الإيمان بهما التعرض بعدم الإيمان بخاتم الرسل
صلى الله تعالى عليه وسلم وما بلغه ففي ذلك بيان لمزيد خبثهم،
وهذا لو قصد حقيقته حينئذ لم يكن إيمانا لأنه لا بد من الإقرار
بما جاء به صلى الله تعالى عليه وسلم فكيف وهو مخادعة وتلبيس؟!
وقيل: إنه لما كان غرضهم المبالغة في خلوص إسلامهم بأنهم تركوا
عقائدهم التي كانوا عليها في المبدأ والمعاد واعترفوا أنهم
كانوا في ضلال خصوا إيمانهم بذلك لأنهم كانوا قائلين بسائر
الأصول، وأما النبوة فليس في الإيمان بها اعتراف بذلك، وأيضا
ترك الراسخ في القلب مما عليه الأباء بترك الإيمان به صلى الله
تعالى عليه وسلم من المسلمات فكأنهم لم يتعرضوا له للإشارة إلى
أنه مما لا شبهة في أنهم معتقدون له بعد اعتقادهم ما هو أشد
منه عليهم- وحمل بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ على القسم
منهم على الإيمان- سمج بالله. وأسمج منه بمراتب حمله على القسم
منه تعالى على عدم إيمانهم بتقدير ما آمنوا وَما هُمْ
بِمُؤْمِنِينَ فيجب أن يكون الباء صلة الإيمان وكررت مبالغة في
الخديعة والتلبيس بإظهار أن إيمانهم تفصيلي مؤكد قوي (1) .
واليوم الآخر يحتمل أن يراد به الوقت الدائم من الحشر بحيث لا
يتناهى أو ما عينه الله تعالى منه إلى استقرار كل من المؤمنين
والكافرين فيما أعدله، وسمي آخرا لأنه آخر الأوقات المحدودة
والأشبه هو الأول سواء كان حقيقة أو مجازا ولأن الإيمان به
يتضمن الإيمان بالثاني لدخوله فيه من غير عكس، نعم المناسب
للفظ اليوم- لغة- هو الثاني لمحدوديته وهو على كل تقدير مغاير
لما عند الناس لأن اليوم- عرفا- من طلوع الشمس إلى غروبها
وشرعا على الصحيح من طلوع الفجر الصادق إلى الغروب. واصطلاحا
من نصف النهار إلى نصف النهار والأمر وراء ذلك، وسيأتي لذلك
تتمة، وفي قوله سبحانه: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ حيث قدم
الفاعل وأولى حرف النفي رد لدعوى أولئك المنافقين على أبلغ وجه
لأن انخراطهم في سلك المؤمنين من لوازم ثبوت الإيمان الحقيقي
لهم وانتفاء اللازم أعدل شاهد على انتفاء الملزوم وقد بلغ في
نفي اللازم بالدلالة على دوامة المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم
مطلقا، وأكد ذلك النفي بالباء (2) أيضا وهذا سبب العدول عن
الرد بما آمنوا المطابق لصدر الكلام، وبعضهم يجري الكلام على
التخصيص وأن الكفار لما رأوا أنفسهم أنهم مثل المؤمنين في
الإيمان الحقيقي وادعوا موافقتهم قيل في جوابهم وَما هُمْ
بِمُؤْمِنِينَ على قصر الأفراد والذوق يبعده، وإطلاق الوصف
للإشارة إلى العموم وأنهم ليسوا من الإيمان في شيء، وقد يقيد
بما قيد به سابقه لأنه واقع في جوابه إلا أن نفي المطلق يستلزم
نفي المقيد فهو أبلغ وأوكد.
وفي هذه الآية دلالة على أن من لم يصدق بقلبه لا يكون مؤمنا،
وأما على أن من أقر بلسانه وليس في قلبه ما يوافقه أو ينافيه
ليس بمؤمن فلا لوجود المنافي في المنافق هنا لأنه من المختوم
على قلبه أو لأن الله تعالى كذبه وليس إلا لعدم مطابقة التصديق
القلبي للساني كذا قيل، ودقق بعضهم مدعيا أن من يجعل الإيمان
الإقرار اللساني سواء يشترط الخلو عن الإنكار والتكذيب أم لا
يشترط أن يكون الإقرار بالشهادتين ولا يكفي عنده نحو آمنت
بالله وباليوم الآخر لأن المدار على النطق بهما كما ورد في
الصحيح حتى اشترط بعضهم لفظ أشهد، والاسم الخاص به تعالى واسم
__________
(1) لأن إعادة العامل تقتضي أن متعلقه كالمعاد كما قال (س) في
مررت بزيد وبعمرو فيفيد ما ذكر وهو ظاهر اهـ منه.
(2) فيه إشارة إلى أن النفي اعتبر أولا ثم أكد فالكلام من
تأكيد النفي لا نفي التأكيد اهـ منه.
(1/147)
محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فليس في
الآية حينئذ دليل على إبطال مذهب الكرامية بوجه فليتدبر.
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ أصل الخدع بفتح الخاء
وكسرها الإخفاء والإيهام، وقيل: بالكسر اسم مصدر، ومنه المخدع
(1) للخزانة والأخدعان لعرقين خفيين في موضع المحجمة وخدع الضب
إذا توارى واختفى ويستعمل في إظهار ما يوهم السلامة وإبطال ما
يقتضي الأضرار بالغير أو التخلص منه كما قاله الإمام، وقال
السيد: هو أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه وتصيبه
به، وفي الكشف التحقيق أن الخدع صفة فعلية قائمة بالنفس عقيب
استحضار مقدمات في الذهن متوصل بها توصلا يستهجن شرعا أو عقلا
أو عادة إلى استجرار منفعة من نيل معروف لنفسه أو إصابة مكروه
لغيره مع خفائهما على الموجه نحوه القصد بحيث لا يتأتى ذلك
النيل أو الإصابة بدونه أو لو تأتى لزم فوت غرض آخر حسب تصوره
وعليه يكون: الحرب خدعة (2) مجازا ولا تخفى غرابته. والمخادعة
مفاعلة، والمعروف فيها أن يفعل كل أحد بالآخر مثل ما يفعله به
فيقتضي هنا أن يصدر من كل واحد من الله ومن المؤمنين ومن
المنافقين فعل يتعلق بالآخر، وظاهر هذا مشكل لأن الله سبحانه
لا يخدع ولا يخدع، أما على التحقيق فلأنه غني عن كل نيل وإصابة
واستجرار منفعة لنفسه وهو أيضا متعال على التعمل واستحضار
المقدمات ولأنه أجلّ عن أن يحوم حول سرادقات جلاله نقص
الانفعال وخفاء معلوم ما عليه، وأما على ما ذكره السيد فلأنه
جل شأنه أجلّ من أن تخفى عليه خافية أو يصيبه مكروه فكيف يمكن
للمنافقين أن يخدعوه ويوقعوا في علمه خلاف ما يريدون من
المكروه ويصيبونه به مع أنهم لكونهم من أهل الكتاب عالمون
باستحالة ذلك، والعاقل لا يقصد ما تحقق لديه امتناعه، وأما أنه
لا يخدع فلأنه وإن جاز عندنا أن يوقع سبحانه في أوهام
المنافقين خلاف ما يريده من المكاره ليغتروا ثم يصيبهم به لكن
يمتنع أن ينسب إليه لما يوهمه من أنه إنما يكون عن عجز عن
المكافحة وإظهار المكتوم لأنه المعهود منه في الإطلاق- كما في
الانتصاف- ولذا زيد في تفسيره مع استشعار خوف أو استحياء من
المجاهرة، وأما المؤمنون وإن جاز أن يخدعوا إلا أنه يبعد أن
يقصدوا خدع المنافقين لأنه غير مستحسن بل مذموم مستهجن وهي
أشبه شيء بالنفاق وهم في غنى عنه على أن الانخداع المتمدح به
هو التخادع بمعنى إظهار التأثر دونه كرما كما يشير إليه
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمن غر كريم»
لا الانخداع الدال على البله، ولذا قالت عائشة في عمر رضي الله
تعالى عنهما: كان أعقل من أن يخدع وأفضل من أن يخدع، ويجاب عن
ذلك بأن صورة صنيعهم مع الله تعالى حيث يتظاهرون بالإيمان وهم
كافرون، وصورة صنيع الله تعالى معهم حيث أمر بإجراء أحكام
المسلمين عليهم وهم عنده أهل الدرك الأسفل، وصورة صنيع
المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله تعالى فيهم فأجروا ذلك
عليهم تشبه صورة المخادعة ففي الكلام إما استعارة تبعية في
يُخادِعُونَ وحده أو تمثيلية في الجملة وحيث إن ابتداء الفعل
في باب المفاعلة من جانب الفاعل صريحا وكون المفعول آتيا بمثل
فعله مدلول عليه من عرض الكلام حسن إيراد ذلك في معرض الذم لما
أسند إليه الفعل صريحا وكون مقتضى المقام إيراد حالهم خاصة-
كما قاله مولانا مفتي الديار الرومية- مما لا يخدش هذا الوجه
الحسن أو يجاب- كما قيل- بأن المراد مخادعة رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم وأوقع الفعل على غير ما
__________
(1) المخدع مثلث، والخزانة لا تفتح اهـ منه.
(2) يروى بفتح الخاء وضمها مع سكون الدال، وبضمها مع فتح
الدال، فالأول معناه أن الحرب ينقضي أمرها بخدعة واحدة من
الخداع أي أن المقاتل إذا خدع مرة واحدة لم يكن لها إقالة، وهو
أفصح الروايات وأصحها، ومعنى الثاني هو الاسم من الخدع، ومعنى
الثالث أن الحرب تخدع الرجال وتمنيهم ولا تفي لهم كما يقال رجل
لعبة وضحكة للذي يكثر اللعب والضحك فليفهم وليحفظ اهـ منه.
(1/148)
يوقع عليه للملابسة بينهما وهي الخلافة
فهناك مجاز عقلي في النسبة الإيقاعية وهذا ظاهر على رأي من
يكتفي بالملابسة بين ما هو له وغير ما هو له، وأما على رأي من
يعتبر ملابسة الفعل بغير ما هو له بأن يكون من معمولاته فلا،
على أنه يبقى من الإشكال أن لا خدع من الرسول والمؤمنين ولا
مجال لأن يكون الخدع من أحد الجانبين حقيقة ومن الآخر مجازا
لاتحاد اللفظ وكأن المجيب إما قائل بجواز الجمع بين الحقيقة
والمجاز أو غير قائل بامتناع صدور الخدع من الرسول والمؤمنين
حتى يتأتى لهم ما يريدون من إعلاء الدين ومصالح المسلمين. وقرأ
ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وأبو حيوة- يخدعون- والجواب عما
يلزم هو الجواب فيما لزم، وقد تأتي فاعل بمعنى فعل كعافاني
الله تعالى وعاقبت اللص فلا بعد في حمل قراءة الجمهور على ذلك
ويكون إيثار صيغة المفاعلة لإفادة المبالغة في الكيفية فإن
الفعل متى غولب فيه بولغ به أو في الكمية كما في الممارسة
والمزاولة فإنهم كانوا مداومين على الخدع يُخادِعُونَ إما بيان
ليقول لا على وجه العطف إذ لا يجري عطف البيان في الجمل عند
النحاة وإن أوهمه كلام أهل المعاني وإما استئناف بياني كأنه
قيل: لم يدعون الإيمان كاذبين وماذا نفعهم؟ فقيل يخادعون إلخ،
وهذا في المآل كالأول ولعل الأول أولى. وجوز أبو حيان كون هذه
الجملة بدلا من صلة من بدل اشتمال أو حالا من الضمير المستكن
في يقول أي مخادعين، وأبو البقاء أن يكون حالا من الضمير
المستتر في مؤمنين، ولعل النفي متوجه للمقارنة لا لنفس الحال-
كما في ما جاءني زيد، وقد طلع الفجر- وَما كانَ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: 33] على أنه
قد تجعل الحال ونحوها في مثل ذلك قيدا للنفي لا للمنفي كما
قرروه في- لم أبالغ- في اختصاره تقريبا. وجعل الجملة صفة
للمؤمنين ممنوع لمكان النفي والقيد وليست حال الصفة كصفة الحال
فلا عجب في تجويز إحداهما ومنع الأخرى كما توهمه أبو حيان في
بحره، نعم التعجب من كون الجملة بيانا للتعجب من كونهم من
الناس كما لا يخفى. ثم إن الغرض من مخادعة هؤلاء لمن خادعوه
كالغرض من نفاقهم طبق النعل بالنعل فقد قصدوا تعظيمهم عند
المؤمنين والتطلع على أسرارهم ليفشوها ورفع القتل عنهم أو ضرب
الجزية عليهم والفوز بسهم من الغنائم ونحو ذلك وثمرة مخادعة من
خادعوه إياهم إن كانت حكم إلهية ومصالح دينية ربما يؤدي تركها
إلى مفاسد لا تحصى ومحاذير لا تستقصى، وقرأ الحرميان وأبو
عمرو: وما يخادعون، وقرأ باقي السبعة: «وما يخدعون» وقرأ
الجارود وأبو طالوت: «وما يخدعون» - بضم الياء- مبنيا للمفعول.
وقرأ بعضهم: «وما يخادعون» - بفتح الدال مبنيا للمفعول أيضا-
وقرأ قتادة والعجلي: «وما يخدعون» من خدع مضاعفا مبنيا للفاعل،
وبعضهم- بفتح الياء والخاء وتشديد الدال المكسورة- وما عدا
القراءتين الأوليين شاذة وعليهما نصب أنفسهم على المفعولية
الصرفة أو مع الفاعلية معنى، وأما على قراءة بناء الفعل
للمفعول فهو إما على إسقاط الجار أي في أنفسهم أو عن أنفسهم أو
على التمييز على رأي الكوفيين أو التشبيه بالمفعول على زعم
بعضهم أو على أنه مفعول بتضمين الفعل يتنقصون مثلا، ولا يشكل
على قراءة يخادعون أنه كيف يصح حصر الخداع على أنفسهم، وذلك
يقتضي نفيه عن الله تعالى والمؤمنين، وقد أثبت أولا، وإن
المخادعة إنما تكون في الظاهر بين اثنين فكيف يخادع أحد نفسه
لأنا نقول المراد أن دائرة الخداع راجعة إليهم وضررها عائد
عليهم فالخداع هنا هو الخداع الأول والحصر باعتبار أن ضرره
عائد إلى أنفسهم فتكون العبارة الدالة عليه مجازا أو كناية عن
انحصار ضررها فيهم أو نجعل لفظ الخداع مجازا مرسلا عن ضرره في
المرتبة الثانية، وكونه مجازا باعتبار الأول كما قاله السعد
غير ظاهر. وقد يقال: إنهم خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك وخدعتهم
حيث حدثتهم بالأماني الخالية، فالمراد بالخداع غير الأول.
والمخادع والمخادع متغايران بالاعتبار فالخداع على هذا مجاز عن
إيهام الباطل وتصويره بصورة الحق، وحمله على حقيقته بعيد وكون
ذلك من التجريد كقوله:
(1/149)
لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد
النطق إن لم يسعد الحال
لا يرتضيه الذوق السليم كالقول
بأن الكلام من باب المبالغة في امتناع خداعهم لله تعالى
وللمؤمنين لأنه كما لا يخفى خداع المخادع لنفسه فيمتنع خداعه
لها يمتنع خداع الله تعالى لعلمه والمؤمنون لاطلاعهم بإعلامه
تعالى أو الكناية عن أن مخالفتهم ومعاداتهم لله تعالى وأحبابه
معاملة مع أنفسهم لأن الله تعالى والمؤمنين ينفعونهم كأنفسهم،
وبعضهم يجعل التعبير هنا بالمخادعة للمشاكلة مع كون كل من
المشاكل والمشاكل مجازا وكل يعمل على شاكلته «والنفس» حقيقة
الشيء وعينه ولا اختصاص لها بالأجسام لقوله تعالى: كَتَبَ عَلى
نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الإنعام: 12] وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ
نَفْسَهُ [آل عمران: 28، 30] وتطلق على الجوهر البخاري اللطيف
الحامل لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية وسماها الحكيم
الروح الحيوانية وأول عضو تحله القلب إذ هو أول ما يخلق على
المشهور، ومنه تفيض إلى الدماغ والكبد وسائر الأعضاء ولا يلزم
من ذلك أن يكون منبت الأعصاب إذ من الجائز أن يكون العضو
المستفيد منبتا لآلة الاستفادة، وقيل: الدماغ لأنه المنبت ولم
تقم دلالة قطعية على ذلك كما في شرح القانون للإمام الرازي
وكثيرا ما تطلق على الجوهر المجرد المتعلق بالبدن تعلق التدبير
والتصرف وهي الروح الأمرية المرادة في
- من عرف نفسه فقد عرف ربه-
وتسمى النفس الناطقة وبتنوع صفاتها تختلف أسماؤها وأحظى
الأعضاء بإشراق أنوارها المعنوية القلب أيضا ولذلك الشرف قد
يسمى نفسا، وبعضهم يسمي الرأي بها، والظاهر في الآية على ما
قيل: المعنى الأول إذ المقصود بيان أن ضرر مخادعتهم راجع إليهم
ولا يتخطاهم إلى غيرهم وليس بالمتعيّن كما لا يخفى، وتطلق على
معان أخر ستسمعها مع تحقيق هذا المبحث إن شاء الله تعالى.
وجملة وَما يَشْعُرُونَ مستأنفة أو معطوفة على وَما
يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ومفعول يَشْعُرُونَ محذوف أي
وَما يَشْعُرُونَ أنهم يخدعونها أو أن الله يعلم ما يسرون وما
يعلنون أو إطلاع الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم على
خداعهم وكذبهم- كما روي ذلك عن ابن عباس- أو هلاك أنفسهم
وإيقاعها في الشقاء الأبدي بكفرهم ونفاقهم كما روي عن زيد، أو
المراد لا يشعرون بشيء، ويحتمل- كما في البحر- أن يكون وَما
يَشْعُرُونَ جملة حالية أي وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا
أَنْفُسَهُمْ غير شاعرين بذلك ولو شعروا لما خادعوا، والشعور
الإدراك بالحواس الخمس الظاهرة ويكون بمعنى العلم، قال الراغب:
شعرت كذا يستعمل بوجهين بأن يؤخذ من مس الشعر ويعبر به عن
اللمس ومنه استعمل المشاعر للحواس، فإذا قيل: فلان لا يشعر
فذلك أبلغ في الذم من أنه لا يسمع ولا يبصر لأن حس اللمس أعم
من حس السمع والبصر، وتارة يقال: شعرت كذا أي أدركت شيئا دقيقا
من قولهم شعرته أي أصبت شعره نحو- أذنته ورأسته- وكان ذلك
إشارة إلى قولهم فلان يشق الشعر إذا دق النظر، ومنه أخذ الشاعر
لإدراك دقائق المعاني انتهى. والآية تحتمل نفي الشعور بمعنى
العلم فمعنى لا يَشْعُرُونَ لا يعلمون وكثيرا ما ورد بهذا
المعنى، وفي اللحاق نوع إشارة إليه، ويحتمل نفيه بمعنى الإدراك
بالحواس فيجعل متعلق الفعل كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على فاقد
الحواس، ونفي ذلك نهاية الذم لأن من لا يشعر بالبديهي المحسوس
مرتبته أدنى من مرتبة البهائم فهم كالإنعام بل هم أضل، ولعل
هذا أولى لما فيه من التهكم بهم مع الدلالة على نفي العلم
بالطريق الأولى، وهو أيضا أنسب بقوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ
عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ
غِشاوَةٌ
كما لا يخفى.
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ المرض بفتح الراء كما
قرأ الجمهور، وبسكونها كما قرأ الأصمعي عن أبي عمر- وعلى ما
ذهب إليه أهل اللغة- حالة خارجة عن الطبع ضارة بالفعل، وعند
الأطباء ما يقابل الصحة وهي الحالة التي تصدر عنها الأفعال
سليمة، والمراد من الأفعال ما هو متعارف
(1/150)
وهي إما طبيعية كالنمو أو حيوانية كالنفس
أو نفسانية كجودة الفكر، فالحول والحدب مثلا مرض عندهم دون أهل
اللغة وقد يطلق المرض لغة على أثره وهو الألم كما قاله جمع ممن
يوثق بهم، وعلى الظلمة كما في قوله:
في ليلة مرضت من كل ناحية ... فما يحس بها نجم ولا قمر
وعلى ضعف القلب وفتوره كما قاله غير واحد ويطلق مجازا على ما
يعرض المرء مما يخل بكمال نفسه كالبغضاء والغفلة وسوء العقيدة
والحسد وغير ذلك من موانع الكمالات المشابهة لاختلال البدن
المانع عن الملاذ والمؤدية إلى الهلاك الروحاني الذي هو أعظم
من الهلاك الجسماني، والمنقول عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد
وقتادة وسائر السلف الصالح حمل المرض في الآية على المعنى
المجازي. ولا شك أن قلوب المنافقين كانت ملأى من تلك الخبائث
التي منعتهم مما منعتهم وأوصلتهم إلى الدرك الأسفل من النار.
ولا مانع عند بعضهم أن يحمل المرض أيضا على حقيقته الذي هو
الظلمة وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ
مِنْ نُورٍ [النور: 40] وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ
الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ
[البقرة: 257] وكذا على الألم فإن في قلوب أولئك ألما عظيما
بواسطة شوكة الإسلام وانتظام أمورهم غاية الانتظام، فالآية على
هذا محتملة للمعنيين ونصب القرينة المانعة في المجاز إنما
يشترط في تعيينه دون احتماله فإذا تضمن نكتة ساوى الحقيقة
فيمكن الحمل عليهما نظرا إلى الأصالة والنكتة إلا أنه يرد هنا
أن الألم مطلقا ليس حقيقة المرض بل حقيقته الألم السوء المزاج
وهو مفقود في المنافقين والقول بأن حالهم التي هم عليها تقضي
إليه في غاية الركاكة على أن قلوب أولئك لو كانت مريضة لكانت
أجسامهم كذلك أو لكان الحمام عاجلهم ويشهد لذلك الحديث النبوي
والقانون الطبي، أما الأول
فلقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن في الجسد مضغة» الحديث،
وأما الثاني فلأن الحكماء بعد أن بينوا تشريح القلب قالوا إذا
حصلت فيه مادة غليظة فإن تمكنت منه ومن غلافه أو من أحدهما
عاجلت المنية صاحبه وإن لم تتمكن تأخرت الحياة مدة يسيرة ولا
سبيل إلى بقائها مع مرض القلب، فالأولى دراية ورواية حمله على
المعنى المجازي- ومنه الجبن والخور- وقد داخل ذلك قلوب
المنافقين حين شاهدوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
والمؤمنين ما شاهدوا. والتنوين للدلالة على أنه نوع غير ما
يتعارفه الناس من الأمراض، ولم يجمع كما جمع القلوب لأن تعداد
المحال يدل على تعداد الحال عقلا فاكتفى بجمعها عن جمعه.
والجملة الأولى إما مستأنفة لبيان الموجب لخداعهم وما هم فيه
من النفاق أو مقررة لما يفيده وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ من
استمرار عدم إيمانهم أو تعليل له كأنه قيل: ما بالهم لا
يؤمنون؟ فقال: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يمنعه أو مقررة لعدم
الشعور وإن كان سبيل قوله: وَما يَشْعُرُونَ سبيل الاعتراض-
على ما قيل- وجملة فزادهم الله مرضا إما دعائية معترضة بين
المعطوف والمعطوف عليه والمعترضة قد تقترن بالفاء كما في قوله:
واعلم فعلم المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كلّ ما قدرا
كما صرح به في التلويح وغيره نقلا عن النحاة أو إخبارية معطوفة
على الأولى وعطف الماضي على الاسمية لنكتة إن أريد في الأولى
أن ذلك لم يزل غضا طريا إلى زمن الأخبار، وفي الثانية أن ذلك
سبب لازدياد مرضهم المحقق إذ لولا تدنس فطرتهم لازدادوا بما
منّ الله تعالى به على المؤمنين شفاء ولا يتكرر هذا مع قوله
تعالى: يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ [البقرة: 15] للفرق بين
زيادة المرض وزيادة الطغيان على أنه لا مانع من زيادة التوكيد
مع بعد المسافة، وأيضا الدعاء إن لم يكن جاريا على لسان العباد
أو مرادا به مجرد السب والتنقيص يكون إيجابا منه سبحانه فيؤول
إلى ما آل إليه الأخبار وزيادة الله تعالى مرضهم إما بتضعيف
حسدهم بزيادة نعم الله تعالى على رسوله صلى الله تعالى عليه
وسلم والمؤمنين أو ظلمة قلوبهم بتجدد كفرهم بما ينزله سبحانه
شيئا فشيئا من الآيات والذكر الحكيم فهم في
(1/151)
ظلمات بعضها فوق بعض أو بتكثير خوفهم
ورعبهم المترتب عليه ترك مجاهرتهم بالكفر بسبب إمداد الله
تعالى الإسلام ورفع أعلامه على أعلام الإعزاز والاحترام، أو
بإعظام الألم بزيادة الغموم وإيقاد نيران الهموم.
والغم يخترم النفوس نحافة ... ويشيب ناصية الصبي ويهرم
ويكون ذلك بتكاليف الله تعالى لهم المتجددة وفعلهم لها مع
كفرهم بها وبتكليف النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم ببعض الأمور
وتخلفهم عنه الجالب لما يكرهونه من لومهم وسوء الظن بهم
فيغتمون إن فعلوا وإن تركوا ونسبة الزيادة إلى الله تعالى
حقيقة ولو فسرت بالطبع فإنه سبحانه الفاعل الحقيقي بالأسباب
وبغيرها ولا يقبح منه شيء، وبعضهم جعل الإسناد مجازا في بعض
الوجوه ولعله نزغة اعتزالية، وأغرب بعضهم فقال. الإسناد مجازي
كيفما كان المرض، وحمل على أن المراد أنه ليس هنا من يزيدهم
مرضا حقيقة على رأي الشيخ عبد القاهر في أنه لا يلزم في
الإسناد المجازي أن يكون للفعل فاعل يكون الإسناد إليه حقيقة
مثل.
يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا
فتدبر، وإنما عدى سبحانه الزيادة إليهم لا إلى القلوب فلم يقل
فزادها إما ارتكابا لحذف المضاف- أي فزاد الله قلوبهم مرضا- أو
إشارة إلى أن مرض القلب مرض لسائر الجسد أو رمزا إلى أن القلب
هو النفس الناطقة ولولاها ما كان الإنسان إنسانا وإعادة مرض
منكرا لكونه مغايرا للأول ضرورة أن المزيد يغاير المزيد عليه،
وتوهم من زعم أنه من وضع المظهر موضع المضمر، والتنكير
للتفخيم، والأليم فعيل من الألم بمعنى مفعل كالسميع بمعنى
مسمع، وعلى ما ذهب إليه الزمخشري من ألم الثلاثي كوجيع من وجع،
وإسناده إلى العذاب مجاز على حد جد جده، ولم يثبت عنده فعيل
بمعنى مفعل وجعل بديع السماوات من باب الصفة المشبهة أي بديعة
سماواته، وسميع في قوله:
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع
بمعنى سامع- أي أمن ريحانة داع من قلبي سامع لدعاء داعيها-
بدليل ما بعده فإن أكثر القلق والأرق إنما يكون من دواعي النفس
وأفكارها فعلى هذا يكون تفسيره بمؤلم اسم فاعل بيان لحاصل
المعنى، وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما: كل شيء في القرآن أليم فهو موجع، وقد جمع للمنافقين
نوعان من العذاب عظيم، وأليم، وذلك للتخصيص بالذكر هنا
والاندراج مع الكفار هناك، قيل: وهذه الجملة معترضة لبيان وعيد
النفاق والخداع والباء إما للسببية أو للبدلية وبِما إما
مصدرية مؤولة بمصدر كان إن كان أو بمصدر متصيد من الخبر كالكذب
وإما موصولة، واستظهره أبو البقاء بأن الضمير المقدر عائد على
ما أورده في البحر بأنه لا يلزم أن يكون ثم مقدر بل من قرأ
يكذبون بالتخفيف وهم الكوفيون فالفعل غير متعد ومن قرأ
بالتشديد كنافع وابن كثير وأبي عمر فالمفعول محذوف لفهم المعنى
والتقدير بكونهم يكذبون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيما
جاء به، ويحتمل أن يكون المشدد في معنى المخفف للمبالغة في
الكيف كما قالوا في- بان الشيء وبين، وصدق وصدق- وقد يكون
التضعيف للزيادة في الكم- كموتت الإبل- ويحتمل أن يكون من كذب
الوحش إذا جرى ووقف لينظر ما وراءه، وتلك حال المتحير وهي حال
المنافق ففي الكلام حينئذ استعارة تبعية تمثيلية أو تبعية أو
تمثيلية ويشهد لهذا المعنى
قوله: صلّى الله عليه وسلّم «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة
بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة»
والجار والمجرور صفة لعذاب لا لأليم كما قاله أبو البقاء لأن
الأصل في الصفة أن لا توصف والكذب هو الأخبار عن الشيء النسبة
أو الموضوع على خلاف ما هو عليه في نفس الأمر عندنا، وفي
الاعتقاد عند النظام، وفيهما عند الجاحظ، وكل مقصود محمود يمكن
التواصل إليه بالصدق والكذب جميعا فالكذب فيه حرام لعدم الحاجة
إليه فإن لم يمكن إلا بالكذب فالكذب فيه مباح إن كان
(1/152)
تحصيل ذلك المقصود مباحا وواجب إن كان
واجبا، وصرح في الحديث بجوازه في ثلاث مواطن في الحرب، وإصلاح
ذات البين، وكذب الرجل لامرأته ليرضيها ولا حصر ولهذا جاز
تلقين الذين أقروا بالحدود الرجوع عن الإقرار فينبغي أن يقابل
بين مفسدة الكذب والمفسدة المترتبة على الصدق فإن كانت المفسدة
في الصدق أشد ضررا فله الكذب وإن كان عكسه أو شك حرم عليه، فما
قاله الإمام البيضاوي عفا الله تعالى عنه من أن الكذب حرام كله
يوشك أن يكون مما سها فيه. وفي الآية تحريض للمؤمنين على ما هم
عليه من الصدق والتصديق فإن المؤمن إذا سمع ترتب العذاب على
الكذب دون النفاق الذي هو هو تخيل في نفسه تغليظ اسم الكذب
وتصور سماجته فانزجر عنه أعظم انزجار، وهذا ظاهر على قراءة
التخفيف ويمكن في غيرها أيضا لأن نسبة الصادق إلى الكذب كذب،
وكذا كثرته وإن تكلف في المعنى الأخير، وقيل: إنه مأخوذ من كذب
المتعدي كأنه يكذب رأيه فيقف لينظر لكن لما كثر استعماله في
هذا المعنى وكانت حالة المنافق شبيهة بهذا جاز أن يستعار منه
لها أمكن- على بعد بعيد- ذلك التحريض، ولا يرد على تحريم
الكذب- في بعض وجوهه- ما
روي في حديث الشفاعة عن إبراهيم عليه السلام أنه يقول: «لست
لها إني كذبت ثلاث كذبات»
- وعنى كما في رواية أحمد- إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 89] وبَلْ
فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء: 63] وقوله الملك في جواب
سؤاله على امرأته سارة هي أختي حين أراد غضبها، وكان من طريق
السياسة التعرض لذات الأزواج دون غيرهن بدون رضاهن فإنها إن
كانت من الكذب المحرم فأين العصمة وهو أبو الأنبياء؟! وإن لم
تكن كذلك فقد أخبر يوم القيامة بخلاف الواقع وحاشاه حيث إن
المفهوم من ذلك الكلام أني أذنبت فأستحيي أن أشفع، وهي يستحي
مما لا إثم فيه ولقوة هذه الشبهة قطع الرازي بكذب الرواية
صيانة لساحة إبراهيم عليه السلام لأنا نقول إن ذلك من
المعاريض، وفيها مندوحة عن الكذب، وقد صدرت من سيد أولى العصمة
صلّى الله عليه وسلّم كقوله مما في حديث الهجرة، وتسميته كذبا
على سبيل الاستعارة للاشتراك في الصورة فهي من المعاريض
الصادقة كما ستراه بأحسن وجه إن شاء الله تعالى في موضعه لكنها
لما كانت مبنية على لين العريكة مع الأعداء، ومثله ممن تكفل
الله تعالى بحمايته يناسبه المبارزة- فلعدوله عن الأولى
بمقامه- عد ذلك في ذلك المقام ذنبا وسماه كذبا لكونه على صور
وما وقع لنبينا عليه الصلاة والسلام من ذلك لم يقع في مثل هذا
المقام حتى يستحيي منه فلكل مقام مقال، على أنا نقول: إنها لو
كانت كذبا حقيقة لا ضرر فيها ولا استحياء منها، كيف
وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «ما منها كذبة إلا جادل بها
عن دين الله تعالى فهي من الكذب المباح»
لكن لما كان مقام الشفاعة هو المقام المحمود المخبوء للحبيب لا
الخليل أظهر الاستحياء للدفع عنه بما يظن أنه مما يوجب ذلك وهو
لا يوجبه. وفي ذلك من التواضع وإظهار العجز والدفع بالتي هي
أحسن مما لا يخفى فكأنه قال: أنا لا آمن من العتاب على كذب
مباح فكيف لي بالشفاعة لكم في هذا المقام فليحفظ، ثم إن
الإتيان بالأفعال المضارعة في أخبار الأفعال الماضية الناقصة
أمر مستفيض- كأصبح يقول كذا، وكادت تزيغ قلوب فريق منهم-
ومعناه أنه في الماضي كان مستمرا متجددا بتعاقب الأمثال والمضي
والاستقبال بالنسبة لزمان الحكم، وقد عد الاستمرار من معاني
«كان» فلا إشكال في بِما كانُوا يَكْذِبُونَ حيث دلت «كان» على
انتساب الكذب إليهم في الماضي ويكذبون على انتسابه في الحال
والاستقبال والزمان فيهما مختلف ودفعه بأن «كان» دالة على
الاستمرار في جميع الأزمنة- ويكذبون- دل على الاستمرار التجددي
الداخل في جميع الأزمنة على علاته يغني الله تعالى عنه. وأمال
حمزة فزادهم في عشرة أفعال ووافقه ابن ذكوان في إمالة جاء وشاء
وزاد هذه، وعنه خلاف في زاد غيرها، والإمالة لتميم والتفخيم
للحجاز. وقد نظم أبو حيان تلك العشرة فقال:
(1/153)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ
مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ
وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا
كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ
السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا
يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا
آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا
مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ
يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ
بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا
مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ
نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ
بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ
كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ
يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ
حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ
لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
وعشرة أفعال تمال لحمزة ... فجاء وشاء ضاق
ران وكملا
بزاد وخاب طاب خاف معا وحا ... ق زاغ سوى الأحزاب مع صادها فلا
[البقرة: 11- 20] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ اختلف في هذه
الجملة فقيل معطوفة على- يكذبون- لأنه أقرب وليفيد تسببه
للعذاب أيضا وليؤذن أن صفة الفساد يحترز منها كما يحترز عن
الكذب. ووجه إفادته لتسبب الفساد للعذاب أنه داخل في حيز صلة
الموصول الواقع سببا إذ المعنى في قولهم: «إنما نحن مصلحون»
إنكار لادعائهم أن ما نسب لهم منه صلاح وهو عناد وإصرار على
الفساد والإصرار على ذلك فساد وإثم، وهذا الذي مال إليه
الزمخشري- وهو مبني على عدم الاحتياج إلى ضمير في الجملة- يعود
إلى «ما» فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع وإلا
يكون التقدير- ولهم عذاب أليم- بالذي كانوا إذا قيل لهم إلخ
وهو غير منتظم وكأن من يجعل «ما» مصدرية يجعل الوصل «بكان» حيث
لم يعهد وصلها بالجملة الشرطية نعم يرد أن قوله تعالى: إِنَّما
نَحْنُ مُصْلِحُونَ كذب فيؤول المعنى إلى استحقاق العذاب
بالكذب وعطف التفسير مما يأباه الذوق والاستعمال (1) ومن هنا
قيل: بأن هذا العطف وجيه على قراءة يكذبون بالتشديد على أحد
احتمالاته ليكون سببا للجمع بين ذمهم بالكذب والتكذيب. وقول
مولانا مفتي الديار الرومية في الاعتراض: أن هذا النحو من
التعليل حقه أن يكون بأوصاف ظاهرة العلية مسلمة الثبوت للموصوف
غنية عن البيان لشهرة الاتصاف بها عند السامع أو لسبق الذكر
صريحا أو استلزاما، ولا ريب في أن هذه الشرطية غير معلومة
الانتساب بوجه- حتى تستحق الانتظام في سلك التعليل- لا يخفى ما
فيه على من أمعن النظر، وقيل: معطوفة على يقول لسلامته مما في
ذلك العطف من الدغدغة ولتكون الآيات حينئذ على نمط تعديد
قبائحهم وإفادتها اتصافهم بكل من تلك الأوصاف استقلالا وقصدا
ودلالتها على لحوق
__________
(1) فقد قالوا عطف التفسير بالواو في الجمل خلاف الظاهر اهـ
منه.
(1/154)
العذاب بسبب كذبهم الذي هو أدنى أحوالهم
فما ظنك بسائرها؟ ولكون هذا الماضي لمكان إذا مستقبلا حسن
العطف، وفيه أن مآل هذه الجملة الكذب كما أشير إليه فلا تغاير
سابقها ولو سلم التغاير بالاعتبار وضم القيود فهي جزء الصلة أو
الصفة وكلاهما يقتضي عدم الاستقلال، وأيضا كون ذلك الكذب أدنى
أحوالهم لا يقبل عند من له أدنى عقل على أن تخلل البيان
والاستئناف وإن لم يكن أجنبيا بين أجزاء الصلة أو الصفة لا
يخلو عن استهجان فالذي أميل إليه وأعول دون هذين الأمرين عليه
ما اختاره المدقق في الكشف، وقريب منه كلام أبي حيان في البحر
أنها معطوفة على قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لبيان
حالهم في ادعاء الإيمان وكذبهم فيه أولا ثم بيان حالهم في
انهماكهم في باطلهم ورؤية القبيح حسنا والفساد صلاحا ثانيا،
ويجعل المعتمد بالعطف مجموع الأحوال وإن لزم فيه عطف الفعلية
على الاسمية فهو أرجح بحسب السياق ونمط تعديد القبائح، وما قيل
عليه إنه ليس مما يعتد به وإن توهم كونه أو في بتأدية هذه
المعاني وذلك لعدم دلالته على اندراج هذه الصفة وما بعدها في
قصة المنافقين وبيان أحوالهم إذ لا يحسن حينئذ عود الضمائر
التي فيها إليهم- كما يشهد به سلامة الفطرة لمن له أدنى دربة
بأساليب الكلام- كلام خارج عن دائرة الإنصاف كما يشهد به سلامة
الفطرة من داء التعصب والاعتساف فإن عود الضمائر رابط للصفات
بهم وسوق الكلام مناد عليه، وقد يأتي في القصة الواحدة جملة
مستأنفة بغير عطف فإذا لم ينافه الاستئناف رأسا كيف ينافيه
العطف على أوله المستأنف، والعطف إنما يقتضي مغايرة الأحوال لا
مغايرة القصص وأصحابها وما أخرجه ابن جرير عن سلمان رضي الله
تعالى عنه- من أن أهل هذه الآية لم يأتوا بعد- ليس المراد به
أنها مخصوصة بقوم آخرين كما يشعر به الظاهر بل إنها لا تختص
بمن كان من المنافقين وإن نزلت فيهم إذ خصوص السبب لا ينافي
عموم النظم. ثم القائل للمنافقين في عصر النزول هذا القول إما
النبي صلّى الله عليه وسلّم تبليغا عن الله سبحانه المخبر له
بنفاقهم أو أنه عليه الصلاة والسلام بلغه عنهم ذلك ولم يقطع به
فنصحهم فأجابوه بما أجابوه أو بعض المؤمنين الظانين بهم
المتفرسين بنور الإيمان فيهم أو بعض من كانوا يلقون إليه
الفساد فلا يقبله منهم لأمر ما فينقلب واعظا لهم قائلا لا
تُفْسِدُوا، والفساد التغير عن حالة الاعتدال والاستقامة
ونقيضه الصلاح، والمعنى لا تفعلوا ما يؤدي إلى الفساد- وهو هنا
الكفر كما قاله ابن عباس- أو المعاصي- كما قاله أبو العالية-
أو النفاق الذي صافوا به الكفار فأطلعوهم على أسرار المؤمنين
فإن كل ذلك يؤدي- ولو بالوسائط- إلى خراب الأرض وقلة الخير
ونزع البركة وتعطل المنافع، وإذا كان القائل بعض من كانوا
يلقون إليه الفساد فلا يقبله ممن شاركهم في الكفر يحمل الفساد
على هيج الحروب والفتن الموجب لانتفاء الاستقامة ومشغولية
الناس بعضهم ببعض فيهلك الحرث والنسل. ولعل النهي عن ذلك لخور
أو تأمل في العاقبة وإراحة النفس عما ضرره أكبر من نفعه مما
تميل إليه الحذاق. على أن في أذهان كثير من الكفار إذ ذاك توقع
ما يغني عن القتال من وقوع مكروه بالمؤمنين وَيَأْبَى اللَّهُ
إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة: 32] ، ولا يخفى ما في
هذا الوجه من التكلف والمراد من- الأرض- جنسها أو المدينة
المنورة، والحمل على جميع الأرض ليس بشيء إذ تعريف المفرد يفيد
استيعاب الأفراد لا الأجزاء، اللهم إلا أن يعتبر كل بقعة أرضا،
لكن يبقى أنه لا معنى للحمل على الاستغراق باعتبار تحقق الحكم
في فرد واحد وليس ذكر الأرض لمجرد التأكيد بل في ذلك تنبيه على
أن الفساد واقع في دار مملوكة لمنعم أسكنكم بها وخولكم بنعمها.
وأقبح خلق الله من بات عاصيا ... لمن بات في نعمائه يتقلب
وإنما للحصر كما جرى عليه بعض النحويين وأهل الأصول، واختار في
البحر أن الحصر يفهم من السياق ولم تدل عليه وضعا، وجعل القول
بكونها مركبة من «ما» النافية دخل عليها «أن» التي للإثبات
فأفادت الحصر قولا ركيكا
(1/155)
صادر عن غير عارف بالنحو. ومعنى إِنَّما
نَحْنُ مُصْلِحُونَ مقصورون على الإصلاح المحض الذي لم يشبه
شيء من وجوه الفساد وقد بلغ في الوضوح بحيث لا ينبغي أن يرتاب
فيه، والقصر إما قصر إفراد أو قلب وهذا إما ناشىء عن جهل مركب
فاعتقدوا الفساد صلاحا فأصروا واستكبروا استكبارا.
يقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
وإما جار على عادتهم في الكذب وقولهم بأفواههم ما ليس في
قلوبهم، وقرأ هشام والكسائي «قيل» بإشمام الضم ليكون دالا على
الواو المنقلبة، وقول: بإخلاص الضم وسكون الواو لغة لهذيل ولم
يقرأ بها.
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ رد
لدعواهم المحكية على أبلغ وجه حيث سلك فيه مسلك الاستئناف
المؤدي إلى زيادة تمكن الحكم في ذهن السامع مع تأكيد الحكم
وتحقيقه «بأن، وألا» بناء على تركبها من همزة الاستفهام
الإنكاري الذي هو نفي معنى «ولا» النافية فهو نفي نفي فيفيد
الإثبات بطريق برهاني أبلغ من غيره- ولإفادتها التحقيق- كما
قال ناصر الدين: لا يكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بما يتلقى
به القسم «كان، واللام، وحرف النفي» والذي ارتضاه الكثير أنها
بسيطة لا لأنها تدخل على أن المشددة ولا النافية لا تدخل عليها
إذ قد يقال: انفسخ بعد التركيب حكمها الأصلي بل لأن الأصل
البساطة، ودعوى لا يكاد إلخ لا تكاد تسلم كيف وقد دخلت على رب
وحبذا ويا النداء في- ألا رب يوم صالح لك منهما- وألا حبذا هند
وأرض بها هند- وألا يا قيس والضحاك سيرا- وضم إلى ذلك تعريف
الخبر وتوسيط الفصل وأشار ب لا يَشْعُرُونَ على وجه إلى أن
كونهم من المفسدين قد ظهر ظهور المحسوس بالمشاعر وإن لم
يدركوه، وأتى سبحانه بالاستدراك هنا ولم يأت به بعد المخادعة
لأن المخادعة هناك لم يتقدمها ما يتوهم منه الشعور توهما يقتضي
تعقيبه بالرفع بخلاف ما هنا فإنهم لما نهوا عما تعاطوه من
الفساد الذي لا يخفى على ذوي العقول فأجابوه بادعاء أنهم على
خلافه، وأخبر سبحانه بفسادهم كانوا حقيقين بالعلم به مع أنهم
ليسوا كذلك فكان محلا للاستدراك. وما يقال: من أنه لا ذمّ على
من أفسد ولم يعلم وإنما الذم على من أفسد عن علم، يدفعه أن
المقصر في العلم مع التمكن منه مذموم بلا ريب بل ربما يقال:
إنه أسوأ حالا من غيره، وهذا كله على تقدير أن يكون مفعول لا
يَشْعُرُونَ محذوفا مقدرا بأنهم مفسدون، ويحتمل أن يقدر أن
وبال ذلك الفساد يرجع إليهم، أو أنا نعلم أنهم مفسدون ويكون
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ لإفادة لازم فائدة الخبر
بناء على أنهم عالمون بالخبر جاحدون له كما هو عادتهم
المستمرة، ويبعد هذا إذا كان المنافقون أهل كتاب، ويحتمل أن لا
ينوي محذوف وهو أبلغ في الذم. وفيه مزيد تسلية له صلّى الله
عليه وسلّم إذ من كان من أهل الجهل لا ينبغي للعالم أن يكترث
بمخالفته، وفي التأويلات- لعلم الهدى- إن هذه الآية حجة على
المعتزلة في أن التكليف لا يتوجه بدون العلم بالمكلف به وأن
الحجة لا تلزم بدون المعرفة فإن الله تعالى أخبر أن ما صنعوا
من النفاق إفساد منهم مع عدم العلم فلو كان حقيقة العلم شرطا
للتكليف ولا علم لهم به لم يكن صنيعهم إفسادا لأن الإفساد
ارتكاب المنهي عنه فإذا لم يكن النهي قائما عليهم عن النفاق لم
يكن فعلهم إفسادا فحيث كان إفسادا دل على أن التكليف يعتمد
قيام آلة العلم والتمكن من المعرفة لا حقيقة المعرفة فيكون حجة
عليهم. وهذه المسألة متفرعة على مسألة مقارنة القدرة للفعل
وعدمها، وأنت تعلم أنه مع قيام الاحتمال يقعد على العجز
الاستدلال وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ
إشارة إلى التحلية بالحاء المهملة- كما أن لا تفسدوا إشارة إلى
التخلية بالخاء المعجمة- ولذا قدم، وليس هنا ما يدل على أن
الأعمال داخلة في كمال الإيمان أو في حقيقته- كما قيل- لأن
اعتبار ترك الفساد لدلالته على التكذيب المنافي للإيمان وحذف
المؤمن به لظهوره أو أريد افعلوا الإيمان و «الكاف» في موضع
نصب، وأكثر النحاة يجعلونها نعتا
(1/156)
لمصدر محذوف- أي إيمانا كما آمن الناس-
وسيبويه لا يجوّز حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في هذا
الموضع ويجعلها منصوبة على الحال من المصدر المضمر المفهوم من
الفعل ولم تجعل متعلقة بآمنوا والظرف لغو بناء على أن الكاف لا
تكون كذلك و «ما» إما مصدرية أو كافة ولم تجعل موصولة لما فيه
من التكلف، والمعنى على المصدرية آمنوا إيمانا مشابها لإيمان
الناس، وعلى الكف حققوا إيمانكم كما تحقق إيمان الناس وذلك بأن
يكون مقرونا بالإخلاص خالصا عن شوائب النفاق، والمراد من الناس
الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين مطلقا-
كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وهم نصب
عين أولى الغين، وملتفت خواطرهم لتأملهم منهم، وقد مر ذكرهم
أيضا لدخولهم دخولا أوليا في الذين آمنوا فالعهد
خارجي، أو خارجي ذكرى، أو من آمن من أبناء جنسهم- كعبد الله بن
سلام- كما قاله جماعة من وجوه الصحابة، أو المراد الكاملون في
الإنسانية الذين يعد من عداهم في عداد البهائم في فقد التمييز
بين الحق والباطل، فاللام إما للجنس أو للاستغراق.
واستدل بالآية على أن الإقرار باللسان إيمان وإلا لم يفد
التقييد، وكونه للترغيب يأباه إيرادهم التشبيه في الجواب،
والجواب عنه بعد إمكان معارضته بقوله تعالى وَما هُمْ
بِمُؤْمِنِينَ أنه لا خلاف في جواز إطلاق الإيمان على التصديق
اللساني لكن من حيث إنه ترجمة عما في القلب أقيم مقامه إنما
النزاع في كونه مسمى الإيمان في نفسه ووضع الشارع إياه له مع
قطع النظر عما في الضمير على ما بين لك في محله، ولما طلب من
المنافق الإيمان دل ذلك على قبول توبة الزنديق.
فإن لا يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها
نعم إن كان معروفا بالزندقة داعيا إليها ولم يتب قبل الأخذ قتل
كالساحر ولم تقبل توبته كما أفتى به جمع من المحققين.
قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أرادوا لا يكون ذلك
أصلا فالهمزة للإنكار الإبطالي- وعنوا بالسفهاء إما أولئك
الناس المتقدمين أو الجنس (1) بأسره وأولئك الكرام والعقلاء
الفخام داخلون فيه بزعمهم الفاسد دخولا أوليا وأبعد من ذهب إلى
أن اللام للصفة الغالبة كما في العيوق لأنه لم يغلب هذا الوصف
على أناس مخصوصين إلّا أن يدعي غلبته فيما بينهم قاتلهم الله
أنى يؤفكون- والسفه- الخفة والتحرك والاضطراب، وشاع في نقصان
العقل والرأي وإنما سفهوهم جهلا منهم حيث اشتغلوا بما لا يجدي
في زعمهم ويحتمل أن يكون ذلك من باب التجلد حذرا من الشماتة إن
فسر الناس بمن آمن منهم، واليهود قوم بهت، وقد استشكل هذه
الآية كثير من العلماء بأنه إذا كان القائل المؤمنين- كما هو
الظاهر- والمجيب المنافقين يلزم أن يكونوا مظهرين للكفر إذا
لقوا المؤمنين فأين النفاق وهو المفهوم من السباق والسياق؟
وأجيب بأن هذا الجواب كان فيما بينهم وحكاه الله تعالى عنهم
ورده عليهم، وليس الجواب ما يقال مواجهة فقط فقد استفاض من
الخلف إطلاق لفظ الجواب على رد كلام السلف مع بعد العهد من غير
نكير، وقيل: «إذا» هنا بمعنى لو تحقيقا لإبطانهم الكفر وأنهم
على حال تقتضي أنهم لو قيل لهم كذا قالوا كذا- كما قيل مثله في
قوله- وإذا ما لمته لمته وحدي، وقيل: إنه كان بحضرة المسلمين
لكن مسارّة بينهم وأظهره عالم السر والنجوى، وقيل: كان عند من
لم يفش سرهم من المؤمنين لقرابة أو لمصلحة ما، وذكر مولانا
مفتي الديار الرومية أن الحق الذي لا محيد عنه أن قولهم هذا
وإن صدر بمحضر من الناصحين لا يقتضي كونهم من المجاهرين
__________
(1) أي جنس السفيه على ما يريد به بعض الأصوليين من بطلان
الجمعية أو جنس السفهاء بوصف الجمعية على ما هو قانون العربية
اهـ منه.
(1/157)
فإنه ضرب من الكفر أنيق وفن في النفاق عريق
لأنه كلام محتمل للشر- كما ذكره في تفسيره- وللخير بأن يحمل
على ادعاء الإيمان كإيمان الناس وإنكار ما اتهموا به من النفاق
على معنى- أنؤمن كما آمن السفهاء والمجانين الذين لا اعتداد
بإيمانهم لو آمنوا- ولا نؤمن كإيمان الناس حتى تأمرونا بذلك،
وقد خاطبوا به الناصحين استهزاء بهم مرائين لإرادة المعنى
الأخير وهم معولون على الأول، والشرع ينظر للظاهر وعند الله
تعالى علم السرائر، ولهذا سكت المؤمنون ورد الله سبحانه عليهم
ما كانوا يسرون، فالكلام كناية عن كمال إيمانهم وليكن في قلب
تلك الكناية نكاية فهو على مشاكلة قولهم اسْمَعْ غَيْرَ
مُسْمَعٍ [النساء: 46] في احتمال الشر والخير ولذلك نهى عنه،
وجعل رحمه الله تعالى قوله تعالى في الحكاية عنهم إِنَّما
نَحْنُ مُصْلِحُونَ من هذا القبيل أيضا، وإلى ذلك مال مولانا
الشهاب الخفاجي وادعى أنه من بنات أفكاره، وعندي أنه ليس بشيء
لأن أَنُؤْمِنُ لإنكار الفعل في الحال وقولهم كَما آمَنَ
السُّفَهاءُ بصيغة الماضي صريح في نسبتهم السفاهة إلى المؤمنين
لإيمانهم فلا تورية ولا نفاق، ولعله لما رأى صيغة الماضي زاد
في بيان المعنى لو آمنوا، ولا أدري من أين أتى به. ولا يصلح
العطّار ما أفسد الدهر. فالأهون بعض هاتيك الوجوه، وقوله: إن
إبراز ما صدر عن أحد المتحاورين في الخلاء في معرض ما جرى
بينهما في مقام المحاورة مما لا عهد به في الكلام- فضلا عما هو
في منصب الإعجاز لا يخفى ما فيه- على من اطلع على محاورات
الناس قديما وحديثا وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي
السَّبِيلَ [الأحزاب: 4] أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ
وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ رد وأشنع تجهيل حسبما أشير إليه فيما
سلف، وإنما قال سبحانه هنا: لا يَعْلَمُونَ وهناك لا
يَشْعُرُونَ لأن المثبت لهم هناك هو الإفساد وهو مما يدرك
بأدنى تأمل ولا يحتاج إلى كثير فكر، فنفى عنهم ما يدرك
بالمشاعر مبالغة في تجهيلهم، والمثبت هنا السفه والمصدر به
الأمر بالإيمان وذلك مما يحتاج إلى نظر تام يفضي إلى الإيمان
والتصديق ولم يقع منهم المأمور به فناسب ذلك نفي العلم عنهم،
ولأن السفه خفة العقل والجهل بالأمور- على ما قيل- فيناسبه أتم
مناسبة نفي العلم، وهذا مبني على ما هو الظاهر في المفعول وعلى
غير الظاهر غير ظاهر فتدبر. ثم اعلم أنه إذا التقت الهمزتان
والأولى مضمومة والثانية مفتوحة من كلمتين نحو السفهاء، ألا
ففي ذلك أوجه، تحقيق الهمزتين وبذلك قرأ الكوفيون وابن عامر
وتحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واوا وبذلك قرأ
الحرميان وأبو عمرو، وتسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو.
وتحقيق الثانية وتسهيل الأولى وإبدال الثانية واوا، وأجاز قوم
جعل الهمزتين بين بين ومنعه آخرون.
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا بيان لدأب
المنافقين وأنهم إذا استقبلوا المؤمنين دفعوهم عن أنفسهم
بقولهم آمنا استهزاء فلا يتوهم أنه مكرر مع أول القصة لأنه
إبداء لخبثهم ومكرهم وكشف عن إفراطهم في الدعارة وادعاء أنهم
مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وأنهم أحاطوه من جانبيه على
أنه لو لم يكن هذا لا ينبغي أن يتوهم تكرار أيضا لأن المعنى-
ومن الناس من يتفوه بالإيمان نفاقا للخداع- وذلك التفوّه عند
لقاء المؤمنين وليس هذا من التكرار بشيء لما فيه من التقييد
وزيادة البيان وأنهم ضموا إلى الخداع الاستهزاء، وأنهم لا
يتفوهون بذلك إلا عند الحاجة، والقول بأن المراد ب آمَنَّا
أولا الإخبار عن إحداث الإيمان وهنا عن إحداث إخلاص الإيمان
مما ارتضاه الإمام- ولا أقتدي به- وتأييده له بأن الإقرار
اللساني كان معلوما منهم غير محتاج للبيان وإنما المشكوك
الإخلاص القلبي- فيجب إرادته- يدفعه النظر من ذي ذوق فيما
حررناه، واللقاء استقبال الشخص قريبا منه وهو أحد أربعة عشر
(1) مصدرا للقي، وقرأ أبو
__________
(1) وهي لقيا ولقية ولقاء ولقاة ولقاء ولقي ولقي ولقيا ولقيا
ولقيانا ولقيانة وتلقاء اهـ منه.
(1/158)
حنيفة وابن السميقع لاقوا، وجعله في البحر
بمعنى الفعل المجرد، وحذف المفعول في آمنا قيل اكتفاء بالتقييد
قيل بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وقيل: المراد آمنا بما
آمنتم به، وأبعد من قال أرادوا الإيمان بموسى عليه السلام دون
غيره وحذفوا تورية منهم وإيهاما: هذا ولم يصح عندي في سبب نزول
هذه الآية شيء، وأما ما ذكره الزمخشري والبيضاوي ومولانا مفتي
الديار الرومية وغيرهم فهو من طريق السدي الصغير وهو كذاب،
وتلك السلسلة سلسلة الكذب لا سلسلة الذهب، وآثار الوجه لائحة
على ما ذكروه فلا يعول عليه ولا يلتفت بوجه إليه وَإِذا
خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ من خلوت به، وإليه إذا انفردت معه
أو من قولهم في المثل: اطلب الأمر وخلاك ذم- أي عداك- ومضى عنك
ومنه قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران: 137] وعلى
الثاني المفعول الأول هاهنا محذوف لعدم تعلق الغرض به أي إذا
خلوهم، وتعديته إلى المفعول الثاني إِلى لما في المضي عن الشيء
معنى الوصول إلى الآخر واحتمال أن يكون من خلوت به أي سخرت
منه، فمعنى الآية إذا أنهوا السخرية معهم وحدثوهم كما يقال
أحمد إليك فلانا وأذمه إليك مما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام رب
العزة وإن ذكره الزمخشري والبيضاوي وغيرهما إذ لم يقع صريحا-
خلا- بمعنى سخر في كلام من يوثق به، وقولهم: خلا فلان بعرض
فلان يعبث به ليس بالصريح إذ يجوز أن يكون خلا على حقيقته أو
بمعنى تمكن منه على ما قيل، والدال على السخرية يعبث به، وزعم
النضر بن شميل أن إِلى هنا بمعنى مع ولا دليل عليه كالقول
بأنها بمعنى الباء على أن سيبويه والخليل لا يقولان بنيابة
الحرف عن الحرف، نعم إن الخلوة كما في التاج تستعمل ب «إلى،
والباء، ومع» بمعنى واحد ويفهم من كلام الراغب أن أصل معنى
الخلو فراغ المكان والحيز عن شاغل وكذا الزمان وليس بمعنى
المضي، وإذا أريد به ذلك كان مجازا وظاهر كلام غيره أنه حقيقة.
وضعيفان يغلبان قويا. والمراد ب شَياطِينِهِمْ من كانوا
يأمرونهم بالتكذيب من اليهود- كما قاله ابن عباس- أو كهنتهم
كما قاله الضحاك وجماعة- وسموا بذلك لتمردهم وتحسينهم القبيح
وتقبيحهم الحسن أو لأن قرناءهم الشياطين إن فسروا بالكهنة-
وكان على عهده صلى الله تعالى عليه وسلم كثير منهم- ككعب بن
الأشرف من بني قريظة، وأبي بردة من بني أسلم، وعبد الدار في
جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وابن السوداء في الشام.
وحمله على شياطين الجن- كما قاله الكلبي- مما لا يختلج بقلبي،
والشياطين جمع تكسير وإجراؤه مجرى الصحيح- كما في بعض الشواذ-
تنزلت به الشياطون لغة غريبة جدا والمفرد شيطان وهو فيعال عند
البصريين فنونه أصلية من شطن أي بعد لبعده عن امتثال الأمر
ويدل عليه تشيطن وإلا لسقطت، واحتمال أخذه من الشيطان لا من
أصله على أن المعنى فعل فعله خلاف الظاهر، وعند الكوفيين وزنه
فعلان فنونه زائدة من شاط يشيط إذا هلك أو بطل أو احترق غضبا
والأنثى شيطانة وأنشد في البحر:
هي البازل الكوماء لا شيء غيرها ... وشيطانة قد جن منها جنونها
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن الشيطان كل متمرد
من الجن والإنس والدواب» .
قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ أي معية معنوية وهي مساواتهم لهم في
اعتقاد اليهودية وهو أم الخبائث، وأتى بالجملة الفعلية الدالة
على الحدوث مع ترك التأكيد فيما ألقى على المؤمنين المنكرين
لما هم عليه أو المتمردين، وبالجملة الثبوتية مع التأكيد فيما
ألقى إلى شياطينهم الذين ليسوا كذلك لأنهم في الأول بصدد دعوى
إحداث الإيمان ولم ينظروا هنا لإنكار أحد وتردده إيهاما منهم
أنهم بمرتبة لا ينبغي أن يتردد في إيمانهم ليؤكدوا لعله أن يتم
لهم مرامهم بذلك في زعمهم وفي الثاني بصدد إفادة الثبات دفعا
لما يختلج بخواطر شياطينهم من مخالطة المؤمنين ومخاطبتهم
بالإيمان، وقيل: إلى التأكيد كما يكون لإزالة الإنكار والشك
يكون لصدق الرغبة وتركه كما يكون لعدم ذلك يكون
(1/159)
لعدم اعتناء المتكلم فللرغبة أكدوا ولعدمها
تركوا، أو لأنهم لو قالوا إنا مؤمنون كان ادعاء لكمال الإيمان
وثباته، وهو لا يروج عند المؤمنين مع ما هم عليه من الرزانة
وحدة الذكاء ولا كذلك شياطينهم، وعندي أن الوجه هو الأول إذ
يرد على الأخيرين قوله تعالى فيما حكي عنهم: نَشْهَدُ إِنَّكَ
لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون: 1] إلا أن يقال إنهم أظهروا
الرغبة هناك وتبالهوا عن عدم الرواج لغرض ما من الأغراض
والأحوال شتى، والعوارض كثيرة ولهذا قيل: إنهم للتقية والخداع،
ودعوى أنهم مثل المؤمنين في الإيمان- ليجروا عليهم أحكامهم
ويعفوهم عن المحاربة- أكدوا بالباء فيما تقدم حيث قالوا
بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ. والقول بأن الفرق بين آية
الشهادة وآية الإيمان هنا ظاهر لأنهم لو قالوا إنا لمؤمنون
لكانوا ملتزمين أمرين: رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم، ووجوب
إيمانهم به بخلاف آية الشهادة فإن فيها التزام الأول ولا يلزم
من عدم الرغبة في أمرين عدمها في أحدهما ظاهر الركاكة للمنصفين
كما لا يخفى، وقرأ الجمهور مَعَكُمْ بتحريك العين وقرىء شاذا
بسكونها وهي لغة ربيعة وغنم إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ.
الاستهزاء: الاستخفاف والسخرية، واستفعل بمعنى فعل تقول هزأت
به واستهزأت بمعنى كاستعجب وعجب، وذكر حجة الإسلام الغزالي أن
الاستهزاء الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص
على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول
وبالإشارة والإيماء، وأرادوا مستخفون بالمؤمنين. وأصل هذه
المادة الخفة يقال: ناقته تهزأ به أي تسرع وتخف- وقول الرازي
إنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطال ما يجري مجرى السوء على
طريق السخرية- غير موافق للغة والعرف. والجملة إما استئناف
فكأن الشياطين قالوا لهم- لما قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إن صح
ذلك- فما بالكم توافقون المؤمنين- فأجابوا بذلك. أو بدل من إنا
معكم، وهل هو بدل اشتمال، أو كل، أو بعض؟ خلاف، أما الأول فلأن
هذه الجملة تفيد ما تفيده الأولى وهو الثبات على اليهودية لأن
المستهزئ بالشيء مصر على خلافه وزيادة وهو تعظيم الكفر المفيد،
لدفع شبهة المخالطة وتصلبهم في الكفر فيكون بدل اشتمال.
«وأما الثاني» وبه قال السعد: فللتساوي من حيث الصدق ولا يقتضي
التساوي من حيث المدلول، وأما الثالث فلأن كونهم معهم عام في
المعية الشاملة للاستهزاء والسخرية وغير ذلك، أو تأكيد لما
قبله بأن يقال: إن مدعاهم بأنا معكم الثبات على الكفر وإنما
«نحن مستهزئون» لاستلزامه رد الإسلام ونفيه يكون مقررا للثبات
عليه إذ رفع نقيض الشيء تأكيد لثباته لئلا يلزم ارتفاع
النقيضين، أو يقال يلزم إِنَّا مَعَكُمْ إنا نوهم أصحاب محمد
صلى الله تعالى عليه وسلم الإيمان فيكون الاستخفاف بهم وبدينهم
تأكيدا باعتبار ذلك اللازم، وأولى الأوجه- عند المحققين-
الاستئناف لولا ما ذكره الشيخ في دلائل الإعجاز من أن موضوع
إِنَّما أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته فإنه
يقتضي أن تقدير السؤال هنا أمر مرجوح ولعل الأمر فيه سهل،
وقرىء مُسْتَهْزِؤُنَ بتخفيف الهمزة وبقلبها ياء مضمومة، ومنهم
من يحذف الياء فتضم الزاي اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ حمل أهل
الحديث وطائفة من أهل التأويل الاستهزاء منه تعالى على حقيقته
وإن لم يكن المستهزئ من أسمائه سبحانه، وقالوا: إنه التحقير
على وجه من شأنه أن من اطلع عليه يتعجب منه ويضحك ولا استحالة
في وقوع ذلك منه عز شأنه ومنعه من قياس الغائب على الشاهد،
وذهب أكثر الناس إلى أنه لا يوصف به- جل وعلا- حقيقة لما فيه
من تقرير بالمستهزأ به على الجهل الذي فيه، ومقتضى الحكمة
والرحمة أن يريه الصواب فإن كان عنده أنه ليس متصفا بالمستهزأ
به فهو لعب لا يليق بكبريائه تعالى، فالآية على هذا مؤولة إما
بأن يراد بالاستهزاء جزاؤه لما بين الفعل وجزائه من مشابهة في
القدر وملابسة قوية ونوع سببية مع وجود المشاكلة المحسنة
هاهنا، ففي الكلام استعارة تبعية أو مجاز مرسل، وإما بأن يراد
به إنزال الحقارة، والهوان فهو مجاز عما هو بمنزلة الغاية له
فيكون من إطلاق المسبب على السبب نظرا إلى التصور وبالعكس
(1/160)
نظرا إلى الوجود، وإما بأن يجعل الله-
تعالى وتقدس- كالمستهزىء بهم على سبيل الاستعارة المكنية
وإثبات الاستهزاء له تخييلا، ورب شيء يصح تبعا ولا يصح قصدا
وله سبحانه أن يطلق على ذاته المقدسة ما يشاء تفهيما للعباد.
وقد يقال إن الآية جارية على سبيل التمثيل والمراد يعاملهم
سبحانه معاملة المستهزئ: إما في الدنيا بإجراء أحكام الإسلام
واستدراجهم من حيث لا يعلمون، وإما في الآخرة بأن يفتح لأحدهم
باب إلى الجنة فيقال:- هلم هلم- فيجيء بكربه وغمه فإذا جاء
أغلق دونه، ثم يفتح له باب آخر فيقال: هلم هلم- فيجيء بكربه
وغمه فإذا أتاه أغلق دونه فما يزال كذلك حتى أن الرجل ليفتح له
باب فيقال:- هلم هلم- فما يأتيه، وقد روي ذلك بسند مرسل جيد
الإسناد في المستهزئين بالناس، وأسند سبحانه الاستهزاء إليه
مصدرا الجملة بذكره للتنبيه على أن الاستهزاء بالمنافقين هو
الاستهزاء الأبلغ الذي لا اعتداد معه باستهزائهم لصدوره عمن
يضمحل علمهم وقدرتهم في جانب علمه وقدرته وأنه تعالى كفى عباده
المؤمنين وانتقم لهم وما أحوجهم إلى معارضة المنافقين تعظيما
لشأنهم لأنهم ما استهزىء بهم إلا فيه ولا أحد أغير من الله
سبحانه، وترك العطف لأنه الأصل وليس في الجملة السابقة ما يصح
عطف هذا القول عليه إلا بتكلف وبعد، وقيل: ليكون إيراد الكلام
على وجه يكون جوابا عن السؤال عن معاملة الله تعالى معهم في
مقابلة معاملتهم هذه مع المؤمنين، وقولهم إِنَّما نَحْنُ
مُسْتَهْزِؤُنَ إشعار بأن ما حكي من الشناعة بحيث يقتضي ظهور
غيرة الله تعالى ويسأل كل أحد عن كيفية انتقامه منهم ويشعر
كلام بعض المحققين أنه لو ورد هذا القول بالعطف ولو على محذوف
مناسب للمقام- كهم مستهزئون- بالمؤمنين لأفاد أن ذلك في مقابلة
استهزائهم فلا يفيد أن الله تعالى أغنى المؤمنين عن معارضتهم
مطلقا وأنه تولى مجازاتهم مطلقا بل يوهم تخصيص التولي بهذه
المجازاة، وأيضا لكون استهزاء الله تعالى- بمكان بعيد من
استهزائهم إلى حيث لا مناسبة بينهما- يكون العطف كعطف أمرين
غير متناسبين، وبعضهم رتب الفائدتين اللتين ذكرناهما في
الإسناد إليه تعالى على الاستئناف مدعيا أنه لو عطف- ولو بحسب
التوهم- على مقدر بأن يقال المؤمنون مستهزؤون بهم والله
يستهزىء بهم لفاتت الفائدتان هذا، ولعل ما ذكرناه أسلم من
القيل والقال وأبعد عن مظان الاستشكال فتدبر، وعدل سبحانه عن-
الله مستهزىء
بهم المطابق لقولهم- إلى قوله اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ
لإفادته التجدد الاستمراري وهو أبلغ مع الاستمرار الثبوتي الذي
تفيده الاسمية لأن البلاء إذا استمر قد يهون وتألفه النفس كما
قيل: (1)
خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب
باكيا
وقد كانت نكايات الله تعالى فيهم ونزول الآيات في شأنهم أمرا
متجددا مستمرا أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي
كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ [التوبة: 126] يَحْذَرُ
الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ
تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ
اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ [التوبة: 64] وهذا نوع من
العذاب الأدنى «ولعذاب الآخرة أشد لو كانوا يعلمون» (2) وصرح
بالمستهزأ به هنا ليكون الاستهزاء بهم نصا وإنما تركه
المنافقون فيما حكي عنهم خوفا من وصوله للمؤمنين فأبقوا اللفظ
محتملا ليكون لهم مجال في الذب إذا حوققوا فجعل الله تعالى-
كلمة الذين كفروا السفلى وكلمته هي العليا- وَيَمُدُّهُمْ فِي
طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
معطوف على قوله سبحانه وتعالى: يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ كالبيان له
على رأي، والمدّ من مد الجيش وأمده بمعنى
__________
(1) هو المتنبي.
(2) نص الآية 127 من سورة طه: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ
وَأَبْقى وفي الزمر والقلم: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ
(1/161)
أي ألحق به ما يقويه ويكثره، وقيل: مد زاد
من الجنس وأمد زاد من غير الجنس، وقيل: مد في الشراء وأمد في
الخير عكس وعد وأوعد، وإذا استعمل أمد في الشر فلعله من باب
فبشرهم بعذاب أليم، وقد ورد استعمال هذه المادة بمعنيين،
أحدهما ما ذكرنا، وثانيهما الإمهال، ومنه مد العمر، والواقع
هنا من الأول دون الثاني لوجهين، الأول أنه روي عن ابن كثير من
غير السبعة يَمُدُّهُمْ بالضم من المزيد وهو لم يسمع في
الثاني، والثاني أنه متعد بنفسه والآخر متعد باللام والحذف
والإيصال خلاف الأصل فلا يرتكب بغير داع فمعنى يَمُدُّهُمْ فِي
طُغْيانِهِمْ يزيدهم ويقويهم فيه، وإلى ذلك ذهب البيضاوي
وغيره، والحق أن الإمهال هنا محتمل وإليه ذهب الزجاج وابن
كيسان والوجهان مخدوشان، فقد ورد- عند من يعول عليه من أهل
اللغة- كل منهما ثلاثيا ومزيدا ومعدى بنفسه وباللام وكلاهما من
أصل واحد ومعناهما يرجع إلى الزيادة كما أو كيفا، وفي الصحاح
مد الله في عمره ومده في غيه أمهله وطول له، وروي عن ابن مسعود
رضي الله تعالى عنه أن مد الله تعالى في طغيانهم التمكين من
العصيان. وعن ابن عباس الإملاء ونسبة المد إلى الله تعالى- بأي
معنى كان عند أهل الحق- حقيقة إذ هو سبحانه وتعالى الموجد
للأشياء المنفرد باختراعها على حسب ما اقتضته الحكمة ورفعت له
أكفها الاستعدادات، ونسبته إلى غيره سبحانه وتعالى في قوله عز
شأنه: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ [الأعراف:
202] نسبة التوفي إلى الملك في قوله تعالى: يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة: 11] مع قوله جل وعلا اللَّهُ
يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [الزمر: 42] وذهبت المعتزلة أن الزيادة
في الطغيان والتقوية فيه مما يستحيل نسبته إليه تعالى حقيقة
وحملوا الآية على محامل أخر، وقد قدمنا ما يوهن مذهبهم- فلنطوه
هنا على ما فيه «والطغيان» بضم الطاء على المشهور، وقرأ زيد بن
علي رضي الله تعالى عنهما بكسرها وهما لغتان فيه، وقد سمعا في
مصدر اللقاء، وقد أماله الكسائي، وأصله تجاوز المكان الذي وقفت
فيه ومن أخل بما عين من المواقف الشرعية والمعارف العقلية فلم
يرعها فقد طغى، ومنه طغى الماء أي تجاوز الحد المعروف فيه،
وإضافته إليهم لأنه فعلهم الصادر منهم بقدرهم المؤثرة بإذن
الله تعالى فالاختصاص المشعرة به الإضافة إنما هو بهذا
الاعتبار لا باعتبار المحلية والاتصاف فإنه معلوم لا حاجة فيه
إلى الإضافة ولا باعتبار الإيجاد استقلالا من غير توقف على إذن
الفعال لما يريد فإنه اعتبار عليه غبار بل غبار ليس له اعتبار
فلا تهولنك جعجعة الزمخشري وقعقعته، ويحتمل أن يكون الاختصاص
للإشارة إلى أن طغيان غيرهم في جنبهم كلا شيء لادعاء اختصاصهم
به وليس بالمنحرف عن سنن البلاغة «والعمه» التردد والتحير،
ويستعمل في الرأي خاصة- والعمى فيه وفيه البصر- فبينهما عموم
وخصوص مطلق في الاستعمال وإن تغايرا في أصل الوضع، واختص العمى
بالبصر على ما قيل، وأصله الأصيل عدم الإمارات في الطريق التي
تنصب- لتدل من حجارة- وتراب ونحوهما وهي المنار ويقال عمه
يعمه- كتعب يتعب- عمها وعمهانا فهو عمه وعامه وعمهاء (1) فمعنى
يعمهون على هذا يترددون ويتحيرون، وإلى ذلك ذهب جمع من
المفسرين، وقيل: العمه العمى عن الرشد، وقال ابن قتيبة: هو أن
يكب رأسه فلا يبصر ما يأتي، فالمعنى يعمون عن رشدهم أو يكبون
رؤوسهم فلا يبصرون وكأن هذا أقرب إلى الصواب لأن المنافقين لم
يكونوا مترددين في الكفر بل كانوا مصرين عليه معتقدين أنه الحق
وما سواه باطل إلا أن يقال التردد والتحير في أمر آخر لا في
الكفر، وجملة يَعْمَهُونَ في موضع نصب على الحال إما من الضمير
في- يمدهم- وإما من الضمير في- طغيانهم- لأنه مصدر مضاف إلى
الفاعل، وفي- طغيانهم- يحتمل أن يكون متعلقا- بيمدهم- وأن يكون
متعلقا- بيعمهون- وجاز على خلاف (2) كون في طُغْيانِهِمْ
ويَعْمَهُونَ
__________
(1) قوله وعمها. كذا بخط المؤلف اهـ.
(2) المخالف أبو البقاء قال: العامل لا يعمل في حالين اهـ منه.
[.....]
(1/162)
حالين من الضمير في يمدهم أُولئِكَ
الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى إشارة إلى
المنافقين الذين تقدم ذكرهم الجامعين للأوصاف الذميمة من دعوى
الصلاح وهم المفسدون، ونسبة السفه للمؤمنين- وهم السفهاء-
والاستهزاء- وهم المستهزأ بهم- ولبعد منزلتهم في الشر وسوء
الحال أشار إليهم بما يدل على البعد، والكلام هنا يمكن أن يكون
واقعا موقع أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: 5]
فإن السامع بعد سماع ذكرهم وإجراء تلك الأوصاف عليهم كأنه يسأل
من أين دخل على هؤلاء هذه الهيئات؟ فيجاب بأن أولئك المستبعدين
إنما جسروا عليها لأنهم اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى حتى
خسرت صفقتهم وفقدوا الاهتداء للطريق المستقيم ووقعوا في تيه
الحيرة والضلال، وقيل: هو فذلكة وإجمال لجميع ما تقدم من حقيقة
حالهم أو تعليل لاستحقاقهم الاستهزاء الأبلغ والمد في الطغيان
أو مقرر لقوله تعالى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ
يَعْمَهُونَ وفيه حصر المسند على المسند إليه لكون تعريف
الموصول للجنس بمنزلة تعريف اللام الجنسي وهو ادعائي باعتبار
كمالهم في ذلك الاشتراء، وإن كان الكفار الآخرون مشاركين لهم
في ذلك لجمعهم هاتيك المساوئ الشنيعة والخلال الفظيعة، فبذلك
الاعتبار صح تخصيصهم بذلك، والضلالة الجور عن القصد، والهدى
التوجه إليه، ويطلقان على العدول عن الصواب في الدين
والاستقامة عليه، والاشتراء كالشراء استبدال السلعة بالثمن- أي
أخذها به- وبعضهم يجعله من الأضداد لأن المتبايعين تبايعا
الثمن والمثمن فكل من العوضين مشترى من جانب مبيع من جانب،
ويطلق مجازا على أخذ شيء بإعطاء ما في يده عينا كان كل منهما
أو معنى، وهذا يستدعي بظاهره أن يكون ما يجري مجرى الثمن- وهو
الهدى- حاصلا لهؤلاء قبل، ولا ريب أنهم بمعزل عنه فإما أن
يقال: إن الاشتراء مجاز عن الاختيار لأن المشتري للشيء مختار
له فكأنه تعالى قال: اختاروا الضلالة على الهدى ولكون
الاستبدال ملحوظا جيء بالباء على أنه قيل: إن التوافق معنى لا
يقتضي التوافق متعلقا، ولا يرد على هذا الحمل كونه مخلا
بالترشيح الآتي كما زعمه مولانا مفتي الديار الرومية لأن
الترشيح المذكور يكفي له وجود لفظ الاشتراء وإن كان المعنى
المقصود غير مرشح- كما هو العادة في أمثاله- أو يقال ليس
المراد بما في حيز الثمن نفس الهدى بل هو التمكن التام منه
بتعاضد الأسباب وبأخذ المقدمات المستتبعة له بطريق الاستعارة
كأنه نفس الهدى بجامع المشاركة في استتباع الجدوى، ولا مرية في
أن ذلك كان حاصلا لأولئك المنافقين بما شاهدوه من الآيات
الباهرة والمعجزات القاهرة والإرشاد العظيم والنصح والتعليم
لكنهم نبذوا ذلك فوقعوا في مهاوي المهالك، أو يقال: المراد
بالهدى الهدى الجبلي وقد كان حاصلا لهم حقيقة- فإن كل مولود
يولد على الفطرة- وقول مولانا مفتي الديار الرومية: إن حمل
الهدى على الفطرة الأصلية الحاصلة لكل أحد يأباه أن إضاعتها
غير مختصة بهؤلاء، ولئن حملت على الإضاعة التامة الواصلة إلى
حد الختم المختصة بهم فليس في إضاعتها فقط من الشناعة ما في
إضاعتها مع ما يؤيدها من المؤيدات النقلية والعقلية على أن ذلك
يفضي إلى كون- ما فصل من أول السورة إلى هنا ضائعا- كلام ناشىء
عن الغفلة عن معنى الإشارة فإنها تقتضي ملاحظتهم بجميع ما مر
من الصفات، والمعنى أن الموصوفين بالنفاق المذكور، هم الذين
ضيعوا الفطرة أشد تضييع بتهويد الآباء ثم بعد ما ظفروا بها
أضاعوها بالنفاق مع تحريضهم على المحافظة والنصح شفاها ونحو
ذلك مما لا يوجد في غيرهم كما يشير إليه التعريف، أو يقال: هذه
ترجمة عن جناية أخرى من جناياتهم، والمراد بالهدى ما كانوا
عليه من التصديق ببعثته صلى الله تعالى عليه وسلم وحقية دينه
بما وجدوه عندهم في التوراة ولهذا كانوا يستفتحون به ويدعون
بحرمته ويهددون الكفار بخروجه فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا
كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [البقرة:
89] وأما حمل الهدى على ما كان عندهم ظاهرا من التلفظ بالشهادة
وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والغزو فمما لا يرتضيه من
هدى إلى سواء السبيل، وما ذكرناه من أن أُولئِكَ إشارة إلى
المنافقين- هو الذي ذهب إليه أكثر المفسرين- والمروي عن مجاهد،
وهو الذي يقتضيه النظم الكريم- وبه أقول-
(1/163)
وروي عن قتادة أنهم أهل الكتاب مطلقا، وعن
ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم أنهم الكفار مطلقا،
والكل عندي بعيد، ولعل مراد من قال ذلك أن الآية بظاهر مفهومها
تصدق على من أرادوا لا أن
الآية نزلت فيهم، وقرأ يحيى ابن يعمر وابن إسحاق اشْتَرَوُا
الضَّلالَةَ بالكسر لأنه الأصل في التقاء الساكنين، وأبو
السماك اشْتَرَوُا بالفتح اتباعا لما قبل، وأمال حمزة والكسائي
«الهدى» وهي لغة بني تميم وعدم الإمالة لغة قريش.
فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ عطف على
الصلة، وأتى بالفاء للإشارة إلى تعقب نفي الربح للشراء وأنه
بنفس ما وقع الشراء تحقق عدم الربح، وزعم بعضهم أن الفاء دخلت
لما في الكلام من معنى الجزاء لمكان الموصول- فهو على حد الذي
يدخل الدار فله درهم- وليس بشيء لأن الموصول هنا ليس بمبتدأ
كما في المثال بل هو خبر عن أُولئِكَ وما بعد الفاء ليس بخبر
بل هو معطوف على الصلة فهو صلة ولا يجوز أن يكون أُولئِكَ
مبتدأ والَّذِينَ مبتدأ وفَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ خبر عن
الثاني وهو وخبره خبر عن الأول لعدم الرابط في الجملة الثانية
ولتحقق معنى الصلة، وإذا كانت الصلة ماضية معنى لم تدخل الفاء
في خبر موصولها ولا أن يكون أُولئِكَ مبتدأ والَّذِينَ بدلا
منه والجملة خبرا لأن الفاء إنما تدخل الخبر لعموم الموصول
والمبدل من المخصوص مخصوص فالحق ما ذكرناه، ومعنى الآية عليه
ليس غير كما في البحر. والتِّجارَةِ التصرف في رأس المال طلبا
للربح ولا يكاد يوجد- تاء- أصلية بعدها جيم إلا نتج وتجر ورتج
وارتج، وأما تجاه ونحوه فأصلها الواو، و «الربح» تحصيل الزيادة
على رأس المال، وشاع في الفضل عليه، و «المهتدي» اسم فاعل من
اهتدى مطاوع هدى ولا يكون افتعل المطاوع إلا من المتعدي، وأما
قوله:
حتى إذا اشتال سهيل في السحر ... كشعلة القابس ترمي بالشرر
فافتعل فيه بمعنى فعل تقول: شال يشول واشتال يشتال بمعنى، وفي
الآية ترشيح لما سمعت من المجاز فيما قبلها، والمقصد الأصلي
تصوير خسارهم بفوت الفوائد المترتبة على الهدى التي هي كالربح
وإضاعة الهدى الذي هو- كرأس المال- بصورة خسارة التاجر الفائت
للربح المضيع لرأس المال حتى كأنه هو على سبيل الاستعارة
التمثيلية مبالغة في تخسيرهم ووقوعهم في أشنع الخسار الذي
يتحاشى عنه أولو الأبصار، وإسناد الربح إلى التجارة- وهو
لأربابها- مجاز للملابسة، وكني في مقام الذمّ بنفي الربح عن
الخسران لأن فوت الربح يستلزمه في الجملة ولا أقل من قدر ما
يصرف من القوة، وفائدة الكناية التصريح بانتفاء مقصد التجارة
مع حصول ضده بخلاف ما لو قيل خسرت تجارتهم فلا يتوهم أن نفي
أحد الضدين إنما يوجب إثبات الآخر إذا لم يكن بينهما واسطة وهي
موجودة هنا فإن التاجر قد لا يربح ولا يخسر، وقيل: إن ذلك إنما
يكون إذا كان المحل قابلا للكل كما في التجارة الحقيقية أما
إذا كان لا يقبل إلا اثنين منها فنفي أحدهما يكون إثباتا
للآخر، والربح والخسران في الدين لا واسطة بينهما على أنه قد
قامت القرينة هنا على الخسران لقوله تعالى: وَما كانُوا
مُهْتَدِينَ وقد جعله غير واحد كناية عن إضاعة رأس المال فإن
من لم يهتد بطرق التجارة تكثر الآفات على أمواله، واختير طريق
الكناية نكاية لهم بتجهيلهم وتسفيههم، ويحتمل على بعد أن يكون
النفي هنا من باب قوله: على لاحب لا يهتدى بمناره، أي لا منار
فيهتدى به فكأنه قال لا تجارة ولا ربح.
والظاهر أن وَما كانُوا مُهْتَدِينَ عطف على ما ربحت للقرب مع
التناسب والتفرع باعتبار المعنى الكنائي، وبتقدير المتعلق لطرق
الهداية يندفع توهم أن عدم الاهتداء قد فهم مما قبل فيكون
تكرارا لما مضى وهو إما من باب التكميل والاحتراس كقوله:
فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الغمام وديمة تهمي
(1/164)
أو من باب التتميم كقوله:
كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
وقال الشريف قدس سره: إن العطف على اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ
بِالْهُدى أولى لأن عطفه على فَما رَبِحَتْ يوجب ترتبه على ما
قبله بالفاء فيلزم تأخره عنه، والأمر بالعكس إلا أن يقال
ترتيبه باعتبار الحكم والأخبار، وفيه أنه لو كان معطوفا على
اشْتَرَوُا كان الظاهر تقديمه لما في التأخير من الإيهام،
وحينئذ يكون الأحسن ترك العطف احتياطا كما ذكر في نحو قوله:
وتظن سلمى أنني أبغي بها ... بدلا أراها في الضلال تهيم
على أن بين معنى اشْتَرَوُا إلخ ومعنى وَما كانُوا إلخ تقاربا
يمنع حسن العطف كما لا يخفى على من لم يضع فطرته السليمة،
وجوّز أن تكون الجملة حالا، ولا يخفى سوء حاله على من حسن
تمييزه. وقرأ ابن أبي عبلة- تجاراتهم- على الجمع ووجهه أن لكل
واحد تجارة، ووجه الإفراد في قراءة الجمهور فهم المعنى مع
الإشارة أن تجاراتهم وإن تعددت فهي من سوق واحدة وهم شركاء
فيها مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً جملة
مقررة لجملة قصة المنافقين المسرودة إلى هنا فلذا لم تعطف على
ما قبلها، ولما كان ذلك جاريا على ما فيه من استعارات وتجوزات
مجرى الصفات الكاشفة عن حقيقة المنافقين وبيان أحوالهم عقبه
ببيان تصوير تلك الحقيقة وإبرازها في صورة المشاهد بضرب المثل
تتميما للبيان، فلضرب المثل شأن لا يخفى ونور لا يطفى يرفع
الأستار عن وجوه الحقائق ويميط اللثام عن محيا الدقائق ويبرز
المتخيل في معرض اليقين ويجعل الغائب كأنه شاهد، وربما تكون
المعاني التي يراد تفهيمها معقولة صرفة، فالوهم ينازع العقل في
إدراكها حتى يحجبها عن اللحوق بما في العقل فبضرب الأمثال تبرز
في معرض المحسوس فيساعد الوهم العقل في إدراكها، وهناك تنجلي
غياهب الأوهام ويرتفع شغب الخصام وَتِلْكَ الْأَمْثالُ
نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21]
وقيل: الأشبه أن تجعل موضحة لقوله تعالى:
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا إلخ ولا بعد فيه، والحمل على
الاستئناف بعيد لا سيما والأمثال تضرب للكشف والبيان.
والمثل- بفتحتين- كالمثل- بكسر فسكون- والمثيل في الأصل النظير
والشبيه، والتفرقة لا أرتضيها، وكأنه مأخوذ من المثول- وهو
الانتصاب- ومنه
الحديث «من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من
النار»
ثم أطلق على الكلام البليغ الشائع الحسن المشتمل إما على تشبيه
بلا شبيه، أو استعارة رائقة تمثيلية وغيرها، أو حكمة وموعظة
نافعة، أو كناية بديعة، أو نظم من جوامع الكلم الموجز، ولا
يشترط فيه أن يكون استعارة مركبة خلافا لمن وهم، بل لا يشترط
أن يكون مجازا، وهذه أمثال العرب أفردت بالتآليف وكثرت فيها
التصانيف وفيها الكثير مستعملا في معناه الحقيقي ولكونه فريدا
في بابه، وقد قصد حكايته لم يجوزوا تغييره لفوات المقصود
وتفسيره بالقول السائر الممثل مضربه بمورده يرد عليه أمثال
القرآن لأن الله تعالى ابتدأها وليس لها مورد من قبل، اللهم
إلا أن يقال: إن هذا اصطلاح جديد أو أن الأغلب في المثل ذلك،
ثم استعير لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن وفيها غرابة. ومن ذلك
وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى [النحل: 60] ومَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرعد: 35] وهو المراد هنا في
المثل دون التمثيل المدلول عليه بالكاف. والمعنى حالهم العجيبة
الشأن كحال من استوقد نارا إلخ فيما سيكشف عن وجهه إن شاء الله
تعالى، فالكاف حرف تشبيه متعلقة بمحذوف خبر عن المبتدأ، وزعم
ابن عطية أنها اسم مثلها في قول الأعشى:
أينتهون ولن ينهى ذوي شطط ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وهذا مذهب ابن الحسن، وليس بالحسن إلا في الضرورة والقول
بالزيادة كما في قوله: فصيروا مثل كَعَصْفٍ
(1/165)
مَأْكُولٍ
[الفيل: 5] زيادة في الجهل، والذي وضع موضع- الذين- إن كان
ضمير بِنُورِهِمْ راجعا إليه وإلا فهو باق على ظاهره إذ لا ضير
في تشبيه حال الجماعة بحال الواحد وجاز هنا وضع المفرد موضع
الجمع، وقد منعه الجمهور فلم يجوزوا إقامة القائم مقام
القائمين لأن هذا مخالف لغيره لخصوصية اقتضته فإنه إنما وضع
ليتوصل به إلى وصف المعارف بالجمل فلما لم يقصد لذاته توسعوا
فيه، ولأنه مع صلته كشيء واحد، وعلامة الجمع لا تقع حشوا فلذا
لم يلحقوها به ووضعوه لما يعم- كمن، وما، والذين- ليس جمعا له
بل هو اسم وضع مزيدا فيه لزيادة المعنى، وقصد التصريح بها ولذا
لم يعرف بالحروف كغيره على الأفصح، ولأن استطال بالصلة فاستحق
التخفيف حتى بولغ فيه إلى أن اقتصر على اللام في نحو اسم
الفاعل، قاله القاضي وغيره، ولا يخلو عن كدر لا سيما الوجه
الأخير، وما روي عن بعض النحاة من جواز حذف نون- الذين- ليس
بالمرضي عند المحققين، ولئن تنزل يلتزم عود ضمير الجمع إليه
كما في قوله تعالى: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التوبة: 69]
على وجه، وقول الشاعر:
يا رب عيسى لا تبارك في أحد ... في قائم منهم ولا فيمن قعد
إلا الذي قاموا بأطراف المسد
وإفراد الضمير لم نسمعه ممن يوثق به ولعله لأن المحذوف
كالملفوظ، فالوجه أن يقال إنه نظر إلى ما في- الذي- من معنى
الجنسية العامة إذ لا شبهة في أنه لم يرد به- مستوقد- مخصوص
ولا جميع أفراد المستوقدين والموصول كالمعرف باللام يجري فيه
ما يجري فيه. واسم الجنس وإن كان لفظه مفردا قد يعامل معاملة
الجمع ك:
عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ [الإنسان: 21] وقولهم:
الدينار الصفر، والدرهم البيض، أو يقال: إنه مقدر له موصوف
مفرد اللفظ مجموع المعنى كالفوج والفريق فيحسن النظام، ويلاحظ
في ضمير- استوقد- لفظ الموصوف، وفي ضمير بِنُورِهِمْ معناه،
«واستوقدوا» بمعنى أوقدوا، فقد حكى أبو زيد أوقد واستوقد
بمعنى- كأجاب واستجاب- وبه قال الأخفش- جعل الاستيقاد بمعنى
طلب الوقود وهو سطوع النار كما فعل البيضاوي- محوج إلى حذف،
والمعنى حينئذ طلبوا نارا واستدعوها فأوقدوها فَلَمَّا
أَضاءَتْ لأن الإضاءة لا تتسبب عن الطلب وإنما تتسبب عن
الإيقاد والنار جوهر لطيف مضيء محرق، واشتقاقها من نار ينور
نورا إذا نفر لأن فيها- على ما تشاهد- حركة واضطرابا لطلب
المركز، وكونه من غلط الحس كأنه من غلط الحس، نعم أورد على
التعريف أن الإضاءة لا تعتبر في حقيقتها وليست شاملة- لما ثبت
في الكتب الحكمية- أن النار الأصلية حيث الأثير شفافة لا لون
لها وكذا يقال في الإحراق، والجواب أن تخصيص الأسماء لأعيان
الأشياء حسبما تدرك أو للمعاني الذهنية المأخوذة منها، وأما
اعتبار لوازمها وذاتياتها فوظيفة من أراد الوقوف على حقائقها
وذلك خارج عن وسع أكثر الناس، والناس يدركون من النار التي
عندهم الإضاءة والإحراق ويجعلونهما أخص أوصافها، والتعريف
للمتعارف وعدم الإحراق لمانع لا يضر على أن كون النار التي تحت
الفلك هادية غير محرقة وإن زعمه بعض الناس أبطله الشيخ،
واحتراق الشهب شهاب على من ينكر الإحراق، وأغرب من هذا نفي
النار التي عند الأثير وقريب منه القول بأنها ليست غير الهواء
الحار جدا، وقرأ ابن السميقع- كمثل الذين- على الجمع وهي قراءة
مشكلة جدا، وقصارى ما رأيناه في توجيهها أن إفراد الضمير على
ما عهد في لسان العرب من التوهم كأنه نطق بمن- الذي- لها لفظا
ومعنى كما جزم بالذي على توهم من الشرطية في قوله:
كذاك الذي يبغي على الناس ظالما ... تصبه على رغم عواقب ما صنع
أو أنه اكتفى بالإفراد عن الجمع كما يكتفي بالمفرد الظاهر عنه
فهو كقوله:
وبالبدو منا أسرة يحفظونها ... سراع إلى الداعي عظام كراكره
(1/166)
أي كراكرهم، أو أن الفاعل في استوقد عائد
على اسم الفاعل المفهوم من الفعل كما في قوله تعالى: ثُمَّ
بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ [يوسف: 35] على
وجه، والعائد حينئذ محذوف على خلاف القياس- أي لهم- أولا عائد
في الجملة الأولى اكتفاء بالضمير من الثانية المعطوفة بالفاء،
وفي القلب من كل شيء فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ
اللَّهُ بِنُورِهِمْ «لما» حرف وجود لوجود، أو وجوب لوجوب كما
نص عليه سيبويه، أو ظرف بمعنى حين. أو إذ، والإضاءة جعل الشيء
مضيئا نيّرا، أو الإشراق وفرط الإنارة. وأضاء يكون متعديا
ولازما، فعلى الأول ما موصولة أو موصوفة والظرف صلة أو صفة وهي
المفعول والفاعل ضمير النار وعلى الثاني فما كذلك وهي الفاعل
وأنث فعله لتأويله بمؤنث كالأمكنة والجهات أو الفاعل ضمير
النار وما زائدة أو في محل نصب على الظرفية، ولا يجب التصريح
بفي حينئذ كما توهم لأن الحق أن ما الموصولة أو الموصوفة إذا
جعلت ظرفا فالمراد بها الأمكنة التي تحيط بالمستوقد- وهي
الجهات الست- وهي مما ينصب على الظرفية قياسا مطردا فكذا ما
عبر به عنها، وأولى الوجوه أن تكون أَضاءَتْ متعدية وما موصولة
إذ لا حاجة حينئذ إلى الحمل على المعنى، ولا ارتكاب ما قل
استعماله لا سيما زيادة ما هنا حتى ذكروا أنها لم تسمع هنا،
ولم يحفظ من كلام العرب جلست- ما- مجلسا حسنا ولا قمت- ما- يوم
الجمعة. ويا ليت شعري من أين أخذ ذلك الزمخشري وكيف تبعه
البيضاوي؟! وإذا جعل الفاعل ضمير النار والفعل لازم يكون
الإسناد إلى السبب لأن النار لم توجد حول المستوقد ووجد ضوءها
فجعل إشراق ضوئها حوله بمنزلة إشراقها نفسها على ما قيل، وهو
مبني على أن الظرف إذا تعلق بفعل قاصر له أثر متعد يشترط في
تحقق النسبة الظرفية للأثر والمؤثر فلا بد في إشراق كذا في كذا
من كون الإشراق والمشرق فيه، وهذا كما إذا تعلق الظرف بفعل
قاصر- كقام زيد في الدار- فإن زيدا والقيام فيها ذاتا وتبعا-
وإلى ذلك مال الزمخشري- ومن الناس من اكتفى بوجود الأثر فيه
وإن لم يوجد المؤثر فيه بذاته كما في الأفعال المتعدية فأضاءت
الشمس في الأرض حقيقة على هذا مجاز على الأول، وحول ظرف مكان
ملازم للظرفية والإضافة- ويثنى ويجمع- فيقال حوليه وأحواله
وحوال مثله فيثنى على حوالي، ولم نظفر بجمعه فيما حولنا من
الكتب اللغوية ولا تقل حواليه- بكسر اللام- كما في الصحاح.
ولعل التثنية والجمع- مع ما يفهم من بعض الكتب أن حول وكذا
حوال بمعنى الجوانب وهي مستغرقة- ليسا حقيقين، وقيل:
باعتبار تقسيم الدائرة كما أشار إليه المولى عاصم افندي في
ترجمة القاموس بالرومية وفيه تأمل، وأصل هذا التركيب موضوع
للطواف والإحاطة كالحول للسنة فإنه يدور من فصل أو يوم إلى
مثله، ولما لزمه الانتقال والتغير استعمل فيه باعتباره
كالاستحالة والحوالة وإن خفي في نحو- الحول- بمعنى القوة،
وقيل: أصله تغير الشيء وانفصاله وذَهَبَ إلخ جواب فَلَمَّا
والسببية ادعائية فإنه لما ترتب إذهاب النور على الإضاءة بلا
مهلة جعل كأنه سبب له على أن يكفي في الشرط مجرد التوقف نحو-
إن كان لي مال حججت- والإذهاب متوقف على الإضاءة، والضمير في
بِنُورِهِمْ للذي أو لموصوفه وجمعه لما تقدم. واختار النور على
النار لأنه أعظم منافعها والمناسب للمقام سباقا ولحاقا، وقيل
الجملة مستأنفة جوابا عما حالهم شبهت حالهم بذلك، أو بدل من
جملة التمثيل للبيان والضمير للمنافقين وجواب «لما» محذوف أي
خمدت نارهم فبقوا متحيرين، ومثله فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ
[يوسف: 15] وحذفه للإيجاز وأمن الإلباس ولا يخفى ما فيه على من
له أدنى إنصاف وإن ارتضاه الجم الغفير، ويحل عن مثل هذا
الألغاز كلام الله تعالى اللطيف الخبير. وإسناد الفعل إليه
تعالى حقيقة فهو سبحانه الفعال المطلق الذي بيده التصرف في
الأمور كلها بواسطة وبغير واسطة، ولا يعترض على الحكيم بشيء،
وحمل النار على نار لا يرضي الله تعالى إيقادها إما مجازية
كنار الفتنة والعداوة للإسلام أو حقيقية أوقدها الغواة للفساد
أو الإفساد، فحينئذ يليق بالحكيم إطفاؤها وإلا يرتكب المجاز لم
يدع إليه إلا اعتزال وإيقاد نار الغواية والإضلال، وعدي بالباء
دون الهمزة لما في المثل السائر أن
(1/167)
ذهب بالشيء يفهم منه أنه استصحبه وأمسكه عن
الرجوع إلى الحالة الأولى ولا كذلك أذهبه فالباء والهمزة وإن
اشتركا في معنى التعدية فلا يبعد أن ينظر صاحب المعاني إلى
معنى الهمزة والباء الأصليين، أعني الإزالة والمصاحبة
والإلصاق. ففي الآية لطف لا ينكر كيف والفاعل هو الله تعالى
القوي العزيز الذي لا رادّ لما أخذه ولا مرسل لما أمسكه، وذكر
أبو العباس أن ذهبت بزيد يقتضي ذهاب المتكلم مع زيد دون
أذهبته، ولعله يقول: إن ما في الآية مجاز عن شدة الأخذ بحيث لا
يرد أو يجوز أن يكون الله تعالى وصف نفسه بالذهاب على معنى
يليق به كما وصف نفسه سبحانه بالمجيء في ظاهر قوله تعالى:
وَجاءَ رَبُّكَ [الفجر: 22] والذي ذهب إليه سيبويه إلى أن (1)
الباء بمعنى الهمزة فكلاهما لمجرد التعدية عنده بلا فرق فلذا
لا يجمع بينهما. والنور منشأ الضياء ومبدؤه كما يشير إليه
استعمال العرب حيث أضافوا الضياء إليه كما قال ورقة بن نوفل:
ويظهر في البلاد ضياء نور
وقال العباس رضي الله تعالى عنه:
وأنت لما ظهرت أشرقت الأر ... ض وضاءت بنورك الأفق
ولهذا أطلق عليه سبحانه النور دون الضياء، وأشار سبحانه إلى
نفي الضياء الذي هو مقتضى الظاهر بنفي النور وإذهابه لأنه أصله
وبنفي الأصل ينتفي الفرع، وهذا الذي ذكرنا هو الذي ارتضاه
المحققون من أهل اللغة، ومنه يعلم وجه وصف الشريعة المحمدية
بالنور في قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ
وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة: 15] والشريعة الموسوية بالضياء في
قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ
وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء: 48] وفي ذلك
إشارة إلى مقام نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم الجامع الفارق
ومزيته على أخيه موسى عليه السلام الذي لم يأت إلا بالفرق
ولفرق ما بين الحبيب والكليم:
وكل آي أتى الرسل الكرام بها ... فإنما اتصلت من نوره بهم
وكذا وجه وصف الصلاة- الناهية عن الفحشاء والمنكر في حديث
مسلم- بالنور والصبر بالضياء، ويعلم من هذا أنه أقوى من الضياء
كذا قيل (2) واعترض بأنه قد جاء وصف ما أوتيه نبينا صلى الله
تعالى عليه وسلم بالضياء كما جاء وصف ما أوتيه موسى عليه
السلام بالنور وإليه يشير كلام الشيخ الأكبر قدس سره في
الفتوحات فتدبر، وذهب بعض الناس إلى أن الضياء أقوى من النور
لقوله تعالى: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً
[يونس: 5] وعلى هذا يكون التعبير بيذهب الله بنورهم دون ذهب
الله بضوئهم دفعا لاحتمال إذهاب ما في الضوء من الزيادة وبقاء
ما يسمى نورا مع أن الغرض إزالة النور رأسا، وذكر بعضهم أن كلا
من الضوء والنور يطلق على ما يطلق عليه الآخر فهما كالمترادفين
والفرق إنما نشأ من الاستعمال أو الاصطلاح لا من أصل الوضع
واللغة، ومن هنا قال الحكماء: إن الضوء ما يكون للشيء من ذاته،
والنور ما يكون من غيره، واستعمل الضوء لما فيه حرارة حقيقة
كالذي في الشمس، أو مجازا كالذي ذكر فيما أوتيه موسى عليه
السلام مما فيه شدة ومزيد كلفة، ومنه
«الصبر ضياء»
ومعلوم أنه كاسمه: والنور لما ليس كذلك كالذي في القمر وفيما
جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم من الشريعة السهلة السمحة
البيضاء، ومنه
«الصلاة نور»
ولا شك أنها قرة العين وراحة القلب وإلى ذلك يشير
«وجعلت قرة عيني في الصلاة» «وأرحنا يا بلال»
واستعمل النور لما يطرأ في الظلم كما
ورد «كان الناس في ظلمة فرش الله تعالى عليهم من نوره»
وقول الشاعر:
__________
(1) قوله: إلى أن الباء هكذا بخط المؤلف اهـ مصححه.
(2) قوله: كذا قيل إلى قوله: فتدبر هذا ليس موجودا في خط
المؤلف بل في المبيضة فقط التي ليست بخطه اهـ مصححه.
(1/168)
بتنا وعمر الليل في غلوائه ... وله بنور
البدر فرع أشمط
والضوء ليس كذلك إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع والذي
يميل القلب إليه أن الضياء يطلق على النور القوي وعلى شعاع
النور المنبسط فهو بالمعنى الأول أقوى وبالمعنى الثاني أدنى
ولكل مقام مقال ولكل مرتبة عبارة ولا حجر على البليغ في اختيار
أحد الأمرين في بعض المقامات لنكتة اعتبرها ومناسبة لاحظها،
وآية الشمس لا تدل على أن الضياء أقوى من النور أينما وقع-
فالله نور السماوات والأرض ولله المثل الأعلى- وشاع إطلاق
النور على الذوات المجردة دون الضوء ولعل ذلك لأن انسياق
العرضية منه إلى الذهن أسرع من انسياقها من النور إليه فقد
انتشر أنه عرض وكيفية مغايرة للون، والقول بأنه عبارة عن ظهور
اللون- أو أنه أجسام صغار تنفصل من المضيء فتتصل بالمستضيء-
مما بين بطلانه في الكتب الحكمية وإن قال بكل بعض من الحكماء،
ثم التعبير بالنور هنا دون الضوء يحتمل أن يكون لسر غير ما
انقدح في أذهان الناس وهو كونه أنسب بحال المنافقين الذين
حرموا الانتفاع والإضاءة بما جاء من عند الله مما سماه سبحانه
نورا في قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ
وَكِتابٌ [المائدة: 15] فكأن الله عز شأنه أمسك عنهم النور
وحرمهم الانتفاع به، ولم يسمه سبحانه ضوءا لتتأتى هذه الإشارة-
لو قال هنا ذهب الله بضوئهم- بل كساه من حلل أسمائه وأفاض عليه
من أنوار آلائه فهو المظهر الأتم والرداء المعلم. هذا وإضافة
النور إليهم لأدنى ملابسة لأنه للنار في الحقيقة لكن لما كانوا
ينتفعون به صح إضافته إليهم. وقرأ ابن السميفع وابن أبي عبلة-
فلما ضاءت- ثلاثيا وتخريجها يعلم مما تقدم وقرأ اليماني- أذهب
الله نورهم- وفيها تأييد لمذهب سيبويه.
وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ عطف على قوله تعالى:
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وهو أوفى بتأدية المراد فيستفاد
منه التقرير لانتفاء النور بالكلية تبعا لما فيه من ذكر الظلمة
وجمعها وتنكيرها، وإيراد لا يُبْصِرُونَ وجعل الواو للحال
بتقدير قد مع ما فيه يقتضي ثبوت الظلمة قبل ذهاب النور ومعه،
وليس المعنى عليه- والترك- في المشهور طرح الشيء كترك العصا من
يده أو تخليته محسوسا كان أو غيره وإن لم يكن في يده كترك وطنه
ودينه، وقال الراغب: ترك الشيء رفضه قصدا واختيارا أو قهرا
واضطرارا. ويفهم من المصباح أنه حقيقة في مفارقة المحسوسات ثم
استعير في المعاني، وفي كون الفعل من النواسخ الناصبة للجزأين
لتضمينه معنى صير أم لا خلاف- والكل هنا محتمل- فعلى الأولى
«هم» مفعوله الأول، وفي ظلمات مفعوله الثاني، ولا يُبْصِرُونَ
صفة لظلمات بتقدير فيها أو حال من الضمير المستتر، أو من «هم»
ولا يجوز أن يكون في ظلمات حالا، ولا يُبْصِرُونَ مفعولا ثانيا
لأن الأصل في الخبر أن لا يكون مؤكدا وإن جوزه بعضهم وعلى
الثاني «هم» مفعوله، وفِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ حالان
مترادفان من المفعول أو متداخلان، فالأول من المفعول. والثاني
من الضمير فيه أو فِي ظُلُماتٍ متعلق ب تَرَكَهُمْ ولا
يُبْصِرُونَ حال. والظلمة في المشهور عدم الضوء عما من شأنه أن
يكون مستضيئا، فالتقابل بينها وبين الضوء تقابل العدم والملكة،
واعترض بأن الظلمة كيفية محسوسة ولا شيء من العدم كذلك وبأنها
مجعولة كما يقتضيه قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ
وَالنُّورَ [الإنعام: 1] والمجعول لا يكون إلا موجودا، وأجيب
عن الأول بمنع الصغرى فإنا إذا غمضنا العين لا نشاهد شيئا
البتة كذلك إذا فتحنا العين في الظلمة، وعن الثاني بالمنع أيضا
فإنّ الجاعل كما يجعل الموجود يجعل العدم الخاص كالعمى
والمنافي للمجعولية هو العدم الصرف، وقيل: كيفية مانعة من
الأبصار فالتقابل تقابل التضاد، واعترض بأنه لو كانت كيفية لما
اختلف حال من في الغار المظلم ومن هو في الخارج في الرؤية
وعدمها إلا أن يقال المراد أنها كيفية مانعة من إبصار ما فيها
فيندفع الاعتراض عنه، وربما يرجح عليه بأنه قد يصدق على الظلمة
الأصلية السابقة على وجود العالم دونه كما قيل، وقيل: التقابل
بين النور والظلمة
(1/169)
تقابل الإيجاب والسلب وجمع الظلمات إما
لتعددها في الواقع سواء رجع ضمير الجمع إلى المستوقدين أو
المنافقين أو لأنها في الحقيقة، وإن كانت ظلمة واحدة لكنها
لشدتها استعير لها صيغة الجمع مبالغة- كما قيل رب واحد يعدل
ألفا- أو لأنه لما كان لكل واحد ظلمة تخصه جمعت بذلك الاعتبار
كذا قالوا «ومن اللطائف» أن الظلمة حيثما وقعت في القرآن وقعت
مجموعة والنور حيثما وقع وقع مفردا، ولعل السبب هو أن الظلمة
وإن قلت تستكثر والنور وإن كثر يستقل ما لم يضر، وأيضا كثيرا
ما يشار بهما إلى نحو الكفر والإيمان والقليل من الكفر كثير
والكثير من الإيمان قليل فلا ينبغي الركون إلى قليل من ذاك ولا
الاكتفاء بكثير من هذا، وأيضا معدن الظلمة بهذا المعنى قلوب
الكفار تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:
14] ومشرق النور بذلك المعنى قلوب المؤمنين. وهي كقلب رجل
واحد، وأيضا النور المفاض هو الوجود المضاف وهو واحد لا تعدد
فيه كما يرشدك إليه قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ [النور: 35] وفي الظلمة لا يرى مثل هذا، وأيضا
الظلمة يدور أصل معناها على المنع فلذا أخذت من قولهم- ما ظلمك
أن تفعل كذا- أي ما منعك، وفي مثلثات ابن السيد- الظلم بفتح
الظاء- شخص كل شيء يسد بصر الناظر يقال لقيته أول ذي ظلم- أي
أول شخص يسد بصري- وزرته والليل ظلم- أي مانع من الزيارة-
فكأنها سميت ظلمة لأنها تسد في المشهور وتمنع الرؤية، فباعتبار
تعدد الموانع جمعت ولم يعتبر مثل هذا في أصل معنى النور فلم
يجمع إلى غير ذلك وإنما نكرت ظلمات هنا ولم تضف إلى ضميرهم كما
أضيف النور اختصارا للفظ واكتفاء بما دل عليه المعنى، والظرفية
مجازية كيفما فسرت الظلمة على بعض الآراء، ولا يُبْصِرُونَ
منزل منزلة اللازم- لطرح المفعول- نسيا منسيا، ولعدم القصد إلى
مفعول دون مفعول فيفيد العموم، وقرأ الجمهور فِي ظُلُماتٍ بضم
اللام، والحسن وأبو السماك بسكونها وقوم
بفتحها، والكل جمع ظلمة.
وزعم قوم أن ظُلُماتٍ بالفتح جمع ظلم- جمع ظلمة- فهي جمع
الجمع، والعدول إلى الفتح تخفيفا مع سماعه في أمثاله أسهل من
ادعاء جمع الجمع إذ ليس بقياسي ولا دليل قطعي عليه، وقرأ
اليماني في ظلمة، وفي الآية إشارة إلى تشبيه إجراء كلمة
الشهادة على ألسنة من ذكر- والتحلي بحلية المؤمنين ونحو ذلك-
مما يمنع من قتلهم ويعود عليهم بالنفع الدنيوي من نحو الأمن
والمغانم، وعدم إخلاصهم لما أظهروه بالنفاق الضار في الدين
بإيقاد نار مضيئة للانتفاع بها أطفأها الله تعالى فهبت عليهم
الرياح والأمطار وصيرت موقدها في ظلمة وحسرة، ويحتمل أنهم لما
وصفوا بأنهم اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى عقب ذلك بهذا
التمثيل لتشبيه هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول
المستوقد، والضلالة التي اشتروها وطبع الله تعالى بها على
قلوبهم بذهاب الله تعالى بنورهم وتركه إياهم في الظلمات،
والتفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- كما أخرجه
ابن جرير عنه- أن ذلك مثل للإيمان الذي أظهروه لاجتناء ثمراته
بنار ساطعة الأنوار موقدة للانتفاع والاستبصار ولذهاب أثره
وانطماس نوره باهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها
وإذهاب نورها، ويشتمل التشبيه وجوها أخر «ومن البطون القرآنية
التي ذكرها ساداتنا الصوفية نفعنا الله تعالى بهم» أن الآية
مثل من دخل طريقة الأولياء بالتقليد لا بالتحقيق فعمل عمل
الظاهر وما وجد حلاوة الباطن فترك الأعمال بعد فقدان الأحوال،
أو مثل من استوقد نيران الدعوى وليس عنده حقيقة المعنى فأضاءت
ظواهره بالصيت والقبول فأفشى الله تعالى نفاقه بين الخلق حتى
نبذوه في الآخر ولا يجد مناصا من الفضيحة يوم تبلى السرائر،
وقال أبو الحسن الوراق: هذا مثل ضربه الله تعالى لمن لم يصحح
أحوال الإرادة فارتقى من تلك الأحوال بالدعاوى إلى أحوال
الأكابر فكان يضيء عليه أحوال إرادته لو صححها بملازمة آدابها
فلما مزجها بالدعاوى أذهب الله تعالى عنه تلك الأنوار وبقي في
ظلمات دعاويه لا يبصر طريق الخروج منها، نسأل الله تعالى العفو
والعافية ونعوذ به من الحور
(1/170)
بعد الكور صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا
يَرْجِعُونَ الأوصاف جموع كثرة على وزن فعل وهو قياس في جمع
فعلاء، وأفعل الوصفين سواء تقابلا- كأحمر وحمراء- أم انفردا
لمانع في الخلقة- كغرل ورتق- فإن كان الوصف مشتركا ولكن لم
يستعملا على نظام أحمر وحمراء- كرجل أليّ، وامرأة عجزاء-
فالوزن فيه سماعي، والصمم داء في الأذن يمنع السمع، وقال
الأطباء: هو أن يخلق الصماخ بدون تجويف يشتمل على الهواء
الراكد الذي يسمع الصوت بتموجه فيه أو بتجويف لكن العصب لا
يؤدي قوة الحس فإن أدى بكلفة سمي عندهم طرشا، وأصله من الصلابة
أو السد، ومنه بقولهم قناة صماء وصممت القارورة والبكم الخرس
وزنا ومعنى- وهو داء في اللسان يمنع من الكلام- وقيل: الأبكم
هو الذي يولد أخرس، وقيل: الذي لا يفهم شيئا ولا يهتدي إلى
الصواب فيكون إذ ذاك داء في الفؤاد لا في اللسان، والعمى عدم
البصر عما من شأنه أن يكون بصيرا، وقيل: ظلمة في العين تمنع من
إدراك المبصرات، ويطلق على عدم البصيرة مجازا عند بعض وحقيقة
عند آخرين، وهي أخبار لمبتدأ محذوف هو ضمير المنافقين أو خبر
واحد وتؤول إلى عدم قبولهم الحق وهم وإن كانوا سمعاء الآذان
فصحاء الألسن بصراء الأعين إلا أنهم لما لم يصيخوا للحق- وأبت
أن تنطق بسائره ألسنتهم ولم يتلمحوا أدلة الهدى المنصوبة في
الآفاق والأنفس- وصفوا بما وصفوا به من الصمم والبكم والعمى
على حد قوله:
أعمى إذا ما جارتي برزت ... حتى يواري جارتي الخدر
وأصمّ عما كان بينهما ... أذني وما في سمعها وقر
وهذا من التشبيه البليغ عند المحققين لذكر الطرفين حكما،
وذكرهما قصدا حكما أو حقيقة مانع عن الاستعارة عندهم، وذهب
بعضهم إلى أنه استعارة، وآخرون إلى جواز الأمرين، وهذا أمر
مفروغ عنه ليس لتقريره هنا كثير جدوى، غير أنهم ذكروا هنا بحثا
وهو أنه لا نزاع أن التقدير هم صُمٌّ إلخ لكن ليس المستعار له
حينئذ مذكورا لأنه لبيان أحوال مشاعر المنافقين لا ذواتهم، ففي
هذه الصفات استعارة تبعية مصرحة إلا أن يقال تشبيه ذوات
المنافقين بذوات الأشخاص الصم متفرع على تشبيه حالهم بالصمم،
فالقصد إلى إثبات هذا الفرع أقوى وأبلغ، وكأن المشابهة بين
الحالين تعدت إلى الذاتين فحملت الآية على هذا التشبيه برعاية
المبالغة، أو يقال- ولعله أولى- إن- هم- المقدر راجع للمنافقين
السابق حالهم وصفاتهم وتشهيرهم بها حتى صاروا مثلا فكأنه قيل
هؤلاء المتصفون بما ترى صُمٌّ على أن المستعار له ما تضمنه
الضمير الذي جعل عبارة عن المتصفين بما مر، والمستعار ما تضمن
الصم وأخويه من قوله صُمٌّ إلخ فقد انكشف المغطى وليس هذا
بالبعيد جدا، والآية فذلكة ما تقدم ونتيجة إذ قد علم من قوله
سبحانه لا يَشْعُرُونَ ولا يُبْصِرُونَ أنهم صُمٌّ عُمْيٌ ومن
كونهم يكذبون أنهم لا ينطقون بالحق فهم- كالبكم- ومن كونهم غير
مهتدين أنهم لا يَرْجِعُونَ وقدم الصمم لأنه إذا كان خلقيا
يستلزم البكم وأخر- العمى- لأنه كما قيل: شامل لعمى القلب
الحاصل من طرق المبصرات والحواس الظاهرة، وهو بهذا المعنى
متأخر لأنه معقول صرف ولو توسط- حل بين العصا ولحائها ولو قدم-
ولأهم تعلقه ب لا يُبْصِرُونَ أو الترتيب على وفق حال الممثل
له لأنه يسمع أولا دعوة الحق ثم يجيب ويعترف ثم يتأمل ويتبصر.
ومثل هذه الجملة وردت تارة بالفاء كما في قوله تعالى:
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ
فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف: 142]
وأخرى بدونها كما في قوله تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ
فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ
كامِلَةٌ [البقرة: 196] لأن استلزام ما قبلها وتضمنه لها
بالقوة منزل منزلة المتحد معه فيترك العطف ومغايرتها له
وترتبها عليه ترتب النتاج، والفرع على أصله يقتضي الاقتران
بالفاء وهو الشائع المعروف، وبعض الناس يجعل الآية من تتمة
التمثيل فلا يحتاج حينئذ إلى
(1/171)
التجوز ويكفي فيه الفرض وإن امتنع عادة كما
في قوله:
أعلام ياقوت نشر ... ن على رماح من زبرجد
فيفرض هنا حصول الصمم، والبكم، والعمى لمن وقع في هاتيك الظلمة
الشديدة المطبقة، وقيل لا يبعد فقد الحواس ممن وقع في ظلمات
مخوفة هائلة إذ ربما يؤدي ذلك إلى الموت فضلا عن ذلك، ويؤيد
كونها تتمته قراءة ابن مسعود حفصة أم المؤمنين رضي الله تعالى
عنهم- «صما وبكما وعميا» - بالنصب فإن الأوصاف حينئذ تحتمل أن
تكون مفعولا ثانيا لترك وفي ظلمات متعلقا به أو في موضع الحال،
ولا يُبْصِرُونَ حالا أو منصوبة على الحال من مفعول تركهم
متعديا لاثنين أو لواحد أو منصوبة بفعل محذوف أعني أعني،
والقول بأنها منصوبة على الحال من ضمير لا يُبْصِرُونَ جهل
بالحال، وقريب منه في الذم من نصب على الذم إذ ذاك إنما يحسن
حيث يذكر الاسم السابق، وأما جعل هذه الجملة على القراءة
المشهورة دعائية وفيها إشارة إلى ما يقع في الآخرة من قوله
تعالى:
وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً
وَبُكْماً وَصُمًّا [الإسراء: 97] فنسأل الله تعالى العفو
والعافية من ارتكاب مثله ونعوذ به من عمى قائله وجهله، ومثله-
بل أدهى وأمر- القول بأن جملة لا يَرْجِعُونَ كذلك ومتعلق- لا
يرجعون- محذوف أي لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه أو عن
الضلالة بعد أن اشتروها، وقد لا يقدر شيء ويترك على الإطلاق.
والوجهان الأولان مبنيان على أن وجه التشبيه في التمثيل مستنبط
من أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا إلخ والأخير على تقدير أن
يكون من ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ إلخ بأن يراد به أنهم غب
الإضاءة خبطوا في ظلمة وتورطوا في حيرة، فالمراد هنا أنهم
بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكاناتهم لا يبرحون ولا
يدرون أيتقدمون أم يتأخرون، وكيف يرجعون إلى حيث ابتدؤوا منه،
والأعمى لا ينظر طريقا وأبكم لا يسأل عنها وأصم لا يسمع صوتا
من صوب مرجعه فيهتدي به؟ والفاء للدلالة على أن اتصافهم بما
تقدم سبب لتحيرهم واحتباسهم كيف ما كانوا.
«ومن البطون» - صم «آذان أسماع أرواحهم عن أصوات الوصلة وحقائق
إلهام القربة- بكم- عن تعريف علل بواطنهم عند أطباء القلوب
عجبا- عمي- عن رؤية أنوار جمال الحق في سيماء أوليائه: وقال
سيدي الجنيد قدس سره: صموا عن فهم ما سمعوا وأبكموا عن عبارة
ما عرفوا وعموا عن البصيرة فيما إليه دعوا.
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ شروع في تمثيل لحالهم إثر تمثيل
وبيان لكل دقيق منها وجليل فهم أئمة الكفر الذين تفننوا فيه
وتفيؤوا ظلال الضلال بعد أن طاروا إليه بقدامى النفاق وخوافيه
فحقيق أن تضرب في بيداء بيان أحوالهم الوخيمة خيمة الأمثال
وتمد أطناب الاطناب في شرح أفعالهم ليكون أفعى لهم ونكالا بعد
نكال وكل كلام له حظ من البلاغة وقسط من الجزالة والبراعة لا
بد أن يوفى فيه حق كل من مقال الأطناب والإيجاز فماذا عسى أن
يقال فيما بلغ الذروة العليا من البلاغة والبراعة والإعجاز.
ولقد نعى سبحانه عليهم في هذا التمثيل تفاصيل جناياتهم العديمة
المثيل وهو معطوف على الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ويكون النظم
كمثل ذوي صيب (1) فيظهر مرجع ضمير الجمع فيما بعد وتحصل
الملاءمة للمعطوف عليه والمشبه. وأو عند ذوي التحقيق لأحد
الأمرين ويتولد منه في الخبر الشك والإبهام
__________
(1) ذكر مولانا الساليكوتي أن ذوي مقدر والكاف من كصيب زائدة
لدخول مثل الأول عليها حكما ولا تقدير، ونقل عن الرضى أن من
مواقع زيادة الكاف دخول لفظ مثل عليه وزيادة حرف أهون من تقدير
اسم لا سيما إذا رجحه قرب المعطوف عليه فتأمل وتدبر اهـ منه.
(1/172)
والتفصيل على حسب اعتبارات المتكلم، وفي
الإنشاء الإباحة والتخيير كذلك، وحينئذ لا يلزم الاشتراك ولا
الحقيقة والمجاز. وبعضهم يقول: إنها باعتبار الأصل موضوعة
للتساوي في الشك وحمل على أنه فرد من أفراد المعنى الحقيقي ثم
اتسع فيها فجاءت للتساوي من غير شك كما- فيما نحن فيه- على رأي
إذا المعنى مثل بأي القصتين شئت فهما سواء في التمثيل ولا بأس
لو مثلت بهما جميعا وإن كان التشبيه الثاني أبلغ لدلالته على
فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته ولذا أخر ليتدرج من الأهون إلى
الأهول، وزعم بعضهم أن «أو» هنا بمعنى الواو وما في الآيتين
تمثيل واحد، وقيل: بمعنى بل، وقيل: للإبهام، والكل ليس بشيء،
نعم اختار أبو حيان أنها للتفصيل وكأن من نظر إلى حالهم منهم
من يشبهه بحال المستوقد، ومنهم من يشبهه بحال ذوي صيب مدعيا أن
الإباحة- وكذا التخيير- لا يكونان إلا في الأمر أو ما في معناه
انتهى. ولا يخفى على من نظر في معناه وحقق ما معناه أن ما نحن
فيه داخل في الشق الثاني على أن دعوى الاختصاص مما لم يجمع
عليه الخواص، فقد ذكر ابن مالك أن أكثر ورود أو للإباحة في
التشبيه نحو فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً
[البقرة: 74] والتقدير نحو فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى
[النجم: 9]- والصيب- في المشهور المطر من صاب يصوب إذا نزل وهو
المروي هنا عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وقتادة وعطاء وغيرهم
رضي الله تعالى عنهم. ويطلق على السحاب أيضا كما في قوله:
حتى عفاها صيب ودقه ... داني النواحي مسبل هاطل
ووزنه فيعل- بكسر العين- عند البصريين وهو من الأوزان المختصة
بالمعتل العين إلا ما شذ من صيقل- بكسر القاف- علم لامرأة،
والبغداديون يفتحون العين، وهو قول تسد الأذن عنه، وقريب منه
قول الكوفيين إن أصله فعيل كطويل فقلب، وهل اسم جنس أو صفة،
بمعنى نازل أو منزل؟ قولان أشهرهما الأول، وأكثر نظائره في
الوزن من الثاني، وقرىء- أو كصائب- وصيب أبلغ منه، والتنكير
فيه للتنويع والتعظيم، والسماء كل ما علاك من سقف ونحوه
والمعروفة عند خواص أهل الأرض والمرئية عند عوامهم، وأصلها
الواو من السمو وهي مؤنثة (1) وقد تذكر كما في قوله:
فلو رفع السماء إليه قوما ... لحقنا بالسماء مع السحاب
وتلحقها هاء التأنيث فتصح الواو حينئذ كما قاله أبو حيان لأنها
بنيت عليها الكلمة فيقال سماوة وتجمع على سماوات وأسمية
وسمائي، والكل- كما في البحر- شاذ لأنها اسم جنس وقياسه أن لا
يجمع، وجمعه بالألف والتاء خال عن شرط ما يجمع بهما قياسا،
وجمعه على أفعلة ليس مما ينقاس في المؤنث، وعلى فعائل لا ينقاس
في فعال.
والمراد بالسماء هنا الأفق والتعريف للاستغراق لا للعهد الذهني
كما ينساق لبعض الأذهان فيفيد أن الغمام آخذ بالآفاق كلها
فيشعر بقوة المصيبة مع ما فيه من تمهيد الظلمة ولهذا القصد
ذكرها، وعندي أن الذكر يحتمل أن يكون أيضا للتهويل والإشارة
إلى أن ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم وذلك أبلغ في الإيذاء كما
يشير إليه قوله تعالى: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ
الْحَمِيمُ [الحج: 19] وكثيرا ما نجد أن المرء يعتني بحفظ رأسه
أكثر مما يعتني بحفظ سائر أطرافه حتى أن المستطيع من الناس
يتخذ طيلسانا لذلك والعيان والوجدان أقوى شاهد على ما قلنا.
ومِنَ لابتداء الغاية، وقيل: يحتمل أن تكون للتبعيض على حذف
مضاف أي من أمطار السماء وليس بشيء، وزعم بعضهم أن الآية تبطل
ما قيل: إن المطر من أبخرة متصاعدة من السفل- وهو من أبخرة
الجهل- إذ ليس في الآية سوى أن المطر من هذه
__________
(1) والتأنيث لأهل الحجاز والتذكير للتميميين وأهل نجد، وكذا
شأنهم في الجنس الذي ميز واحده بتاء تؤنثه اهـ منه.
(1/173)
الجهة وهو غير مناف لما ذكر، كيف والمشاهدة
تقضي به فقد حدثني من بلغ مبلغ التواتر أنهم شاهدوا- وهم فوق
الجبال الشامخة- سحابا يمطر أسفلهم وشاهدوا تارات أبخرة تتصاعد
من نحو الجبال فتنعقد سحابا فيمطر، فإياك أن تلتفت لبرق كلام
خلب ولا تظن أن ذلك علم فالجهل منه أصوب، ثم حمل- الصيب- هنا
على السحاب وإن كان محتملا غير أنه بعيد بعد الغمام وكذا حمل
السماء عليه فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ أي معه ذلك كما
في قوله تعالى: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ [الأعراف: 38] وإذا حملت
«في» على الظرفية- كما هو الشائع في كلام المفسرين- احتيج إلى
حمل الملابسة التي تقتضيها الظرفية على مطلق الملابسة الشاملة
للسببية والمجاورة وغيرهما ففيه بذلك المعنى ظلمات ثلاث. ظلمة
تكاثفه بتتابعه. وظلمة غمامه مع ظلمة الليل التي يستشعرها
الذوق من قوله تعالى:
كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وكذا فيه رعد وبرق لأنهما
في منشئه ومحل ينصب منه، وقيل: فيه- وهو كما قال الشهاب- وهم
نشأ من عدم التدبر، وإن كان المراد- بالصيب- السحاب فأمر
الظرفية أظهر، والظلمات حينئذ ظلمة السحمة والتطبيق مع ظلمة
الليل، وجمع الظلمات على التقديرين مضيء، ولم يجمع الرعد
والبرق وإن كانا قد جمعا في لسان العرب، وبه تزداد المبالغة
وتحصل المطابقة مع الظلمات والصواعق لأنهما مصدران في الأصل،
وإن أريد بهما العينان هنا كما هو الظاهر، والأصل في المصدر أن
لا يجمع على أنه لو جمعا لدل ظاهرا على تعدد الأنواع كما في
المعطوف عليه، وكل من الرعد والبرق نوع واحد. وذكر الشهاب
مدعيا أنه مما لمعت به بوارق الهداية في ظلمات الخواطر نكتة
سرية في إفرادهما هنا وهي أن الرعد- كما ورد في الحديث وجرت به
العادة- يسوق السحاب من مكان لآخر فلو تعدد لم يكن السحاب
مطبقا فتزول شدة ظلمته وكذا البرق لو كثر لمعانه لم تطبق
الظلمة كما يشير إليه قوله تعالى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ
مَشَوْا فِيهِ فافرادهما متعين هنا. وعندي- وهو من أنوار
العناية المشرقة على آفاق الأسرار- أن النور لما لم يجمع في
آية من القرآن- لما تقدم- لم يجمع البرق إذ ليس هو بالبعيد عنه
كما يرشدك إليه كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ والرعد مصاحب له فانعكست
أشعته عليه.
أوما ترى الجلد الحقير مقبلا ... بالثغر لما صار جار المصحف
وارتفاع ظلمات إما على الفاعلية للظرف المعتمد على الموصوف أو
على الابتدائية والظرف خبره- وجعل الظرف حالا من النكرة
المخصصة وظلمات فاعله- لا يخلو عن ظلمة البعد كما لا يخفى.
وللناس في الرعد والبرق أقوال: والذي عول عليه أن الأول صوت
زجر الملك الموكل بالسحاب، والثاني لمعان مخاريقه التي هي من
نار، والذي اشتهر عند الحكماء أن الشمس إذا أشرقت على الأرض
اليابسة حللت منها أجزاء نارية يخالطها أجزاء أرضية فيركب
منهما دخان ويختلط بالبخار وهو الحادث بسبب الحرارة السماوية
إذا أثرت في البلة ويتصاعدان معا إلى الطبقة الباردة وينعقد
ثمة سحاب ويحتقن الدخان فيه ويطلب الصعود إن بقي على طبعه
الحار والنزول إن ثقل وبرد وكيف كان يمزق السحاب بعنفه فيحدث
منه الرعد، وقد تشتعل منه- لشدة حركته ومحاكته- نار لامعة وهي
البرق إن لطفت والصاعقة إن غلظت، وربما كان البرق سببا للرعد
فإن الدخان المشتعل ينطفىء في السحاب فيسمع لانطفائه صوت كما
إذا أطفأنا النار بين أيدينا، والرعد والبرق يكونان معا إلا أن
البرق يرى في الحال لأن الإبصار لا يحتاج إلا إلى المحاذاة من
غير حجاب، والرعد يسمع بعد لأن السماع إنما يحصل بوصول تموج
الهواء إلى القوة السامعة وذلك يستدعي زمانا كذا قالوه، وربما
يختلج في ذهنك قرب هذا ولا تدري ماذا تصنع بما ورد عن حضرة من
أسرى به ليلا- بلا رعد ولا برق- على ظهر البراق وعرج إلى ذي
المعارج حيث لا زمان ولا مكان فرجع وهو أعلم خلق الله على
الإطلاق صلى الله تعالى عليه وسلم فأنا بحول من عز حوله وتوفيق
من غمرني فضله أوفق لك بما يزيل الغين عن العين
(1/174)
ويظهر سر جوامع الكلم التي أوتيها سيد
الكونين صلى الله تعالى عليه وسلم.
فأقول: قد صح عند أساطين الحكمة والنبوة- مما شاهدوه في
أرصادهم الروحانية في خلواتهم ورياضتهم وكذا عند سائر
المتألهين الربانيين من حكماء الإسلام والفرس وغيرهم- أن لكل
نوع جسماني من الأفلاك والكواكب والبسائط العنصرية ومركباتها
ربا هو نور مجرد عن المادة قائم بنفسه مدبر له حافظ إياه وهو
المنمي والغاذي والمولد في النبات والحيوان والإنسان لامتناع
صدور هذه الأفعال المختلفة في النبات والحيوان عن قوة بسيطة لا
شعور لها وفينا عن أنفسنا وإلا لكان لنا شعور بها، فجميع هذه
الأفعال من الأرباب إلى تلك الأرباب أشار صاحب الرسالة العظمى
صلى الله تعالى عليه وسلم
بقوله: «وإن لكل شيء ملكا» حتى قال: «إن كل قطرة من القطرات
ينزل معها ملك» وقال: «أتاني ملك الجبال وملك البحار»
وحكى أفلاطون عن نفسه أنه خلع الظلمات النفسانية والتعلقات
البدنية وشاهدها، وذكر مولانا الشيخ صدر الدين القونوي قدس سره
في تفسيره الفاتحة أنه ما ثم صورة إلا ولها روح، وأطال أهل
الله تعالى الكلام في ذلك، فإذا علمت هذا فلا بعد في أن يقال:
أراد صلى الله تعالى عليه وسلم بالملك الموكل بالسحاب- في بيان
الرعد- هو هذا الرب المدبر الحافظ وبزجره تدبيره له حسب
استعداده وقابليته، وأراد بصوت ذلك الزجر ما يحدث عند الشق
بالأبخرة الذي يقتضيه ذلك التدبير، وأراد بالمخاريق- في بيان
البرق وهي جمع مخراق وهو في الأصل ثوب يلف وتضرب به الصبيان
بعضهم بعضا- الآلة التي يحصل بواسطتها الشق، ولا شك أنها كما
قررنا من نار أشعلتها شدة الحركة والمحاكّة فظهرت كما ترى،
وحيث فتحنا لك هذا الباب قدرت على تأويل كثير ما ورد من هذا
القبيل حتى قولهم: إن الرعد نطق الملك والبرق ضحكه، وإن كان
بحسب الظاهر مما يضحك منه، ولم أر أحدا وفق فوفق وتحقق فحقق
والله تعالى الموفق وهو حسبي ونعم الوكيل يَجْعَلُونَ
أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ
الضمائر عائدة على المحذوف المعلوم فيما قبل وكثيرا ما يلتفت
إليه كما في قوله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها
فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ [الأعراف: 4] .
والجملة استئناف لا محل لها من الإعراب مبني على سؤال نشأ من
الكلام كأنه قيل عند بيان أحوالهم الهائلة فماذا يصنعون في
تضاعيف تلك الشدة فقال: يَجْعَلُونَ إلخ، وجوزوا وجوها أخر
ككونها في محل جر صفة للمقدر وجوز فيها وفي يكاد كونها صفة صيب
بتأويل نحو- لا يطيقونه- أو في محل نصب على الحال من ضمير فيه،
والعائد محذوف أو اللام نائبة عنه أي صواعقه، والجعل في الأصل
الوضع. والأصابع جمع إصبع وفيه تسع لغات حاصلة من ضرب أحوال
الهمزة الثلاث في أحوال الباء كذلك، وحكوا عاشرة وهي أصبوع
بضمها مع واو وهي مؤنثة وكذا سائر أسمائها إلا الإبهام فبعض
بني أسد يذكّرها والتأنيث أجود، وفي الآية مبالغة في فرط
دهشتهم وكمال حيرتهم كما في الفرائد من وجوه «أحدها» نسبة
الجعل إلى كل الأصابع وهو منسوب إلى بعضها وهو الأنامل
«وثانيها» من حيث الإبهام في الأصابع والمعهود إدخال السبابة
فكأنهم من فرط دهشتهم يدخلون أي أصبع كانت ولا يسلكون المسلك
المعهود «ثالثها» في ذكر الجعل موضع الإدخال فإن جعل شيء في
شيء أدل على إحاطة الثاني بالأول من إدخاله فيه، وهل هذا من
المجاز اللغوي لتسمية الكل باسم جزئه أو للتجوز في الجعل؟ أو
هو من المجاز العقلي بأن ينسب الجعل للأصابع وهو للأنامل فيه
خلاف والمشهور هو الأول وعليه الجمهور. وابن مالك وجماعة على
الأخير ظنا منهم أن المبالغة في الاحتراز عن استماع الصاعقة
إنما يكون عليه ولم يكتفوا فيها بتبادر الذهن إلى أن الكل أدخل
في الأذن قبل النظر للقرينة، وقيل: لا مجاز هنا أصلا لأن نسبة
بعض الأفعال إلى ذي أجزاء تنقسم يكفي فيه تلبسه ببعض أجزائه
كما يقال: دخلت البلد وجئت ليلة الخميس ومسحت بالمنديل فإن ذلك
حقيقة مع أن
(1/175)
الدخول والمجيء والمسح في بعض- البلد
والليلة، والمنديل- ولا يخفى أن كون مثل ذلك حقيقة ليس على
إطلاقه، والفرق بينه وبين ما نحن فيه ظاهر ومِنَ تعليلية تغني
غناء اللام في المفعول له وتدخل على الباعث المتقدم والغرض
المتأخر وهي متعلقة ب يَجْعَلُونَ وتعلقها بالموت بعيد- أي
يجعلون- من أجل الصواعق وهي جمع صاعقة ولا شذوذ، والظاهر أنها
في الأصل صفة من الصعق وهو الصراخ وتاؤها للتأنيث إن قدرت صفة
لمؤنث أو للمبالغة إن لم تقدر- كراوية- أو للنقل من الوصفية
إلى الاسمية- كحقيقة- وقيل: إنها مصدر كالعافية والعاقبة وهي
اسم لكل هائل مسموع أو مشاهد، والمشهور أنها الرعد الشديد معه
قطعة من نار لا تمر بشيء إلا أتت عليه، وقد يكون معه جرم حجري
أو حديدي، وسد الآذان إنما ينفع على المعنى الأول، وقد يراد
المعنى الثاني ويكون في الكلام إشارة إلى مبالغة أخرى في فرط
دهشتهم حيث يظنون ما لا ينفع نافعا، وقرأ الحسن من الصواقع وهي
لغة بني تميم كما في قوله:
ألم تر أن المجرمين أصابهم ... صواقع لا بل هن فوق الصواقع
وليس من باب القلب على الأصح إذ علامته كون أحد البناءين فائقا
للآخر ببعض وجوه التصريف والبناءان هنا مستويان في التصرف.
وحَذَرَ الْمَوْتِ نصب على العلة ل يَجْعَلُونَ
وإن كان من الصواعق في المعنى مفعولا له كان هناك نوعان منصوب
ومجرور، ولزوم العطف في مثله غير مسلم خلافا لمن زعمه ولا مانع
من أن يكون علة له مع علته كما أن من الصواعق علة له نفسه،
وورد مجيء المفعول له معرفة وإن كان قليلا كما في قوله:
وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
وجعله مفعولا مطلقا لمحذوف أي يحذرون- حذر الموت- بعيد. وقرأ
قتادة والضحاك وابن أبي ليلى- حذار- وهو كحذر شدة الخوف.
والموت في المشهور زوال الحياة عما يتصف بها بالفعل وإطلاقه
على العدم السابق في قوله سبحانه: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً
فَأَحْياكُمْ [البقرة: 28] مجاز ولا يرد قوله تعالى: خَلَقَ
الْمَوْتَ [الملك: 2] إذ الخلق فيه بمعنى التقدير وتعيين
المقدار بوجه ما وهو مما يوصف به الموجود والمعدوم لأن العدم
كالوجود له مدة ومقدار معين عنده تعالى، وقيل: المراد بخلق
الموت إحداث أسبابه، وقيل: إنه العدم مطلقا وإن لم يكن مخلوقا
إلا أن إعدام الملكات مخلوقة لما فيها من شائبة التحقق بمعنى
أن استعداد الموضوع معتبر في مفهومها وهو أمر وجودي فيجوز أن
يعتبر تعلق الخلق والإيجاد باعتبار ذلك، وصحح محققو أهل السنة
أن الموت صفة وجودية خلقت ضدا للحياة، ولهذا يظهر كما
في الحديث «يوم تتجسد المعاني- كما قال أهل الله تعالى- بصورة
كبش أملح»
ويصير عدما محضا إذ يذبح بمدية الحياة التي لا ينتهي أمدها
وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ أي لا يفوتونه كما لا يفوت
المحاط المحيط فإحاطته تعالى به مجاز تشبيها لحال قدرته
الكاملة التي لا يفوتها المقدور أصلا بإحاطة المحيط بالمحاط
بحيث لا يفوته فيكون في الإحاطة استعارة تبعية وإن شبه حاله
تعالى- وله المثل الأعلى- معهم بحال المحيط مع المحاط بأن تشبه
هيئة منتزعة من عدة أمور بمثلها كان هناك استعارة تمثيلية لا
تصرف في مفرداتها إلا أنه صرح بالعمدة منها وقدر الباقي فافهم.
وجوز أبو علي في مُحِيطٌ أن يكون بمعنى مهلك كما في قوله
تعالى:
وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [البقرة: 81] أو عالم علم مجازاة
كما في قوله تعالى: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ [الجن: 28] وكل
هذا من الظاهر، ولأهل الشهود كلام- من ورائه محيط- والواو
اعتراضية لا عاطفة ولا حالية والجملة معترضة بين جملتين من قصة
واحدة وفيها تتميم للمقصود من التمثيل بما تفيده من المبالغة
لأن- الكافرين- وضع موضع الضمير وعبر به إشعارا باستحقاق ذوي
الصيب ذلك العذاب لكفرهم فيكون الكلام على حد قوله تعالى: ثَلُ
ما
(1/176)
يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا
كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ
[آل عمران:
117] فإن التشبيه بحرث قوم كذلك لا يخفى حسنه لأن الإهلاك عن
سخط أشد وأبلغ وفيه تنبيه على أن ما صنعوه من سد الآذان
بالأصابع لا يغني عنهم شيئا وقد أحاط بهم الهلاك ولا يدفع
الحذر القدر. وماذا يصنع مع القضاء تدبير البشر. وجعل الاعتراض
من جملة أحوال المشبه على أن المراد بِالْكافِرِينَ المنافقون
ولا محيص لهم عن عذاب الدارين ووسط بين أحوال المشبه به لاظهار
كمال العناية بشأن المشبه والتنبيه على شدة الاتصال مما يأباه
الذوق السليم يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ استئناف
آخر بياني كأنه قيل: فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ فقال يَكادُ
إلخ، وفي البحر يحتمل أن يكون في موضع جر لذوي المحذوفة فيما
تقدم- ويكاد- مضارع كاد من أفعال المقاربة وتدل على قرب وقوع
الخبر وأنه لم يقع والأول لوجود أسبابه والثاني لمانع أو فقد
شرط على ما تقضي العادة به، والمشهور أنها إن نفيت أثبتت وإن
أثبتت نفت وألغزوا بذلك، ولم يرتض هذا أبو حيان وصحح أنها
كسائر الأفعال في أن نفيها نفي وإثباتها إثبات، واللام- في
البرق للعهد إشارة إلى ما تقدم- نكرة، وقيل: إشارة إلى البرق
الذي مع الصواعق أي برقها وهو كما ترى وإسناد الخطف وهو في
الأصل الأخذ بسرعة أو الاستلاب إليه من باب إسناد الإحراق إلى
النار وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه قريبا. والشائع في خبر-
كاد- أن يكون فعلا مضارعا غير مقترن بأن المصدرية الاستقبالية
أما المضارع فلدلالته على الحال المناسب للقرب حتى كأنه لشدة
قربه وقع وأما أنه غير مقترن- بأن- فلمنا فاتها لما قصدوا
ونحو- وأبت إلى فهم وما كدت آئبا. وكاد الفقر أن يكون كفرا،
وقد كاد- من طول البلى أن يمحصا- قليل. وقرأ مجاهد وعلي بن
الحسين ويحيى بن وثاب «يخطف» بكسر الطاء والفتح أفصح.
وعن ابن مسعود «يختطف» - وعن الحسن «يخطف» - بضم الياء وفتح
الخاء وأصله يختطف فأدغم التاء في الطاء.
وعن عاصم وقتادة والحسن أيضا- «يخطّف» - بفتح الياء وكسر الخاء
والطاء المشددة. وعن الحسن أيضا والأعمش- «يخطّف» - بكسر
الثلاثة والتشديد وعن زيد- «يخطّف» - بضم الياء وفتح الخاء
وكسر الطاء المشددة وهو تكثير مبالغة لا تعدية، وكسر الطاء في
الماضي لغة قريش، وهي اللغة الجيدة.
كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ
عَلَيْهِمْ قامُوا استئناف ثالث كأنه لما قيل إنهم مبتلون
باستمرار تجدد خطف الأبصار فهم منه أنهم مشغولون بفعل ما يحتاج
إلى الأبصار ساعة فساعة وإلا لغطوها كما سدوا الآذان، فسئل
وقيل: ما يفعلون في حالتي وميض البرق وعدمه؟ فأجيب بأنهم حراص
على المشي- كما أضاء لهم- اغتنموه- ومشوا وإذا أظلم عليهم-
توقفوا مترصدين. وكُلَّما في هذه الآية وأمثالها منصوبة على
الظرفية وناصبها «ما» هو جواب معنى. و «ما» حرف مصدري أو اسم
نكرة بمعنى وقت فالجملة بعدها صلة أو صفة وجعلت شرطا لما فيها
من معناه وهي لتقدير ما بعدها بنكرة تفيد عموما بدليا ولهذا
أفادت- كما- التكرار كما صرح به الأصوليون وذهب إليه بعض
النحاة واللغويين واستفادة التكرار من إِذا وغيرها من أدوات
الشرط من القرائن الخارجية على الصحيح، ومن ذلك قوله:
إذا وجدت أوار الحب من كبدي ... أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
وزعم أبو حيان أن التكرار الذي ذكره الأصوليون وغيرهم في
كُلَّما إنما جاء من عموم كل لا من وضعها وهو مخالف للمنقول
والمعقول، وقد استعملت هنا في لازم معناها كناية أو مجازا وهو
الحرص والمحبة لما دخلت عليه ولذا قال مع الإضاءة كُلَّما ومع
الاظلام إِذا وقول أبي حيان: إن التكرار متى فهم من كُلَّما
هنا لزم منه التكرار في «إذا» إذ الأمر دائر بين إضاءة البرق
والإظلام ومتى وجد «ذا» فقد ذا فلزم من تكرار وجود «ذا» تكرار
عدم
(1/177)
ذا غفلة عما أرادوه من هذا المعنى الكنائي
والمجازي. وأضاء إما متعد كما في قوله:
أعد نظرا يا عبد قيس لعلما ... أضاءت لك النار الحمار المقيدا
والمفعول محذوف أي كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ ممشي مَشَوْا فِيهِ
وسلكوه، وإما لازم ويقدر حينئذ مضافان- أي كلما لمع لهم- مشوا
في مطرح ضوئه ولا بد من التقدير إذ ليس المشي في البرق بل في
محله وموضع إشراق ضوئه وكون «في» للتعليل والمعنى مشوا الأجل
الإضاءة فيه يتوقف فيه من له ذوق في العربية، ويؤيد اللزوم
قراءة ابن أبي عبلة ضاء ثلاثيا، وفي مصحف ابن مسعود بدل- مشوا
فيه- مضوا فيه، وللإشارة إلى ضعف قواهم لمزيد خوفهم ودهشتهم لم
يأت سبحانه بما يدل على السرعة، ولما حذف مفعول أضاء وكانت
النكرة أصلا أشار إلى أنهم لفرط الحيرة كانوا يخبطون خبط عشواء
ويمشون كل ممشى، ومعنى أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ اختفى عنهم،
والمشهور استعمال أظلم لازما، وذكر الأزهري- وناهيك به- في
التهذيب أن كل واحد من أوصاف الظلم يكون لازما ومتعديا، وعلى
احتمال التعدي هنا ويؤيده قراءة زيد بن قطيب والضحاك أَظْلَمَ
بالبناء للمفعول مع اتفاق النحاة على أن المطرد بناء المجهول
من المتعدي بنفسه يكون المفعول محذوفا أي- إذا أظلم- البرق
بسبب خفائه معاينة الطريق قامُوا أي وقفوا عن المشي ويتجوز به
عن الكساد ومنه قامت السوق، وفي ضده يقال: مشت الحال وَلَوْ
شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ عطف على
مجموع الجمل الاستئنافية ولم يجعلوها معطوفة على الأقرب ومن
تتمته لخروجها عن التمثيل وعدم صلاحيتها للجواب، وعطف ما ليس
بجواب على الجواب ليس بصواب وجوزه بعض المحققين إذ لا بأس بأن
يزاد في الجواب ما يناسبه وإن لم يكن له دخل فيه بل قد يستحسن
ذلك إذا اقتضاه المقام كما في وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا
مُوسى [طه: 17] الآية وكونها اعتراضية أو حالية من ضمير قامُوا
بتقدير المبتدأ أو معطوفة على الجملة الأولى مع تخلل الفواصل
اللفظية، والمقدرة فضول عند ذوي الفضل، والقول بأنه أتى بها
لتوبيخ المنافقين حيث لم ينتهوا لأن من قدر على إيجاد قصيف
الرعد ووميضه وإعدامهما قادر على إذهاب سمعهم وأبصارهم أفلا
يرجعون عن ضلالهم محل للتوبيخ إذ لا يصح عطف الممثل له على حال
الممثل به، ومفعول شاء هنا محذوف وكثيرا ما يحذف (1) مفعولها
إذا وقعت في حيز الشرط ولم يكن مستغربا، والمعنى ولو أراد الله
إذهاب سمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق لذهب، ولتقدم ما
يدل على التقييد من يَجْعَلُونَ ويَكادُ قوى دلالة السياق عليه
وأخرجه من الغرابة، ولك أن لا تقيد ذلك المفعول وتقيد الجواب
كما صنعه الزمخشري أو لا تقيد أصلا، ويكون المعنى لو أراد الله
إذهاب هاتيك القوى أذهبها من غير سبب فلا يغنيهم ما صنعوه،
والمشيئة عند المتكلمين كالإرادة سواء، وقيل: أصل المشيئة
إيجاد الشيء وإصابته وإن استعمل عرفا في موضع الإرادة، وقرأ
ابن أبي عبلة- لأذهب الله بأسماعهم- وهي محمولة على زيادة
الباء لتأكيد التعدية أو على أن- أذهب- لازم بمعنى ذهب كما قيل
بنحوه في تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: 20] وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ [البقرة: 195] إذ الجمع بين أداتي تعدية لا
يجوز، وبعضهم يقدر له مفعولا- أي لأذهبهم- فيهون الأمر (2)
وكلمة لَوْ لتعليق حصول أمر ماض هو الجزاء بحصول أمر مفروض هو
الشرط لما بينهما من الدوران حقيقة أو ادعاء ومن قضية مفروضة
الشرط دلالتها على انتفائه
__________
(1) ومثل شاء أراد اهـ منه.
(2) وقريب من هذا المعنى ما قيل في القراءة المشهور: إن معنى
ذهب الله بسمعهم وأبصارهم- أهلكهم- لأن في إهلاكهم ذهاب ذلك
وهو معنى قريب بعيد اهـ منه.
(1/178)
قطعا والمنازع فيه مكابر، وأما دلالتها على
انتفاء الجزاء فقد قيل وقيل: والحق أنه إن كان ما بينهما من
الدوران قد بنى الحكم على اعتباره فهي دالة عليه بواسطة
مدلولها ضرورة استلزام انتفاء العلة لانتفاء المعلول. أما في
الدوران الكلي كالذي في قوله تعالى: شأنه وَلَوْ شاءَ
لَهَداكُمْ [النحل: 9] وقولك لو جئتني لأكرمتك فظاهر، ثم إنه
قد يساق الكلام لتعليل انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط كما في
المثالين، وهو الاستعمال الشائع في لَوْ ولذا قيل: إنها
لامتناع الثاني لامتناع الأول وقد يساق للاستدلال بانتفاء
الثاني لكونه ظاهرا أو مسلما على انتفاء الأول لكونه بعكسه كما
في قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ
لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] ولَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا
إِلَيْهِ [الأحقاف: 11] واللزوم في الأول حقيقي وفي الثاني
ادعائي، وكذا انتفاء الملزومين وليس هذا بطريق السببية
الخارجية بل بطريق الدلالة العقلية الراجعة إلى سببية العلم
بانتفاء الثاني للعلم بانتفاء الأول. ومن لم يتنبه زعم أنه
لانتفاء الأول لانتفاء الثاني. وأما في مادة الدوران الجزئي
كما في قولك: لو طلعت الشمس لوجد الضوء فلأن الجزاء المنوط
بالشرط ليس وجود أي ضوء بل وجود الضوء الخاص الناشئ من الطلوع
ولا ريب في انتفائه بانتفائه هذا إذا بني الحكم على اعتبار
الدوران وإن بني على عدمه فأما أن يعتبر تحقق مدار آخر له أو
لا، فإن اعتبر فالدلالة تابعة لحال ذلك المدار فإن كان بينه
وبين الانتفاء الأول منافاة تعين الدلالة كما إذا قلت: لو لم
تطلع الشمس لوجد الضوء فإن وجود الضوء معلق في الحقيقة بسبب
آخر هو المدار ووضع عدم الطلوع موضعه لكونه كاشفا عنه فكأنه
قيل: لو لم تطلع الشمس لوجد الضوء بالقمر مثلا.
ولا ريب في أن هذا الجزاء منتف عند انتفاء الشرط لاستحالة
الضوء القمري عند طلوع الشمس، وإن لم يكن بينهما منافاة تعين
عدم الدلالة
كحديث «لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي (1)
من الرضاعة»
فإن المدار المعتبر في ضمن الشرط- أعني كونها ابنة الأخ- غير
مناف لانتفائه الذي هو كونها ربيبته بل مجامع له، ومن ضرورته
مجامعة أثريهما أعني الحرمة الناشئة من هذا، وهذا وإن لم يعتبر
تحقق مدار آخر بل بني الحكم على اعتبار عدمه فلا دلالة لها على
ذلك أصلا، ومساق الكلام حينئذ لبيان ثبوت الجزاء على كل حال
بتعليقه بما ينافيه ليعلم ثبوته عند وقوع ما لا ينافيه بالأولى
كما في قوله تعالى: (2) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ
خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ [الإسراء: 100]
فإن الجزاء قد نيط بما ينافيه إيذانا بأنه في نفسه بحيث يجب
ثبوته مع فرض انتفاء سببه أو تحقق سبب انتفائه فكيف إذا لم يكن
كذلك على طريقة لَوْ الوصلية
«ونعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه»
إن حمل على تعليق عدم العصيان في ضمن عدم الخوف بمدار آخر
كالحياء مما يجامع الخوف كان من قبيل حديث الربيبة، وإن حمل
على بيان استحالة عصيانه مبالغة كان من هذا القبيل، والآية
الكريمة واردة على الاستعمال الشائع مفيدة لفظاعة حالهم وهول
ما دهمهم وأنه قد بلغ الأمر إلى حيث لو تعلقت مشيئة الله تعالى
بإزالته قواهم لزالت لتحقق ما يقتضيه اقتضاء تاما. وقيل: كلمة
لَوْ فيها- لربط جزائها بشرطها مجردة عن الدلالة على انتفاء
أحدهما لانتفاء الآخر- بمنزلة أن، ذكر جميع ذلك مولانا مفتي
الديار الرومية وأظنه قد أصاب الغرض إلا أن كلام مولانا
الساليكوتي يشعر باختيار أن لَوْ موضوعة لمجرد تعليق حصول أمر
في الماضي بحصول أمر آخر فيه من غير دلالة على انتفاء
__________
(1) هي بنت أبي سلمة اهـ.
(2) ومثله
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لو كان الإيمان بالثريا لناله
رجال من فارس» ،
وقول علي كرم الله تعالى وجهه: لو كشف لي الغطاء ما ازددت
يقينا
أهـ منه.
(1/179)
الأول أو الثاني أو على استمرار الجزاء بل
جميع هذه الأمور خارجة عن مفهومها مستفادة بمعونة القرائن كيلا
يلزم القول بالاشتراك أو الحقيقة والمجاز من غير ضرورة، وبه
قال بعضهم، وما ذهب إليه ابن الحاجب من أنها للدلالة على
انتفاء الأول لانتفاء الثاني من لوازم هذا المفهوم وكونه لازما
لا يستلزم الإرادة في جميع الموارد فإن الدلالة غير الإرادة.
وذكر أن ما قالوه من أنها لتعليق حصول أمر في الماضي بحصول أمر
آخر فرضا مع القطع بانتفائه فيلزم لأجل انتفائه انتفاء ما علق
به فيفيد أن انتفاء الثاني في الخارج إنما هو بسبب انتفاء
الأول فيه مع توقفه على كون انتفاء الأول مأخوذا في مدخولها،
وقد عرفت أنه يستلزم خلاف الأصل يرد عليه أن المستفاد من
التعلق على أمر مفروض الحصول إبداء المانع من حصول المعلق في
الماضي وأنه لم يخرج من العدم الأصلي إلى حد الوجود وبقي على
حاله لارتباط وجوده بأمر معدوم، وأما إن انتفاءه سبب لانتفائه
في الخارج فكلا كيف والشرط النحوي قد يكون مسببا مضافا للجزاء؟
نعم إن هذا مقتضى الشرط الاصطلاحي، وما استدل به العلامة
التفتازاني على إفادتها السببية الخارجية من قول الحماسي:
ولو طار ذو حافر قبلها ... لطارت ولكنه لم يطر
لأن استثناء المقدم لا ينتج، ففيه أن اللازم مما ذكر أن لا
تكون مستعملة للاستدلال بانتفاء الأول على انتفاء الثاني ولا
يلزم منه أن لا تكون مستعملة لمجرد التعليق لإفادة إبداء
المانع مع قيام المقتضى كيف ولو كان معناها إفادة سببية
الانتفاء للانتفاء كان الاستثناء تأكيدا وإعادة بخلاف ما إذا
كان معناها مجرد التعليق فإنه يكون إفادة وتأسيسا، وهذا محصل
ما قالوه ردا وقبولا. وزبدة ما ذكروه إجمالا وتفصيلا. ومعظم
مفتي أهل العربية أفتوا بما قاله مفتي الديار الرومية، ولا
أوجب عليك التقليد فالأقوال بين يديك فاختر منها ما تريد.
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كالتعليل للشرطية
والتقرير لمضمونها الناطق بقدرته تعالى على إذهاب ما ذكر لأن
القادر على الكل قادر على البعض. والشيء لغة ما يصح أن يعلم
ويخبر عنه كما نص عليه سيبويه، وهو شامل للمعدوم والموجود
الواجب والممكن وتختلف إطلاقاته، ويعلم المراد منه بالقرائن
فيطلق تارة، ويراد به جميع أفراده كقوله تعالى: وَاللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 282، النساء: 176، النور: 18،
64، التغابن: 11] بقرينة إحاطة العلم الإلهي بالواجب والممكن
المعدوم والموجود والمحال الملحوظ بعنوان ما، ويطلق ويراد به
الممكن مطلقا كما في الآية الكريمة بقرينة القدرة التي لا
تتعلق إلا بالممكن، وقد يطلق ويراد به الممكن الخارجي الموجود
في الذهن كما في قوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي
فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الكهف: 23،
24] بقرينة كونه متصورا مشيئا فعله غدا، وقد يطلق ويراد به
الممكن المعدوم الثابت في نفس الأمر كما في قوله تعالى:
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] بقرينة إرادة التكوين التي تختص
بالمعدوم، وقد يطلق ويراد به الموجود الخارجي كما في قوله
تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً
[مريم: 9] أي موجودا خارجيا لامتناع أن يراد نفي كونه شيئا
بالمعنى اللغوي الأعم الشامل للمعدوم الثابت في نفس الأمر لأن
كل مخلوق فهو في الأزل شيء- أي معدوم- ثابت في نفس الأمر
وإطلاق الشيء عليه قد قرر، والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا يعدل
عنه إلا لصارف ولا صارف. وشيوع استعماله في الموجود لا ينتهض
صارفا إذ ذاك إنما هو لكون تعلق الغرض في المحاورات بأحوال
الموجودات أكثر لا لاختصاصه به لغة، وما ذكره مولانا البيضاوي
من اختصاصه بالموجود- لأنه في الأصل مصدر شاء- أطلق بمعنى شاء
تارة وحينئذ يتناول الباري تعالى وبمعنى مشيء أخرى أي مشيء
وجوده إلخ ففيه- مع ما فيه- أنه يلزمه في قوله تعالى:
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ استعمال المشترك في معنييه
لأنه إذا كان بمعنى الشائي لا يشمل
(1/180)
نحو الجمادات عنده، وإذا كان بمعنى المشيء
وجوده لا يشمل الواجب تعالى شأنه، وفي استعمال المشترك في
معنييه خلاف (1) ولا خلاف في الاستدلال بالآية على إحاطة علمه
تعالى. وأما ما ذكر في شرحي المواقف والمقاصد فجعجعة ولا أرى
طحنا، وقعقعة ولا أرى سلاحا تقنا. وقد كفانا مؤنة الإطالة في
رده مولانا الكوراني قدس سره، والنزاع في هذا وإن كان لفظيا
والبحث فيه من وظيفة أصحاب اللغة إلا أنه يبتني على النزاع في
أن المعدوم الممكن ثابت أولا، وهذا بحث طالما تحيرت فيه أقوام
وزلت فيه أقدام. والحق الذي عليه العارفون الأول لأن المعدوم
الممكن- أي ما يصدق عليه هذا المفهوم- يتصور ويراد بعضه دون
بعض، وكل ما هو كذلك فهو متميز في نفسه من غير فرض الذهن، وكل
ما هو كذلك فهو ثابت ومتقرر في خارج أذهاننا منفكا عن الوجود
الخارجي فما هو إلا في نفس الأمر. والمراد به علم الحق تعالى
باعتبار عدم مغايرته للذات الأقدس فإن لعلم الحق تعالى
اعتبارين «أحدهما» أنه ليس غيرا «والثاني» أنه ليس عينا، ولا
يقال بالاعتبار الأول- العلم تابع للمعلوم- لأن التبعية نسبة
تقتضي متمايزين ولو اعتبارا، ولا تمايز عند عدم المغايرة،
ويقال ذلك بالاعتبار الثاني للتمايز النسبي المصحح للتبعية،
والمعلوم الذي يتبعه العلم هو ذات الحق تعالى بجميع شؤونه
ونسبه واعتباراته. ومن هنا قالوا: علمه تعالى بالأشياء أزلا
عين علمه بنفسه لأن كل شيء من نسب علمه بالاعتبار الأول فإذا
علم الذات لجميع نسبها فقد علم كل شيء من عين علمه بنفسه، وحيث
لم يكن الشريك من نسب العلم بالاعتبار الأول إذ لا ثبوت له في
نفسه من غير فرض إذ الثابت كذلك هو أنه تعالى لا شريك له فلا
يتعلق به العلم بالاعتبار الثاني ابتداء، ومتى كان تعلق العلم
بالأشياء أزليا لم تكن أعداما صرفة إذ لا يصح حينئذ أن تكون
طرفا إذ لا تمايز، فإذا لها تحقق بوجه ما، فهي أزلية بأزلية
العلم، فلذا لم تكن الماهيات بذواتها مجعولة لأن الجعل تابع
للإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم الثابت، فالثبوت متقدم
على الجعل بمراتب فلا تكون من حيث الثبوت أثرا للجعل وإلا
لدار، وإنما هي مجعولة في وجودها، لأن العالم حادث وكل حادث
مجعول وليس الوجود حالا حتى لا تتعلق
به القدرة، ويلزم أن لا يكون الباري تعالى موجدا للممكنات ولا
قادرا عليها لأنه قد حقق أن الوجود بمعنى ما- بانضمامه إلى
الماهيات الممكنة- يترتب عليها آثارها المختصة بها موجود، أما
أولا فلأن كل مفهوم مغاير للوجود فإنه إنما يكون موجودا بأمر
ينضم إليه وهو الوجود، فهو موجود بنفسه لا بأمر زائد وإلا
لتسلسل، وامتيازه عما عداه بأن وجوده ليس زائدا على ذاته، وأما
ثانيا فلأنه لو لم يكن موجودا لم يوجد شيء أصلا لأن الماهية
الممكنة قبل انضمام الوجود متصفة بالعدم الخارجي فلو كان
الوجود معدوما كان مثلها محتاجا لما تحتاجه فلا يترتب على
الماهية بضمه آثارها لأنه على تقدير كونه معدوما ليس فيه بعد
العدم إلا افتقاره إلى الوجود وهذا بعينه متحقق في الماهية قبل
الضم فلا يحدث لها بالضم وصف لم تكن عليه، فلو كان هذا الوجود
المفتقر مفيدا- لترتب الآثار- لكانت الماهية مستغنية عن الوجود
حال افتقارها إليه واللازم باطل لاستحالة اجتماع النقيضين فلا
بد أن يكون الوجود موجودا بوجود هو نفسه وإلا لتسلسل أو انتهى
إلى وجود موجود بنفسه. والأول باطل، والثاني قاض بالمطلوب. نعم
الوجود بمعنى الموجودية حال لأنه صفة اعتبارية ليست بعرض ولا
سلب، ومع هذا يتعلق به الجعل لكن لا ابتداء بل بضم حصة من
الوجود الموجود إلى الماهية فيترتب على ذلك اتصاف الماهية
بالموجودية وظاهر أنه لا يلزم من عدم تعلق القدرة بالوجود
بمعنى الموجودية ابتداء أن لا تتعلق به بوجه آخر، وإذا تبين أن
الماهيات مجعولة في وجودها فلا بد أن يكون وجود كل شيء عين
حقيقته، بمعنى أن ما صدق عليه حقيقة الشيء من الأمور الخارجية
__________
(1) والإمام الغزالي لا يقول باستعمال المشترك في معنييه
واستدل في قواعد العقائد بالآية على عموم علمه تعالى اهـ منه.
(1/181)
هو بعينه ما صدق عليه وجوده، وليس لهما
هويتان متمايزتان في الخارج كالسواد والجسم إذ الوجود إن قام
بالماهية معدومة لزم التناقض، وموجودة لزم وجودان مع الدور أو
التسلسل، والقول بأن الوجود ينضم إلى الماهية من حيث هي لا
تحقيق فيه، إذ تحقق في محله أن الماهية قبل عروض الوجود متصفة
في نفس الأمر بالعدم قطعا لاستحالة خلوها عن النقيضين فيه،
غاية الأمر أنا إذا لم نعتبر معها العدم لا يمكن أن نحكم عليها
بأنها معدومة، وعدم اعتبارنا العدم معها حين عروض الوجود لا
يجعلها منفكة عنه في نفس الأمر وإنما يجعلها منفكة عنه
باعتبارنا وضم الوجود أمر يحصل لها باعتبار نفس الأمر لا من
حيث اعتبارنا، فخلوها عن العدم باعتبارنا لا يصحح اتصافها
بالوجود من حيث هي هي في نفس الأمر سالما عن المحذور فإذا ليس
هناك هويتان تقوم إحداهما بالأخرى بل عين الشخص في الخارج عين
تعين الماهية فيه وهو عين الماهية فيه أيضا إذ ليس التعين أمرا
وجوديا مغايرا بالذات للشخص منضما للماهية في الخارج ممتازا
عنهما فيه مركبا منها ومن الفرد بل لا وجود في الخارج إلا
للأشخاص، وهي عين تعيينات الماهية وعين الماهية في الخارج
لاتحادهما فيه، وعلى هذا فلا شك في مقدورية الممكن إذ جعله
بجعل حصته من الوجود المطلق الموجود في الخارج مقترنة بأعراض
وهيئات يقتضيها استعداد حصته من الماهية النوعية فيكون شخصا،
وإيجاد الشخص من الماهية- على الوجه المذكور- عين إيجاد
الماهية لأنهما متحدان في الخارج جعلا ووجودا متمايزان في
الذهن فقط، وهذا تحقيق قولهم: المجعول هو الوجود الخاص، ولا
يستعد معدوم لعروضه إلا إذا كان له ثبوت في نفس الأمر إذ ما لا
ثبوت له- وهو المنفي- لا اقتضاء فيه لعروض الوجود بوجه، وإلا
لكان المحال ممكنا واللازم باطل، فالثبوت الأزلي لماهية الممكن
هو المصحح لعروض الإمكان المصحح للمقدورية لا أنه المانع كما
توهموه، هذا والبحث طويل والمطلب جليل، وقد أشبعنا الكلام
عليه- في الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية- على وجه
رددنا فيه كلام المعترضين المخالفين لما تبعنا فيه ساداتنا
الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم، وهذه نبذة يسيرة تنفعك في
تفسير الآية الكريمة فاحفظها فلا أظنك تجدها في تفسير، وحيث
كان الشيء عاما لغة واصطلاحا عند أهل الله تعالى، وإن ذهب إليه
المعتزلة أيضا فلا بد في مثل ما نحن فيه من تخصيصه بدليل العقل
بالممكن. والقدرة عند الأشاعرة صفة ذاتية ذات إضافة تقتضي
التمكن من الإيجاد والإعدام والإبقاء لا نفس التمكن لأنه أمر
اعتباري ولا نفي العجز عنه تعالى لأنه من الصفات السلبية، ولعل
من اختار ذلك اختاره تقليلا للصفات الذاتية، أو نفيا لها
«والقادر» هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، ولكون
المشيئة عندنا صفة مرجحة لأحد طرفي المقدور، وعند الحكماء-
العناية الأزلية- ساغ لنا أن نعرفه بما ذكر دونهم خلافا لمن
وهم فيه- والقدير- هو الفعال لما يشاء على قدر ما تقتضيه
الحكمة، وقلما يوصف به غيره تعالى، والمقتدر إن استعمل فيه-
تعالى- فمعناه «القدير» أو في البشر فمعناه المتكلف والمكتسب
للقدرة، واشتقاق القدرة من القدر بمعنى التحديد والتعيين، وفي
الآية دليل على أن الممكن الحادث حال بقائه مقدور لأنه شيء وكل
شيء مقدور له تعالى، ومعنى كونه مقدورا أن الفاعل إن شاء أعدمه
وإن شاء لم يعدمه واحتياج الممكن حال بقائه إلى المؤثر مما
أجمع عليه من قال: إن علة الحاجة هي الإمكان ضرورة أن الإمكان
لازم له حال البقاء وأما من قال: إن علة الحاجة الحدوث وحده أو
مع الإمكان قال باستغنائه إذ لا حدوث حينئذ وتمسك في ذلك ببقاء
البناء بعد فناء البناء، ولما رأى بعضهم شناعة ذلك قالوا: إن
الجواهر لا تخلو عن الأعراض وهي لا تبقى زمانين فلا يتصور
الاستغناء عن القادر سبحانه بحال، وهذا مما ذهب إليه الأشعري-
ولما فيه من مكابرة الحس ظاهرا- أنكره أهل الظاهر، نعم يسلمه
العارفون من أهل الشهود- وناهيك بهم- حتى إنهم زادوا على ذلك
فقالوا: إن الجواهر لا تبقى زمانين أيضا والناس في لبس من خلق
جديد، وأنا أسلم ما قالوا وأفوض أمري إلى الله الذي لا يتقيد
بشأن وقد كان ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان، ثم المراد
من هذا التمثيل تشبيه حال المنافقين في الشدة
(1/182)
|