روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)

ولباس إيمانهم
المبطن بالكفر المطرز بالخداع حذر القتل بحال ذوي مطر شديد فيه ما فيه يرقعون خروق آذانهم بأصابعهم حذر الهلاك إلى آخر ما علم من أوصافهم، ووجه الشبه وجدان ما ينفع ظاهره وفي باطنه بلاء عظيم، وقيل:
شبه سبحانه المنافقين بأصحاب الصيب، وإيمانهم المشوب بصيب فيه ما تلى من حيث إنه وإن كان نافعا في نفسه لكنه لما وجد كذا عاد نفعه ضرا، ونفاقهم حذرا عن النكاية يجعل الأصابع في الآذان مما دها حذر الموت من حيث إنه لا يرد من القدر شيئا وتحيرهم لشدة ما عني وجهلهم بما يأتون ويذرون بأنهم كلما صادفوا من البرق خفقة انتهزوها فرصة مع خوف أن يخطف أبصارهم فحطوا يسيرا ثم إذا خفي بقوا متقيدين لا حراك لهم، وقيل: جعل الإسلام- الذي هو سبب المنافع في الدارين- كالصيب الذي هو سبب المنفعة وما في الإسلام من الشدائد والحدود بمنزلة الظلمات والرعد وما فيه من الغنيمة والمنافع بمنزلة البرق فهم قد جعلوا أصابعهم في آذانهم من سماع شدائده وإذا لمع لهم برق غنيمة مشوا فيه وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ بالشدائد قامُوا متحيرين، وقيل: غير ذلك، وما تقتضيه جزالة التنزيل وتستدعيه فخامة شأنه الجليل غير خفي عليك إذا لمعت بوارق العناية لديك «ومن البطون» تشبيه من ذكر في التشبيه الأول بذوي صيب فيكون قوله تعالى: كُلَّما أَضاءَ إلخ إشارة إلى أنهم كلما وجدوا من طاعتهم حلاوة وعرضا عاجلا مَشَوْا فِيهِ وإذا حبس عليهم طريق الكرامات تركوا الطاعات، وقال الحسين: إذا أضاء له مرادهم من الدنيا في الدين أكثروا من تحصيله وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا متحيرين.
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ لما بين سبحانه فرق المكلفين وقسمهم إلى مؤمنين وكفار ومذبذبين، وقال في الطائفة الأولى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وفي الثانية سَواءٌ عَلَيْهِمْ وفي الثالثة يُخادِعُونَ اللَّهَ وشرح ما ترجع إليه

(1/183)


أحوالهم دنيا وأخرى فقال سبحانه في الأولى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 7] وفي الثانية خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة: 10] وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 7] وفي الثالثة فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة: 10] وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة: 10] أقبل عز شأنه عليهم بالخطاب على نهج الالتفات هزا لهم إلى الإصغاء وتوجيها لقلوبهم نحو التلقي وجبرا لما في العبادة من الكلفة بلذيذ المخاطبة ويكفي للنكتة الوجود في البعض، و «يا» حرف لا اسم فعل على الصحيح وضع لنداء البعيد، وقيل: لمطلق النداء أو مشتركة بين أقسامه، وعلى الأول ينادي بها القريب لتنزيله منزلة غيره إما لعلو مرتبة المنادي أو المنادى، وقد ينزل غفلة السامع وسوء فهمه منزلة بعده، وقد يكون ذلك للاعتناء بأمر المدعو له والحث عليه لأن نداء البعيد وتكليفه الحضور لأمر يقتضي الاعتناء والحث، فاستعمل في لازم معناه على أنه مجاز مرسل أو استعارة تبعية في الحرف أو مكنية وتخييلية- وهو مع المنادى المنصوب لفظا أو تقديرا به لنيابته عن نحو ناديت الإنشائي أو بناديت اللازم الإضمار لظهور معناه مع قصد الإنشاء- كلام يحسن السكوت عليه كما يحسن في نحو «لا، ونعم» وأي- لها معان- شهيرة والواقعة في النداء نكرة موضوعة لبعض من كل، ثم تعرفت بالنداء وتوصل بها لنداء ما فيه- أل- لأن «يا» لا يدخل عليها في غير الله إلا شذوذا لتعذر الجمع بين حرفي التعريف فإنهما كمثلين وهما لا يجتمعان إلا فيما شذّ من نحو:
فلا والله لا يلفى لما بي ... ولا للما بهم أبدا دواء
وأعطيت حكم المنادى وجعل المقصود بالنداء وصفا لها والتزم فيه هذه الحركة الخاصة المسماة بالضمة خلافا للمازني فإنه أجاز نصبه وليس له في ذلك سلف ولا خلف لمخالفته للمسموع وإنما التزم ذلك إشعارا بأنه المقصود بالنداء ولا ينافي هذا كون الوصف تابعا غير مقصود بالنسبة لمتبوعه لأن ذلك بحسب الوضع الأصلي حيث لم يطرأ عليه ما يجعله مقصودا في حد ذاته ككونه مفسرا لمبهم ومن هنا لم يشترطوا في هذا الوصف الاشتقاق مع أن النحويين- إلا النذر- كابن الحاجب اشترطوا ذلك في النعوت على ما بين في محله، و «ها» التنبيهية زائدة لازمة للتأكيد والتعويض عما تستحق من المضاف إليه أو ما في حكمه من التنوين كما في أَيًّا ما تَدْعُوا [الإسراء: 110] وإن لم يستعمل هنا مضافا أصلا وكثر النداء في الكتاب المجيد على هذه الطريقة لما فيها من التأكيد الذي كثيرا ما يقتضيه المقام بتكرر الذكر والإيضاح بعد الإبهام والتأكيد بحرف التنبيه واجتماع التعريفين. هذا ما ذهب إليه الجمهور، وقطع الأخفش- لضعف نظره- بأن «أيا» الواقعة في النداء موصولة حذف صدر صلتها وجوبا لمناسبة التخفيف للمنادى- وأيد بكثرة وقوعها في كلامهم- موصولة، وندرة وقوعها موصوفة، واعتذر عن عدم نصبها حينئذ مع أنها مضارعة للمضاف بأنه إذا حذف صدر صلتها كان الأغلب فيها البناء على الضم، فحرف النداء على هذا يكون داخلا على مبني على الضم ولم يغيره، وإن كان مضارعا للمضاف، ويؤيد الأول عدم الاحتياج إلى الحذف وصدق تعريف النعت والموافقة مع هذا وأنها لو كانت موصولة لجاز أن توصل بجملة فعلية أو ظرفية إلى غير ذلك مما يقطع المنصف معه بأرجحية مذهب الجمهور، نعم أورد عليه إشكال استصعبه بعض من سلف من علماء العربية وقال: إنه لا جواب له- وهو أن ما ادعوا كونه تابعا- معرب بالرفع وكل حركة إعرابية إنما تحدث بعامل ولا عامل يقتضي الرفع هناك لأن متبوعه مبني لفظا ومنصوب محلا فلا وجه لرفعه، وأقول: إن هذا من الأبحاث الواقعة بين أبي نزار وابن الشجري، وذلك أنه وقع سؤال عن ضمة هذا التابع فكتب أبو نزار أنها ضمة بناء وليست ضمة إعراب لأن ضمة الإعراب لا بد لها من عامل يوجبها ولا عامل هنا يوجب هذه الضمة، وكتب الشيخ منصور موهوب بن أحمد أنها ضمة إعراب ولا يجوز أن تكون ضمة بناء، ومن قال ذلك فقد غفل عن الصواب، وذلك لأن الواقع عليه النداء أي

(1/184)


المبني على الضم لوقوعه موقع الحرف والاسم الواقع بعد وإن كان مقصودا بالنداء إلا أنه صفة أي فمحال أن يبنى أيضا لأنه مرفوع رفعا صحيحا، ولهذا أجاز فيه المازني النصب على الموضع كما يجوز في «يا» زيد الظريف. وعلة الرفع أنه لما استمر الضم في كل منادى معرفة أشبه ما أسند إليه الفعل فأجريت صفته على اللفظ فرفعت، وأجاب ابن الشجري بما أجاب به الشيخ وكتب أنها ضمة إعراب لأن ضمة المنادى المفرد لها- باطرادها- منزلة بين منزلتين فليست كضمة حيث لأنها غير مطردة لعدم اطراد العلة التي أوجبتها ولا كضمة زيد في نحو- خرج زيد- لأنها حدثت بعامل لفظي ولما اطردت الضمة في نحو- يا زيد يا عمرو- وكذلك اطردت في نحو- يا رجل يا غلام- إلى ما لا يحصى نزل الاطراد فيها منزلة العامل المعنوي الواقع للمبتدأ من حيث اطردت الرفعة في كل اسم ابتدئ به مجردا عن عامل لفظي وجيء له بخبر- كعمرو منطلق، وزيد ذاهب- إلى غير ذلك فلما استمرت ضمة المنادى في معظم الأسماء كما استمرت في الأسماء المعربة الضمة- الحادثة عن الابتداء- شبهتها العرب بضمة المبتدأ فأتبعها ضمة الإعراب في صفة المنادى في نحو «يا زيد الطويل» وجمع بينهما أيضا أن الاطراد معنى كما في الابتداء كذلك، ومن شأن العرب أن تحمل الشيء على الشيء مع حصول أدنى مناسبة بينهما حتى أنهم قد حملوا أشياء على نقائضها، ألا ترى أنهم أتبعوا حركة الإعراب حركة البناء في قراءة من قرأ الحمد لله- بضم اللام وكذلك أتبعوا حركة البناء حركة الإعراب في نحو- يا زيد بن عمرو- في قول من فتح الدال من زيد؟! انتهى ملخصا، وقد ذكر ذلك ابن الشجري في أماليه وأكثر في الحط على ابن نزار وبين ما وقع بينه وبينه مشافهة، ولو
لا مزيد الإطالة لذكرته بعجره وبجره، وأنت تعلم ما في ذلك كله من الوهن، ولهذا قال بعض المحققين: إن الحق أنها حركة اتباع ومناسبة لضمة المنادى- ككسر الميم من غلامي- وحينئذ يندفع الإشكال كما لا يخفى على ذوي الكمال. بقي الكلام في اللام الداخلة على هذا النعت هل هي للتعريف أم لا؟ والذي عليه الجمهور- وهو المشهور- أنها للتعريف كما تقدمت الإشارة إليه، ولما سئل عن ذلك أبو نزار قال: إنها هناك ليست للتعريف لأن التعريف لا يكون إلا بين اثنين في ثالث واللام فيما نحن فيه داخلة في اسم المخاطب، ثم قال: والصحيح أنها دخلت بدلا من- يا، وأي- وإن كان منادي إلا أن نداءه لفظي، والمنادى على الحقيقة هو المقرون- بأل- ولما قصدوا تأكيد التنبيه- وقدروا تكرير حرف النداء- كرهوا التكرير فعوضوا عن حرف النداء ثانيا- ها- وثالثا- أل- وتعقبه ابن الشجري قائلا: إن هذا قول فاسد بل اللام هناك لتعريف الحضور كالتعريف في قولك جاء هذا الرجل مثلا ولكنها لما دخلت على اسم المخاطب صار الحكم للخطاب من حيث كان قولنا يا أيها الرجل معناه يا رجل، ولما كان الرجل هو المخاطب في المعنى غلب حكم الخطاب فاكتفى باثنين لأن أسماء الخطاب لا تفتقر في تعريفها إلى حضور ثالث، ألا ترى أن قولك خرجت يا هذا وانطلقت وأكرمتك لا حاجة به إلى ثالث؟ وليس كل وجوه التعريف يقتضي أن يكون بين إثنين في ثالث فإن ضمير المتكلم في- أنا خرجت- معرفة إجماعا ولا يتوقف تعريفه على حضور ثالث، وأيضا ما قص من حديث التعويض يستدعي بظاهره أن يكون أصل يا أيها الرجل مثلا «يا أي يا يا رجل» وأنهم عوضوا من- يا- الثانية- ها- ومن الثالثة الألف واللام، وأنت تعلم أن هذا مع مخالفته لقول الجماعة خلف من القول يمجه السمع وينكره الطبع فليفهم.
والنَّاسُ اسم جمع على ما حققه جمع، والجموع وأسماؤها المحلاة- بال- للعموم حيث لا عهد خارجي كما يدل عليه وقوع الاستثناء والأصل فيه الاتصال وهو يقتضي الدخول يقينا ولا يتصور إلا بالعموم، ونحو- ضربت زيدا إلا رأسه وصمت رمضان إلا عشره الأخير- عام تأويلا، وكذا التأكيد بما يفيد العموم إذ لو لم يكن هناك عموم كان التأكيد تأسيسا والاتفاق على خلافه، وشيوع استدلال الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالعموم كما في حديث

(1/185)


السقيفة وهم أئمة الهدى. ثم هذا الخطاب في نحو يا أَيُّهَا النَّاسُ يسمى بالخطاب الشفاهي عند الأصوليين قالوا:
وليس عاما لمن بعد الموجودين في زمن الوحي أو لمن بعد الحاضرين مهابط الوحي، والأول هو الوجه وإنما يثبت حكمه لهم بدليل آخر من نص أو قياس أو إجماع، وأما بمجرد الصيغة فلا، وقالت الحنابلة: بل هو عام لمن بعدهم إلى يوم القيامة، واستدل الأولون بأنا نعلم أنه لا يقال للمعدومين نحو يا أَيُّهَا النَّاسُ قال العضد: وإنكاره مكابرة وبأنه امتنع خطاب الصبي والمجنون بنحوه وإذا لم نوجهه نحوهم مع وجودهم لقصورهم عن الخطاب فالمعدوم أجدر أن يمنع لأن تناوله أبعد، واستدل الآخرون بأنه لو لم يكن الرسول صلّى الله عليه وسلّم مخاطبا به لمن بعدهم لم يكن مرسلا إليهم واللازم منتف وبأنه لم يزل العلماء يحتجون على أهل الأعصار ممن بعد الصحابة بمثل ذلك، وهو إجماع على العموم لهم.
وأجيب: أما عن الأول فبأن الرسالة إنما تستدعي التبليغ في الجملة وهو لا يتوقف على المشافهة بل يكفي فيه حصوله للبعض شفاها وللبعض بنصب الدلائل والأمارات على أن حكمهم حكم الذين شافههم، وأما عن الثاني فبأنه لا يتعين أن يكون ذلك لتناوله لهم بل قد يكون لأنهم علموا أن حكمه ثابت عليهم بدليل آخر قاله غير واحد.
وفي شرح العلامة الثاني للشرح العضدي أن القول بعموم الشفاهي وإن نسب إلى الحنابلة ليس ببعيد. وقال بعض أجلّة المحققين: إنه المشهور حتى قالوا إن الحق أن العموم معلوم بالضرورة من الدين المحمدي وهو الأقرب، وقول العضد: إن إنكاره مكابرة حق لو كان الخطاب للمعدومين خاصة، أما إذا كان للموجودين والمعدومين على طريق التغليب فلا، ومثله فصيح شائع وكل ما استدل به على خلافه ضعيف انتهى. وإلى العموم ذهب كثير من الشافعية على أنه عندهم عام بحاق لفظه ومنطوقه من غير احتياج إلى دليل آخر، وقد قيل: إنه من قبيل الخطاب العام الذي أجري على غير ظاهره كما في قوله:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
هذا وعلى كل حال ما روي عن ابن مسعود وعلقمة من أن كل شيء- نزل فيه «يا أيها الناس» مكي و «يا أيها الذين آمنوا» مدني إن صح ولم يؤول- لا يوجب تخصيص هذا العام بوجه بالكفار بل هم أيضا داخلون فيه ومأمورون بأداء العبادة كالاعتقاد، والأمر بالشيء أمر بما لا يتم إلا به وكون الإيمان أصل العبادات، ولو وجب بوجوبها انقلب الأصل تبعا مردود بأن الأصالة بحسب الصحة لا تنافي التبعية في الوجوب على أنه واجب استقلالا أيضا، والعجب كيف خفي على مشايخ سمرقند؟! وهذا ما ذهب إليه العراقيون والشافعية، ويؤيده ظواهر الآيات كقوله تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت: 6] وقوله سبحانه: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر: 42، 44] وذهب البخاريون إلى أنهم مكلفون في حق الاعتقاد فقط، وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لم ينص ظاهرا على شيء في المسألة لكن في كلام صاحبه الثاني ما يدل عليها، ولعل ذلك من الإمام لأنه لا ثمرة للخلاف في الدنيا للاتفاق على أنهم ما داموا كفارا يمتنع منهم الإقدام عليها ولا يؤمرون بها وإذا أسلموا لم يجب قضاؤها عليهم، وإنما ثمرته في الآخرة وهو أنهم يعذبون على تركها كما يعذبون على ترك الإيمان عند من قال بوجوبها عليهم، وعلى ترك الإيمان فقط عند من لم يقل، وهذا في غير العقوبات والمعاملات، أما هي فمتفق على خطابهم بها، والأمر بالعبادة هنا للطوائف الثلاث باعتبار أن المراد بها الشامل لإيجاد أصلها والزيادة والثبات- فاعبدوا- يدل على طلب في الحال لعبادة مستقلة وهي من الكفار ابتداء عبادة ومن بعض المؤمنين زيادة ومن آخرين مواظبة، وليس الابتداء والزيادة والمواظبة داخلا في المفهوم وضعا فلا محذور في شيء أصلا خلافا لمن توهمه فتكلف في

(1/186)


دفعه وذكر- سبحانه- الرب ليشير إلى أن الموجب القريب للعبادة هي نعمة التربية، وإن كانت عبادة الكاملين لذاته تعالى من غير واسطة أصلا سوى أنه هو هو فسبحانه من إله ما أعظمه ومن رب ما أكرمه الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الموصول صفة مادحة للرب، وفيها أيضا تعليل العبادة أو الربوبية على ما قيل، فإن كان الخطاب في ربكم شاملا للفرق الثلاث فذاك وإن خص بالمشركين وأريد بالرب ما تعورف بينهم من إطلاقه على غيره تعالى احتمل أن تكون مقيدة إن حملت الإضافة على الجنس وموضحة إن حملت على العهد، ولا يبعد على هذا أن تكون مادحة لأن المطلق يتبادر منه رب الأرباب إلا أن جعلها للتقييد والتوضيح أظهر بناء على ما كانوا فيه وتعريضا بما كانوا عليه ولأنه الأصل فلا يترك إلا بدليل، والخلق الاختراع بلا مثال ويكون بمعنى التقدير وعلى الأول لا يتصف به سواه سبحانه، وعلى الثاني قد يتصف به غيره ومنه فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 14] وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ [المائدة: 110] وقول زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثم لا يفري
ومن العجب أن أبا عبد الله البصري- أستاذ القاضي عبد الجبار- قال: إطلاق الخالق عليه تعالى محال لأن التقدير يستدعي الفكر والحسبان وهي مسألة خلافية بينه وبين الله تعالى القائل: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ [الحشر:
24] وبقول الله تعالى أقول، والموصول الثاني عطف على المنصوب في خَلَقَكُمْ وقبل- ظرف زمان بكثرة ومكان بقلة ويتجوز بها عن التقدم بالشرف والرتبة، والخطاب إن شمل المؤمنين وغيرهم فالمراد- بالذين قبلهم- من تقدمهم في الوجود ومن هو موجود وهو أعلى منزلة منهم وفي هذا تذكير لكمال جلال الله تعالى وربوبيته وفيه من تأكيد أمر العبادة ما لا يخفى، وقدم سبحانه التنبيه على- خلقهم- وإن كان متأخرا بالزمان لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر ولأنهم المواجهون بالأمر بالعبادة فتنبيههم أولا على أنفسهم آكد وأهم، وأتى- بالخلق- صلة والصلات لا بد من كونها معلومة الانتساب عند المخاطب، ولذا يعرف الموصول عنده بما فيها من العهد، واشترطت خبريتها إشارة إلى أنه ليس في المخاطبين من ينكر كون الخالق هو الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ [الزخرف: 87] أو مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25، الزمر: 38] وانفهام ذلك من الوصف- بناء على ما قالوا- الأخبار بعد العلم بها أوصاف الأوصاف قبل العلم بها أخبار مما قاله بعض المحققين وإن كان هناك من لا يعلم أن الله تعالى خالقه وخالق من قبله احتيج إلى ادعاء التغليب أو تنزيل غير العالم منزلة العالم لوضوح البراهين فتخرج الجملة مخرج المعلوم على خلاف مقتضى الظاهر، وقرأ ابن السميقع- وخلق من قبلكم- وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما- والذين من قبلكم- بفتح الميم، واستشكل لتوالي موصولين والصلة واحدة وخرجت على جعل- من- تأكيدا للذين فلا يحتاج إلى صلة نحو قوله:
من النفر اللائي الذين إذا هم ... تهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا
واعترض بأن الحرف لا يؤكد بدون إعادة ما اتصل به فالموصول أولى بذلك إذ يكاد أن يكون تأكيده كتأكيد بعض الاسم- فمن- حينئذ موصولة أو موصوفة وهي خبر مبتدأ مقدر وما بعدها صلة أو صفة وهي مع المقدر صلة الموصول الأول ويكون على أحد الاحتمالين نظير. فقلت وأنكرت الوجوه هم هم. وتخريج البيت على نحو هذا، وقيل: مِنْ زائدة، وقد أجاز بعض النحاة زيادة الأسماء، والكسائي زيادة مِنْ الموصولة، وجعل- من ذلك.
وكفى بنا فضلا على من غيرنا ... حب النبي محمد إيانا

(1/187)


وبعضهم استشكل القراءة المشهورة أيضا بأن- الذين- أعيان ومِنْ قَبْلِكُمْ ناقص ليس في الأخبار به عنها فائدة، فكذلك الوصل به إلا على تأويل وتأويله أن ظرف الزمان إذا وصف لفظا أو تقديرا مع القرينة صح الإخبار والوصل به تقول نحن: في يوم طيب، وما- هنا في تقدير- والذين- كانوا من زمان قبل زمانكم، وقدر أبو البقاء- والذين خلقهم- من قبل خلقكم فحذف الفعل الذي هو صلة وأقيم متعلقه مقامه فتدبر لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ- لعل- في المشهورة موضوعة للترجي وهو الطمع في حصول أمر محبوب ممكن الوقوع والإشفاق وهو توقع مخوف ممكن، والظاهر التقابل فتكون مشتركة، وذكر الرضى أنها للترجي وهو ارتقاب شيء لا وثوق بحصوله فيدخل فيه الطمع والإشفاق، والذي يميل إليه القلب ما ذكره بعض المحققين إنها لانشاء توقع أمر متردد بين الوقوع وعدمه مع رجحان الأول، إما محبوب فيسمى رجاء أو مكروه فيسمى إشفاقا وذلك قد يعتبر تحققه بالفعل إما من جهة المتكلم- وهو الشائع- لأن معاني الإنشاءات قائمة به، وإما من جهة المخاطب تنزيلا له منزلة المتكلم في التلبس التام بالكلام الجاري بينهما. ومنه لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] وقد يعتبر تحققه بالقوة بضرب من التجوز إيذانا بأن ذلك الأمر في نفسه مئنة للتوقع متصف بحيثية مصححة له من غير أن يعتبر هناك توقع بالفعل من متوقع أصلا. ففي الآية الكريمة- إن جعلت الجملة حالا من مفعول خلقكم وما عطف عليه بطريق تغليب المخاطبين على الغائبين لأنهم المأمورون بالعبادة- امتنع حمل- لعل- على حقيقتها لا بالنظر إلى المتكلم لاستحالة الترجي على عالم الغيب والشهادة الفاعل لما يشاء، ولا بالنظر إلى المخاطبين لأنهم حين الخلق لم يكونوا عالمين فيكف يتصور الرجاء منهم؟! ولا يجوز جعلها حالا مقدرة لأن المقدر حال الخلق التقوى لا رجاؤها فلا بد أن يحمل على المعنى المجازي بأن يشبه طلب التقوى منهم بعد اجتماع أسبابه ودواعيه بالترجي في أن متعلق كل واحد منهما مخير بين أن يفعل وأن لا يفعل مع رجحان ما بجانب الفعل فيستعمل كلمة- لعل- الموضوع له فيه فيكون استعارة تبعية أو تشبه ضورة منتزعة من حال خالقهم بالقياس إليهم بعد أن مكنهم على التقوى وتركها مع رجحانها منهم بحال المرتجى بالقياس إلى المرتجى منه القادر على المرتجى، وتركه مع رجحان وجوده فيكون استعارة تمثيلية إلا أنه ذكر من المشبه به ما هو العمدة فيه أعني كلمة- لعل- أو تشبه ذواتهم بمن يرجى منه التقوى فيثبت له بعض لوازمه أعني الرجاء فيكون استعارة بالكناية، وجعل المشبه إرادته تعالى في الاستعارة والتمثيل نزغة اعتزالية مؤسسة على القاعدة القائلة بجواز تخلق المراد عن إرادته تعالى شأنه وبعضهم (1) قال بالترجي هنا إلا أنه ليس من المتكلم ولا من المخاطب بل من غيرهما كما في قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ [هود: 12] لأنه لما ولد كل مولود على الفطرة كان بحيث إن تأمله متأمل توقع منه رجاء أن يكون متقيا وليس بالبعيد، وإن جعلت حالا من فاعل خَلَقَكُمْ امتنعت الحقيقة أيضا وتعينت بعض الوجوه، وإن جعلت حالا من ضمير اعْبُدُوا جاز إبقاء الترجي على حقيقته مصروفا إلى المخاطبين- أي راجين التقوى- والمراد بها حينئذ منتهى درجات السالكين وهو طرح الهوى ونبذ السوي والفوز بالمحبوب الأعلى وفي ذلك غاية المبتغي والعروج فوق سدرة المنتهى. وقد شاع ذلك عند الأقصى والأدنى وبذلك يصح الترغيب ويندفع ما قيل إن اللائق بالبلاغة القرآنية أن يعتبر من أول الأمر غاية عبادتهم وما هو لذة لهم- أعني الثواب- لا ما يشق عليهم وهو التقوى وإن كان مفضيا إليه ووجه الدفع ظاهر، وما قاله المولى التفتازاني- من أن تقييد العبادة بترجي التقوى ليس له كثير معنى إنما المناسب تقييدها بالتقوى أو اقترانها برجاء ثوابها- يدفعه أن في الترجي تنبيها على أن العابد ينبغي أن لا يفتر في
__________
(1) أي ابن عطية اهـ منه.

(1/188)


عبادته ويكون ذا خوف ورجاء، نعم قالوا: الحال قيد لعاملها وهو هنا الأمر، فإن قلنا: إنه أعم من الوجوب فلا إشكال، وإن قلنا: إنه حقيقة في الوجوب اقتضى وجوب الرجاء المقيد به العبادة المأمور بها ولعله ليس بواجب والقول بأنه يقتضي وجوب المقيد دون القيد فيه كلام في الأصول لا يخفى على ذويه. وما أورد من أنه يلزم على هذا الوجه التوسط بين العصا ولحائها، فإن الذي جعل لكم الأرض موصول بربكم صفة له- يجاب عنه بأن القطع يهون الفصل وإن كان هناك اتصال معنوي، وإن جعل الَّذِي جَعَلَ مبتدأ- خبره لا تجعلوا- كاد يزول الإشكال ويرتفع المقال، ومع هذا لا شك في مرجوحية هذا الوجه وإن أشعر كلام مولانا البيضاوي بأرجحيته، ثم لا يبعد أن يقال: إن المعنى في الآية على التعليل إما لأن- لعل- تجيء بمعنى كي كما ذهب إليه ابن الأنباري وغيره (2) واستشهدوا بقوله:
فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا ... نكف ووثقتم (3) لنا كل موثق
أو لأنها تجيء للإطماع فيكنى به بقرينة المقام عن تحقق ما بعدها على عادة الكبراء، ثم يتجوز به عن كل متحقق كتحقق العلة سواء كان معه أطماع أم لا على ما قيل. ولا يرد أن تعليل الخلق وهو فعله تعالى مما لم يجوزه أكثر الأشاعرة حيث منعوا تعليل أفعاله سبحانه بالأغراض لئلا يلزم استكماله- عز شأنه- بالغير وهو محال لأنا نقول الحق الذي لا محيص عنه أن أفعاله تعالى معللة بمصالح العباد مع أنه سبحانه لا يجب عليه الأصلح، ومن أنكر تعليل بعض الأفعال- لا سيما الأحكام الشرعية كالحدود- فقد كاد أن ينكر النبوة كما قاله مولانا صدر الشريعة، والوقوف على ذلك في كل محل مما لا يلزم، على أن بعضهم يجعل الخلاف في المسألة لفظيا لأن العلة إن فسرت بما يتوقف عليه ويستكمل به الفاعل امتنع ذلك في حقه سبحانه، وإن فسرت بالحكمة المقتضية للفعل ظاهرا مع الغنى الذاتي فلا شبهة في وقوعها ولا ينكر ذلك إلا جهول أو معاند، وإنما لم يقل سبحانه في النظم تعبدون لأجل- اعبدوا- أو اتقوا لأجل تتقون ليتجاوب طرفاه مع اشتماله على صنعة بديعة من رد العجز على الصدر لأن التقوى قصارى أمر العابد فيكون الكلام أبعث على العبادة وأشد إلزاما كذا قيل، وفي القلب منه شيء، وسبب حذف مفعول تَتَّقُونَ مما لا يخفى، وابن عباس رضي الله تعالى عنه يقدره- الشرك- والضحاك- النار- وأظنك لا تقدر شيئا، ولما أمر سبحانه المكلفين بعبادة الرب الواجد لهم- ووصفه بما وصفه، ومعلوم أن الصفة آلة لتمييز الموصوف عما عداه وأن تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية- أشعرت الآية أن طريق معرفته تعالى والعلم بوحدانيته واستحقاقه العبادة النظر في صنعه، ولما كان التربية والخلق اللذان نيط بهما العبادة سابقين على طلبها فهم أن العبد لا يستحق ثوابا حيث أنعم عليه قبل العبادة بما لا يحصى مما لا تفي الطاقة البشرية بشكره ولا تقاوم عبادته عشر عشره، واستدل بالآية من زعم أن التكليف بالمحال واقع حيث أمر سبحانه بعبادته من آمن به ومن كفر بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون، وقد تقدم الكلام في ذلك فارجع إليه الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً الموصول إما منصوب على أنه نعت- ربكم- أو بدل منه أو مقطوع بتقدير أخص أو أمدح وكونه مفعول تتقون- كما قاله أبو البقاء- إعراب غث ينزه القرآن عنه، وكونه نعت الأول يرد عليه أن النعت لا ينعت عند الجمهور إلا في مثل يا أيها الفارس ذو الجمة، وفيه أيضا غير مجمع عليه، وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره جملة فَلا تَجْعَلُوا والفاء قد تدخل في خبر الموصول بالماضي كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ [البروج: 10] إلى
__________
(2) قطرب وابن كيسان اهـ منه.
(3) فإن قوله: وثقتم إلخ يقتضي عدم التردد في الوقوع كما في الترجي وبهذا يتعين أنها بمعنى كي فليفهم اهـ منه.

(1/189)


قوله تعالى: فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ [البروج: 10] والاسم الظاهر يقوم مقام الرابط عند الأخفش والإنشاء يقع خبرا بالتأويل المشهور، ومع هذا كله الأولى ترك ما أوجبه وأبرد من بخ قول من زعم أنه مبتدأ خبره رِزْقاً لَكُمْ بتقدير يرزق، وجَعَلَ بمعنى صير والمنصوبان بعده مفعولاه، وقيل: بمعنى أوجدوا انتصاب الثاني على الحالية أي أوجد الأرض حالة كونها مفترشة لكم فلا تحتاجون للسعي في جعلها كذلك، ومعنى تصييرها فِراشاً أي كالفراش في صحة القعود والنوم عليها أنه سبحانه جعل بعضها بارزا عن الماء مع أن مقتضى طبعها أن يكون الماء محيطا بأعلاها لثقلها وجعلها متوسطة بين الصلابة واللين ليتيسر التمكن عليها بلا مزيد كلفة، فالتصيير باعتبار أنه لما كانت قابلة لما عدا ذلك فكأنه نقلت منه وإن صح ما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- أن الأرض خلقت قبل خلق السماء غير مدحوة فدحيت بعد خلقها ومدت- فأمر التصيير حينئذ ظاهر إلا أن كل الناس غير عالمين به، والصفة يجب أن تكون معلومة للمخاطب والذهاب إلى الطوفان، واعتبار التصيير بالقياس إليه من اضطراب أمواج الجهل ولا ينافي كرويتها كونها فِراشاً لأن الكرة إذا عظمت كان كل قطعة منها كالسطح في افتراشه كما لا يخفى. وعبر سبحانه هنا- يجعل- وفيما تقدم- بخلق- لاختلاف المقام أو تفننا في التعبير كما في قوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الإنعام: 1] وتقديم المفعول الغير الصريح لتعجيل المسرة ببيان كون ما يعقبه من منافع المخاطبين أو للتشويق إلى ما يأتي بعده لا سيما بعد الإشعار بمنفعته فيتمكن عند وروده فضل تمكن، أو لما في المؤخر وما عطف عليه من نوع طول فلو قدم لفات تجاوب الأطراف، واختار سبحانه لفظ- السماء- على السماوات موافقة للفظ- الأرض- وليس في التصريح بتعددها هنا كثير نفع، ومع هذا يحتمل أن يراد بها مجموع السماوات، وكل طبقة وجهة منها، والبناء في الأصل مصدر أطلق على المبنى بيتا كان (1) أو قبة أو خباء أو طرافا، ومنه بنى بأهله أو على أهله خلافا للحريري لأنهم كانوا إذا تزوّجوا ضربوا خباء جديدا ليدخلوا على العروس فيه، والمراد بكون السَّماءَ بِناءً أنها كالقبة المضروبة أو أنها كالسقف للأرض، ويقال لسقف البيت بناء، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقدم سبحانه حال الأرض لما أن احتياجهم إليها وانتفاعهم بها أكثر وأظهر، أو لأنه تعالى لما ذكر خلقهم ناسب أن يعقبه بذكر أول ما يحتاجونه بعده وهو المستقر أو ليحصل العروج من الأدنى إلى الأعلى، أو لأن خلق الأرض متقدم على خلق السماء- كما يدل عليه ظواهر كثير من الآيات- أو لأن الأرض لكونها مسكن النبيين ومنها خلقوا أفضل من السماء، وفي ذلك خلاف مشهور، وقرأ يزيد الشامي: «بساطا» ، وطلحة «مهادا» وهي نظائر، وأدغم أبو عمرو لام- جعل- في لام- لكم- وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ عطف على- جعل- ومِنَ الأولى للابتداء متعلقة بأنزل أو بمحذوف وقع حالا من المفعول وقدم عليه للتشويق على الأول مع ما فيه من مزيد الانتظام مع ما بعد، أو لأن السماء أصله ومبدؤه ولتتأتى الحالية على الثاني إذ لو قدم المفعول- وهو نكرة- صار الظرف صفة، وذكر في البحر أن مِنَ على هذا للتبعيض أي من مياه السماء وهو كما ترى. والمراد من السماء جهة العلو أو السحاب وإرادة الفلك المخصوص بناء- على الظواهر- غير بعيدة نظرا إلى قدرة الملك القادر جل جلاله وسمت عن مدارك العقل أفعاله، إلا أن الشائع أن الشمس إذا سامتت بعض البحار والبراري أثارت من البحار بخارا رطبا ومن البراري يابسا، فإذا صعد البخار إلى طبقة الهواء الثالثة تكاثف فإن لم يكن البرد قويا اجتمع وتقاطر لثقله بالتكاثف، فالمجتمع سحاب والمتقاطر مطر، وإن كان قويا كان ثلجا وبردا، وقد لا ينعقد ويسمى ضبابا.
__________
(1) في الكشف الأول من الشعر، والثاني من لبن والثالث من وبر أو صوف، والرابع من آدم، وفي الثاني نظر وإن ذكره ابن السكيت فليراجع اهـ منه.

(1/190)


وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
وعلى هذا يراد بالنزول من السماء نشوؤه من أسباب سماوية وتأثيرات أثيرية فهي مبدأ مجازي له، على أن من انجاب عن عين بصيرته سحاب الجهل رأى أن كل ما في هذا العالم السفلي نازل من عرش الإرادة وسماء القدرة حسبما تقتضيه الحكمة بواسطة أو بغير واسطة كما يشير إليه قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر: 21] بل من علم أن الله سبحانه في السماء- على المعنى الذي أراده وبالوصف الذي يليق به مع التنزيه اللائق بجلال ذاته تعالى- صح له أن يقول: إن ما في العالمين من تلك السماء، ونسبة نزوله إلى غيرها أحيانا لاعتبارات ظاهرة وهي راجعة إليه في الآخرة- والماء- معروف، وعرفه بعضهم بأنه جوهر سيال به قوام الحيوان ووزنه فعل وألفه منقلبة عن واو وهمزته بدل من هاء كما يدل عليه مويه ومياه وأمواه وتنوينه للبعضية، وخصه سبحانه بالنزول من السماء في كثير من الآيات تنويها بشأنه لكثرة منفعته ومزيد بركته، ومِنَ الثانية إما للتبعيض إذ كم من ثمرة لم تخرج بعد- فرزقا- حينئذ بالمعنى المصدري مفعول له- لأخرج- ولَكُمُ ظرف لغو مفعول به لرزق أي أخرج شيئا مِنَ الثَّمَراتِ أي بعضها لأجل أنه رزقكم، وجوّز أن يكون بعض الثمرات مفعول أخرج، ورزقا بمعنى مرزوقا حالا من المفعول أو نصبا على المصدر لأخرج، وإما للتبيين- فرزق- بمعنى مرزوق مفعول لأخرج ولَكُمُ صفته، وقد كان مِنَ الثَّمَراتِ صفته أيضا إلا أنه لما قدم صار حالا على القاعدة في أمثاله، وفي تقديم البيان على المبين خلاف، فجوزه الزمخشري والكثيرون، ومنعه صاحب الدر المصون وغيره، واحتمال جعلها ابتدائية- بتقدير من ذكر الثمرات أو تفسير الثمرات بالبذر- تعسف لا ثمرة فيه، وأل في الثَّمَراتِ إما للجنس أو للاستغراق وجعلها له، ومِنَ زائدة ليس بشيء لأن زيادة مِنَ في الإيجاب- وقبل- معرفة مما لم يقل به إلا الأخفش، ويلزم من ذلك أيضا أن يكون جميع الثَّمَراتِ التي أخرجت رزقا لنا، وكم شجرة أثمرت ما لا يمكن أن يكون رزقا (1) وأتى بجمع القلة مع أن الموضع موضع الكثرة فكان المناسب لذلك من الثمار للإيماء إلى أن ما برز في رياض الوجود بفيض مياه الجود كالقليل بل أقل قليل بالنسبة لثمار الجنة، ولما ادخر في ممالك الغيب أو للإشارة إلى أن أجناسها من حيث إن بعضها يؤكل كله وبعضها ظاهره فقط وبعضها باطنة فقط، المشير ذلك إلى ما يشير قليلة لم تبلغ حد الكثرة، وما ذكر الإمام البيضاوي وغيره من أنه ساغ هذا الجمع هنا لأنه أراد بالثمرات جمع ثمرة أريد بها الكثرة كالثمار مثلها في قولك: أدركت ثمرة بستانك، وليست التاء للوحدة الحقيقية بل للوحدة الاعتبارية، ويؤيده قراءة ابن السميقع من الثمرة أو لأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض كقوله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ [الدخان: 25] وثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] أو لأنها لما كانت محلاة باللام خرجت عن حد القلة لا يخلو صفاؤه عن كدر كما يسفر عنه كلام الشهاب، وإذا قيل: بأن جمع السلامة المؤنث والمذكر موضوع للكثرة أو مشترك- والمقام يخصصه بها- اندفع السؤال وارتفع المقال إلا أن ذلك لم يذهب إليه من الناس إلا قليل، والباء من بِهِ للسببية، والمشهور عند الأشاعرة أنها سببية عادية في أمثال هذا الموضع فلا تأثير للماء عندهم أصلا في الإخراج بل ولا في غيره وإنما المؤثر هو الله تعالى عند الأسباب لأنها لحديث الاستكمال بالغير، قالوا: ومن اعتقد أن الله تعالى أودع قوة الري في الماء مثلا فهو
__________
(1) وقد نص على إفادة الجمع السالم المذكر والمؤنث القلة بن الدباح فقال:
بأفعل وبأفعال وأفعلة ... وفعلة يعرف الأدنى من العدد

وسالم الجمع أيضا داخل معها ... وذلك الحكم فاحفظها ولا تزد
اهـ منه. [.....]

(1/191)


فاسق وفي كفره قولان، وجمع على كفره كمن قال: إنه مؤثر بنفسه فيجب عندهم أن يعتقد المكلف أن الري جاء من جانب المبدأ الفياض بلا واسطة وصادف مجيئه شرب الماء من غير أن يكون للماء دخل في ذلك بوجه من الوجوه سوى الموافقة الصورية، والفقير لا أقول بذلك ولكني أقول: إن الله سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها شرعا وقدرا، وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني الشرعي وأمره الكوني القدري ومحل ملكه وتصرفه، فإنكار الأسباب والقوى جحد للضروريات وقدح في العقول والفطر ومكابرة للحس وجحد للشرع والجزاء، فقد جعل الله- تعالى شأنه- مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، والثواب والعقاب والحدود والكفارات والأوامر والنواهي والحل والحرمة كل ذلك مرتبطا بالأسباب قائما بها بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه، والقرآن مملوء من إثبات الأسباب، ولو تتبعنا ما يفيد ذلك من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع حقيقة لا مبالغة، ويا لله تعالى العجب إذا كان الله خالق السبب والمسبب وهو الذي جعل هذا سببا لهذا، والأسباب والمسببات طوع مشيئته وقدرته منقادة، فأي قدح يوجب ذلك في التوحيد وأي شرك يترتب عليه؟! نستغفر الله تعالى مما يقولون: فالله عز وجل يفعل بالأسباب التي اقتضتها الحكمة مع غناه عنها كما صح أن يفعل عندها لا بها، وحديث الاستكمال يرده أن الاستكمال إنما يلزم لو توقف الفعل على ذلك السبب حقيقة واللازم باطل لقوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:
82] فالأسباب مؤثرة بقوى أودعها الله تعالى فيها ولكن بإذنه وإذا لم يأذن وحال بينها وبين التأثير لم تؤثر كما يرشدك إلى ذلك قوله تعالى: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة: 102] ولو لم يكن في هذه الأسباب قوى أودعها العزيز الحكيم لما قال سبحانه: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الأنبياء: 69] إذ ما الفائدة في القول وهي ليس فيها قوة الإحراق وإنما الإحراق منه تعالى بلا واسطة ولو كان الأمر كما ذكروا لكان للنار أن تقول: إلهي ما أودعتني شيئا ولا منحتني قوة وما أنا إلا كيد شلّاء صحبتها يد صحيحة تعمل الأعمال وتصول وتجول في ميدان الأفعال أفيقال لليد الشلاء لا تفعلي وفي ذلك الميدان لا تنزلي ولا يقال ذلك لليد الفعالة وهي الحرية بتلك المقالة، ولا أظن الأشاعرة يستطيعون لذلك جوابا ولا أراهم يبدون فيه خطابا، وهذا الذي ذكرناه هو ما ذهب إليه السلف الصالح وتلقاه أهل الله تعالى بالقبول، ولا يوقعنك في شك منه نسبته للمعتزلة فإنهم يقولون أيضا لا إله إلا الله أفتشكّ فيها لأنهم قالوها معاذ الله تعالى من التعصب فالحكمة صالة المؤمن والحق أحق بالاتباع والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.
فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً نهي معطوف على- اعبدوا- مترتب عليه فكأنه قيل: إذا وجب عليكم عبادة ربكم فلا تجعلوا لله ندا وأفردوه بالعبادة إذ لا رب لكم سواه وإيقاع الاسم الجليل موقع الضمير لتعيين المعبود بالذات بعد تعيينه بالصفات وتعليل الحكم بوصف الألوهية التي عليها يدور أمر الوحدانية واستحالة الشركة والإيذان باستتباعها لسائر الصفات وقيل: لفظ الرب مستعمل في المفهوم الكلي. والله علم للجزئي الحقيقي الواجب الوجود تعالى شأنه فلا يكون من وضع المظهر موضع المضمر، وحينئذ يظهر الفرق بين هذه الآية الكريمة- حيث علق العبادة بصفة الربوبية فالمناسب الفاء- وبين قوله تعالى: اعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النساء: 36] حيث علق العبادة وعدم الشرك بذاته تعالى فالمناسب الواو، فلا يرد أن المناسب على هذا الواو كما في الآية الثانية أو نفي منصوب بإضمار- أن- جواب للأمر كما قاله مولانا البيضاوي، واعترض بأنه يأباه إن ذلك فيما يكون الأول سببا للثاني، ولا ريب في أن العبادة لا تكون سببا للتوحيد الذي هو أصلها ومنشؤها، وأجيب بأن عبادته تعالى أساسها التوحيد وعدم الإشراك به، وأما عبادة الرب فليس أصلها عدم الإشراك بذاته تعالى بل من متفرعاته، والحق أن الآية تضمنت عبادة رب موصوف بما

(1/192)


يجعله كالمشاهد من خلقه لهم ولأصولهم وإبداع الكائنات العظيمة والتفضل بإفاضة النعم الجسيمة فدلت عليه دلالة عرفتهم به، فمحصلها اعبدوا الله تعالى الذي عرفتموه معرفة لا مرية فيها، ولا شك في أن العبادة والمعرفة سبب لعدم الإشراك إذ من عرف الله تعالى لا يسوي به سواه فالذي سول للمعترض النظر للعبادة وقطع النظر عن المعرفة، ويحتمل أن يكون متعلقا بلعل فينصب الفعل نصب فَأَطَّلِعَ على قراءة جعفر من لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ [غافر: 36] إلخ على رأي (1) إلحاقا بالأشياء الستة لأنها غير موجبة لحصول ما يتضمنها فتكون كالشرط في عدم التحقق، والقول بالإلحاق لها بليت- تنزيلا للمرجو منزلة المتمنى في عدم الوقوع- يؤول إلى هذا إن أريد بعدم الوقوع عدمه في حال الحكم لا استحالته، والمعنى خلقكم لتتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه فافهم، ويحتمل أن تكون الفاء زائدة مشعرة بالسببية وجملة النهي- بتأويل القول- خبر عن الذي على جعله مبتدأ، وقيل: الجملة متعلقة بالذي، والفاء جزاء شرط محذوف، والمعنى هو الذي جَعَلَ لَكُمُ ما ذكر من النعم المتكاثرة، وإذا كان كذلك فَلا تَجْعَلُوا إلخ، والجعل هنا بمعنى التصيير وهو كما يكون بالفعل نحو- صيرت الحديد سيفا، ومنه ما تقدم على وجه- يكون بالقول والعقد- والأنداد- جمع ند- كعدل وأعدال أو نديد- كيتيم وأيتام- والند مثل الشيء الذي يضاده ويخالفه في أموره وينافره ويتباعد عنه وليس من الأضداد على الأصح، وأصله من ند ندودا إذا نفر، وقيل: الند المشارك في الجوهرية فقط، والشكل المشارك في القدر والمساحة، والشبه المشارك في الكيفية فقط، والمساوي في الكمية فقط، والمثل عام في جميع ذلك، وفي تسمية ما يعبده المشركون من دون الله أَنْداداً والحال أنهم ما زعموا أنها تماثله في ذاته تعالى وصفاته ولا تخالفه في أفعاله. وإنما عبدوها- لتقربهم إليه سبحانه زلفى- إشارة إلى استعارة تهكمية حيث استعير النظير المصادر للمناسب المقرب كما استعير التبشير للإنذار والأسد للجبان، وإن أريد بالند النظير مطلقا لم يكن هناك تضاد وإنما هو من استعارة أحد المتشابهين للآخر، فإن المشركين جعلوا الأصنام- بحسب أفعالهم وأحوالهم- مماثلة له تعالى في العبادة، وهي خطة شنعاء وصفة حمقاء في ذكرها ما يستلزم تحميقهم والتهكم بهم، ولعل الأول أولى، وفي الإتيان بالجمع تشنيع عليهم حيث جعلوا أَنْداداً لمن يستحيل أن يكون له ند واحد، ولله در موحد الفترة زيد بن عمر بن نفيل رضي الله تعالى عنه حيث يقول في ذلك:
أربّا واحدا أم ألف ربّ ... أدين إذا تقسمت الأمور

تركت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الرجل البصير
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ حال من ضمير فَلا تَجْعَلُوا والمفعول مطروح- أي وحالكم أنكم من أهل العلم والمعرفة والنظر وإصابة الرأي- فإذا تأملتم أدنى تأمل علمتم وجود صانع يجب توحيده في ذاته وصفاته لا يليق أن يعبد سواه، أو مقدر حسبما يقتضيه المقام ويسد مسد مفعولي العلم، أي تَعْلَمُونَ أنه سبحانه لا يماثله شيء، أو أنها لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله، والحال على الوجه الأول للتوبيخ أو التقييد إذ العلم مناط التكليف ولا تكليف عند عدم الأهلية، وعلى الوجه الثاني للتوبيخ لا غير لأن قيد الحكم تعليق العلم بالمفعول، ومناط التكليف العلم فقط والتوبيخ- باعتبار بعض أفراد المخاطبين بإلهي بناء على عموم الخطاب حسبما مر في الأمر- فلا يستدعي تخصيص الخطاب بالكفرة على أنه لا بأس بالتخصيص بهم أمرا ونهيا بل قيل: إنه أولى للخلاص من التكلف وحسن الانتظام إذ لا
__________
(1) فإنه قيل: يعطف أطلع على معنى (لعلى أبلغ) لأنه بمعنى أن أبلغ، ويحتمل أنه عطف على الأسباب على حد. ولبس عباءة وتقر. اهـ منه.

(1/193)


محيص في ظاهر آية التحدي من تجريد الخطاب وتخصيصه بالكفرة مع ما فيه من رباء محل المؤمنين ورفع شأنهم عن حيز الانتظام في سلك الكفرة اللئام والإيذان بأنهم مستمرون على الطاعة والعبادة مستغنون في ذلك عن الأمر والنهي فتأمل.
وقد تضمنت هذه الآيات من بدائع الصنعة ودقائق الحكمة وظهور البراهين ما اقتضى أنه تعالى المنفرد بالإيجاد المستحق للعبادة دون غيره من الأنداد التي لا تخلق ولا ترزق وليس لها نفع ولا ضر أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] ومن باب الإشارة أنه تعالى مثل البدن بالأرض، والنفس بالسماء، والعقل بالماء، وما أفاض على القوابل من الفضائل العلمية والعملية المحصلة بواسطة استعمال العقل والحس، وازدواج القوى النفسانية والبدنية بالثمرات المتولدة من ازدواج القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بإذن الفاعل المختار، وقد يقال: إنه تعالى لما امتن عليهم بأنه سبحانه- خلقهم والذين من قبلهم- ذكر ما يرشدهم إلى معرفة كيفية خلقهم فجعل الأرض التي هي فراش مثل الأم التي يفترشها الرجل، وهي أيضا تسمى فراشا، وشبه السماء التي علت على الأرض بالأب الذي يعلو على الأم ويغشاها، وضرب الماء النازل من السماء مثلا للنطفة التي تنزل من صلب الأب وضرب ما يخرج من الأرض من الثمرات مثلا للولد الذي يخرج من الأم، كل ذلك ليؤنس عقولهم ويرشدها إلى معرفة كيفية التخليق ويعرفها أنه الخالق لهذا الولد والمخرج له من بطن أمه كما أنه الخالق للثمرات ومخرجها من بطون أشجارها ومخرج أشجارها من بطن الأرض، فإذا وضح ذلك لهم أفردوه بالألوهية وخصوه بالعبادة وحصلت لهم الهداية:
تأمل في رياض الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك

عيون من لجين شاخصات ... على أهدابها ذهب سبيك

على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ لما قرر سبحانه أمر توحيده بأحسن أسلوب عقبه بما يدل على تصديق رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، والتوحيد والتصديق توأمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، فالآية وإن سيقت لبيان الإعجاز إلا أن الغرض منه إثبات النبوة، وفي التعقيب إشارة إلى الرد على التعليمية الذين جعلوا معرفة الله تعالى مستفادة من معرفة الرسول، والحشوية القائلين بعدم حصول معرفته سبحانه إلا من القرآن والأخبار، والعطف إما على قوله تعالى: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ أو على فَلا تَجْعَلُوا وتوجيه الربط بأنه لما أوجب سبحانه وتعالى العبادة ونفى الشرك- بإزاء تلك الآيات والانقياد لها لا يمكن بدون التصديق بأنها من عنده سبحانه- أرشدهم بما يوجب هذا العلم، ولذا لم يقل جل شأنه- وإن كنتم في ريب من رسالة عبدنا- غير وجيه إذ يصير عليه البرهان العقلي سميعا ولو أريد ذلك لكفى- اعبدوا، ولا تشركوا- من دون تفصيل الأدلة الأنفسية والآفاقية، والظاهر أن الخطاب هنا للكفار وهو المروي عن الحسن، وقيل لليهود: لما أن سبب النزول- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- أنهم قالوا هذا الذي يأتينا به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لا يشبه الوحي وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ [هود: 110] وقيل: هو على نحو الخطاب في اعْبُدُوا وكلمة إِنْ إما للتوبيخ على الارتياب وتصوير أنه مما لا ينبغي أن يثبت إلا على سبيل الفرض لاشتمال المقام على ما يزيله، أو لتغليب- من لا- قطع بارتيابهم على من سواهم، أو لأن البعض لما كان مرتابا والبعض غير مرتاب جعل الجميع- كأنه لا قطع بارتيابهم ولا بعدمه- وجعلها بمعنى إذ كما ادعاه بعض المفسرين- خلاف مذهب المحققين- وإيراد كلمة- كان- لإبقاء معنى المضي فإنها لتمحضها للزمان لا تقلبها- إن- إلى معنى الاستقبال- كما ذهب إليه المبرد وموافقوه- والجمهور على أنها كسائر الأفعال الماضية،

(1/194)


وقدر بعضهم بينها وبين إن يكن، أو تبين مثلا ولا يميل إليه الفؤاد، وتنكير الريب للإشعار بأن حقه- إن كان- أن يكون ضعيفا قليلا لسطوع ما يدفعه وقوة ما يزيله، وجعله ظرفا- بتنزيل المعاني منزلة الأجرام واستقرارهم فيه وإحاطته بهم- لا ينافي اعتبار ضعفه وقلته لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به لا قوته وكثرته، ومن ابتدائية صفة رَيْبٍ ولا يجوز أن تكون للتبعيض وحملها على السببية ربما يوهم كون المنزل محلا للريب وحاشاه، وما موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن الكتاب، وقيل: عن القدر المشترك بينه وبين أبعاضه. ومعنى كونهم في- ريب منه- ارتيابهم في كونه وحيا من الله تعالى شأنه، والتضعيف في نَزَّلْنا للنقل وهو المرادف للهمزة، ويؤيد ذلك قراءة زيد بن قطيب- أنزلنا- وليس التضعيف هنا دالا على نزوله منجما ليكون إيثاره على الإنزال لتذكير منشأ ارتيابهم فقد قالوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان: 32] وبناء التحدي عليه إرخاء للعنان كما ذهب إليه الكثير (1) ممن يعقد عند ذكرهم الخناصر لأن ذلك قول بدلالة التضعيف على التكثير وهو إنما يكون غالبا (2) في الأفعال التي تكون قبل التضعيف متعدية نحو- فتحت وقطعت- ونزلنا- لم يكن معتديا قبل، وأيضا التضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة وقوع الفعل وأما على أنه يجعل اللازم متعديا فلا، والفعل هنا كان لازما فكون التعدي مستفادا من التضعيف دليل على أنه للنقل لا للتكثير، وأيضا لو كان نزل مفيدا للتنجيم لاحتاج قوله تعالى: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً إلى تأويل لمنافاة العجز الصدر، وكذا مثل لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ [الأنعام: 37] ولَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا [الإسراء: 95] وقد قرىء بالوجهين في كثير مما لا يمكن فيه التنجيم والتكثير وجعل هذا غير التكثير المذكور في النحو وهو التدريج بمعنى الإتيان بالشيء قليلا قليلا كما ذكروه في تسللوا حيث فسروه بأنهم يتسللون قليلا قليلا قالوا: ونظيره تدرج وتدخل ونحوه- رتبه- أي أتى به رتبة رتبة ولم يوجد غير ذلك، فحينئذ تكون صيغة فعل بعد كونها للنقل دالة على هذا المعنى إما مجازا أو اشتراكا فلا يلزم اطراده بعيد لا سيما مع خفاء القرينة، وفي تعدي- نزل- بعلى إشارة إلى استعلاء المنزل على المنزل
عليه وتمكنه منه وأنه صار كاللابس له بخلاف إلى إذ لا دلالة لها على أكثر من الانتهاء والوصول. وفي ذكره صلى الله تعالى عليه وسلم- بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة- تنبيه على عظم قدره واختصاصه به وانقياده لأوامره، وفي ذلك غاية التشريف والتنويه بقدره صلى الله تعالى عليه وسلم:
لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي
وقرىء- عبادنا- فيحتمل أنه أريد بذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته لأن جدوى المنزل والهداية الحاصلة به لا تختص بل يشترك فيها المتبوع والتابع فجعل كأنه نزل عليهم، ويحتمل أنه أريد به النبيون الذين أنزل عليهم الوحي والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أول مقصود وأسبق داخل لأنه الذي طلب معاندوه بالتحدي في كتابه، وفيه إيذان بأن الارتياب فيه ارتياب فيما أنزل من قبله لكونه مصدقا له ومهيمنا عليه، وبعضهم (3) جعل الخطاب على هذا لمنكري النبوات الذين حكى الله تعالى عنهم بقوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الإنعام: 91] وفي الآية التفات من الغائب إلى ضمير المتكلم وإلا لقال سبحانه- مما نزل على عبده لكنه عدل سبحانه إلى ذلك تفخيما للمنزل أو المنزل عليه لا سيما وقد أتى- بنا- المشعرة بالتعظيم التام وتفخيم
__________
(1) الزمخشري، والبيضاوي، وأبو السعود، وغيرهم اهـ منه.
(2) قلنا ذلك لورود موتت الإبل.
(3) هو أبو حيان اهـ منه.

(1/195)


الأمر رعاية لرفعة شأنه عليه الصلاة والسلام، والفاء من فَأْتُوا جوابية وأمر السببية ظاهر، والأمر من باب التعجيز وإلقام الحجر كما في قوله تعالى: فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة: 258] وهو من الإتيان بمعنى المجيء بسهولة كيفما كان، ويقال في الخير والشر والأعيان والأعراض، ثم صار بمعنى الفعل والتعاطي ك لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى [التوبة: 54] وأصل فَأْتُوا فأتيوا فأعل الإعلال المشهور، وأتى شذوذا حذف الفاء فقيل «ت» و «توا» والتنوين في سورة للتنكير أي ائتوا بسورة ما وهي القطعة من القرآن التي أقلها ثلاث آيات، وفيه من التبكيت والتخجيل لهم في الارتياب ما لا يخفى.
ومِنْ مِثْلِهِ إما أن يكون ظرفا مستقرا صفة لسورة والضمير راجع إما- لما- التي هي عبارة عن المنزل أو للعبد وعلى الأول يحتمل أن تكون من للتبعيض أو للتبيين، والأخفش يجوز زيادتها في مثله، والمعنى بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة والأسلوب المعجز وهذا على الأخيرين ظاهر، وإما على التبعيض فلأنه لم يرد بالمثل مثل محقق معين للقرآن بل ما يماثله فرضا (1) كما قيل: في مثلك لا يجهل، ولا شك أن بعضيتها للمماثل الفرضي لازمة لمماثلتها للقرآن فذكر اللازم وأريد الملزوم سلوكا لطريق الكناية مع ما في لفظ مِنْ التبعيضية الدالة على القلة من المبالغة المناسبة لمقام التحدي، وبهذا رجح بعضهم التبعيض على التبيين مع ما في التبيين من التصريح بما علم ضمنا حيث إن المماثلة للقرآن تفهم من التعبير بالسورة إلا أنه مؤيد بما يأتي، وعلى الثاني يتعين أن تكون مِنْ للابتداء مثلها في إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ [النمل: 30] ويمتنع التبعيض والتبيين والزيادة امتناع الابتداء في الوجه الأول، وإما أن تكون صلة فَأْتُوا.
والشائع أن يتعين حينئذ عود الضمير للعبد لأن مِنْ لا تكون بيانية إذ لا مبهم، ولكونه مستقرا أبدا لا تتعلق بالأمر لغوا ولا تبعيضية وإلا لكان الفعل واقعا عليه حقيقة كما في- أخذت من الدراهم- ولا معنى لاتيان البعض بل المقصد الإتيان بالبعض، ولا مجال لتقدير الباء مع وجود مِنْ ولأنه يلزم أن يكون بِسُورَةٍ ضائعا فتعين أن تكون ابتدائية، وحينئذ يجب كون الضمير للعبد لا للمنزل، وجعل المتكلم مبدأ عرفا- للإتيان بالكلام منه- معنى حسن مقبول بخلاف جعل الكل مبدأ للإتيان ببعض منه فإنه لا يرتضيه ذو فطرة سليمة، وأيضا المعتبر في مبدأ الفعل هو المبدأ الفاعلي، أو المادي، أو الغائي، أو جهة يتلبس بها وليس الكل بالنسبة إلى الجزء شيئا من ذلك، وعليه يكون اعتبار مماثلة المأتي به للقرآن في البلاغة مستفادا من لفظ السورة، ومساق الكلام بمعونة المقام.
واعترض بأن معنى مِنْ لا ينحصر فيما ذكر فقد تجيء للبدل نحو أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة: 38] لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً [الزخرف: 60] وللمجاوزة كعذت منه، فعلى هذا- لو علق مِنْ مِثْلِهِ ب فَأْتُوا وحمل مِنْ على البدل أو المجاوزة ومثل- على المقحم ورجع الضمير إلى مِمَّا نَزَّلْنا على معنى فَأْتُوا بدل ذلك الكتاب العظيم شأنه الواضح برهانه أو مجاوزين من هذا الكتاب مع فخامة أثره وجلالة قدره بسورة فذة- لكان أبلغ في التحدي وأظهر في الإعجاز، على أن عدم صحة شيء مما اعتبر في المبدأ ممنوع فإن الملابسة بين الكل والبعض أقوى منها بين المكان والمتمكن، فكما يجوز جعل المكان مبدأ الفعل المتمكن يجوز أن يجعل الكل مبدأ للإتيان بالبعض، ولعل من قال ذلك لم يطرق سمعه قول سيبويه: وبمنزلة المكان ما ليس بمكان ولا زمان نحو- قرأت من أول السورة إلى آخرها، وأعطيتك من درهم إلى دينار- وأيضا فالإتيان ببعض الشيء تفريقه منه، ولا
__________
(1) وبعضهم يقول على التبعيض المراد ائتوا بمقدار بعض ما من القرآن مماثل له في البلاغة ولا إشكال فيه اهـ منه.

(1/196)


يستراب أن الكل مبدأ تفريق البعض منه، ويمكن أن يقال- وهو الذي اختاره مولانا الشهاب- أن المراد من الآية التحدي وتعجيز بلغاء العرب المرتابين فيه عن الإتيان بما يضاهيه، فمقتضى المقام أن يقال لهم: معاشر الفصحاء المرتابين في أن القرآن من عند الله ائتوا بمقدار أقصر سورة من كلام البشر محلاة بطراز الإعجاز ونظمه، وما ذكر يدل على هذا إذا كان من مثله صفة سورة سواء كان الضمير- لما- أو- للعبد- لأن معناه ائتوا بمقدار سورة تماثله في البلاغة كائنة من كلام أحد، مثل هذا العبد في البشرية فهو معجز للبشر عن الإتيان بمثله أو ائتوا بمقدار سورة من كلام هو مثل هذا المنزل ومثل الشيء غيره فهو من كلام البشر أيضا، فإذا تعلق ورجع الضمير للعبد فمعناه أيضا- ائتوا من مثل هذا العبد في البشرية بمقدار سورة تماثله- فيفيد ما ذكرنا، ولو رجع على هذا لما كان معناه- ائتوا- من مثل هذا المنزل بسورة، ولا شك أن مِنْ ليست بيانية لأنها لا تكون لغوا ولا تبعيضية لأن المعنى ليس عليه فهي ابتدائية والمبدأ ليس فاعليا بل ماديا، فحينئذ المثل الذي السورة بعض منه لم يؤمر بالإتيان به، فلا يخلو من أن يدعي وجوده وهو خلاف الواقع وابتناؤه على الزعم أو الفرض تعسف بلا مقتض أولا ولا يليق بالتنزيل، وكيف يأتون ببعض من شيء لا وجود له؟! والحق عندي أن رجوع الضمير إلى كل من العبد، ومِمَّا على تقديري اللغو والاستقرار أمر ممكن، ودائرة التأويل واسعة والاستحسان مفوض إلى الذوق السليم، والذي يدركه ذوقي- ولا أزكّي نفسي- أنه على تقدير التعلق يكون رجوع الضمير إلى العبد أحلى، والبحث في هذه الآية مشهور، وقد جرى فيه بين العضد والجاربردي ما أدى إلى تأليف الرسائل في الانتصار لكل. وقد وفقت للوقوف على كثير منها والحمد لله، ونقلت نبذة منها في- الأجوبة العراقية- ثم أولي الوجوه هنا على الإطلاق جعل الظرف صفة للسورة والضمير للمنزل ومِنْ بيانية، أما أولا فلأنه الموافق لنظائره من آيات التحدي كقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس: 38] لأن المماثلة فيها صفة للمأتي به، وأما ثانيا فلأن الكلام في المنزل لا المنزل عليه وذكره إنما وقع تبعا ولو عاد الضمير إليه ترك التصريح بمماثلة السورة وهو عمدة التحدي وإن فهم، وأما ثالثا فلأن أمر الجم الغفير- لأن يأتوا من مثل ما أتى به واحد من جنسهم- أبلغ من أمرهم بأن يجدوا أحدا يأتي بمثل ما أتى به رجل آخر، وأما رابعا فلأنه لو رجع الضمير للعبد لأوهم أن إعجازه لكونه ممن لم يدرس ولم يكتب لا أنه في نفسه معجز مع أن الواقع هذا، وبعضهم رجح رد الضمير إلى العبد صلى الله تعالى عليه وسلم باشتماله على معنى مستبدع مستجد وبأن الكلام مسوق للمنزل عليه إذ التوحيد والتصديق بالنبوة توأمان، فالمقصود إثبات النبوة والحجة ذريعة فلا يلزم من الافتتاح بذكر- ما نزلنا- أن يكون الكلام مسوقا له وبأن التحدي على ذلك أبلغ، لأن المعنى اجتمعوا كلكم وانظروا هل يتيسر لكم الإتيان بسورة ممن لم يمارس الكتب ولم يدارس العلوم؟! وضم بنات أفكار بعضهم إلى بعض معارض بهذه الحجة بل هي أقوى في الإفحام إذ لا يبعد أن يعارضوه بما يصدر عن بعض علمائهم مما اشتمل على قصص الأمم الخالية المنقولة من الكتب الماضية وإن كان بينهما بون إذ الغريق يتشبث بالحشيش، وأما إذا تحدى بسورة من أمي كذا وكذا لم يبق للعوارض مجال، هذا ولا يخفى أنه صرح ممرد ونحاس مموه، وظاهر السباق يؤيد ما قلنا ويلائمه ظاهرا كما سنبينه بمنه تعالى، قوله تعالى:
وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ الدعاء النداء والاستعانة، ولعل الثاني مجاز أو كناية مبنية على النداء لأن الشخص إنما ينادى ليستعان به، ومنه أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ [الإنعام: 40] والشهداء جمع شهيد أو شاهد، والشهيد كما قال الراغب: كل من يعتد بحضوره ممن له الحل والعقد، ولذا سموا غيره مخلفا وجاء بمعنى الحاضر، والقائم بالشهادة، والناصر، والإمام أيضا. ودُونِ ظرف مكان لا يتصرف ويستعمل- بمن- كثيرا- وبالياء- قليلا، وخصه في البحر بمن «دونها» ورفعه في قوله:

(1/197)


ألم تريا أني حميت حقيقتي ... وباشرت حد الموت والموت «دونها»
نادر لا يقاس عليه ومعناها أقرب مكان من الشيء فهو- كعند- إلا أنها تنبىء عن دنو كثير وانحطاط يسير، ومنه دونك اسم فعل لا تدوين الكتب خلافا للبيضاوي- كما قيل- لأنه من الديوان الدفتر ومحله، وهي فارسي معرب من قول كسرى إذ رأى سرعة الكتاب في كتابتهم وحسابهم ديوانه. وقد يقال لا بعد فيما ذكره البيضاوي وديوان مما اشتركت فيه اللغتان، وقد استعمل في انحطاط محسوس لا في ظرف- كدون زيد في القامة- ثم استعير للتفاوت في المراتب المعنوية تشبيها بالمراتب الحسية- كدون عمرو شرفا- ولشيوع ذلك اتسع في هذا المستعار فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد ولو من دون تفاوت وانحطاط، وهو بهذا المعنى قريب غير فكأنه أداة استثناء، ومن الشائع دون بمعنى خسيس فيخرج عن الظرفية ويعرف بأل ويقطع عن الإضافة كما في قوله:
إذا ما علا المرء رام العلا ... ويقنع «بالدون» من كان دونا
وما في القاموس من أنه يقال رجل من دون، ولا يقال دون مخالف للدراية والرواية، وليس عندي وجه وجيه في توجيهه، والمشهور أنه ليس لهذا فعل، وقيل يقال: دان يدين منه واستعماله بمعنى فضلا وعليه حمل قول أبي تمام:
الود للقربى ولكن عرفه ... للأبعد الأوطان «دون» الأقرب
لم يسلمه أرباب التنقير نعم قالوا: يكون بمعنى وراء- كأمام- وبمعنى فوق ونقيضا له. ومِنْ لابتداء الغاية متعلقة بادعوا، ودون تستعمل بمعنى التجاوز في محل النصب على الحال، والمعنى ادعوا إلى المعارضة من يحضركم أو من ينصركم بزعمكم متجاوزين الله تعالى في الدعاء بأن لا تدعوه، والأمر للتعجيز والإرشاد أو ادعوا من دون الله من يقيم لكم الشهادة بأن ما أتيتم به مماثلة فإنهم لا يشهدون، ولا تدعوا الله تعالى للشهادة بأن تقولوا الله تعالى شاهد وعالم بأنه مثله فإن ذلك علامة العجز والانقطاع عن إقامة البينة والأمر حينئذ للتبكيت- والشهيد- على الأول بمعنى الحاضر، وعلى الثاني بمعنى الناصر، وعلى الثالث بمعنى القائم بالشهادة، قيل: ولا يجوز أن يكون بمعنى الإمام بأن يكون المراد بالشهداء الآلهة الباطلة لأن الأمر بدعاء الأصنام لا يكون إلا تهكما، ولو قيل: ادعوا الأصنام ولا تدعوا الله تعالى ولا تستظهروا به لانقلب الأمر من التهكم إلى الامتحان إذ لا دخل لإخراج الله تعالى عن الدعاء في التهكم، وفيه أن أي تهكم وتحميق أقوى من أن يقال لهم استعينوا بالجماد ولا تلتفتوا نحو رب العباد؟ ولا يجوز حينئذ أن تجعل دون بمعنى القدام إذ لا معنى لأن يقال ادعوها بين يدي الله تعالى أي في القيامة للاستظهار بها في المعارضة التي في الدنيا، وجوزوا أن تتعلق من ب «شهداءكم» وهي للابتداء أيضا، ودُونِ بمعنى التجاوز في محل النصب على الحال والعامل فيه معنى الفعل المستفاد من إضافة- الشهداء- أعني الاتخاذ، والمعنى ادعوا الذين اتخذتموهم أولياء مِنْ دُونِ اللَّهِ تعالى، وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة، ويحتمل أن يكون دُونِ بمعنى أمام حقيقة أو مستعارا من معناه الحقيقي الذي يناسبه أعني به أدنى مكان من الشيء وهو ظرف لغو معمول- لشهداء- ويكفيه رائحة الفعل فلا حاجة إلى الاعتماد ولا إلى تقدير ليشهدوا، ومِنْ للتبعيض كما قالوا في مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [الرعد: 11، الجن: 27] لأن الفعل يقع في بعض الجهتين، وظاهر كلام الدماميني في شرح التسهيل. أنها زائدة، وهو مذهب ابن مالك، والجمهور على أنها ابتدائية، والمعنى ادعوا الذين يشهدون لكم بين يدي الله عز وجل على زعمكم، والأمر للتهكم، وفي التعبير عن الأصنام بالشهداء ترشيح له بتذكير ما اعتقدوه من أنها من الله تعالى بمكان، وأنها تنفعهم بشهادتهم كأنه قيل: هؤلاء عدتكم وملاذكم فادعوهم لهذه العظيمة النازلة بكم- فلا عطر بعد عروس، وما وراء عبادان قرية- ولم تجعل دُونِ بمعنى التجاوز لأنهم لا يزعمون شركته تعالى مع الأصنام في الشهادة فلا

(1/198)


وجه للإخراج، وقيل يجوز أن تكون مِنْ للابتداء والظرف حال ويحذف من الكلام مضاف، والمعنى- ادعوا شهداءكم- من فصحاء العرب وهم أولياء الأصنام متجاوزين في ذلك أولياء الله ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله، والمقصود بالأمر حينئذ إرخاء العنان والاستدراج إلى غاية التبكيت كأنه قيل: تركنا إلزامكم بشهداء الحق إلى شهدائكم المعروفين بالذنب عنكم فإنهم أيضا لا يشهدون لكم حذارا من اللائمة وأنفة من الشهادة البتة البطلان، كيف لا وأمر الإعجاز قد بلغ من الظهور إلى حيث لم يبق إلى إنكاره سبيل؟ وإخراج الله تعالى على بعض الوجوه لتأكيد تناول المستثنى منه بجميع ما عداه لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه لإيهامه أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه وعلى بعض للتصريح من أول الأمر ببراءتهم منه تعالى وكونهم في عروة المحادة والمشاقة له قاصرين استظهارهم على ما سواه، والالتفات إما لإدخال الروع وتربية المهابة أو للإيذان بكمال سخافة عقولهم حيث آثروا على عبادة من له الألوهية الجامعة عبادة من لا أحقر منه- والصدق- مطابقة الواقع والمذاهب فيه مشهورة، والجواب إِنْ محذوف لدلالة الأول عليه وليس هو جوابا لهما، وكذا متعلق الصدق أي إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بزعمكم في أنه كلام البشر أو في أنكم تقدرون على معارضته- فأتوا، وادعوا- فقد بلغ السيل الزبى، وهذا كالتكرير للتحدي والتأكيد له، ولذا ترك العطف وجعل المتعلق الارتياب لتقدمه مما لا ارتياب في تأخره لأن الارتياب من قبيل التصور الذي لا يجري فيه صدق ولا كذب، والقول بأن المراد إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في احتمال أنه كذا مع ما فيه من التكلف لا يجدي نفعا لأن الاحتمال شك أيضا
، ومن التكلف بمكان قول الشهاب: إن المراد من النظم الكريم الترقي في إلزام الحجة، وتوضيح المحجة، فالمعنى إن ارتبتم فأتوا بنظيره ليزول ريبكم ويظهر أنكم أصبتم فيما خطر على بالكم وحينئذ فإن صدقت مقالتكم في أنه مفتري فأظهروها ولا تخافوا هذا، ووجه ملائمة الآية- لما قلناه في الآية السابقة- أنه سبحانه وتعالى أمرهم بالاستعانة إما حقيقة أو تهكما بكل ما يعينهم بالإمداد في الإتيان في- المثل- أو بالشهادة على أن المأتي به- مثل- ولا شك أن ذلك إنما يلائم إذا كانوا مأمورين بالإتيان بالمثل بخلاف ما إذا كان المأمور واحدا منهم فإنهم باعثون له على الإتيان فالملائم حينئذ نسبة الشهداء إليه لأنهم شهداء له، وإن صح نسبته إليهم- باعتبار مشاركتهم إياه في تلك الدعوى بالتحريك والحث والقول بأنهم مشاركون للمأتي منه في دعوى المماثلة- ليس بشيء لأنه شهادة على المماثلة ثم ترجيح رجوع الضمير للمنزل يقتضي ترجيح كون الظرف صفة للسورة أيضا، وقد أورد هاهنا أمور طويلة لا طائل تحتها.
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ فذلكة لما تقدم فلذا أتى بالفاء أي إذا بذلتم في السعي غاية المجهود- وجاوزتم في الحد كل حد معهود متشبثين بالذيول راكبين متن كل صعب وذلول وعجزتم عن الإتيان بمثله وما يداينه في أسلوبه وفضله ظهر أنه معجز والتصديق به لازم- فآمنوا واتقوا النار، وأتى- بأن- والمقام- لإذا- لاستمرار العجز- وهو سبحانه وتعالى اللطيف الخبير- تهكما بهم كما يقول الواثق بالغلبة لخصمه إن غلبتك لم أبق عليك، وتحميقا لهم لشكهم في المتيقن الشديد الوضوح، ففي الآية استعارة تهكمية تبعية حرفية أو حقيقة وكناية كسائر ما جاء على خلاف مقتضى الظاهر، وقد يقال عبر بذلك نظرا لحال المخاطبين فإن العجز كان قبل التأمل كالمشكوك فيه لديهم لاتكالهم على فصاحتهم، وتَفْعَلُوا مجزوم بلم ولا تنازع بينها وبين إن، وإن تخيل، وقد صرح ابن هشام بأنه لا يكون بين الحروف لأنها لا دلالة لها على الحدث حتى تطلب المعمولات إلا أن ابن العلج أجازه استدلالا بهذه الآية، ورد بأن إن تطلب مثبتا، ولَمْ منفيا، وشرط التنازع الاتحاد في المعنى- فإن هنا داخلة على المجموع عاملة في محله كأنه قال: فإن تركتم الفعل، فيفيد الكلام استمرار عدم الإتيان المحقق

(1/199)


في الماضي وبهذا ساغ اجتماعهما وإلا فبين مقتضاهما الاستقبال والمضي تناف، نعم قيل في ذلك إشكال لم يحرر دفعه بعد بما يشفي العليل: وهو أن المحل إن كان للفعل وحده لزم توارد عاملين في نحو- إن لم يقمن- وإن كان للجملة رد أنهم لم يعدوها مما لها محل أو للمحل مع الفعل فلا نظير له فلعلهم يتصيدون فعلا مما بعدها ويجزمونه بها وهو كما ترى، وعبر سبحانه عن الفعل الخاص حيث كان الظاهر- فإن لم تأتوا بسورة من مثله بالفعل المطلق العام- ظاهرا لإيجاز القصر، وفيه إيذان بأن المقصود بالتكليف إيقاع نفس الفعل المأمور به لإظهار عجزهم عنه لا تحصيل المفعول ضرورة استحالته، وإن مناط الجواب في الشرطية- أعني الأمر بالاتقاء- هو عجزهم عن إيقاعه لا فوت حصول المقصود، وقيل: أطلق الفعل وأريد به الإتيان مع ما يتعلق به على طريقة ذكر اللازم وإرادة الملزوم لما بينهما من التلازم المصحح للانتقال بمعونة قرائن الحال، أو على طريقة التعبير عن الأسماء الظاهرة بالضمائر الراجعة إليها حذرا من التكرير، والظاهر أن فيما عبر به إيجازا وكناية وإيهام نفي الإتيان بالمثل وما يدانيه بل وغيره، وإن لم يكن مرادا وَلَنْ كلا في نفي المستقبل وإن فارقتها بالاختصاص بالمضارع، وعمل النصب إلا فيما شذ من الجزم بها في قوله:
«لن» يخب الآن من رجاك ومن ... حرك من دون بابك الحلقة
و: لا تقتضي النفي على التأبيد وإن أفادت التأكيد والتشديد ولأطول مدة أو قلتها خلافا لبعضهم، وليس أصلها- لا أن- كما روي عن الخليل: فحذفت الهمزة لكثرتها وسقطت الألف للساكنين وتغير الحكم وصار «لن» تضرب كلاما تاما دون أن ومصحوبها، وقيل: به لقوله:
يرجى المرء ما «لا أن» يلاقيه ... ويعرض دون أقربه الخطوب
واحتمال زيادة أن يوهن الاحتجاج ولا- كما عند الفراء- فأبدلت ألفه نونا إذ لا داعي إلى ذلك وهو خلاف الأصل، والجملة اعتراض بين جزئي الشرطية ظاهرا مقرر لمضمون مقدمها ومؤكد لإيجاب العمل بتاليها، وهذه معجزة باهرة حيث أخبر بالغيب الخاص علمه به سبحانه وقد وقع الأمر كذلك، كيف لا ولو عارضوه بشيء يدانيه لتناقله الرواة لتوفر الدواعي؟ وما أتى به نحو مسيلمة الكذاب مما تضحك منه الثكلى لم يقصد به المعارضة وإنما ادعاه وحيا.
وقوله سبحانه: فَاتَّقُوا جواب للشرط على أن اتقاء النار كناية عن ظهور إعجازه المقتضي للتصديق والإيمان به أو عن الإيمان نفسه وبهذا يندفع ما يتوهم من أن اتقاء النار لازم من غير توقف على هذا الشرط فما معنى التعليق، وأيضا الشرط سبب أو ملزوم للجزاء، وليس عدم الفعل سببا للاتقاء ولا ملزوما له فكيف وقع جزاء له، وبعضهم قدر لذلك جوابا، والتزمه جملة خبرية لأن الانشائية لا تقع جزاء كما لا تقع خبرا إلا بتأويل، والزمخشري لا يوجب ذلك فيها لعدم الحمل المقتضى له، والوقود- بالفتح كما قرأ به الجمهور ما يوقد به النار، وكذا كل ما كان على فعول اسم لما يفعل به في المشهور، وقد يكون مصدرا عند بعض، وحكوا ولوعا، وقبولا، ووضوءا، وطهورا، ووزوعا، ولغوبا. وقرأ عبيد بن عمير- وقيدها- وعيسى بن عمرو وغيره وَقُودُهَا بالضم، فإن كان اسما لما يوقد به كالمفتوح فذاك وإن كان مصدرا- كما قيل في سائر ما كان على فعول- فحمله على النار للمبالغة أو للتجوز فيه أو في التشبيه أو بتقدير مضاف أولا كذو وقودها أو ثانيا- كاحتراق- وهو نفسه خارجا غيره مفهوما وذاك مصداق الحمل، وحكي إن من العرب من يجعل المفتوح مصدرا والمضموم اسما فينعكس الحال فيما نحن فيه وَالْحِجارَةُ كحجار جمع كثرة لحجر، وجمع القلة أحجار وجمع فعل- بفتحتين- على فعال شاذ، وابن مالك في التسهيل يقول: إنه اسم جمع لغلبة وزنه في المفردات وهو الظاهر، والمراد بها على ما صح عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم، ولمثل

(1/200)


ذلك حكم الرفع حجارة الكبريت، وفيها- من شدة الحر وكثرة الالتهاب وسرعة الإيقاد ومزيد الالتصاق بالأبدان، وإعداد أهل النار أن يكونوا حطبا مع نتن ريح وكثرة دخان ووفور كثافة (1) - ما نعوذ بالله منه، وفي ذلك تهويل لشأن النار وتنفير عما يجر إليها بما هو معلوم في الشاهد، وإن كان الأمر وراء ذلك فالعالم وراء هذا العالم وعيلم قدرة الجبار سبحانه وتعالى يضمحل فيه هذا العيلم، وقيل: المراد بها الأصنام التي ينحتونها وقرنها بهم في الآخرة وزيادة لتحسرهم حيث بدا لهم نقيض ما كانوا يتوقعون، وهناك يتم لهم نوعان من العذاب روحاني وجسماني، ويؤيد هذا قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] وحملها على الذهب والفضة لأنهما يسميان حجرا- كما في القاموس- دون هذين القولين، الأصح أولهما عند المحدثين، وثانيهما عند الزمخشري ويشير إليه كلام الشيخ الأكبر قدس سره. وأل فيها- على كل- ليست للعموم، وذهب بعض أهل العلم إلى أنها له، ويكون المعنى أن النار التي وعدوا بها صالحة لأن تحرق ما ألقي فيها من هذين الجنسين فعبر عن صلاحيتها واستعدادها بالأمر المحقق، وذكر النَّاسُ وَالْحِجارَةُ تعظيما لشأن جهنم وتنبيها على شدة وقودها ليقع ذلك من النفوس أعظم موقع ويحصل به من التخويف ما لا يحصل بغيره وليس المراد الحقيقة وهو خلاف الظاهر والمتبادر من الآيات، ويوشك أن يكون سوء ظن بالقدرة ولا يتوهم من الاقتصار على هذين الجنسين أن لا يكون في النار غيرهما بدليل ما ذكر في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها أيضا، نعم قال سيدي الشيخ الأكبر قدس سره: إنهم لهبها وأولئك جمرها، وبدأ سبحانه بالناس لأنهم الذين يدركون الآلام أو لكونهم أكثر إيقادا من الجماد لما فيهم من الجلود واللحوم والشحوم ولأن في ذلك مزيد التخويف، وإنما عرف النار وجعل الجملة- صلة وأنها يجب أن تكون قصة معلومة لأن المنكر في سورة التحريم نزل أولا فسمعوه بصفته فلما نزل هذا بعد جاء معهودا فعرف وجعلت صفته صلة وكون الصفة كذلك- الخطب فيه هين لما أن المخاطب هناك المؤمنون، وظاهر أنهم سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا أن في كون سورة التحريم نزلت أولا مقالا فتأمل أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ابتداء كلام قطع عما قبله مع أن مقتضى الظاهر أن يعطف على الصلة السابقة اعتناء بشأنه بجعله مقصودا بالذات بالإفادة مبالغة في الوعيد، وجعله استئنافا بيانيا بأن يقدر لمن أعدت أو لم كان وقودها كذا وكذا، فمع عدم مساعدة عطف- بشر- الآتي على البناء للمفعول عليه لأنه
لا يصلح للجواب إلا أن يقال المعطوف على الاستئناف لا يجب أن يكون استئنافا يأبى عنه الذوق، أما الأول فلأن السياق لا يقتضيه، وأما الثاني فلأن المقصد من الصلة التهويل، فالسؤال- بلم كان شأن النار كذا- مما لا معنى له، والجواب غير واف به وجعله حالا من النار- بإضمار قد والخبر من أجزاء الصلة لذي الحال لا من ضمير وَقُودُهَا للجمود أو لوقوع الفصل بالخبر الأجنبي حينئذ- ليس بشيء إذ لا يحسن التقييد بهذه الحال إلا أن يقال إنها لازمة بمنزلة الصفة فيفيد المعنى الذي تفيده الصلة، ولذا قيل: إنها صلة بعد صلة وتعدد الصلات كالصفات والأخبار كثير بعاطف وبدونه كما نص عليه الإمام المرزوقي وإن لم يظفر به السعد، أو معطوف بحذف الحرف كما صرح به ابن مالك وجعله صلة. ووَقُودُهَا النَّاسُ إما معترضة للتأكيد أو حال مما لا ينبغي أن يخرج عليه التنزيل، ومعنى أُعِدَّتْ هيئت، وقرأ عبد الله- اعتدت- من العتاد بمعنى العدة، وابن أبي عبلة- أعدها الله للكافرين- والمراد إما جنسهم والمخاطبون داخلون فيهم دخولا أوليا أو هم خاصة ووضع الظاهر موضع ضميرهم حينئذ لذمهم وتعليل الحكم بكفرهم وكون الإعداد للكافرين لا ينافي دخول غيرهم فيها على جهة التطفل فلا حاجة
__________
(1) كما قال سبحانه: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ اهـ منه.

(1/201)


إلى القول بأن نار العصاة غير نار الكفار، ثم ما يتبادر من الآية الكريمة أن النار مخلوقة الآن والله تعالى أعلم بمكانها في واسع ملكه، وجعل المستقبل لتحققه ماضيا- كنفخ في الصور- والإعداد مثله في أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً [الأحزاب: 35] كما يقول المعتزلة خلاف الظاهر، والذي ذهب أهل الكشف إليه أنها مخلوقة غير أنها لم تتم وهي الآن عندهم دار حرورها هواء محترق لا جمر لها البتة ومن فيها من الزبانية في رحمة منعمون يسبحون الله تعالى لا يفترون وتحدث فيها الآلام بحدوث أعمال الإنس والجن الذين يدخلونها، ولذا يختلف عذاب داخليها وحدها بعد الفراغ من الحساب ودخول أهل الجنة الجنة من مقعر فك الثوابت إلى أسفل السافلين، فهذا كله يزاد إلى ما هو الآن.
ولذا كان يقول عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: إذا رأى البحر يا بحر متى تعود نارا، وكان يكره الوضوء بمائة ويقول: التيمم أحب إليّ منه وقال تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ [التكوير: 6] أي أججت، وليس للكفار اليوم مكث فيها وإنما يعرضون عليها كما قال تعالى: غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر: 46] وهي ناران حسية مسلطة على ظاهر الجسم، والإحساس والحيوانية، ومعنوية وهي الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [الهمزة: 7] وبها يعذب الروح المدبر للهيكل الذي أمر فعصى، والمخالفة وهي عين الجهل بمن استكبر عليه أشد العذاب، وقد أطالوا الكلام في ذلك وأتوا بالعجب العجاب، وحقيقة الأمر عندي لا يعلمها إلا الله تعالى ولا شيء أحسن من التسليم لما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فكيفية ما في تلك النشأة الأخروية مما لا يمكن أن تعلم كما ينبغي لمن غرق في بحار العلائق الدنيوية- وماذا علي إذا آمنت بما جاء مما أخبر به الصادق من الأمور السمعية مما لا يستحيل على ما جاء وفوضت الأمر إلى خالق الأرض والسماء أسأل الله تعالى أن يثبت قلوبنا على دينه وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لما ذكر سبحانه وتعالى فيما تقدم الكفار- وما يؤول إليه حالهم في الآخرة وكان في ذلك أبلغ التخويف والانذار- عقب بالمؤمنين وما لهم جريا على السنة الإلهية من شفع الترغيب بالترهيب والوعد بالوعيد لأن من الناس من لا يجديه التخويف ولا يجديه وينفعه اللطف، ومنهم عكس ذلك فكأن هذا وما بعده معطوف على سابقه عطف القصة على القصة، والتناسب بينهما باعتبار أنه بيان لحال الفريقين المتباينين وكشف عن الوصفين المتقابلين، وهل هو معطوف على وَإِنْ كُنْتُمْ إلى أُعِدَّتْ أو على فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا الآية قولان؟ اختار السيد أولهما، وادعى بعضهم أنه أقضى لحق البلاغة، وأدعى لتلاؤم النظم لأن يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا خطاب عام يشمل الفريقين وَإِنْ كُنْتُمْ إلخ مختص بالمخالف ومضمونه الإنذار وَبَشِّرِ إلخ مختص بالموافق ومضمونه البشارة كأنه تعالى أوحى إلى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يدعو الناس إلى عبادته، ثم أمر أن ينذر من عاند ويبشر من صدق، والسعد اختار ثانيهما لأن السوق لبيان حال الكفار ووصف عقابهم وقيل عطف على فَاتَّقُوا وتغاير المخاطبين لا يضر ك يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي [يوسف: 29] وترتبه على الشرط بحكم العطف باعتبار أن- اتقوا- إنذار وتخويف للكفار وَبَشِّرِ تبشير للمؤمنين، وكل منهما مترتب على عدم المعارضة بعدم التحدي لأن عدم المعارضة يستلزم ظهور إعجازه وهو يستلزم- استيجاب منكره- العقاب، ومصدقه الثواب لأن الحجة تمت والدعوة كملت، واستيجابهما إياهما يقتضي الإنذار والتبشير، فترتب الجملة الثانية على الشرط ترتب الأولى عليه بلا فرق، وقد يقال إن الجزاء فآمنوا محذوفا والمذكور قائم مقامه فالمعنى إن لم تأتوا بكذا فآمنوا وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أي فليوجد إيمان منهم وبشارة منك ووضع الظاهر موضع الضمير، وفيه حث لهم على الإيمان، ولعله أقل مؤنة، واختار صاحب الإيضاح عطفه على- أنذر- مقدرا بعد جملة أُعِدَّتْ وقيل: عطف على- قل- قبل فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وتقديره قبل يا أَيُّهَا النَّاسُ يحوج إلى إجراء مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا على طريقة كلام العظماء، أو تقدير قال الله بعد قل، والبشارة- بالكسر والضم- اسم من بشر بشرا وبشورا- وتفتح الباء- فتكون بمعنى الجمال، وفي الفعل لغتان، التشديد وهي العليا،

(1/202)


والتخفيف وهي لغة أهل تهامة، وقرىء بهما في المضارع في مواضع والتكثير في المشدد بالنسبة إلى المفعول، فإن واحدا كان فعل فيه مغنيا عن فعل، وفسروها في المشهور، وصحح بالخبر السار الذي ليس عند المخبر علم به، واشترط بعضهم أن يكون صدقا، وعن سيبويه إنها خبر يؤثر في البشرة حزنا أو سرورا وكثر استعماله في الخير، وصححه في البحر فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21، التوبة: 34، الانشقاق: 24] ظاهر عليه، ومن باب التهكم على الأول والمأمور بالتبشير البشير النذير صلى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: كل من يتأتى منه ذلك كما في
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «بشر المشائين إلى المساجد» الحديث
ففيه رمز إلى أن الأمر لعظمته حقيق بأن يتولى التبشير به كل من يقدر عليه ويكون هناك مجاز إن كان الضمير موضوعا لجزئي بوضع كلي وإلا ففي الحقيقة والمجاز كلام في محله، ولم يخاطب المؤمنون كما خوطب الكفرة تفخيما لشأنهم وإيذانا تاما بأنهم أحقاء بأن يبشروا ويهنئوا بما أعد لهم، وقيل: تغيير للأسلوب لتخييل كمال التباين بين حال الفريقين، وعندي أنه سبحانه لما كسى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم حلة عبوديته في قوله: مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ناسب أن يطرزها بطراز التكليف بما يزيد حب أحبابه له فيزدادوا إيمانا إلى إيمانهم، وفي ذلك من اللطف به صلى الله تعالى عليه وسلم وبهم ما لا يخفى.
وقرأ زيد بن علي وبشر مبنيا للمفعول وهو معطوف على أُعِدَّتْ كما اشتهر، وقيل: إنه خبر بمعنى الأمر فتوافق القراءتان معنى وعطفا، وتعليق التبشير بالموصول للإشعار بأنه معلل بما في حيز الصلة من الإيمان والعمل الصالح لكن لا لذاتهما بل بجعل الشارع ومقتضى وعده، وجعل صلته فعلا مفيدا للحدوث بعد إيراد الكفار بصيغة الفاعل لحث المخاطبين بالاتقاء على إحداث الإيمان وتحذيرهم من الاستمرار على الكفر، ثم لا يخفى أن كون مناط البشارة مجموع الأمرين لا يقتضي انتفاء البشارة عند انتفائه فلا يلزم من ذلك أن لا يدخل بالإيمان المجرد الجنة كما هو رأي المعتزلة على أن مفهوم المخالفة ظني لا يعارض النصوص الدالة على أن الجنة جزاء مجرد الإيمان، ومتعلق آمَنُوا مما لا يخفى، وقدره بعضهم هنا بأنه منزل من عند الله عز وجل، والصَّالِحاتِ جمع صالحة وهي في الأصل مؤنث الصالح اسم فاعل من صلح صلوحا وصلاحا خلاف فسدت، ثم غلبت على ما سوغه الشرع وحسنه، وأجريت مجرى الأسماء الجامدة في عدم جريها على الموصوف وغيره، وتأنيثها على تقدير الخلة وللغلبة ترك، ولم تجعل التاء للنقل لعدم صيرورتها اسما وأل- فيها للجنس لكن لا من حيث تحققه في الأفراد إذ ليس ذلك في وسع المكلف ولو أريد التوزيع يلزم كفاية عمل واحد بل في البعض الذي يبقى مع إرادته معناه الأصلي الجنسية مع الجمعية وهو الثلاثة أو الاثنان، والمخصص حال المؤمن فما يستطيع من الأعمال الصالحة بعد حصول شرائطه هو المراد، فالمؤمن الذي لم يعمل أصلا أو عمل عملا واحدا غير داخل في الآية، ومعرفة كونه مبشرا من مواقع أخر، وبعضهم جعل فيها شائبة التوزيع بأن يعمل كل ما يجب من الصالحات إن وجب قليلا كان أو كثيرا، وأدخل من أسلم ومات قبل أن يجب عليه شيء أو وجب شيء واحد، وليس هذا توزيعا في المشهور- كركب القوم دوابهم- إذ قد يطلق أيضا على مقابلة أشياء بأشياء أخذ كل منها ما يخصه سواء الواحد الواحد- كالمثال- أو الجمع الواحد- كدخل الرجال مساجد محلاتهم- أو العكس- كلبس القوم ثيابهم- ومنه فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ [المائدة: 6] والسيد يسمي هذا شائبة التوزيع أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أراد سبحانه ب أَنَّ لَهُمْ إلخ لتعدي البشارة بالباء فحذف لاطراد حذف الجار مع- أنّ، وأن- بغير عوض لطولهما بالصلة، ومع غيرهما فيه خلاف مشهور، وفي المحل بعد الحذف قولان، النصب بنزع الخافض كما هو المعروف في أمثاله، والجر لأن الجار بعد الحذف قد يبقى أثره ولام

(1/203)


الجر للاستحقاق وكيفيته مستفادة من خارج ولا استحقاق بالذات فهو بمقتضى وعد الشارع الذي لا يخلفه فضلا وكرما لكن بشرط الموت على الإيمان، والجنة- في الأصل المرة من الجن- بالفتح- مصدر جنه إذا ستره، ومدار التركيب على الستر ثم سمي بها البستان الذي سترت أشجاره أرضه أو كل أرض فيها شجر ونخل فإن كرم ففردوس، وأطلقت على الأشجار نفسها ووردت في شعر الأعشى (1) بمعنى النخل خاصة ثم نقلت وصارت حقيقة شرعية في دار الثواب إذ فيها من النعيم «مالا، ولا» مما هو مغيب الآن عنا، وجمعت جمع قلة في المشهور لقلتها عددا كقلة أنواع العبادات ولكن في كل واحدة منها مراتب شتى ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال، وما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها سبع لم يقف على ثبوته الحفّاظ، وتنوينها إما للتنويع أو للتعظيم، وتقديم الخبر لقرب مرجع الضمير وهو أسرّ للسامع، والشائع التقديم إذا كان الاسم نكرة ك إِنَّ لَنا لَأَجْراً [الأعراف: 113] وتحت- ظرف مكان لا يتصرف فيه بغير مِنْ كما نص عليه أبو الحسن، والضمير للجنات فإن أريد الأشجار فذاك مع ما فيه قريب في الجملة وإن أريد الأرض قيل- من تحت أشجارها- أو عاد عليها باعتبار الأشجار استخداما ونحوه، وقيل: إن «تحت» بمعنى جانب- كداري تحت دار فلان- وضعف كالقول- من تحت أوامر أهلها- وقيل:
منازلها، وإن أريد مجموع الأرض والأشجار فاعتبار التحتية- كما قيل- بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لاطلاق الجنة على الكل والوارد في الأثر الصحيح عن مسروق إن أنهار الجنة تجري في غير أخدود، وهذا في أرض حصباؤها الدر والياقوت أبلغ في النزهة وأحلى في المنظر وأبهج للنفس:
وتحدث الماء الزلال مع الحصى ... فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى
والأنهار جمع نهر- بفتح الهاء وسكونها- والفتح أفصح، وأصله الشق، والتركيب للسعة ولو معنوية- كنهر السائل- بناء على أنه الزجر البليغ فأطلق على ما دون البحر وفوق الجدول، وهل هو نفس مجرى الماء أو الماء في المجرى المتسع؟ قولان: أشهرهما الأول، وعليه فالمراد مياهها أو ماؤها، وتأنيث تَجْرِي رعاية للمضاف إليه أو للفظ الجمع، وفي الكلام مجاز في النقص أو في الطرف «أولا، ولا» والإسناد مجازي، وأل- للعهد الذهني قيل:
أو الخارجي لتقدم ذكر الأنهار في قوله تعالى: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ [محمد: 15] الآية فإنها مكية على الأصح، وذي مدنية نزلت بعدها، واستبعده السيد والسعد، وقيل: عوض عن المضاف إليه- أي أنهارها- وهو مذهب كوفي، وحملها على الاستغراق على معنى يجري تحت الأشجار جميع أنهار الجنة فهو وصف لدار الثواب بأن أشجارها على شواطىء الأنهار وأنهارها تحت ظلال الأشجار أبرد من الثلج، ولا يخفى الكلام على جمع القلة.
كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ صفة ثانية لجنات أخّرت عن الأولى لأن جريان الأنهار- من تحتها- وصف لها باعتبار ذاتها، وهذا باعتبار سكانها أو خبر مبتدأ محذوف- أي هم- والقرينة ذكره في السابقة واللاحقة، وكون الكلام مسوقا لبيان أحوال المؤمنين، وفائدة حذف هذا المبتدأ تحقق التناسب بين الجمل الثلاثة صورة لاسميتها، ومعنى لكونها جواب سؤال- كأنه قيل: ما حالهم في تلك الجنات؟ - فأجيب بأن لهم فيها ثمارا لذيذة عجيبة وأزواجا نظيفة وَهُمْ فِيها خالِدُونَ وتقدير المبتدأ هو أو هي- للشأن أو القصة- ليس بشيء بناء على أنه لا يجوز حذف هذا الضمير، وإذا لم تدخله النواسخ لا بد أن يكون مفسره جملة اسمية، نعم جاز تقدير هي للجنات والجملة خبر إلا أن التناسب أنسب أو جملة مستأنفة- كأنه لما وصف الجنات بما ذكر وقع في الذهن أن
__________
(1) وهو قوله: كأن عيني في غربي.

(1/204)


ثمارها كثمار جنات الدنيا أولا فبين حالها وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ زيادة في الجواب ولو قدر السؤال نحو ألهم في الجنات لذات كما في هذه الدار أم أتم وأزيد؟ - كان أصح وأوضح، وأجاز أبو البقاء كونها حالا من الَّذِينَ أو من جَنَّاتٍ لوصفها وهي حينئذ حال مقدرة والأصل ... (1) الصاحبة، والقول: بأنها صفة مقطوعة دعوى موصولة بالجهل بشرط القطع وهو علم السامع باتصاف المنعوت بذلك النعت وإلا لاحتاج إليه ولا قطع مع الحاجة، وكُلَّما نصب على الظرفية ب قالُوا ورِزْقاً مفعول ثان- لرزقوا- كرزقه مالا أي أعطاه، وليس مفعولا مطلقا مؤكدا لعامله لأنه بمعنى المرزوق أعرف، والتأسيس خير من التأكيد مع اقتضاء ظاهر ما بعده له، وتنكيره للتنويع أو للتعظيم أي نوعا لذيذا غير ما تعرفونه، ومِنْ الأولى والثانية للابتداء قصد بهما مجرد كون المجرور بهما موضعا انفصل عنه الشيء، ولذا لا يحسن في مقابلتها نحو- إلى، وهما ظرفان مستقران واقعان حالا على التداخل، وصاحب الأولى رِزْقاً والثانية ضميره المستكن في الحال، والمعنى كل حين رزقوا- مرزوقا- مبتدأ من الجنات مبتدأ من ثمرة، والشائع كونهما لغوا، والرزق قد ابتدأ من الجنات، والرزق من الجنات قد ابتدأ من ثمرة وجعل بمنزلة أن تقول أعطاني فلان فيقال: من أين؟ فتقول: من بستانه، فيقول: من أي ثمرة؟ فتقول: من الرمان، وتحريره أن رُزِقُوا جعل مطلقا مبتدأ من الجنات ثم جعل مقيدا بالابتداء من ذلك مبتدأ من ثمرة، وعلى القولين لا يرد أنهم منعوا تعلق حرفي جر متحدي اللفظ والمعنى بعامل واحد والآية تخالفه، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن ذاك إذا تعلقا به من جهة واحدة ابتداء من غير تبعية. وما نحن فيه ليس كذلك للإطلاق والتقييد والمراد من الثمرة على هذا النوع- كالتفاح والرمان- لا الفرد لأن ابتداء الرزق من البستان من فرد يقتضي أن يكون المرزوق قطعة منه لا جميعه وهو ركيك جدا، ويحتمل أن تكون الثانية مبينة للمرزوق والظرف الأول لغو والثاني مستقر خلافا لمن وهم فيه وقع حالا من النكرة لتقدمه عليها ولتقدمها تقديرا جاز تقديم المبين على المبهم، والثمرة يجوز حملها على النوع وعلى الجنأة الواحدة ولم يلتفت المحققون إلى جعل الثانية تبعيضية في موقع المفعول، ورِزْقاً مصدر مؤكد أو في موقع الحال من رِزْقاً لبعده مع أن الأصل التبيين والابتداء فلا يعدل عنهما إلا لداع على أن مدلول التبعيضية أن يكون ما قبلها أو ما بعدها جزاء لمجرورها لا جزئيا فتأتي الركاكة هاهنا، وجمع سبحانه بين مِنْها ومِنْ ثَمَرَةٍ ولم يقل- من ثمرها- بدل ذلك لأن تعلق مِنْها يفيد أن سكانها لا تحتاج لغيرها لأن فيها كل ما تشتهي الأنفس، وتعلق مِنْ ثَمَرَةٍ يفيد أن المراد بيان المأكول على وجه يشمل جميع الثمرات دون بقية اللذات المعلومة من السابق واللاحق، وهذا إشارة إلى نوع ما رزقوا ويكفي إحساس أفراده وهذا كقولك مشيرا إلى نهر جاء هذا الماء لا ينقطع أو إلى شخصه، والإخبار عنه ب الَّذِي إلخ على جعله عينه مبالغة أو تقدير مثل الذي رزقناه من قبل أي في الدنيا، والحكمة في التشابه أن النفس تميل إلى ما يستطاب وتطلب زيادته:
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره ... هو المسك ما كررته يتضوع
وهذا مختلف بحسب الأحوال والمقامات، أو لتبيين المزية وكنه النعمة فيما رزقوه هناك إذ لو كان جنسا لم يعهد ظن أنه لا يكون إلا كذلك أو في الجنة، والتشابه في الصورة إما مع الاختلاف في الطعم- كما روي عن الحسن «إن أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك؟ فيقول الملك: كل فاللون واحد والطعم مختلف» أو مع التشابه في الطعم أيضا كما يشير إليه
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «والذي نفس
__________
(1) بياض فبي الأصل قدر كلمة.

(1/205)


محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي واصلة إلى فيه حتى يبدل الله تعالى مكانها مثلها»
فلعلهم إذا رأوها على الهيئة الأولى قالوا ذلك، والداعي لهم لهذا القول فرط استغرابهم وتبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم.
والمشهور أن كون المراد بالقبلية في الدنيا أولى مما يقدم في الآخرة لأن كُلَّما تفيد العموم ولا يتصور قولهم ذلك في أول ما قدم إليهم، وقيل: كون المراد بها في الآخرة أولى لئلا يلزم انحصار ثمار الجنة في الأنواع الموجودة في الدنيا مع أن فيها ما علمت وما لم تعلم، على أن فيه توفية بمعنى حديث تشابه ثمار الجنة وموافقته- لمتشابها- بعد فإنه في رزق الجنة أظهر، وإعادة الضمير إلى المرزوق في الدارين تكلف وستسمعه بمنه تعالى، وفي الآية محمل آخر يميل إليه القلب بأن يكون ما رزقوه قبل هو الطاعات والمعارف التي يستلذها أصحاب الفطرة والعقول السليمة، وهذا جزاء مشابه لها فيما ذكر من اللذة كالجزاء الذي في ضده في قوله تعالى: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت: 55] أي جزاءه- فالذي رزقناه- مجاز مرسل عن جزائه بإطلاق اسم المسبب على السبب ولا يضر في ذلك أن الجنة وما فيها من فنون الكرامات من الجزاء- كمالا في- أو هو استعارة بتشبيه الثمار والفواكه بالطاعات والمعارف فيما ذكر، وقيل: أرض الجنة قيعان يظهر فيها أعمال الدنيا كما يشير إليه بعض الآثار فثمرة النعيم ما غرسوه في الدنيا فتدبر وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً تذييل للكلام السابق- وتأكيد له بما يشتمل على معناه- لا محل له من الإعراب، ويحتمل الاستئناف والحالية بتقدير «قد» وهو شائع، وحذف الفاعل للعلم به وهو ظاهرا الخدم الولدان كما يشير إليه قراءة هارون والعتكي «وأتوا» على الفاعل وفيها إضمار لدلالة المعنى عليه، وقد أظهر ذلك في قوله تعالى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إلى قوله سبحانه وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ والضمير المجرور إما على تقدير أن يراد- من قبل- في الدنيا فراجع إلى المفهوم الواحد الذي تضمنه اللفظان هذا- والَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وهو المرزوق في الدارين- أي أوتوا بمرزوق الدارين متشابها بعضه بالبعض- ويسمى هذا الطريق بالكناية الإيمائية ولو رجع الى الملفوظ لقيل بهما، وعبر عما بعضه ماض وبعضه مستقبل بالماضي لتحقق وقوعه، وفي الكشف أن المراد من المرزوق في الدنيا والآخرة الجنس الصالح التناول لكل منهما لا المقيد بهما، وإما على تقدير أن يراد في الجنة فراجع إلى الرزق أي أوتوا بالمرزوق في الجنة متشابه الأفراد. قال أبو حيان: والظاهر هذا لأن مرزوقهم في الآخرة هو المحدث عنه والمشبه- بالذي رزقوه من قبل- ولان هذه الجملة إنما جاءت محدثا بها عن الجنة وأحوالها وكونه يخبر عن المرزوق في الدنيا والآخرة- أنه متشابه ليس من حديث الجنة- إلا بتكلف، ولا يعكر- على دعوى متشابه ما في الدارين- ما أخرجه البيهقي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: «ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء» لأنه لا يشترط فيه أن يكون من جميع الوجوه وهو حاصل في الصورة التي هي مناط الاسم وإن لم يكن في المقدار والطعم، وتحريره أن إطلاق الأسماء عليها لكونها على الاستعارة يقتضي الاشتراك فيما هو مناطها وهو الصورة، وبذلك يتحقق التشابه بينهما فالمستثنى في الأثر الأسماء وما هو مناطها بدلالة العقل وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ صفة ثالثة ورابعة للجنات وأوردت الأوليتان بالجملة الفعلية لإفادة التجدد، وهاتان بالاسمية لإفادة الدوام، وترك العاطف في البعض- مع إيراده في البعض- قيل: للتنبيه على جواز الأمرين في الصفات، واختص كل بما اختص به لمناسبة لا تخفى، وذهب أبو البقاء إلى أن هاتين الجملتين مستأنفتان، وجوز أن تكون الثانية حالا من ضمير الجمع في لَهُمْ والعامل فيها معنى الاستقرار- والأزواج- جمع قلة وجمع الكثرة زوجة- كعود وعودة- ولم يكثر استعماله في الكلام، وقيل: ولهذا استغني عنه بجمع القلة توسعا، وقد ورد في الآثار ما يدل على كثرة الأزواج في الجنة من

(1/206)


الحور وغيرهن، ويقال: الزوج للذكر والأنثى، ويكون لأحد المزدوجين ولهما معا، ويقال: للأنثى زوجة في لغة تميم، وكثير من قيس، والمراد هنا بالأزواج النساء اللاتي تختص بالرجل لا يشركه فيها غيره، وليس في المفهوم اعتبار التوالد الذي هو مدار بقاء النوع حتى لا يصح إطلاقه على أزواج الجنة لخلودهم فيها واستغنائهم عن الأولاد، على أن بعضهم صحح التوالد فيها وروى آثارا في ذلك لكن على وجه يليق بذلك المقام، وذكر بعضهم
أن الأولاد روحانيون والله قادر على ما يشاء. ومعنى كونها مُطَهَّرَةٌ أن الله سبحانه نزههن عن كل ما يشينهن، فإن كن من الحور كما روي عن عبد الله- فمعنى التطهر خلقهن على الطهارة لم يعلق بهن دنس ذاتي ولا خارجي، وإن كن من بني آدم- كما روي عن الحسن- «من عجائزكم الرمص الغمص يصرن شواب» فالمراد إذهاب كل شين عنهن من العيوب الذاتية وغيرها. والتطهير- كما قال الراغب- يقال في الأجسام والأخلاق والأفعال جميعا، فيكون عاما هنا بقرينة مقام المدح لا مطلقا منصرفا إلى الكامل، وكمال التطهير إنما يحصل بالقسمين كما قيل: فإن المعهود من إرادة الكامل إرادة أعلى أفراده لا الجميع، وقرأ زيد بن علي- مطهرات- بناء على طهرن لا طهرت- كما في الأولى- ولعلها أولى استعمالا، وإن كان الكل فصيحا لأنهم قالوا: جمع ما لا يعقل إما أن يكون جمع قلة أو كثرة، فإن كان جمع كثرة فمجيء الضمير على حد ضمير الواحدة أولى من مجيئه على حد ضمير الغائبات، وإن كان جمع قلة فالعكس، وكذلك إذا كان ضميرا عائدا على جمع العاقلات الأولى فيه النون دون التاء ك فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [البقرة: 234، الطلاق: 2] ويُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ [البقرة: 233] ولم يفرقوا في هذا بين جمع القلة والكثرة، ومجيء هذه الصفة مبينة للمفعول، ولم تأت طاهرة- وصف من طهر- بالفتح على الأفصح، أو طهر بالضم، وعلى الأول قياس، وعلى الثاني شاذ للتفخيم لأنه أفهم أن لها مطهرا وليس سوى الله تعالى، وكيف يصف الواصفون من طهره الرب سبحانه؟! وقرأ عبيد بن عمير «مطهرة» وأصله متطهرة فأدغم ولما ذكر سبحانه وتعالى مسكن المؤمنين ومطعمهم ومنكحهم وكانت هذه الملاذ لا تبلغ درجة الكمال مع خوف الزوال ولذلك قيل:
أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا
أعقب ذلك بما يزيل ما ينغص إنعامه من ذكر الخلود في دار الكرامة، والخلود عند المعتزلة البقاء الدائم الذي لا ينقطع، وعندنا البقاء الطويل انقطع أو لم ينقطع، واستعماله في المكث الدائم من حيث إن مكث طويل لا من حيث خصوصه حقيقة وهو المراد هنا، وقد شهدت له الآيات والسنن، والجهمية يزعمون أن الجنة وأهلها يفنيان وكذا النار وأصحابها، والذي دعاهم إلى هذا أنه تعالى وصف نفسه بأنه الأول والآخر، والأولية تقدمه على جميع المخلوقات، والآخرية تأخره ولا يكون إلا بفناء السوي، ولو بقيت الجنة وأهلها كان فيه تشبيه لمن لا شبيه له سبحانه وهو محال، ولأنه إن لم يعلم أنفاس أهل الجنة كان جاهلا تعالى عن ذلك، وإن علم لزم الانتهاء وهو بعد الفناء، ولنا النصوص الدالة على التأييد والعقل معها لأنها دار سلام وقدس لا خوف ولا حزن. والمرء لا يهنأ بعيش يخاف زواله بل قيل:
البؤس خير من نعيم زائل، والكفر جريمة خالصة فجزاؤها عقوبة خالصة لا يشوبها نقص، ومعنى «الأول والآخر» ليس كما في الشاهد بل بمعنى لا ابتداء ولا انتهاء له في ذاته من غير استناد لغيره فهو الواجب القدم المستحيل العدم، والخلق ليسوا كذلك، فأين الشبه والعلم لا يتناهى فيتعلق بما لا يتناهى، وما أنفاس أهل الجنة إلا كمراتب الأعداد؟! أفيقال: إن الله سبحانه لا يعلمها أو يقال إنها متناهية. تبا للجهمية ما أجهلهم، وأجهل منهم من قال: إن الأبدان مؤلفة من الأجزاء المتضادة في الكيفية معرضة للاستحالات المؤدية إلى الانحلال والانفكاك فكيف يمكن التأبيد، وذلك لأن مدار هذا على قياس هاتيك النشأة على هذه النشأة، وهيهات هيهات كيف يقاس ذلك العالم الكامل على عالم

(1/207)


الكون والفساد؟! على أنه إذا ثبت كونه تعالى قادرا مختارا ولا فاعل في الوجود إلا هو فلم لا يجوز أن يعيد الأبدان بحيث لا تتحلل، أو إن تحللت فلم لا يجوز أن يخلق بدل ما تحلل دائما أبدا؟ وسبحان القادر الحكيم الذي لا يعجزه شيء إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره: نزلت في اليهود لما ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه بالعنكبوت، والذباب وغير ذلك مما يستحقر قالوا: إن الله تعالى أعز وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه المحقرات فرد الله تعالى عليهم بهذه الآية. ووجه ربطها بما تقدم على هذا- وكان المناسب عليه أن توضع في سورة العنكبوت مثلا- أنها جواب عن شبهة تورد على إقامة الحجة على حقية القرآن بأنه معجز فهي من الريب الذي هو في غاية الاضمحلال فكان ذكرها هنا أنسب، وقال مجاهد وغيره: نزلت في المنافقين، قالوا- لما ضرب الله سبحانه المثل بالمستوقد، والصيب- الله تعالى أعلى وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء التي لا بال لها فرد الله تعالى عليهم ووجه الربط عليه ظاهر فإنها للذب عن التمثيلات السابقة على أحسن وجه وأبلغه، وقيل: إنها متصلة بقوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً أي لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا لهذه الأنداد، وقيل: هذا مثل ضرب للدنيا وأهلها فإن البعوضة تحيا ما جاعت وإذا شبعت ماتت، كذلك أهل الدنيا إذا امتلؤوا منها هلكوا، أو مثل لأعمال العباد وأنه لا يمتنع أن يذكر منها ما قل أو كثر ليجازى عليه ثوابا وعقابا، وعلى هذين القولين لا ارتباط للآية بما قبلها بل هي ابتداء كلام، وهذا وإن جاز لا أقول به إذ المناسب بكل آية أن ترتبط بما قبلها وفي الآية إشارة إلى حسن التمثيل كيف والله سبحانه مع عظمته وبالغ حكمته لم يتركه ولم يستح منه. وما انفكت الأمثال في الناس سائرة. والحياء- كما قال الراغب- انقباض النفس عن القبائح، وهو مركب من جبن وعفة، وليس هو الخجل بل ذاك حيرة النفس لفرط الحياة فهما متغايران وإن تلازما، وقال بعضهم: الخجل لا يكون إلا بعد صدور أمر زائد لا يريده القائم به بخلاف الحياء فإنه قد يكون مما لم يقع فيترك لأجله، وما في القاموس خجل استحى تسامح، وهو مشتق من الحياة لأنه يؤثر في القوة المختصة بالحيوان وهي قوة الحس والحركة، والآية تشعر بصحة نسبة الحياء إليه تعالى لأنه في العرف لا يسلب الحياء إلا عمن هو شأنه، على أن النفي داخل على كلام فيه قيد فيرجع إلى القيد فيفيد ثبوت أصل الفعل أو إمكانه لا أقل، وأما في الأحاديث فقد صرح بالنسبة- وللناس في ذلك مذهبان- فبعض يقول بالتأويل إذ الانقباض النفساني مما لا يحوم حول حظائر قدسه سبحانه، فالمراد بالحياء عنده الترك اللازم للانقباض، وجوّز جعل ما هنا بخصوصه من باب المقابلة لما وقع في كلام الكفرة بناء على ما روي أنهم قالوا: ما يستحي رب محمد أن يضرب الأمثال بالذباب، والعنكبوت، وبعض- وأنا والحمد لله منهم لا يقول بالتأويل بل يمر هذا وأمثاله- مما جاء عنه سبحانه في الآيات والأحاديث- على ما جاءت ويكل علمها بعد التنزيه عما في الشاهد إلى عالم الغيب والشهادة، وقرأ الجمهور يستحيي بياءين والماضي استحيا، وجاء استفعل هنا للإغناء عن الثلاثي المجرد كاستأثر، وقرأ ابن كثير في رواية- وقليلون- بياء واحدة وهي لغة بني تميم، وهل المحذوف اللام فالوزن يستفع. أو
العين فالوزن يستفل؟
قولان: أشهرهما الثاني، وهذا الفعل مما يكون متعديا بنفسه وبالحرف فيقال: استحييته واستحيت منه، والآية تحتملهما. والضرب إيقاع شيء على شيء، وضرب المثل من ضرب الدراهم وهو ذكر شيء يظهر أثره في غيره، فمعنى يضرب هنا يذكر، وقيل: يبين. وقيل: يضع من ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [آل عمران: 112] وما اسم بمعنى شيء يوصف به النكرة لمزيد الإبهام ويسد طرق التقييد، وقد يفيد التحقير أيضا- كاعطه شيئا ما- والتعظيم- كالأمر ما جدع قصير أنفه- والتنويع- كاضربه ضربا ما- وقد تجعل سيف خطيب، والقرآن أجل من أن يلغى فيه شيء، وبعوضة إما صفة- لما- أو بدل منها أو عطف بيان إن قيل بجوازه في النكرات أو بدل من مَثَلًا أو عطف بيان له إن قيل ما زائدة، أو مفعول ومَثَلًا حال وهي المقصودة، أو منصوب على نزع الخافض أي

(1/208)


ما من بعوضة فَما فَوْقَها كما نقل عن الفراء. والفاء بمعنى إلى، أو مفعول ثان أو أول بناء على تضمن الضرب معنى الجعل، ولا يرد على إرادة العموم أن مثال المعنى على المشهور أن الله لا يترك أي مثل كان فيقتضي أن جميع الأمثال مضروبة في كلامه فأين هي لأن المنفي ليس مطلق الترك بل الترك لأجل الاستحياء؟ فالمعنى لا يترك مَثَلًا ما استحياء وإن تركه لأمر آخر أراده، وقرأ ابن أبي عبلة، وجماعة: بعوضة بالرفع والشائع على أنه خبر، واختلفوا فيما يكون عنه خبرا فقيل مبتدأ محذوف- أي هي، أو هو- بعوضة، والجملة صلة ما على جعلها موصولة، وهو تخريج كوفي لحذف صدر الصلة من غير طول، وقيل: ما بناء على أنها استفهامية مبتدأ، واختار فى البحر أن تكون ما صلة أو صفة وهي بَعُوضَةً جملة كالتفسير لما انطوى عليه الكلام، وقيل: بَعُوضَةً مبتدأ، وما نافية والخبر محذوف- أي متروكة- لدلالة لا يَسْتَحْيِي عليه.
«والبعوضة» واحد البعوض، وهو طائر معروف، وفيه من دقيق الصنع وعجيب الإبداع ما يعجز الإنسان أن يحيط بوصفه ولا ينكر ذلك إلا نمرود. وهو في الأصل صفة على فعول كالقطوع، ولذا سمي في لغة هذيل- خموش- فغلبت، واشتقاقه من البعض بمعنى القطع فَما فَوْقَها الفاء عاطفة ترتيبية، وما عطف على بَعُوضَةً أو «ما» إن جعل اسما والتفصيل وما فيه غير خفي. والمراد بالفوقية إما الزيادة في حجم الممثل به فهو ترقّ من الصغير للكبير، وبه قال ابن عباس، أو الزيادة في المعنى الذي وقع التمثيل فيه وهو الصغر والحقارة فهو تنزل من الحقير للأحقر، وهذان الوجهان على القراءة المشهورة وأما على قراءة الرفع فقد قالوا: إن جعلت «ما» موصولة ففيه الوجهان، وإن جعلت استفهامية تعين الأول لأن العظم مبتدأ من البعوضة إذ ذاك، وقيل: أراد- ما فوقها- وما دونها فاكتفى بأحد الشيئين عن الآخر على حد سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] فافهم.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ تفصيل لما أشار إليه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي إلخ من أنه وقع فيه ارتياب بين التحقيق والارتياب، أو لما يترتب على ضرب المثل من الحكم إثر تحقيق حقية صدوره عنه سبحانه، والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يشير إليه ما قبلها. وكأنه قيل كما قيل فيضربه فَأَمَّا الَّذِينَ إلخ، وتقديم بيان حال المؤمنين لشرفه، وأما على ما عليه المحققون حرف متضمنة لمعنى الشرط ولذا لزمتها الفاء غالبا، وتفيد مع هذا تأكيد ما دخلت عليه من الحكم وتكون لتفصيل مجمل تقدمها صريحا، أو دلالة، أو لم يتقدم لكنه حاضر في الذهن ولو تقديرا، ولما كان هذا خلاف الظاهر في كثير من موارد استعمالها جعله الرضى والمرتضى- من المحققين- أغلبيا، وفسر سيبويه- أما زيد فذاهب- بمهما يكن من شيء فزيد ذاهب وليس المراد به أنها مرادفة لذلك الاسم، والفعل إذ لا نظير له، بل المراد أنها لما أفادت التأكيد وتحتم الوقوع في المستقبل كان مآل المعنى ذلك. ولما أشعرت بالشرطية قدر شرط يدل على تحتم الوقوع وهو وجود شيء ما في الدنيا إذ لا تخلو عنه فما علق عليه محقق، وحيث كان المعنى ما ذكر سيبويه، ومهما مبتدأ والاسمية لازمة له، ويكن فعل شرط والفاء لازمة تليه غالبا، وقامت- أما ذلك المقام- لزمها الفاء ولصوق الاسم إقامة للازم مقام الملزوم، وإبقاء لأثره في الجملة وكان الأصل دخول الفاء على الجملة فيما ذكر لأنها الجزاء لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوا الخبر وعوضوا المبتدأ عن الشرط لفظا، وقد يقدم على الفاء- كما في الرضى- من أجزاء الجزاء المفعول به والظرف والحال إلى غير ذلك مما عدوه على ما فيه، وفي تصدير الجملتين بها من الإحماد والذم ما لا يخفى. والمراد بالموصول فريق المؤمنين المعهودين كما أن المراد بالموصول الآتي فريق الكفرة الطاغين لا من يؤمن بضرب المثل ومن يكفر به لاختلال المعنى، والضمير في أَنَّهُ للمثل، وهو أقرب، أو لضربه المفهوم من أن يضرب، وقيل: لترك الاستحياء المنقدح مما

(1/209)


مر، وقيل: للقرآن والْحَقُّ خلاف الباطل، وهو في الأصل مصدر حق يحق من بابي ضرب وقتل إذا وجب أو ثبت، وقال الراغب: أصله المطابقة والموافقة، ويكون بمعنى الموجد بحسب الحكمة والموجد على وفقها والاعتقاد المطابق للواقع، وقيل: إنه الحكم المطابق، ويطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتماله على ذلك، ولم يفرق في المشهور بينه وبين الصدق إلا أنه شاع في العقد المطابق، والصدق في القول كذلك، وقد يفرق بينهما بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع وفي الصدق من جانب الحكم، وتعريفه هنا إما للقصر الادعائي كما يقال- هذا هو الحق- أو لدعوى الاتحاد ويكون المحكوم عليه مسلم الاتصاف، ومِنْ رَبِّهِمْ إما خبر بعد خبر أو حال من ضمير الحق، ومِنْ لابتداء الغاية المجازية، والتعرض لعنوان الربوبية للإشارة إلى أنهم يعترفون بحقية القرآن وبما أنعم الله تعالى به عليهم من النعم التي من أجلها نزول هذا الكتاب وهو المناسب لقوله سبحانه نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا وأما الكفرة المنكرون لجلاله المتخذون غيره من الأرباب فالله عز اسمه هو المناسب لحالهم وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28، 30] وقيل: في ذلك- مع الإضافة إلى الضمير- تشريف وإيذان بأن ضرب المثل تربية لهم وإرشاد إلى ما يوصلهم إلى كمالهم اللائق بهم، والجملة سادة مسد مفعولي- يعلمون- عند الجمهور، ومسد الأول والثاني محذوف عند الأخفش أي فَيَعْلَمُونَ حقيته ثابتة.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا لم يقل سبحانه- وأما الذين كفروا فلا يعلمون- ليقابل سابقه لما في هذا من المبالغة في ذمهم والتنبيه بأحسن وجه على كمال جهلهم لأن الاستفهام إما لعدم العلم أو للإنكار وكل منهما يدل على الجهل دلالة واضحة:
ومن قال للمسك أين الشذا ... يكذبه ريحه الطيب
قيل: ولم يقل سبحانه هناك- وأما الذين آمنوا فيقولون- إلخ إشارة إلى أن المؤمنين اكتفوا بالخضوع والطاعة من غير حاجة إلى التكلم والكافرون لخبثهم وعنادهم لا يطيقون الأسرار لأنه كاخفاء الجمر في الحلفاء، وقيل: إن- يقولون- لا يدل صريحا على العلم وهو المقصود والكافرون منهم الجاهل والمعاند فَيَقُولُونَ إلخ أشمل وأجمع، وماذا لها ستة أوجه في استعمالهم. الأول أن تكون «ما» استفهامية في موضع رفع بالابتداء، وذا- بمعنى الذي خبره، وأخبر عن المعرفة بالنكرة هنا بناء على مذهب سيبويه في جوازه في أسماء الاستفهام. وغيره يجعل النكرة خبرا عن الموصول. الثاني أن تكون ماذا كلها استفهاما مفعولا- لأراد- وهذان الوجهان فصيحان اعتبرهما سائر المفسرين والمعربين في الآية، والاستفهام يحتمل الاستغراب والاستبعاد والاستهزاء ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ [النور: 40] ، الثالث أن يجعل- ما- استفهامية، وذا- صلة لا إشارة ولا موصولة، الرابع أن يجعلا معا موصولا كقوله. دعي ماذا علمت سأتقيه. الخامس أن يجعلا نكرة موصوفة وقد جوز في المثال، السادس أن تكون- ما- استفهامية، وذا- اسم إشارة خبر له.
«والإرادة» كما قاله الراغب: منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء وهي في الأصل قوة مركبة من شهوة وخاطر وأمل، وجعل اسما لنزوغ النفس إلى الشيء مع الحكم فيه بأنه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل، ثم يستعمل مرة في المبدأ وهو نزوغ النفس إلى الشيء وتارة في المنتهى وهو الحكم فيه بأنه ينبغي إلخ، وإرادة المعنى من اللفظ مجرد القصد وهو استعمال آخر ولسنا بصدده، وبين الإرادة والشهوة عموم من وجه لأنها قد تتعلق بنفسها بخلاف الشهوة فإنها إنما تتعلق باللذات، والإنسان قد يريد الدواء البشع ولا يشتهيه ويشتهي اللذيذ ولا يريده إذا علم فيه هلاكه وقد يشتهي ويريد. وللمتكلمين- أهل الحق وغيرهم- في تفسيرها مذاهب، فالكلبي والنجار وغيرهما على أن إرادته

(1/210)


سبحانه لأفعاله أنه يفعلها عالما بها وبما فيها من المصلحة، ولأفعال غيره أنه أمر بها وطلبها، فالمعاصي إذا ليست بإرادته جل شأنه، ونحو ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وارد عليهم والجاحظ وبعض المعتزلة والحكماء على أن إرادته تعالى شأنه علمه بجميع الموجودات من الأزل إلى الأبد وبأنه كيف ينبغي أن يكون نظام الوجود حتى يكون على الوجه الأكمل، ويكفيه صدوره عنه حتى يكون الموجود على وفق المعلوم على أحسن النظام من غير قصد وطلب شوقي، ويسمون هذا العلم عناية وذهب الكرامية وأبو علي وأبو هاشم إلى أنها صفة زائدة على العلم إلا أنها حادثة قائمة بذاته عز شأنه عند الكرامية، وموجودة لا في محل عند الأبوين، والمذاهب الحق أنها ذاتية قديمة وجودية زائدة على العلم ومغايرة له وللقدرة، مخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع، وكونها نفس الترجيح الذي هو من صفات الأفعال- كما قال البيضاوي عفا الله تعالى عنه- لم يذهب إليه أحد. وفي كلمة- هذا- استحقار للمشار إليه مثلها في أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان: 41] وقد تكون للتعظيم بحسب اقتضاء المقام، ومَثَلًا نصب على التمييز عن نسبة الاستغراب ونحوه إلى المشار إليه. وقد ذكر الرضى- والعهدة عليه- أن الضمير واسم الإشارة إذا كانا مبهمين يجيء التمييز عنهما والعامل هما لتماميهما بنفسهما حيث يمتنع إضافتهما، وإذا كانا معلومين فالتمييز عن النسبة، ويحتمل أن يكون حالا من اسم الله تعالى أو من هذا أي ممثلا أو ممثلا به أو بضربه.
يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً جملتان جاريتان مجرى البيان، والتفسير للجملتين المصدرتين- بأما- إذ يشتملان على أن كلا الفريقين موصوف بالكثرة وعلى أن العلم بكونه حقا من الهدى الذي يزداد به المؤمنون نورا إلى نورهم، والجهل بموقعه من الضلالة التي يزداد بها الجهال خبطا في ظلمتهم، وهاتان يزيدان ما تضمنتاه وضوحا أو أنهما جواب لدفع ما يزعمونه من عدم الفائدة في ضرب الأمثال بالمحقرات ببيان أنه مشتمل على حكمة جليلة وغاية جميلة هي كونه وسيلة إلى هداية المستعدين للهداية وإضلال المنهمكين في الغواية، وصرح بعضهم بأنهما جواب-لماذا- ووضع الفعلان موضع المصدر للإشعار بالاستمرار التجددي والمضارع يستعمل له كثيرا، ففي التعبير به هنا إشارة إلى أن الإضلال والهداية لا يزالان يتجددان ما تجدد الزمان، قيل: ووضعهما موضع الفعل الواقع في الاستفهام مبالغة في الدلالة على تحققهما فإن إرادتهما دون وقوعهما بالفعل وتجافيا عن نظم الإضلال مع الهداية في سلك الإرادة لإيهامه تساويهما في التعلق وليس كذلك، فإن المراد بالذات من ضرب المثل هو التذكير والاهتداء كما يشير إليه قوله تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21] وأما الإضلال فعارض مترتب على سوء الاختيار، وقدم في النظم الإضلال على الهداية مع سبق الرحمة على الغضب، وتقدمها بالرتبة والشرف لأن قولهم ناشىء من الضلال مع أن كون ما في القرآن سببا له أحوج للبيان لأن سببيته للهدى في غاية الظهور، فالاهتمام ببيانه أولى، ووصف كل من القبيلتين بالكثرة بالنظر إلى أنفسهم وإلا فالمهتدون قليلون بالنسبة إلى أهل الضلال وبعيد حمل كثرة المهتدين على الكثرة المعنوية بجعل كثرة الخصائص اللطيفة بمنزلة كثرة الذوات الشريفة كما قيل:
ولم أر أمثال الرجال تفاوتت ... لدى المجد حتى عد ألف بواحد
لا سيما وقد ذكر معها الكثرة الحقيقية، هذا وجوّز بعضهم أن يكون قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً إلخ في موضع الصفة- لمثل- فهو من كلام الكفار، ولعله من باب المماشاة مع المؤمنين إذ هم ليسوا بمعترفين بأن هذا المثل- يضل الله به كثيرا ويهدي به كثيرا- وأغرب من هذا تجويز ابن عطية أن يكون يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً من كلام الكفار وما بعده من كلام الله تعالى وهو إلباس في التركيب وعدول عن الظاهر من غير دليل، وإسناد الإضلال إليه تعالى حقيقي وقد تقدم وجهه فلا التفات إلى ما في الكشاف لأنه نزغة اعتزالية، والضمير في بِهِ للمثل أو لضربه في

(1/211)


الموضعين، وقيل: في الأول للتكذيب، وفي الثاني للتصديق ودل على ذلك قوة الكلام، ولا يخفى ضعفه، وقرأ زيد بن علي يُضِلُّ هنا وفيما يأتي، ويَهْدِي بالبناء للمفعول وابن أبي عبلة في- الثلاثة- بالبناء للفاعل، ورفعا للفاسقين- خفضهم الله تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ تذييل أو اعتراض في آخر الكلام بناء على قول من جوزه، وقيل:
حال، ومنع الساليكوتي عطفه على ما قبله قائلا لأنه لا يصح كونه جوابا وبيانا، وأجازه بعضهم تكملة للجواب وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له وإشارة إلى أن ذلك ليس إضلالا ابتدائيا بل هو تثبيت على ما كانوا عليه من فنون الضلال وزيادة فيه، والْفاسِقِينَ جمع فاسق من الفسق، وهو شرعا خروج العقلاء عن الطاعة فيشمل الكفر ودونه من الكبيرة والصغيرة. واختص في العرف والاستعمال بارتكاب الكبيرة فلا يطلق على ارتكاب الآخرين إلا نادرا بقرينة، وهو من قولهم: فسق الرطب إذا خرج من قشره، قال ابن الأعرابي: ولم يسمع الفسق وصفا للإنسان في كلام العرب، ولعله أراد في كلام الجاهلية كما صرح به ابن الأنباري، وإلا فقد قال رؤبة، وهو شاعر إسلامي يستدل بكلامه:
يذهبن في نجد وغور أغائرا ... «فواسقا» عن قصدها جوائرا
على أنه يمكن أن يقال: لم يخرج الفسق في البيت عن الوضع لأنه وضعا خروج الإجرام وبروز الأجسام من غير العقلاء، وما فيه خروج الإبل وهي لا تعقل. والمراد بالفاسقين هنا الخارجون عن حدود الإيمان وتخصيص الإضلال بهم مرتبا على صفة الفسق وما أجري عليهم من القبائح للإيذان بأن ذلك هو الذي أعدهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال فإن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم على الباطل صرفت وجوه أنظارهم عن التدبر والتأمل حتى رسخت جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروا وقالوا ما قالوا، ونصب الْفاسِقِينَ على أنه مفعول يضل أو على الاستثناء والمفعول محذوف أي أحدا، ولا تفريغ كما في قوله:
نجا سالم والنفس منه بشدة ... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا
ومنع ذلك أبو البقاء ولعله محجوج بالبيت الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ يحتمل النصب والرفع، والأول إما على الاتباع أو القطع- أي أذم- والثاني إما على الثاني من احتمالي الأول أو على الابتداء، والخبر جملة أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وعلى هذا تكون الجملة كأنها كلام مستأنف لا تعلق لها إلا على بعد والنقض- فسخ التركيب، وأصله يكون في الحبل ونقيضه الإبرام وفي الحائط ونحوه، ونقيضه البناء. وشاع استعمال النقض في إبطال العهد- كما قال الزمخشري- من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين، وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار ثم يرمزوا بذكر شيء من روادفه فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه نحو قولك: عالم يغترف منه الناس، وشجاع يفترس أقرانه.
والحاصل أن في الآية استعارة بالكناية، والنقض استعارة تحقيقية تصريحية حيث شبه إبطال العهد بإبطال تأليف الجسم، وأطلق اسم المشبه به على المشبه لكنها إنما جازت وحسنت بعد اعتبار تشبيه العهد بالحبل، فبهذا الاعتبار صارت قرينة على استعارة الحبل للعهد، ومن هنا يظهر أن الاستعارة المكنية قد توجد بدون التخييلية وأن قرينتها قد تكون تحقيقية، وتحقيق البحث يطلب من محله، والعهد الموثق، وعهد إليه في كذا إذا أوصاه ووثقه عليه، واستعهد منه إذا اشترط عليه، واستوثق منه. والمراد بالعهد هاهنا إما العهد المأخوذ بالعقل وهو الحجة القائمة على عباده تعالى الدالة على وجوده ووحدته وصدق رسله صلى الله تعالى عليهم وسلم، وفي نقضها لهم ما لا يخفى من الذم لأنهم نقضوا ما أبرمه الله تعالى من الأدلة التي كررها عليهم في الأنفس والآفاق وبعث الأنبياء عليهم الصلاة

(1/212)


والسلام وأنزل الكتب مؤكدا لها، والناقضون على هذا جميع الكفار. وأما المأخوذ من جهة الرسل على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدق بالمعجزات صدقوه واتبعوه ولم يكتموا أمره. وذكره في الكتب المتقدمة ولم يخالفوا حكمه. والناقضون حينئذ أهل الكتاب والمنافقون منهم حيث نبذوا كل ذلك وراء ظهورهم وبدلوا تبديلا، والنقض على هذا عند بعضهم أشنع منه على الأول، وعكس بعض- ولكل وجهة- وقيل: الأمانة التي حملها الإنسان بعد إباء السماوات والأرض عن أن يحملنها، وقيل: هو ما أخذ على بني إسرائيل من أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، إلى غير ذلك من الأقوال وهي مبنية على الاختلاف في سبب النزول والظاهر العموم. ومِنْ للابتداء وكون المجرور بها موضعا انفصل عنه الشيء وخرج، وتدل على أن النقض حصل عقيب توثق العهد من غير فصل، وفيه إرشاد إلى عدم اكتراثهم بالعهد- فأثر ما استوثق الله تعالى منهم نقضوه- وقيل: صلة وهو بعيد، والميثاق مفعال وهو في الصفات كثير- كمنحار- ويكون مصدرا عند أبي البقاء والزمخشري- كميعاد- بمعنى الوعد، وأنكره جماعة وقالوا: هو اسم في موضع المصدر كما في قوله:
أكفرا بعد رد الموت عني ... وبعد «عطائك» المائة الرتاعا
ويكون اسم آلة- كمحراث- ولم يشع هذا وليس بالبعيد، والمراد به ما وثق الله تعالى به عهده من الآيات والكتب، أو ما وثقوه به من القبول والالتزام، والضمير للعهد لأنه المحدث عنه. ويجوز عوده إلى الله تعالى ولم يجوزه الساليكوتي لأن المعنى لا يتم بدون اعتبار العهد فهو أهم من ذكر الفاعل، ولأن الرجوع إلى المضاف خلاف الأصل، وأفهم كلام أبي البقاء أن الميثاق هنا مصدر بمعنى التوثقة، وفي الضمير الاحتمالان فإن عاد إلى اسم الله تعالى كان المصدر مضافا إلى الفاعل، وإن إلى العهد كان مضافا إلى المفعول، وحديث الرجوع إلى المضاف خصه بعض المحققين في غير الإضافة اللفظية، وأما فيها فمطرد كثير، وما نحن فيه كذلك لأنه مصدر أو مؤول بمشتق فيكون كقولك أعجبني ضرب زيد وهو قائم، والوجه أنها في نية الانفصال وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ما المقطوعة موصولة، أو نكرة موصوفة عند أبي البقاء، وفي المراد بها أقوال: «الأول» رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قطعوه بالتكذيب والعصيان- قاله الحسن- وفيه استعمال «ما» لمن يعقل بل سيد العقلاء بل العقل «الثاني» القول فإنه تعالى أمر- أن يوصل- بالعمل فلم يصلوه ولم يعملوا، وظاهر هذا أنها نزلت في المنافقين «الثالث» التصديق بالأنبياء أمروا بوصله فقطعوه بتكذيب بعض وتصديق بعض «الرابع» الرحم والقرابة قاله قتادة، وظاهره أنه أراد كفار قريش وأشباههم «الخامس» الأمر الشامل لما ذكر مما يوجب قطعه قطع الوصلة بين الله تعالى وبين العبد- المقصودة بالذات من كل وصل وفصل، ولعل هذا هو الأوجه لأن فيه حمل اللفظ على مدلوله من العموم ولا دليل واضح على الخصوص. ورجح بعضهم ما قبله بأن الظاهر- أن هذا توصيف للفاسقين بأنهم يضيعون حق الخلق بعد وصفهم بتضييع حق الحق سبحانه، وتضييع حقه بنقض عهده وحق خلقه بتقطيع أرحامهم- وليس بالقوي. والأمر القول الطالب للفعل مع علو عند المعتزلة أو استعلاء عند أبي الحسين، ويفسدهما ظاهر قوله تعالى حكاية عن فرعون:
فَماذا تَأْمُرُونَ [الأعراف: 110، الشعراء: 35] ويطلق على التكلم بالصيغة وعلى نفسها، وفي موجبها خلاف، وهذا هو الأمر الطلبي. وقد نقل إلى الأمر الذي يصدر عن الشخص لأنه يصدر عن داعية تشبه الأمر فكأنه مأمور به أو لأنه من شأنه أن يؤمر به كما سمي الخطب والحال العظيمة شأنا. وهو مصدر في الأصل بمعنى القصد وسمي به ذلك لأن من شأنه أن يقصد. وذهب الفقهاء إلى أن الأمر مشترك بين القول والفعل لأنه يطلق عليه مثل وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود: 97] . وأَنْ يُوصَلَ يحتمل النصب والخفض على أنه بدل من ما أو من ضميره، والثاني أولى

(1/213)


للقرب ولأن- قطع ما أمر الله تعالى بوصله- أبلغ من قطع وصل ما أمر الله تعالى به نفسه، واحتمال الرفع بتقدير هو- أو النصب بالبدلية من محل المجرور أو بنزع الخافض أو أنه مفعول لأجله- أي لأن- أو كراهية- أن ليس بشيء كما لا يخفى.
وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ إفسادهم باستدعائهم إلى الكفر والترغيب فيه وحمل الناس عليه أو بإخافتهم السبل وقطعهم الطرق على من يريد الهجرة إلى الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم- أو بأنهم يرتكبون كل معصية يتعدى ضررها ويطير في الآفاق شررها- ولعل هذا أولى وذكر في الْأَرْضِ إشارة إلى أن المراد فساد يتعدى دون ما يقف عليهم. وأُولئِكَ إشارة إلى الْفاسِقِينَ باعتبار ما فصل من صفاتهم القبيحة، وفيه رمز إلى أنهم في المرتبة البعيدة من الذم وحصر- الخاسرين- عليهم باعتبار كما لهم في الخسران حيث أهملوا العقل عن النظر ولم يقتنصوا المعرفة المفيدة للحياة الأبدية والمسرة السرمدية، واشتروا النقض بالوفاء، والفساد بالصلاح، والقطعية بالصلة، والثواب بالعقاب فضاع منهم الطلبتان- رأس المال والربح- وحصل لهم الضرر الجسيم وهذا هو الخسران العظيم. وفي الآية ترشيح (1) للاستعارة المقدرة التي تتضمنها الآيات السابقة فافهم.
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ التفات إلى خطاب أولئك بعد أن عدد قبائحهم المستدعية لمزيد سخطه تعالى عليهم والإنكار إذا وجه إلى المخاطب كان أبلغ من توجيهه إلى الغائب وأردع له لجواز أن لا يصله. وكَيْفَ اسم ما ظرف- وعزي إلى سيبويه- فمحلها نصب دائما، أو غير ظرف- وعزي إلى الأخفش- فمحلها رفع مع المبتدأ ونصب مع غيره، وادعى ابن مالك أن أحدا لم يقل بظرفيتها إذ ليست زمانا ولا مكانا لكن لكونها تفسر بقولك على أي حال أطلق اسم الظرف عليها مجازا، واستحسنه ابن هشام ودخول الجر عليها شاذ. وأكثر ما تستعمل استفهاما والشرط بها قليل والجزم غير مسموع، وأجازه قياسا- الكوفيون وقطرب، والبدل منها أو الجواب إن كانت مع فعل مستغن منصوب ومع ما لا يستغنى مرفوع إن كان مبتدأ ومنصوب إن كان ناسخا. وزعم ابن موهب أنها تأتي عاطفة وليس بشيء، وهي هنا للاستخبار منضما إليه الإنكار والتعجيب لكفرهم بإنكار الحال الذي له مزيد اختصاص بها وهي العلم بالصانع والجهل به، ألا يرى أنه ينقسم باعتبارهما فيقال: كافر معاند وكافر جاهل؟ فالمعنى أفي حال العلم تكفرون أم في حال الجهل وأنتم عالمون بهذه القصة؟ وهو يستلزم العلم بصانع موصوف بصفات الكمال منزه عن النقصان، وهو صارف قوي عن الكفر، وصدور الفعل عن القادر مع الصارف القوي مظنة تعجيب وتوبيخ، وفيه إيذان بأن كفرهم عن عناد وهو أبلغ في الذم. وفيه من المبالغة أيضا ما ليس في «أتكفرون» لأن الإنكار الذي هو نفي قد توجه للحال التي لا تنفك. ويلزم من نفيها نفي صاحبها بطريق البرهان، وإن شئت عممت الحال. وإنكار أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها مع أن كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال يستدعي إنكار وجود الكفر بذلك الطريق، ولا يرد أن الاستخبار محال على- اللطيف الخبير عز شأنه- لأنه إما أن يكون بمعنى طلب الخبر فلا نسلم المحالية إذ قد يكون لتنبيه المخاطب وتوبيخه ولا يقتضي جهل المستخبر ولا يلزم من ضم الإنكار والتعجيب إليه- وهما من المعاني المجازية للاستفهام- الجمع بين الحقيقة والمجاز إن كان الاستخبار حقيقة للصيغة، وبين معنيين مجازيين إن كان مجازا لأن الانفهام بطريق الاستتباع واللزوم لا من حلق الوسط، أو أنه تجوّز على تجوّز لشهرة الاستفهام في معنى الاستخبار حتى كأنه حقيقة فيه، وإما أن يكون بمعنى الاستفهام فنقول: لا قدح في صدوره ممن
__________
(1) لأن الخسران من لوازم التجارة، والآيات تتضمن استبدال الأمور المذكورة بنقائضها المستعار له البيع والشراء اهـ منه.

(1/214)


يعلم المستفهم عنه لأنه- كما في الإتقان- طلب الفهم. أما فهم المستفهم- وهو محال عليه تعالى- أو وقوع فهمه ممن لا يفهم كائنا من كان ولا استحالة فيه منه تعالى، وكذا لا استحالة في وقوع التعجيب منه تعالى بل قالوا: إذا ورد التعجب من الله جل وعلا لم يلزم محذور إذ يصرف إلى المخاطب أو يراد غايته أو يرجع إلى مذهب السلف، وأتى سبحانه- يتكفرون- ولم يأت بالماضي وإن كان الكفر قد وقع منهم- لأن الذي أنكر الدوام والمضارع هو المشعر به ولئلا يكون في الكلام توبيخ لمن وقع منه الكفر ممن آمن كأكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ما قبل ثُمَّ حال من ضمير تَكْفُرُونَ بتقدير قد لا محالة خلافا لمن وهم فيه. والمعنى كَيْفَ تَكْفُرُونَ وقد خلقكم، فعبر عن الخلق بذلك، ولما كان- مركوزا في الطباع ومخلوقا في العقول- أن لا خالق إلا الله كانت حالا تقتضي أن لا تجامع الكفر، والجمل بعد مستأنفة لا تعلق لها بالحال ولذا غايرت ما قبلها بالحرف والصيغة، ولك أن تجعل جميع الجمل مندرجة في الحال وهو في الحقيقة العلم بالقصة كأنه قيل: كَيْفَ تَكْفُرُونَ وأنتم عالمون بهذه القصة وبأولها وآخرها، فلا يضر اشتمالها على ماض ومستقبل، وكلاهما لا يصح أن يقع حالا، ورجح هذا جمع محققون، والحياة قوة تتبع الاعتدال النوعي ويفيض منها سائر القوى، وقيل: القوة الحساسة والعضو المفلوج حي وإلا لتسارع إليه الفساد، وعدم الاحساس بالفعل لا يدل على عدم القوة لجواز فقدان الأثر لمانع، وكأنهم أرادوا من ذلك قوة اللمس لأن مغايرة الحياة لما عداه من الحواس ظاهرة فإنها مختصة بعضو دون عضو، وأنها مفقودة في بعض أنواع الحيوانات، وأنه يلزم تعدد الحياة بالنوع في شخص واحد إن قيل بكون الحياة كل واحد منها. وتركبها في الخارج إن أريد مجموعها، وتطلق مجازا على القوة النامية لأنها من طلائعها ومقدماتها، وعلى ما يخص الإنسان من الفضائل كالعقل والعلم والإيمان من حيث إنها كمالها وغايتها، والموت- مقابل لها في كل مرتبة والكل (1) في كتاب الله تعالى وحياته سبحانه وتعالى صحة اتصافه جل شأنه بالعلم والقدرة أو معنى قائم بذاته تعالى يقتضي ذلك، وأين التراب من رب الأرباب. ثم إن للناس في المراد بما في الآية الكريمة أقوالا شتى، والمروي عن ابن عباس، وابن مسعود، ومجاهد رضي الله تعالى عنهم أن المراد بالموت الأول العدم السابق، والإحياء الأول الخلق والموت الثاني المعهود في الدار الدنيا، والحياة الثانية البعث للقيامة، واختاره بعض المحققين وادعى أن قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً وإسناده آخر الإماتة إليه تعالى مما يقويه، واختار آخرون أن كونهم أمواتا هو من وقت استقرارهم نطفا في الأرحام إلى تمام الأطوار بعدها، وأن الحياة (2) الأولى نفخ الروح بعد تلك الأطوار، والإماتة- هي المعهودة- والإحياء بعدها- هو البعث- يوم ينفخ في الصور ولعله أقرب من الأول، وإطلاق الأموات على تلك الأجسام مجاز إن فسر- الموت- بعدم الحياة عمن اتصف به، وحقيقة إن فسر بعدم الحياة عما من شأنه، قاله الساليكوتي، ويفهم كلام بعضهم: أنه على معنى كالأموات على التفسير الثاني وإن فسر بعدم الحياة مطلقا كان حقيقة وهو المشهور وأبعد الأقوال عندي حمل الموت الأول على المعهود بعد انقضاء الأجل، والإحياء الأول على ما يكون للمسألة في القبر فيكون قد وضع الماضي موضع المستقبل لتحقق الوقوع، ثم لا دليل في الآية على المختار لنفي عذاب القبر إذ نهاية ما فيها عدم ذكر الاحياء المصحح له، ونحن لا نستدل لها
__________
(1) قال الشيخ: أول الحواس الذي يصير به الحيوان حيوانا هو اللمس فأنه كما أن للنبات قوة غاذية يجوز ان يفقد سائر القوى دونها.
كذلك حال اللامسة للإنسان اهـ.
(2) قال الله تعالى: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ وقال سبحانه: أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وقال عز شأنه: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ اهـ.

(1/215)


هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)

بذلك الوجه عليه ولنا- والحمد لله تعالى- في ذلك المطلب أدلة شتى، وكذا لا دليل للمجسمة القائلين بأنه تعالى في مكان في ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لأن المراد بالرجوع إليه الجمع في المحشر حيث لا يتولى الحكم سواه والأمر يومئذ لله، ووراء هذا من المقال ما لا يخفى على العارفين، وفي قوله تعالى: تُرْجَعُونَ على البناء للمفعول دون- يرجعكم- المناسب للسياق مراعاة لتناسب رؤوس الآي مع وجود التناسب المعنوي للسياق، ولهذا قيل: إن قراءة الجمهور أفصح من قراءة يعقوب ومجاهد، وجماعة «ترجعون» مبنيا للفاعل، ولا يرد أن الآية إذا كانت خطابا للكفار- ومعنى العلم ملاحظ فيها- امتنع خطابهم بما بعد- ثم وثم- من الفعلين لأنهم لا يعلمون ذلك لأن تمكنهم من العلم لوضوح الأدلة آفاقية وأنفسية- وسطوع أنوارها عقلية ونقلية- منزل منزل العلم في إزاحة العذر، وبهذا يندفع أيضا ما قيل: هم شاكون في نسبة ما تقدم إليه تعالى فكيف يتأتى ذلك الخطاب به، ويحتمل كما قيل: أن يكون الخطاب في الآية للمؤمن والكافر فإنه سبحانه لما بين دلائل التوحيد أيضا من قوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّاسُ إلى فَلا تَجْعَلُوا ودلائل النبوة من وَإِنْ كُنْتُمْ إلى إِنْ كُنْتُمْ وأوعد ب فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا الآية، ووعد ب وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامة من قوله وَكُنْتُمْ أَمْواتاً إلى هُمْ فِيها خالِدُونَ والخاصة من يا بَنِي إِسْرائِيلَ [البقرة: 40] إلى ما نَنْسَخْ [البقرة: 106] واستقبح صدور الكفر- مع تلك النعم منهم- توبيخا للكافر وتقريرا للمؤمن وعد الإماتة نعمة لأنها وصلة إلى الحياة الأبدية واجتماع المحب بالحبيب، وقد يقال: إن المعدود عليهم كذلك هو المعنى المنتزع من القصة بأسرها.
«ومن الإشارة» قول ابن عطاء وَكُنْتُمْ أَمْواتاً بالظاهر فَأَحْياكُمْ بمكاشفة الأسرار ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عن أوصاف العبودية ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بأوصاف الربوبية، وقال فارس: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً بشواهدكم فَأَحْياكُمْ بشواهده ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عن شاهدكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بقيام الحق ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عن جميع ما لكم فتكونون له.

(1/216)


هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً معطوف على قوله تعالى: وَكُنْتُمْ وترك الحرف إما لكونه كالنتيجة له أو للتنبيه على الاستقلال في إفادة ما أفاده، وذكر أنه بيان نعمة أخرى مترتبة على الأولى، وأريد بترتبها أن الانتفاع بها يتوقف عليها فإن النعمة إنما تسمى نعمة من حيث الانتفاع بها، وهُوَ لغير المتكلم والمخاطب، وفيه لغات: تخفيف الواو مفتوحة، وحذفها في الشعر، وتشديدها لهمدان، وتسكينها لأسد وقيس، وهُوَ عند أهل الله تعالى اسم من أسمائه تعالى ينبىء عن كنه حقيقته المخصوصة المبرأة عن جميع جهات الكثرة، وهُوَ اسم مركب من حرفين الهاء والواو، والهاء- أصل، والواو- زائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع فليس في الحقيقة إلا حرف واحد دال على الواحد الفرد الذي لا موجود سواه وكل شيء هالك إلا وجهه، ولمزيد ما فيه من الأسرار اتخذه الأجلّة مدارا لذكرهم وسراجا لسرهم، وهو جار مع الأنفاس، ومسماه غائب عن الحدس والقياس، وفي «جعل» الضمير مبتدأ والموصول خبرا من الدلالة على الجلالة ما لا يخفى، وتقديم الظرف على المفعول الصريح لتعجيل المسرة واللام للتعليل والانتفاع- أي خلق لأجلكم جميع ما في الأرض- لتنتفعوا به في أمور دنياكم بالذات أو بالواسطة وفي أمور دينكم بالاستدلال والاعتبار، واستدل كثير من أهل السنة- الحنفية، والشافعية- بالآية على إباحة الأشياء النافعة قبل ورود الشرع، وعليه أكثر المعتزلة، واختاره الإمام في المحصول، والبيضاوي في المنهاج.
واعترض بأن اللام تجيء لغير النفع ك إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء: 7] وأجيب بأنها مجاز لاتفاق أئمة اللغة على أنها للملك ومعناه الاختصاص النافع، وبأن المراد النفع بالاستدلال، وأجيب بأن التخصيص خلاف الظاهر مع أن ذلك حاصل لكل مكلف من نفسه فيحمل على غيره، وذهب قوم إلى أن الأصل في الأشياء قبل الحظر، وقال قوم بالوقف لتعارض الأدلة عندهم، واستدلت الإباحية بالآية على مدعاهم قائلين إنها تدل على أن ما في الأرض جميعا خلق للكل فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلا، ويرده أنها تدل على أن الكل للكل، ولا ينافي اختصاص البعض بالبعض لموجب، فهناك شبه التوزيع، والتعيين يستفاد من دليل منفصل، ولا يلزم اختصاص كل شخص بشيء واحد كما ظنه الساليكوتي، وما تعم جميع ما في الأرض لأنفسها إذ لا يكون الشيء ظرفا لنفسه إلا أن يراد بها جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو ويكفي في التحدر العرش المحيط، أو تجعل الجهة اعتبارية، نعم قيل: تعم كل جزء من أجزاء الأرض- فإنه من جملة ضروراتها- ما فيها ضرورة وجود الجزء في الكل والمغايرة اعتبارية والقول: بأن الكلام على تقدير معطوف أي خلق ما في الأرض والأرض- لا أرضى به، وبعضهم لم يتكلف شيئا من ذلك، واستغنى بتقدم الامتنان بالأرض في قوله تعالى: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً [البقرة: 22] وجَمِيعاً حال مؤكدة من كلمة «ما» ولا دلالة لها كما ذكره البعض على الاجتماع الزماني وهذا بخلاف معا، وجعله حالا من ضمير لَكُمْ يضعفه السياق لأنه لتعداد النعم دون المنعم عليه مع أن مقام الامتنان يناسبه المبالغة في كثرة النعم، ولاعتبار المبالغة لم يجعلوه حالا من الأرض أيضا ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي علا إليها وارتفع من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحديد- قاله الربيع- أو قصد إليها بإرادته قصدا سويا بلا صارف يلويه ولا عاطف يثنيه من قولهم: استوى إليه- كالسهم المرسل- إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شيء- قاله الفراء- وقيل: استولى وملك كما في قوله:
فلما «علونا واستوينا عليهم» ... تركناهم صرعى لنسر وكاسر

(1/217)


وهو خلاف الظاهر لاقتضائه كون إِلَى بمعنى على، وأيضا الاستيلاء مؤخر عن وجود المستولى عليه فيحتاج إلى القول بأن المراد استولى على إيجاد السماء فلا يقتضي تقدم الوجود ولا يخفى ما فيه. والمراد بالسماء الأجرام العلوية أو جهة العلو. وثم قيل: للتراخي في الوقت، وقيل: لتفاوت ما بين الخلقين، وفضل خلق السماء على خلق الأرض، والناس مختلفون في خلق السماء وما فيها، والأرض وما فيها باعتبار التقدم والتأخر لتعارض الظواهر في ذلك، فذهب بعض إلى تقدم خلق السماوات لقوله تعالى: أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها [النازعات: 27- 32] وذهب آخرون إلى تقدم خلق الأرض لقوله تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 9] إلى قوله سبحانه:
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها [فصلت: 10- 12] وجمع بعضهم فقال: إن أَخْرَجَ مِنْها ماءَها بدل أو عطف بيان «لدحاها» أي بسطها مبين للمراد منه فيكون تأخرها ليس بمعنى تأخر ذاتها بل بمعنى تأخر- خلق ما فيها- وتكميله وترتيبه بل خلق التمتع والانتفاع به فإن البعدية كما تكون باعتبار نفس الشيء تكون باعتبار جزئه الأخير. وقيده المذكور كما لو قلت: بعثت إليك رسولا ثم كنت بعثت فلانا لينظر ما يبلغه فبعث الثاني، وإن تقدم لكن ما بعث لأجله متأخر فجعل نفسه متأخرا وما رواه الحاكم والبيهقي- بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في التوفيق بين الآيتين- يشير إلى هذا، ولا يعارضه ما
رواه ابن جرير وغيره وصححوه عنه أيضا- «إن اليهود أتت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فسألته عن خلق السماوات والأرض فقال: خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال وما فيهن من المنافع يوم الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب، فهذه أربعة فقال تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ إلى سَواءً لِلسَّائِلِينَ وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة» -
لجواز أن يحمل على أنه خلق مادة ذلك وأصوله إذ لا يتصور المدائن والعمران والخراب قبل، فعطفه عليه قرينة لذلك، واستشكال الإمام الرازي تأخر التدحية عن خلق السماء بأن الأرض جسم عظيم فامتنع انفكاك خلقها عن التدحية فإذا كانت التدحية متأخرة كان خلقها أيضا متأخرا مبني كما قيل: على الغفلة لأن من يقول بتأخر دحوها عن خلقها لا يقول بعظمها ابتداء بل يقول. إنها في أول الخلق كانت كهيئة الفهر ثم دحيت، فيتحقق الانفكاك ويصح تأخر دحوها عن خلقها، وقوله قدس سره: إن خلق الأشياء في الأرض- لا يمكن إلا إذا كانت مدحوة- لا يخفى دفعه بناء على أن المراد بذلك خلق المواد والأصول لا خلق الأشياء فيها كما هو اليوم وقال بعض المحققين: اختلف المفسرون في أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض أو مؤخر؟ نقل الإمام الواحدي عن مقاتل الأول- واختاره المحققون- ولم يختلفوا في أن جميع ما في الأرض مما ترى مؤخر عن خلق السماوات السبع بل اتفقوا عليه، فحينئذ يجعل- الخلق- في الآية الكريمة بمعنى التقدير لا الإيجاد أو بمعناه ويقدر الإرادة- ويكون المعنى أراد خلق ما في الأرض جميعا- لكم على حد إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: 6] وفَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ [الإسراء: 45] ولا يخالفه وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها فإن المتقدم على خلق السماء إنما هو تقدير الأرض وجميع ما فيها، أو إرادة إيجادها والمتأخر عن خلق السماء إيجاد الأرض وجميع ما فيها فلا إشكال، وأما قوله سبحانه وتعالى: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 9] فعلى تقدير الإرادة، والمعنى أراد خلق الأرض، وكذا وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ [الرعد: 3، فصلت: 10] ينبغي أن يكون بمعنى أراد أن يجعل، ويؤيد ذلك قوله تعالى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] فإن الظاهر أن المراد ائتيا في الوجود، ولو كانت الأرض موجودة سابقة لما صح هذا فكأنه سبحانه قال: أئنكم

(1/218)


لتكفرون بالذي أراد إيجاد الأرض وما فيها من الرواسي والأقوات في أربعة أيام ثم قصد إلى السماء فتعلقت إرادته بإيجاد السماء والأرض فأطاعا بأمر التكوين فأوجد سبع سماوات في يومين وأوجد الأرض وما فيها في أربعة أيام.
«بقي هاهنا» بيان النكتة في تغيير الأسلوب حيث قدم في الظاهر هاهنا وفي «حم» السجدة خلق الأرض وما فيها على خلق السماوات وعكس في- النازعات- ولعل ذلك لأن المقام في الأولين مقام الامتنان فمقتضاه تقديم ما هو نعمة نظرا إلى المخاطبين فكأنه قال سبحانه وتعالى: هو الذي دبر أمركم قبل خلق السماء ثم خلق السماء، والمقام في الثالثة مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل على كمالها، هذا والذي يفهم من بعض عبارات القوم قدس الله تعالى أسرارهم أن المحدد- ويقال له سماء أيضا- مخلوق قبل الأرض وما فيها، وأن الأرض نفسها خلقت بعد، ثم بعد خلقها خلقت السماوات السبع، ثم بعد السبع خلق ما في الأرض من معادن ونبات، ثم ظهر عالم الحيوان، ثم عالم الإنسان، فمعنى خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ حينئذ قدره أو أراد إيجاده أو أوجد مواده، ومعنى وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ إلخ في الآية الأخرى على نحو هذا، «وخلق الأرض فيها» على ظاهرة ولا يأباه قوله سبحانه: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا إلخ لجواز حمله على معنى ائتيا بما خلقت فيكما من التأثير والتأثر وإبراز ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوعة، أو إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة أو ليأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما، وبعد هذا كله لا يخلو البحث من صعوبة، ولا زال الناس يستصعبونه من عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى الآن، ولنا فيه إن شاء الله تعالى عودة بعد عودة، ونسأل الله تعالى التوفيق فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ الضمير للسماء إن فسرت بالأجرام، وجاز أن يرجع إليها بناء على أنها جمع أو مؤولة به، وإلا فمبهم يفسره ما بعده على حد- نعم رجلا- وفيه من التفخيم والتشويق والتمكين في النفس ما لا يخفى، وفي نصب سَبْعَ خمسة أوجه: البدل من المبهم، أو العائد إلى السماء، أو مفعول به أي سوى منهن، أو حال مقدرة، أو تمييز، أو مفعول ثان لسوى بناء على أنها بمعنى صير- ولم يثبت- والبدلية أرجح لعدم الاشتقاق وبعدها الحالية- كما في البحر- وأريد «بسواهن» أتمهن وقومهن وخلقهن ابتداء مصونات عن العوج والفطور لا أنه سبحانه وتعالى سواهن بعد أن لم يكن كذلك فهو على حد قولهم: ضيق فم البئر ووسع الدار، وفي مقارنة التسوية والاستواء حسن لا يخفى «لا يقال» إن أرباب الأرصاد أثبتوا تسعة أفلاك، وهل هي إلا سماوات؟ لأنا نقول هم شاكّون إلى الآن في النقصان والزيادة فإن ما وجدوه من الحركات يمكن ضبطها بثمانية وسبعة بل بواحد، وبعضهم أثبتوا بين فلك الثوابت والأطلس كرة لضبط الميل الكلي، وقال بعض محققيهم: لم يتبين لي إلى الآن أن كرة الثوابت كرة واحدة أو كرات منطوية بعضها على بعض، وأطال الإمام الرازي الكلام في ذلك وأجاد، على أنه إن صح ما شاع فليس في الآية ما يدل على نفي الزوائد بناء على ما اختاره الإمام من أن مفهوم العدد ليس بحجة، وكلام البيضاوي في تفسيره يشير إليه خلافا لما في منهاجه الموافق لما عليه الإمام الشافعي ونقله عنه الغزالي في المنخول، وذكر الساليكوتي أن الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد- والخلاف في ذلك مشهور- وإذا قلنا بكروية العرش والكرسي لم يبق كلام.
وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تذييل مقرر لما قبله من خلق السماوات والأرض وما فيها على هذا النمط العجيب والأسلوب الغريب ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك: 3، 4] وفي عَلِيمٌ من المبالغة ما ليس في عالم وليس ذلك راجعا إلى نفس الصفة لأن علمه تعالى واحد لا تكثّر فيه لكن لما تعلق بالكلي والجزئي والموجود والمعدوم والمتناهي وغير المتناهي وصف نفسه سبحانه بما دل على المبالغة- والشيء- هنا عام باق على عمومه لا تخصيص فيه بوجه خلافا

(1/219)


لمن ضل عن سواء السبيل، والجار والمجرور متعلق ب عَلِيمٌ وإنما تعدى بالباء مع أنه من علم وهو متعد بنفسه، والتقوية تكون باللام لأن أمثلة المبالغة كما قالوا: خالفت أفعالها لأنها أشبهت أفعل التفضيل لما فيها من الدلالة على الزيادة فأعطيت حكمه في التعدية وهو أنه إن كان فعله متعديا فإن أفهم علما أو جهلا تعدى بالباء- كأعلم به وأجهل به، وعليم به وجهول به- وأعلم من يضل على التأويل وإلا تعدى باللام- كالضرب لزيد فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [هود:
107]- وإلا تعدى بما يتعدى به فعله- كما صبر على النار، وصبور على كذا- ولعل ذلك أغلبي إذ يقال رحيم به فافهم وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً لما امتنّ سبحانه على من تقدم بما تقدم أتبع ذلك بنعمة عامة وكرامة تامة والإحسان إلى الأصل إحسان إلى الفرع والولد سر أبيه وَإِذْ ظرف زمان للماضي مبني لشبهه بالحرف وضعا وافتقارا ويكون ما بعدها جملة فعلية أو اسمية، ويستفاد الزمان منها بأن يكون ثاني جزأيها فعلا أو يكون مضمونها مشهورا بالوقوع في الزمان المعين، وإذا دخلت على المضارع قلبته إلى الماضي، وهي ملازمة للظرفية إلا أن يضاف إليها زمان، وفي وقوعها مفعولا به أو حرف تعليل أو مفاجأة أو ظرف مكان أو زائدة خلاف، وفي البحر أنها لا تقع، وإذا استفيد شيء من ذلك فمن المقام، واختلف المعربون فيها هنا فقيل: زائدة وبمعنى قد، وفي موضع رفع أي ابتداء خلقكم إذ وفي موضع نصب بمقدر- أي ابتدأ خلقكم أو أحياكم إذ- ويعتبر وقتا ممتدا لا حين القول، ويقال: بعدها ومعمول- لخلقكم- المتقدم والواو زائدة والفصل بما يكاد أن يكون سورة، ومتعلق- باذكر- ويكفي في صحة الظرفية ظرفية المفعول- كرميت الصيد في الحرم- وهذه عدة أقوال بعضها غير صحيح والبعض فيه تكلف، فاللائق أن تجعل منصوبة- بقالوا- الآتي وبينهما تناسب ظاهر والجملة بما فيها عطف على ما قبلها عطف القصة على القصة كذا قيل، وأنت تعلم أن المشهور القول الأخير ولعله الأولى فتدبر، ولا يخفى لطف الرب هنا مضافا إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم بطريق الخطاب وكان في تنويعه والخروج من عامه إلى خاصه رمزا إلى أن المقبل عليه بالخطاب له الحظ الأعظم والقسم الأوفر من الجملة المخبر بها فهو صلى الله تعالى عليه وسلم على الحقيقة الخليفة الأعظم في الخليقة والإمام المقدم في الأرض والسماوات العلى، ولولاه ما خلق آدم بل «ولا، ولا» ولله تعالى در سيدي ابن الفارض حيث يقول عن لسان الحقيقة المحمدية:
وإني وإن كنت ابن آدم صورة ... فلي فيه معنى شاهد بأبوتي
واللام الجارة للتبليغ، و «الملائكة» جمع ملأك على وزن شمائل وشمأل وهو مقلوب مالك صفة مشبهة عند الكسائي، وهو مختار الجمهور من الألوكة وهي الرسالة، فهم رسل إلى الناس وكالرسل إليهم، وقيل: لا قلب فابن كيسان إلى أنه فعال من الملك بزيادة الهمزة لأنه مالك ما جعله الله تعالى إليه أو لقوته فإن «م ل ك» يدور مع القوة والشدة يقال: ملكت العجين شددت عجنه، وهو اشتقاق بعيد، وفعال قليل، وأبو عبيدة إلى أنه مفعل من لاك إذا أرسل مصدر ميمي بمعنى المفعول أو اسم مكان على المبالغة، وهو اشتقاق بعيد أيضا، ولم يشتهر لاك، وكثر في الاستعمال الكني إليه- أي كن لي رسولا- ولم يجىء سوى هذه الصيغة فاعتبره مهموز العين، وإن أصله ألا كنى، وبعض جعله أجوف من لاك يلوك، والتاء لتأنيث الجمع، وقيل: للمبالغة ولم يجعل لتأنيث اللفظ كالظلمة لاعتبارهم التأنيث المعنوي في كل جمع حيث قالوا: كل جمع مؤنث بتأويل الجماعة وقد ورد بغير تاء في قوله:
أبا خالد صلت عليك الملائك

واختلف الناس في حقيقتها بعد اتفاقهم على أنها موجودة سمعا أو عقلا، فذهب أكثر المسلمين إلى أنها أجسام نورانية، وقيل: هوائية قادرة على التشكل والظهور بأشكال مختلفة بإذن الله تعالى، وقالت النصارى: إنها الأنفس

(1/220)


الناطقة المفارقة لأبدانها الصافية الخيرة، والخبيثة عندهم شياطين، وقال عبدة الأوثان: إنها هذه الكواكب السعد منها ملائكة الرحمة، والنحس ملائكة العذاب. والفلاسفة يقولون: إنها جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة، وصرح بعضهم بأنها العقول العشرة والنفوس الفلكية التي تحرك الأفلاك، وهي عندنا منقسمة إلى قسمين. قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق والتنزه عن الاشتغال بغيره يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وهم العليون والملائكة المقربون. وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القلم لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] وهم فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [النازعات: 5] فمنهم سماوية ومنهم أرضية، ولا يعلم عددهم إلا الله.
وفي الخبر «أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع»
وهم مختلفون في الهيئات متفاوتون في العظم، لا يراهم على ما هم عليه إلا أرباب النفوس القدسية. وقد يظهرون بأبدان يشترك في رؤيتها الخاص والعام وهم على ما هم عليه، حتى قيل: إن جبريل عليه السلام في وقت ظهوره في صورة دحية الكلبي بين يدي المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يفارق سدرة المنتهى، ومثله يقع للكمل من الأولياء، وهذا ما وراء طور العقل- وأنا به من المؤمنين- وقد ذكر أهل الله- قدس الله تعالى أسرارهم- أن أول مظهر للحق جل شأنه العما، ولما انصبغ بالنور فتح فيه صور الملائكة المهيمين الذين هم فوق عالم الأجساد الطبيعية ولا عرش ولا مخلوق تقدمهم. فلما أوجدهم تجلى لهم باسمه الجميل فهاموا في جلال جماله، فهم لا يفيقون، فلما شاء أن يخلق عالم التدوين والتسطير عين واحدا من هؤلاء- وهو أول ملك ظهر عن ملائكة ذلك النور- سماه العقل والقلم، وتجلى له في مجلى التعليم الوهبي بما يريد إيجاده من خلقه لا إلى غاية، فقبل بذاته علم ما يكون، وما للحق من الأسماء الإلهية الطالبة صدور هذا العالم الخلقي، فاشتق من هذا العقل ما سماه اللوح، وأمر القلم أن يتدلى إليه ويودع فيه ما يكون إلى يوم القيامة لا غير. فجعل لهذا العلم ثلاثمائة وستين سنا من كونه قلما، ومن كونه عقلا ثلاثمائة وستين تجليا أو رقيقة كل سن أو رقيقة تفترق من ثلاثمائة وستين صنفا من العلوم الإجمالية فيفصلها في اللوح، وأول علم حصل فيه علم الطبيعة فكانت دون النفس، وهذا كله في عالم النور الخالص، ثم أوجد سبحانه الظلمة المحضة التي هي في مقابلة هذا النور بمنزلة العدم المطلق المقابل للوجود المطلق فأفاض عليها النور إفاضة ذاتية بمساعدة الطبيعة، فلأم شعثها ذلك النور فظهر العرش، فاستوى عليه اسم الرحمن بالاسم الظاهر فهو أول ما ظهر من عالم الخلق، وخلق من ذلك النور فظهر العرش، فاستوى عليه اسم الرحمن بالاسم الظاهر فهو أول ما ظهر من عالم الخلق، وخلق من ذلك النور الممتزج الملائكة الحافين، وليس لهم شغل إلا كونهم- حافين من حول العرش يسبحون بحمده- ثم أوجد الكرسي في جوف هذا العرش، وجعل فيه ملائكة من جنس طبيعته، فكل فلك أصل لما خلق فيه من عماره، كالعناصر فيما خلق فيها من عمارها، وقسم في هذا الكرسي الكلمة إلى خبر وحكم، وهما القدمان اللتان تدلتا له من العرش كما ورد في الخبر. ثم خلق في جوف الكرسي الأفلاك، فلكا في جوف فلك، وخلق في كل فلك عالما منه يعمرونه، وزينها بالكواكب وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها [فصلت: 12] إلى أن خلق صور المولدات، وتجلى لكل صنف منها بحسب ما هي عليه، فتكون من ذلك أرواح الصور وأمرها بتدبيرها وجعلها غير منقسمة بل ذاتا واحدة، وميز بعضها عن بعض فتميزت وكان تمييزها بحسب قبول الصور من ذلك التجلي، وهذه الصور في الحقيقة كالمظاهر لتلك الأرواح، ثم أحدث سبحانه الصور الجسدية الخيالية بتجلّ آخر، وجعل لكل من الأرواح والصور غذاء يناسبه، ولا يزال الحق سبحانه يخلق من أنفاس العالم ملائكة ما داموا متنفسين، وسبحان من يقول للشيء كن فيكون.
إذا علمت ذلك فاعلم أنهم اختلفوا في الملائكة المقول لهم، فقيل: كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص،

(1/221)


فشمل المهيمين وغيرهم، وقيل: ملائكة الأرض بقرينة أن الكلام في خلافة الأرض، وقيل: إبليس ومن كان معه في محاربة الجن الذين أسكنوا الأرض دهرا طويلا ففسدوا فبعث الله تعالى عليهم جندا من الملائكة يقال لهم الجن أيضا وهم خزان الجنة- اشتق لهم اسم منها- فطردوهم إلى شعوب الجبال والجزائر. والذي عليه السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم، أنهم ما عدا العالمين ممن كان مودعا شيئا من أسماء الله تعالى وصفاته، وأن العالمين غير داخلين في الخطاب ولا مأمورين بالسجود لاستغراقهم وعدم شعورهم بسوى الذات، وقوله تعالى: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ [ص: 75] يشير إلى ذلك عندهم، وجعلوا من أولئك الملك المسمى بالروح وبالقلم الأعلى وبالعقل الأول وهو المرآة لذاته تعالى، فلا يظهر بذاته إلا في هذا الملك، وظهوره في جميع المخلوقات إنما هو بصفاته فهو قطب العالم الدنيوي والأخروي وقطب أهل الجنة والنار وأهل الكثيب والأعراف، وما من شيء إلا ولهذا الملك فيه وجه يدور ذلك المخلوق على وجهه فهو قطبه، وهو قد كان عالما بخلق آدم ورتبته، فإنه الذي سطر في اللوح ما كان وما يكون، واللوح قد علم علم ذوق ما خطه القلم فيه، وقد ظهر هذا الملك بكماله في الحقيقة المحمدية كما يشير إليه قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] ولهذا كان صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل خلق الله تعالى على الإطلاق، بل هو الخليفة على الحقيقة في السبع الطباق، وليس هذا بالبعيد فليفهم.
وجاعِلٌ اسم فاعل من الجعل بمعنى التصيير فيتعدى لاثنين، والأول هنا خليفة، والثاني فِي الْأَرْضِ أو بمعنى الخلق فيتعدى لواحد، ف فِي الْأَرْضِ متعلق بخليفة، وقدم للتشويق وعمل الوصف لأنه بمعنى الاستقبال ومعتمد على مسند إليه، ورجح في البحر كونه بمعنى الخلق لما في المقابل، ويلزم- على كونه بمعنى التصيير- ذكر خليفة أو تقديره فيه. والمراد من الأرض إما كلها وهو الظاهر، وبه قال الجمهور، أو أرض مكة، وروي هذا مرفوعا والظاهر أنه لم يصح، وإلا لم يعدل عنه، وخص سبحانه الأرض لأنها من عالم التغيير والاستحالات، فيظهر بحكم الخلافة فيها حكم جميع الأسماء الإلهية التي طلب الحق ظهوره بها بخلاف العالم الأعلى والخليفة- من يخلف غيره وينوب عنه، والهاء للمبالغة، ولهذا يطلق على المذكر، والمشهور أن المراد به آدم عليه السلام وهو الموافق للرواية ولإفراد اللفظ ولما في السياق، ونسبة سفك الدم والفساد إليه حينئذ بطريق التسبب أو المراد- بمن يفسد- إلخ من فيه قوة ذلك، ومعنى كونه خَلِيفَةً أنه خليفة الله تعالى في أرضه، وكذا كل نبي استخلفهم في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به تعالى، ولكن لقصور المستخلف عليه لما أنه في غاية الكدورة والظلمة الجسمانية، وذاته تعالى في غاية التقدس، والمناسبة شرط في قبول الفيض على ما جرت به العادة الإلهية فلا بد من متوسط ذي جهتي تجرد وتعلق ليستفيض من جهة ويفيض بأخرى، وقيل: هو وذريته عليه السلام، ويؤيده ظاهر قول الملائكة، فإلزامهم حينئذ بإظهار فضل آدم عليهم لكونه الأصل المستتبع من عداه، وهذا كما يستغني بذكر أبي القبيلة عنهم، إلا أن ذكر الأب بالعلم وما هنا بالوصف، ومعنى كونهم خلفاء أنهم يخلفون من قبلهم من الجن بني الجان أو من إبليس ومن معه من الملائكة المبعوثين لحرب أولئك على ما نطقت به الآثار، أو أنه يخلف بعضهم بعضا، وعند أهل الله تعالى المراد بالخليفة آدم وهو عليه السلام خليفة الله تعالى وأبو الخلفاء والمجلى له سبحانه وتعالى، والجامع لصفتي جماله وجلاله، ولهذا جمعت له اليدان وكلتاهما يمين، وليس في الموجودات من وسع الحق سواه، ومن هنا
قال الخليفة الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق آدم على صورته أو- على- صورة الرحمن»
وبه جمعت الأضداد وكملت النشأة وظهر الحق، ولم تزل تلك الخلافة في الإنسان الكامل إلى قيام الساعة وساعة القيام، بل متى فارق هذا الإنسان العالم مات العالم لأنه الروح الذي به قوامه، فهو العماد المعنوي

(1/222)


للسماء، والدار الدنيا جارحة من جوارح جسد العالم الذي الإنسان روحه. ولما كان هذا الاسم الجامع قابل الحضرتين بذاته صحت له الخلافة وتدبير العالم والله سبحانه الفعال لما يريد، ولا فاعل على الحقيقة سواه وفي المقام ضيق، والمنكرون كثيرون ولا مستعان إلا بالله عز وجل. وفائدة قوله تعالى هذا للملائكة تعليم المشاورة لأن هذه المعاملة تشبهها أو تعظيم شأن المجعول وإظهار فضله ويحتمل أنه سبحانه أراد بذلك تعريف آدم عليه السلام لهم ليعرفوا قدره لأنه باطن عن الصورة الكونية بما عنده من الصورة الإلهية وما يعرفه لبطونه من الملأ الأعلى إلا اللوح والقلم، وكان هذا القول على ما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره في دولة السنبلة بعد مضي سبعة عشر ألف سنة من عمر الدنيا ومن عمر الآخرة التي (1) لا نهاية له في الدوام ثمانية آلاف سنة، ومن عمر العالم الطبيعي المفيد بالزمان المحصور بالمكان إحدى وسبعون ألف سنة من السنين المعروفة الحاصلة أيامها من دورة الفلك الأول وهو يوم وخمسا يوم من أيام ذي المعارج ولله تعالى الأمر من قبل ومن بعد، وقرأ زيد بن علي- خليقة- بالقاف والمعنى واضح قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ استكشاف عن الحكمة الخفية وعما يزيل الشبهة وليس استفهاما عن نفس الجعل والاستخلاف لأنهم قد علموه قبل، فالمسؤول عنه هو الجعل ولكن لا باعتبار ذاته بل باعتبار حكمته ومزيل شبهته، أو تعجب من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها، أو يستخلف مكان أهل الفساد مثلهم أو مكان أهل الطاعة أهل المعصية، وقيل: استفهام محض حذف فيه المعادل- أي أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ أم تجعل من لا يفسد- وجعله بعضهم من الجملة الحالية- أي أَتَجْعَلُ فِيها- كذا- وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أم نتغير- واختار ذلك شيخنا علاء الدين الموصلي روح الله تعالى روحه، والأدب يسكتني عنه، وعلى كل تقدير ليست الهمزة للإنكار كما زعمته الحشوية مستدلين بالآية على عدم عصمة الملائكة لاعتراضهم على الله تعالى وطعنهم في بني آدم، ومن العجيب أن مولانا الشعرائي- وهو من أكابر أهل السنة بل من مشايخ أهل الله تعالى- نقل عن شيخه الخواص أنه خص العصمة بملائكة السماء معللا له بأنهم عقول مجردة بلا منازع ولا شهوة، وقال: إن الملائكة الأرضية غير معصومين ولذلك وقع إبليس فيما وقع إذ كان من ملائكة الأرض الساكنين بجبل الياقوت بالمشرق عند خط الاستواء فعليه لا يبعد الاعتراض ممن كان في الأرض والعياذ بالله تعالى، ويستأنس له بما ورد في بعض الأخبار أن القائلين كانوا عشرة آلاف نزلت عليهم نار فأحرقتهم، وعندي أن ذلك غير صحيح، وقيل: إن القائل إبليس وقد كان إذ ذاك معدودا في عداد الملائكة ويكون نسبة القول إليهم على حد- بنو فلان قتلوا فلانا- والقاتل واحد منهم، والوجه ما قررنا وتكرار الظرف للدلالة على الإفراط في الفساد ولم يكرره بعد للاكتفاء مع ما في التكرار مما لا يخفى و «السفك» الصب والإراقة ولا يستعمل إلا في الدم أو فيه وفي الدمع والعطف من عطف الخاص على العام للإشارة إلى عظم هذه المعصية لأنه بها تتلاشى الهياكل الجسمانية، والدِّماءَ جمع دم لامه ياء أو واو وقصره وتضعيفه مسموعان، وأصله فعل أو فعل، والمراد بها المحرمة بقرينة المقام، وقيل: الاستغراق فيتضمن جميع أنواعها من المحظور وغيره والمقصود عدم تمييزه بينها، وقرأ ابن أبي عبلة «يسفك» - بضم الفاء، ويسفك من أسفك وبالتضعيف من سفك، وقرأ ابن هرمز بنصب الكاف وخرج على النصب في جواب الاستفهام، وقرىء على البناء للمجهول، والراجع إلى من حينئذ سواء جعل موصولا أو موصوفا محذوف- أي فيهم- وحكم الملائكة بالإفساد والسفك على الإنسان بناء على بعض هاتيك الوجوه ليس من ادعاء علم الغيب أو الحكم بالظن والتخمين ولكن
__________
(1) قوله التي إلخ كذا بخط المؤلف اهـ مصححه.

(1/223)


بأخبار من الله تعالى ولم يقص علينا فيما حكي عنهم اكتفاء بدلالة الجواب عليه للإيجاز كما هو عادة القرآن، ويؤيد ذلك ما روي في بعض الآثار أنه لما قال الله تعالى ذلك قالوا: وما يكون من ذلك الخليفة؟ قال: تكون له ذرية يفسدون في الأرض ويقتل بعضهم بعضا فعند ذلك قالوا: ربنا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وقيل:
عرفوا ذلك من اللوح ويبعده عدم علم الجواب، ويحتاج الجواب إلى تكلف، وقيل: عرفوه استنباطا عما ركز في عقولهم من عدم عصمة غيرهم المفضي إلى العلم بصدور المعصية عمن عداهم المفضي إلى التنازع والتشاجر إذ من لا يرحم نفسه لا يرحم غيره، وذلك يفضي إلى الفساد وسفك الدماء، وقيل: قياسا لأحد الثقلين على الآخر بجامع اشتراكهما في عدم العصمة ولا يخفى ما في القولين، ويحتمل أنه علموا ذلك من تسميته خليفة لأن الخلافة تقتضي الإصلاح وقهر المستخلف عليه وهو يستلزم أن يصدر منه فساد إما في ذاته بمقتضى الشهوة أو في غيره من السفك أو لأنها مجلى الجلال كما أنها مجلى الجمال، ولكل آثار، والإفساد والسفك- من آثار الجلال وسكتوا عن آثار الجمال إذ لا غرابة فيها وهم على كل تقدير ما قدروا الله تعالى حق قدره ولا يخل ذلك بهم ففوق كل ذي علم عليم وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ حال من ضمير الفاعل في أَتَجْعَلُ وفيها تقرير لجهة الإشكال، والمعنى تستخلف من ذكر ونحن المعصومون وليس المقصود إلا الاستفسار عن المرجح لا العجب والتفاخر حتى يضر بعصمتهم كما زعمت الحشوية، ولزوم الضمير، وترك الواو في الجملة الاسمية إذا وقعت حالا مؤكدة غير مسلم كما في شرح التسهيل وصيغة المضارع للاستمرار، وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للاختصاص، ومن الغريب جعل الجملة استفهامية حذف منها الأداة، وكذا المعادل والتسبيح في الأصل مطلق التبعيد، والمراد به تبعيد الله تعالى عن السوء وهو متعد بنفسه ويعدى باللام إشعارا بأن إيقاع الفعل لأجل الله تعالى وخالصا لوجهه سبحانه فالمفعول المقدر هاهنا يمكن أن يكون باللام على وفق قرينه، وأن يكون بدونه كما هو أصله، و «بحمدك» في موضع الحال والباء لاستدامة الصحبة والمعية، وإضافة الحمد إما إلى الفاعل والمراد لازمه مجازا من التوفيق والهداية، أو إلى المفعول أي متلبسين بحمدنا لك على ما وفقتنا لتسبيحك، وفي ذلك نفي ما يوهمه الإسناد من العجب، وقيل: المراد به تسبيح خاص وهو- سبحان ذي الملك والملكوت سبحان ذي العظمة والجبروت سبحان الحي الذي لا يموت- ويعرف هذا بتسبيح الملائكة، أو- سبحان الله وبحمده-
وفي حديث عن عبادة بن الصامت عن أبي ذر «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل؟ قال ما اصطفى الله تعالى لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده»
أي وبحمده نسبح، والتقديس- في المشهور كالتسبيح معنى، واحتاجوا لدفع التكرار إلى أن أحدهما باعتبار الطاعات والآخر باعتبار الاعتقادات، وقيل: التسبيح تنزيهه تعالى عما لا يليق به، والتقديس تنزيهه في ذاته عما لا يراه لائقا بنفسه فهو أبلغ ويشهد له أنه حيث جمع بينهما أخر نحو- سبوح قدوس- ويحتمل أن يكون بمعنى التطهير، والمراد نسبحك ونطهر أنفسنا من الأدناس أو أفعالنا من المعاصي فلا نفعل فعلهم من الإفساد والسفك أو نطهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك، ولام «لك» إما للعلة متعلق- بنقدس- والحمل على التنازع مما فيه تنازع أو معدية للفعل كما في- سجدت لله تعالى- أو للبيان كما في- سفها لك (1) - فمتعلقها حينئذ خبر مبتدأ محذوف أو زائدة والمفعول هو المجرور، ثم الظاهر أن قائل هذه الجملة هو قائل الجملة الأولى، وأغرب الشيخ صفي الدين الخزرجي في كتابه- فك الأزرار- فجعل القائل مختلفا، وبين ذلك بأن الملائكة كانوا حين ورود الخطاب عليهم مجملين وكان إبليس مندرجا في
__________
(1) قوله سفها لك كذا بخطه اهـ مصححه.

(1/224)


جملتهم فورد الجواب منهم مجملا، فلما انفصل إبليس عن جملتهم بإبائه انفصل الجواب إلى نوعين، فنوع الاعتراض منه، ونوع التسبيح والتقديس ممن عداه، فانقسم الجواب إلى قسمين كانقسام الجنس إلى جنسين، وناسب كل جواب من ظهر عنه، فالكلام شبيه بقوله تعالى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا [البقرة: 135] وهو تأويل لا تفسير قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ أي أعلم من الحكم في ذلك ما أنتم بمعزل عنه، وقيل: أراد بذلك علمه بمعصية إبليس وطاعة آدم، وقيل: بأنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء وصالحون، وقيل: الأحسن أن يفسر هذا المبهم بما أخبر به تعالى عنه بقوله سبحانه: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ويفهم من كلام القوم قدس الله تعالى أسرارهم، أن المراد من الآية بيان الحكمة في الخلافة على أدق وجه وأكمله، فكأنه قال جل شأنه- أريد الظهور بأسمائي وصفاتي ولم يكمل ذلك بخلقكم- فإني أعلم ما لا تعلمونه لقصور استعدادكم ونقصان قابليتكم، فلا تصلحون لظهور جميع الأسماء والصفات فيكم، فلا تتم بكم معرفتي ولا يظهر عليكم كنزي، فلا بد من إظهار من تم استعداده، وكملت قابليته ليكون مجلى لي ومرآة لأسمائي وصفاتي ومظهرا للمتقابلات فيّ، ومظهرا لما خفي عندي، وبي يسمع وبي يبصر وبي وبي، وبعد ذاك يرق الزجاج والخمر، وإلى الله عز شأنه يرجع الأمر. وأَعْلَمُ فعل مضارع، واحتمال أنه أفعل تفضيل مما لا ينبغي أن يخرج عليه كتاب الله سبحانه كما لا يخفى وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها عطف على «قال» ، وفيه تحقيق لمضمون ما تقدم، وظاهر الابتداء بحكاية التعليم يدل على أن ما مر من المقاولة إنما جرت بعد خلقه عليه السلام بمحضر منه بأن قيل أثر نفخ الروح فيه: إني جاعل إياه خليفة، فقيل ما قيل، وقيل: إنه معطوف على محذوف، أي فخلق وعلم، أو فخلقه وسواه ونفخ فيه الروح وعلم، أو فجعل في الأرض خليفة وعلم، وإبراز اسمه عليه السلام للتنصيص عليه والتنويه بذكره. وآدَمَ صرح الجواليقي وكثيرون أنه عربي ووزنه أفعل من الأدمة- بضم فسكون- السمرة وياما أحيلاها في بعض، وفسرها أناس بالبياض أو الأدمة- بفتحتين- الأسوة والقدوة أو من أديم الأرض ما ظهر منها. وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه غير واحد، أنه تعالى قبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها، فخلق منها آدم، فلذلك تأتي بنوه أخيافا (1) ، أو من الأدم أو الأدمة، الموافقة والألفه، وأصله أآدم- بهمزتين- فأبدلت الثانية ألفا لسكونها بعد فتحة، ومنع صرفه للعلمية ووزن الفعل، وقيل: أعجمي ووزنه فاعل- بفتح العين- ويكثر هذا في الأسماء- كشالخ وآزر- ويشهد له جمعه على أوادم- بالواو- لا- أآدم- بالهمزة، وكذا تصغيره على- أويدم- لا- أؤيدم- واعتذر عنه الجوهري بأنه ليس للهمزة أصل في البناء معروف، فجعل الغالب عليها- الواو- ولم يسلموه له، وحينئذ لا يجري الاشتقاق فيه لأنه من تلك اللغة لا نعلمه ومن غيرها لا يصح، والتوافق بين اللغات بعيد، وإن ذكر فيه فذاك للإشارة إلى أنه بعد التعريب ملحق بكلامهم، وهو اشتقاق تقديري اعتبروه لمعرفة الوزن والزائد فيه من غيره، ومن أجراه فيه حقيقة كمن جمع بين الضب والنون، ولعل هذا أقرب إلى الصواب. والْأَسْماءَ جمع اسم وهو باعتبار الاشتقاق ما يكون علامة للشيء ودليلا يرفعه إلى الذهن من الألفاظ الموضوعة بجميع اللغات والصفات والأفعال، واستعمل عرفا في الموضوع لمعنى مفردا كان أو مركبا مخبرا عنه أو خبرا أو رابطة بينهما، وكلا المعنيين محتمل. والعلم بالألفاظ المفردة والمركبة تركيبا خبريا أو إنشائيا يستلزم العلم بالمعاني التصورية والتصديقية. وإرادة المعنى المصطلح مما لا يصلح لحدوثه بعد القرآن. وقال الإمام: المراد بالأسماء صفات الأشياء ونعوتها وخواصها، لأنها علامات دالة على ماهياتها، فجاز أن يعبر عنها بالأسماء، وفيه كما قال الشهاب نظر إذ
__________
(1) أي مختلفين اهـ منه. [.....]

(1/225)


لم يعهد إطلاق الاسم على مثله حتى يفسر به النظم، وقيل: المراد بها أسماء ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وعزي إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: اللغات، وقيل: أسماء الملائكة، وقيل: أسماء النجوم، وقال الحكيم الترمذي: أسماؤه تعالى، وقيل وقيل وقيل. والحق عندي ما عليه أهل الله تعالى، وهو الذي يقتضيه منصب الخلافة الذي علمت، وهو أنها أسماء الأشياء علوية أو سفلية جوهرية أو عرضية، ويقال لها أسماء الله تعالى عندهم باعتبار دلالتها عليه، وظهوره فيها غير متقيد بها، ولهذا قالوا: إن أسماء الله تعالى غير متناهية، إذ ما من شيء يبرز للوجود من خبايا الجود، إلا وهو اسم من أسمائه تعالى وشأن من شؤونه عز شأنه، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن، ومن هنا قال قدس سره:
إن الوجود وإن تعدد ظاهرا ... وحياتكم ما فيه إلا أنتم
لكن للفرق مقام وللجمع مقام ولكل مقام مقال، ولولا المراتب لتعطلت الأسماء والصفات، وتعليمها له عليه السلام على هذا ظهور الحق جل وعلا فيه منزها عن الحلول والاتحاد والتشبيه بجميع أسمائه وصفاته المتقابلة حسب استعداده الجامع بحيث علم وجه الحق في تلك الأشياء، وعلم ما انطوت عليه وفهم ما أشارت إليه، فلم يخف عليه منها خافية ولم يبق من أسرارها باقية، فيا لله هذا الجرم الصغير كيف حوى هذا العلم الغزير. واختلف الرسميون بينهم في كيفية التعليم بعد أن فسر بأنه فعل يترتب عليه العلم غالبا، وبعد حصول ما يتوقف عليه من جهة المتعلم كاستعداده لقبول الفيض وتلقيه من جهة المعلم لا تخلف فقيل: بأن خلق فيه- عليه السلام- بموجب استعداده- علما ضروريا تفصيليا بتلك الأسماء وبمدلولاتها وبدلالتها ووجه دلالتها، وقيل: بأن خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباينة مستعدا لإدراك أنواع المدركات، وألهمه معرفة ذوات الأشياء وأسمائها وخواصها ومعارفها وأصول العلم وقوانين الصناعات وتفاصيل آلاتها وكيفيات استعمالاتها فيكون ما مر من المقاولة قبل خلقه عليه السلام والقول: بأن التعليم على ظاهره- وكان بواسطة ملك غير داخل في عموم الخطاب ب أَنْبِئُونِي- مما لا أرتضيه، اللهم إلا إن صح خبر في ذلك، ومع هذا أقول: للخبر محمل غير ما يتبادر مما لا يخفى على من له ذوق، وقيل: غير ذلك. ثم إن هذا التعليم لا يقتضي تقدم لغة اصطلاحية كما زعمه أبو هاشم واحتج عليه بوجوه ردت في التفسير الكبير، إذ لو افتقر لتسلسل الأمر أو دار، والإمام الأشعري يستدل بهذه الآية على أن الواضع للغات كلها هو الله تعالى ابتداء ويجوز حدوث بعض الأوضاع من البشر كما يضع الرجل علم ابنه. والمعتزلة يقولون: الواضع من البشر آدم أو غيره ويسمى مذهب الاصطلاح. وقيل: وضع الله تعالى بعضها ووضع الباقي البشر وهو مذهب التوزيع وبه قال الأستاذ، والمسألة مفصلة بأدلتها وما لها وما عليها في أصول الفقه. وقرأ اليماني «علّم» مبنيا للمفعول، وفي البحر أن التضعيف للتعدية وهي به سماعية، وقيل: قياسية، والحريري- في شرح لمحته- يزعم أن- علم- المتعدي لاثنين يتعدى به إلى ثلاثة، وقد وهم في ذلك ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ
أي المسميات المفهومة من الكلام وتذكير الضمير على بعض الوجوه لتغليب ما اشتملت عليه من العقلاء، وللتعظيم بتنزيلها منزلتهم في رأي على البعض الآخر، وقيل: الضمير للأسماء باعتبار أنها المسميات مجازا على طريق الاستخدام. ومن قال: الاسم عين المسمى قال: الأسماء هي المسميات والضمير لها بلا تكلف- وإليه ذهب مكي والمهدوي- ويرد عليه أن أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ يدل على أن العرض للسؤال عن أسماء المعروضات- لا عن نفسها- وإلا لقيل: أنبئوني بهؤلاء، فلا بد أن يكون المعروض غير المسئول عنه فلا يكون نفس الأسماء، ومعنى عرض المسميات تصويرها لقلوب الملائكة، أو إظهارها لهم كالذر، أو إخبارهم بما سيوجده من العقلاء وغيرهم إجمالا، وسؤالهم عما لا بد لهم منه من العلوم والصنائع التي بها نظام معاشهم

(1/226)


ومعادهم إجمالا أيضا، وإلا فالتفصيل لا يمكن علمه لغير اللطيف الخبير، فكأنه سبحانه قال: سأوجد كذا وكذا فأخبروني بما لهم وما عليهم، وما أسماء تلك الأنواع من قولهم: عرضت أمري على فلان فقال لي كذا، فلا يرد أن المسميات عند بعض أعيان ومعان، وكيف تعرض المعاني كالسرور والحزن والجهل والعلم، وعندي أن عرض المسميات عليهم يحتمل أن يكون عبارة عن اطلاعهم على الصور العلمية والأعيان الثابتة التي قد يطلع عليها في هذه النشأة بعض عباد الله تعالى المجردين، أو إظهار ذلك لهم في عالم تتجسد فيه المعاني- وهذا غير ممتنع على الله تعالى- بل إن المعاني الآن متشكلة في عالم الملكوت بحيث يراها من يراها، ومن أحاط خبرا بعالم المثال لم يستبعد ذلك، وقيل: إنهم شهدوا تلك المسميات في آدم عليه السلام، وهو المراد بعرضها.
وتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر
وقرأ أبيّ «ثم عرضها» وعبد الله «عرضهن» والمعنى عرض مسمياتها أو مسمياتهن، وقيل: لا تقدير.
فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ تعجيز لهم، وليس من التكليف بما لا يطاق- على ما وهم- وفيه إشارة إلى أن أمر الخلافة والتصرف والتدبير وإقامة المعدلة بغير وقوف على مراتب الاستعدادات ومقادير الحقوق مما لا يكاد يمكن، فكيف يروم الخلافة من لا يعرف ذلك، أو من لا يعرف الألفاظ أنفسها؟! هيهات- ذلك أبعد من العيوق، وأعز من بيض الأنوق- وعندي أن المراد إظهار عجزهم وقصور استعدادهم عن رتبة الخلافة الجامعة للظاهر والباطن بأمرهم بالإنباء بتلك الأسماء على الوجه الذي أريد منها، والعاجز عن نفس الإنباء أعجز عن التحلي المطلوب في ذلك المنصب المحبوب.
كيف الوصول إلى سعاد ودونها ... قلل الجبال ودونهن حتوف

الرجل حافية ومالي مركب ... والكف صفر والطريق مخوف
والإنباء- في الأصل مطلق الاخبار- وهو الظاهر هنا- ويطلق على الاخبار بما فيه فائدة عظيمة ويحصل به علم أو غلبة ظن، وقال بعضهم: إنه إخبار فيه إعلام، ولذلك يجري مجرى كل منهما، واختاره هنا- على ما قيل- للإيذان برفعة شأن الأسماء وعظم خطرها وهذا مبني على أن النبأ إنما يطلق على الخبر الخطير والأمر العظيم، وفي استعمال- ثم- فيما تقدم- والفاء- هنا ما لا يخفى من الاعتناء بشأن آدم عليه السلام وعدمه في شأنهم.
وقرأ الأعمش «أنبوني» بغير همز إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي فيما اختلج في خواطركم من أني لا أخلق خلقا إلا أنتم أعلم منه وأفضل- وهذا هو التفسير المأثور- فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الملائكة قالوا:
لن يخلق الله تعالى خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم، وفي الكلام دلالة عليه، فإن وَنَحْنُ نُسَبِّحُ إلخ يدل على أفضليتهم، وتنزيه الله تعالى وتقديسه- أو تقديسهم أنفسهم- يدل على كمال العلم أيضا. وقيل: إن المعنى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في زعمكم أنكم أحق بالاستخلاف أو في أن استخلافهم لا يليق فأثبتوه ببيان ما فيكم من الشرائط السابقة- وليس هذا من المعصية في شيء- لأنه شبهة اختلجت، وسألوا عما يزيحها وليس باختياري، ولا يرد أن الصدق والكذب إنما يتعلق بالخبر- وهم استخبروا ولم يخبروا- لأنا نقول: هما يتطرقان إلى الإنشاءات بالقصد الثاني، ومن حيث ما يلزم مدلولها، وإن لم يتطرقا إليها بالقصد الأول ومن حيث منطوقها، وجواب إِنْ في مثل هذا الموضع محذوف عند سيبويه وجمهور البصريين يدل عليه السابق، وهو هنا أَنْبِئُونِي وعند الكوفيين وأبي زيد والمبرد أن الجواب هو المتقدم، وهذا هو النقل الصحيح عمن ذكر في المسألة، ووهم البعض فعكس الأمر، ومن زعم أن إِنْ هنا بمعنى إذا الظرفية- فلا تحتاج إلى جواب- فقد وهم، وكأنه لما رأى عصمة الملائكة وظن من الآية ما يخل بها،

(1/227)


ولم يجد لها محملا مع إبقاء إِنْ على ظاهرها افتقر إلى ذلك، والحمد لله تعالى على ما أغنانا من فضله ولم يحوجنا إلى هذا ولا إلى القول بأن الغرض من الشرطية التوكيد لما نبههم عليه من القصور والعجز، فحاصل المعنى حينئذ أخبروني ولا تقولوا إلا حقا- كما قال الإمام-.
قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا استئناف واقع موقع الجواب كأنه قيل: فماذا؟ قالُوا إذ ذاك:
هل خرجوا عن عهدة ما كلفوه أو لا؟ فقيل: قالُوا: إلخ. وذكر غير واحد أن الجمل المفتتحة بالقول- إذا كانت مرتبا بعضها على بعض في المعنى- فالأفصح أن لا يؤتى فيها بحرف اكتفاء بالترتيب المعنوي، وقد جاء في سورة الشعراء من ذلك كثير، بل القرآن مملوء منه، و «سبحان» قيل: إنه مصدر، وفعله- سبح- مخففا بمعنى نزه، ولا يكاد يستعمل إلا مضافا، إما للمفعول أو الفاعل منصوبا بإضمار فعل وجوبا، وقوله:
سبحانه ثم سبحانا نعوذ به ... وقبلنا سبح الجوديّ والجمد

شاذ كقوله:
سبحانك اللهم ذا السبحان

ومجيئه منادى مما زعمه الكسائي- ولا حجة له- وذهب جماعة إلى أنه علم للتسبيح- بمعنى التنزيه- لا مصدر سبح- بمعنى قال: سبحان الله- لئلا يلزم الدور (1) ولأن مدلول ذلك لفظ- ومدلول هذا معنى- واستدل على ذلك بقوله:
قد قلت لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر
إذ لولا أنه علم لوجب صرفه. لأن الألف والنون في غير الصفات إنما تمنع مع العلمية، وأجيب بأن- سبحان- فيه على حذف المضاف إليه أي- سبحان الله- وهو مراد للعلم به، وأبقى المضاف على حاله مراعاة لأغلب أحواله- وهو التجرد عن التنوين- وقيل: «من» زائدة والإضافة لما بعدها على التهكم والاستهزاء به، ومن الغريب قول بعض: إن معنى سُبْحانَكَ تنزيه لك بعد تنزيه، كما قالوا في- لبيك- إجابة بعد إجابة، ويلزم على هذا ظاهرا أن يكون مثنى ومفرده- سبحا- وأن لا يكون منصوبا- بل مرفوع- وأنه لم تسقط النون للإضافة وإنما التزم فتحها، ويا سبحان الله تعالى لمن يقول ذلك، والغرض من هذا الجواب الاعتراف بالعجز عن أمر الخلافة، والقصور عن معرفة الأسماء على أبلغ وجه كأنهم قالوا: لا علم لنا إلا ما علمتنا- ولم تعلمنا الأسماء- فكيف نعلمها؟ وفيه إشعار بأن سؤالهم لم يكن إلا استفسارا، إذ لا علم لهم إلا من طريق التعليم، ومن جملته علمهم بحكمة الاستخلاف مما تقدم- فهو بطريق التعليم أيضا- فالسؤال المترتب هو عليه سؤال مستفسر لا معترض وثناء عليه تعالى بما أفاض عليهم مع غاية التواضع ومراعاة الأدب وترك الدعوى، ولهذا كله لم يقولوا- لا علم لنا بالأسماء- مع أنه كان مقتضى الظاهر ذلك، ومن زعم عدم العصمة جعل هذا توبة، والإنصاف أنه يشبهها ولكن لا عن ذنب مخل بالعصمة بل عن ترك أولى بالنسبة إلى علو شأنهم ورفعة مقامهم إذ اللائق بحالهم على العلات أن يتركوا الاستفسار ويقفوا مترصدين لأن يظهر حقيقة الحال وما عند الجمهور موصولة حذف عائدها وهى إما في موضع رفع على البدل أو نصب على الاستثناء. وحكى ابن عطية عن الزهراوي أنها في موضع نصب ب عَلَّمْتَنا ويتكلف لتوجيهه بأن الاستثناء منقطع، ف إِلَّا بمعنى لكن وما شرطية والجواب محذوف كأنهم نفوا أولا سائر العلوم ثم استدركوا أنه في المستقبل أي شيء علمهم علموه ويكون ذلك أبلغ في ترك الدعوى كما لا يخفى إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ تذييل يؤكد مضمون الجملة السابقة، ولما نفوا العلم عن أنفسهم أثبتوه لله تعالى على أكمل أوصافه وأردفوه بالوصف بالحكمة لما تبين لهم ما تبين- وأصل
__________
(1) لأن التسبيح بمعنى أن يقال: سبحان الله فرع على سبحان الله فيكون فرعا له- والعلم بعد الجنس- وهل هذا إلا دور؟ اهـ منه.

(1/228)


الحكمة- المنع ومنه حكمة الدابة لأنها تمنعها عن الاعوجاج، وتقال للعلم لأنه يمنع عن ارتكاب الباطل، ولإتقان الفعل لمنعه عن طرق الفساد والاعتراض- وهو المراد هاهنا- لئلا يلزم التكرار، فمعنى الحكيم ذو الحكمة، وقيل: المحكم لمبدعاته، قال في البحر: وهو على الأول صفة ذات، وعلى الثاني صفة فعل، والمشهور أنه إن أريد به الْعَلِيمُ- كان من صفات الذات أو الفاعل لما- لا اعتراض عليه كان من صفات الفعل فافهم.
وقدم سبحانه الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة لمناسبة ما تقدم من أَنْبِئُونِي ولا عِلْمَ لَنا ولأن الحكمة لا تبعد عن العلم وليكون آخر مقالتهم مخالفا لما يتوهم من أولها، وأَنْتَ يحتمل أن يكون فصلا- لا محل له على المشهور- يفيد تأكيد الحكم، والقصر المستفاد من تعريف المسند، وقيل: هو تأكيد لتقرير المسند إليه، ويسوغ في التابع ما لا يسوغ في المتبوع. وقيل: مبتدأ خبره ما بعد، والْحَكِيمُ إما خبر بعد خبر أو نعت له وحذف متعلقهما لإفادة العموم، وقد خصهما بعض فقال: الْعَلِيمُ بما أمرت ونهيت الْحَكِيمُ فيما قضيت وقدرت والعموم أولى.
قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ نادى سبحانه آدم باسمه العلم كما هو عادته جل شأنه مع أنبيائه ما عدا نبينا صلّى الله عليه وسلّم حيث ناداه ب يا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال: 64، 65، 70 وغيرها] ويا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة: 41، 67] لعلو مقامه ورفعة شأنه إذ هو الخليفة الأعظم، والسر في إيجاد آدم. ولم يقل سبحانه أنبئني كما وقع في أمر الملائكة مع حصول المراد معه أيضا، وهو ظهور فضل آدم إبانة لما بين الرتبتين من التفاوت، وإنباء للملائكة بأن علمه عليه السلام واضح لا يحتاج إلى ما يجري مجرى الامتحان وأنه حقيق أن يعلم غيره أو لتكون له عليه السلام منة التعليم كاملة حيث أقيم مقام المفيد وأقيموا مقام المستفيدين منه، أو لئلا تستولي عليه الهيبة فإن إنباء العالم ليس كإنباء غيره.
والمراد بالإنباء هنا الإعلام لا مجرد الاخبار كما تقدم.
وفيه دليل لمن قال إن علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة، ومنع قوم ذلك في الطبقة العليا منهم، وحمل عليه وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] ، وأفهم كلام البعض منع حصول العلم المرقي لهم فلعل ما يحصل علم قال: لا حال والفرق ظاهر لمن له ذوق، وقرأ ابن عباس «أنبئهم» بالهمز وكسر الهاء- «وأنبيهم» - بقلب الهمزة ياء، وقرأ الحسن- «أنبهم» - كأعطهم، والمراد بالأسماء ما عجزوا عن علمها واعترفوا بالقصور عن بلوغ مرتبتها، والضمير عائد على المعروضين على ما تقدم فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ عطف على جملة محذوفة والتقدير- فانبأهم بها- فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ إلخ، وحذفت لفهم المعنى، وإظهار الأسماء في موقع الإضمار لإظهار كمال العناية بشأنها مع الإشارة إلى أنه عليه السلام- أنبأهم بها- على وجه التفصيل دون الإجمال. وعلمهم بصدقه من القرائن الموجبة له والأمر أظهر من أن يخفى، ولا يبعد أن عرفهم سبحانه الدليل على ذلك واحتمال أن يكون لكل صنف منهم لغة أو معرفة بشيء ثم حضر جميعهم فعرف كل صنف إصابته في تلك اللغة أو ذلك الشيء بعيد.
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ.
جواب ل «ما» وتقرير لما مر من الجواب الإجمالي واستحضار له على وجه أبسط من ذلك وأشرح. ولا يخفى ما في الآية من الإيجاز، إذ كان الظاهر أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وشهادتهما وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وما ستبدون وتكتمون، إلا أنه سبحانه اقتصر على غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لأنه يعلم منه شهادتهما بالأولى، واقتصر من الماضي على المكتوم لأنه يعلم منه البادي كذلك- وعلى المبدأ من المستقبل- لأنه قبل الوقوع خفي، فلا فرق بينه وبين غيره من خفياته- وتغيير الأسلوب حيث لم يقل: وتكتمون- لعله لإفادة استمرار

(1/229)


الكتمان- فالمعنى- أعلم ما تبدون قبل أن تبدوه وأعلم ما تستمرون على كتمانه، وذكر الساليكوتي أن كلمة- كان- صلة غير مفيدة لشيء إلا محض التأكيد المناسب للكتمان، ثم الظاهر من الآية العموم ومع ذلك ما لا تَعْلَمُونَ أعم مفهوما لشموله- غيب الغيب- الشامل لذات الله تعالى وصفاته- وخصها قوم- فمن قائل: غَيْبَ السَّماواتِ أكل آدم وحواء من الشجرة، وغيب الْأَرْضِ قتل قابيل هابيل، ومن قائل: «الأول» ما قضاه من أمور خلقه «والثاني» ما فعلوه فيها بعد القضاء، ومن قائل: «الأول» ما غاب عن المقربين مما استأثر به تعالى من أسرار الملكوت الأعلى «والثاني» ما غاب عن أصفيائه من أسرار الملك الأدنى وأمور الآخرة، والأولى- وما أبدوه- قبل قولهم أَتَجْعَلُ فِيها وما كتموه، قولهم: لن يخلق الله تعالى أكرم عليه منا، وقيل: ما أظهروه بعد من الامتثال. وقيل: ما أسره إبليس من الكبر، وإسناد الكتم إلى الجميع حينئذ من باب- بنو فلان قتلوا فلانا والقاتل واحد منهم- ومعنى الكتم على كل حال عدم إظهار ما في النفس لأحد ممن كان في الجمع، وليس المراد أنهم كتموا الله تعالى شيئا بزعمهم- فإن ذلك لا يكون حتى من إبليس- وأبدى سبحانه العامل في ما تُبْدُونَ إلخ اهتماما بالإخبار بذلك المرهب لهم- والظاهر عطفه على الأول- فهو داخل معه تحت ذلك القول، ويحتمل أن يكون عطفا على جملة أَلَمْ أَقُلْ فلا يدخل حينئذ تحته.
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ الظرف متعلق بمقدر دل عليه الكلام- كانقادوا وأطاعوا- والعطف من عطف القصة على القصة وفي كل تعداد النعمة- مع أن الأول تحقيق للفضل وهذا اعتراف به- ولا يصح عطف الظرف على الظرف بناء على اللائق الذي قدمناه لاختلاف الوقتين، وجوز على أن نصب السابق بمقدر، والسجود في الأصل تذلل مع انخفاض بانحناء وغيره، وفي الشرع وضع الجبهة على قصد العبادة- وفي المعنى المأمور به هنا خلاف- فقيل: المعنى الشرعي، والمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى- وآدم إما قبلة أو سبب- واعترض بأن لو كان كذلك ما امتنع إبليس، وبأنه لا يدل على تفضيله عليه السلام عليهم. وقوله تعالى: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الإسراء: 62] يدل عليه- ألا ترى أن الكعبة ليست بأكرم ممن سجد إليها- وأجيب بالتباس الأمر على إبليس، وبأن التكريم يجعله جهة لهذه العبادة دونهم، ولا يخفى ما فيه من الدلالة على عظمة الشأن- كما في جعل الكعبة قبلة من بين سائر الأماكن- ومن الناس من جوّز كون المسجود له آدم عليه السلام حقيقة مدعيا أن السجود للمخلوق- إنما منع في شرعنا- وفيه أن السجود الشرعي عبادة، وعبادة غيره سبحانه شرك محرم في جميع الأديان والأزمان- ولا أراها حلت في عصر من الأعصار. وقيل: المعنى اللغوي- ولم يكن فيه وضع الجباه- بل كان مجرد تذلل وانقياد، فاللام إما باقية على ظاهرها، وإما بمعنى- إلى- مثلها في قول حسان رضي الله عنه:
أليس أول من صلى «لقبلتكم» ... وأعرف الناس بالقرآن والسنن
أو للسببية، مثلها في قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء: 78] وحكمة الأمر بالسجود إظهار الاعتراف بفضله عليه السلام، والاعتذار عما قالوا فيه مع الإشارة إلى أن حق الأستاذ على من علمه حق عظيم، وغير سبحانه الأسلوب حيث قال أولا: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ وهنا وَإِذْ قُلْنا- بضمير العظمة- لأن في الأول خلق آدم واستخلافه. فناسب ذكر الربوبية مضافا إلى أحب خلفائه إليه- وهنا المقام مقام إيراد أمر يناسب العظمة- وأيضا في السجود تعظيم، فلما أمر بفعله لغيره أشار إلى كبريائه الغنية عن التعظيم. وقرأ أبو جعفر بضم تاء «الملائكة» اتباعا لضم الجيم، وهي لغة أزد شنوءة وهي لغة غريبة عربية- وليست بخطأ كما ظن الفارسي- فقد روي أن امرأة رأت بناتها مع رجل، فقالت- أفي السوأ نتنه- تريد أفي السوأة أنتنه.

(1/230)


فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ الفاء لإفادة مسارعتهم في الامتثال وعدم تثبطهم فيه، وإِبْلِيسَ اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، ووزنه- فعليل- قاله الزجاج. وقال أبو عبيدة وغيره: إنه عربي مشتق من الإبلاس وهو الإبعاد من الخير أو اليأس من رحمة الله تعالى، ووزنه على هذا مفعيل، ومنعه من الصرف حينئذ لكونه لا نظير له في الأسماء. واعترض بأن ذلك لم يعد من موانع الصرف مع أن له نظائر- كإحليل وإكليل- وفيه نظر، وقيل: لأنه شبيه بالأسماء الأعجمية إذ لم يسم به أحد من العرب، وليس بشيء، واختلف الناس فيه، هل هو من الملائكة أم من الجن؟ فذهب إلى الثاني جماعة مستدلين بقوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف: 5] وبأن الملائكة لا يستكبرون وهو قد استكبر، وبأن الملائكة- كما روى مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها- خلقوا من النور، وخلق الجن مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرحمن: 15] وهو قد خلق مما خلق الجن كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12] وعد تركه السجود- إباء واستكبارا حينئذ- إما لأنه كان ناشئا بين الملائكة مغمورا بالألوف منهم فغلبوا عليه وتناوله الأمر ولم يمتثل، أو لأن الجن أيضا كانوا مأمورين مع الملائكة، لكنه استغنى بذكرهم لمزيد شرفهم عن ذكر الجن، أو لأنه- عليه اللعنة- كان مأمورا صريحا لا ضمنا كما يشير إليه ظاهر قوله تعالى: إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف: 12] وضمير فَسَجَدُوا راجع للمأمورين بالسجود وذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين إلى الأول مستدلين بظاهر الاستثناء- وتصحيحه بما ذكر تكلف- لأنه وإن كان واحدا منهم لكن كان رئيسهم ورأسهم- كما نطقت به الآثار- فلم يكن مغمورا بينهم، ولأن صرف الضمير إلى مطلق المأمورين مع أنه في غاية البعد لم يثبت، إذ لم ينقل أن الجن سجدوا لآدم سوى إبليس، وكونه مأمورا صريحا الآية غير صريحة فيه- ودون إثباته خرط القتاد- واقتضاء ما ذكر من الآية كونه من جنس الجن ممنوع لجواز أن يراد كونه منهم فعلا، وقوله تعالى: فَفَسَقَ كالبيان له، ويجوز أيضا أن يكون كانَ بمعنى صار- كما روي أنه مسخ بسبب هذه المعصية- فصار جنيا- كما مسخ اليهود فصاروا قردة وخنازير- سلمنا، لكن لا منافاة بين كونه جنا وكونه ملكا، فإن الجن- كما يطلق على ما يقابل الملك- يقال على نوع منه على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وكانوا خزنة الجنة أو صاغة حليهم. وقيل: صنف من الملائكة لا تراهم الملائكة مثلنا، أو أنه يقال للملائكة جن أيضا- كما قاله ابن إسحاق- لاجتنانهم واستتارهم عن أعين الناس، وبذلك فسر بعضهم قوله تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات: 158] وورد مثله في كلام العرب، فقد قال الأعشى في سيدنا سليمان عليه السلام:
وسخر من جن الملائك تسعة ... قياما لديه يعملون بلا أجر
وكون الملائكة لا يستكبرون- وهو قد استكبر- لا يضر، إما لأن من الملائكة من ليس بمعصوم- وإن كان الغالب فيهم العصمة على العكس منا- وفي عقيدة أبي المعين النسفي ما يؤيد ذلك، وإما لأن إبليس سلبه الله تعالى الصفات الملكية وألبسه ثياب الصفات الشيطانية- فعصى عند ذلك- والملك ما دام ملكا لا يعصى.
ومن ذا الذي يا ميّ لا يتغير

وكونه مخلوقا من نار وهم مخلوقون من نور غير ضار أيضا- ولا قادح في ملكيته- لأن النار والنور متحدا المادة بالجنس واختلافهما بالعوارض، على أن ما في أثر عائشة رضي الله تعالى عنها من خلق الملائكة من النور جار مجرى الغالب- وإلا خالفه كثير من ظواهر الآثار- إذ فيها أن الله تعالى خلق ملائكة من نار وملائكة من ثلج وملائكة من هذا وهذه،
وورد أن تحت العرش نهرا إذا غتسل فيه جبريل عليه السلام وانتفض يخلق من كل قطرة منه ملك،
وأفهم كلام البعض أنه يحتمل أن ضربا من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات- وإنما يخالفهم بالعوارض والصفات- كالبررة والفسقة من الإنس- والجن يشملهما- وكان إبليس من هذا الصنف، فعده ما

(1/231)


شئت من- ملك، وجن، وشيطان- وبذلك يحصل الجمع بين الأقوال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
ثم المشهور أن الاستثناء متصل إن كان من الملائكة، ومنقطع إن لم يكن منهم، وقد علمت تكلفهم لاتصاله مع قولهم بالثاني، وقد شاع عند النحاة والأصوليين أن المنقطع هو المستثنى من غير جنسه، والمتصل هو المستثنى من جنسه، قال القرافي في العقد المنظوم: وهو غلط فيهما، فإن قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً [النساء: 29] لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: 56] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النساء: 92] الاستثناء فيه منقطع مع أن المستثنى من جنس ما قبله فيبطل الحدان، والحق أن المتصل ما حكم فيه على جنس ما حكمت عليه أو لا بنقيض ما حكمت به- ولا بد من هذين القيدين- فمتى انخرم أحدهما فهو منقطع بأن كان غير الجنس- سواء حكم عليه بنقيضه أو لا- نحو رأيت القوم إلا فرسا، فالمنقطع نوعان، والمتصل نوع واحد، ويكون المنقطع كنقيض المتصل، فإن نقيض المركب بعدم اجزائه، فقوله تعالى: لا يَذُوقُونَ إلخ منقطع بسبب الحكم بغير النقيض، لأن نقيضه ذاقوه فيها- وليس كذلك- وكذلك إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً لأنها لا تؤكل بالباطل- بل بحق- وكذلك إِلَّا خَطَأً لأنه ليس له القتل مطلقا- وإلا لكان مباحا- فتنوع المنقطع حينئذ إلى ثلاثة، الحكم على الجنس بغير النقيض، والحكم على غيره به أو بغيره، والمتصل نوع واحد- فهذا هو الضابط- وقيل: العبرة بالاتصال والانفصال الدخول في الحكم وعدمه لا في حقيقة اللفظ وعدمه، فتأمل ترشد.
وأفهم كلام القوم- نفعنا الله تعالى بهم- أن جميع المخلوقات علويها وسفليها سعيدها وشقيها مخلوق من الحقيقة المحمدية صلى الله تعالى عليه وسلم كما يشير إليه قول النابلسي قدس سره دافعا ما يرد على الظاهر:
طه النبي تكونت من نوره ... كل الخليقة ثم لو ترك القطا
وفي الآثار ما يؤيد ذلك، إلا أن الملائكة العلويين خلقوا منه عليه الصلاة والسلام من حيث الجمال، وإبليس من حيث الجلال، ويؤول هذا بالآخرة إلى أن إبليس مظهر جلال الله سبحانه وتعالى، ولهذا كان منه ما كان ولم يجزع ولم يندم ولم يطلب المغفرة لعلمه أن الله تعالى يفعل ما يريده وأن ما يريده سبحانه هو الذي تقتضيه الحقائق، فلا سبيل إلى تغييرها وتبديلها، واستشعر ذلك من ندائه بإبليس- ولم يكن اسمه من قبل- بل كان اسمه عزازيل، أو الحارث، وكنيته أبا مرة- ووراء ذلك ما لم يمكن كشفه- والله تعالى يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب:
4] وفي قوله تعالى: أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ نوع إشارة إلى بعض ما ذكر، والجملة استئناف جواب لمن قال ما فعل، وقيل: إن الفعلين الأولين في موضع نصب على الحال أي آبيا مستكبرا وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ مستأنف أو في موضع الحال، وقيل: الجمل الثلاث تذييل بعد تذييل، والإباء الامتناع مع الأنفة والتمكن من الفعل، ولهذا كان قولك- أبى زيد الظلم أبلغ من لم يظلم- ولإفادة الفعل النفي صح بعده الاستثناء المفرغ ك يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة: 32] وقوله:
أبى الله إلا عدله ووفاءه ... فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
والفعل منه- أبى- بالفتح، وعليه لا يكون يأبى قياسيا. وقد سمع- أبي- كرضي فالمضارع حينئذ قياسي والمفعول هنا محذوف أي السجود، والاستكبار- التكبر وهو مما جاء فيه استفعل بمعنى تفعل، وقيل: التكبر أن يرى الشخص نفسه أكبر من غيره وهو مذموم وإن كان أكبر في الواقع، والاستكبار طلب ذلك بالتشبع، وقدم الإباء عليه وإن كان متأخرا عنه في الرتبة لأنه من الأحوال الظاهرة بخلاف الاستكبار فإنه نفساني أو لأن المقصود الإخبار عنه بأنه خالف حاله حال الملائكة فناسب أن يبدأ أولا بتأكيد ما حكم به عليه في الاستثناء أو بإنشاء الاخبار عنه بالمخالفة فبدأ

(1/232)


بذلك على أبلغ وجه- وكان على بابها- والمعنى كان في علم الله تعالى من الكافرين أو كان من القوم الكافرين الذين كانوا في الأرض قبل خلق آدم، وقيل: بمعنى صار وهو مما أثبته بعض النحاة قال ابن فورك: وترده الأصول ولأنه كان الظاهر حينئذ فكان بالفاء ثم إن كفره ليس لترك الواجب كما زعم الخوارج متمسكين بهذه الآية لأنه لا يوجب ذلك في ملتنا على ما دلت عليه القواطع، وإيجابه قبل ذلك غير مقطوع به بل باستقباحه أمر الله تعالى بالسجود لمن يعتقد أنه خير منه وأفضل- كما يدل عليه الإباء والاستكبار- وقال أبو العالية: معنى مِنَ الْكافِرِينَ من العاصين ثم الظاهر أن كفره كان عن جهل بأن استرد سبحانه منه ما أعاره من العلم الذي كان مرتديا به حين كان طاووس الملائكة- وأظافير القضاء إذا حكت أدمت، وقسى القدر إذا رمت أصمت.
وكان سراج الوصل أزهر بيننا ... فهبت به ريح من البين فانطفى
وقيل: عن عناد حمله عليه حب الرئاسة والإعجاب بما أوتي من النفاسة ولم يدر المسكين إنه لو امتثل ارتفع قدره وسما بين الملأ الأسمى فخره ولكن.
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يجني عليه اجتهاده
وكم أرقت هذه القصة جفونا، وأراقت من العيون عيونا فإن إبليس كان مدة في دلال طاعته يختال في رداء مرافقته ثم صار إلى ما ترى وجرى ما به القلم جرى.
وكنا وليلى في صعود من الهوى ... فلما توافينا ثبت وزلّت
ومن هنا قال الشافعية والأشعرية- وبقولهم أقول- في هذه المسألة: إن العبرة بالإيمان الذي يوافي العبد عليه ويأتي متصفا به في آخر حياته وأول منازل آخرته، ولذا يصح أنا مؤمن إن شاء الله تعالى بالشك، ولكن ليس في الإيمان الناجز بل في الإيمان الحقيقي المعتبر عند الموت وختم الأعمال. وقد صح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه- كما أورده الزرقاني- إن من تمام إيمان العبد أن يستثني إذ عواقب المؤمنين مغيبة عندهم وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [الإنعام:
18، 61]
وفي الصحيح عن جابر «كان صلّى الله عليه وسلّم يكثر من قوله يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك»
وخبر «من قال أنا مؤمن إن شاء الله تعالى فليس له من الإسلام نصيب»
موضوع باتفاق المحدثين، وأنا مؤمن بغيره إن شاء الله تعالى، هذا واعلم أن الذي تقتضيه هذه الآية الكريمة، وكذا التي في الأعراف، وبني إسرائيل، والكهف، وطه أن سجود الملائكة ترتب على الأمر التنجيزي الوارد بعد خلقه، ونفخ الروح فيه، وهو الذي يشهد له النقل والعقل إلا أن ما في- الحجر- من قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر: 28، 30] وكذا ما في- ص- تستدعي ظاهرا ترتبه على ما فيها من الأمر التعليقي من غير أن يتوسط بينهما شيء غير الخلق وتوابعه، وبه قال بعضهم، وحمل ما في تلك الآيات من الأمر على حكاية الأمر التعليقي بعد تحقق المعلق به إجمالا فإنه حينئذ يكون في حكم التنجيز، و «ثم» في آية- الأعراف- للتراخي الرتبي، أو التراخي في الأخبار، أو يقال: إن الأمر التعليقي لما كان قبل تحقق المعلق به بمنزلة العدم في عدم إيجاب المأمور به جعل كأنه إنما حدث بعد تحققه، فحكي على صورة التنجيز، ولما رأى بعضهم أن هذا مؤد إلى أن ما جرى في شأن الخلافة- وما قالوا: وما سمعوا- إنما جرى بعد السجود المسبوق بمعرفة جلالة قدره عليه السلام، وخروج إبليس من البين باللعن، وبعد مشاهدتهم لكل ذلك وهو خرق لقضية النقل بل خرق في العقل اضطر إلى القول بأن السجود كان مرتين، وهيهات لا يصلح العطار ما أفسد الدهر، فالحق الحقيق ما دلت عليه هاتيك الآيات، وما استدل به المخالف لا ينتهض دليلا لأن الشرط إن كان قيدا للجزاء كان معناه على تقدير

(1/233)


صدق- إذا سويته- أطلب بناء على أن الشرط قيد للطلب على ما صرح به العلامة التفتازاني من أن معنى قولنا: إن جاءك زيد فأكرمه، أي على تقدير صدق إن جاءك زيد أطلب منك إكرامه، وإن كان الحكم بين الشرط والجزاء فالجزاء الطلبي لا بد من تأويله بالخبر أي يستحق أن يقال في حقه أكرمه، وعلى التقديرين كان مدلول فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [الحجر: 29] طلبا استقباليا لا حاليا فلا يلزم تحقق الأمر بالسجود قبل التسوية، نعم لو كان الشرط قيدا للمطلوب لا للطلب يكون المعنى الطلب في الحال للسجود وقت التسوية فيفيد تقدم الأمر على التسوية، وقول مولانا الرازي قدس سره: إن الآية كما تدل على تقدم الأمر بالسجود على التسوية تفيد أن التعليم والإنباء كان بعد السجود لأنها تدل على أن آدم عليه السلام كما صار حيا صار مسجودا للملائكة لأن الفاء في فَقَعُوا للتعقيب لا يخفى ما فيه لأن الفاء للسببية لا للعطف، وهو لا يقتضي التعقيب كما في قوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا [الجمعة: 9] ، وقوله سبحانه: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ، ومن الناس من حمل نفخ الروح في الآية على التعليم لما اشتهر أن العلم حياة والجهل موت، وأنت في غنى عنه، والله الموفق.
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ عطف على- إذ قلنا- بتقدير إذ أو بدونه أو على- قلنا- والزمان ممتد واسع للقولين، وتصدير الكلام بالنداء لتنبيه المأمور لما يلقى إليه من الأمر وتحريكه لما يخاطب به إذ هو من الأمور التي ينبغي أن يتوجه إليها، واسْكُنْ أمر من السكنى بمعنى اتخاذ المسكن لا من السكون ترك الحركة إذ ينافيه ظاهرا حَيْثُ شِئْتُما وذكر متعلقه بدون في وليس بمكان مبهم وأَنْتَ توكيد للمستكن في اسْكُنْ، والمقصد منه بالذات صحة العطف إذ لولاه لزم العطف على الضمير المتصل بلا فصل وهو ممتنع في الفصيح على الصحيح، وإفادة تقرير المتبوع مقصودة تبعا، وصح العطف مع أن المعطوف لا يباشره فعل الأمر لأنه وقع تابعا، ويغتفر فيه ما لا يغتفر في المتبوع، وقيل: هناك تغليبان تغليب المخاطب على الغائب والمذكر على المؤنث، ولكون التغليب مجازا ومعنى السكون والأمر موجودا فيهما حقيقة خفي الأمر، فإما أن يلتزم أن التغليب قد يكون مجازا غير لغوي بأن يكون التجوز في الإسناد، أو يقال: إنه لغوي لأن صيغة الأمر هنا للمخاطب وقد استعملت في الأعم، وللتخلص عن ذلك قيل: إنه معطوف بتقدير فليسكن، وفيه أنه حينئذ يكون من عطف الجملة على الجملة فلا وجه للتأكيد، والأمر يحتمل أن يكون للإباحة- كاصطادوا- وأن يكون للوجوب كما أن النهي فيما بعد للتحريم وإيثاره على- اسكنا- للتنبيه على أنه عليه السلام المقصد بالحكم في جميع الأوامر وهي تبع له كما أنها في الخلقة كذلك، ولهذا قال بعض المحققين: لا يصح إيراد- زوجك- بدون العطف بأن يكون منصوبا على أنه مفعول معه، والجنة- في المشهور دار الثواب للمؤمنين يوم القيامة لأنها المتبادرة عند الإطلاق ولسبق ذكرها في السورة وفي ظواهر الآثار ما يدل عليه، ومنها ما في الصحيح من محاجة آدم وموسى عليهما السلام فهي إذن في السماء حيث شاء الله تعالى منها، وذهب المعتزلة وأبو مسلم الأصفهاني وأناس إلى أنها جنة أخرى خلقها الله تعالى امتحانا لآدم عليه السلام وكانت بستانا في الأرض بين فارس وكرمان، وقيل: بأرض عدن، وقيل: بفلسطين كورة بالشام ولم تكن الجنة المعروفة، وحملوا الهبوط على الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في اهْبِطُوا مِصْراً [البقرة: 61] أو على ظاهره، ويجوز أن تكون في مكان مرتفع قالوا: لأنه لا نزاع في أنه تعالى خلق آدم في الأرض ولم يذكر في القصة أنه نقله إلى السماء ولو كان نقله إليها لكان أولى بالذكر ولأنه سبحانه قال في شأن تلك الجنة وأهلها لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الواقعة: 25] ولا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ [الطور: 23] وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ [الحجر: 48] وقد لغا إبليس فيها وكذب وأخرج منها آدم وحواء مع إدخالهما فيها على وجه السكنى لا كإدخال النبي صلى الله تعالى

(1/234)


عليه وسلم ليلة المعراج ولأن جنة الخلد دار للنعيم وراحة وليست بدار تكليف، وقد كلف آدم أن لا يأكل من الشجرة ولأن إبليس كان من الكافرين وقد دخلها للوسوسة ولو كانت دار الخلد ما دخلها ولا كاد لأن الأكابر صرحوا بأنه لو جيء بالكافر إلى باب الجنة لتمزق ولم يدخلها لأنه ظلمة وهي نور ودخوله مستترا- في الجنة على ما فيه- لا يفيد، ولأنها محل تطهير فكيف يحسن أن يقع فيها العصيان والمخالفة ويحل بها غير المطهرين ولأن أول حمل حواء كان في الجنة على ما في بعض الآثار ولم يرد أن ذلك الطعام اللطيف يتولد منه نطفة هذا الجسد الكثيف، والتزام الجواب عن ذلك كله لا يخلو عن تكلف، والتزام ما لا يلزم- وما في حيز المحاجة يمكن حمله على هذه الجنة وكون حملها على ما ذكر يجري مجرى الملاعبة بالدين والمراغمة لإجماع المسلمين- غير مسلم، وقيل: كانت في السماء وليست دار الثواب بل هي جنة الخلد، وقيل: كانت غيرهما ويرد ذلك أنه لم يصح أن في السماء بساتين غير بساتين الجنة المعروفة، واحتمال أنها خلقت إذ ذاك ثم اضمحلت مما لا يقدم عليه منصف، وقيل: الكل ممكن والله تعالى على ما يشاء قدير. والأدلة متعارضة، فالأحوط والأسلم هو الكف عن تعيينها والقطع به، وإليه مال صاحب
التأويلات، والذي ذهب إليه بعض ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم أنها في الأرض عند جبل الياقوت تحت خط الاستواء- ويسمونها جنة البرزخ- وهي الآن موجودة وإن العارفين يدخلونها اليوم بأرواحهم لا بأجسامهم ولو قالوا: إنها جنة المأوى- ظهرت حيث شاء الله تعالى وكيف شاء كما ظهر لنبينا صلّى الله عليه وسلّم على ما ورد في الصحيح في عرض حائط المسجد- لم يبعد على مشربهم ولو أن قائلا قال بهذا لقلت به لكن للتفرد في مثل هذه المطالب آفات. وكما اختلف في هذه الجنة اختلف في وقت خلق زوجه عليه السلام، فذكر السدي عن ابن مسعود، وابن عباس وناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن الله تعالى لما أخرج إبليس من الجنة وأسكنها آدم بقي فيها وحده وما كان معه من يستأنس به فألقى الله تعالى عليه النوم ثم أخذ ضلعا من جانبه الأيسر ووضع مكانه لحما وخلق حواء منه فلما استيقظ وجدها عند رأسه قاعدة فسألها من أنت؟ قالت: امرأة قال ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إليّ فقالت الملائكة تجربه لعلمه: من هذه؟
قال: امرأة قالوا: لم سميت امرأة؟ قال: لأنها خلقت من المراء فقالوا: ما اسمها؟ قال: حواء قالوا: لم سميت حواء؟
قال: لأنها خلقت من شيء حي. وقال كثيرون- ولعلي أقول بقولهم- إنها خلقت قبل الدخول ودخلا معا، وظاهر الآية الكريمة يشير إليه وإلا توجه الأمر إلى معدوم وإن كان في علمه تعالى موجودا، وأيضا في تقديم زَوْجُكَ على الْجَنَّةَ نوع إشارة إليه وفي المثل، الرفيق قبل الطريق. وأيضا هي مسكن القلب، والجنة مسكن البدن، ومن الحكمة تقديم الأول على الثاني، وأثر السدي- على ما فيه مما لا يخفى عليك- معارض بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: بعث الله جندا من الملائكة فحملوا آدم وحواء على سرير من ذهب كما تحمل الملوك ولباسهما النور حتى أدخلوهما الجنة فإنه كما ترى يدل على خلقها قبل دخول الجنة وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما الضمير المجرور للجنة على حذف مضاف أي من مطاعمها من ثمار وغيرها فلم يحظر عليهما شيئا إلا ما سيأتي، وأصل كُلا أأكلا بهمزتين الأولى للوصل، والثانية فاء الكلمة فحذفت الثانية لاجتماع المثلين حذف شذوذ وأتبعت بالأولى لفوات الغرض، وقيل: حذفا معا لكثرة الاستعمال- والرغد بفتح الغين- وقرأ النخعي- بسكونها- الهنيّ الذي لا عناء فيه أو الواسع، يقال: رغد عيش القوم، ورغد- بكسر الغين وضمها- كانوا في رزق واسع كثير، وأرغد القوم أخصبوا وصاروا في رغد من العيش، ونصبه على أنه نعت لمصدر محذوف، أي أكلا رغدا. وقال ابن كيسان: إنه حال بتأويل راغدين مرفهين، وحَيْثُ ظرف مكان مبهم لازم للظرفية، وإعرابها لغة بني فقعس ولا تكون ظرف زمان خلافا للأخفش، ولا يجزم بها دون «ما» خلافا للفراء، ولا تضاف للمفرد خلافا للكسائي ولا يقال: زيد حيث عمرو- خلافا للكوفيين- ويعتقب على آخرها الحركات الثلاث- مع الياء والواو والألف- ويقال: حايث على قلة- وهي هنا

(1/235)


متعلقة بكلا، والمراد بها العموم لقرينة المقام وعدم المرجح أي أي مكان من الجنة شِئْتُما وأباح لهما الأكل كذلك إزاحة للعذر في التناول مما حظر. ولم تجعل متعلقة ب اسْكُنْ، لأن عموم الأمكنة مستفاد من جعل- الجنة- مفعولا به له، مع أن التكريم في الأكل من كل ما يريد منها لا في عدم تعيين السكنى ولأن قوله تعالى في آية أخرى:
فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما [الأعراف: 19] يستدعي ما ذكرنا، وكذا قوله سبحانه:
وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ ظاهر هذا النهي التحريم، والمنهي عنه الأكل من الشجرة، إلا أنه سبحانه نهى عن قربانها مبالغة، ولهذا جعل جل شأنه العصيان المرتب على الأكل مرتبا عليه، وعدل عن فتأثما إلى التعبير بالظلم الذي يطلق على الكبائر، ولم يكتف بأن يقول: ظالمين، بل قال: مِنَ الظَّالِمِينَ بناء على ما ذكروا أن قولك: زيد من العالمين، أبلغ من زيد عالم لجعله غريقا في العلم أبا عن جد، وإن قلنا بأن فَتَكُونا دالة على الدوام ازدادت المبالغة، ومن الناس من قال: لا تقرب- بفتح الراء- نهي عن التلبس بالشيء- وبضمها- بمعنى لا تدن منه، وقال الجوهري: قرب- بالضم- يقرب قربا دنا وقربته- بالكسر- قربانا دنوت منه. والتاء في الشَّجَرَةَ للوحدة الشخصية- وهو اللائق بمقام الإزاحة- وجاز أن يراد النوع، وعلى التقديرين- اللام- للجنس- كما في الكشف- ووقع خلاف في هذه الشجرة، فقيل: الحنطة، وقيل: النخلة،
وقيل: شجرة الكافور- ونسب إلى علي كرم الله تعالى وجهه-
وقيل: التين، وقيل: الحنظل، وقيل: شجرة المحبة، وقيل: شجرة الطبيعة والهوى «وقيل، وقيل ... » والأولى عدم القطع والتعيين- كما أن الله تعالى لم يعينها باسمها في الآية- ولا أرى ثمرة في تعيين هذه الشجرة- ويقال: فيها شجرة- بكسر الشين- وشيرة- بإبدال الجيم ياء مفتوحة مع فتح الشين وكسرها- وبكل قرأ بعض، وعن أبي عمرو أنه كره- شيرة- قائلا: إن برابر مكة وسودانها يقرؤون بها- ولا يخفى ما فيه، والشجر ما له ساق أو كل ما تفرع له أغصان وعيدان، أو أعم من ذلك لقوله تعالى: شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ [الصافات: 146] وقوله تعالى: فَتَكُونا إما مجزوم- بحذف النون- معطوفا على تَقْرَبا فيكون منهيا عنه وكان على أصل معناها، أو منصوب على أنه جواب للنهي كقوله سبحانه: وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ [طه: 81] والنصب بإضمار «أن» عند البصريين- وبالفاء نفسها- عند الجرمي، وبالخلاف عند الكوفيين- وكان- حينئذ بمعنى صار، وأيّا ما كان من تفهم سببية ما تقدم لكونها مِنَ الظَّالِمِينَ أي الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعصية أو نقصوا حظوظهم بمباشرة ما يخل بالكرامة والنعيم أو تعدوا حدود الله تعالى، ولعل القربان المنهي عنه الذي يكون سببا للظلم المخل بالعصمة هو ما لا يكون مصحوبا بعذر- كالنسيان هنا مثلا- المشار إليه بقوله تعالى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] فلا يستدعي حمل النهي على التحريم، والظلم- المقول بالتشكيك على ارتكاب المعصية عدم عصمة آدم عليه السلام- بالأكل المقرون بالنسيان- وإن ترتب عليه ما ترتب- نظرا إلى أن حسنات الأبرار سيئات المقربين- وللسيد أن يخاطب عبده بما شاء، نعم لو كان ذلك غير مقرون بعذر كان ارتكابه حينئذ مخلا- ودون إثبات هذا خرط القتاد- فإذا لا دليل في هذه القصة على عدم العصمة، ولا حاجة إلى القول إن ما وقع كان قبل النبوة لا بعدها- كما يدعيه المعتزلة- القائلون بأن ظهوره مع علمه بالأسماء معجزة على نبوته إذ ذاك. وصدور الذنب قبلها جائز عند أكثر الأصحاب- وهو قول أبي هذيل وأبي علي من المعتزلة- ولا إلى حمل النهي على التنزيه والظلم على نقص الحظ مثلا- والتزمه غير واحد- وقرىء تَقْرَبا- بكسر التاء- وهي لغة الحجازيين، وقرأ ابن محيصن «هذي» بالياء فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها أي حملهما على الزلة بسببها، وتحقيقه أصدر زلتهما عنها وعن هذه مثلها في قوله تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ [التوبة: 114] والضمير على هذا للشجرة، وقيل: أزلهما أي أذهبهما، ويعضده قراءة حمزة فأزالهما وهما

(1/236)


متقاربان في المعنى غير أن أزلّ يقتضي عثرة مع الزوال- والضمير حينئذ للجنة وعوده إلى الشجرة بتجوز، أو تقدير مضاف- أي محلها- أو إلى الطاعة المفهومة من الكلام- بعيد، وإزلاله- عليه اللعنة- إياهما- عليهما السلام- كان بكذبه عليهما ومقاسمته على ما قص الله تعالى في كتابه، وفي كيفية توسله إلى ذلك أقوال، فقيل: دخل الجنة ابتلاء لآدم وحواء، وقيل: قام عند الباب فناداهما وأفسد حالهما، وقيل: تمثل بصورة دابة فدخل ولم يعرفه الخزنة، وقيل:
أرسل بعض أتباعه إليهما. وقيل: بينما هما يتفرجان في الجنة إذ راعهما طاووس تجلى لهما على سور الجنة فدنت حواء منه، وتبعها آدم فوسوس لهما من وراء الجدار، وقيل: توسل بحية تسورت الجنة- ومشهور حكاية الحية- وهذان الأخيران يشير أولهما عند ساداتنا الصوفية إلى توسله من قبل الشهوة خارج الجنة، وثانيهما إلى توسله بالغضب، وتسور جدار الجنة عندهم إشارة إلى أن الغضب أقرب إلى الأفق الروحاني والحيز القلبي من الشهوة، وقيل: توسله إلى ما توسل إليه إذ ذاك مثل توسله اليوم إلى إذلال من شاء الله تعالى وإضلاله، ولا نعرف من ذلك إلا الهواجس والخواطر التي تفضي إلى ما تفضي، ولا جزم عند كثير في دخول الشيطان في القلب بل لا يعقلونه، ولهذا قالوا: خبر إن الشيطان- يجري من بني آدم مجرى الدم- محمول على الكناية عن مزيد سلطانه عليهم وانقيادهم له، وكأني بك تختار هذا القول، وقال أبو منصور: ليس لنا البحث عن كيفية ذلك، ولا نقطع القول بلا دليل، وهذا من الإنصاف بمكان، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «فوسوس لهما الشيطان عنها» (1) والضمير في هذه القراءة- للشجرة- لا غير، وعوده إلى- الجنة- بتضمين الإذهاب ونحوه بعيد فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ أي من النعيم والكرامة أو من الجنة. «الأول» جار على تقدير رجوع ضمير عَنْها إلى- الشجرة- أو- الجنة- «الثاني» مخصوص بالتقدير الأول- لئلا يسقط الكلام. وقيل: أخرجهما من لباسهما الذي كانا فِيهِ لأنهما لما أكلا تهافت عنهما، وفي الكلام من التفخيم ما لا يخفى وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ- الهبوط- النزول، وعين المضارع تكسر وتضم، وقال المفضل: هو الخروج من البلد، والدخول فيها من الأضداد- ويقال في انحطاط المنزلة- والبعض في الأصل مصدر بمعنى القطع ويطلق على الجزء، وهو ككل ملازم للإضافة- لفظا أو نية- ولا تدخل عليه اللام، ويعود عليه الضمير مفردا ومجموعا- إذا أريد به جمع- والعدو- من- العداوة- مجاوزة الحد أو التباعد أو الظلم، ويطلق على الواحد المذكر ومن عداه بلفظ واحد، وقد يقال:- أعداء وعدوة- والخطاب لآدم وحواء، لقوله تعالى: قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً [طه: 123] والقصة واحدة، وجمع الضمير لتنزيلهما منزلة البشر كلهم، ولما كان في الأمر بالهبوط انحطاط رتبة المأمور لم يفتتحه بالنداء- كما افتتح الأمر بالسكنى- واختار الفراء أن المخاطب- هما وذريتهما- وفيه خطاب المعدوم، والمأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وكثير من السلف- أنه هما وإبليس- واعترض بخروجه قبلهما. وأجيب بأن الاخبار عما قال لهم مفرقا- على أنه لا مانع من المعية- وقيل: هم والحية، واعترض بعدم تكليفها، وأجيب بأن الأمر تكويني، والجملة الاسمية منصوبة المحل على الحال المقدرة، والحكم باعتبار الذرية. وإذا دخل إبليس والحية- كان الأمر أظهر، ولا يرد أنه كيف يقيد الأمر بالتعادي- وهو منهي عنه- لأنا نقول بصرف توجه النظر عن القيد كون العداوة طبيعية- والأمور الطبيعية غير مكلف بها- وإن كلف فبالنظر إلى أسبابها، وإذا جعل الأمر تكوينيا زال الإشكال- إلا أن فيه بعدا- وبعضهم يجعل الجملة مستأنفة على تقدير السؤال فرارا عن هذا السؤال- مع ما في الاكتفاء بالضمير دون الواو في الجملة الاسمية الحالية من- المقال، حتى ذهب الفراء إلى
__________
(1) سورة الأعراف الآية: 20

(1/237)


شذوذه، وإن كان التحقيق ما ذكره بعض المحققين أن الجملة الحالية لا تخلو من أن تكون من سبب ذي الحال أو أجنبية- فإن كانت من سببه لزمها العائد والواو- كجاء زيد، وأبوه منطلق- إلا ما شذ من نحو كلمته- فوه- إلى- في- وإن أجنبية لزمتها- الواو- نائبة عن العائد، وقد يجمع بينهما- كقدم بشر وعمرو قادم إليه- وقد جاءت- بلا ولا- كقوله:
ثم انتصبنا جبال الصغد معرضة ... عن اليسار وعن أيماننا جدد
وقد تكون صفة ذي الحال ك تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة: 83] وهذه يجوز فيها الوجهان باطراد، وما نحن فيه من هذا القبيل فتدبر وإفراد العدو إما للنظر إلى لفظ البعض، وإما لأن وزانه وزان المصدر كالقبول، وبه تعلق ما قبله واللام- كما في البحر- مقوية، وقرأ أبو حيوة اهْبِطُوا- بضم الباء- وهو لغة فيه، وبهذا الأمر نسخ الأمر والنهي السابقان وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أراد بالأرض محل الإهباط، وليس المراد شخصه الذي هو لآدم عليه السلام- موضع بجبل سرنديب- ولحواء موضع بجدة، ولإبليس موضع بالأبلة، ولصاحبته موضع بنصيبين أو أصبهان أو سجستان- والمستقر- اسم مكان أو مصدر ميمي، ويحتمل- على بعد- كونه اسم مفعول بمعنى ما استقر ملككم عليه وتصرفكم فيه- وأبعد منه- احتمال كونه اسم زمان وهو مبتدأ خبره لَكُمْ وفيه متعلق بما تعلق به- والمتاع- البلغة، مأخوذ من متع النهار- إذا ارتفع- ويطلق على الانتفاع الممتد وقته- ولا يختص بالحقير- والحين مقدار من الزمان- قصيرا أو طويلا- والمراد هنا إلى وقت الموت- وهو القيامة الصغرى- وقيل: إلى يوم القيامة الكبرى، وعليه تجعل السكنى في القبر تمتعا في الأرض، أو يجعل الخطاب شاملا لإبليس- ويراد الكل المجموعي- والجار متعلق بمتاع، قيل: أو به، وبمستقر على التنازع- أو بمقدار صفة لمتاع- وهذه الجملة كالتي قبلها استئنافا وحالية.
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ المراد- بتلقي- الكلمات استقبالها بالأخذ والقبول والعمل بها، فهو مستعار من استقبال الناس بعض الأحبة- إذا قدم بعد طول الغيبة- لأنهم لا يدعون شيئا من الإكرام إلا فعلوه، وإكرام الكلمات الواردة من الحضرة الأخذ والقبول والعمل بها، وفي التعبير- بالتلقي- إيماء إلى أن آدم عليه السلام كان في ذلك الوقت في مقام البعد ومِنْ رَبِّهِ حال من كَلِماتٍ مقدم عليها، وقيل: متعلق ب فَتَلَقَّى وهي من تلقاه منه بمعنى تلقنه، ولولا خلوّه عما في الأول من اللطافة لتلقيناه بالقبول، وقرأ ابن كثير بنصب آدَمُ ورفع كَلِماتٍ على معنى- استقبلته- فكأنها مكرمة له لكونها سبب العفو عنه، وقد يجعل الاستقبال مجازا عن البلوغ بعلاقة السببية، والمروي في المشهور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن هذه الكلمات هي رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا [الأعراف: 23] الآية، وعن ابن مسعود أنها، سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، لا إله إلا أنت، ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. وقيل: رأى مكتوبا على ساق العرش، محمد رسول الله فتشفع به، وإذا أطلقت الكلمة على عيسى عليه السلام، فلتطلق الكلمات على الروح الأعظم، والحبيب الأكرم صلى الله تعالى عليه وسلم، فما عيسى، بل وما موسى، بل «وما، وما..» إلا بعض من ظهور أنواره، وزهرة من رياض أنواره، وروي غير ذلك فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ التوبة أصلها الرجوع وإذا أسندت إلى العبد كانت- كما في الاحياء- عبارة عن مجموع أمور ثلاثة- علم- وهو معرفة ضرر الذنب، وكونه حجابا عن كل محبوب، وحال يثمره ذلك العلم، وهو تألم القلب بسبب فوات المحبوب، ونسميه ندما، وعمل يثمره الحال- وهو الترك والتدارك- والعزم على عدم العود، وكثيرا ما تطلق على الندم وحده لكونه لازما للعلم مستلزما للعمل.
وفي الحديث «الندم توبة»
وطريق

(1/238)


تحصيلها تكميل الإيمان بأحوال الآخرة وضرر المعاصي فيها، وإذا أسندت إليه سبحانه كانت عبارة عن قبول التوبة والعفو عن الذنب ونحوه، أو التوفيق لها والتيسير لأسبابها بما يظهر للتائبين من آياته، ويطلعهم عليه من تخويفاته، حتى يستشعروا الخوف فيرجعوا إليه، وترجع في الآخرة إلى معنى التفضل والعطف، ولهذا عديت- بعلى- وأتى سبحانه بالفاء لأن تلقي الكلمات عين التوبة، أو مستلزم لها، ولا شك أن القبول مترتب عليه، فهي إذا لمجرد السببية، وقد يقال: إن التوبة لما دام عليها صح التعقيب- باعتبار آخرها إذ لا فاصل حينئذ- وعلى كل تقدير لا ينافي هذا ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنهما بكيا مائتي سنة على ما فاتهما، ولم يقل جل شأنه- فتاب عليهما- لأن النساء تبع يغني عنهن ذكر المتبوع، ولذا طوى ذكرهن في كثير من الكتاب والسنة، وفي الجملة الاسمية ما يقوي رجاء المذنبين، ويجبر كسر قلوب الخاطئين حيث افتتحها ب «أن» وأتى بضمير الفصل وعرف المسند وأتى به من صيغ المبالغة إشارة إلى قبوله التوبة كلما تاب العبد، ويحتمل أن ذلك لكثرة من يتوب عليهم، وجمع بين وصفي كونه توابا وكونه رحيما إشارة إلى مزيد الفضل، وقدم التَّوَّابُ لظهور مناسبته لما قبله، وقيل في ذكر الرَّحِيمُ بعده.
إشارة إلى أن قبول التوبة ليس على سبيل الوجوب- كما زعمت المعتزلة- بل على سبيل الترحم والتفضل، وأنه الذي سبقت رحمته غضبه، فيرحم عبده في عين غضبه- كما جعل هبوط آدم سبب ارتفاعه، وبعده سبب قربه- فسبحانه من تواب ما أكرمه، ومن رحيم ما أعظمه، وإذا فسر التواب بالرجاع إلى المغفرة- كان الكلام تذييلا- لقوله تعالى:
فَتابَ عَلَيْهِ أو بالذي يكثر الإعانة على التوبة- كان تذييلا- لقوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ إلخ، وقرأ نوفل إِنَّهُ بفتح الهمزة على تقدير- لأنه- قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً كرر للتأكيد، فالفصل لكمال الاتصال- والفاء- في فَتَلَقَّى للاعتراض، إذ لا يجوز تقدم المعطوف على التأكيد، وفائدته الإشارة إلى مزيد الاهتمام بشأن التوبة وأنه يجب المبادرة إليها- ولا يمهل- فإنه ذنب آخر مع ما في ذلك من إظهار الرغبة بصلاح حاله عليه السلام وفراغ باله، وإزالة ما عسى يتشبث به الملائكة عليهم السلام، وقد فضل عليهم وأمروا بالسجود له، أو كرر ليتعلق عليه معنى آخر غير الأول، إذ ذكر إهباطهم «أولا» للتعادي وعدم الخلود، والأمر فيه تكويني «وثانيا» ليهتدي من يهتدي، ويضل من يضل، والأمر فيه تكليفي، ويسمى هذا الأسلوب في البديع- الترديد- فالفصل حينئذ للانقطاع لتباين الغرضين، وقيل:
إن إنزال القصص للاعتبار بأحوال السابقين، ففي تكرير الأمر تنبيه على أن الخوف الحاصل من تصور إهباط آدم عليه السلام المقترن بأحد هذين الأمرين من التعادي والتكليف كاف لمن له حزم، وخلا عن عذر أن تعوقه عن مخالفة حكمه تعالى، فكيف المخالفة الحاصلة من تصور الإهباط المقترن بهما؟؟ فلو لم يعد الأمر لعطف فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ على «الأول» فلا يفهم إلا إهباط مترتب عليه جميع هذه الأمور، ويحتمل- على بعد- أن تكون فائدة التكرار التنبيه على أنه تعالى هو الذي أراد ذلك، ولولا إرادته لما كان ما كان ولذلك أسند الإهباط إلى نفسه مجردا عن التعليق بالسبب بعد إسناد إخراجهما إلى الشيطان، فهو قريب من قوله عز شأنه: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: 17] وقال الجبائي: إن «الأول» من الجنة إلى السماء «والثاني» منها إلى الأرض، ويضعفه ذكر وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ عقيب الأول وجَمِيعاً حال من فاعل اهْبِطُوا أي مجتمعين، سواء كان في زمان واحد أو لا، وقد يفهم الاتحاد في الزمان من سياق الكلام، كما قيل به في فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر: 30] وأبعد ابن عطية فجعله تأكيدا لمصدر محذوف أي هبوطا جميعا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
لا يدخل في الخطاب غير المكلف، وأدرج الكثيرون إِبْلِيسَ لأنه مخاطب بالإيمان- والفاء- لترتيب ما

(1/239)


بعدها على الهبوط المفهوم من الأمر وإما مركبة من إن الشرطية و «ما» الزائدة للتأكيد، وكثر تأكيد الفعل بعدها بالنون، ولم يجب كما يدل عليه قول سيبويه: إن شئت لم تقحم النون، كما أنك إن شئت لم تجئ «بما» وقد ورد ذلك في قوله:
يا صاح إما تجدني غير ذي جدة ... فما التخلي عن الخلان من شيمي
وقوله:
إما أقمت وإما كنت مرتحلا ... فالله يحفظ ما تبقي وما تذر
وحمل ذلك من قال بالوجوب على الضرورة وهو مما لا ضرورة إليه، والقول بأنه يلزم حينئذ مزية التابع الذي هو حرف الشرط على المتبوع وهو الفعل- يدفعه أن التابع ومؤكده تابع فلا مزية، أو أن «ما» لتأكيد الفعل في أوله كما أن النون إذا كانت تأكيدا له في آخره وجيء بحرف الشك إذ لا قطع بالوقوع فإنّه تعالى لا يجب عليه شيء بل إن شاء هدى وإن شاء ترك، وقيل: بالقطع واستعمال «إن» في مقامه لا يخلو عن نكتة كتنزيل العالم منزلة غيره بعدم جريه على موجب العلم، ويحسنه سبق ما سيق وقوعه من آدم، وقيل: إن زيادة «ما» والتوكيد بالثقيلة لا يتقاعد في إفادة القطع عن إذا، نعم لا ينظر فيه إلى الزمان بل إلى أنه محقق الوقوع أبهم وقته، وأنت تعلم أن ما اخترناه أسلم وأبعد عن التكلف مما ذكر- وإن جل قائله فتدبر- و «مني» متعلق بما قبله، وفيه شبه الالتفات- كما في البحر- وأتى بالضمير الخاص هنا للرمز إلى أن اللائق- بمن- هدى التوحيد الصرف وعدم الالتفات إلى الكثرة، ونكر- الهدى- لأن المقصود هو المطلق ولم يسبق فيه عهد فيعرف، وفي المراد به هنا أقوال، فقيل الكتب المنزلة، وقيل: الرسل، وقيل: محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. ولعل المراد هديه الذي جاء به نوابه عليهم الصلاة والسلام، والفاء في «فمن» للربط و «ما» بعد جملة شرطية وقعت جوابا للشرط الأول على حدّ- إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك- وقال السجاوندي: جوابه محذوف أي فاتبعوه، واختار أبو حيان كون «من» هذه موصولة لما في المقابل من الموصول، ودخلت الفاء في خبرها لتضمنها معنى الشرط، ووضع المظهر موضع المضمر في هداي إشارة للعلية لأن الهدى بالنظر إلى ذاته واجب الاتباع، وبالنظر إلى أنه أضيف إليه تعالى إضافة تشريف أحرى وأحق أن يتبع، وقيل: لم يأت به ضميرا لأنه أعم من الأول لشموله لما يحصل بالاستدلال والعقل، ولم يقل الهدى لئلا تتبادر العينية أيضا لأن النكرة في الغالب إذا أعيدت معرفة كانت عين الأول مع ما في الإضافة إلى نفسه تعالى من التعظيم ما لا يكون لو أتى به معرفا باللام، والخوف الفزع في المستقبل، والحزن ضد السرور مأخوذ من الحزن- وهو ما غلظ من الأرض- فكأنه ما غلظ من الهمّ، ولا يكون إلا في الأمر الماضي على المشهور، ويؤول حينئذ نحو إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ [يوسف: 13] بعلم ذلك الواقع، وقيل: إنه والخوف كلاهما في المستقبل لكن الخوف استشعارهم لفقد مطلوب، والحزن استشعار غم لفوت محبوب، وجعل هنا نفي الخوف كناية عن نفي العقاب، ونفي الحزن كناية عن نفي الثواب وهي أبلغ من الصريح وآكد لأنها كدعوى الشيء ببينة، والمعنى- لا خوف عليهم- فضلا عن أن يحل بهم مكروه، ولا هم يفوت عنهم محبوب فيحزنوا عليه، فالمنفي عن الأولياء خوف حلول المكروه والحزن في الآخرة، وفيه إشارة إلى أنه يدخلهم الجنة التي هي دار السرور والأمن لا خوف فيها ولا حزن، وحينئذ يظهر التقابل بين الصنفين في الآيتين، وقال بعض الكبراء: خوف المكروه منفي عنهم مطلقا. وأما خوف الجلال ففي غاية الكمال والمخلصون على خطر عظيم، وقيل: المعنى- لا خوف عليهم- من الضلالة في الدنيا، ولا حزن من الشقاوة في العقبى، وقدم انتفاء الخوف لأن انتفاء الخوف فيما هو آت أكثر من انتفاء الحزن على ما فات. ولهذا صدر بالنكرة التي هي أدخل في النفي، وقدم

(1/240)


وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)

الضمير إشارة إلى اختصاصهم بانتفاء الحزن وأن غيرهم يحزن. والمراد بيان دوام الانتفاء لا بيان انتفاء الدوام كما يتوهم من كون الخبر في الجملة الثانية مضارعا لما تقرر في محله أن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام، وذكر بعض الناس أن العدول عن لا خوف لهم أو عندهم إلى- لا خوف عليهم- للإشارة إلى أنهم قد بلغت حالهم إلى حيث لا ينبغي أن يخاف أحد عليهم. وفي البحر أنه سبحانه كني بعليهم عن الاستيلاء والإحاطة إشارة إلى أن الخوف لا ينتفي بالكلية ألا ترى انصراف النفي على كونية الخوف عليهم، ولا يلزم من نفي كونية استيلاء الخوف انتفاؤه في كل حال، فلا دليل
في الآية على نفي أهوال القيامة وخوفها عن المطيعين، وأنت تعلم أن فيما أشرنا إليه كناية غنية عن مثله وكذا عما قيل إن نفي الاستيلاء للتعريض بالكفار، والإشارة إلى أن الخوف مستول عليهم. هذا وقرأ الأعرج «هداي» بسكون الياء، وفيه الجمع بين ساكنين وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف. وقرأ الجحدري وغيره «هدي» بقلب الألف ياء وإدغامها في الياء على لغة هذيل. وقرأ الزهري وغيره «فلا خوف» بالفتح، وابن محيصن باختلاف عنه بالرفع من غير تنوين، وكأنه حذف لنية الإضافة، أو لكثرة الاستعمال، أو لملاحظة اللام في الاسم- على ما في البحر- ليحصل التعادل في كون لا دخلت على المعرفة في كلا الجملتين وهو على قراءة الجمهور مبتدأ، وعَلَيْهِمْ خبره أو أن لا عاملة عمل ليس كما قال ابن عطية والأول أولى.

(1/241)


وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ عطف على فَمَنْ تَبِعَ قسيم له كأنه قال: ومن لم يتبعه، وإنما أوثر عليه ما ذكر تعظيما لحال الضلالة وإظهارا لكمال قبحها أو لأن من لم يتبع شامل لمن لم تبلغه الدعوة ولم يكن من المكلفين فعدل عن ذلك لإخراجهم، ولأنه شامل للفاسق بناء على أن المراد بالمتابعة المتابعة الكاملة ليترتب عليه عدم الخوف والحزن فلو قال سبحانه ذلك لزم منه خلوده في النار ولما قال ما قال لم يلزم ذلك بل خرج الفاسق من الصنفين، ويعلم بالفحوى أن عليه خوفا وحزنا على قدر عدم المتابعة- ولو جعل قوله تعالى:
وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حينئذ لنفي استمرار الخوف والحزن، وأريد بمتابعة الهدى الإيمان به تعالى- كان داخلا في فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ إلا أن أولياء كتاب الله تعالى لا يرضون ذلك ولا يقبلون- وأولئك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون- وإيراد الموصول بصيغة الجمع للإشارة إلى كثرة الكفرة، والمتبادر من الكفر الكفر بالله تعالى، ويحتمل أن يكون كفروا وكذبوا متوجهين إلى الجار والمجرور فيراد بالكفر بالآيات إنكارها بالقلب، وبالتكذيب إنكارها باللسان. والآية في الأصل العلامة الظاهرة بالقياس إلى ذي العلامة، ومنه آية القرآن لأنها علامة لانقطاع الكلام الذي بعدها والذي قبلها، أو لأنها علامة على معناها وأحكامها، وقيل: سميت آية لأن الآية تطلق على الجماعة أيضا، كما قال أبو عمرو يقال: خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم، وهي جماعة من القرآن وطائفة من الحروف، وذكر بعضهم أنها سميت بذلك لأنها عجب يتعجب من إعجازه، كما يقال: فلان آية من الآيات، وفي أصلها ووزنها أقوال: فمذهب سيبويه والخليل أن أصلها أيية- بفتحات- قلبت الياء الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها على خلاف القياس- كغاية وراية- إذ المطرد عند اجتماع حرفي علة إعلال الآخر لأنه محل التغيير، ومذهب الكسائي أن أصلها آيية- كفاعلة- وكان القياس أن تدغم كدابة، إلا أنه ترك ذلك تخفيفا فحذفوا عينها، ومذهب الفراء أن وزنها فعلة- بسكون العين- من تأيّ القوم إذا اجتمعوا، وقالوا في الجمع: آياء كأفعال، فظهرت الياء، والهمزة الأخيرة بدل ياء والألف الثانية بدل من همزة هي فاء الكلمة، ولو كان عينها واوا لقالوا في الجمع: آواء، ثم إنهم قلبوا الياء الساكنة ألفا على غير القياس لعدم تحركها وانفتاح ما قبلها. ومذهب الكوفيين أن وزنها- أيية- كنبقة فأعلت وهو في الشذوذ كالأول، وقيل: وزنها فعلة بضم العين، وقيل: أصلها أياة فقدمت اللام وأخرت العين- وهو ضعيف- وكل الأقوال فيها لا تخلو عن شذوذ، ولا بدع فهي آية، والمراد بالآيات هنا الكتب المنزلة أو الأنبياء، أو القرآن، أو الدوال عليه سبحانه من كتبه ومصنوعاته، وينزل المعقول منزلة الملفوظ ليتأتى التكذيب، وأتى سبحانه بنون العظمة لتربية المهابة وإدخال الروعة، وأضاف تعالى الآيات إليها لإظهار كمال قبح التكذيب بها، وأشار ب أُولئِكَ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة للإشعار بتميز أُولئِكَ بذلك الوصف تميزا مصححا للإشارة الحسية مع الإيذان ببعد منزلتهم فيه وهو مبتدأ خبره

(1/242)


أصحاب وهو جمع صاحب، وجمع فاعل على أفعال شاذ (1) كما في البحر، ومعنى الصحبة الاقتران بالشيء، والغالب في العرف أن تطلق على الملازمة، وهذه الجملة خبر عن الذين، ويحتمل أن يكون اسم الإشارة بدلا منه أو عطف بيان، والأصحاب خبره، والجملة الاسمية بعد في حيز النصب على الحالية لورود التصريح في قوله تعالى: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها [التغابن: 10] وجوّز كونها حالا من النار لاشتمالها على ضميرها، والعامل معنى الإضافة أو اللام المقدرة، أو في حيز الرفع على أنها خبر آخر- لأولئك- على رأي من يرى ذلك، قال أبو حيان: ويحتمل أن تكون مفسرة لما أبهم في أَصْحابُ النَّارِ مبينة أن هذه الصحبة لا يراد منها مطلق الاقتران بل الخلود، فلا يكون لها إذ ذاك محل من الإعراب، والخلود هنا الدوام على ما انعقد عليه الإجماع، ومن البديع ما ذكره بعضهم أن في الآيتين نوعا منه، يقال له الاحتباك، ويا حبذاه لولا الكناية المغنية عما هناك.
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ خطاب لطائفة خاصة من الكفرة المعاصرين للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد الخطاب العام، وإقامة دلائل التوحيد والنبوة والمعاد والتذكير بصنوف الإنعام، وجعله سبحانه بعد قصة آدم، لأن هؤلاء بعد ما أوتوا من البيان الواضح والدليل اللائح، وأمروا ونهوا وحرضوا على اتباع- النبي الأميّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم- ظهر منهم ضد ذلك، فخرجوا عن جنة الإيمان الرفيعة، وهبطوا إلى أرض الطبيعة، وتعرضت لهم الكلمات- إلا أنهم لم يتلقوها بالقبول- ففات منهم ما فات، وأقبل عليهم بالنداء ليحركهم لسماع ما يرد من الأوامر والنواهي. وبَنِي جمع ابن شبيه بجمع التكسير لتغير مفرده، ولذا ألحق في فعله تاء التأنيث- كقالت بنو عامر- وهو مختص بالأولاد الذكور، وإذا أضيف عم في العرف- الذكور والإناث- فيكون بمعنى الأولاد- وهو المراد هنا- وذكر الساليكوتي أنه حقيقة في الأبناء الصلبية- كما بين في الأصول- واستعماله في العام مجاز، وهو محذوف اللام، وفي كونها- ياء أو واوا- خلاف، فذهب إلى الأول ابن درستويه وجعله من البناء، لأن الابن فرع الأب ومبني عليه، ولهذا ينسب المصنوع إلى صانعه، فيقال للقصيدة مثلا: بنت الفكر، وقد أطلق في شريعة من قبلنا على بعض المخلوقين- أبناء الله تعالى- بهذا المعنى، لكن لما تصوّر من هذا الجهلة الأغبياء- معنى الولادة- حظر ذلك حتى صار التفوه به كفرا، وذهب إلى الثاني الأخفش، وأيده بأنهم قالوا: البنوّة، وبأن حذف- الواو- أكثر، وقد حذفت في- أب وأخ- وبه قال الجوهري: ولعل الأول أصح، ولا دلالة في البنوة. لأنهم قالوا أيضا: الفتوة، ولا خلاف في أنها من ذوات- الياء- وأمر الأكثرية سهل، وعلى التقديرين في وزن- ابن- هل هو فعل أو فعل؟ خلاف و «إسرائيل» اسم أعجمي، وقد ذكروا أنه مركب من- إيل- اسم من أسمائه تعالى، و «إسرا» وهو العبد، أو الصفوة أو الإنسان أو المهاجر- وهو لقب سيدنا يعقوب عليه السلام- وللعرب فيه تصرفات، فقد قالوا: إِسْرائِيلَ بهمزة بعد الألف وياء بعدها- وبه قرأ الجمهور- «وإسراييل» - بياءين بعد الألف- وبه قرأ أبو جعفر وغيره- «وإسرائيل» - بهمزة ولام، وهو مروي عن ورش- «وإسرأل» - بهمزة مفتوحة ومكسورة بعد الراء، ولام- «وإسرأل» - بألف ممالة- بعدها لام خفيفة- وبها ولا إمالة- وهي رواية عن نافع- وقراءة الحسن وغيره «وإسرائين» بنون بدل اللام، كما في قوله: (2)
__________
(1) والصحبة والصحابة- أسماء جموع وكذا صحب على الأصح خلافا للأخفش اهـ منه.
(2) كذا بخط المؤلف والمشهور.
قالت وكنت رجلا فطينا ... هذا لعمر الله إسرائينا
اهـ مصححه.

(1/243)


تقول أهل السوء لما جينا ... هذا ورب البيت «إسرائينا»
وأضاف سبحانه هؤلاء المخاطبين إلى هذا اللقب- تأكيدا لتحريكهم إلى طاعته- فإن في إِسْرائِيلَ ما ليس في اسمه الكريم- يعقوب- وقولك: يا ابن الصالح أطع الله تعالى، أحث للمأمور من قولك: يا ابن زيد- مثلا- أطع، لأن الطبائع تميل إلى اقتفاء أثر الآباء- وإن لم يكن محمودا- فكيف إذا كان؟ ويستعمل مثل هذا في مقام الترغيب والترهيب- بناء على أن الحسنة في نفسها حسنة- وهي من بيت النبوّة أحسن- والسيئة في نفسها سيئة- وهي من بيت النبوّة أسوأ، واذْكُرُوا أمر من الذكر- بكسر الذال وضمها- بمعنى واحد، ويكونان باللسان والجنان، وقال الكسائي: هو بالكسر- للسان- وبالضم- للقلب- وضد الأول الصمت، وضد الثاني النسيان.
«وعلى العموم» فإما أن يكون مشتركا بينهما، أو موضوعا لمعنى عام شامل لهما «والظاهر» هو الأول، والمقصود من الأمر بذلك- الشكر على النعمة والقيام بحقوقها- لا مجرد الاخطار بالجنان، أو التفوه باللسان، وإضافة النعمة إلى ضميره تعالى لتشريفها، وإيجاب تخصيص شكرها به سبحانه، وقد قال بعض المحققين: إنها تفيد الاستغراق- إذ لا عهد- ولمناسبته بمقام الدعوة إلى الإيمان، فهي شاملة للنعم العامة والخاصة بالمخاطبين، وفائدة التقييد بكونها عليهم أنها- من هذه الحيثية أدعى للشكر- فإن الإنسان حسود غيور، وقال قتادة: أريد بها ما أنعم به على آبائهم- مما قصه سبحانه في كتابه- وعليهم من فنون النعمة التي أجلها- إدراك زمن أشرف الأنبياء- وجعلهم من جملة أمة الدعوة له، ويحتاج تصحيح الخطاب حينئذ إلى اعتبار التغليب، أو جعل نعم الآباء نعمهم، فلا جمع بين الحقيقة والمجاز- كما وهم- ويجوز في الياء من نِعْمَتِيَ الإسكان والفتح، والقراء السبعة متفقون على الفتح، وأَنْعَمْتُ صلة الَّتِي والعائد محذوف، والتقدير- أنعمتها- وقرىء- اذكروا- بالدال المهملة المشددة على وزن افتعلوا وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ يقال: أوفى ووفى- مخففا ومشددا- بمعنى، وقال ابن قتيبة: يقال: أوفيت بالعهد ووفيت به، وأوفيت الكيل لا غير، وجاء- أوفى- بمعنى ارتفع كقوله:
ربما «أوفيت» في علم ... ترفعن ثوبي شمالات
«والعهد» يضاف إلى كل ممن يتولى أحد طرفيه، والظاهر هنا أن الأول مضاف إلى الفاعل، والثاني إلى المفعول، فإنه تعالى أمرهم بالإيمان والعمل وعهد إليهم بما نصب من الحجج العقلية والنقلية الآمرة بذلك، ووعدهم بحسن الثواب على حسناتهم والمعنى أَوْفُوا بِعَهْدِي بالإيمان والطاعة أُوفِ بِعَهْدِكُمْ بحسن الإثابة، ولتوسط الأمر صح طلب الوفاء منهم. واندفع ما قال العلامة التفتازاني على ما فيه أنه لا معنى لوفاء غير الفاعل بالعهد، وقيل:- وهو المفهوم من كلام قتادة ومجاهد- أن كليهما مضاف إلى المفعول والمعنى- أوفوا بما عاهدتموني من الإيمان (1) والتزام الطاعة أوف بما عاهدتكم من حسن الإثابة، وتفصيل العهدين قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ إلى قوله سبحانه: وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ [المائدة: 12] إلخ، ويحوج هذا إلى اعتبار أن عهد الآباء عهد الأبناء لتناسبهم في الدين، وإلا فالمخاطبون ب أَوْفُوا ما عوهدوا بالعهد المذكور في الآية، وقيل: إن فسر- الإيفاء- بإتمام العهد تكون الإضافة إلى المفعول في الموضعين، وإن فسر بمراعاته تكون الإضافة الأولى للفاعل والثانية للمفعول وفيه تأمل، ولا يخفى أن للوفاء عرضا عريضا، فأول المراتب الظاهرة منا الإتيان بكلمتي الشهادة، ومنه تعالى حقن الدماء والمال وآخرها منا الفناء حتى عن الفناء، ومنه تعالى التحلية بأنوار الصفات والأسماء- فما روي من الآثار على اختلاف
__________
(1) ذكر الالتزام لأنه قد يعوق عن الفعل عائق، ويعد وافيا اهـ منه.

(1/244)


أسانيدها صحة وضعفا في بيان الوفاء بالعهدين، فبالنظر إلى المراتب المتوسطة، وهي لعمري كثيرة- ولك أن تقول:
«أول» المراتب منا توحيد الأفعال، «وأوسطها» توحيد الصفات.
«وآخرها» توحيد الذات، ومنه تعالى ما يفيضه على السالك في كل مرتبة مما تقتضيه تلك المرتبة من المعارف والأخلاق، وقرأ الزهري «أوّف» بالتشديد، فإن كان موافقا للمجرد فذاك وإن أريد به التكثير- والقلب إليه يميل- فهو إشارة إلى عظيم كرمه وإحسانه، ومزيد امتنانه، حيث أخبر وهو الصادق، أنه يعطي الكثير في مقابلة القليل، وهو صرح بذلك في قوله سبحانه: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الإنعام: 160] وانجزام الفعل لوقوعه في جواب الأمر، والجزم إما به نفسه أو بشرط مقدر وهو اختيار الفارسي ونص سيبويه.
وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ الرهبة الخوف مطلقا، وقيل: مع تحرز، وبه فارق الاتقاء لأنه مع حزم ولهذا كان الأول للعامة، والثاني للأئمة، والأشبه بمواقع الاستعمال أن الاتقاء التحفظ عن المخوف، وأن يجعل نفسه في وقاية منه، والرهبة نفس الخوف، وفي الأمر بها وعيد بالغ، وليس ذلك للتهديد والتهويل كما في اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت:
40] كما وهم لأن هذا مطلوب وذاك غير مطلوب كما لا يخفى وَإِيَّايَ ضمير منفصل منصوب المحل بمحذوف يفسره المذكور، والفاء عند بعضهم جزائية زحلقت من الجزاء المحذوف إلى مفسره ليكون دليلا على تقدير الشرط، ويحتمل أن تكون مفسرة للفاء الجزائية المحذوفة مع الجزاء، ومن أطلق الجزائية عليها فقد توسع، ولا يجوز أن تكون عاطفة لئلا يجتمع عاطفان، واختار صاحب المفتاح أنها للعطف على الفعل المحذوف، فإن أريد التعقيب الزماني أفادت طلب استمرار الرهبة في جميع الأزمنة بلا تخلل فاصل وإن أريد الرتبي كان مفادها طلب الترقي من رهبة إلى رهبة أعلى ولا يقدح في ذلك اجتماعها مع واو العطف مثلا لأنها لعطف المحذوف على ما قبله وهذه الفاء لعطف المذكور على المحذوف وكون فارهبون مفسرا للمحذوف لا يقتضي اتحاده به من جميع الوجوه وأن لا يفيد معنى سوى التفسير حتى لا يصح جعلها عاطفة واستحسن هذا بعض المتأخرين لاشتماله على معنى بديع خلت عنه الجزائية، وقال بعضهم كالمتوسط في المسألة: إنها عاطفة بحسب الأصل، وبعد الحذف زحلقت وجعلت جزائية وعلى كل تقدير فالآية الكريمة آكد في إفادة التخصيص من إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 5] وعد من وجوه التأكيد تقديم الضمير المنفصل وتأخير المتصل والفاء الموجبة معطوفا عليه ومعطوفا أحدهما مظهر والآخر مضمر تقديره إياي ارهبوا فَارْهَبُونِ وما في ذلك من تكرير الرهبة وما فيه من معنى الشرط بدلالة الفاء والمعنى إن كنتم متصفين بالرهبة فخصوني بالرهبة، وحذف متعلق الرهبة للعموم أي ارهبوني في جميع ما تأتون وتذرون، وقيل: ارهبون في نقض العهد ولعل التخصيص به مستفاد من ذكر الأمر بالرهبة معه ثم الخوف خوفان، خوف العقاب وهو نصيب أهل الظاهر، وخوف إجلال وهو نصيب أهل القلوب. وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- أن المعنى ارهبون أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره- ظاهر في قسم أهل الظاهر وهو المناسب بحال هؤلاء المخاطبين- الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون- وحذفت ياء الضمير من ارهبون لأنها فاصلة، وقرأ ابن أبي إسحاق بالياء على الأصل وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ عطف على ما قبله، وظاهره أنه أمر لبني إسرائيل، وقيل: نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه علماء اليهود ورؤسائهم فهو أمر لهم، وأفرد سبحانه الإيمان بعد اندراجه في أَوْفُوا بِعَهْدِي بمجموع الأمر به والحث عليه المستفاد من قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ للإشارة إلى أنه المقصود، والعمدة للوفاء بالعهود، وبِما موصولة، وأَنْزَلْتُ صلته والعائد محذوف أي أنزلته ومصدقا حال إما من الموصول أو من ضميره المحذوف. واللام في لِما مقوية،

(1/245)


والمراد بما أنزلت القرآن، وفي التعبير عنه بذلك تعظيم لشأنه والمراد بما معكم التوراة والتعبير عنها بذلك للإيذان بعلمهم بتصديقه لها فإن المعية مئنة لتكرار المراجعة إليها والوقوف على تضاعيفها المؤدي إلى العلم بكونه مصدقا لها، ومعنى تصديقه لها أنه نازل حسبما نعت فيها، أو مطابق لها في أصل الدين والملة أو لما لم ينسخ كالقصص والمواعظ وبعض المحرمات- كالكذب، والزنا، والربا- أو لجميع ما فيها والمخالفة في بعض جزئيات الأحكام التي هي للأمراض القلبية كالأدوية الطبية للأمراض البدنية المختلفة بحسب الأزمان والأشخاص ليست بمخالفة في الحقيقة بل هي موافقة لها من حيث إن كلّا منها حق في عصره متضمن للحكمة التي يدور عليها فلك التشريع، وليس في التوراة ما يدل على أبدية أحكامها المنسوخة حتى يخالفها ما ينسخها بل إن نطقها بصحة القرآن الناسخ لها نطق بنسخها وانتهاء وقتها الذي شرعت للمصلحة فيه وليس هذا من البداء في شيء كما يتوهمون، فإذن المخالفة في تلك الأحكام المنسوخة إنما هو اختلاف العصر حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتقدم، ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم، وإلى ذلك يشير ما أخرجه الإمام أحمد وغيره
عن جابر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال حين قرأ بين يديه عمر رضي الله تعالى عنه شيئا من التوراة: «لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي» وفي رواية الدارمي «والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل ولو كان حيا وأدرك نبوتي لاتبعني»
وتقييد المنزل بكونه- مصدقا لما معهم- لتأكيد وجوب الامتثال فإن إيمانهم بما معهم يقتضي الإيمان بما يصدقه قطعا، ومن الناس من فسر المنزل بالكتاب- والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم- وما معهم بالتوراة والإنجيل، وليس فيه كثير بعد إلا أن البعيد من وجه جعل- مصدقا- حالا من الضمير المرفوع والأبعد جعل ما مصدرية، ومصدقا حال من- ما- الثانية، وأبعد منه جعله حالا من المصدر المقدر.
وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ أي لا تسارعوا إلى الكفر به فإن وظيفتكم أن تكونوا أول من آمن به لما أنكم تعرفون حقيقة الأمر وحقيته. وقد كنتم من قبل تقولون إنا نكون أول من يتبعه فلا تضعوا موضع ما يتوقع فيكم، ويجب منكم ما يبعد صدوره عنكم ويحرم عليكم من كونكم أول كافر به. وأَوَّلَ في المشهور أفعل لقولهم: هذا أول منك ولا فعل له لأن فاءه وعينه واو. وقد دل الاستقراء على انتفاء الفعل لما هو كذلك وإن وجد فنادر. وما في الشافية من أنه من وول بيان للفعل المقدر. وقيل: أصله- أو أل- من وأل وأولا إذا لجأ ثم خفف بإبدال الهمزة واوا ثم الإدغام وهو تخفيف غير قياسي، والمناسبة الاشتقاقية أن الأول الحقيقي- أعني ذاته تعالى- ملجأ للكل وإن قلنا وأل بمعنى تبادر فالمناسبة أن التبادر سبب الأولية، وقيل أوأل من آل بمعنى رجع، والمناسبة الاشتقاقية على قياس ما ذكر سابقا، وإنما لم يجمع على أو أول لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع، وقال الدريدي: هو فوعل فقلبت الواو الأولى همزة، وأدغمت واو فوعل في عين الفعل، ويبطله ظاهرا منع الصرف وهو خبر عن ضمير الجمع، ولا بد هنا عند الجمهور من تأويل المفضل عليه بجعله مفردا للفظ جمع المعنى أي أَوَّلَ فريق مثلا أو تأويل المفضل أي لا يكن كل واحد منكم، والمراد عموم السلب كما في لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ [القلم: 10] وبعض الناس- لا يوجب في مثل هذا- المطابقة بين النكرة التي أضيف إليها أفعل التفضيل وما جرى هو عليه بل يجوز الوجهان عنده كما في قوله:
وإذا هم طعموا فألأم طاعم ... وإذا هم جاعوا فشر جياع
ومن أوجب أول البيت كالآية ونهيهم عن التقدم في الكفر به مع أن مشركي العرب أقدم منهم لما أن المراد التعريض- فأول- الكافرين غيرهم أو وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ من أهل الكتاب والخطاب للموجودين في زمانه صلى الله تعالى عليه وسلم بل للعلماء منهم، وقد يقال الضمير راجع إلى ما معكم والمراد من- لا تكونوا أول كافر- بما

(1/246)


معكم- لا تكونوا أول كافر- ممن كفر بما معه- ومشركو مكة- وإن سبقوهم في الكفر بما يصدق القرآن حيث سبقوا بالكفر به وهو مستلزم لذلك لكن ليسوا ممن كفر بما معه، والفرق بين لزوم الكفر والتزامه غير بين إلا أنه يخدش هذا الوجه، إن هذا واقع في مقابلة آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ فيقتضي اتحاد متعلق الكفر والإيمان، وقيل: يقدر في الكلام مثل، وقيل: يقدر- ولا تكونوا أول كافر- وآخره وقيل: أَوَّلَ زائدة، والكل بعيد، وبحمل التعريض على سبيل الكناية يظهر وجه التقييد بالأولية، وقيل: إنها مشاكلة لقولهم إنا نكون أول من يتبعه، وقد يقال: إنها بمعنى السبق، وعدم التخلف، فافهم وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا الاشتراء مجاز عن الاستبدال لاختصاصه بالأعيان إما باستعمال المقيد في المطلق- كالمرسن في الأنف- أو تشبيه الاستبدال المذكور في كونه مرغوبا فيه بالاشتراء الحقيقي، والكلام على الحذف- أي لا تستبدلوا بالإيمان بآياتي، والاتباع لها- حظوظ الدنيا الفانية القليلة المسترذلة بالنسبة إلى حظوظ الآخرة وما أعد الله تعالى للمؤمنين من النعيم العظيم الأبدي، والتعبير عن ذلك- بالثمن- مع كونه مشتري لا مشترى به للدلالة على كونه كالثمن في الاسترذال والامتهان، ففيه تقريع وتجهيل قوي حيث إنهم قلبوا القضية وجعلوا المقصود آلة والآلة مقصودة وإغراب لطيف حيث جعل المشتري ثمنا بإطلاق الثمن عليه، ثم جعل الثمن مشترى بإيقاعه بدلا لما جعله ثمنا بإدخال الباء عليه «فإن قيل» : الاشتراء بمعنى الاستبدال بالإيمان بالآيات إنما يصح إذا كانوا مؤمنين بها ثم تركوا ذلك للحظوظ الدنيوية وهم بمعزل عن الإيمان، أجيب بأن مبنى ذلك على أن الإيمان بالتوراة الذي يزعمونه إيمان بالآيات كما أن الكفر بالآيات كفر بالتوراة فيتحقق الاستبدال، ومن الناس من جعل الآيات كناية عن الأوامر والنواهي التي وقفوا عليها في أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم من التوراة والكتب الإلهية أو ما علموه من نعته الجليل وخلقه العظيم عليه الصلاة والسلام، وقد كانوا يأخذون كل عام شيئا معلوما من زروع أتباعهم وضروعهم ونقودهم فخافوا إن بينوا ذلك لهم وتابعوه صلّى الله عليه وسلّم أن يفوتهم ذلك فضلوا وأضلوا، وقيل: كان ملوكهم يدرّون عليهم الأموال ليكتموا ويحرفوا، وقيل: غير ذلك، وقد استدل بعض أهل العلم بالآية على منع جواز أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله تعالى والعلم، وروي في ذلك أيضا أحاديث لا تصح. وقد صح
أنهم قالوا: «يا رسول الله أنأخذ على التعليم أجرا؟ فقال: إن خير ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله تعالى»
وقد تظافرت أقوال العلماء على جواز ذلك وإن نقل عن بعضهم الكراهة، ولا دليل في الآية على ما ادعاه هذا الذاهب كما لا يخفى والمسألة مبينة في الفروع.
وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ بالإيمان واتباع الحق والإعراض عن الاشتراء بآيات الله تعالى الثمن القليل والعرض الزائل، وإنما ذكر في الآية الأولى فَارْهَبُونِ وهنا فَاتَّقُونِ لأن الرهبة دون التقوى فحيثما خاطب الكافة عالمهم ومقلدهم وحثهم على ذكر النعمة التي يشتركون فيها أمرهم بالرهبة التي تورث التقوى ويقع فيها الاشتراك ولذا قيل الخشية ملاك الأمر كله، وحيثما أراد بالخطاب فيما بعد- العلماء منهم، وحثهم على الإيمان ومراعاة الآيات- أمرهم بالتقوى التي أولها ترك المحظورات وآخرها التبري مما سوى غاية الغايات، وليس وراء عبادان قرية.
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ هذا النهي مع ما بعده معطوف على مجموع الآية التي قبله وهي قوله تعالى:
وَآمِنُوا إلخ، وهذا كما قالوا في قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ [الحديد: 3] إن مجموع الوصفين الأخيرين بعد اعتبار التعاطف معطوف على مجموع الأولين كذلك، ويجوز العطف على جملة واحدة من الجمل السابقة إلا أن المناسبة على الأول أشد والملاءمة أتم. واللبس (1) بفتح اللام الخلط، وفعله لبس من باب ضرب
__________
(1) وأما- اللبس- بضم اللام وفعله من باب علم فمعناه پوشيدن جامه كما في التاج، ويفهم ذلك من الصحاح اهـ منه.

(1/247)


ويكون بمعنى الاشتباه إما بالاشتراك أو الحقيقة والمجاز: والباء إما للتعدية أو للاستعانة واللام في- الحق والباطل- للعهد أي لا تخلطوا الحق المنزل في التوراة بالباطل الذي اخترعتموه وكتبتموه أو لا تجعلوا ذلك ملتبسا مشتبها غير واضح لا يدركه الناس بسبب الباطل وذكره، ولعل الأول أرجح لأنه أظهر وأكثر لا لأن جعل وجود الباطل سببا لالتباس الحق ليس أولى من العكس لما أنه لما كان المذموم هو التباس الحق بالباطل- وإن لزمه العكس وكان هذا طارئا على ذلك- استحق الأولوية التي نفيت وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ مجزوم بالعطف على تَلْبِسُوا فالنهي عن كل واحد من الفعلين، وجوزوا أن يكون منصوبا على إضمار- أن- وهو عند البصريين عطف على مصدر متوهم. وروى الجرمي إن النصب بنفس الواو- وهي عندهم بمعنى مع- وتسمى واو الجمع وواو الصرف لأنها مصروف بها الفعل عن العطف، والمراد لا يكن منكم لبس الحق على من سمعه وكتمان الحق وإخفاؤه عمن لم يسمعه، والقصد أن ينعى عليهم سوء فعلهم الذي هو الجمع بين أمرين كل منهما مستقل بالقبح، ووجوب الانتهاء وطريق واسع إلى الإضلال والإغواء، وحيث كان التلبيس بالنسبة إلى من سمع، والكتمان إلى من لم يسمع اندفع السؤال بأن النهي عن الجمع بين شيئين إنما يتحقق إذا أمكن افتراقهما في الجملة وليس- لبس الحق بالباطل مع كتمان الحق كذلك- ضرورة أن لبس الحق بالباطل كتمان له، وكرر الحق إما لأن المراد بالأخير ليس عين الأول بل هو نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة وإما لزيادة تقبيح المنهي عنه إذ في التصريح باسم الحق ما ليس في ضميره، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه- وتكتمون- وخرجت على أن الجملة في موضع الحال- أي وأنتم تكتمون أو كاتمين- وفي جواز اقتران الحال المصدرة بالمضارع بالواو قولان، وليس للمانع دليل يعتمد عليه، وهذه الحال عند بعض المحققين لازمة والتقييد لإفادة التعليل كما في- لا تضرب زيدا وهو أخوك- وعليه يكون المراد بكتمان الحق ما يلزم من لبس الحق بالباطل لا إخفائه عمن لا يسمع، وجوز أن تكون معطوفة على جملة النهي على مذهب من يرى جواز ذلك- وهو سيبويه وجماعة- ولا يشترط التناسب في عطف الجمل وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جملة حالية ومفعول تَعْلَمُونَ محذوف اقتصارا- أي وأنتم من ذوي العلم- ولا يناسب من كان عالما أن يتصف بالحال الذي أنتم عليه، ولا يبعد أن يكون الحذف للاختصار- أي وأنتم تعلمون أنكم لابسون كاتمون- أو تعلمون صفته صلّى الله عليه وسلّم أو البعث والجزاء، والمقصود من تقييد النهي بالعلم زيادة تقبيح حالهم لأن الإقدام على هاتيك الأشياء القبيحة مع العلم بما ذكر أفحش من الإقدام عليها مع الجهل- وليس من يعلم كمن لا يعلم- وجوز ابن عطية أن تكون هذه الجملة معطوفة وإن كانت ثبوتية على ما قبلها من جملة النهي، وإن لم تكن مناسبة في الاخبار، وهي عنده شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وليست شاهدة بالعلم على الإطلاق إذ هم بمراحل عنه، واستدل بالآية على أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه بالشروط المعروفة لدى العلماء وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ المراد بهما- سواء كانت اللام للعهد أو للجنس- صلاة المسلمين وزكاتهم لأن غيرهما مما نسخه القرآن ملتحق بالعدم، والزكاة في الأصل النماء والطهارة، ونقلت شرعا لإخراج معروف فإن نقلت من الأول فلأنها تزيد بركة المال وتفيد النفس فضيلة الكرم، أو لأنها تكون في المال النامي وإن نقلت من الثاني فلأنها تطهر المال من الخبث والنفس من البخل. واستدل بالآية حيث كانت خطابا لليهود من قال: إن الكفار مخاطبون بالفروع واحتمال أن يكون الأمر فيها بقبول الصلاة المعروفة والزكاة والإيمان بهما، أو أن يكون أمرا للمسلمين- كما قاله الشيخ أبو منصور- خلاف الظاهر فلا ينافي الاستدلال بالظاهر، وقدم الأمر بالصلاة لشمول وجوبها ولما فيها من الإخلاص والتضرع للحضرة، وهي أفضل العبادات البدنية وقرنها بالزكاة لأنها أفضل العبادات المالية، ثم من قال: لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب قال إنما جاء هذا بعد أن بين صلّى الله عليه وسلّم أركان ذلك وشرائطه، ومن قال بجوازه قال
بجواز أن يكون الأمر لقصد أن يوطن السامع نفسه- كما يقول السيد لعبده

(1/248)


إني أريد أن آمرك بشيء فلا بد أن تفعله وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ أي صلوا مع المصلين وعبر بالركوع عن الصلاة احترازا عن صلاة اليهود فإنها لا ركوع فيها وإنما قيد ذلك بكونه مع الراكعين لأن اليهود كانوا يصلون وحدانا فأمروا بالصلاة جماعة لما فيها من الفوائد ما فيها، واستدل به بعضهم على وجوبها ومن لم يقل به حمل الأمر على الندب أو المعية على الموافقة وإن لم يكونوا معهم وقيل: الركوع- الخضوع والانقياد لما يلزمهم من الشرع قال الأضبط السعدي:
لا تذل الفقير علّك أن ... «تركع» يوما والدهر قد رفعه
ولعل الأمر به حينئذ بعد الأمر بالزكاة لما أنها مظنة ترفع فأمروا بالخضوع لينتهوا عن ذلك إلا أن الأصل في إطلاق الشرع المعاني الشرعية: وفي المراد بالراكعين قولان: فقيل، النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وقيل: الجنس وهو الظاهر «ومن باب الإشارة» في قوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ إلخ أي لا تقطعوا على أنفسكم طريق الوصول إلى الحق بالباطل الذي هو تعلق القلب بالسوي- فإن أصدق كلمة قالها شاعر- لكمة لبيد.
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ولا تَكْتُمُوا الْحَقَّ بالتفاتكم إلى غيره سبحانه وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه ليس لغيره وجود حقيقي أو لا تخلطوا صفاته تعالى الثابتة الحقة بالباطل الذي هو صفات نفوسكم ولا تكتموها بحجاب صفات النفس وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ من علم توحيد الأفعال أن مصدر الفعل هو الصفة فكما لم تسندوا الفعل إلى غيره لا تثبتوا صفته لغيره وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ بمراقبة القلوب وَآتُوا الزَّكاةَ أي بالغوا في تزكية النفس عن الصفات الذميمة لتحصل لكم التحلية بعد التخلية. أو أدوا زكاة الهمم فإن لها زكاة كزكاة النعم بل إن لكل شيء زكاة كما قيل:
كل شيء له «زكاة» تؤدى ... وزكاة- الجمال رحمة مثلي
وَارْكَعُوا أي اخضعوا لما يفعل بكم المحبوب، فالخضوع علامة الرضا الذي هو ميراث تجلي الصفات العلى، وحاصله ارضوا بقضائي عند مطالعة صفاتي فإن لي أحبابا لسان حال كل منهم يقول:
وتعذيبكم عذب لديّ وجوركم ... عليّ بما يقضي الهوى لكم عدل
ثم إنه تعالى لما أمرهم بفعل الخير شكرا لما خصهم به من النعم حرضهم على ذلك من مأخذ آخر بقوله سبحانه: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ والهمزة فيه للتقرير مع توبيخ وتعجيب والبر- سعة المعروف والخير، ومنه البر، والبرية للسعة، ويتناول كل خير، والنسيان- كما في البحر- السهو الحادث بعد العلم. والمراد به هنا الترك لأن أحدا لا ينسى نفسه بل يحرمها ويتركها كما يترك الشيء المنسي مبالغة في عدم المبالاة والغفلة فيما ينبغي أن يفعله، وقد نزلت هذه الآية- على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- في أحبار المدينة كانوا يأمرون سرا من نصحوه باتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم ولا يتبعونه وقيل: إنهم كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون فالمراد بالبر هنا إما الإيمان أو الإحسان، وتركه بعضهم على ظاهره متناولا كل خير على ما قال السدي: إنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله تعالى وينهونهم عن معصيته وهم كانوا يتركون الطاعة ويقدمون على المعصية، والتوبيخ ليس على أمر الناس بِالْبِرِّ نفسه بل لمقارنته بالنسيان المذكور وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أي التوراة، والجملة حال من فاعل أَتَأْمُرُونَ، والمراد التبكيت وزيادة التقبيح أَفَلا تَعْقِلُونَ أصل هذا الكلام ونحوه عند الجمهور كان بتقديم حرف العطف على الهمزة لكن لما كان للهمزة صدر الكلام قدمت على حرف العطف، وبعضهم ذهب إلى أنه لا تقديم ولا تأخير ويقدر بين الهمزة وحرف العطف ما يصح العطف عليه، والعقل- في الأصل المنع والإمساك، ومنه- عقال البعير- سمي به النور الروحاني الذي به تدرك النفوس العلوم الضرورية والنظرية لأنه يحبس عن تعاطي ما يقبح ويعقل

(1/249)


على ما يحسن، والفعل يحتمل أن يكون مطلقا أجري مجرى اللازم، ويحتمل أن يكون متعديا مقدرا لمفعول، والمعنى- أفلا عقل لكم يمنعكم عما تعلمون سوء خاتمته ووخامة عاقبته- أو أَفَلا تَعْقِلُونَ قبح صنيعكم شرعا لمخالفة ما تتلونه في التوراة. وعقلا لكونه جمعا بين المتنافيين، فإن المقصود من الأمر بِالْبِرِّ الإحسان والامتثال، والزجر عن المعصية، ونسيانهم أنفسهم ينافي كل هذه الأغراض، ولا نزاع في كون قبح الجمع بين ذلك عقلا بمعنى كونه باطلا فعلى هذا لا حجة للمعتزلة في الآية على القبح العقلي الذي يزعمونه بل قد ادعى بعض المحققين أنها دليل على خلاف ما ذهبوا إليه لأنه سبحانه رتب التوبيخ على ما صدر منهم بعد تلاوة الكتاب وكذا لا حجة فيها لمن زعم أنه ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لأن التوبيخ على جمع الأمرين بالنظر للثاني فقط لا منع الفاسق عن الوعظ فإن النهي عن المنكر لازم ولو لمرتكبه فإن ترك النهي ذنب وارتكابه ذنب آخر، وإخلاله بأحدهما لا يلزم منه الإخلال بالآخر، ثم إن هذا التوبيخ والتقريع- وإن كان خطابا لبني إسرائيل- إلا أنه عام- من حيث المعنى- لكل واعظ يأمر ولا يأتمر، ويزجر ولا ينزجر، ينادي الناس البدار البدار، ويرضى لنفسه التخلف والبوار، ويدعو الخلق إلى الحق، وينفر عنه، ويطالب العوام بالحقائق ولا يشم ريحها منه. وهذا هو الذي يبدأ بعذابه قبل عبدة الأوثان، ويعظم ما يلقى لوفور تقصيره يوم لا حاكم إلا الملك الديان.
وعن محمد بن واسع قال: بلغني أن أناسا من أهل الجنة اطلعوا على ناس من أهل النار، فقالوا لهم: قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة، قالوا: كنا نأمركم بها، ونخالف إلى غيرها، هذا ومن الناس من جعل هذا الخطاب للمؤمنين، وحمل الكتاب على القرآن، فيكون ذلك من تلوين الخطاب- كما في- يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي [يوسف: 29] والظاهر يبعده وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ لما أمرهم سبحانه بترك الضلال والإضلال والتزام الشرائع، وكان ذلك شاقا عليهم- لما فيه من فوات محبوبهم وذهاب مطلوبهم- عالج مرضهم بهذا الخطاب، و «الصبر» حبس النفس على ما تكره، وقدمه على الصلاة- لأنها لا تكمل إلا به- أو لمناسبته لحال المخاطبين، أو لأن تأثيره- كما قيل- في إزالة ما لا ينبغي، وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح- واللام- فيه للجنس، ويجوز أن يراد بالصبر نوع منه- وهو الصوم- بقرينة ذكره مع الصلاة- والاستعانة بالصبر- على المعنى الأول لما يلزمه من انتظار الفرج والنجح- توكلا على من لا يخيب المتوكلين عليه- ولذا قيل:
الصبر مفتاح الفرج، وبه- على المعنى الثاني- لما فيه من كسر الشهوة وتصفية النفس الموجبين للانقطاع إلى الله تعالى- الموجب لإجابة الدعاء- وأما الاستعانة ب الصَّلاةِ فلما فيها من أنواع العبادة، مما يقرب إلى الله تعالى قربا يقتضي الفوز بالمطلوب والعروج إلى المحبوب، وناهيك من عبادة تكرر في اليوم والليلة خمس مرات يناجي فيها العبد علام الغيوب، ويغسل بها العاصي درن العيوب،
وقد روى حذيفة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم إذا حزنه أمر صلى،
وروى أحمد أنه إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة،
وحمل الصلاة على الدعاء في الآية وكذا في الحديث لا يخلو عن بعد، وأبعد منه كون المراد بالصبر الصبر على الصلاة.
وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الضمير للصلاة- كما يقتضيه الظاهر، وتخصيصها- برد الضمير إليها- لعظم شأنها واستجماعها ضروبا من الصبر، ومعنى- كبرها- ثقلها وصعوبتها على من يفعلها، على حد قوله تعالى:
كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى: 13] والاستثناء مفرغ أي لَكَبِيرَةٌ على كل أحد إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ وهم المتواضعون المستكينون، وأصل- الخشوع- الإخبات، ومنه الخشعة- بفتحات- الرمل المتطامن، وإنما لم تثقل عليهم، لأنهم عارفون بما يحصل لهم فيها متوقعون ما ادخر من ثوابها فتهون عليهم، ولذلك قيل: من

(1/250)


عرف ما يطلب، هان عليه ما يبذل، ومن أيقن بالخلف، جاد بالعطية، وجوّز رجوع الضمير إلى- الاستعانة- على حد اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: 8] ورجح بالشمول، وما يقال: إن الاستعانة ليست ب لَكَبِيرَةٌ لا طائل تحته، فإن الاستعانة ب الصَّلاةِ أخص من فعل الصلاة لأنها أداؤها- على وجه الاستعانة بها على الحوائج- أو على سائر الطاعات لاستجرارها ذلك، وقيل: يجوز أن يكون من أسلوب وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 8] وقوله:
إن شرخ الشباب والشعر الأس ... ود ما لم يعاص كان جنونا
والتأنيث مثله في قوله تعالى على رأي وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها [التوبة: 34] أو المراد كل خصلة منها، وقيل: الضمير راجع إلى المذكورات المأمور بها والمنهي عنها، ومشقتها عليهم ظاهرة، وهو أقرب مما قاله الأخفش من رجوعه إلى إجابة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، والبعيد بل الأبعد عوده إلى الكعبة المفهومة من ذكر الصلاة الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ الظن في الأصل الحسبان- واللقاء- وصول أحد الجسمين إلى الآخر بحيث يماسه، والمراد من ملاقاة الرب سبحانه، إما ملاقاة ثوابه أو الرؤية عند من يجوزها، وكل منهما مظنون متوقع لأنه وإن علم الخاشع أنه لا بد من ثواب للعمل الصالح، وتحقق أن المؤمن يرى ربه يوم المآب- لكن من أين يعلم ما يختم به عمله- ففي وصف أولئك بالظن إشارة إلى خوفهم، وعدم أمنهم مكر ربهم فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الأعراف: 99] . وفي تعقيب الخاشعين به حينئذ لطف لا يخفى، إلا أن عطف ... أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ على ما قبله- يمنع حمل الظن على ما ذكر- لأن الرجوع إليه تعالى- المفسر بالنشور- أو المصير إلى الجزاء مطلقا، مما لا يكفي فيه الظن والتوقع- بل يجب القطع به- اللهم إلا أن يقدر له عامل- أي ويعلمون- أو يقال: إن الظن متعلق بالمجموع من حيث هو مجموع، وهو كذلك غير مقطوع به- وإن كان أحد جزئيه مقطوعا- أو يقال: إن الرجوع إلى الرب هنا المصير إلى جزائه الخاص، أعني الثواب بدار السلام، والحلول بجواره جل شأنه- والكل خلاف الظاهر- ولهذا اختير تفسير الظن باليقين مجازا، ومعنى التوقع والانتظار في ضمنه، ولقاء الله تعالى بمعنى الحشر إليه، والرجوع بمعنى المجازاة- ثوابا أو عقابا- فكأنه عز شأنه قال: يعلمون أنهم يحشرون إليه فيجازيهم متوقعين لذلك، وكأن النكتة في استعمال الظن المبالغة في إيهام أن من ظن ذلك لا يشق عليه ما تقدم- فكيف من تيقنه- والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعلية الربوبية- والمالكية للحكم- وجعل خبر «أن» في الموضعين اسما للدلالة على تحقق اللقاء والرجوع وتقررهما عنده، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يعلمون وهي تؤيد هذا التفسير.
«ومن باب الإشارة» أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ الذي هو الفعل الجميل الموجب لصفاء القلب وزكاء النفس ولا تفعلون ما ترتقون به من مقام تجلي الأفعال إلى تجلي الصفات وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ فطرتكم الذي يأمركم بالدين السالك بكم سبيل التوحيد أَفَلا تَعْقِلُونَ فتقيدون مطلقات صفاتكم الذميمة بعقال ما أفيض عليكم من الأنوار القديمة، واطلبوا المدد والعون ممن له القدرة الحقيقية بِالصَّبْرِ على ما يفعل بكم، لكي تصلوا إلى مقام الرضا وَالصَّلاةِ التي هي المراقبة وحضور القلب لتلقي تجليات الرب، وإن المراقبة لشاقة- إلا على- المنكسرة قلوبهم، اللينة أفئدتهم لقبول أنوار التجليات اللطيفة، واستيلاء سطواتها القهرية، فهم الذين يتيقنون أنهم بحضرة ربهم وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ بفناء صفاتهم ومحوها في صفاته فلا يجدون في الدار إلا شؤون الملك اللطيف القهار يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ كرر التذكير للتأكيد والإيذان بكمال غفلتهم عن القيام بحقوق النعمة، وليربط ما بعده من الوعد الشديد به لتتم الدعوة بالترغيب والترهيب، فكأنه قال سبحانه: إن لم تطيعوني لأجل سوابق

(1/251)


نعمتي، فأطيعوني للخوف من لواحق عقابي، ولتذكير التفضيل الذي هو أجل النعم، فإنه لذلك يستحق أن يتعلق به التذكير بخصوصه مع التنبيه على أجليته بتكرير النعمة التي هو فرد من أفرادها وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ عطف على نعمتي من عطف الخاص على العام، وهو مما انفردت به- الواو- كما في البحر، ويسمى هذا النحو من العطف- بالتجريد- كأنه جرد المعطوف من الجملة، وأفرد بالذكر اعتناء به، والكلام على حذف مضاف، أي فضلت آباءكم- وهم الذين كانوا قبل التغيير، أو باعتبار أن نعمة الآباء نعمة عليهم، قال الزجاج: والدليل على ذلك قوله تعالى:
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ إلخ، والمخاطبون لم يروا فرعون ولا آله، ولكنه تعالى أذكرهم أنه لم يزل منعما عليهم، والمراد ب الْعالَمِينَ سائر الموجودين في وقت التفضيل، وتفضيلهم بما منحهم من النعم المشار إليها بقوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً [المائدة: 20] فلا يلزم من الآية تفضيلهم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا على أمته، الذين هم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:
110] وكذا لا يصح الاستدلال بها على أفضلية البشر على الملائكة من جميع الوجوه- ولو صح ذلك- يلزم تفضيل عوامهم على خواص الملائكة، ولا قائل به.
«ومن اللطائف» أن الله سبحانه وتعالى أشهد بني إسرائيل فضل أنفسهم فقال: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ إلخ، وأشهد المسلمين فضل نفسه فقل: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس: 58] فشتان من مشهوده فضل ربه، ومن مشهوده فضل نفسه «فالأول» يقتضي الفناء «والثاني» يقتضي الإعجاب، والحمد لله الذي فضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً اليوم الوقت، وانتصابه إما على الظرف والمتقى محذوف- أي واتقوا العذاب يَوْماً- وإما مفعول به- واتقاؤه- بمعنى- اتقاء ما فيه- إما مجازا بجعل الظرف عبارة عن المظروف أو كناية عنه للزومه له، وإلا- فالاتقاء- من نفس- اليوم- مما لا يمكن، لأنه آت لا محالة، ولا بد أن يراه أهل الجنة والنار جميعا، والممكن المقدور- اتقاء- ما فيه بالعمل الصالح، وتَجْزِي من جزى بمعنى قضى، وهو متعد بنفسه لمفعوله الأول، وبعن للثاني- وقد ينزل منزلة اللازم للمبالغة- والمعنى لا تقضي يوم القيامة نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً مما وجب عليها، ولا تنوب عنها، ولا تحتمل مما أصابها، أو لا تقضي عنها شيئا من الجزاء، فنصب شَيْئاً إما على أنه- مفعول به- أو على أنه- مفعول مطلق- قائم مقام المصدر، أي جزاء ما. وقرأ أبو السماك «ولا تجزىء» من أجزأ عنه إذا أغنى، فهو لازم، وشَيْئاً مفعول مطلق لا غير، والمعنى لا تغني نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً من الإغناء- ولا تجديها نفعا- وتنكير الأسماء للتعميم في الشفيع والمشفوع، وما فيه الشفاعة، وفيه من التهويل والإيذان بانقطاع المطامع ما لا يخفى، كما يشير إليه قوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 34- 37] والجملة في المشهور صفة يوم والرابط محذوف، أي «لا تجزي فيه» ولم يجوز الكسائي حذف المجرور إذا لم يتعين، فلا تقول: رأيت رجلا أرغب، وأنت تريد أرغب فيه، ومذهبه في هذا التدريج، وهو أن يحذف حرف الجر أولا حتى يتصل الضمير بالفعل- فيصير منصوبا- فيصح حذفه كما في قوله:
فما أدرى أغيّرهم تناء ... وطول العهد أو مال أصابوا
يريد أصابوه، وقد يجوز- على رأي الكوفيين- أن لا تكون الجملة صفة، بل مضاف إليها «يوم» محذوف- لدلالة ما قبله عليه- فلا تحتاج إلى ضمير، ويكون ذلك المحذوف- بدلا من المذكور- ومن ذلك ما حكاه الكسائي- أطعمونا لحما سمينا، شاة ذبحوها- بجر شاة- على تقدير- لحم شاة- وحكى الفراء مثل ذلك، ومنه قوله:

(1/252)


رحم الله أعظما دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات
في رواية من خفض طلحة، والبصريون لا يجوّزون حذف المضاف، وترك المضاف إليه على خفضه، ويقولون بشذوذ ما ورد من ذلك، وقرأ أبو سرار «لا تجزي نسمة عن نسمة» وهي بمعنى النفس.
وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ الشفاعة- كما في البحر- ضم غيره إلى وسيلته- وهي من الشفع ضد الوتر- لأن الشفيع ينضم إلى الطالب في تحصيل ما يطلب- فيصير شفعا بعد أن كان فردا- و «العدل» الفدية، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وروي عنه أيضا- البدل- أي رجل مكان رجل، وأصل «العدل» - بفتح العين- ما يساوي الشيء- قيمة وقدرا- وإن لم يكن من جنسه- وبكسرها- المساوي في الجنس والجرم، ومن العرب من يكسر- العين- من معنى الفدية، وذكر الواحدي أن عَدْلٌ الشيء- بالفتح والكسر- مثله، وأنشد قول كعب بن مالك:
صبرنا لا نرى لله «عدلا» ... على ما نابنا متوكلينا
وقال ثعلب: العدل الكفيل والرشوة- ولم يؤثر في الآية- والضميران المجروران- بمن- إما راجعان إلى النفس الثانية لأنها أقرب مذكور ولموافقته لقوله تعالى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ولأنه المتبادر من قوله: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ ومعنى عدم قبول الشفاعة حينئذ أنها إن جاءت بشفاعة شفيع لم تقبل منها وإما إلى الأولى لأنها المحدث عنها، والثانية فضلة ولأن المتبادر من نفي قبول الشفاعة أنها لو شفعت لم تقبل شفاعتها، وحينئذ معنى عدم- أخذ العدل- من الأولى أنه لو أعطى عدلا من الثانية لم يؤخذ، وكأن في الآية على هذا نوعا من الترقي ارتكب هنا وإن لم يرتكب في مقام آخر كأنه قيل: إن النفس الأولى لا تقدر على استخلاص صاحبتها من قضاء الواجبات وتدارك التبعات لأنها مشغولة عنها بشأنها، ثم إن قدرت على نفي ما كان بشفاعة لا يقبل منها، وإن زادت عليه بأن ضمت الفداء فلا يؤخذ منها، وإن حاولت الخلاص بالقهر والغلبة- وأنى لها ذلك- فلا تتمكن منه، واختار الكواشي جعل الضمير الأول للنفس الأولى، والثاني للثانية على اللف والنشر لما فيه من إجراء الجملتين على المعنى الظاهر منهما، ويهوّن أمر التفكيك الاتضاح، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو- ولا تقبل- بالتاء، وسفيان يُقْبَلُ بفتح الياء، ونصب شَفاعَةٌ على البناء للفاعل، وفيه التفات من ضمير المتكلم في نِعْمَتِيَ إلخ إلى ضمير الغائب وبناؤه للمفعول أبلغ.
وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ النصر في الأصل المعونة، ومنه أرض منصورة ممدودة بالمطر، والمراد به هنا ما يكون بدفع الضرر- أي ولا هم يمنعون من عذاب الله عز وجل- والضمير راجع إلى ما دلت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة في سياق النفي من النفوس الكثيرة فيكون من قبيل ما تقدم ذكره معنى بدلالة لفظ آخر، وإما إلى النفس المنكرة من حيث كونها لعمومها بالنفي في معنى الكثرة كما قيل في قوله تعالى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة:
47] وأتى به مذكرا لتأويل النفوس بالعباد والأناسي، وفيه تنبيه على أن تلك النفوس عبيد مقهورون مذللون تحت سلطانه تعالى، وأنهم ناس كسائر الناس في هذا الأمر، وعوده إلى النفسين بناء على أن التثنية جمع ليس بشيء، وجعل النفي- منسحبا على جملة اسمية للتقوى، ورفع هُمْ على الابتداء والجملة بعده خبره، وجعله مفعولا لما لم يسم فاعله والفعل بعده مفسّر فتوافق الجمل- لا أوافق على اختياره- وإن ذهب إليه بعض الأجلة- وتمسك المعتزلة بعموم الآية، على نفي الشفاعة لأهل الكبائر- وكون الخطاب للكفار والآية نازلة فيهم- لا يدفع العموم المستفاد من اللفظ، وأجيب بالتخصيص من وجهين، الأول بحسب المكان والزمان فإن مواقف القيامة ومقدار زمانها فيها سعة وطول، ولعل هذه الحالة في ابتداء وقوعها وشدته ثم يأذن بالشفاعة، وقد قيل: مثل ذلك في الجمع بين قوله تعالى: فَلا

(1/253)


أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ
[المؤمنون: 101] وقوله تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات:
27] وكون مقام الوعيد يأبى عنه غير مسلم، والثاني بحسب الأشخاص إذ لا بد لهم من التخصيص في غير العصاة لمزيد الدرجات فليس العام باقيا على عمومه عندهم وإلا اقتضى نفي زيادة المنافع وهم لا يقولون به، ونحن نخصص في العصاة بالأحاديث الصحيحة البالغة حد التواتر، وحيث فتح باب التخصيص نقول أيضا ذلك النفي مخصص بما قبل الإذن، لقوله تعالى: لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ [سبأ: 23] وهو تخصيص له دليل، وتخصيصهم لا يظهر له دليل على أن الشفاعة بزيادة المنافع يكاد أن لا تكون شفاعة وإلا لكنا شفعاء الرسول صلّى الله عليه وسلم عند الصلاة عليه مع أن الإجماع وقع منا ومنهم على أنه هو الشفيع، وأيضا في قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [محمد: 19] ما يشير إلى الشفاعة التي ندعيها- ويحث على التخصيص الذي نذهب إليه- رزقنا الله تعالى الشفاعة وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة، ولما قدم سبحانه ذكر نعمه إجمالا أراد أن يفصل ليكون أبلغ في التذكير وأعظم في الحجة فقال: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وهو على الشائع عطف على نِعْمَتِيَ بتقدير اذْكُرُوا كيلا يلزم الفصل بين المعطوفين بأجنبي وهو اتَّقُوا وقد تقدم قبل ما ينفعك هنا، وقرىء- أنجيناكم، وأنجيتكم- ونسبت الأولى للنخعي، والآل قيل: بمعنى الأهل وإن ألفه بدل عن هاء، وإن تصغيره أهيل، وبعضهم ذهب إلى أن ألفه بدل من همزة ساكنة وتلك الهمزة بدل من هاء، وقيل: ليس بمعنى الأهل لأن الأهل القرابة والآل من يؤول إليك في قرابة أو رأي أو مذهب، فألفه بدل من واو، ولذلك قال يونس في تصغيره: أويل، ونقله الكسائي نصا عن العرب، وروي عن أبي عمر- غلام ثعلب- أن الأهل القرابة كان لها تابع أو لا، والآل القرابة بتابعها فهو أخص من الأهل، وقد خصوه أيضا بالإضافة إلى أولي الخطر فلا يضاف إلى غير العقلاء ولا إلى من لا خطر له منهم، فلا يقال- آل الكوفة، ولا- آل الحجام- وزاد بعضهم اشتراط التذكير فلا يقال- آل فاطمة- ولعل كل ذلك أكثريّ وإلا فقد ورد على خلاف ذلك- كآل اعوج- اسم فرس وآل المدينة وآل نعم، وآل الصليب. وآلك- ويستعمل غير مضاف- كهم خير آل- ويجمع- كأهل- فيقال آلون: وفرعون لقب لمن ملك العمالقة- ككسرى لملك الفرس، وقيصر لملك الروم، وخاقان لملك الترك، وتبع لملك اليمن، والنجاشي لملك الحبشة- وقال السهيلي: هو اسم لكل من ملك القبط ومصر، وهو غير منصرف للعلمية والعجمة، وقد اشتق منه باعتبار ما يلزمه فقيل: تفر عن الرجل إذا تجبر وعتا.
واسم فرعون هذا الوليد بن مصعب- قاله ابن إسحاق، وأكثر المفسرين- وقيل: أبوه مصعب بن ريان حكاه ابن جرير، وقيل: قنطوس حكاه مقاتل، وذكر وهب بن منبه أن أهل الكتابين قالوا: إن اسمه قابوس، وكنيته أبو مرة وكان من القبط، وقيل: من بني عمليق أو عملاق بن لاوز بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام، وهم أمم تفرقوا في البلاد، وروي أنه من أهل إصطخر ورد إلى مصر فصار بها ملكا، وقيل: كان عطارا بأصفهان ركبته الديون فدخل مصر وآل أمره إلى ما آل- وحكاية البطيخ شهيرة- وقد نقلها مولانا مفتي الديار الرومية في تفسيره، والصحيح أنه غير فرعون يوسف عليه السلام، وكان اسمه- على المشهور- الريان بن الوليد، وقد آمن بيوسف ومات في حياته وهو من أجداد فرعون المذكور على قول، ويؤيد الغيرية أن بين دخول يوسف ودخول موسى عليهما السلام أكثر من أربعمائة سنة، والمراد ب آلِ فِرْعَوْنَ هنا أهل مصر أو أهل بيته خاصة أو أتباعه على دينه، وب نَجَّيْناكُمْ أنجينا آباءكم، وكذا نظائره فلا حجة فيها لتناسخي، وهذا في كلام العرب شائع كقول حسان:
ونحن قتلناكم ببدر فأصبحت ... عساكركم في الهالكين «تجول»
ويَسُومُونَكُمْ من السوم، وأصله الذهاب للطلب، ويستعمل للذهاب وحده تارة، ومنه السائمة، وللطلب

(1/254)


أخرى، ومنه السوم في البيع، ويقال: سامه كلفه العمل الشاق، والسوء- مصدر ساء يسوء، ويراد به السيئ، ويستعمل في كل ما يقبح- كأعوذ بالله تعالى من سوء الخلق وسُوءَ الْعَذابِ أفظعه وأشده بالنسبة إلى سائره، وهو منصوب على المفعولية ل يَسُومُونَكُمْ بإسقاط حرف الجر أو بدونه، والجملة يحتمل أن تكون مستأنفة، وهي حكاية حال ماضية، ويحتمل أن تكون في موضع الحال من ضمير نَجَّيْناكُمْ أو مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وهو الأقرب، والمعنى يولونكم أو يكلفونكم الأعمال الشاقة، والأمور الفظيعة أو يرسلونكم إليها ويصرفونكم فيها أو يبغونكم سوء العذاب المفسر بما بعده. وقد حكي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا، وصنفهم في الأعمال- فصنف يبنون، وصنف يحرثون، وصنف يخدمون- ومن لم يكن منهم في عمل وضع عليه الجزية يؤديها كل يوم، ومن غربت عليه الشمس قبل أن يؤديها غلت يده إلى عنقه شهرا، وجعل النساء يغزلن الكتان، وينسجن يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ جملة حالية أو استئنافية كأنه قيل: ما الذي ساموهم إياه، فقال: يُذَبِّحُونَ إلخ، ويجوز أن تخرج على إبدال الفعل من الفعل كما في قوله تعالى: يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ [الفرقان: 68، 69] ، وقيل: بالعطف وحذف حرفه لآية إبراهيم، والمحققون على الفرق، وحملوا سُوءَ الْعَذابِ فيها على التكاليف الشاقة غير الذبح، وعطف للتغاير، واعتبر هناك لا هنا على رأيهم لسبق وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إبراهيم: 5] ، وهو يقتضي التعداد، وليس هنا ما يقتضيه، والأبناء الأطفال الذكور، وقيل: إنهم الرجال هذا وسموا أبناء باعتبار ما كانوا قبل، وفي بعض الأخبار أنه قتل أربعين ألف صبي، وحكي أنه كان يقتل الرجال الذين يخاف منهم الخروج والتجمع لإفساد أمره، والمشهور حمل الأبناء على الأول، وهو المناسب المتبادر، وفي سبب ذلك أقوال وحكايات مختلفة ومعظمها يدل على أن فرعون خاف من ذهاب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل ففعل ما فعل وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [الأحزاب: 38] وقرأ الزهري وابن محيض «يذبحون» مخففا، وعبد الله «يقتّلون» مشددا وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ عطف على يُذَبِّحُونَ أي يستبقون بناتكم ويتركونهن حيات، وقيل: يفتشون في حيائهن ينظرون هل بهن حمل- والحياء الفرج- لأنه يستحى من كشفه، والنساء جمع المرأة، وفي البحر إنه تكسير لنسوة على وزن فعلة جمع قلة، وزعم ابن السراج أنه اسم جمع، وعلى القولين لم يلفظ له بواحد من لفظه، وهي في الأصل البالغات دون الصغائر، فهي على الوجه الأول مجاز باعتبار الأول للإشارة إلى أن استبقاءهم كان لأجل أن يصرن نساء لخدمتهم، وعلى الثاني في تغليب البالغات على الصغائر، وعلى الثالث حقيقة، وقدم الذبح لأنه أصعب الأمور وأشقها عند الناس وإن كان ذلك الاستحياء أعظم من القتل لدى الغيور.
وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ إشارة إلى التذبيح والاستحياء أو إلى الإنجاء، وجمع الضمير للمخاطبين، ويجوز أن يشار ب ذلِكُمْ إلى الجملة وأصل البلاء الاختبار، وإذا نسب إليه تعالى يراد منه ما يجري مجراه مع العباد على المشهور، وهو تارة يكون بالمسار ليشكروا، وتارة بالمضار ليصبروا، وتارة بهما ليرغبوا ويرهبوا- فإن حملت الإشارة على المعنى الأول- فالمراد بالبلاء المحنة، وإن على الثاني فالمراد به النعمة، وإن على الثالث فالمراد به القدر المشترك كالامتحان الشائع بينهما، ويرجح الأول التبادر، والثاني أنه في معرض الامتنان، والثالث لطف جمع الترغيب والترهيب ومعنى مِنْ رَبِّكُمْ من جهته تعالى إما بتسليطهم عليكم أو ببعث موسى عليه السلام وتوفيقه لتخليصكم أو بهما جميعا، وعَظِيمٌ صفة بلاء وتنكيرهما للتفخيم، والعظم بالنسبة للمخاطب، والسامع لا بالنسبة إليه تعالى لأنه العظيم الذي لا يستعظم شيئا «ومن باب الإشارة» والتأويل وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ من قوى فرعون النفس الأمارة المحجوبة بأنانيتها. والنظر إلى نفسها المستعلية على إهلاك الوجود، ومصر مدينة البدن المستعبدة، وهي وقواها من الوهم، والخيال والغضب، والشهوة القوى الروحانية التي هي أبناء صفوة الله تعالى يعقوب الروح، والقوى الطبيعية

(1/255)


البدنية من الحواس الظاهرة والقوى النباتية أولئك يكلفونكم المتاعب الصعبة، والأعمال الشاقة من جمع المال، والحرص وترتيب الأقوات والملابس وغير ذلك، ويستعبدونكم بالتفكر فيها والاهتمام بها لتحصل لكم لذة هي في الحقيقة عذاب وذلة لأنها تمنعكم عن مشاهدة الأنوار، والتمتع بدار القرار يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ التي هي القوى الروحانية من القوى النظرية التي هي العين اليمنى للقلب، والعملية التي هي العين اليسرى له، والفهم الذي هو سمعه، والسر الذي هو قلبه وَيَسْتَحْيُونَ قواكم الطبيعية ليستخدموها ويمنعوها عن أفعالها اللائقة بها، وفي ذلك- الإنجاء- نعمة عظيمة من ربكم المرقي لكم من مقام إلى مقام ومشهد إلى مشهد حتى تصلوا إليه وتحطوا رحالكم بين يديه، أو في مجموع ذلك امتحان لكم وظهور آثار الأسماء المختلفة عليكم فاشكروا واصبروا فالكل منه وكل ما فعل المحبوب محبوب.
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ عطف على ما قبل، والفرق- الفصل بين الشيئين، وتعديته إلى البحر بتضمين معنى الشق، أي فلقناه وفصلنا بين بعضه وبعض لأجلكم، وبسبب إنجائكم. والباء للسببية الباعثة بمنزلة اللام- إذا قلنا بتعليل أفعاله تعالى- وللسببية الشبيهة بها في الترتيب على الفعل، وكونه مقصودا منه- إن لم نقل به- وإنما قال سبحانه:
بِكُمُ دون لكم، لأن العرب- على ما نقله الدامغاني- تقول: غضبت لزيد- إذا غضبت من أجله وهو حي- وغضبت بزيد- إذا غضبت من أجله وهو ميت- ففيه تلويح إلى أن الفرق كان من أجل أسلاف المخاطبين، ويحتمل أن تكون للاستعانة على معنى- بسلوككم- ويكون هناك استعارة تبعية بأن يشبه سلوكهم بالآلة في كونه واسطة في حصول الفرق من الله تعالى، ويستعمل الباء. وقول الإمام الرازي قدس سره:- إنهم كانوا يسلكون، ويتفرق الماء عند سلوكهم، فكأنه فرق بهم- يرد عليه أن تفرق الماء كان سابقا على سلوكهم على ما تدل عليه القصة، وقوله تعالى:
أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء: 63] وما قيل: إن الآلة هي العصا- كما تفهمه الآية- غير مسلم. والمفهوم كونها آلة الضرب- لا الفرق- ولو سلم يجوز كون المجموع آلة، على أن آلية السلوك على التجوز، وقد يقال: إن الباء للملابسة، والجار والمجرور ظرف مستقر واقع موقع الحال من الفاعل، وملابسته تعالى معهم حين الفرق ملابسة عقلية، وهو كونه ناصرا وحافظا لهم، وهي ما أشار إليه موسى عليه السلام بقوله تعالى: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62] ومن الناس من جعله حالا من الْبَحْرَ مقدما- وليس بشيء- لأن الفرق مقدم على ملابستهم الْبَحْرَ اللهم إلا على التوسع، واختلفوا في هذا البحر، فقيل: القلزم- وكان بين طرفيه أربعة فراسخ- وقيل النيل، والعرب تسمي الماء الملح، والعذب بحرا- إذا كثر، ومنه مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ [الرحمن: 19] وأصله السعة، وقيل: الشق، ومن الأول البحرة البلدة، ومن الثاني البحيرة التي شقت أذنها، وفي كيفية الانفلاق قولان «فالمشهور» كونه خطيا، وفي بعض الآثار ما يقتضي كونه قوسيا، إذ فيه أن الخروج من الجانب الذي دخلوا منه، واحتمال الرجوع في طريق الدخول يكاد يكون باطلا لأن الأعداء في أثرهم، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ما يتعلق بهذا المبحث.
فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ في الكلام حذف يدل عليه المعنى والتقدير وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ وتبعكم فرعون وجنوده في تقحمه فَأَنْجَيْناكُمْ أي من الغرق، أو من إدراك فرعون وآله لكم، أو مما تكرهون، وكنى سبحانه بآل فرعون عن فرعون وآله كما يقال: بني هاشم، وقوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء: 70] يعني هذا الجنس الشامل لآدم، أو اقتصر على ذكر الآل لأنهم إذا عذبوا بالإغراق كان مبدأ العناد ورأس الضلال أولى بذلك، وقد ذكر تعالى غرق فرعون في آيات أخر من كتابه كقوله سبحانه فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً [الإسراء:

(1/256)


103] فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ [القصص: 40 والذاريات: 40] وحمل الآل- على الشخص حيث إنه ثبت لغة كما في الصحاح- ركيك غير مناسب للمقام، وإنما المناسب له التعميم، وناسب نجاتهم- بإلقائهم في البحر وخروجهم منه سالمين- نجاة نبيهم موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام من الذبح بإلقائه وهو طفل في البحر وخروجه منه سالما، ولكل أمة نصيب من نبيها وناسب هلاك فرعون- وقومه بالغرق- هلاك بني إسرائيل على أيديهم بالذبح لأن الذبح فيه تعجيل الموت بأنهار الدم، والغرق فيه إبطاء الموت ولا دم خارج وكان ما به الحياة وهو الماء كما يشير إليه قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء: 30] سببا لإعدامهم من الوجود، وفيه إشارة إلى تقنيطهم وانعكاس آمالهم كما قيل:
إلى الماء يسعى من يغص بلقمة ... «إلى أين» يسعى من يغص بماء
ولما كان الغرق من أعسر الموتات وأعظمها شدة- ولهذا كان الغريق المسلم شهيدا- جعله الله تعالى نكالا لمن ادعى الربوبية وقال أنا ربكم الأعلى وعلى قدر الذنب يكون العقاب. ويناسب دعوى الربوبية، والاعتلاء انحطاط المدعى وتغيبيه في قعر الماء، ولك أن تقول لما افتخر فرعون بالماء كما يشير إليه قوله تعالى حكاية عنه: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف: 51] جعل الله تعالى هلاكه بالماء وللتابع حظ وافر من المتبوع- وكان ذلك الغرق، والإنجاء، والإغراق يوم عاشوراء- والكلام فيه مشهور وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ جملة حالية وفيها تجوز أي وآباؤكم ينظرون، والمفعول محذوف أي جميع ما مر فإن أريد الاحكام فالنظر بمعنى العلم- وعليه ابن عباس رضي الله تعالى عنه- وإن نفس الأفعال من الغرق، والإنجاء، والإغراق فهو بمعنى المشاهدة- وعليه الجمهور- والحال على هذا من الفاعل وهو معمول بجميع الأفعال السابقة على التنازع، وفائدته تقرير النعمة عليهم وكأنه قيل: وأنتم لا تشكون فيها، وجوز أن يقدر المفعول خاصا أي غرقهم، وإطباق البحر عليهم فالحال متعلق بالقريب، وهو أَغْرَقْنا وفائدته تتميم النعمة فإن هلاك العدو نعمة ومشاهدتة نعمة، أخرى، وفي قصص الكسائي أن بني إسرائيل حين عبروا البحر وقفوا ينظرون إلى البحر وجنود فرعون، ويتأملون كيف يفعلون، أو انفلاق البحر فيكون الحال متعلقا بالأصل في الذكر، وهو فَرَقْنا وفائدته إحضار النعمة ليتعجبوا من عظم شأنها، ويتعرفوا إعجازها، وذلك الآل الغريق فالحال من مفعول أَغْرَقْنا متعلق به والفائدة تحقيق الإغراق وتثبيته، وقيل: المراد ينظر بعضكم بعضا وأنتم سائرون في البحر، وذلك أنه نقل أن بعض قوم موسى قالوا له: أين أصحابنا؟ فقال: سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم قالوا: لا نرضى حتى نراهم فأوحى الله تعالى أن قل بعصاك هكذا فقال بها على الحيطان فصار بها كوى فتراءوا وسمعوا كلام بعضهم بعضا فالحال متعلق ب فَرَقْنا وفائدته تتميم النعمة فإن كونهم مستأنسين يرى بعضهم- حال بعض آخر- نعمة أخرى، وبعض الناس يجعل الفعل على هذا الوجه منزلا منزلة اللازم وليس بالبعيد نعم البعيد جعل النظر هنا مجازا عن القرب أي وأنتم بالقرب منهم أي بحال لو نظرتم إليهم لرأيتموهم كقولهم- أنت مني بمرأى ومسمع- أي قريب مني بحيث أراك وأسمعك، وكذا جعله بمعنى الاعتبار أي وأنتم تعتبرون بمصرعهم وتتعظون بمواقع النقمة التي أرسلت عليهم هذا وقد حكوا في كيفية خروج بني إسرائيل وتعنتهم وهم في البحر، وفي كيفية خروج فرعون بجنوده، وفي مقدار الطائفتين حكايات مطولة جدا لم يدل القرآن ولا الحديث الصحيح عليها والله تعالى أعلم بشأنها «والإشارة» في الآية أن البحر هو الدنيا وماءه شهواتها ولذاتها، وموسى هو القلب، وقومه صفات القلب، وفرعون هو النفس الأمارة وقومه صفات النفس، وهم أعداء موسى وقومه يطلبونهم ليقتلوهم، وهم سائرون إلى الله تعالى، والعدو من خلفهم، وبحر الدنيا أمامهم ولا بد لهم في السير إلى الله تعالى من عبوره ولو يخوضونه بلا ضرب عصا لا إله إلا الله بيد موسى-

(1/257)


القلب فإن له يدا بيضاء في هذا الشأن- لغرقوا كما غرق فرعون وقومه ولو كانت هذه العصا في يد فرعون النفس لم ينفلق فكما أن يد موسى القلب شرط في الانفلاق كذلك عصا الذكر شرط فيه، فإذا حصل الشرطان وضرب موسى بعصا الذكر مرة بعد أخرى ينفلق بإذن الله بحر الدنيا بالنفي وينشبك ماء الشهوات يمينا وشمالا، ويرسل الله تعالى ريح العناية، وشمس الهداية على قعر ذلك البحر فيصير يابسا من ماء الشهوات فيخرج موسى وقومه بعناية التوحيد إلى ساحل النجاة وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم: 42] ويقال لفرعون وقومه إذا غرقوا وأدخلوا نارا ألا: بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود: 44] .
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً لما جاوز بنو إسرائيل البحر سألوا موسى عليه السلام أن يأتيهم بكتاب من عند الله فوعده سبحانه أن يعطيه التوراة وقبل موسى ذلك، وضرب له ميقاتا ذا القعدة وعشر ذي الحجة أو ذا الحجة وعشر المحرم فالمفاعلة على بابها، وهي من طرف فعل، ومن آخر قبوله مثل- عالجت المريض- وإنكار جواز ذلك لا يسمع مع وروده في كلام العرب وتصريح الأئمة به وارتضائهم له، ويجوز أن يكون واعَدْنا من باب الموافاة وليس من الوعد في شيء وإنما هو من قولك موعدك يوم كذا وموضع كذا، ويحتمل أن يكون بمعنى وعدنا وبه قرأ أبو عمرو أو يقدر الملاقاة أو يقال بالتفكيك إلى فعلين فيقدر الوحي في أحدهما، والمجيء في الآخر ولا محذور في شيء كما حققه الدامغاني، وقول أبي عبيدة: المواعدة لا تكون إلا من البشر غير مسلم، وقول أبي حاتم: أكثر ما تكون من المخلوقين المتكافئين على تقدير تسليمه لا يضرنا، وأَرْبَعِينَ مفعول به بحذف المضاف بأدنى ملابسة أي إعطاء أربعين أي عند انقضائها، أو في العشر الأخير منها، أو في كلها أو في أولها على اختلاف الروايات، أو ظرف مستقر وقع صفة لمفعول محذوف- لواعدنا- أي واعدنا موسى أمرا كائنا في أربعين، وقيل: مفعول مطلق أي واعدنا موسى مواعدة أربعين ليلة.
ومن الناس من ذهب إلى أن الأولى أن لا يقدر مفعول لأن المقصود بيان من وعد لا ما وعد- وينصب الأربعين على الإجراء مجرى المفعول به توسعا، وفيه مبالغة بجعل ميقات الوعد موعودا وجعل الأربعين ظرفا لواعدنا على حد جاء زيد يوم الخميس- ليس بشيء كما لا يخفى، ومُوسى اسم أعجمي لا ينصرف للعلمية والعجمة، ويقال:
هو مركب من «مو» وهو الماء «وشي» وهو الشجر وغيّر إلى «سي» بالمهملة وكأن من سماه به أراد ماء البحر والتابوت الذي قذف فيه- وخاض بعضهم في وزنه- فعن سيبويه إن وزنه مفعل (1) وقيل: إنه فعلى وهو مشتق من ماس يميس فأبدلت الياء واوا لضم ما قبلها كما قالوا طوبي، وهي من ذوات الياء لأنها من طاب يطيب، ويبعده أن الإجماع على صرفه نكرة ولو كان فعلى لم ينصرف لأن ألف التأنيث وحدها تمنع الصرف في المعرفة والنكرة على أن زيادة الميم أولا أكثر من زيادة الألف آخرا، وعبر سبحانه وتعالى عن ذلك الوقت بالليالي دون الأيام لأن افتتاح الميقات كان من الليل، والليالي غرر شهور العرب لأنها وضعت على سير القمر، والهلال إنما يهل بالليل، أو لأن الظلمة أقدم من الضوء بدليل وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37] أو إشارة إلى مواصلة الصوم ليلا ونهارا ولو كان التفسير باليوم أمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل فلما نص على الليالي فهم من قوة الكلام أنه واصل أربعين ليلة بأيامها، والقول بأن ذكر الليلة- كان للإشعار بأن وعد موسى عليه السلام كان بقيام الليل- ليس بشيء لأن المروي أن المأمور به كان
__________
(1) وموسى: الحديدة المعلومة مذكر لا غير عند الآمدي. وقال الفراء: هي فعلى ويؤنث، وفي البحر إنه مؤنث عربي مشتق من آسوت الشيء أصلحته ووزنه مفعل وأصله الهمز، وقيل: اشتقاقه من أوسيت حلقت ولا أصل للواو في الهمز اهـ منه.

(1/258)


الصيام لا القيام، وقد يقال من طريق الإشارة: إن ذكر الليلة للرمز إلى أن هذه المواعدة كانت بعد تمام السير إلى الله تعالى ومجاوزة بحر العوائق والعلائق، وهناك يكون السير في الله تعالى الذي لا تدرك حقيقته، ولا تعلم هويته، ولا يرى في بيداء جبروته إلا الدهشة والحيرة، وهذا السير متفاوت باعتبار الأشخاص والأزمان ولي مع الله تعالى وقت يشير إلى ذلك ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ والاتخاذ يجيء بمعنى ابتداء صنعة فيتعدى لواحد نحو- اتخذت سيفا- أي صنعته. وبمعنى اتخاذ وصف فيجري مجرى الجعل ويتعدى لاثنين نحو- اتخذت زيدا صديقا- والأمران محتملان في الآية، والمفعول الثاني على الاحتمال الثاني محذوف لشناعته أي اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ الذي صنعه السامري إلها، والذم فيه ظاهر لأنهم كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألفا، أو إلا هارون والسبعين الذين كانوا مع موسى عليه السلام، وعلى الاحتمال الأول لا حاجة إلى المفعول الثاني ويؤيده عدم التصريح به في موضع من آيات هذه القصة، والذم حينئذ لما ترتب على الاتخاذ من العبادة أو على نفس الاتخاذ لذلك، والعرب تذم أو تمدح القبيلة بما صدر عن بعضها، والْعِجْلَ ولد البقرة الصغير وجعله الصوفية إشارة إلى عجل النفس الناقصة وشهواتها وكون ما اتخذوه عجلا ظاهر في أنه صار لحما ودما فيكون عجلا حقيقة ويكون نسبة الخوار إليه فيما يأتي حقيقة أيضا وهو الذي ذهب إليه الحسن، وقيل: أراد سبحانه بالعجل ما يشبهه في الصورة والشكل ونسبة الخوار إليه مجاز وهو الذي ذهب إليه الجمهور، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك.
ومن الغريب أن هذا إنما سمي عجلا لأنهم عجلوا به قبل قدوم موسى فاتخذوه إلها، أو لقصر مدته حيث إن موسى عليه السلام بعد الرجوع من الميقات حرقه ونسفه في اليم نسفا، والضمير في بعده راجع إلى موسى، أي بَعْدِهِ ما رأيتم منه من التوحيد والتنزيه والحمل عليه والكف عما ينافيه، وذكر الظرف للإيذان بمزيد شناعة فعلهم، ولا يقتضي أن يكون مُوسى متخذا إلها- كما وهم- لأن مفهوم الكلام أن يكون الاتخاذ- بعد- موسى ومن أين يفهم اتخاذ موسى سيما في هذا المقام؟ ويجوز أن يكون في الكلام حذف، وأقرب ما يحذف مصدر يدل عليه واعَدْنا أي من بعد مواعدته، وقيل: المحذوف الذهاب المدلول عليه- بالمواعدة- لأنها تقتضيه. والجملة الاسمية في موضع الحال، ومتعلق الظلم الإشراك، ووضع العبادة في غير موضعها، وقيل: الكف عن الاعتراض على ما فعل السامري وعدم الإنكار عليه- وفائدة التقييد بالحال- الإشعار بكون الاتخاذ- ظلما- بزعمهم أيضا لو راجعوا عقولهم بأدنى تأمل، وقيل: الجملة غير حال بل مجرد إخبار أن سجيتهم الظلم وإنما راج فعل السامري عندهم لغاية حمقهم وتسلط الشيطان عليهم- كما يدل على ذلك سائر أفعالهم- واتخاذ السامري لهم الْعِجْلَ دون سائر الحيوانات، قيل: لأنهم مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم على صور البقر فقالوا اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: 138] فهجس في نفس السامري أن فتنتهم من هذه الجهة، فاتخذ لهم ذلك، وقيل: إنه كان هو من قوم يعبدون البقر- وكان منافقا- فاتخذ عجلا من جنس ما يعبده.
ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ثُمَّ لتفاوت ما بين فعلهم القبيح، ولطفه تعالى في شأنهم، فلا يكون مِنْ بَعْدِ ذلِكَ تكرارا. و «عفا» بمعنى درس يتعدى ولا يتعدى- كعفت الدار، وعفاها الريح- والمراد بالعفو هنا- محو الجريمة بالتوبة- وذلك موضوع موضع «ذلكم» والإشارة- للاتخاذ- كما هو الظاهر، وإثبارها لكمال العناية بتمييزه- كأنه يجعل ظلمهم مشاهدا لهم- وصيغة البعيد مع قربه لتعظيمه ليتوسل بذلك إلى جلالة قدر «العفو» والمراد بالترجي ما علمت، والمشهور هنا كونه مجازا عن طلب الشكر على «العفو» ومن قدر الإرادة من أهل السنة- أراد مطلق الطلب- وليس ذلك من الاعتزال، إذ لا نزاع في أن الله تعالى قد يطلب من العباد ما لا يقع

(1/259)


«والشكر» عند الجنيد هو العجز عن الشكر، وعند الشبلي- التواضع تحت رؤية المنة- وقال ذو النون: «الشكر» لمن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان.
وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ الْكِتابَ التوراة- بإجماع المفسرين- وفي الفرقان أقوال «الأول» أنه هو التوراة أيضا، والعطف من قبيل عطف الصفات للإشارة إلى استقلال كل منها، فإن التوراة لها صفتان يقالان بالتشكيك، كونها كتابا جامعا لما لم يجمعه منزل سوى القرآن، وكونها فرقانا أي حجة تفرق بين الحق والباطل- قاله الزجاج- ويؤيد هذا قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً [الأنبياء: 48] «الثاني» أنه الشرع الفارق بين الحلال والحرام، فالعطف مثله في تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ [القدر: 4] قاله ابن بحر «الثالث» أنه المعجزات الفارقة بين الحق والباطل- من العصا واليد وغيرهما- قاله مجاهد.
«الرابع» أنه النصر الذي فرق بين العدو والولي، وكان آية لموسى عليه السلام، ومنه قيل ليوم بدر: يوم الفرقان، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: إنه القرآن، ومعنى إتيانه لموسى عليه السلام نزول ذكره له حتى آمن به، حكاه ابن الأنباري- وهو بعيد- وأبعد منه، ما حكي عن الفراء وقطرب- أنه القرآن- والكلام على حذف مفعول- أي ومحمدا الفرقان- وناسب ذكر الاهتداء إثر ذكر إتيان مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لأنهما يترتب عليهما ذلك لمن أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37] .
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ نعمة أخروية في حق المقتولين من بني إسرائيل حيث نالوا درجة الشهداء، كما أن العفو نعمة دنيوية في حق الباقين، وإنما فصل بينهما بقوله: وَإِذْ آتَيْنا إلخ، لأن المقصود تعداد النعم- فلو اتصلا لصارا نعمة واحدة- وقيل: هذه الآية وما بعدها منقطعة عما تقدم من التذكير بالنعم- وليس بشيء- واللام في لِقَوْمِهِ للتبليغ، وفائدة ذكره التنبيه على أن خطاب مُوسى لِقَوْمِهِ كان مشافهة لا بتوسط من يتلقى منه- كالخطابات المذكورة سابقا لبني إسرائيل- والقوم اسم جمع لا واحد له من لفظه، وإنما واحده امرئ- وقياسه أن لا يجمع- وشذ جمعه على- أقاويم- والمشهور اختصاصه بالرجال لقوله تعالى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات: 11] مع قوله: وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ [الحجرات: 11] وقال زهير:
فما أدري وسوف إخال أدري ... أ «قوم» آل حصن أم «نساء»
وقيل: لا اختصاص له بهم، بل يطلق على النساء أيضا لقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [نوح: 1] والأول أصوب، واندراج النساء على سبيل الاستتباع، والتغليب والمجاز خير من الاشتراك، وسمي الرجال قوما لأنهم يقومون بما لا يقوم به النساء، وفي إقبال مُوسى عليهم بالنداء، ونداؤه لهم ب يا قَوْمِ إيذان بالتحنن عليهم وأنه منهم وهم منه، وهز لهم لقبولهم الأمر بالتوبة بعد تقريعهم بأنهم «ظلموا أنفسهم» والباء في بِاتِّخاذِكُمُ سببية وفي- الاتخاذ- هنا الاحتمالان السابقان هناك فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ الفاء للسببية- لأن الظلم سبب للتوبة- وقد عطفت ما بعدها على إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ والتوافق في الخبرية والإنشائية إنما يشترط في العطف- بالواو- وتشعر عبارات بعض الناس أنها للسببية دون العطف، والتحقيق أنها لهما معا، و «البارئ» هو الذي خلق الخلق بريا- من التفاوت- وعدم تناسب الأعضاء وتلاؤم الأجزاء بأن تكون إحدى اليدين في غاية الصغر والرقة، والأخرى بخلافه، ومتميزا بعضه عن بعض بالخواص والأشكال والحسن والقبح- فهو أخص من الخالق- وأصل التركيب لخلوص الشيء وانفصاله عن غيره إما على سبيل التفصي- كبرء المريض- أو الإنشاء- كبر الله تعالى آدم- أي خلقه ابتداء متميزا عن لوث الطين، وفي ذكره في هذا المقام تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطيف حكمته حتى عرضوا

(1/260)


أنفسهم لسخط الله تعالى ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم، وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغمطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها- وهو مثل في الغباوة والبلادة- وقرأ أبو عمرو بارِئِكُمْ بالاختلاس، وروي عنه- السكون- أيضا وهو من إجراء المتصل من كلمتين مجرى المنفصل من كلمة، وللناس في تخريجه وجوه لا تخلو عن شذوذ.
فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الفاء للتعقيب، والمتبادر من «القتل» القتل المعروف من إرهاق الروح- وعليه جمع من المفسرين- والفعل معطوف على سابقه، فإن كانت توبتهم هو «القتل» إما في حقهم خاصة، أو توبة المرتد مطلقا في شريعة موسى عليه السلام، فالمراد بقوله تعالى: فَتُوبُوا اعزموا على التوبة- ليصح العطف- وإن كانت هي الندم و «القتل» من متمماتها- كالخروج عن المظالم في شريعتنا- فهو على معناه ولا إشكال، وقد يقال: إن التوبة جعلت لهؤلاء عين «القتل» ولا حاجة إلى تأويل «توبوا» باعزموا، بل تجعل- الفاء- للتفسير- كما تجعل الواو له- وقد قيل به في قوله تعالى: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ [الأعراف: 36] وظاهر الأمر أنهم مأمورون بأن يباشر كل قتل نفسه، وفي بعض الآثار أنهم أمروا أن يقتل بعضهم بعضا، فمعنى «اقتلوا أنفسكم» حينئذ، ليقتل بعضكم بعضا، كما في قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] والمؤمنون كنفس واحدة، وروي أنه أمر من لم يعبد الْعِجْلَ أن يقتل من عبده، والمعنى عليه استسلموا أنفسكم للقتل، وسمي الاستسلام للقتل قتلا على سبيل المجاز، والقاتل إما غير معين، أو الذين اعتزلوا مع هارون عليه السلام، والذين كانوا مع موسى عليه السلام، وفي كيفية (القتل) أخبار لا نطيل بذكرها، وجملة القتلى سبعون ألفا، وبتمامها نزلت التوبة وسقطت الشفار من أيديهم، وأنكر القاضي عبد الجبار أن يكون الله تعالى أمر بني إسرائيل- بقتل أنفسهم- وقال: لا يجوز ذلك عقلا- إذ الأمر لمصلحة المكلف- وليس بعد القتل حال تكليف ليكون فيه مصلحة، ولم يدر هذا القاضي بأن لنفوسنا خالقا- بأمره نستبقيها، وبأمره نفنيها- وأن لها بعد هذه الحياة التي هي لعب ولهو، حياة سرمدية وبهجة أبدية.
وإن الدار الآخرة لهي الحيوان، وأن قتلها بأمره يوصلها إلى حياة خير منها، ومن علم أن الإنسان في هذه الدنيا- كمجاهد أقيم في ثغر يحرسه، ووال في بلد يسوسه- وأنه مهما استرد فلا فرق بين أن يأمره الملك بخروجه بنفسه، أو يأمر غيره بإخراجه- وهذا واضح لمن تصور حالتي الدنيا والآخرة، وعرف قدر الحياتين والميتتين فيهما، ومن الناس من جوز ذلك- إلا أنه استبعد وقوعه- فقال: معنى «اقتلوا أنفسكم» ذللوا، ومن ذلك قوله:
إن التي عاطيتني فرددتها ... «قتلت قتلت» فهاتها لم تقتل
ولولا أن الروايات على خلاف ذلك لقلت به تفسيرا. ونقل عن قتادة أنه قرأ «فأقيلوا أنفسكم» والمعنى أن أَنْفُسَكُمْ قد تورطت في عذاب الله تعالى بهذا الفعل العظيم الذي تعاطيتموه، وقد هلكت- فأقيلوها- بالتوبة والتزام الطاعة، وأزيلوا آثار تلك المعاصي بإظهار الطاعات.
ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ جملة معترضة للتحريض على التوبة أو معللة، والإشارة إلى المصدر المفهوم مما تقدم، وخَيْرٌ أفعل تفضيل حذفت همزته، ونطقوا بها في الشعر قال الراجز:
بلال خير الناس وابن الأخير

وقد تأتي- ولا تفضيل- والمعنى أن ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ من العصيان والإصرار على الذنب- أو خير من ثمرة العصيان، وهو الهلاك الدائم، والكلام- على حد العسل- أحلى من الخل أو خير من الخيور كائن لكم. والعندية هنا مجاز، وكرر البارئ بلفظ الظاهر اعتناء بالحث على التسليم له في كل حال، وتلقي ما يرد من قبله والقبول والامتثال فإنه كما رأى الإنشاء راجحا فأنشأ رأى الإعدام راجحا، فأمر به وهو العليم الحكيم.

(1/261)


فَتابَ عَلَيْكُمْ جواب شرط محذوف بتقدير- قد- إن كان من كلام موسى عليه السلام لهم، تقديره إن فعلتم ما أمرتم به فقد «تاب عليكم» ومعطوف على محذوف- إن كان خطابا من الله تعالى لهم، كأنه قال: ففعلتم ما أمرتم فَتابَ عَلَيْكُمْ بارئكم وفيه التفات لتقدم التعبير عنهم في كلام موسى عليه السلام بلفظ القوم وهو من قبيل الغيبة، أو من التكلم إلى الغيبة في فَتابَ حيث لم يقل: فتبنا، ورجح العطف لسلامته من حذف الأداة والشرط وإبقاء الجواب، وفي ثبوت ذلك عن العرب مقال، وظاهر الآية كونها إخبارا عن المأمورين بالقتل الممثلين ذلك وقال ابن عطية: جعل الله تعالى- القتل- لمن- قتل- شهادة و «تاب» عن الباقين و «عفا» عنهم، فمعنى عَلَيْكُمْ عنده، على باقيكم إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ تذييل لقوله تعالى: فَتُوبُوا فإن التوبة بالقتل- لما كانت شاقة على النفس هونها سبحانه بأنه هو الذي يوفق إليها ويسهلها ويبالغ في الإنعام على من أتى بها، أو تذييل لقوله تعالى: فَتابَ عَلَيْكُمْ وتفسر «التوبة» منه تعالى حينئذ بالقبول لتوبة المذنبين- والتأكيد لسبق الملوح- أو للاعتناء بمضمون الجملة، والضمير المنصوب إن كان ضمير لشأن- فالضمير المرفوع مبتدأ- وهو الأنسب لدلالته على كمال الاعتناء بمضمون الجملة، وإن كان راجعا إلى البارئ سبحانه فالضمير المرفوع إما فصل أو مبتدأ، هذا وحظ العارف من هذه القصة أن يعرف أن هواه بمنزلة عجل بني إسرائيل- فلا يتخذه إلها- أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأن الله سبحانه قد خلق نفسه في أصل لفطرة مستعدة لقبول فيض الله تعالى والدين القويم ومتهيئة لسلوك المنهج المستقيم، والترقي إلى جناب القدس وحضرة الأنس، وهذا هو الكتاب الذي أوتيه موسى القلب، والفرقان الذي يهتدي بنوره في ليالي السلوك إلى حضرة الرب، فمتى أخلدت النفس إلى الأرض واتبعت هواها، وآثرت شهواتها على مولاها، أمرت بقتلها بكسر شهواتها وقلع مشتهياتها ليصح لها البقاء بعد الفناء، والصحو بعد المحو، وليست التوبة الحقيقية سوى محو البشرية بإثبات الألوهية، وهذا هو الجهاد الأكبر والموت الأحمر.
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء
وهذا صعب لا يتيسر إلا لخواص الحق، ورجال الصدق، وإليه الإشارة، ب (موتوا) قبل أن تموتوا. وقيل: أول قدم في العبودية إتلاف النفس وقتلها بترك الشهوات، وقطعها عن الملاذ، فكيف الوصول إلى شيء من منازل الصديقين ومعارج المقربين- هيهات هيهات- ذاك بمعزل عنا، ومناط الثريا منا
تعالوا نقم مأتما للهموم ... فإن الحزين يواسي الحزينا
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ القائل هم السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام لميقات التوراة، قيل:
قالوه بعد الرجوع، وقتل عبدة العجل، وتحريق عجلهم، ويفهم من بعض الآثار أن القائل أهل الميقات الثاني الذي ضربه الله تعالى للاعتذار عن عبدة العجل- وكانوا سبعين أيضا، وقيل: القائل عشرة آلاف من قومه، وقيل: الضمير لسائر بني إسرائيل- إلا من عصمه الله تعالى- وسيأتي إن شاء الله تعالى في الأعراف ما ينفعك هنا- واللام- من (لك) إما- لام الأجل- أو للتعدية بتضمين معنى الإقرار على أن مُوسى مقرّ له والمقر به محذوف، وهو أن الله تعالى أعطاه التوراة، أو أن الله تعالى كلمه فأمره ونهاه، وقد كان هؤلاء مؤمنين- من قبل- بموسى عليه السلام، إلا أنهم نفوا هذا الإيمان المعين والإقرار الخاص. وقيل: أرادوا نفي الكمال أي لا يكمل إيماننا لك، كما قيل في
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه»
والقول إنهم لم يكونوا مؤمنين أصلا لم نره لأحد من أئمة التفسير.
حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً حَتَّى هنا حرف غاية، و (الجهرة) في الأصل مصدر جهرت بالقراءة- إذا رفعت

(1/262)


صوتك بها- واستعيرت للمعاينة بجامع الظهور التام. وقال الراغب:- الجهر- يقال لظهور الشيء بإفراط حاسة البصر أو حاسة السمع «أما البصر» فنحو رأيته جهارا «وأما السمع» فنحو وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى [طه: 7] وانتصابها- على أنها مصدر- مؤكد مزيل لاحتمال أن تكون الرؤية مناما أو علما بالقلب، وقيل: على أنها حال على تقدير ذوي- جهرة- أو مجاهرين، فعلى الأول- الجهرة- من صفات الرؤية، وعلى الثاني من صفات الرائين، وثم قول ثالث، وهو أن تكون راجعة لمعنى القول أو القائلين- فيكون المعنى- (وإذ قلتم) كذا قولا جَهْرَةً أو جاهرين بذلك القول غير مكترثين ولا مبالين، وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي عبيدة، وقرأ سهل بن شعيب وغيره «جهرة» بفتح الهاء، وهي إما مصدر- كالغلبة- ومعناها معنى (المسكنة) وإعرابها إعرابها، أو جمع- جاهر- كفاسق وفسقة، وانتصابها على الحال.
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ أي استولت عليكم وأحاطت بكم، وأصل- الأخذ- القبض باليد، والصَّاعِقَةُ هنا نار من السماء أحرقتهم، أو جند سماوي سمعوا حسهم فماتوا، أو صيحة سماوية خروا لها صعقين ميتين يوما وليلة، واختلف في مُوسى هل أصابه ما أصابهم؟ والصحيح- لا- وأنه صعق ولم يمت لظاهر ثم أفاق في حقه، وثُمَّ بَعَثْناكُمْ إلخ في حقهم،
وقرأ عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما «الصعقة»
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ جملة حالية ومتعلق النظر ما حل بهم من الصاعقة أو أثرها الباقي في أجسامهم بعد البعث، أو إحياء كل منهم- كما وقع في قصة العزير، قالوا:
أحيا عضوا بعد عضو: والمعنى وَأَنْتُمْ تعلمون أنها تأخذكم، أو وأَنْتُمْ يقابل بعضكم بعضا، قال في البحر: ولو ذهب ذاهب إلى أن المعنى وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إجابة السؤال في حصول الرؤية لكم كان وجها من قولهم: نظرت الرجل- أي انتظرته- كما قال:
فإنكما إن (تنظراني) ساعة ... من الدهر تنفعني لدى أم جندب
لكن هذا الوجه غير منقول فلا أجسر على القول به، وإن كان اللفظ يحتمله ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ بسبب الصاعقة، وكان ذلك بدعاء موسى عليه السلام ومناشدته ربه بعد أن أفاق، ففي بعض الآثار أنهم لما ماتوا لم يزل موسى يناشد ربه في إحيائهم ويقول: يا رب إن بني إسرائيل يقولون قتلت خيارنا حتى أحياهم الله تعالى جميعا رجلا بعد رجل ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحييون، والموت هنا ظاهر في مفارقة الروح الجسد، وقيد البعث به لأنه قد يكون عن نوم كما هو في شأن أصحاب الكهف، وقد يكون بمعنى إرسال الشخص- وهو في القرآن كثير- ومن الناس من قال: كان هذا الموت غشيانا وهمودا لا موتا حقيقة كما في قوله تعالى: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ [إبراهيم: 17] ومنهم من حمل الموت على الجهل مجازا كما في قوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام: 122] . وقد شاع ذلك نثرا ونظما، ومنه قوله:
أخو (العلم حي) خالد بعد موته ... وأوصاله تحت التراب رميم

وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى ... يظن من الأحياء وهو عديم
ومعنى البعث على هذا التعليم أي ثم علمناكم بعد جهلكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي نعمة الله تعالى عليكم بالإحياء بعد الموت أو نعمته سبحانه بعد ما كفرتموها إذ رأيتم بأس الله تعالى في رميكم بالصاعقة وإذاقتكم الموت وتكليف من أعيد بعد الموت مما ذهب إليه جماعة لئلا يخلو بالغ عاقل من تعبد في هذه الدار بعد بعثة المرسلين، ومن جعل البعث بعد الموت مجازا عن التعليم بعد الجهل جعل متعلق الشكر ذلك، وفي بعض الآثار أنه لما أحياهم الله تعالى سألوا أن يبعثهم أنبياء ففعل، فمتعلق الشكر حينئذ على ما قيل: هذا البعث وهو بعيد، وأبعد منه جعل متعلقه

(1/263)


إنزال التوراة التي فيها ذكر توبته عليهم وتفصيل شرائعهم بعد إن لم يكن لهم شرائع وقد استدل المعتزلة وطوائف من المبتدعة بهذه الآية على استحالة رؤية البارئ سبحانه وتعالى لأنها لو كانت ممكنة لما أخذتهم الصاعقة بطلبها، والجواب أن أخذ الصاعقة لهم ليس لمجرد الطلب ولكن لما انضم إليه من التعنت وفرط العناد كما يدل عليه مساق الكلام حيث علقوا الإيمان بها، ويجوز أيضا أن يكون ذلك الأخذ لكفرهم بإعطاء الله تعالى التوراة لموسى عليه السلام وكلامه إياه أو نبوته لا لطلبهم، وقد يقال: إنهم لما لم يكونوا متأهلين لرؤية الحق في هذه النشأة كان طلبهم لها ظلما فعوقبوا بما عوقبوا، وليس في ذلك دليل على امتناعها مطلقا في الدنيا والآخرة، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق هذه المسألة بوجه لا غبار عليه وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ عطف على بعثناكم، وقيل: على قلتم، والأول أظهر للقرب والاشتراك في المسند إليه مع التناسب في المسندين في كون كل منهما نعمة بخلاف قُلْتُمْ فإنه تمهيد لها، وإفادته تأخير التظليل والإنزال عن واقعة طلبهم الرؤية، وعلى التقديرين لا بد لترك كلمة إذ هاهنا من نكتة، ولعلها الاكتفاء بالدلالة العقلية على كون كل منهما نعمة مستقلة مع التحرز عن تكرارها في ظَلَّلْنا وأَنْزَلْنا والْغَمامَ اسم جنس كحمامة وحمام، وهو السحاب، وقيل: ما ابيض منه، وقال مجاهد: هو أبرد من السحاب وأرق، وسمي غماما لأنه يغم وجه السماء ويستره. ومنه الغم والغمم، وهل كان غماما حقيقة أو شيئا يشبه وسمي به؟ قولان، والمشهور الأول وهو مفعول ظَلَّلْنا على إسقاط حرف الجر كما تقول: ظللت على فلان بالرداء أو بلا إسقاط، والمعنى جعلنا الغمام عليكم ظلة، والظاهر أن الخطاب لجميعهم. فقد روي أنهم لما أمروا بقتال الجبارين وامتنعوا وقالوا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة: 24] ابتلاهم الله تعالى بالتيه بين الشام ومصر أربعين سنة وشكوا حر الشمس فلطف الله تعالى بهم بإظلال الغمام- وإنزال المنّ والسلوى- وقيل: لما خرجوا من البحر وقعوا بأرض بيضاء عفراء ليس فيها ماء ولا ظل فشكوا الحر فوقوا به، وقيل: الذين ظللوا بالغمام بعض بني إسرائيل وكان الله تعالى قد أجرى العادة فيهم أن من عبد ثلاثين سنة لا يحدث فيها ذنبا أظلته الغمامة وكان فيهم جماعة يسمون أصحاب غمائم فامتن الله تعالى عليهم لكونهم فيهم من له هذه الكرامة الظاهرة والنعمة الباهرة وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى المنّ اسم جنس لا واحد له من لفظه والمشهور أنه الترنجبين وهو شيء يشبه الصمغ حلو مع شيء من الحموضة كان ينزل عليهم كالطل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس في كل يوم إلا يوم السبت وكان كل شخص مأمورا بأن يأخذ قدر صاع كل يوم أو ما يكفيه يوما وليلة ولا يدخر إلا يوم الجمعة فإن ادخار حصة السبت كان مباحا فيه. وعن وهب أنه الخبز الرقاق، وقيل:
المراد به جميع ما من الله تعالى به عليهم في التيه وجاءهم عفوا بلا تعب، وإليه ذهب الزجاج ويؤيده
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «الكمأة من المنّ الذي منّ الله تعالى به على بني إسرائيل»
والسَّلْوى اسم جنس أيضا واحدها سلواة كما قاله الخليل وليست الألف فيها للتأنيث وإلا لما أنثت بالهاء في قوله. كما انتفض السلوات من بلل القطر وقال الكسائي: السَّلْوى واحدة وجمعها سلاوى، وعند الأخفش الجمع والواحد بلفظ واحد، وقيل: جمع لا واحد له من لفظه وهو طائر يشبه السماني أو هو السماني بعينها وكانت تأتيهم من جهة السماء بكرة وعشيا أو متى أحبوا فيختارون منها السمين ويتركون منها الهزيل، وقيل: إن ريح الجنوب تسوقها إليهم فيختارون منها حاجتهم ويذهب الباقي، وفي رواية كانت تنزل عليهم مطبوخة ومشوية- وسبحان من يقول للشيء كن فيكون- وذكر السدوسي أن السلوى هو العسل بلغة كنانة ويؤيده، قول الهذلي:
وقاسمتها بالله جهرا لأنتم ... ألذ من (السلوى) إذا ما نشورها
وقول ابن عطية- إنه غلط- غلط، واشتقاقها من السلوة لأنها لطيبها تسلي عن غيرها وعطفها على بعض وجوه

(1/264)


المنّ من عطف الخاص على العام اعتناء بشأنه كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أمر (1) إباحة على إرادة القول أي وقلنا أو قائلين، والطيبات- المستلذات وذكرها للمنة عليهم أو الحلالات فهو للنهي عن الادخار، ومِنْ للتبعيض، وأبعد من جعلها للجنس أو للبدل، ومثله من زعم أن هذا على حذف مضاف أي من عوض طيبات قائلا: إن الله سبحانه عوضهم عن جميع مآكلهم المستلذة من قبل- بالمنّ والسلوى- فكانا بدلا من الطيبات، وما موصولة والعائد محذوف- أي رزقناكموه- أو مصدرية والمصدر بمعنى المفعول، واستنبط بعضهم من الآية أنه لا يكفي وضع المالك الطعام بين يدي الإنسان في إباحة الأكل بل لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن المالك (2) وهو أحد أقوال في المسألة وَما ظَلَمُونا عطف على محذوف أي فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر أو فظلموا بأن كفروا هذه النعم وَما ظَلَمُونا بذلك، ويجوز- كما في البحر- أن لا يقدر محذوف لأنه قد صدر منهم ارتكاب قبائح من اتخاذ العجل إلها، وسؤال رؤيته تعالى ظلما وغير ذلك فجاء قوله تعالى: وَما ظَلَمُونا بجملة منفية تدل على أن ما وقع منهم من تلك القبائح لم يصل إلينا منها نقص ولا ضرر، وفي هذا دليل على أنه ليس من شرط نفي الشيء عن الشيء إمكان وقوعه لأن ظلم الإنسان لله تعالى لا يمكن وقوعه البتة وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفران أو بما فعلوا إذ لا يتخطاهم ضرره، وتقديم المفعول للدلالة على القصر الذي يقتضيه النفي السابق، وفيه ضرب تهكم بهم، والجمع بين صيغتي الماضي، والمستقبل للدلالة على تماديهم في الظلم واستمرارهم عليه، وفي ذكر أَنْفُسَهُمْ بجمع القلة تحقير لهم وتقليل، والنفس العاصية أقل من كل قليل وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ منصوبة على الظرفية عند سيبويه، والمفعولية عند الأخفش، والظاهر أن الأمر بالدخول على لسان موسى عليه السلام كالأوامر السابقة واللاحقة.- والقرية- بفتح القاف- والكسر لغة أهل اليمن- المدينة من قريت إذا جمعت سميت بذلك لأنها تجمع الناس على طريقة المساكنة، وقيل: إن قلوا قيل لها: قرية، وإن كثروا قيل لها مدينة، وأنهى بعضهم حدّ القلة إلى ثلاثة، والجمع القرى على غير قياس، وقياس أمثاله فعال كظبية وظباء وفي المراد بها هنا خلاف جمّ والمشهور عن ابن عباس وابن مسعود وقتادة والسدي والربيع وغيرهم- وإليه ذهب الجمهور- أنها بيت المقدس، وقد كان هذا الأمر بعد التيه والتحير وهو أمر إباحة يدل عليه عطف (فكلوا) إلخ وهو غير الأمر المذكور بقوله تعالى: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ [المائدة: 21] لأنه كان قبل ذلك وهو أمر تكليف كما يدل عليه عطف النهي، ومنهم من زعم اتحادهما. وجعل هذا الأمر أيضا للتكليف وحمل تبديل الأمر على عدم امتثاله بناء على أنهم لم يدخلوا القدس في حياة موسى عليه السلام، ومنهم من ادّعى اختلافهما لكنه زعم أن ما هنا كان بعد التيه على لسان يوشع لا على لسان موسى عليهما السلام لأنه وأخاه هارون ماتا في التيه وفتح يوشع مع بني إسرائيل أرض الشام بعد موته عليه السلام بثلاثة أشهر ومنهم من قال الأمر في التيه بالدخول بعد الخروج عنه ولا يخفى ما في كل، فالأظهر ما ذكرنا وقد روي أن موسى عليه السلام سار بعد الخروج من التيه بمن بقي من بني إسرائيل إلى أريحا- وهي بأرض القدس- وكان يوشع بن نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قبض وكأنهم أمروا بعد الفتح بالدخول على وجه الإقامة والسكنى كما يشير إليه قوله تعالى: (فكلوا) إلخ، وقوله تعالى في الأعراف: اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ [الأعراف: 161] ويؤيد كونه بعد الفتح الإشارة بلفظ القريب، والقول- بأنها نزلت منزلة القريب ترويجا للأمر- بعيد، ولا ينافي هذا ما مر من أنه مات في التيه لأن المراد به المفازة لا التيه مصدر تاه يتيه تيها بالكسر والفتح
__________
(1) وفي البحر أن من ذهب إلى الأصل في الأشياء الإباحة قال: المراد داوموا وا فتدبر اهـ منه.
(2) ثانيها أنه يملك بالوضع فقط وثالثها بالأخذ والتناول، رابعها لا يملك بحال بل ينتفع به وهو على ملك المالك اهـ منه.

(1/265)


وتيهانا إذا ذهب متحيرا فليفهم فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً أي واسعا هنيئا ونصبه على المصدرية أو الحالية من ضمير المخاطبين، وفي الكلام إشارة إلى حلّ جميع مواضعها لهم، أو الإذن بنقل حاصلها إلى أي موضع شاؤوا مع دلالة رَغَداً على أنهم مرخصون بالأكل منها- واسعا- وليس عليهم القناعة لسد الجوعة، ويحتمل أن يكون وعدا لهم بكثرة المحصولات وعدم الغلاء، وأخر هذا المنصوب هنا مع تقديمه في آية آدم عليه السلام قبل لمناسبة الفاصلة في قوله تعالى: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً والخلاف في نصب الْبابَ كالخلاف في نصب هذِهِ الْقَرْيَةَ والمراد بها على المشهور أحد أبواب بيت القدس، وتدعى الآن باب حطة قاله ابن عباس، وقيل: الباب الثامن من أبوابه، ويدعى الآن باب التوبة- وعليه مجاهد- وزعم بعضهم أنها باب القبة التي كانت لموسى وهارون عليهما السلام يتعبدان فيها، وجعلت قبلة لبني إسرائيل في التيه، وفي وصفها أمور غريبة في القصص لا يعلمها إلا الله تعالى وسُجَّداً حال من ضمير ادْخُلُوا والمراد خضعا متواضعين لأن اللائق بحال المذنب التائب والمطيع الموافق الخشوع والمسكنة، ويجوز حمل السجود على المعنى الشرعي، والحال مقارنة أو مقدرة، ويؤيد الثاني ما روي عن وهب في معنى الآية- إذا دخلتموه فاسجدوا شكرا لله أي على ما أنعم عليكم حيث أخرجكم من التيه ونصركم على من كنتم منه تخافون وأعادكم إلى ما تحبون- وقول الزمخشري- أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكرا لله تعالى وتواضعا- لم نقف على ما يدل عليه من كتاب وسنة، وفسر ابن عباس السجود هنا بالركوع، وبعضهم بالتطامن والانحناء قالوا: وأمروا بذلك لأن الباب كان صغيرا ضيقا يحتاج الداخل فيه إلى انحناء،
وفي الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قيل لبني إسرائيل: ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً فدخلوا يزحفون على أستاههم»
وَقُولُوا حِطَّةٌ أي مسألتنا، أو شأنك يا ربنا أن تحط عنا ذنوبنا، وهي فعلة من- الحط- كالجلسة، وذكر أبان أنها بمعنى التوبة وأنشد:
فاز (بالحطة) التي جعل الل ... هـ بها ذنب عبده مغفورا
والحق أن تفسيرها بذلك تفسير باللازم، ومن البعيد قول أبي مسلم: إن المعنى أمرنا- حطة- أي أن نحط في هذه القرية ونقيم بها لعدم ظهور تعلق الغفران به وترتب التبديل عليه إلا أن يقال كانوا مأمورين بهذا القول عند الحط في القرية لمجرد التعبد، وحين لم يعرفوا وجه الحكمة بدلوه، وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حِطَّةٌ أو نسألك ذلك، ويجوز أن يكون النصب على المفعولية- لقولوا- أي قولوا هذه الكلمة بعينها- وهو المروي عن ابن عباس- ومفعول القول عند أهل اللغة يكون مفردا إذا أريد به لفظه ولا عبرة بما في البحر من المنع إلا أنه يبعد هذا أن هذه اللفظة عربية وهم ما كانوا يتكلمون بها، ولأن الظاهر أنهم أمروا أن يقولوا قولا دالا على التوبة والندم حتى لو قالوا اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك لكان المقصود حاصلا ولا تتوقف التوبة على ذكر لفظة بعينها، ولهذا قيل: الأوجه في كونها مفعولا- لقولوا- أن يراد قولوا أمرا حاطا لذنوبكم من الاستغفار، وحينئذ يزول عن هذا الوجه الغبار، ثم هذه اللفظة على جميع التقادير عربية معلومة الاشتقاق، والمعنى وهو الظاهر المسموع، وقال الأصم: هي من ألفاظ أهل الكتاب لا نعرف معناها في العربية وذكر عكرمة أن معناها لا إله إلا الله وهو من الغرابة بمكان نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ بدخولكم الباب سجدا وقولكم حطة. والخطايا أصلها خطايىء بياء بعد ألف ثم همزة فأبدلت الياء- عند سيبويه- الزائدة همزة لوقوعها بعد الألف واجتمعت همزتان وأبدلت الثانية ياء ثم قلبت ألفا، وكانت الهمزة بين ألفين فأبدلت ياء، وعند الخليل قدمت الهمزة على الياء ثم فعل بها ما ذكر، وقرأ نافع «يغفر» - بالياء- وابن عامر- بالتاء- على البناء للمجهول، والباقون- بالنون- والبناء للمعلوم- وهو الجاري على نظام ما قبله وما بعده- ولم يقرأ أحد من السبعة إلا

(1/266)


بلفظ خَطاياكُمْ وأمالها الكسائي، وقرأ الجحدري وقتادة «تغفر» بضم التاء، وأفرد- «الخطيئة» - وقرأ الجمهور بإظهار- الراء- من «يغفر» عند- اللام- وأدغمها قوم، قالوا: وهو ضعيف وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ معطوف على جملة قُولُوا حِطَّةٌ وذكر أنه عطف على الجواب، ولم ينجزم لأن- السين- تمنع الجزاء عن قبول الجزم، وفي إبرازه في تلك الصورة دون تردد دليل على أن المحسن يفعل ذلك البتة، وفي الكلام صفة الجمع مع التفريق، فإن قُولُوا حِطَّةٌ جمع، ونَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ تفريق، والمفعول محذوف، أي ثوابا فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ أي بدل الَّذِينَ ظَلَمُوا بالقول الَّذِي قِيلَ لَهُمْ قولا غيره فَبَدَّلَ يتعدى لمفعولين «أحدهما» بنفسه «والآخر» بالياء ويدخل على المتروك- فالذم متوجه- وجوزّ أبو البقاء أن يكون- بدل- محمولا على المعنى، أي فقال الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا إلخ، والقول بأن غَيْرَ منصوب بنزع الخافض، كأنه قيل: فغيروا قولا بغيره غير مرضي من القول، وصرح سبحانه- بالمغايرة- مع استحالة تحقق- التبديل- بدونها تحقيقا لمخالفتهم وتنصيصا على- المغايرة- من كل وجه، وظاهر الآية انقسام من هناك إلى- ظالمين- وغير ظالمين- وأن- الظالمين- هم- الذين بدلوا- وإن كان- المبدل- الكل كان وضع ذلك من وضع الظاهر موضع الضمير- للإشعار بالعلة- واختلف في- القول الذي بدلوه- ففي الصحيحين أنهم قالوا: حبة في شعيرة، وروى الحاكم «حنطة» بدل حِطَّةٌ وفي المعالم أنهم قالوا بلسانهم- حطا سمقاثا- أي حنطة حمراء، قالوا ذلك استهزاء منهم بما قيل لهم، والروايات في ذلك كثيرة، وإذا صحت يحمل اختلاف الألفاظ على اختلاف القائلين، والقول بأنه لم يكن منهم- تبديل- ومعنى- فبدلوا لم يفعلوا ما أمروا به، لا أنهم أتوا ببدل له- غير مسلم- وإن قاله أبو مسلم- وظاهر الآية، والأحاديث تكذبه فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وضع المظهر موضع الضمير مبالغة في تقبيح أمرهم، وإشعارا بكون ظلمهم وإضرارهم أنفسهم بترك ما يوجب نجاتها، أو وضعهم غير المأمور به موضعه سببا لإنزال- الرجز- وهو العذاب- وتكسر راؤه وتضم- والضم لغة بني الصعدات- وبه قرأ ابن محيصن- والمراد به هنا- كما روي عن ابن عباس- ظلمة وموت، يروى أنه مات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفا، وقال وهب: طاعون غدوا به أربعين ليلة ثم
ماتوا بعد ذلك، وقال ابن جبير: ثلج هلك به منهم سبعون ألفا- فإن فسر بالثلج- كان كونه مِنَ السَّماءِ ظاهرا- وإن بغيره- فهو إشارة إلى الجهة التي يكون منها القضاء أو مبالغة في علوه بالقهر والاستيلاء، وذكر بعض المحققين أن الجار والمجرور ظرف مستقر وقع صفة ل رِجْزاً وبِما كانُوا يَفْسُقُونَ متعلق به لنيابته عن العامل علة له، وكلمة (ما) مصدرية، والمعنى فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا لظلمهم عذابا مقدرا بسبب كونهم مستمرين على- الفسق- في الزمان الماضي، وهذا أولى من جعل الجار والمجرور ظرفا لغوا متعلقا ب فَأَنْزَلْنا لظهوره على سائر الأقوال، ولئلا يحتاج في تعليل- الإنزال بالفسق- بعد التعليل المستفاد من التعليق بالظلم إلى القول بأن الفسق- عين- الظلم- وكرر للتأكيد، أو أن- الظلم أعم- والفسق- لا بد أن يكون من الكبائر، فبعد وصفهم بالظلم- وصفوا- بالفسق- للإيذان بكونه من الكبائر، فإن «الأول» (1) بضاعة العاجز «والثاني» لا يدفع ركاكة التعليل، وما قيل: إنه تعليل- للظلم- فيكون إنزال العذاب مسببا عن- الظلم- المسبب عن- الفسق- ليس بشيء، إذ- ظلمهم- المذكور سابقا، الذي هو سبب الإنزال لا يحتاج إلى العلة، وقد احتج بعض الناس بقوله تعالى: فَبَدَّلَ إلخ، وترتب العذاب عن التبديل، على أن ما ورد به التوقيف من الأقوال لا يجوز تغييره ولا تبديله بلفظ آخر، وقال قوم: يجوز ذكر إذا كانت
__________
(1) الأول لأبي مسلم، والثاني للرازي، والثالث للجيلي اهـ منه.

(1/267)


الكلمة الثانية تسد الأولى (1) ، وعلى هذا جرى الخلاف- كما في البحر- في قراءة بالمعنى وروي الحديث به، وجرى في تكبيرة الإحرام، وفي تجويز النكاح بلفظ الهبة والبيع والتمليك، والبحث مفصل في محله هذا. وقد ذكر مولانا الإمام الرازي رحمه الله تعالى أن هذه الآية ذكرت في الأعراف مع مخالفة من وجوه لنكات. «الأول» قال هنا:
(وإذ قلنا) لما قدم ذكر النعم، فلا بد من ذكر المنعم، وهناك (وإذا قيل) إذ لا إبهام بعد تقديم التصريح به. «الثاني» قال هنا: ادْخُلُوا وهناك اسْكُنُوا [الأعراف: 161] لأن الدخول مقدم، ولذا قدم وضعا المقدم طبعا. «الثالث» قال هنا: خَطاياكُمْ- بجمع الكثرة- لما أضاف ذلك القول إلى نفسه، واللائق بجوده غفران الذنوب الكثيرة، وهناك خَطِيئاتِكُمْ
[الأعراف: 161]- بجمع القلة- إذ لم يصرح بالفاعل «الرابع» قال هنا: (رغدا) دون هناك لإسناد الفعل إلى نفسه هنا، فناسب ذكر الإنعام الأعظم وعدم الإسناد هناك.
«الخامس» قال هنا: ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ وهناك بالعكس، لأن- الواو- لمطلق الجمع، وأيضا المخاطبون يحتمل أن يكون بعضهم مذنبين، والبعض الآخر ما كانوا كذلك، فالمذنب لا بد وأن يكون اشتغاله بحط الذنب مقدما على اشتغاله بالعبادة، فلا جرم كان تكليف هؤلاء أن يقولوا: حِطَّةٌ ثم- يدخلوا- وأما الذي لا يكون مذنبا، فالأولى به أن يشتغل «أولا» بالعبادة ثم يذكر التوبة «ثانيا» للهضم وإزالة العجب فهؤلاء يجب أن- يدخلوا ثم يقولوا- فلما احتمل كون أولئك المخاطبين منقسمين إلى ذين القسمين، لا جرم ذكر حكم كل واحد منهما في سورة أخرى «السادس» قال هنا: وَسَنَزِيدُ- بالواو- وهناك بدونه، إذ جعل هنا- المغفرة- مع الزيادة جزاء واحدا لمجموع الفعلين، وأما هناك فالمغفرة جزاء قول حِطَّةٌ والزيادة جزاء الدخول فترك- الواو- يفيد توزع كل من الجزاءين على كل من الشرطين «السابع» قال هناك: الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [الأعراف: 162] وهنا لم يذكر (منهم) لأن أول القصة هناك مبني على التخصيص ب (من) حيث قال: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ [الأعراف:
159] فخص في آخر الكلام ليطابق أوله، ولما لم يذكر في الآيات التي قبل فَبَدَّلَ هنا تمييزا وتخصيصا لم يذكر في آخر القصة ذلك. «الثامن» قال هنا: فَأَنْزَلْنا وهناك فَأَرْسَلْنا [الأعراف: 162] لأن الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر، والإرسال يفيد تسليطه عليهم واستئصاله لهم، وذلك يكون بالآخرة. «التاسع» قال هنا: فَكُلُوا- بالفاء- وهناك- بالواو- لما مر في وَكُلا مِنْها رَغَداً [البقرة: 35] وهو أن كل فعل عطف عليه شيء- وكان الفعل بمنزلة الشرط، وذلك الشيء بمنزلة الجزاء- عطف الثاني على الأول- بالفاء- دون- الواو- فلما تعلق الأكل بالدخول قيل في سورة البقرة فَكُلُوا ولما لم يتعلق- الأكل بالسكون- في الأعراف، قيل: وَكُلُوا [الأعراف: 31، 161] «العاشر» قال هنا: يَفْسُقُونَ وهناك يظلمون لأنه لما بين هنا كون الفسق ظلما اكتفى بلفظ- الظلم- هناك انتهى ولا يخفى ما في هذه الأجوبة من النظر، أما في الأول والثاني والثامن والعاشر فلأنها إنما تصح إذا كانت سورة البقرة متقدمة على سورة الأعراف نزولا- كما أنها متقدمة عليها ترتيبا- وليس كذلك، فإن سورة البقرة كلها مدنية، وسورة الأعراف كلها مكية إلا ثمان آيات من قوله تعالى (واسألهم عن القرية) إلى قوله تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ [الأعراف:
163- 171] وقوله تعالى: اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ [الأعراف: 161] داخل في الآيات المكية، فحينئذ لا تصح الأجوبة المذكورة. وأما ما ذكر في التاسع فيرد عليه منع عدم تعلق- الأكل بالسكون- لأنهم إذا سكنوا القرية، تتسبب سكناهم- للأكل- منها كما ذكر الزمخشري، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها، فحينئذ لا فرق بين
__________
(1) قوله: تسد الأولى كذا بخط مؤلفه، ولعل فيه سقطا من قلمه، والأصل تسد مسد الأولى اهـ.

(1/268)


كُلُوا وفَكُلُوا فلا يتم الجواب وأما الثالث فلأنه تعالى- وإن قال في الأعراف: وَإِذْ قِيلَ- لكنه قال في السورتين: نَغْفِرْ لَكُمْ وأضاف- الغفران- إلى نفسه، فبحكم تلك اللياقة ينبغي أن يذكر في السورتين- جمع الكثرة- بل لا شك أن رعاية نَغْفِرْ لَكُمْ أولى من رعاية وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ لتعلق- الغفران بالخطايا- كما لا يخفى على العارف بالمزايا. وأما الرابع فلأنه تعالى- وإن لم يسند الفعل إلى نفسه تعالى- لكنه مسند إليه في نفس الأمر، فينبغي أن يذكر الإنعام الأعظم في السورتين. وأما الخامس فلأن القصة واحدة، وكون بعضهم مذنبين وبعضهم غير مذنبين محقق- فعلى مقتضى ما ذكر- ينبغي أن يذكر وَقُولُوا حِطَّةٌ مقدما في السورتين وأما السادس فلأن القصة واحدة، وأن- الواو- لمطلق الجمع، وقوله تعالى نَغْفِرْ في مقابلة قُولُوا سواء قدم أو أخر، وقوله تعالى: وَسَنَزِيدُ في مقابلة وَادْخُلُوا سواء ذكر- الواو- أو ترك، وأما السابع فلأنه تعالى قد ذكر هنا قبل فَبَدَّلَ ما يدل على التخصيص والتمييز، حيث قال سبحانه: وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ إلخ بكافات الخطاب وصيغته- فاللائق حينئذ- أن يذكر لفظ مِنْهُمْ أيضا، والجواب الصحيح عن جميع هذه السؤالات وما حاكاها- ما ذكره الزمخشري- من أنه لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض، ولا تناقض بين قوله تعالى: اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وقوله: وَكُلُوا لأنهم إذا سكنوا القرية فتسبب سكناهم للأكل منها، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها، وسواء قدموا «الحطة» على- دخول الباب- أو أخروها، فهم جامعون في الإيجاد بينهما، وترك ذكر- الرغد- لا يناقض إثباته، وقوله تعالى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 161] موعد بشيئين- بالغفران والزيادة، وطرح- الواو- لا يخل لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل:
ماذا بعد الغفران؟ فقيل له سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وكذلك زيادة (منهم) زيادة بيان وَأَرْسَلْنا وأَنْزَلْنا ويَظْلِمُونَ ويَفْسُقُونَ من دار واحد، انتهى.
وبالجملة التفنن في التعبير لم يزل دأب البلغاء، وفيه من الدلالة على رفعة شأن المتكلم ما لا يخفى، والقرآن الكريم مملوء من ذلك، ومن رام بيان سر لكل ما وقع فيه منه فقد رام ما لا سبيل إليه إلا بالكشف الصحيح والعلم اللدني، والله يؤتي فضله من يشاء، وسبحان من لا يحيط بأسرار كتابه إلا هو.
ومن باب الإشارة في الآيات وإذ قلتم لموسى- القلب لَنْ نُؤْمِنَ الإيمان الحقيقي حتى نصل إلى مقام المشاهدة والعيان- فأخذتكم صاعقة الموت- الذي هو الفناء في التجلي الذاتي- وأنتم تراقبون أو تشاهدون- ثم بعثناكم بالحياة الحقيقية والبقاء بعد الفناء لكي تشكروا نعمة التوحيد والوصول بالسلوك في الله عز وجل،- وظللنا عليكم غمام تجلي الصفات- لكونها حجب شمس الذات المحرقة سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره. وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ من الأحوال والمقامات الذوقية الجامعة بين الحلاوة وإذهاب رذائل أخلاق النفس، كالتوكل والرضا وسلوى الحكم والمعارف والعلوم الحقيقية التي يحشرها عليكم ريح الرحمة، والنفحات الإلهية في تيه الصفات عند سلوككم فيها، فتسلون بذلك السَّلْوى وتنسون من لذائذ الدنيا كل ما يشتهى كُلُوا أي تناولوا وتلقوا هذه الطيبات التي رزقتموها حسب استعدادكم، وأعطيتموها على ما وعد لكم وَما ظَلَمُونا أي ما نقصوا حقوقنا وصفاتنا باحتجابهم بصفات أنفسهم، ولكن كانوا ناقصين حقوق أنفسهم بحرمانها وخسرانها، وهذا هو الخسران المبين وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ أي المحل المقدس الذي هو مقام المشاهدة وَادْخُلُوا الْبابَ الذي هو الرضا بالقضاء، فهو باب الله تعالى الأعظم سُجَّداً منحنين خاضعين لما يرد عليكم من التجليات، واطلبوا أن يحط الله تعالى عنكم ذنوب صفاتكم وأخلاقكم وأفعالكم، فإن فعلتم ذلك نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ
«فمن تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إليّ ذراعا، تقربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة»
وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ أي

(1/269)