روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني وَلَوْ أَنَّهُمْ
آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ
لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا
وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا
يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا
الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ
رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ
تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ
وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ
سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ
كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى
يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ
عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا
أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا
بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ
أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ
عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى
عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى
شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ
لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ
اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا
أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا
خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ
اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا
يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا
يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا
آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ
قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ
لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ
بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ
(119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى
حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ
الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي
جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ
وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي
أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ
عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا
تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
بالشيء منزلة الجاهل ووجود الشيء منزلة
عدمه لعدم ثمرته حيث إنهم لم يعملوا بعلمهم، أو على تنزيل
العالم بفائدة الخبر ولازمها منزلة الجاهل بناء على أن قوله
تعالى لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ معناه لو كان لهم علم بذلك
الشراء لامتنعوا منه أي ليس لهم علم فلا يمتنعون، وهذا هو
الخبر الملقى إليهم، واعتراض العلامة بأن هذا الخبر لو فرض
كونه ملقى إليهم فلا معنى لكونهم عالمين بمضمونه كيف وقد تحقق
في وَلَقَدْ عَلِمُوا نقيضه وهو أن لهم علما به وبعد اللتيا
والتي لا معنى لتنزيلهم منزلة الجاهل بأن ليس لهم علم بأن من
اشتراه- ما له في الآخرة من خلاق- بل إن كان فلا بد أن ينزلوا
منزلة الجاهل بأن لهم علما بذلك يجاب عنه: أما أولا فبأن
الخطاب صريحا للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتعريضا لهم
ولذا أكد، وأما ثانيا فبأن المستفاد من وَلَقَدْ عَلِمُوا ثبوت
العلم لهم حقيقة والمستفاد من الخبر الملقى لهم نفي العلم عنهم
تنزيلا ولا منافاة بينهما، وأما ثالثا فبأن العالم إذا عمل
بخلاف علمه كان عالما بأنه بمنزلة الجاهل في عدم ترتب ثمرة
علمه، ومقتضى هذا العلم أن يمتنع عن ذلك العمل ففيما نحن فيه
كانوا عالمين فيه بأن ليس لهم علم وأنهم بمنزلة الجاهل في ذلك
الشراء، ومقتضى هذا العلم أن يمتنعوا عنه وإذا لم يمتنعوا
كانوا بمنزلة الجاهل في عدم جريهم على مقتضى هذا العلم فألقى
الخبر إليهم بأن ليس لهم علم مع علمهم به كذا قيل، ولا يخفى ما
فيه من شدة التكلف، وأجاب بعضهم عما يتراءى من التنافي بأن
مفعول يُعَلِّمُونَ ما دل عليه ل لَبِئْسَ ما شَرَوْا إلخ أعني
مذمومية الشراء، ومفعول عَلِمُوا أنه لا نصيب لهم في الآخرة،
والعلم بأنه لا نصيب لهم في الآخرة لا ينافي نفي العلم
بمذمومية الشراء بأن يعتقدوا إباحته- فلا حاجة حينئذ إلى جميع
ما سبق- وفيه أن العلم بكون الشراء المذكور موجبا للحرمان في
الآخرة بدون العلم بكونه مذموما غاية المذمومية- مما لا يكاد
يعقل عند أرباب العقول- والقول بأن مفعول عَلِمُوا محذوف، أي
لقد علموا أنه يضرهم ولا ينفعهم، ولَمَنِ اشْتَراهُ مرتبط بأول
القصة، وضمير لَبِئْسَ ما شَرَوْا لَمَنِ اشْتَراهُ ركيك جدا،
وبئسما يشتري، ودفع التنافي بأنه أثبت «أولا» العلم بسوء ما
شروه بالكتاب بحسب الآخرة، ثم ذم بالسوء مطلقا في الدين
والدنيا، لأن «بئس» للذم العام، فالمنفي- العلم بالسوء المطلق-
يعني لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ضرره في الدين والدنيا لامتنعوا،
إنما غرهم توهم النفع العاجل، أو بأن المثبت أولا العلم بأن
«ما شروه» ما لهم في الآخرة نصيب منه، لا أنهم شَرَوْا أنفسهم
به وأخرجوها من أيديهم بالكلية، بل كانوا يظنون أن آباءهم
الأنبياء يشفعونهم في الآخرة والعلم المنفي هو هذا العلم لا
يخفى ما فيه «أما أولا» فلأن عموم الذم في «بئس» وإن قيل به
لكنه بالنسبة إلى إفراد الفاعل في نفسها من دون تعرض للأزمنة
والأمكنة- والتزام ذلك لا يخلو عن كدر- «وأما ثانيا» فلأن
تخصيص النصيب- بمنه- مع كونه نكرة مقرونة ب مِنْ في سياق النفي
المساق للتهويل مما لا يدعو إليه إلا ضيق العطن، والجواب-
بإرجاع ضمير عَلِمُوا لِلنَّاسِ أو الشَّياطِينُ واشْتَرَوْا
لليهود- ارتكاب للتفكيك من غير ضرورة تدعو إليه، ولا قرينة
واضحة تدل عليه، وبعد كل
حساب- الأولى عندي في الجواب- كون الكلام مخرجا على التنزيل،
ولا ريب في كثرة وجود ذلك في الكتاب الجليل، والأجوبة التي
ذكرت من قبل- مع جريان الكلام فيها على مقتضى الظاهر- لا تخلو
في الباطن عن شيء فتدبر.
(1/345)
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا أي بالرسول، أو
بما أنزل إليه من الآيات، أو بالتوراة وَاتَّقَوْا أي المعاصي
التي حكيت عنهم لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ جواب
لَوْ الشرطية، وأصله- لأثيبوا مثوبة من عند الله خيرا مما شروا
به أنفسهم- فحذف الفعل، وغير السبك إلى ما ترى ليتوسل بذلك مع
معونة المقام إلى الإشارة إلى ثبات المثوبة، وثبات نسبة
الخيرية إليها مع الجزم بخيريتها لأن الجملة إذا أفادت ثبات
المثوبة كان الحكم بمنزلة التعليق بالمشتق، كأنه قيل:
لَمَثُوبَةٌ دائمة خَيْرٌ لدوامها وثباتها، وحذف المفضل عليه
إجلالا للمفضل من أن ينسب إليه، ولم يقل: لمثوبة الله، مع أنه
أخصر ليشعر التنكير بالتقليل، فيفيد أن شيئا قليلا من ثواب
الله تعالى في الآخرة الدائمة خير من ثواب كثير في الدنيا
الفانية، فكيف وثواب الله تعالى كثير دائم، وفيه من الترغيب
والترهيب المناسبين للمقام ما لا يخفى، وببيان الأصل انحل
إشكالان «لفظي» وهو أن جواب «لو» إنما يكون فعلية ماضوية
«ومعنوي» وهو أن خيرية- المثوبة:
ثابتة لا تعلق لها بإيمانهم وعدمه، ولهذين الإشكالين قال
الأخفش واختاره جمع: لسلامته من وقوع الجملة الابتدائية في
الظاهر جوابا ل لَوْ ولم يعهد ذلك في لسان العرب- كما في
البحر- أن- اللام- جواب قسم محذوف والتقدير- ولو أنهم آمنوا
واتقوا لكان خيرا لهم ولمثوبة عند الله خير- وبعضهم التزم
التمني- ولكن من جهة العباد لا من جهته تعالى- خلافا لمن اعتزل
دفعا لهما إذ لا جواب لها حينئذ، ويكون الكلام مستأنفا، كأنه
لما تمنى لهم ذلك قيل: ما هذا التحسر والتمني؟ فأجيب بأن هؤلاء
المبتذلين حرموا ما شيء قليل منه خير من الدنيا وما فيها، وفي
ذلك تحريض وحث على الإيمان، وذهب أبو حيان إلى أن خَيْرٌ هنا
للتفضيل لا للأفضلية على حد:
فخير كما لشركما فداء
والمثوبة مفعلة- بضم العين- من الثواب، فنقلت- الضمة- إلى ما
قبلها، فهو مصدر ميمي، وقيل: مفعولة وأصلها «مثووبة» فنقلت-
ضمة الواو- إلى ما قبلها، وحذفت لالتقاء الساكنين، فهي من
المصادر التي جاءت على مفعولة كمصدوقة- كما نقله الواحدي-
ويقال: «مثوبة» - بسكون الثاء وفتح الواو- وكان من حقها أن
تعلّ، فيقال:
«مثابة» - كمقامة- إلا أنهم صححوها كما صححوا في الأعلام مكوزة
وبها قرأ قتادة وأبو السماك والمراد بها الجزاء والأجر، وسمي
بذلك لأن المحسن يثوب إليه، والقول بأن المراد بها الرجعة إليه
تعالى بعيد لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ المفعول محذوف بقرينة
السابق، أي إن ثواب الله تعالى خَيْرٌ وكلمة لَوْ إما للشرط،
والجزاء محذوف أي آمَنُوا وإما للتمني ولا حذف، ونفي العلم على
التقديرين بنفي ثمرته الذي هو العمل، أو لترك التدبر، هذا «ومن
باب الإشارة في الآيات» وَاتَّبَعُوا أي اليهود وهي القوى
الروحانية ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ وهم من الانس المتمردون
الأشرار، ومن الجن الأوهام والتخيلات المحجوبة عن نور الروح
المتمردة عن طاعة القلب العاصية لأمر العقل والشرع، والنفوس
الأرضية المظلمة القوية على عهد مُلْكِ سُلَيْمانَ الروح الذي
هو خليفة الله تعالى في أرضه وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ بملاحظة
السوي واتباع الهوى، وإسناد التأثير إلى الأغيار وَلكِنَّ
الشَّياطِينَ كَفَرُوا وستروا مؤثرية الله تعالى وظهوره الذي
محا ظلمة العدم. يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ والشبه
الصادة عن السير والسلوك إلى ملك الملوك وَما أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ وهما العقل النظري والعقل العملي النازلان من
سماء القدس إلى أرض الطبيعة المنكوسان في بئرها لتوجههما إليها
باستجذاب النفس إياهما بِبابِلَ الصدر المعذبان بضيق المكان
بين أبخرة حب الجاه، ومواد الغضب وأدخنة نيران الشهوات
المبتليان بأنواع المتخيلات، والموهومات الباطلة من الحيل
والشعوذة والطلسمات والنيرنجات وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ
حَتَّى يَقُولا له إِنَّما نَحْنُ امتحان وابتلاء من الله
تعالى فَلا تَكْفُرْ وذلك لقوة النورية وبقية الملكوتية فيهما،
فإن العقل دائما ينبه صاحبه- إذا صحا عن سكرته وهب من
(1/347)
نومته- عن الكفر والاحتجاب
فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ القلب
والنفس، أو بين الروح والنفس بتكدير القلب وَيَتَعَلَّمُونَ ما
يَضُرُّهُمْ بزيادة الاحتجاب وغلبة هوى النفس وَلا
يَنْفَعُهُمْ كسائر العلوم في رفع الحجاب وتخلية النفس
وتزكيتها وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ في مقام
الفناء والرجوع إلى الحق سبحانه من نصيب لإقباله على العالم
السفلي وبعده عن العالم العلوي بتكدر جوهر قلبه، وانهماكه
برؤية الأغيار وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا برؤية الأفعال من الله
تعالى واتقوا الشرك بإثبات ما سواه لأثيبوا بمثوبة مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ تعالى دائمة، ولرجعوا إليه، وذلك خَيْرٌ لهم لَوْ
كانُوا من ذوي العلم والعرفان والبصيرة والإيقان.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا الرعي حفظ
الغير لمصلحته سواء كان الغير عاقلا أو لا، وسبب نزول الآية-
كما أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه-
أن اليهود كانوا يقولون ذلك سرا لرسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم وهو سب قبيح بلسانهم، فلما سمعوا أصحابه عليه الصلاة
والسلام يقولون: أعلنوا بها، فكانوا يقولون ذلك ويضحكون فيما
بينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وروي أن سعد بن عبادة رضي
الله تعالى عنه سمعها منهم، فقال: يا أعداء الله عليكم لعنة
الله، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأضربن عنقه، قالوا: أولستم
تقولونها؟ فنزلت الآية ونهي المؤمنون سدا للباب، وقطعا للألسنة
وإبعادا عن المشابهة. وأخرج عبيد وابن جرير والنحاس عن عطاء
قال: كانت راعِنا لغة الأنصار في الجاهلية فنهاهم الله تعالى
عنها في الإسلام، ولعل المراد أنهم يكثرونها في كلامهم
واستعملها اليهود سبا فنهوا عنها. وأما دعوى أنها لغة مختصة
بهم فغير ظاهر لأنها محفوظة في لغة جميع العرب منذ كانوا،
وقيل: ومعنى هذه الكلمة عند اليهود لعنهم الله تعالى اسمع- لا
سمعت- وقيل: أرادوا نسبته صلى الله تعالى عليه وسلم وحاشاه إلى
الرعن، فجعلوه مشتقا من الرعونة وهي الجهل والحمق، وكانوا إذا
أرادوا أن يحمقوا إنسانا قالوا: راعنا، أي يا أحمق- فالألف
حينئذ لمد الصوت- وحرف النداء محذوف- وقد ذكر الفراء أن أصل يا
زيد يا زيدا- بالألف- ليكون المنادى بين صوتين، ثم اكتفي بيا
ونوي الألف، ويحتمل أنهم أرادوا به المصدر، أي- رعنت رعونة- أو
أرادوا صرت راعنا وإسقاط- التنوين- على اعتبار الوقف، وقد قرأ
الحسن وابن أبي ليلى، وأبو حيوة وابن محيصن- بالتنوين- وجعله
الكثير صفة لمصدر محذوف، أي قولا: راعِنا وصيغة فاعل حينئذ
للنسبة- كلابن وتامر- ووصف القول به للمبالغة كما يقال:
كلمة حمقاء، وقرأ عبد الله وأبيّ «راعونا» على إسناد الفعل
لضمير الجمع للتوقير- كما أثبته الفارسي- وذكر أن في مصحف عبد
الله «ارعونا» وذهب بعض العلماء أن سبب النهي أن لفظ المفاعلة
يقتضي الاشتراك في الغالب- فيكون المعنى عليه- ليقع منك رعي
لنا، ومنا رعي لك، وهو مخل بتعظيمه صلى الله تعالى عليه وسلم،
ولا يخفى بعده عن سبب النزول بمراحل وَقُولُوا انْظُرْنا أي
انتظرنا وتأن علينا، أو انظر إلينا، ليكون ذلك أقوى في الإفهام
والتعريف، وكان الأصل أن يتعدى الفعل بإلى، لكنه توسع فيه
فتعدى بنفسه على حد قوله:
ظاهرات الجمال والحسن ينظر ... ن كما ينظر «الأراك.. الظباء»
وقيل: هو من نظر البصيرة، والمراد به التفكر والتدبر فيما يصلح
حال المنظور في أمره والمعنى تفكر في أمرنا وخير الأمور عندي
أوسطها إلا أنه ينبغي أن يقيد نظر العين بالمقترن بتدبير الحال
لتقوم هذه الكلمة مقام الأولى خالية من التدليس، وبدأ بالنهي
لأنه من باب التروك فهو أسهل ثم أتى بالأمر بعده الذي هو أشق
لحصول الاستئناس قبل بالنهي، وقرأ أبيّ والأعمش- أنظرنا- بقطع
الهمزة وكسر الظاء من الإنظار ومعناه أمهلنا حتى نتلقى عنك
ونحفظ ما نسمعه منك، وهذه القراءة تشهد للمعنى الأول على قراءة
الجمهور إلا أنها على شذوذها لا تأبى ما اخترناه
(1/348)
وَاسْمَعُوا أي ما أمرتكم به ونهيتكم عنه
بجد حتى لا تعودوا إلى ما نهيتكم عنه ولا تتركوا ما أمرتكم به
أو هو أمر بحسن الاستماع بأن يكون بإحضار القلب وتفريغه عن
الشواغل حتى لا يحتاج إلى طلب صريح المراعاة ففيه تنبيه على
التقصير في السماع حتى ارتكبوا ما تسبب للمحذور، والمراد سماع
القبول والطاعة فيكون تعريضا لليهود حيث قالوا: سَمِعْنا
وَعَصَيْنا [البقرة: 93] وإذا كان المراد سماع هذا الأمر
والنهي يكون تأكيدا لما تقدم.
وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ اللام للعهد فالمراد بالكافرين
اليهود الذين قالوا ما قالوا تهاونا بالرسول صلّى الله عليه
وسلّم المعلوم مما سبق بقرينة السياق ووضع المظهر موضع المضمر
إيذانا بأن التهاون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم كفر يوجب
أليم العذاب، وفيه من تأكيد النهي ما فيه، وجعلها للجنس- فيدخل
اليهود كما اختاره أبو حيان- ليس بظاهر على ما قيل: لأن الكلام
مع المؤمنين فلا يصلح هذا أن يكون تذييلا.
ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا
الْمُشْرِكِينَ الودّ محبة الشيء وتمني كونه، ويذكر ويراد كل
واحد منهما قصدا والآخر تبعا، والفارق كون مفعوله جملة إذا
استعمل في التمني ومفردا إذا استعمل في المحبة فتقول على
الأول: وددت لو تفعل كذا، وعلى الثاني وددت الرجل، ونفيه كناية
عن الكراهة وأتى ب ما للإشارة إلى أن أولئك متلبسون بها ومِنْ
للتبيين، وقيل: للتبعيض وفي إيقاع الكفر صلة للموصول وبيانه
بما بين وإقامة المظهر موضع المضمر إشعار بأن كتابهم يدعوهم
إلى متابعة الحق إلا أن كفرهم يمنعهم وإن الكفر شر كله لأنه
الذي يورث الحسد ويحمل صاحبه على أن يبغض الخير ولا يحبه كما
أن الإيمان خير كله لأنه يحمل صاحبه على تفويض الأمور كلها إلى
الله تعالى، ولَا صلة لتأكيد النفي وزيدت له هنا دون قوله:
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
وَالْمُشْرِكِينَ [البينة: 1] لما أن مبنى النفي الحسد،
واليهود بهذا الداء أشهر لا سيما وقد تقدم ما يفيد ابتلاءهم به
فلم يلزم من نفي ودادتهم هذه نفي ودادة المشركين لها ولم يكن
ذلك في لَمْ يَكُنِ وسبب نزول الآية أن المسلمين قالوا
لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فقالوا:
وددنا لو كان خيرا مما نحن عليه فنتبعه فأكذبهم الله تعالى
بذلك، وقيل: نزلت تكذيبا لجمع من اليهود يظهرون مودة المؤمنين
ويزعمون أنهم يودون لهم الخير وفصلت عما قبل، وإن اشتركا في
بيان قبائح اليهود مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم
والمؤمنين لاختلاف الغرضين فإن الأول لتأديب المؤمنين وهذا
لتكذيب أولئك الكافرين، ولأجل هذا الاختلاف فصل السابق عن
سابقه، ومما ذكرنا يعلم وجه تعلق الآية بما قبلها، والقول: بأن
ذلك من حيث إن القول المنهي عنه كثيرا ما كان يقع عند تنزيل
الوحي المعبر عنه بالخير فيها فكأنه أشير إلى أن سبب تحريفهم
له- إلى ما حكي عنهم لوقوعه في أثناء حصول ما يكرهونه من تنزيل
الخير- مساق على سبيل الترجي وأظنه إلى التمني أقرب، وقرىء
«ولا المشركون» بالرفع عطفا على الذين كفروا أَنْ يُنَزَّلَ
عَلَيْكُمْ في موضع النصب على أنه مفعول يَوَدُّ وبناء الفعل
للمفعول للثقة بتعيين الفاعل وللتصريح به فيما بعد، وذكر
التنزيل دون الإنزال رعاية للمناسبة بما هو الواقع من تنزيل
الخيرات على التعاقب وتجددها لا سيما إذا أريد مِنْ خَيْرٍ في
قوله تعالى: مِنْ خَيْرٍ الوحي وهو قائم مقام الفاعل، ومِنْ
صلة وزيادة خير، والنفي الأول منسحب عليها. ولذا ساغت زيادتها
عند الجمهور ولا حاجة إلى ما قيل: إن التقدير يود أن لا ينزل
خير، وذهب قوم إلى أنها للتبعيض وعليه يكون عليكم قائما ذلك
المقام، والمراد من الخير إما الوحي أو القرآن أو النصرة أو ما
اختص به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المزايا أو عام في
أنواع الخير كلها لأن المذكورين لا يودون تنزيل جميع ذلك على
المؤمنين عداوة وحسدا وخوفا من فوات الدراسة وزوال الرياسة،
وأظهر الأقوال كما في البحر الأخير ولا يأباه ما سيأتي لما
سيأتي.
مِنْ رَبِّكُمْ في موضع الصفة للخير، ومِنْ ابتدائية والتعرض
لعنوان الربوبية للإشعار بعلية التنزيل والإضافة إلى
(1/349)
ضمير المخاطبين لتشريفهم وَاللَّهُ
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ جملة ابتدائية سيقت لتقرير
ما سبق من تنزيل الخير والتنبيه على حكمته وإرغام الكارهين له،
والمراد من الرحمة ذلك الخير إلا أنه عبر عنه بها اعتناء به
وتعظيما لشأنه ومعنى اختصاص ذلك على القول الأول ظاهر ولذا
اختاره من اختاره، وعلى الأخير انفراد رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم والمؤمنين بمجموعه وعدم شركة أولئك الكارهين
فيه وعروّهم عن ترتب آثاره، وقيل: المراد من الآية دفع
الاعتراض الذي يشير إليه الحسد بأن من له أن يخص لا يعترض عليه
إذا عم، وفي إقامة لفظ- الله- مقام ضمير ربكم تنبيه على أن
تخصيص بعض الناس بالخير دون بعض يلائم الألوهية كما أن إنزال
الخير على العموم يناسب الربوبية، والباء داخلة على المقصور أي
يؤتي رحمته، ومِنْ مفعول، وقيل: الفعل لازم، ومِنْ فاعل وعلى
التقديرين العائد محذوف وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
تذييل لما سبق وفيه تذكير للكارهين الحاسدين بما ينبغي أن يكون
مانعا لهم لأن المعنى على أنه سبحانه المتفضل بأنواع التفضلات
على سائر عباده فلا ينبغي لأحد أن يحسد أحدا، ويود عدم إصابة
خير له، والكل غريق في بحار فضله الواسع الغزير كذا قيل: وإذا
جعل الفضل عاما وقيل: بإدخال النبوة فيه دخولا أوليا لأن
الكلام فيها على أحد الأقوال. كان هناك إشعار بأن النبوة من
الفضل لا كما يقوله الحكماء من أنها بتصفية الباطن، وأن حرمان
بعض عباده ليس لضيق فضله بل لمشيئته وما عرف فيه من حكمته،
وتصدير هذه الجملة بالاسم الكريم لمناسبة العظيم.
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نزلت لما قال المشركون،
أو اليهود: ألا ترون إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يأمر
أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا
ويرجع عنه غدا، ما هذا القرآن إلا كلام محمد عليه الصلاة
والسلام يقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضا-
والنسخ- في اللغة إزالة الصورة- أو ما في حكمها- عن الشيء،
وإثبات مثل ذلك في غيره سواء كان في الإعراض أو في الأعيان-
ومن استعماله في المجموع التناسخ- وقد استعمل لكل واحد منهما
مجازا- وهو أولى من الاشتراك- ولذا رغب فيه الراغب، فمن الأول
نسخت الريح الأثر أي أزالته، ومن الثاني نسخت الكتاب إذا أثبت
ما فيه في موضع آخر، ونسخ الآية- على ما ارتضاه بعض الأصوليين-
بيان انتهاء التعبد بقراءتها كآية «الشيخ والشيخة إذا زنيا
فارجموهما نكالا من الله والله عزيز حكيم» أو الحكم المستفاد
منها كآية وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ
غَيْرَ إِخْراجٍ [البقرة: 240] أو بهما جميعا كآية «عشر رضعات
معلومات يحرمن» وفيه رفع التأبيد المستفاد من إطلاقها، ولذا
عرفه بعضهم برفع الحكم الشرعي، فهو بيان بالنسبة إلى الشارع،
ورفع بالنسبة إلينا، وخرج بقيد التعبد الغاية، فإنها بيان
لانتهاء مدة نفس الحكم- لا للتعبد به- واختص التعريف بالأحكام
إذ لا تعبد في الأخبار أنفسها، وإنساؤها إذهابها عن القلوب بأن
لا تبقى في الحفظ- وقد وقع هذا- فإن بعض الصحابة أراد قراءة
بعض ما حفظه فلم يجده في صدره،
فسأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: «نسخ البارحة من
الصدور»
وروى مسلم عن أبي موسى: إنا كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول
والشدة ببراءة، فأنسيتها غير أني حفظت منها
«لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا وما يملأ
جوف ابن آدم إلا التراب»
وكنا نقرأ بسورة نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها، غير أني حفظت
منها «يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة
في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة» وهل يكون ذلك لرسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم كما كان لغيره أو لا؟ فيه خلاف،
والذاهبون إلى الأول استدلوا بقوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا
تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعلى: 6] وهو مذهب الحسن،
واستدل الذاهبون إلى الثاني بقوله تعالى: وَلَئِنْ شِئْنا
لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الإسراء: 86]
فإنه يدل على أنه لا يشاء أن يذهب بما أوحى إليه صلى الله
تعالى عليه
(1/350)
وسلم- وهذا قول الزجاج- وليس بالقوي لجواز
حمل الذي على ما لا يجوز عليه ذلك من أنواع الوحي، وقال أبو
علي: المراد لم نذهب بالجميع، وعلى التقديرين لا ينافي
الاستثناء، وسبحان من لا ينسى، وفسر بعضهم- النسخ- بإزالة
الحكم سواء ثبت اللفظ أو لا- والإنساء- بإزالة اللفظ ثبت حكمه
أو لا، وفسر بعض آخر «الأول» بالإذهاب إلى بدل للحكم السابق
«والثاني» بالإذهاب لا إلى بدل، وأورد على كلا الوجهين أن
تخصيص- النسخ- بهذا المعنى مخالف للغة والاصطلاح، وأن- الإنساء
حقيقة في الإذهاب عن القلوب، والحمل على المجاز- بدون تعذر
الحقيقة- تعسف، ولعل ما يتمسك به لصحة هذين التفسيرين من
الرواية عن بعض الأكابر لم يثبت، وما شرطية جازمة ل نَنْسَخْ
منتصبة به على المفعولية، ولا تنافي بين كونها عاملة ومعمولة
لاختلاف الجهة، فبتضمنها الشرط عاملة، وبكونها اسما معمولة-
ويقدر لنفسها جازم- وإلا لزم توارد العاملين على معمول واحد،
وتدل على جواز وقوع ما بعدها، إذ الأصل فيها أن تدخل على
الأمور المحتملة، واتفقت أهل الشرائع على جواز النسخ ووقوعه
وخالفت اليهود غير العيسوية في جوازه وقالوا: يمتنع عقلا، وأبو
مسلم الأصفهاني في وقوعه فقال: إنه وإن جاز عقلا لكنه لم يقع-
وتحقيق ذلك في الأصول، ومِنْ آيَةٍ في موضع النصب على التمييز
والمميز ما أي أي شيء نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ واحتمال زيادة مِنْ
وجعل آيَةٍ حالا- ليس بشيء- كاحتمال كون ما مصدرية شرطية
وآيَةٍ مفعولا به أي أي نسخ «ننسخ آية» بل هذا الاحتمال أدهى
وأمر- كما لا يخفى- والضمير المنصوب عائد إلى آيَةٍ على حد:
عندي درهم ونصفه، لأن المنسوخ غير المنسي، وتخصيص- الآية-
بالذكر باعتبار الغالب، وإلا فالحكم غير مختص بها، بل جار فيما
دونها أيضا على ما قيل. وقرأ طائفة وابن عامر من السبعة «ننسخ»
من باب الإفعال- والهمزة- كما قال أبو علي: للوجدان على صفة
نحو أحمدته- أي وجدته محمودا- فالمعنى ما نجده منسوخا وليس
نجده كذلك إلا بأن ننسخه، فتتفق القراءتان في المعنى- وإن
اختلفا في اللفظ- وجوّز ابن عطية كون- الهمزة- للتعدية، فالفعل
حينئذ متعد إلى مفعولين، والتقدير ما ننسخك مِنْ آيَةٍ أي ما
نبيح لك نسخه، كأنه لما نسخها الله تعالى أباح لنبيه صلى الله
تعالى عليه وسلم تركها بذلك النسخ فسمى تلك الإباحة إنساخا،
وجعل بعضهم- الإنساخ- عبارة عن الأمر بالنسخ والمأمور هو النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم، أو جبرائيل عليه السلام، واحتمال أن
يكون من نسخ الكتاب، أي ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ، أو ما
نؤخر فيه ونترك فلا ننزله، والضميران الآتيان بعد عائدان على
ما عاد إليه ضمير نُنْسِها ناشىء عن الذهول عن قاعدة أن اسم
الشرط لا بد في جوابه من عائد عليه. وقرأ عمر وابن عباس
والنخعي وأبو عمرو وابن كثير وكثير «ننسأها» - بفتح نون
المضارعة والسين وسكون الهمزة- وطائفة كذلك إلا أنه- بالألف من
غير همز- ولم يحذفها للجازم لأن أصلها- الهمزة- من- نسأ- بمعنى
أخر، والمعنى في المشهور نؤخرها في اللوح المحفوظ فلا ننزلها
أو نبعدها عن الذهن بحيث لا يتذكر معناها ولا لفظها، وهو معنى
نُنْسِها
فتتحد القراءتان، وقيل: ولعله ألطف: إن المعنى نؤخر إنزالها،
وهو في شأن الناسخة حيث أخر ذلك مدة بقاء المنسوخة فالمأتية
حينئذ عبارة عن المنسوخة كما أنه حين النسخ عبارة عن الناسخة
فمعنى الآية عليه أن رفع المنسوخة بإنزال الناسخة وتأخير
الناسخة بإنزال المنسوخة كل منهما يتضمن المصلحة في وقته، وقرأ
الضحاك وأبو الرجاء «ننسها» على صيغة المعلوم للمتكلم مع الغير
من التنسية، والمفعول الأول محذوف يقال
: أنسانيه الله تعالى ونسانيه تنسية بمعنى أي ننس أحدا إياها،
وقرأ الحسن وابن يعمر- «تنسها» - بفتح التاء من النسيان
«ونسيت» إلى سعد بن أبي وقاص، وفرقة كذلك إلا أنهم همزوا، وأبو
حيوة كذلك إلا أنه ضم التاء على أنه من الإنساء، وقرأ معبد
مثله، ولم يهمز، وقرأ أبيّ- «ننسك» - بضم النون الأولى وكسر
السين من غير همز وبكاف الخطاب. وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة-
«ننسكها» - بإظهار المفعولين، وقرأ الأعمش- «ما ننسك من آية أو
(1/351)
ننسخها نجىء بمثلها» - ومناسبة الآية لما
قبلها أن فيه ما هو من قبيل النسخ حيث أقر الصحابة رضي الله
تعالى عنهم مدة على قول راعِنا وإقراره صلى الله تعالى عليه
وسلم على الشيء منزل منزلة الأمر به والاذن فيه، ثم إنهم نهوا
عن ذلك فكان مظنة لما يحاكى ما حكى في سبب النزول، أو لأنه
تعالى لما ذكر أنه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ كاد ترفع الطغام
رؤوسها وتقول: إن من الفضل عدم النسخ لأن النفوس إذا داومت على
شيء سهل عليها فأتى سبحانه بما ينكس رؤوسهم ويكسر ناموسهم
ويشير إلى أن النسخ من جملة فضله العظيم وجوده العميم، أو لأنه
تعالى لما أشار إلى حقية الوحي ورد كلام الكارهين له رأسا عقبه
بما يبين سر النسخ الذي هو فرد من أفراد تنزيل الوحي وإبطال
مقالة الطاعنين فيه فليتدبر.
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أي بشيء هو خير للعباد
منها أَوْ مِثْلِها حكما كان ذلك أو عدمه وحيا متلوا أو غيره،
والخيرية أعم من أن تكون في النفع فقط أو في الثواب فقط أو في
كليهما، والمثلية خاصة بالثواب على ما أشار إليه بعض المحققين،
وفصله بأن الناسخ إذا كان ناسخا للحكم سواء كان ناسخا للتلاوة
أو لا لا بد أن يكون مشتملا على مصلحة خلا عنها الحكم السابق
لما أن الأحكام إنما تنوعت للمصالح، وتبدلها منوط بتبدلها بحسب
الأوقات فيكون الناسخ خيرا منه في النفع سواء كان خيرا منه في
الثواب أو مثلا له أو لا ثواب فيه أصلا كما إذا كان الناسخ
مشتملا على الإباحة أو عدم الحكم وإذا كان ناسخا للتلاوة فقط
لا يتصور الخيرية في النفع لعدم تبدل الحكم السابق والمصلحة
فهو إما خير منه في الثواب أو مثل له، وكذا الحال في الإنساء
فإن المنسي إذا كان مشتملا على حكم يكون المأتي به خيرا في
النفع سواء كان النفع لخلوه عن الحكم مطلقا أو لخلوه عن ذلك
الحكم واشتماله على حكم يتضمن مصلحة خلا عنها الحكم المنسي مع
جواز خيريته في الثواب ومماثلته أيام خلوه عنه، وإذا لم يكن
مشتملا على حكم فالمأتيّ به بعده إما خير في الثواب أو مثل له،
والحاصل أن المماثلة في النفع لا تتصور لأنه على تقدير تبدل
الحكم تتبدل المصلحة فيكون خيرا منه، وعلى تقدير عدم تبدله
المصلحة الأولى باقية على حالها انتهى، ثم لا يخفى أن ما تقدم
من التعميم مبني على جواز النسخ بلا بدل وجواز نسخ الكتاب
بالسنة- وهو المذهب المنصور- ومن الناس من منع ذلك ومنع النسخ
ببدل أثقل أيضا، واحتج بظاهر الآية، أما على الأول فلأنه لا
يتصور كون المأتيّ به خيرا أو مثلا إلا في بدل، وأما على
الثاني فلأن الناسخ هو المأتيّ به بدلا وهو خير أو مثل، ويكون
الآتي به هو الله تعالى، والسنة ليست خيرا ولا مثل القرآن ولا
مما أتى به سبحانه وتعالى، وأما على الثالث فلأن الأثقل ليس
بخير من الأخف ولا مثلا له، ورد ذلك- أما الأول، والثالث-
فلأنا لا نسلم أن كون المأتيّ به خيرا أو مثلا لا يتصور إلا في
بدل وأن الأثقل لا يكون خيرا من الأخف إذ الأحكام إنما شرعت
والآيات إنما نزلت لمصالح العباد وتكميل نفوسهم فضلا منه تعالى
ورحمة وذلك يختلف باختلاف الأعصار والأشخاص كالدواء الذي تعالج
به الأدواء فإن النافع في عصر قد يضر في غيره والمزيل علة شخص
قد يزيل علة سواه فإذن قد يكون عدم الحكم أو الأثقل أصلح في
انتظام المعاش وأنظم في إصلاح المعاد والله تعالى لطيف حكيم،
ولا يرد أن المتبادر من نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها بآية خير منها
وأن عدم الحكم ليس بمأتيّ به لما أن الخلاف في جواز النسخ بلا
بدل ليس في إتيان اللفظ بدل الآية الأولى بل في الحكم كما لا
يخفى على من راجع الأصول- وأما الثاني- فلأنا لا نسلم حصر
الناسخ بما ذكر إذ يجوز أن يعرف النسخ بغير المأتيّ به فإن
مضمون الآية ليس إلا أن نسخ الآية يستلزم الإتيان بما هو خير
منها أو مثل لها، ولا يلزم منه أن يكون ذلك هو الناسخ فيجوز أن
يكون أمرا مغايرا يحصل بعد حصول النسخ وإذا جاز ذلك فيجوز أن
يكون الناسخ سنة والمأتيّ به الذي هو خير أو مثل آية أخرى،
وأيضا السنة مما أتى به الله سبحانه لقوله تعالى: وَما
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم:
3، 4] وليس المراد بالخيرية والمماثلة في اللفظ حتى لا تكون
(1/352)
السنة كذلك بل في النفع والثواب فيجوز أن
يكون ما اشتملت عليه السنة خيرا في ذلك، واحتجت المعتزلة
بالآية على حدوث القرآن فإن التغير المستفاد من النسخ،
والتفاوت المستفاد من الخيرية في وقت دون آخر من روادف الحدث
وتوابعه فلا يتحقق بدونه، وأجيب بأن التغير والتفاوت من عوارض
ما يتعلق به الكلام النفسي القديم وهي الأفعال في الأمر والنهي
والنسب الخبرية في الخبر وذلك يستدعيهما في تعلقاته دون ذاته،
وأجاب الإمام الرازي بأن الموصوف بهما الكلام اللفظي، والقديم
عندنا الكلام النفسي، واعترض بأنه مخالف لما اتفقت عليه آراء
الأشاعرة من أن الحكم قديم والنسخ لا يجري إلا في
الأحكام، وقرأ أبو عمرو- نات- بقلب الهمزة ألفا.
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
الاستفهام قيل: للتقرير، وقيل: للإنكار، والخطاب للرسول صلى
الله تعالى عليه وسلم، وأريد بطريق الكناية هو وأمته المسلمون
وإنما أفرده لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أعلمهم، ومبدأ
علمهم، ولإفادة المبالغة مع الاختصار، وقيل: لكل واقف عليه على
حد «بشر المشائين» وقيل لمنكري النسخ، والمراد الاستشهاد بعلم
المخاطب بما ذكر على قدرته تعالى على النسخ وعلى الإتيان بما
هو خير أو مماثل لأن ذلك من جملة الأشياء المقهورة تحت قدرته
سبحانه فمن علم شمول قدرته عز وجل على جميع الأشياء علم قدرته
على ذلك قطعا، والالتفات بوضع الاسم الجليل موضع الضمير لتربية
المهابة، ولأنه الاسم العلم الجامع لسائر الصفات، ففي ضمنه صفة
القدرة فهو أبلغ في نسبة القدرة إليه من ضمير المتكلم المعظم،
وكذا الحال في قوله عز شأنه: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي قد علمت أيها المخاطب
أن الله تعالى له السلطان القاهر، والاستيلاء الباهر،
المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي- إيجادا وإعداما،
وأمرا ونهيا- حسبما تقتضيه مشيئته، لا معارض لأمره، ولا معقب
لحكمه، فمن هذا شأنه كيف يخرج عن قدرته شيء من الأشياء؟ فيكون
الكلام على هذا كالدليل لما قبله في إفادة البيان، فيكون منزلا
منزلة عطف البيان من متبوعه في إفادة الإيضاح، فلذا ترك العطف
وجوّز أن يكون تكريرا للأول وإعادة للاستشهاد على ما ذكر،
وإنما لم تعطف أَنَّ مع ما في حيزها على ما سبق من مثلها روما
لزيادة التأكيد وإشعارا باستقلال العلم بكل منهما وكفاية في
الوقوف على ما هو المقصود، وخص السَّماواتِ وَالْأَرْضِ-
بالملك- لأنهما من أعظم المخلوقات الظاهرة، ولأن كل مخلوق لا
يخلو عن أن يكون في إحدى هاتين الجهتين فكان في الاستيلاء
عليهما إشارة إلى الاستيلاء على ما اشتملا عليه، وبدأ سبحانه
بالتقرير على وصف القدرة لأنه منشئا لوصف الاستيلاء والسلطان،
ولم يقل جل شأنه: إن الله ملك إلخ قصدا إلى تقوي الحكم بتكرير
الإسناد وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا
نَصِيرٍ عطف على الجملة الواقعة خبرا ل أَنَّ داخل معها حيث
دخلت، وفيه إشارة إلى تناول الخطاب فيما قبل للأمة أيضا، ومِنْ
الثانية صلة فلا تتعلق بشيء، و «من» الأولى لابتداء الغاية وهي
متعلقة بمحذوف وقع حالا من مدخول مِنْ الثانية- وهو في الأصل
صفة له- فلما قدم انتصب على الحالية «وفي البحر» انها متعلقة
بما تعلق به لَكُمْ وهو في موضع الخبر ويجوز في ما أن تكون
تميمية وأن تكون حجازية على رأي من يجيز تقدم خبرها إذا كان
ظرفا أو مجرورا- والولي- المالك، والنصير- المعين، والفرق
بينهما أن المالك قد لا يقدر على النصرة أو قد يقدر ولا يفعل،
والمعين قد يكون مالكا وقد لا يكون- بل يكون أجنبيا- والمراد
من الآية الاستشهاد على تعلق إرادته تعالى بما ذكر من الإتيان
بما هو خير من المنسوخ أو بمثله، فإن مجرد قدرته تعالى على ذلك
لا يستدعي حصوله البتة، وإنما الذي يستدعيه كونه تعالى مع ذلك
وليا نصيرا لهم، فمن علم أنه تعالى وليه ونصيره لا ولي ولا
نصير له سواه يعلم قطعا أنه لا يفعل به إلا ما هو خير له فيفوض
أمره إليه تعالى، ولا يخطر بباله ريبة في أمر النسخ وغيره
أصلا.
(1/353)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا
رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ جوّز في أَمْ هذه
أن تكون متصلة، وأن تكون منقطعة، فإن قدر «تعلمون» قبل
تُرِيدُونَ بناء على دلالة السياق وهو أَلَمْ تَعْلَمْ والسياق
هو الاقتراح فإنه لا يكون إلا عند التعنت- والعلم- بخلافه كانت
متصلة، كأنه قيل: أي الأمرين من عدم العلم بما تقدم، أو العلم
مع الاقتراح واقع، والاستفهام حينئذ للإنكار بمعنى لا ينبغي أن
يكون شيء منهما، وإن لم يقدر كانت منقطعة للاضراب عن عدم علمهم
بالسابق إلى الاستفهام عن اقتراحهم كاقتراح اليهود إنكارا
عليهم بأنه لا ينبغي أن يقع أيضا، وقطع بعضهم بالقطع بناء على
دخول الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في الخطاب أو لا، وعدم
دخوله فيه هنا لأنه مقترح عليه لا مقترح- وذلك مخل بالاتصال-
وأجيب بأنه غير مخل به لحصوله بالنسبة إلى المقصد، وإرادة
الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في الأول
كانت لمجرد التصوير والانتقال لما قدمنا أنهم بطريق الكناية،
والمراد- على التقديرين- توصيته المسلمين بالثقة برسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم، وترك الاقتراح بعد رد طعن المشركين
أو اليهود في- النسخ- فكأنه قيل: لا تكونوا فيما أنزل إليكم من
القرآن مثل اليهود في ترك الثقة بالآيات البينة واقتراح غيرها
فتضلوا وتكفروا بعد الإيمان، وفي هذه التوصية كمال المبالغة
والبلاغة حتى كأنهم بصدد الإرادة فنهوا عنها- فضلا عن السؤال-
يعني من شأن العاقل أن لا يتصدى لإرادة ذلك، ولم يقل سبحانه:
كما سأل أمة موسى عليه السلام أو اليهود للإشارة إلى أن من سأل
ذلك يستحق أن يصان اللسان عن ذكره- ولا يقتضي سابقية وقوع
الاقتراح منهم- ولا يتوقف مضمون الآية عليه إذ التوصية لا
تقتضي سابقية الوقوع، كيف وهو كفر- كما يدل عليه ما بعد- ولا
يكاد يقع من المؤمن، ومما ذكرنا يظهر وجه ذكر هذه الآية بعد
قوله تعالى: ما نَنْسَخْ فإن المقصد من كل منهما تثبيتهم على
الآيات وتوصيتهم بالثقة بها، وأما بيانه بأنه لعلهم كانوا
يطلبون منه عليه الصلاة والسلام بيان تفاصيل الحكم الداعية إلى
النسخ فلذا أردفت آية النسخ بذلك فأراه إلى التمني أقرب،
وقد ذكر بعض المفسرين أنهم اقترحوا على الرسول صلى الله تعالى
عليه وسلم في غزوة خيبر أن يجعل لهم ذات أنواط كما كان
للمشركين، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «سبحان
الله! هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.
والذي نفسي بيده لتركبن سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة
بالقذة إن كان فيهم من أتى أمه يكون فيكم. فلا أدري أتعبدون
العجل أم لا؟»
وهو مع الحاجة إليه يستدعي أن المخاطب في الآيات هم المؤمنون،
والسباق والسياق والتذييل تشهد له، وعليه يترجح الاتصال- لما
نقل عن الرضيّ- أن الفعليتين إذا اشتركتا في الفاعل نحو أقمت
أم قعدت؟ - فأم- متصلة، وزعم قوم أن المخاطب بها اليهود، وأن
الآية نزلت فيهم حين سألوا أن ينزل عليهم كتاب من السماء جملة-
كما نزلت التوراة على موسى عليه السلام- وخاطبهم بذلك بعد رد
طعنهم تهديدا لهم، وحينئذ يكون المضارع الآتي بمعنى الماضي،
إلا أنه عبر به عنه إحضارا للصورة الشنيعة، واختار هذا الإمام
الرازي وقال: إنه الأصح، لأن هذه سورة من أول قوله تعالى: يا
بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ [البقرة: 40] حكاية عن
اليهود ومحاجة معهم، ولأنه جرى ذكرهم وما جرى ذكر غيرهم، ولأن
المؤمن بالرسول لا يكاد يسأل ما يكون متبدلا به الْكُفْرَ
بِالْإِيمانِ ولا يخفى ما فيه، وكأنه رحمه الله تعالى نسي قوله
تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا
وَقُولُوا انْظُرْنا وقيل: إن المخاطب أهل مكة، وهو قول ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد روي عنه أن الآية نزلت في عبد
الله بن أمية ورهط من قريش قالوا: يا محمد، اجعل لنا الصفا
ذهبا ووسع لنا أرض مكة، وفجر لنا الأنهار خلالها تفجيرا ونؤمن
لك، وحكي في سبب النزول غير ذلك، ولا مانع- كما في البحر- من
جعل الكل أسبابا، وعلى الخلاف في المخاطبين يجيء الكلام في
رَسُولَكُمْ فإن كانوا المؤمنين فالإضافة على ما في نفس الأمر
وما أقروا به من رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن كانوا
غيرهم فهي على ما في نفس الأمر دون الإقرار، وما مصدرية،
والمشهور أن المجرور نعت لمصدر محذوف-
(1/354)
أي سؤالا كما- ورأى سيبويه أنه في موضع نصب
على الحال، والتقدير عنده أن تسألوه أي السؤال كَما وأجاز
الحوفي أن تكون ما موصولة في موضع المفعول به ل تَسْئَلُوا أي
كالأشياء التي سئلها مُوسى عليه السلام قَبْلُ وهو الأنسب لأن
الإنكار عليهم إنما هو لفساد المقترحات، وكونها في العاقبة
وبالا عليهم- وفيه نظر- لأن المشبه أَنْ تَسْئَلُوا وهو مصدر،
فالظاهر أن المشبه به كذلك، وقبح السؤال إنما هو لقبح المسئول
عنه، بل قد يكون السؤال نفسه قبيحا في بعض الحالات مع أن
المصدرية لا تحتاج إلى تقدير رابط- فهو أولى- ومِنْ قَبْلُ
متعلق ب سُئِلَ وجيء به للتأكيد. وقرأ الحسن. وأبو السمال
«سيل» - بسين مكسورة وياء- وأبو جعفر والزهري- بإشمام السين
الضم وياء- وبعضهم بتسهيل- الهمزة- بين بين- وضم السين.
وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ
سَواءَ السَّبِيلِ جملة مستقلة مشتملة على حكم كلي أخرجت مخرج
المثل جيء بها لتأكيد النهي عن الاقتراح المفهوم من قوله: أَمْ
تُرِيدُونَ إلخ معطوفة عليه، فهي تذييل له باعتبار أن
المقترحين الشاكين من جملة- الضالين الطريق المستقيم
المتبدلين- وسَواءَ بمعنى وسط أو مستوي، والإضافة من باب إضافة
الوصف إلى الموصوف لقصد المبالغة في بيان قوة الاتصاف كأنه
نفس- السواء- على منهاج حصول الصورة في الصورة الحاصلة-
والفاء- رابطة وما بعدها لا يصح أن يكون جزاء الشرط لأن ضلال
الطريق المستقيم متقدم على- الاستبدال- والارتداد لا يترتب
عليه، ولأن الجزاء إذا كان ماضيا مع قد كان باقيا على مضيه لأن
قد للتحقيق، وما تأكد ورسخ لا ينقلب، ولا يترتب الماضي على
المستقبل، ولأن كون الشرط مضارعا والجزاء ماضيا صورة ضعيف لم
يأت في الكتاب العزيز- على ما صرح به الرضيّ وغيره- فلا بد من
التقدير بأن يقال: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ
فالسبب فيه أنه تركه، ويؤول المعنى إلى أن ضلال الطريق
المستقيم- وهو الكفر الصريح في الآيات- سبب للتبديل والارتداد،
وفسر بعضهم- التبدل- المذكور بترك الثقة بالآيات باعتبار كونه
لازما له فيكون كناية عنه، وحاصل الآية حينئذ ومن يترك الثقة
بالآيات البينة المنزلة بحسب المصالح التي من جملتها الآيات
الناسخة التي هي خير محض، وحق بحت واقترح غيرها فقد عدل وجار
من حيث لا يدري عن الطريق المستقيم الموصل إلى معالم الحق
والهدى، وتاه في تيه الهوى، وتردى في مهاوي الردى، واختار ما
في النظم الكريم إيذانا من أول الأمر على أبلغ وجه بأن ذلك كفر
وارتداد، ولعل ما أشرنا إليه أولى كما لا يخفى على المتدبر،
وقرىء وَمَنْ يُبَدِّلْ من- أبدل- وإدغام- الدال في الضاد-
والإظهار قراءتان مشهورتان.
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وهم طائفة من أحبار
اليهود قالوا للمسلمين بعد وقعة أحد: ألم تروا إلى ما أصابكم،
ولو كنتم على الحق لما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم،
رواه الواحدي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه. وروي أن فنحاص
بن عازوراء وزيد بن قيس ونفرا من اليهود قالوا ذلك لحذيفة رضي
الله تعالى عنه من حديث طويل، وذكر الحافظ ابن حجر أنه لم يوجد
في شيء من كتب الحديث لَوْ يَرُدُّونَكُمْ حكاية لودادتهم، وقد
تقدم الكلام على لَوْ هذه فأغنى عن الإعادة مِنْ بَعْدِ
إِيمانِكُمْ كُفَّاراً أي مرتدين، وهو حال من ضمير المخاطبين
يفيد مقارنة الكفر بالرد فيؤذن بأن الكفر يحصل بمجرد الارتداد
مع قطع النظر إلى ما يرد إليه، ولذا لم يقل- لو يردونكم- إلى
الكفر، وجوز أن يكون حالا من فاعل وَدَّ واختار بعضهم أنه
مفعول ثان- ليردونكم- على تضمين الرد معنى التصيير إذ منهم من
لم يكفر حتى يرد إليه فيحتاج إلى التغليب كما في لَتَعُودُنَّ
فِي مِلَّتِنا [الأعراف: 88، ابراهيم: 13] على أن في ذلك يكون
الكفر المفروض بطريق القسر وهو أدخل في الشناعة، وفي قوله
تعالى: مِنْ بَعْدِ مع أن الظاهر- عن- لأن الرد يستعمل بها
تنصيص بحصول الإيمان لهم، وقيل: أورد متوسطا
(1/355)
لإظهار كمال فظاعة ما أرادوه وغاية بعده عن
الوقوع إما لزيادة قبحه الصاد للعاقل عن مباشرته، وإما لممانعة
الإيمان له كأنه قيل: من بعد إيمانكم الراسخ، وفيه من تثبيت
المؤمنين ما لا يخفى حَسَداً علة- لودّ- لا- ليردونكم- لأنهم
يودون ارتدادهم مطلقا لا ارتدادهم المعلل بالحسد، وجوزوا أن
يكون مصدرا منصوبا على الحال أي حاسدين ولم يجمع لأنه مصدر،
وفيه ضعف لأن جعل المصدر حالا- كما قال أبو حيان- لا ينقاس.
وقيل: يجوز أن يكون منصوبا على المصدر والعامل فيه محذوف يدل
عليه المعنى أي حسدوكم حسدا وهو كما ترى مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِهِمْ متعلق بمحذوف وقع صفة إما للحسد أي حسدا كائنا من
أصل نفوسهم فكأنه ذاتي لها، وفيه إشارة إلى أنه بلغ مبلغا
متناهيا، وهذا يؤكد أمر التنوين إذا جعل للتكثير أو التعظيم،
وإما للوداد المفهوم من وَدَّ أي ودادا كائنا مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِهِمْ وتشهيهم لا من قبل التدبر والميل إلى الحق، وجعله
ظرفا لغوا معمولا- لود- أو حَسَداً كما نقل عن مكي يبعده أنهما
لا يستعملان بكلمة مِنْ كما قاله ابن الشجري مِنْ بَعْدِ ما
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ بالنعوت المذكورة في التوراة
والمعجزات وهذا كالدليل على تخصيص الكثير بالأحبار لأن التبين
بذلك إنما كان لهم لا للجهال، ولعل من قال: إن الودادة من
عوامهم أيضا لئلا يبطل دينهم الذي ورثوه وتبطل رياسة أحبارهم
الذين اعتقدوهم واتخذوهم رؤساء، فالمراد من الكثير جميعهم من
كفارهم ومنافقيهم ويكون ذكره لإخراج من آمن منهم سرا وعلانية
يدعي أن التبين حصل للجميع أيضا إلا أن أسبابه مختلفة متفاوتة
وهذا هو الذي يغلب على الظن فإن من شاهد هاتيك المعجزات
الباهرة والآيات الزاهرة يبعد منه كيفما كان عدم تبين الحق
ومعرفة مطالع الصدق إلا أن الحظوظ النفسانية والشهوات الدنية
والتسويلات الشيطانية حجبت من حجبت عن الإيمان وقيدت من قيدت
في قيد الخذلان فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا العفو ترك عقوبة المذنب،
والصفح ترك التثريب والتأنيث وهو أبلغ من العفو إذ قد يعفو
الإنسان ولا يصفح، ولعله مأخوذ من تولية صفحة الوجه إعراضا أو
من تصفحت الورقة إذا تجاوزت عما فيها. وآثر العفو على الصبر
على اذاهم إيذانا بتمكين المؤمنين ترهيبا للكافرين.
حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ هو واحد الأوامر والمراد
به الأمر بالقتال بقوله سبحانه قاتِلُوا الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إلى وَهُمْ
صاغِرُونَ [التوبة: 29] أو الأمر بقتل قريظة وإجلاء بني
النضير، وقيل: واحد الأمور، والمراد به القيامة. أو المجازاة
يومها أو قوة الرسالة وكثرة الأمة، ومن الناس من فسر الصفح
بالإعراض عنهم وترك مخالطتهم وجعل غاية العفو إتيان آية القتال
وغاية الإعراض إتيان الله تعالى أمره، وفسره بإسلام من أسلم
منهم- كما قاله الكلبي- وليس بشيء لأنه يستلزم أن يحمل الأمر
على واحد الأوامر وواحد الأمور، وهو عند المحققين واقع بين
الحقيقة والمجاز، وعن قتادة والسدي وابن عباس رضي الله تعالى
عنهم إن الآية منسوخة بآية السيف واستشكل ذلك بأن النسخ لكونه
بيانا لمدة الانتهاء بالنسبة إلى الشارع ودفعا للتأييد الظاهري
من الإطلاق بالنسبة إلينا يقتضي أن يكون الحكم المنسوخ خاليا
عن التوقيت والتأبيد فإنه لو كان مؤقتا كان الناسخ بيانا له
بالنسبة إلينا أيضا ولو كان مؤبدا كان بدءا لا بيانا بالنسبة
إلى الشارع، والأمر هاهنا مؤقت بالغاية وكونها غير معلومة
يقتضي أن تكون آية القتال بيانا لإجماله وبذلك تبين ضعف ما
أجاب به الإمام الرازي وتبعه فيه كثيرون من أن الغاية التي
يتعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعا لم يخرج الوارد من
أن يكون ناسخا ويحل محل فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا إلى أن أنسخه
لكم فليس هذا مثل قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى
اللَّيْلِ [البقرة: 187] وأما تأييد الطيبي له بحكم التوراة
والإنجيل لأنه ذكر فيهما انتهاء مدة الحكم بهما بإرسال النبي
الأمي بنحو قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ
النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً
عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: 157]
وكان ظهوره صلى الله تعالى عليه وسلم نسخا فيرد عليه ما في
التلويح من
(1/356)
أن الواقع فيهما البشارة بشرع النبي صلى
الله تعالى عليه وسلم، وإيجاب الرجوع إليه، وذلك لا يقتضي
توقيت الأحكام لاحتمال أن يكون الرجوع إليه باعتبار كونه مفسرا
أو مقررا أو مبدلا للبعض دون البعض فمن أين يلزم التوقيت بل هي
مطلقة يفهم منها التأبيد فتبديلها يكون نسخا وأجيب عن
الاستشكال بأنه لا يبعد أن يقال: إن القائلين بالنسخ أرادوا به
البيان مجازا أو يقال: لعلهم فسروا الغاية بإماتتهم أو بقيام
الساعة، والتأبيد إنما ينافي إطلاق الحكم إذا كان غاية للوجوب،
وأما إذا كان غاية للواجب فلا، ويجري فيه النسخ عند الجمهور
قاله مولانا الساليكوتي: إلا أن الظاهر لا يساعده فتدبر.
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مؤكد لما فهم
من سابقه، وفيه إشعار بالانتقام من الكفار ووعد للمؤمنين
بالنصرة والتمكين، ويحتمل على بعد أن يكون ذكرا لموجب قبول
أمره بالعفو والصفح وتهديدا لمن يخالف أمره وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ عطف على فاعفوا كأنه سبحانه أمرهم
بالمخالقة (1) والالتجاء إليه تعالى بالعبادة البدنية والمالية
لأنها تدفع عنهم ما يكرهون. وقول الطبري: إنهم أمروا هنا
بالصلاة والزكاة ليحبط ما تقدم من ميلهم إلى قول اليهود راعِنا
منحط عن درجة الاعتبار.
وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ أي أي خير كان،
وفي ذلك توكيد للأمر بالعفو والصفح، والصلاة والزكاة، وترغيب
إليه، واللام نفعية، وتخصيص الخير بالصلاة، والصدقة خلاف
الظاهر، وقرىء تقدموا من قدم من السفر، وأقدمه غيره جعله
قادما، وهي قريب من الأولى لا من الاقدام ضد الاحجام.
تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ أي تجدوا ثوابه لديه سبحانه فالكلام
على حذف مضاف، وقيل: الظاهر أن المراد تجدوه في علم الله
تعالى، والله تعالى عالم به إلا أنه بالغ في كمال علمه فجعل
ثبوته في علمه بمنزلة ثبوت نفسه عنده وقد أكد تلك المبالغة
بقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ حيث جعل
جميع ما يعملون مبصرا له تعالى فعبر عن علمه تعالى بالبصر مع
أن قليلا مما يعملون من المبصرات، وكأنه لهذا فسر الزمخشري
البصير بالعالم، وأما قول العلامة إنه إشارة إلى نفي الصفات،
وأنه ليس معنى السمع والبصر في حقه تعالى إلا تعلق ذاته
بالمعلومات ففيه أن التفسير لا يفيد إلا أن المراد من البصير
هاهنا العالم ولا دلالة على كونه نفس الذات أو زائدا عليه ولا
على أن ليس معنى السمع والبصر في حقه تعالى سوى التعلق
المذكور، وقرئ- «يعلمون» - بالياء والضمير حينئذ كناية عن
كثير، أو عن أهل الكتاب فيكون تذييلا لقوله تعالى فَاعْفُوا
إلخ مؤكدا لمضمون الغاية، والمناسب أن يكون وعيدا لأولئك ليكون
تسلية، وتوطينا للمؤمنين بالعفو والصفح، وإزالة لاستبطاء إتيان
الأمر، وجوز أن يكون كناية عن المؤمنين المخاطبين بالخطابات
المتقدمة، والكلام وعيد للمؤمنين، ويستفاد من الالتفات الواقع
من صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة، وهو النكتة الخاصة بهذا
الالتفات ولا يخفى أنه كلام لا ينبغي أن يلتفت إليه وَقالُوا
لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى
عطف على وَدَّ وما بينهما أعني فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا إما
اعتراض بالفاء أو عطف على وَدَّ أيضا، وعطف الإنشاء على
الاخبار فيما لا محل له من الإعراب بما سوى الواو جائز،
والضمير- لأهل الكتاب- لا- لكثير منهم- كما يتبادر من العطف،
والمراد بهم اليهود والنصارى جميعا، وكأن أصل الكلام- قالت
اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا وقالت النصارى لن يدخل
الجنة إلا من كان نصارى- فلف بين هذين المقولين، وجعلا مقولا
واحدا اختصارا وثقة بفهم السامع أن ليس المقصد أن كل واحد من
الفريقين يقول هذا القول المردد، وللعلم
__________
(1) المخالقة بالخاء المعجمة والقاف مفاعلة من الخلق الحسن.
(1/357)
بتضليل كل واحد منهما صاحبه بل المقصد
تقسيم القول المذكور بالنسبة إليهم فكلمة أَوْ كما في مغني
اللبيب للتفصيل والتقسيم لا للترديد فلا غبار- وهود- جمع هائد
كعوذ (1) جمع عائذ، وقيل: مصدر يستوي فيه الواحد وغيره، وقيل:
إنه مخفف يهود بحذف الياء وهو ضعيف، وعلى القول بالجمعية يكون
اسم كانَ مفردا عائدا علي مَنْ باعتبار لفظها، وجمع الخبر
باعتبار معناها، وهو كثير في الكلام خلافا لمن منعه، ومنه
قوله: وأيقظ من كان منكم نياما وقرأ أبيّ- يهوديا، أو نصرانيا-
فحمل الخبر والاسم معا على اللفظ.
تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ الأماني جمع أمنية وهي ما يتمنى-
كالأضحوكة والأعجوبة- والجملة معترضة بين قولهم ذلك وطلب
الدليل على صحة دعواهم، وتِلْكَ إشارة إلى لَنْ يَدْخُلَ
الْجَنَّةَ إلخ وجمع الخبر مع أن ما أشير إليه أمنية واحدة
ليدل على تردد الأمنية في نفوسهم وتكررها فيها، وقيل: إشعارا
بأنها بلغت كل مبلغ لأن الجمع يفيد زيادة الآحاد فيستعمل لمطلق
الزيادة وهذا من بديع المجاز ونفائس البيان وقيل: لا حاجة إلى
هذا كله بل الجمع لأن تِلْكَ محتوية على أمان- أن لا يدخل
الجنة إلا اليهود، وأن لا يدخل الجنة إلا النصارى- وحرمان
المسلمين منها، وأيضا فقائله متعدد وهو باعتبار كل قائل أمنية
وباعتبار الجميع أمان كثيرة، ومن الناس من جعلها إشارة إلى أن-
لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأن يردوهم كفارا، وأن لا
يدخل الجنة غيرهم- وعليه يكون أمانيهم تغليبا لأن الأولين من
قبيل المتمنيات حقيقة والثالث دعوى باطلة، وجوز أيضا أن تكون
إشارة إلى ما في الآية على حذف المضاف أي أمثال تلك الأمنية
أمانيهم فإن جعل الأماني بمعنى الأكاذيب، فإطلاق الأمنية على
دعواهم على سبيل الحقيقة، وإن جعل بمعنى المتمنيات فعلى
الاستعارة تشبيها بالمتمنى في الاستحالة، ولا يخفى ما في
الوجهين من البعد لا سيما أولهما لأن كل جملة ذكر فيها- ودّهم-
لشيء قد انفصلت وكملت واستقلت في النزول فيبعد جدا أن يشار
إليها.
قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي على ما ادعيتموه من اختصاصكم
بدخول الجنة فهو متصل معنى بقوله تعالى: قالُوا لَنْ يَدْخُلَ
إلخ على أنه جواب له لا غير، وهاتُوا بمعنى أحضروا والهاء
أصلية لا بدل من همزة- آتوا- ولا للتنبيه وهي فعل أمر خلافا
لمن زعم أنها اسم فعل أو صوت بمنزلة- ها- وفي مجيء الماضي
والمضارع والمصدر من هذه المادة خلاف وأثبت أبو حيان- هاتى
يهاتي مهاتاة- والبرهان الدليل على صحة الدعوى، قيل: هو مأخوذ
من البرة وهو القطع فتكون النون زائدة، وقيل: من البرهنة وهو
البيان فتكون النون أصلية لفقدان فعلن ووجود فعلل ويبنى على
هذا الاشتقاق الخلاف في- برهان- إذا سمي به هل ينصرف أو لا؟
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ جواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله
ومتعلق الصدق دعواهم السابقة لا- الإيمان- ولا- الأماني- كما
قيل، وأفهم التعليق أنه لا بد من البرهان للصادق ليثبت دعواه،
وعلل بأن كل قول لا دليل عليه غير ثابت عند الخصم فلا يعتد به،
ولذا قيل: من ادعى شيئا بلا شاهد لا بد أن تبطل دعواه، وليس في
الآية دليل على منع التقليد فإن دليل المقلد دليله كما لا
يخفى، وتفسير الصدق هنا بالصلاح مما لا يدعو إليه سوى فساد
الذهن بَلى رد لقولهم الذي زعموه وإثبات لما تضمنه من نفي دخول
غيرهم الجنة. والقول بأنه رد لما أشار إليه قُلْ هاتُوا
بُرْهانَكُمْ من نفي أن يكون لهم برهان مما لا وجه له ولا
برهان عليه مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أي انقاد لما قضى
الله تعالى وقدر، أو أخلص له نفسه أو قصده فلم يشرك به تعالى
غيره، أو لم يقصد سواه فالوجه إما مستعار للذات وتخصيصه بالذكر
لأنه أشرف الأعضاء ومعدن
__________
(1) قوله: عوذ هي حديثات النتاج من الظباء والإبل والخيل اهـ
منه.
(1/358)
الحواس. وإما مجاز عن القصد لأن القاصد
للشيء مواجه له وَهُوَ مُحْسِنٌ حال من ضمير أَسْلَمَ أي
والحال انه محسن في جميع أعماله، وإذا أريد بما تقدم الشرك
يؤول المعنى إلى «آمن وعمل الصالحات» وقد فسر النبي صلّى الله
عليه وسلّم الإحسان
بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
فَلَهُ أَجْرُهُ أي الذي وعد له على ذلك لا الذي يستوجبه كما
قاله الزمخشري رعاية لمذهب الاعتزال، والتعبير عما وعد بالأجر
إيذانا بقوة ارتباطه بالعمل عِنْدَ رَبِّهِ حال من أجره
والعامل فيه معنى الاستقرار، والعندية للتشريف، والمراد عدم
الضياع والنقصان، وأتى- بالرب- مضافا إلى ضمير مَنْ أَسْلَمَ
إظهارا لمزيد اللطف به وتقريرا لمضمون الجملة، والجملة جواب
مَنْ إن كانت شرطية وخبرها إن كانت موصولة والفاء فيها لتضمنها
معنى الشرط، وعلى التقديرين يكون الرد بَلى وحده وما بعده كلام
مستأنف كأنه قيل إذا بطل ما زعموه فما الحق في ذلك، وجوز أن
تكون مَنْ موصولة فاعل ليدخلها محذوفا، وبَلى مع ما بعدها رد
لقولهم، ويكون فَلَهُ أَجْرُهُ معطوفا على ذلك المحذوف عطف
الاسمية على الفعلية لأن المراد بالأولى التجدد، وبالثانية
الثبوت، وقد نص السكاكي بأن الجملتين إذا اختلفتا تجددا وثبوتا
يراعى جانب المعنى فيتعاطفان وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ تقدم مثله والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى
مَنْ كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ، ويجوز في
مثل هذا العكس إلا أن الأفصح أن يبدأ بالحمل على اللفظ ثم
بالحمل على المعنى لتقدم اللفظ عليه في الإفهام.
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ
النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ المراد يهود
المدينة ووفد نصارى نجران تماروا عند رسول الله صلّى الله
تعالى عليه وسلّم وتسابوا وأنكرت اليهود الإنجيل ونبوة عيسى
عليه السلام وأنكر النصارى التوراة ونبوة موسى عليه السلام.
فأل في الموضعين للعهد. وقيل: المراد عامة اليهود وعامة
النصارى وهو من الإخبار عن الأمم السالفة، وفيه تقريع لمن
بحضرته صلى الله تعالى عليه وسلم وتسلية له عليه الصلاة
والسلام إذ كذبوا بالرسل والكتب قبله فأل في الموضعين للجنس،
والأول هو المروي في أسباب النزول، وعليه يحتمل أن يكون القائل
كل واحد من آحاد الطائفتين وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون المراد
بذلك رجلين رجل من اليهود يقال له نافع بن حرملة ورجل من نصارى
نجران ونسبة ذلك للجميع حيث وقع من بعضهم وهي طريقة معروفة عند
العرب في نظمها ونثرها. وهذا بيان لتضليل كل فريق صاحبه بخصوصه
إثر بيان تضليله كل من عداه على وجه العموم، وعَلى شَيْءٍ خبر
ليس، وهو عند بعض من باب حذف الصفة أي شيء يعتد به في الدين
لأنه من المعلوم أن كلّا منهما على شيء، والأولى عدم اعتبار
الحذف، وفي ذلك مبالغة عظيمة لأن الشيء- كما يشير إليه كلام
سيبويه- ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فإذا نفي مطلقا كان ذلك
مبالغة في عدم الاعتداد بما هم عليه وصار كقولهم- أقل من لا
شيء- وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ حال من الفريقين بجعلهما فاعل
فعل واحد لئلا يلزم إعمال عاملين في معمول واحد أي قالوا ذلك
وهم عالمون بما في كتبهم الناطقة بخلاف ما يقولون، وفي ذلك
توبيخ لهم وإرشاد للمؤمنين إلى أن من كان عالما بالقرآن لا
ينبغي أن يقول خلاف ما تضمنه، والمراد من الْكِتابَ الجنس
فيصدق على التوراة والإنجيل، وقيل: المراد به التوراة لأن
النصارى تمتثلها أيضا.
كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ وهم مشركو العرب في قول
الجمهور، وقيل: مشركو قريش، وقيل: هم أمم كانوا قبل اليهود
والنصارى، وأما القول بأنهم اليهود وأعيد قولهم مثل قول
النصارى ونفي عنهم العلم حيث لم ينتفعوا به فالظاهر أنه قول
الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ والكاف من كَذلِكَ في موضع نصب على
أنه نعت لمصدر محذوف منصوب ب قالَ مقدم عليه أي قولا مثل قول
اليهود والنصارى قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ويكون مِثْلَ
قَوْلِهِمْ
(1/359)
على هذا منصوبا ب يَعْلَمُونَ والقول بمعنى
الاعتقاد، أو يقال على أنه مفعول به أو بدل من محل الكاف،
وقيل:
كَذلِكَ مفعول به ومِثْلَ مفعول مطلق، والمقصود تشبيه المقول
بالمقول في المؤدي والمحصول، وتشبيه القول بالقول في الصدور عن
مجرد التشهي والهوى والعصبية، وجوزوا أن تكون الكاف في موضع
رفع بالابتداء والجملة بعده خبر والعائد محذوف أي قاله،
ومِثْلَ صفة مصدر محذوف، أو مفعول يَعْلَمُونَ ولا يجوز أن
يكون مفعول قالَ لأنه قد استوفى مفعوله، واعترض هذا بأن حذف
العائد- على المبتدأ الذي لو قدر خلو الفعل عن الضمير لنصبه-
مما خصه الكثير بالضرورة ومثلوا له بقوله:
وخالد يحمد ساداتنا ... بالحق «لا تحمد» بالباطل
وقيل: عليه وعلى ما قبله أن استعمال الكاف اسما وإن جوزه
الأخفش إلا أن جماعة خصوه بضرورة الشعر مع أنه قد يؤول ما ورد
منه فيه على أنه لا يخفى ما في توجيه التشبيهين دفعا لتوهم
اللغوية من التكلف والخروج عن الظاهر، ولعل الأولى أن يجعل
مِثْلَ قَوْلِهِمْ إعادة لقوله تعالى: كَذلِكَ للتأكيد
والتقرير كما في قوله تعالى:
جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ [يوسف: 75]
وبه قال بعض المحققين، وقد يقال: إن كذلك ليست للتشبيه هنا بل
لإفادة أن هذا الأمر عظيم مقرر، وقد نقل الوزير عاصم بن أيوب
في شرح قول زهير:
«كذلك» خيمهم ولكل قوم ... إذا مستهم الضراء خيم
عن الإمام الجرجاني ان كَذلِكَ تأتي للتثبيت إما لخبر مقدم
وإما لخبر متأخر وهي نقيض كلا لأن كلا تنفي، وكذلك تثبت ومثله
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ [الحجر: 12]
وفي شرح المفتاح الشريفي انه ليس المقصود من التشبيهات هي
المعاني الوضعية فقط إذ تشبيهات البلغاء قلما تخلو من مجازات
وكنايات فنقول: إنا رأيناهم يستعملون كذا وكذا للاستمرار تارة
نحو عدل زيد في قضية فلان كذا وهكذا أي عدل مستمر، وقال
الحماسي:
«هكذا» يذهب الزمان ويفنى ال ... علم فيه ويدرس الأثر
نص عليه التبريزي في شرح الحماسة وله شواهد كثيرة، وقال في شرح
قول أبي تمام:
كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر إنه للتهويل والتعظيم وهو في
صدر القصيدة لم يسبق ما يشبه به، وسيأتي لذلك تتمة إن شاء الله
تعالى، وإنما جعل قول أولئك مشبها به لأنه أقبح إذ الباطل من
العالم أقبح منه من الجاهل، وبعضهم يجعل التشبيه على حد
إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [البقرة: 275] وفيه من
المبالغة والتوبيخ على التشبه بالجهال ما لا يخفى وإنما وبخوا،
وقد صدقوا إذ كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء لأنهم لم يقصدوا
ذلك وإنما قصد كل فريق إبطال دين الآخر من أصله والكفر بنبيه
وكتابه على أنه لا يصح الحكم بأن كلا الدينين بعد النسخ ليس
بشيء يعتد به لأن المتبادر منه أن لا يكون كذلك في حد ذاته وما
لا ينسخ منهما حق واجب القبول والعمل فيكون شيئا معتدا به في
حد ذاته وإن يكن شيئا بالنسبة إليهم لأنه لا انتفاع بما لم
ينسخ مع الكفر بالناسخ.
فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما
كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي بين اليهود والنصارى لا بين
الطوائف الثلاثة لأن مساق النظم لبيان حال تينك الطائفتين
والتعرض لمقالة غيرهم لإظهار كمال بطلان مقالهم والحكم الفصل
والقضاء وهو يستدعي جارين فيقال: حكم القاضي في هذه الحادثة
بكذا، وقد حذف هنا أحدهما اختصارا وتفخيما لشأنه أي بما يقسم
لكل فريق ما يليق به من العذاب، والمتبادر من الحكم بين فريقين
أن يحكم لأحدهما بحق دون الآخر فكأن استعماله بما ذكر مجاز،
وقال الحسن: المراد بالحكم بين هذين الفريقين تكذيبهم وإدخالهم
النار وفي
(1/360)
ذلك تشريك في حكم واحد وهو بعيد عن حقيقة
الحكم، ويَوْمَ متعلق ب يَحْكُمُ وكذا ما بعده ولا ضير لاختلاف
المعنى، وفيه متعلق ب يَخْتَلِفُونَ لا ب كانُوا وقدم عليه
للمحافظة على رؤوس الآي.
«ومن باب الإشارة في الآيات» ما ننسخ من آية أي ما نزيل من
صفاتك شيئا عن ديوان قلبك أو نخفيه بإشراق أنوارنا عليه إلا
ونرغم فيه من صفاتنا التي لا تظن قابليتك لما يشاركها في الاسم
والتي تظن وجود ما لا يشاركها فيك أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ لَهُ مُلْكُ عالم الأرواح وأرض الأجساد وهو المتصرف
فيهما بيد قدرته بل العوالم على اختلافها ظاهر شؤون ذاته ومظهر
أسمائه وصفاته فلم يبق شيء غيره ينصركم ويليكم أَمْ تُرِيدُونَ
أَنْ تَسْئَلُوا رسول العقل من اللذات الدنية والشهوات
الدنيوية كَما سُئِلَ مُوسى القلب مِنْ قَبْلُ وَمَنْ
يَتَبَدَّلِ الظلمة بالنور فقد ضل الطريق المستقيم وقالت
اليهود لن يدخل الجنة المعهودة عندهم وهي جنة الظاهر وعالم
الملك التي هي جنة الأفعال وجنة النفس إلا من كان هودا وقالت
النصارى لن يدخل الجنة المعهودة عندهم وهي جنة الباطن وعالم
الملكوت التي هي جنة الصفات وجنة القلب إلا من كان نصرانيا،
ولهذا قال عيسى عليه السلام: لن يلج ملكوت السماوات من لم يولد
مرتين تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ أي غاية مطالبهم التي وقفوا على
حدها واحتجبوا بها عما فوقها قُلْ هاتُوا دليلكم الدال على نفي
دخول غيركم إِنْ كُنْتُمْ صادقين في دعواكم بل الدليل دل على
نقيض مدعاكم فإن مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ وخلص ذاته من جميع
لوازمها وعوارضها لله تعالى بالتوحيد الذاتي عند المحو الكلي
وهو مستقيم في أحواله بالبقاء بعد الفناء مشاهد ربه في أعماله
راجع من الشهود الذاتي إلى مقام الإحسان الصفاتي الذي هو
المشاهدة للوجود الحقاني فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي ما
ذكرتم من الجنة وأصفى لاختصاصه بمقام العندية التي حجبتم عنها
ولهم زيادة على ذلك هي عدم خوفهم من احتجاب الذات وعدم حزنهم
على ما فاتهم من جنة الأفعال والصفات التي حجبتم بالوقوف عندها
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ لاحتجابهم
بالباطن عن الظاهر وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ
عَلى شَيْءٍ لاحتجابهم عن الباطن بالظاهر وَهُمْ يَتْلُونَ
الْكِتابَ وفيه ما يرشدهم إلى رفع الحجاب ورؤية حقية كل مذهب
في مرتبته كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ المراتب
مِثْلَ قَوْلِهِمْ فخطأ كل فرقة منهم الفرقة الأخرى ولم يميزوا
بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية ولم يعرفوا وجه الحق في
كل مرتبة من مراتب الوجود فالله تعالى الجامع لجميع الصفات على
اختلاف مراتبها وتفاوت درجاتها يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بالحق في
اختلافاتهم يوم قيام القيامة الكبرى وظهور الوحدة الذاتية
وتجلي الرب بصور المعتقدات حتى ينكرونه فلا يسجد له إلا من لم
يقيده سبحانه حتى بقيد الإطلاق وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ
مَساجِدَ اللَّهِ نزلت في طيطوس بن إسيانوس الرومي وأصحابه
وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتليهم وسبوا ذراريهم
وحرقوا التوراة وخربوا بيت المقدس وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه
الخنازير وبقي خرابا إلى أن بناه المسلمون في أيام عمر بن
الخطاب رضي الله تعالى عنه، وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما أنها نزلت في مشركي العرب منعوا المسلمين من ذكر
الله تعالى في المسجد الحرام، وعلى الأول تكون الآية معطوفة
على قوله تعالى: وَقالَتِ النَّصارى عطف قصة على قصة تقريرا
لقبائحهم، وعلى الثاني تكون اعتراضا بأكثر من جملة بين المعطوف
أعني قالوا اتخذوا المعطوف عليه أعني قالت اليهود لبيان حال
المشركين الذين جرى ذكرهم بيانا لكمال شناعة أهل الكتاب فإن
المشركين الذين يضاهونهم إذا كانوا أظلم الكفرة، وظاهر الآية
العموم في كل مانع وفي كل مسجد وخصوص السبب لا يمنعه، و «أظلم»
أفعل تفضيل خبر عن- من- ولا يراد بالاستفهام حقيقته وإنما هو
بمعنى النفي فيؤول إلى الخبر أي لا أحد أظلم من ذلك واستشكل
بأن هذا التركيب قد تقرر في القرآن وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ
ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها
(1/361)
[الكهف: 57] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ
افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الإنعام: 21، 93، 144،
الأعراف: 37، يونس: 17] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ
بِآياتِ اللَّهِ [الإنعام: 157، الزمر: 32] إلى غير ذلك فإذا
كان المعنى على هذا لزم التناقض وأجيب بالتخصيص إما بما يفهم
من نفس الصلات أو بالنسبة إلى من جاء بعد من ذلك النوع ويؤول
معناه إلى السبق في المانعية أو الافترائية مثلا، واعترض بأن
ذلك بعد عن مدلول الكلام ووضعه العربي وعجمة في اللسان يتبعها
استعجام المعنى، فالأولى أن يجاب بأن ذلك لا يدل على نفي
التسوية في الأظلمية وقصارى ما يفهم
من الآيات أظلمية أولئك المذكورين فيها ممن عداهم كما أنك إذا
قلت لا أحد أفقه من زيد وعمرو وخالد لا يدل على أكثر من نفي أن
يكون أحد أفقه منهم وأما أنه يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر
فلا، ولا يرد أن من منع مساجد الله مثلا ولم يفتر على الله
كذبا أقل ظلما ممن جمع بينهما فلا يكون مساويا في الأظلمية لأن
هذه الآيات إنما هي في الكفار وهم متساوون فيها إذ الكفر شيء
واحد لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لأفراد من اتصف به وإنما
تمكن بالنسبة لهم ولعصاة المؤمنين بجامع ما اشتركوا فيه من
المخالفة قاله أبو حيان، ولا يخفى ما فيه. وقد قال غير واحد إن
قولك: من أظلم ممن فعل كذا إنكار لأن يكون أحد أظلم منه أو
مساويا له وإن لم يكن سبك التركيب متعرضا لإنكار المساواة
ونفيها إلا أن العرف الفاشي والاستعمال المطرد يشهد له فإنه
إذا قيل من أكرم من فلان أو لا أفضل من فلان فالمراد به حتما
أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل فلعل الأولى الرجوع إلى
أحد الجوابين مع ملاحظة الحيثية وإن جعلت ذلك الكلام مخرجا
مخرج المبالغة في التهديد والزجر مع قطع النظر عن نفي المساواة
أو الزيادة في نفس الأمر كما قيل به محكما العرف أيضا زال
الاشكال وارتفع القيل والقال فتدبر أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ مفعول ثان لمنع أو مفعول من أجله بمعنى منعها كراهية
أَنْ يُذْكَرَ أو بدل اشتمال من مساجد والمفعول الثاني إذن
مقدر أي عمارتها أو العبادة فيها أو نحوه أو الناس مساجد الله
تعالى أو لا تقدير والفعل متعد لواحد وكني بذكر اسم الله تعالى
عما يوقع في المساجد من الصلوات والتقربات إلى الله تعالى
بالأفعال القلبية والقالبية المأذون بفعلها فيها.
وَسَعى فِي خَرابِها أي هدمها وتعطيلها، وقال الواحدي: إنه عطف
تفسير لأن عمارتها بالعبادة فيها أُولئِكَ الظالمون المانعون
الساعون في خرابها.
ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ- اللام- في
لَهُمْ إما للاختصاص- على وجه اللياقة- كما في الجل للفرس،
والمراد من- الخوف- الخوف من الله تعالى، وإما للاستحقاق كما
في- الجنة للمؤمن- والمراد من- الخوف- الخوف من المؤمنين، وإما
لمجرد الارتباط بالحصول، أي ما كانَ لَهُمْ في علم الله تعالى
وقضائه أَنْ يَدْخُلُوها فيما سيجيء إِلَّا خائِفِينَ والجملة
«على الأول» مستأنفة جواب لسؤال نشأ من قوله تعالى: وَسَعى فِي
خَرابِها كأنه قيل: فما اللائق بهم؟ والمراد من- الظلم- حينئذ
وضع الشيء في غير موضعه.
«وعلى الثاني» جواب سؤال ناشىء من قوله سبحانه: مَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ مَنَعَ كأنه قيل: فما كان حقهم؟
والمراد من- الظلم- التصرف في حق الغير «وعلى الثالث» اعتراض
بين كلامين متصلين معنى، وفيه وعد المؤمنين بالنصرة وتخليص-
المساجد- عن الكفار- وللاهتمام بذلك وسطه- وقد أنجز الله تعالى
وعده والحمد لله فقد روي أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من
النصارى إلا متنكرا مسارقة، وقال قتادة: لا يوجد نصراني في بيت
المقدس إلا انتهك ضربا، وأبلغ إليه في العقوبة ولا نقض
باستيلاء الأقرع، وبقاء بيت المقدس في أيدي النصارى أكثر من
مائة سنة إلى أن استخلصه الملك صلاح الدين لأن الإنجاز يستدعي
تحقيقه في وقت ما، ولا دلالة فيه على التكرار، وقيل: النفي
بمعنى النهي- ومعناه على طريق الكناية- النهي عن التخلية
والتمكين من دخولهم المساجد، وذلك يستلزم
(1/362)
- أن لا يدخلوها إلا خائفين- من المؤمنين،
فذكر اللازم وأريد الملزوم، ولا يخفى أن النهي عن التخلية
والتمكين المذكور في وقت قوة الكفار ومنعهم المساجد لا فائدة
فيه سوى الاشعار بوعد المؤمنين بالنصرة والاستخلاص منهم،
فالحمل عليه من أول الأمر أولى، واختلف الأئمة في دخول الكفار
المسجد، فجوّزه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه مطلقا
للآية- فإنها تفيد دخولهم بخشية وخشوع- ولأن وفد ثقيف قدموا
عليه عليه الصلاة والسلام فأنزلهم المسجد،
ولقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان فهو
آمن، ومن دخل الكعبة فهو آمن»
والنهي محمول على التنزيه أو الدخول للحرم بقصد الحج، ومنعه
مالك رضي الله تعالى عنه مطلقا لقوله تعالى: إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: 28] والمساجد يجب تطهيرها عن
النجاسات، ولذا يمنع الجنب عن الدخول- وجوّزه لحاجة- وفرق
الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بين المسجد الحرام وغيره
وقال: الحديث منسوخ بالآية، وقرأ عبد الله «إلا خيفا» وهو مثل
لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أي عظيم بقتل أبطالهم وأقيالهم،
وكسر أصنامهم، وتسفيه أحلامهم، وإخراجهم من جزيرة العرب التي
هي دار قرارهم، ومسقط رؤوسهم، أو بضرب الجزية على أهل الذمة
منهم وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو عذاب النار
لما أن سببه أيضا، وهو ما حكي من ظلمهم- كذلك في العظم- وتقديم
الظرف في الموضعين للتشويق لما يذكر بعده.
«ومن باب الإشارة في الآية» ومن أبخس حظا وأنقص حقا «ممن منع»
مواضع السجود لله تعالى وهي القلوب التي يعرف فيها فيسجد له
بالفناء الذاتي أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ الخاص الذي هو
الاسم الأعظم، إذ لا يتجلى بهذا الاسم إلا في القلب- وهو
التجلي بالذات مع جميع الصفات- أو اسمه المخصوص بكل واحد منها،
أي الكمال اللائق باستعداده المقتضي له وَسَعى فِي خَرابِها
بتكديرها بالتعصبات وغلبة الهوى، ومنع أهلها بتهييج الفتن
اللازمة لتجاذب قوى النفس، ودواعي الشيطان والوهم أُولئِكَ ما
كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها ويصلوا إليها إِلَّا خائِفِينَ
منكسرين لظهور تجلي الحق فيها لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ
وافتضاح وذلة بظهور بطلان ما هم عليه وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ
عَذابٌ عَظِيمٌ وهو احتجابهم عن الحق سبحانه وَلِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أي الناحيتان المعلومتان المجاورتان
لنقطة تطلع منها الشمس وتغرب، وكنى بمالكيتهما عن مالكية كل
الأرض، وقال بعضهم: إذا كانت الأرض كروية يكون كل مشرق بالنسبة
مغربا بالنسبة- والأرض كلها كذلك- فلا حاجة إلى التزام
الكناية، وفيه بعد فَأَيْنَما تُوَلُّوا أي ففي أي مكان فعلتم
التولية شطر القبلة، وقرأ الحسن تُوَلُّوا على الغيبة فَثَمَّ
وَجْهُ اللَّهِ أي فهناك جهته سبحانه التي أمرتم بها، فإذا
مكان- التولية- لا يختص بمسجد دون مسجد ولا مكان دون آخر
فَأَيْنَما ظرف لازم الظرفية متضمن لمعنى الشرط وليس مفعولا ل
تُوَلُّوا- والتولية- بمعنى الصرف منزل منزلة اللازم، وثم اسم
إشارة للمكان البعيد خاصة- مبني على الفتح- ولا يتصرف فيه
يغير- من- وقد وهم من أعربه مفعولا به في قوله تعالى: وَإِذا
رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً [الإنسان: 20] وهو خبر مقدم،
وما بعده مبتدأ مؤخر، والجملة جواب الشرط- والوجه- الجهة-
كالوزن والزنة- واختصاص الإضافة باعتبار كونها مأمورا بها،
وفيها رضاه سبحانه، وإلى هذا ذهب الحسن ومقاتل ومجاهد وقتادة،
وقيل: الوجه بمعنى الذات مثله في قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ
هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] إلا أنه جعل هنا كناية عن
عمله واطلاعه مما يفعل هناك، وقال أبو منصور: بمعنى الجاه،
ويؤول إلى الجلال والعظمة، والجملة- على هذا- اعتراض لتسلية
قلوب المؤمنين بحل الذكر والصلاة في جميع الأرض- لا في المساجد
خاصة-
وفي الحديث الصحيح «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»
ولعل غيره عليه الصلاة والسلام لم تبح له الصلاة في غير البيع
والكنائس، وصلاة عيسى عليه السلام- في أسفاره- في غيرها كانت
عن
(1/363)
ضرورة- فلا حاجة إلى القول باختصاص
المجموع- وجوّز أن تكون «أينما» مفعول تُوَلُّوا بمعنى الجهة،
فقد شاع في الاستعمال «أينما» توجهوا، بمعنى أي جهة توجهوا-
بناء على ما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما- أن الآية
نزلت في صلاة المسافر (1) والتطوع على الراحلة، وعلى ما روي عن
جابر أنها نزلت في قوم عميت عليهم- القبلة- في غزوة كانت فيها
معهم، فصلوا إلى الجنوب والشمال، فلما أصبحوا تبين خطؤهم،
ويحتمل- على هاتين الروايتين- أن تكون «أينما» كما في الوجه
الأول أيضا، ويكون المعنى في أي مكان فعلتم أي- تولية- لأن حذف
المفعول به يفيد العموم، واقتصر عليه بعضهم مدعيا أن ما تقدم
لم يقل به أحد من أهل العربية، ومن الناس من قال: الآية توطئة
لنسخ القبلة، وتنزيه للمعبود أن يكون في حين وجهة، وإلا لكانت
أحق بالاستقبال، وهي محمولة على العموم غير مختصة بحال السفر
أو حال التحري، والمراد ب «أينما» أي جهة، وبالوجه الذات. ووجه
الارتباط حينئذ أنه لما جرى ذكر- المساجد- سابقا أورد بعدها
تقريبا حكم- القبلة- على سبيل الاعتراض، وادعى بعضهم أن هذا
أصح الأقوال، وفيه تأمل إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ أي محيط بالأشياء
ملكا أو رحمة، فلهذا- وسع- عليكم- القبلة- ولم يضيق عليكم
عَلِيمٌ بمصالح العباد وأعمالهم في الأماكن، والجملة على الأول
تذييل لمجموع وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ إلخ وعلى
الثاني تذييل لقوله سبحانه فَأَيْنَما تُوَلُّوا إلخ، ومن
الغريب جعل ذلك تهديدا.. لمن منع مساجد الله- وجعل الخطاب
المتقدم لهم أيضا، فيؤول المعنى إلى أنه لا مهرب من الله تعالى
لمن طغى، ولا مفر لمن بغى، لأن فلك سلطانه حدد الجهات، وسلطان
علمه أحاط بالأفلاك الدائرات.
أين المفر ولا مفر لهارب ... وله البسيطان الثرى والماء
ومن باب الإشارة أن المشرق عبارة عن عالم النور والظهور وهو
جنة النصارى وقبلتهم بالحقيقة باطنه، والمغرب عالم الأسرار
والخفاء وهو جنة اليهود وقبلتهم بالحقيقة باطنه، أو المشرق
عبارة عن إشراقه سبحانه على القلوب بظهور أنواره فيها والتجلي
لها بصفة جماله حالة الشهود، والمغرب عبارة عن الغروب بتستره
واحتجابه واختفائه بصفة جلاله حالة البقاء بعد الفناء ولله
تعالى كل ذلك فأي جهة يتوجه المرء من الظاهر والباطن فَثَمَّ
وَجْهُ اللَّهِ المتحلي بجميع الصفات المتجلي بما شاء منزها عن
الجهات وقد قال قائل القوم:
وما الوجه إلا واحد غير أنه ... إذا أنت عددت المرايا تعددا
إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ لا يخرج شيء عن إحاطته عَلِيمٌ فلا يخفى
عليه شيء من أحوال خليقته ومظاهر صفته.
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً نزلت في اليهود حيث- قالوا
عزيز ابن الله- وفي نصارى نجران حين قالوا الْمَسِيحُ ابْنُ
اللَّهِ وفي مشركي العرب حيث قالوا- الملائكة بنات الله-
فالضمير لما سبق ذكره من النصارى واليهود والمشركين الذين لا
يعلمون، وعطفه على قالَتِ الْيَهُودُ وقال أبو البقاء على
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وجوز أن يكون عطفا على منع
أو على مفهوم- من أظلم- دون لفظه للاختلاف إنشائية وخبرية.
والتقدير ظلموا ظلما شديدا بالمنع، وقالوا: وإن جعل من عطف
القصة على القصة لم يحتج إلى تأويل، والاستئناف حينئذ بياني
كأنه قيل بعد ما عدد من قبائحهم هل انقطع خيط إسهابهم في
الافتراء على الله تعالى أم امتد؟ فقيل: بل امتد فإنهم قالوا
ما هو أشنع وأفظع، والاتخاذ- إما بمعنى الصنع والعمل فلا يتعدى
إلا إلى واحد. وإما بمعنى التصيير، والمفعول الأول محذوف أي
صير بعض مخلوقاته ولدا، وقرأ ابن عباس، وابن عامر. وغيرهما-
قالوا- بغير واو على الاستئناف أو
__________
(1) بالمعنى اللغوي أي الخارج عن العمران اهـ منه.
(1/364)
ملحوظا فيه معنى العطف، واكتفى بالضمير،
والربط به عن الواو كما في البحر سُبْحانَهُ تنزيه وتبرئة له
تعالى عما قالوا: بأبلغ صيغة ومتعلق- سبحان- محذوف كما ترى
لدلالة الكلام عليه.
بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إبطال لما زعموه
وإضراب عما تقتضيه مقالتهم الباطلة من التشبيه بالمحدثات في
التناسل والتوالد، والحاجة إلى الولد في القيام بما يحتاج
الوالد إليه، وسرعة الفناء لأنه لازم للتركيب اللازم للحاجة،
وكل محقق قريب سريع، ولأن الحكمة في التوالد هو أن يبقى النوع
محفوظا بتوارد الأمثال فيما لا سبيل إلى بقاء الشخص بعينه مدة
بقاء الدهر. وكل ذلك يمتنع على الله تعالى فإنه الأبدي الدائم
والغني المطلق المنزه عن مشابهة المخلوقات. واللام في لَهُ قيل
للملك، وقيل: إنها كالتي في قولك لزيد- ضرب- تفيد نسبة الأثر
إلى المؤثر، وقيل: للاختصاص بأي وجه كان، وهو الأظهر، والمعنى
ليس الأمر كما افتروا بل هو خالق جميع الموجودات التي من
جملتها ما زعموه ولدا، والخالق لكل موجود لا حاجة له إلى الولد
إذ هو يوجد ما يشاء منزها عن الاحتياج إلى التوالد كُلٌّ لَهُ
قانِتُونَ أي كل ما فيهما كائنا ما كان جميعا منقادون له لا
يستعصي شيء منهم على مشيئته وتكوينه إيجادا وإعداما وتغيرا من
حال إلى حال، وهذا يستلزم الحدوث والإمكان المنافي للوجوب
الذاتي فكل من كان متصفا بهذه الصفة لا يكون والدا لأن من حق
الولد أن يشارك والده في الجنس لكونه بعضا منه، وإن لم يماثله،
وكان الظاهر كلمة من مع قانِتُونَ كيلا يلزم اعتبار التغليب
فيه، ويكون موافقا لسوق الكلام فإن الكلام في العزير والمسيح
والملائكة وهم عقلاء إلا أنه جاء بكلمة ما المختصة بغير أولي
العلم كما قاله بعضهم: محتجا بقصة الزبعرى مخالفا لما عليه
الرضيّ من أنها في الغالب لما يعلم، ولما عليه الأكثرون من
عمومها كما في التلويح، واعتبر التغليب في قانِتُونَ إشارة إلى
أن هؤلاء الذين جعلوهم ولد الله تعالى سبحانه وتعالى في جنب
عظمته جمادات مستوية الأقدام معها في عدم الصلاحية لاتخاذ
الولد، وقيل: أتى بما في الأول لأنه إشارة إلى مقام الألوهية،
والعقلاء فيه بمنزلة الجمادات، وبجمع العقلاء في الثاني لأنه
إشارة إلى مقام العبودية، والجمادات فيه بمنزلة العقلاء.
ويحتمل أن يقدر المضاف إليه كل ما جعلوه ولدا لدلالة المقول لا
عاما لدلالة مبطلة، ويراد بالقنوت الانقياد لأمر التكليف كما
أنه على العموم الانقياد لأمر التكوين، وحينئذ لا تغليب في
قانِتُونَ وتكون الجملة إلزاما بأن ما زعموه ولدا مطيع لله
تعالى مقر بعبوديته بعد إقامة الحجة عليهم بما سبق، وترك العطف
للتنبيه على استقلال كل منهما في الدلالة على الفساد
واختلافهما في كون أحدهما حجة والآخر إلزاما، وعلى الأول يكون
الأخير مقررا لما قبله، وذكر الجصاص أن في هذه الآية دلالة على
أن ملك الإنسان لا يبقى على ولده لأنه نفي الولد بإثبات الملك
باعتبار أن اللام له فمتى ملك ولده عتق عليه، وقد حكم صلى الله
تعالى عليه وسلم بمثل ذلك في الوالد إذا ملكه ولده ولا يخفى أن
هذا بعيد عما قصد بالآية لا سيما إذا كان الأظهر الاختصاص كما
علمت بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبدعهما فهو فعيل من
أفعل وكان الأصمعي ينكر فعيلا بمعنى مفعل، وقال ابن بري: قد
جاء كثيرا نحو مسخن وسخين. ومقعد وقعيد. وموصى ووصي. ومحكم
وحكيم. ومبرم وبريم. ومونق وأنيق في أخوات له، ومن ذلك السميع
في بيت عمرو بن معديكرب السابق. والاستشهاد بناء على الظاهر
المتبادر على ما هو الأليق بمباحث العربية فلا يرد ما قيل في
البيت لأنه على خلافه كما لا يخفى على المنصف، وقيل: هو من
إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها للتخفيف أي بديع سماواته. وأنت
تعلم أنه قد تقرر أن الصفة إذا أضيفت إلى الفاعل يكون فيها
ضمير يعود إلى الموصوف فلا تصح الإضافة إلا إذا صح اتصاف
الموصوف بها نحو- حسن الوجه- حيث يصح اتصاف الرجل بالحسن لحسن
وجهه بخلاف حسن الجارية وإنما صح زيد كثير الإخوان لاتصافه
بأنه متقوّ بهم. وفيما نحن فيه-
(1/365)
وإن امتنع اتصافه بالصفة المذكورة- لكن يصح
اتصافه بما دلت عليه وهو كونه مبدعا لهما. وهذا يقتضي أن يكون
الأولى بقاء المبدع على ظاهره وهو الذي عليه أساطين أهل اللغة،
والإبداع اختراع الشيء لا عن مادة ولا في زمان، ويستعمل ذلك في
إيجاده تعالى للمبادىء- كما قاله الراغب وهو غير الصنع إذ هو
تركيب الصورة بالعنصر ويستعمل في إيجاد الأجسام وغير التكوين
فإنه ما يكون بتغير وفي زمان غالبا وإذا أريد من السماوات
والأرض جميع ما سواه تعالى من المبدعات والمصنوعات والمكونات
لاحتوائها على عالم الملك والملكوت فبعد اعتبار التغليب يصح
إطلاق كل من الثلاثة إلا أن لفظ الإبداع أليق لأنه يدل على
كمال قدرته تعالى، والقول بتعين حمل الإبداع على التكوين من
مادة أو أجزاء لأن إيجاد السماوات من شيء كما يشير إليه قوله
تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فصلت:
11] ناشىء من الغفلة عما ذكرنا، والآية حجة أخرى لإبطال تلك
المقالة الشنعاء، وتقريرها أنه تعالى مبدع لكل ما سواه فاعل
على الإطلاق، ولا شيء من الوالد كذلك ضرورة انفعاله بانفصال
مادة الولد عنه فالله تعالى ليس بوالد، وقرأ المنصور بَدِيعُ
بالنصب على المدح، وقرىء بالجر على أنه بدل من الضمير في لَهُ
على رأي من يجوز ذلك وَإِذا قَضى أَمْراً أي أراد شيئا بقرينة
قوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً [يس: 83]
وجاء القضاء على وجوه ترجع كلها إلى إتمام الشيء قولا أو فعلا
وإطلاقه على الإرادة مجاز من استعمال اللفظ المسبب في السبب
فإن الإيجاد الذي هو إتمام الشيء مسبب عن تعلق الإرادة لأنه
يوجبه، وساوى ابن السيد بينه وبين القدر، والمشهور التفرقة
بينهما بجعل القدر تقديرا لأمور قبل أن تقع، والقضاء إنفاذ ذلك
القدر وخروجه من العدم إلى حد الفعل، وصحح ذلك الجمهور لأنه قد
جاء
في الحديث «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مر بكهف مائل
للسقوط فأسرع المشي حتى جاوزه فقيل: له أتفر من قضاء الله
تعالى؟ فقال: أفر من قضائه تعالى إلى قدره»
ففرق صلى الله تعالى عليه وسلم بين القضاء والقدر.
فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الظاهر أن الفعلين من-
كان- التامة لعدم ذكر الخبر مع أنها الأصل أي أحدث فيحدث، وهي
تدل على معنى الناقصة لأن الوجود المطلق أعم من وجوده في نفسه
أو في غيره والأمر محمول (1) على حقيقته كما ذهب إليه محققو
ساداتنا الحنفية والله تعالى قد أجرى سنته في تكوين الأشياء أن
يكونها بهذه الكلمة وإن لم يمتنع تكوينها بغيرها، والمراد
الكلام الأزلي لأنه يستحيل قيام اللفظ المرتب بذاته تعالى
ولأنه حادث فيحتاج إلى خطاب آخر فيتسلسل وتأخره عن الإرادة
وتقدمه على وجود الكون باعتبار التعلق، ولما لم يشتمل خطاب
التكوين على الفهم واشتمل على أعظم الفوائد جاز تعلقه
بالمعدوم، وذهب المعتزلة وكثير من أهل السنة إلى أنه ليس
المراد به حقيقة الأمر والامتثال، وإنما هو تمثيل لحصول ما
تعلق به الإرادة بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف فهناك
استعارة تمثيلية حيث شبهت هيئة حصول المراد بعد تعلق الإرادة
بلا مهلة، وامتناع بطاعة المأمور المطيع عقيب أمر المطاع بلا
توقف وإباء تصويرا لحال الغائب بصورة الشاهد ثم استعمل الكلام
الموضوع للمشبه في المشبه به من غير اعتبار استعارة في مفرداته
وكان أصل الكلام إذا قضى أمرا فيحصل عقيبه دفعة فكأنما يَقُولُ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ثم حذف المشبه، واستعمل المشبه به مقامه،
وبعضهم يجعل في الكلام استعارة تحقيقية تصريحية مبنية على
تشبيه حال يقال، ولعل الذي دعا هؤلاء إلى العدول عن الظاهر زعم
امتناعه لوجوه ذكرها بعض أئمتهم «الأول» أن قوله تعالى:
كُنْ إما أن يكون قديما أو محدثا لا جائز أن يكون قديما لتأخر
النون ولتقدم الكاف، والمسبوق محدث لا محالة،
__________
(1) كأن مرادهم أن مدلول اللفظ موجود حقيقة، وإلا فهذا الأمر
تنجيزي وهو مجاز أيضا فافهم اهـ منه. [.....]
(1/366)
وكذا المتقدم عليه بزمان مقدر أيضا، ولأن
إِذا للاستقبال فالقضاء محدث وكُنْ مرتب عليه بفاء التعقيب،
والمتأخر عن المحدث محدث، ولا جائز أن يكون محدثا وإلا لدار أو
تسلسل، «الثاني» إما أن يخاطب المخلوق يكن قبل دخوله في
الوجود، وخطاب المعدوم سفه، وإما بعد دخوله ولا فائدة فيه.
«الثالث» المخلوق قد يكون جمادا وتكليفه لا يليق بالحكمة
«الرابع» إذا فرضنا القادر المريد منفكا عن قوله كُنْ فإن تمكن
من الإيجاد فلا حاجة إليها وإن لم يتمكن فلا يكون القادر قادرا
على الفعل إلا عند تكلمه ب كُنْ فيلزم عجزه بالنظر إلى ذاته
«الخامس» أنا نعلم بالضرورة أنه لا تأثير لهذه الكلمة إذا
تكلمنا بها فكذا إذا تكلم بها غيرنا.
«السادس» المؤثر إما مجموع الكاف والنون ولا وجود لهما مجموعين
أو أحدهما وهو خلاف المفروض انتهى.
وأنت إذا تأملت ما ذكرنا ظهر لك اندفاع جميع هذه الوجوه، ويا
عجبا لمن يقول بالكلام النفسي ويجعل هذا دالا عليه كيف تروعه
هذه القعاقع أم كيف تغره هذه الفقاقع؟! نعم لو ذهب ذاهب إلى
هذا القول لما فيه من مزيد إثبات العظمة لله تعالى ما ليس في
الأول لا لأن الأول باطل في نفسه كان حريا بالقبول- ولعلي أقول
به- والآية مسوقة لبيان كيفية الإبداع ومعطوفة على قوله تعالى:
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مشتملة على تقرير معنى
الإبداع وفيها تلويح بحجة أخرى لإبطال ذلك الهذيان بأن اتخاذ
الولد من الوالد إنما يكون بعد قصده بأطوار ومهلة لما أن ذلك
لا يمكن إلا بعد انفصال مادته عنه وصيرورته حيوانا، وفعله
تعالى بعد إرادته أو تعلق قوله مستغن عن المهلة فلا يكون اتخاذ
الولد فعله تعالى، وكأن السبب في هذه الضلالة أنه ورد إطلاق
الأب على الله تعالى في الشرائع المتقدمة باعتبار أنه السبب
الأول وكثر هذا الإطلاق في إنجيل يوحنا ثم ظنت الجهلة أن
المراد به معنى الولادة فاعتقدوا ذلك تقليدا وكفروا، ولم يجوز
العلماء اليوم إطلاق ذلك عليه تعالى مجازا قطعا لمادة الفساد،
وقرأ ابن عامر فَيَكُونُ بالنصب، وقد أشكلت على النحاة حتى
تجرأ أحمد بن موسى فحكم بخطئها وهو سوء أدب بل من أقبح الخطأ
ووجهها أن تكون حينئذ جواب الأمر حملا على صورة اللفظ وإن كان
معناه الخبر إذ ليس معناه تعليق مدلول مدخول الفاء بمدلول صيغة
الأمر الذي يقتضيه سببية ما قبل الفاء لما بعدها اللازمة لجواب
الأمر بالفاء إذ لا معنى لقولنا ليكن منك كون فكون، وقيل:
الداعي إلى الحمل على اللفظ أن الأمر ليس حقيقيا فلا ينصب
جوابه وإن من شرط ذلك أن ينعقد منهما شرط وجزاء نحو- ائتني
فأكرمك- إذ تقديره إن تأتني أكرمك وهنا لا يصح- إن يكن يكن-
وإلا لزم كون الشيء سببا لنفسه، وأجيب بأن المراد إن يكن في
علم الله تعالى وإرادته يكن في الخارج فهو على حد «من كانت
هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» وبأن كون الأمر
غير الحقيقي لا ينصب في جوابه ممنوع فإن كان بلفظ فظاهر ولكنه
مجاز عن سرعة التكوين وإن لم يعتبر فهو مجاز عن إرادة سرعته
فيؤول إلى أن يراد سرعة وجود شيء يوجد في الحال فلا محذور
للتغاير الظاهر ولا يخفى ما فيه، ووجه الرفع الاستئناف أي فهو
يكون وهو مذهب سيبويه، وذهب الزجاج إلى عطفه على يَقُولُ وعلى
التقديرين لا يكون فَيَكُونُ
داخلا في المقول ومن تتمته ليوجه العدول عن الخطاب بأنه من باب
الالتفات تحقيرا لشأن الأمر في سهولة تكونه ووجهه به غير واحد
على تقدير الدخول.
وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ عطف على قوله تعالى: وَقالُوا
اتَّخَذَ اللَّهُ ووجه الارتباط أن «الأول» كان قدحا في
التوحيد وهذا قدح في النبوة، والمراد من الموصول جهلة
المشركين، وقد روي ذلك عن قتادة والسدي والحسن وجماعة، وعليه
أكثر المفسرين ويدل عليه قوله تعالى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ
حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء:
90] وقالوا: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ
[الأنبياء: 5] وقالوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا
الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الفرقان:
(1/367)
21] وقيل: المراد به اليهود الذي كانوا على
عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بدليل ما
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رافع بن خزيمة من
اليهود قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن كنت رسولا
من عند الله تعالى فقل لله يكلمنا حتى نسمع كلامه فأنزل الله
تعالى هذه الآية،
وقوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ
عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى
أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ [النساء: 153] وقال مجاهد: المراد به
النصارى ورجحه الطبري بأنهم المذكورون في الآية، وهو كما ترى،
ونفي العلم على الأول عنهم على حقيقته لأنهم لم يكن لهم كتاب
ولا هم أتباع نبوة، وعلى الأخيرين لتجاهلهم أو لعدم علمهم
بمقتضاه لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أي هلا يكلمنا بأنك رسوله
إما بالذات كما يكلم الملائكة أو بإنزال الوحي إلينا، وهو
استكبار منهم بعد أنفسهم الخبيثة كالملائكة والأنبياء المقدسين
عليهم الصلاة والسلام أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ أي حجة على صدقك
وهو جحود منهم قاتلهم الله تعالى لما آتاهم من الآيات البينات،
والحجج الباهرات التي تخر لها صم الجبال، وقيل: المراد إتيان
آية مقترحة، وفيه أن تخصيص النكرة خلاف الظاهر كَذلِكَ قالَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جواب لشبهتهم يعني أنهم يسألون عن
تعنت واستكبار مثل الأمم السابقة والسائل المتعنت لا يستحق
إجابة مسألته مِثْلَ قَوْلِهِمْ هذا الباطل الشنيع فَقالُوا
أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: 153] هَلْ يَسْتَطِيعُ
رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً [المائدة: 112]
اجْعَلْ لَنا إِلهاً [الأعراف: 138] وقد تقدم الكلام على هذين
التشبيهين، ولبعضهم هنا زيادة على ما مر احتمال تعلق كَذلِكَ ب
تَأْتِينا وحينئذ يكون الوقف عليه لا على آيَةٌ أو جعل مِثْلَ
قَوْلِهِمْ متعلقا ب تَشابَهَتْ وحينئذ يكون الوقف على مِنْ
قَبْلِهِمْ وأنت تعلم أنه لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى
الكريم على مثل هذه الاحتمالات الباردة تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ
أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد، وقيل: في التعنت
والاقتراح، والجملة مقررة لما قبلها، وقرأ أبو حيوة وابن أبي
إسحاق بتشديد الشين قال أبو عمرو الداني: وذلك غير جائز لأنه
فعل ماض والتاءان المزيدتان إنما يجيئان في المضارع فيدغم أما
الماضي فلا، وفي غرائب التفسير أنهم أجمعوا على خطئه، ووجه ذلك
الراغب بأنه حمل الماضي على المضارع فزيد فيه ما يزاد فيه ولا
يخفى أنه بهذا القدر لا يندفع الاشكال، وقال ابن سهمي في
الشواذ: إن العرب قد تزيد على أول تفعل في الماضي تاء فتقول
تتفعل وأنشد تتقطعت بي دونك الأسباب وهو قول غير مرضي ولا
مقبول فالصواب عدم صحة نسبة هذه القراءة إلى هذين الإمامين وقد
أشرنا إلى نحو ذلك فيما تقدم قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ أي
نزلناها بينة بأن جعلناها كذلك في أنفسها فهو على حد سبحان من
صغر البعوض وكبر الفيل لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي يعلمون الحقائق
علما ذا وثاقة لا يعتريهم شبهة ولا عناد وهؤلاء ليسوا كذلك
فلهذا تعنتوا واستكبروا وقالوا ما قالوا، والجملة على هذا
معللة لقوله تعالى: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
كما صرح به بعض المحققين، ويحتمل أن يراد من الإتيان طلب الحق
واليقين والآية- رد لطلبهم الآية وفي تعريف الآيات وجمعها
وإيراد التبيين مكان الإتيان الذي طلبوه ما لا يخفى من
الجزالة، والمعنى أنهم اقترحوا آيَةٌ فذة ونحن قد بينا الآيات
العظام لقوم يطلبون الحق واليقين وإنما لم يتعرض سبحانه لرد
قولهم لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ إيذانا بأنه منهم أشبه شيء
بكلام الأحمق وجواب الأحمق السكوت إِنَّا أَرْسَلْناكَ
بِالْحَقِّ أي متلبسا مؤيدا به فالظرف مستقر، وقيل: لغو متعلق
بأرسلنا أو بما بعده، وفسر الحق بالقرآن أو بالإسلام وبقاؤه
على عمومه أولى بَشِيراً وَنَذِيراً حالان من الكاف، وقيل: من
الحق والآية اعتراض لتسلية الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم
لأنه كان يهتم ويضيق صدره لإصرارهم على الكفر والمراد إِنَّا
أَرْسَلْناكَ لأن تبشر من أطاع وتنذر من عصى لا لتجبر على
الإيمان فما عليك إن أصروا أو كابروا؟ والتأكيد لإقامة غير
المنكر مقام المنكر بما لاح عليه من أمارة الإنكار والقصر
إفرادي.
(1/368)
وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ
تذييل معطوف على ما قبله، أو اعتراض أو حال أي أرسلناك غير-
مسؤول عن أصحاب الجحيم- مات لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت ما
أرسلت به وألزمت الحجة عليهم؟! وقرأ أبيّ وما بدل ولا وابن
مسعود «ولن» بدل «ذلك» وقرأ نافع ويعقوب لا تسأل- على صيغة
النهي إيذانا بكمال شدة عقوبة الكفار وتهويلا لها كما تقول كيف
حال فلان وقد وقع في مكروه فيقال لك لا تسأل عنه أي إنه لغاية
فظاعة ما حل به لا يقدر المخبر على
إجرائه على لسانه أو لا يستطيع السامع أن يسمعه، والجملة على
هذا اعتراض أو عطف على مقدر أي فبلغ، والنهي مجازي، ومن الناس
من جعله حقيقة، والمقصود منه بالذات نهيه صلّى الله عليه وسلّم
عن السؤال عن حال أبويه على ما
روي- أنه عليه الصلاة والسلام سأل جبريل عن قبريهما فدله
عليهما فذهب فدعا لهما وتمنى أن يعرف حالهما في الآخرة وقال:
ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنزلت-
ولا يخفى بعد هذه الرواية لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم- كما
في المنتخب- عالم بما آل إليه أمرهما، وذكر الشيخ ولي الدين
العراقي أنه لم يقف عليها، وقال الإمام السيوطي: لم يرد في هذا
إلا أثر معضل ضعيف الإسناد فلا يعول عليه، والذي يقطع به أن
الآية في كفار أهل الكتاب كالآيات السابقة عليها والتالية لها
لا في أبويه صلى الله تعالى عليه وسلم، ولتعارض الأحاديث في
هذا الباب وضعفها قال السخاوي: الذي ندين الله تعالى به الكف
عنهما وعن الخوض في أحوالهما والذي أدين الله تعالى به أنا
أنهما ماتا موحدين في زمن الكفر، وعليه يحمل كلام الإمام أبي
حنيفة رضي الله تعالى عنه إن صح بل أكاد أقول:
إنهما أفضل من عليّ القارئ وأضرابه. والجحيم- النار بعينها إذا
شب وقودها. ويقال: جحمت النار تجحم جحما إذا اضطربت.
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى
تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ بيان لكمال شدة شكيمتي هاتين الطائفتين
إثر بيان ما يعمهما، والمشركين مما تقدم ولا بين المعطوفين
لتأكيد النفي وللاشعار بأن رضا كل منهما مباين لرضا الأخرى،
والخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وفيه من المبالغة في
إقناطه صلى الله تعالى عليه وسلم من إسلامهم ما لا غاية وراءه
فإنهم حيث لم يرضوا عنه عليه الصلاة والسلام، ولو خلاهم يفعلون
ما يفعلون بل أملوا ما لا يكاد يدخل دائرة الإمكان، وهو
الاتباع لملتهم التي جاء بنسخها فكيف يتصور اتباعهم لملته صلى
الله تعالى عليه وسلم، واحتيج لهذه المبالغة لمزيد حرصه صلى
الله تعالى عليه وسلم على إيمانهم على ما
روي أنه كان يلاطف كل فريق رجاء أن يسلموا فنزلت،
والملة في الأصل اسم من أمللت الكتاب بمعنى أمليته كما قال
الراغب، ومنه طريق ملول- أي مسلوك معلوم- كما نقله الأزهري ثم
نقلت إلى أصول الشرائع باعتبار أنها يمليها النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم ولا يختلف الأنبياء عليهم السلام فيها، وقد
تطلق على الباطل كالكفر ملة واحدة، ولا تضاف إليه سبحانه فلا
يقال ملة الله، ولا إلى آحاد الأمة، والدين يرادفها صدقا لكنه
باعتبار قبول المأمورين لأنه في الأصل الطاعة والانقياد
ولاتحاد ما صدقهما قال تعالى: دِيناً قِيَماً مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ [الإنعام: 161] وقد يطلق الدين على الفروع تجوزا،
ويضاف إلى الله تعالى وإلى الآحاد وإلى طوائف مخصوصة نظرا إلى
الأصل على أن تغاير الاعتبار كاف في صحة الإضافة، ويقع على
الباطل أيضا، وأما الشريعة فهي المورد في الأصل، وجعلت اسما
للأحكام الجزئية المتعلقة بالمعاش والمعاد سواء كانت منصوصة من
الشارع أو لا لكنها راجعة إليه. والنسخ والتبديل يقع فيها،
وتطلق على الأصول الكلية تجوزا قاله بعض المحققين: ووحدت
الملة، وإن كان لهم ملتان للإيجاز أو لأنهما يجمعهما الكفر،
وهو ملة واحدة، ثم إن هذا ليس ابتداء كلام منه تعالى بعدم
رضاهم بل هو حكاية لمعنى كلام قالوه بطريق التكلم ليطابقه قوله
سبحانه.
قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى فإنه على طريقة الجواب
لمقالتهم ولعلهم ما قالوا ذلك إلا لزعمهم أن دينهم
(1/369)
حق وغيره باطل فأجيبوا بالقصر القلبي- أي
دين الله تعالى هو الحق ودينكم هو الباطل، وهُدَى اللَّهِ
تعالى الذي هو الإسلام هو الهدى وما يدعون إليه ليس بهدى بل
هوى- على أبلغ وجه لإضافة الهدى إليه تعالى وتأكيده إِنَّ
وإعادة الهدى في الخبر على حد شعري شعري، وجعله نفس الْهُدى
المصدري وتوسيط ضمير الفصل وتعريف الخبر، ويحتمل أنهم قالوا
ذلك فيما بينهم، والأمر بهذا القول لهم لا يجب أن يكون جوابا
لعين تلك العبارة بل جواب ورد لما يستلزم مضمونها أو يلزمه من
الدعوة إلى اليهودية أو النصرانية وأن الاهتداء فيهما وقيل:
يصح أن يكون لإقناطهم عما يتمنونه ويطمعونه وليس بجواب
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ أي آراءهم الزائغة المنحرفة
عن الحق الصادرة عنهم بتبعية شهوات أنفسهم وهي التي عبر عنها
فيما قبل- بالملة- وكان الظاهر- ولئن اتبعتها- إلا أنه غير
النظم ووضع الظاهر موضع المضمر من غير لفظه إيذانا بأنهم غيروا
ما شرعه الله سبحانه تغييرا أخرجوه به عن موضوعه، وفي صيغة
الجمع إشارة إلى كثرة الاختلاف بينهم وأن بعضهم يكفر بعضا.
بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي المعلوم وهو الوحي أو
الدين لأنه الذي يتصف بالمجيء دون العلم نفسه ولك أن تفسر
المجيء بالحصول فيجري العلم على ظاهره ما لَكَ مِنَ اللَّهِ
مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ جواب للقسم الدال عليه اللام
الموطئة ولو أجيب به الشرط هنا لوجبت الفاء، وقيل: إنه جواب له
ويحتاج إلى تقدير القسم مؤخرا عن الشرط وتأويل الجملة الاسمية
بالفعلية الاستقبالية أي ما يكون لك وهو تعسف إذ لم يقل أحد من
النحاة بتقدير القسم مؤخرا مع اللام الموطئة، وتأويل الاسمية
بالفعلية لا دليل عليه، وقيل: إنه جواب لكلا الأمرين القسم
الدال عليه اللام، وإن الشرطية لأحدهما لفظا وللآخر معنى وهو
كما ترى، والخطاب أيضا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتقييد
الشرط بما قيد للدلالة على أن متابعة أهوائهم محال لأنه خلاف
ما علم صحته فلو فرض وقوعه كما يفرض المحال لم يكن له ولي ولا
نصير يدفع عنه العذاب، وفيه أيضا من المبالغة في الاقناط ما لا
يخفى، وقيل: الخطاب هناك وهنا وإن كان ظاهرا للنبي صلّى الله
عليه وسلّم إلا أن المقصود منه أمته، وأنت تعلم مما ذكرنا أنه
لا يحتاج إلى التزام ذلك الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ
اعتراض لبيان حال مؤمني أهل الكتاب بعد ذكر أحوال كفرتهم ولم
يعطف تنبيها على كمال التباين بين الفريقين والآية نازلة فيهم
وهم المقصودون منها سواء أريد بالموصول الجنس أو العهد على ما
قيل: إنهم الأربعون الذين قدموا من الحبشة مع جعفر بن أبي طالب
اثنان وثلاثون منهم من اليمن وثمانية من علماء الشام
يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أي يقرؤونه حق قراءته وهي قراءة
تأخذ بمجامع القلب فيراعى فيها ضبط اللفظ والتأمل في المعنى
وحق الأمر والنهي، والجملة حال مقدرة أي آتيناهم الكتاب مقدرا
تلاوتهم لأنهم لم يكونوا تالين وقت الإيتاء وهذه الحال مخصصة
لأنه ليس كل من أوتيه يتلوه، وحَقَّ منصوب على المصدرية
لإضافته إلى المصدر، وجوز أن يكون وصفا لمصدر محذوف وأن يكون
حالا أي محقين والخبر قوله تعالى: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ
ويحتمل أن يكون يَتْلُونَهُ خبرا لا حالا، أُولئِكَ إلخ خبرا
بعد خبر أو جملة مستأنفة، وعلى أول الاحتمالين يكون الموصول
للجنس، وعلى ثانيهما يكون للعهد أي مؤمنو أهل الكتاب، وتقديم
المسند إليه على المسند الفعلي للحصر والتعريض، والضمير للكتاب
أي- أولئك يؤمنون بكتابهم- دون المحرفين فإنهم غير مؤمنين به،
ومن هنا يظهر فائدة الاخبار على الوجه الأخير، ولك أن تقول محط
الفائدة ما يلزم الإيمان به من الربح بقرينة ما يأتي، ومن
الناس من حمل الموصول على أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم، وإليه ذهب عكرمة وقتادة، فالمراد من الْكِتابَ حينئذ
القرآن، ومنهم من حمله على الأنبياء والمرسلين عليهم السلام،
وإليه ذهب ابن كيسان، فالمراد من الْكِتابَ حينئذ الجنس ليشمل
الكتب المتفرقة، ومنهم من قال بما قلنا إلا أنه جوز عود ضمير
بِهِ إلى الْهُدى أو إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو
إلى الله
(1/370)
وَإِذِ ابْتَلَى
إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي
جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ
لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ
أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ
قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ
مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا
إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا
وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً
مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا
إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا
وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ
آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ
نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ
فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ
رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ
(131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا
بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ
شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ
لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ
إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا
كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ
بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا
أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا
أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ
رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ (136)
تعالى، وعلى التقديرين يكون في الكلام
التفات من الخطاب إلى الغيبة أو من التكلم إليها. ولا يخفى ما
في بعض هذه الوجوه من البعد البعيد.
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي الكتاب بسبب التحريف والكفر بما
يصدقه، واحتمالات نظير هذا الضمير مقولة فيه أيضا فَأُولئِكَ
هُمُ الْخاسِرُونَ من جهة أنهم اشتروا الكفر بالإيمان، وقيل:
بتجارتهم التي كانوا يعملونها بأخذ الرشا على التحريف.
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ.
وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً
وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا
هُمْ يُنْصَرُونَ.
تكرير لتذكير بني إسرائيل وإعادة لتحذيرهم للمبالغة في النصح،
وللإيذان بأن ذلك فذلكة القصة والمقصود منها- وقد تفنن في
التعبير فجاءت الشفاعة «أولا» بلفظ القبول متقدمة على- العدل-
«وهنا» بلفظ- النفع- متأخرة عنه، ولعله- كما قيل- إشارة إلى
انتفاء أصل الشيء وانتفاء ما يترتب عليه، وأعطى المقدم وجودا
تقدمه ذكرا، والمتأخر وجودا تأخره ذكرا، وقيل: إن ما سبق كان
للأمر بالقيام بحقوق النعم السابقة، وما هنا لتذكير- نعمة بها
فضلهم على العالمين- وهي نعمة الإيمان بنبي زمانهم، وانقيادهم
لأحكامه ليغتنموها ويؤمنوا ويكونوا من الفاضلين- لا المفضولين-
وليتقوا بمتابعته عن أهوال القيامة وخوفها- كما اتقوا بمتابعة
موسى عليه السلام.
(1/371)
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِماتٍ في متعلق إِذِ احتمالات تقدمت الإشارة إليها في
نظير الآية، واختار أبو حيان تعلقها ب قالَ الآتي، وبعضهم
بمضمر مؤخر، أي كان كيت وكيت «والمشهور» تعلقها بمضمر مقدم
تقديره- اذكر- أو- اذكروا- وقت كذا، والجملة حينئذ معطوفة على
ما قبلها عطف القصة على القصة، والجامع الاتحاد في المقصد فإن
المقصد من- تذكيرهم وتخويفهم- تحريضهم على قبول دينه صلّى الله
عليه وسلّم، واتباع الحق، وترك التعصب، وحب الرياسة، كذلك
المقصد من قصة إِبْراهِيمَ عليه السلام وشرح أحواله، الدعوة
إلى ملة الإسلام وترك التعصب في الدين، وذلك لأنه إذا علم أنه
نال- الإمامة- بالانقياد لحكمه تعالى وأنه لم يستجب دعاءه في
الظَّالِمِينَ وأن الكعبة كانت مطافا ومعبدا في وقته مأمورا هو
بتطهيره، وأنه كان يحج البيت داعيا مبتهلا- كما هو دين النبي
صلّى الله تعالى عليه وسلّم- وأن نبينا عليه الصلاة والسلام من
دعوته، وأنه دعا في حق نفسه وذريته بملة الإسلام، كان الواجب
على من يعترف بفضله وأنه من أولاده، ويزعم اتباع ملته، ويباهي
بأنه من ساكن حرمه وحامي بيته، أن يكون حاله مثل ذلك، وذهب
عصام الملة والدين إلى جواز العطف على نِعْمَتِيَ أي اذْكُرُوا
وقت- ابتلاء إبراهيم- فإن فيه ما ينفعكم ويرد اعتقادكم الفاسد
أن آباءكم شفعاؤكم يوم القيامة، لأنه لم يقبل دعاء إبراهيم في-
الظلمة- ويدفع عنكم حب الرياسة المانع عن متابعة الرسول صلى
الله تعالى عليه وسلم، فإنه يعلم منه أنه لا ينال الرياسة
الظَّالِمِينَ واعترض بأنه خروج عن طريق البلاغة مع لزوم تخصيص
الخطاب بأهل الكتاب وتخلل اتَّقُوا بين المعطوفين- والابتلاء-
في الأصل الاختبار- كما قدمنا- والمراد به هنا التكليف. أو
المعاملة معاملة الاختبار مجازا، إذ حقيقة الاختبار محالة عليه
تعالى- لكونه عالم السر والخفيات- وإِبْراهِيمَ علم أعجمي،
قيل: معناه قبل النقل- أب رحيم- وهو مفعول مقدم لإضافة فاعله
إلى ضميره، والتعرض لعنوان الربوبية تشريف له عليه السلام،
وإيذان بأن ذلك- الابتلاء- تربية له وترشيح لأمر خطير،
والكلمات- جمع- كلمة- وأصل معناها- اللفظ المفرد- وتستعمل في
الجمل المفيدة، وتطلق على معاني ذلك- لما بين اللفظ والمعنى من
شدة الاتصال- واختلف فيها.
فقال طاوس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنها العشرة التي
من الفطرة، المضمضة والاستنشاق وقص الشارب وإعفاء اللحية
والفرق ونتف الإبط وتقليم الأظفار وحلق العانة والاستطابة
والختان، وقال عكرمة رواية عنه أيضا: لم يبتل أحد بهذا الدين
فأقامه كله إلا إبراهيم، ابتلاه الله تعالى بثلاثين خصلة من
خصال الإسلام، عشر منها في سورة براءة، التَّائِبُونَ [التوبة:
112] إلخ، وعشر في الأحزاب [25] إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِماتِ إلخ، وعشر في المؤمنين وسَأَلَ سائِلٌ إلى
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ [المعارج: 1-
24] وفي رواية الحاكم في مستدركه أنها ثلاثون، وعد السور
الثلاثة الأول ولم يعد السورة الأخيرة، فالذي في براءة، التوبة
والعبادة والحمد والسياحة والركوع، والسجود. والأمر بالمعروف.
والنهي عن المنكر. والحفظ لحدود الله تعالى. والإيمان المستفاد
من وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أو من إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ
[التوبة: 111] في الأحزاب، الإسلام. والإيمان. والقنوت.
(1/372)
والصدق. والصبر. والخشوع. والتصدق.
والصيام. والحفظ للفروج والذكر، والذي في المؤمنين الإيمان
والخشوع والاعراض عن اللغو والزكاة والحفظ للفروج- إلا على
الأزواج أو الإماء ثلاثة- والرعاية للعهد. والأمانة اثنين
والمحافظة على الصلاة، وهذا مبني على أن لزوم التكرار في بعض
الخصال بعد جمع العشرات المذكورة. كالإيمان.
والحفظ للفروج لا ينافي كونها ثلاثين تعدادا- إنما ينافي
تغايرها ذاتا- ومن هنا عدت التسمية مائة وثلاث عشرة آية عند
الشافعية باعتبار تكررها في كل سورة، وما في رواية عكرمة مبني
على اعتبار التغاير بالذات وإسقاط المكررات، وعده العاشرة
البشارة للمؤمنين في براءة، وجعل الدوام على الصلاة والمحافظة
عليها واحدا وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج: 24] غير- الفاعلين
للزكاة- لشموله صدقة التطوع وصلة الأقارب، وما روي أنها أربعون
وبينت بما في السور الأربع مبني على الاعتبار الأول أيضا- فلا
إشكال- وقيل: ابتلاه الله تعالى بعدة أشياء بالكوكب والقمرين
والختان على الكبر والنار وذبح الولد والهجرة من كوثى إلى
الشام. وروي ذلك عن الحسن، وقيل: هي ما تضمنته الآيات بعد من
الإمامة، وتطهير البيت، ورفع قواعده، والإسلام. «وقيل، وقيل..»
إلى ثلاثة عشر قولا، وقرأ ابن عامر وابن الزبير وغيرهما
«إبراهام» وأبو بكرة «إبراهم» - بكسر الهاء وحذف الياء- وقرأ
ابن عباس. وأبو الشعثاء وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم برفع
إِبْراهِيمَ ونصب رَبُّهُ- فالابتلاء- بمعنى الاختبار حقيقة
لصحته من العبد. والمراد دعا رَبُّهُ بِكَلِماتٍ مثل رَبِّ
أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [الأعراف: 143] واجْعَلْ
هَذَا الْبَلَدَ آمِناً [إبراهيم: 35] ليرى هل يجيبه؟ ولا حاجة
إلى الحمل على المجاز. وأما ما قيل: إنه- وإن صح من العبد- لا
يصح- أو لا يحسن تعليقه بالرب- فوجهه غير ظاهر سوى ذكر لفظ-
الابتلاء- ويجوز أن يكون ذلك في مقام الأنس، ومقام الخلة غير
خفي فَأَتَمَّهُنَّ الضمير المنصوب- للكلمات- لا غير. والمرفوع
المستكن يحتمل أن يعود- لإبراهيم- وأن يعود- لربه- على كل من
قراءتي- الرفع والنصب- فهناك أربعة احتمالات «الأول» عوده على
إِبْراهِيمَ منصوبا، ومعنى فَأَتَمَّهُنَّ حينئذ أتى بهن على
الوجه الأتم وأداهن كما يليق «الثاني» عوده على رَبُّهُ
مرفوعا، والمعنى حينئذ يسر له العمل بهن وقواه على- إتمامهن-
أو أتم له أجورهن، أو أدامهن سنّة فيه وفي عقبه إلى يوم الدين
«والثالث» عوده على إِبْراهِيمَ مرفوعا- والمعنى عليه- أتم
إبراهيم الكلمات المدعو بها بأن راعى شروط الإجابة فيها، ولم
يأت بعدها بما يضيعها «الرابع» عوده إلى رَبُّهُ منصوبا-
والمعنى عليه- فأعطى سبحانه إِبْراهِيمَ جميع ما دعاه. وأظهر
الاحتمالات الأول والرابع، إِذِ التمدح غير ظاهر في الثاني- مع
ما فيه من حذف المضاف على أحد محتملاته- والاستعمال المألوف
غير متبع في الثالث، لأن الفعل الواقع في مقابلة الاختبار يجب
أن يكون فعل المختبر اسم مفعول.
قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً استئناف بياني إن أضمر
ناصب إِذِ كأنه قيل: فماذا كان بعد؟ فأجيب بذلك، أو بيان-
لابتلى- بناء على رأي من جعل- الكلمات- عبارة عما ذكر أثره-
وبعضهم يجعل ذلك من بيان الكلي بجزئي من جزئياته وإذا نصبت
إِذِ بيقال كما ذهب إليه أبو حيان يكون المجموع جملة معطوفة
على ما قبلها على الوجه الذي مرّ تفصيله، وقيل: مستطردة أو
معترضة، ليقع قوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ [الإنعام:
144] إن جعل خطابا لليهود موقعه، ويلائم قوله سبحانه: وَقالُوا
كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: 135] و «جاعل» من- جعل-
بمعنى صير المتعدي إلى مفعولين، ولِلنَّاسِ إما متعلق بجاعل أي
لأجلهم، وإما في موضع الحال لأنه نعت نكرة تقدمت أي إماما
كائنا لهم- والإمام- اسم للقدوة الذي يؤتم به. «ومنه» قيل لخيط
البناء: إمام، وهو مفرد على فعال، وجعله بعضهم اسم آلة لأن
فعالا من صيغها- كالإزار- واعترض بأن- الإمام- ما يؤتم به،
والإزار ما يؤتزر
(1/373)
به- فهما مفعولان- ومفعول الفعل ليس بآلة
لأنها الواسطة بين الفاعل والمفعول في وصول أثره إليه، ولو كان
المفعول آلة لكان الفاعل كذلك- وليس فليس- ويكون جمع- آم- اسم
فاعل من- أم يؤم- كجائع وجياع، وقائم وقيام، وهو بحسب المفهوم
وإن كان شاملا للنبي والخليفة وإمام الصلاة، بل كل من يقتدى به
في شيء ولو باطلا كما يشير إليه قوله تعالى: وَجَعَلْناهُمْ
أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [القصص: 41] إلا أن المراد
به هاهنا النبي المقتدى به، فإن من عداه لكونه مأموم النبي
ليست إمامته كإمامته، وهذه الإمامة إما مؤبدة- كما هو مقتضى
تعريف الناس- وصيغة اسم الفاعل الدال على الاستمرار ولا يضر
مجيء الأنبياء بعده لأنه لم يبعث نبي إلا وكان من ذريته
ومأمورا باتباعه في الجملة لا في جميع الأحكام لعدم اتفاق
الشرائع التي بعده في الكل، فتكون إمامته باقية بإمامة أولاده
التي هي أبعاضه على التناوب، وإما مؤقتة بناء على أن ما نسخ-
ولو بعضه- لا يقال له مؤبد وإلا لكانت إمامة كل نبي مؤبدة ولم
يشع ذلك فالمراد من «الناس» حينئذ أمته الذين اتبعوه، ولك أن
تلتزم القول بتأبيد إمامة كل نبي- ولكن في عقائد التوحيد- وهي
لم تنسخ بل لا تنسخ أصلا كما يشير إليه قوله تعالى: أُولئِكَ
الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الإنعام: 90]
وعدم الشيوع غير مسلم، ولئن سلم لا يضر، والامتنان على إبراهيم
عليه السلام بذلك دون غيره لخصوصية اقتضت ذلك لا تكاد تخفى
فتدبر.
ثم لا يخفى أن ظاهر الآية يشير إلى أن الابتلاء كان قبل النبوة
لأنه تعالى جعل القيام بتلك الكلمات سببا لجعله إماما، وقيل:
إنه كان بعدها لأنه يقتضي سابقة الوحي، وأجيب بأن مطلق الوحي
لا يستلزم البعثة إلى الخلق وأنت تعلم أن ذبح الولد والهجرة
والنار إن كانت من- الكلمات- يشكل الأمر لأن هذه كانت بعد
النبوة بلا شبهة، وكذا الختان أيضا بناء على ما روي أنه عليه
الصلاة والسلام حين ختن نفسه كان عمره مائة وعشرين فحينئذ
يحتاج إلى أن يكون- إتمام الكلمات- سبب الإمامة باعتبار عمومها
للناس واستجابة دعائه في حق بعض ذريته، ونقل الرازي عن القاضي
أنه على هذا يكون المراد من قوله تعالى: فَأَتَمَّهُنَّ أنه
سبحانه وتعالى علم من حاله أنه يتمهن ويقوم بهن بعد النبوة فلا
جرم أعطاه خلعة الإمامة والنبوة ولا يخفى أن الفاء يأبى عن
الحمل على هذا المعنى.
قالَ استئناف بياني والضمير لإبراهيم عليه السلام وَمِنْ
ذُرِّيَّتِي عطف على الكاف يقال سأكرمك فتقول وزيدا وجعله على
معنى ماذا يكون مِنْ ذُرِّيَّتِي بعيد. وذهب أبو حيان إلى أنه
متعلق بمحذوف أي- اجعل من ذريتي- إماما لأنه عليه السلام فهم
من إِنِّي جاعِلُكَ الاختصاص به، واختاره بعضهم واعترضوا على
ما تقدم بأن الجار والمجرور لا يصلح مضافا إليه فكيف يعطف عليه
وبأن العطف على الضمير كيف يصح بدون إعادة الجار وبأنه كيف
يكون المعطوف مقول قائل آخر، ودفع الأولان بأن الإضافة اللفظية
في تقدير الانفصال وَمِنْ ذُرِّيَّتِي في معنى بعض ذُرِّيَّتِي
فكأنه قال: وجاعل بعض ذُرِّيَّتِي وهو صحيح على أن العطف على
الضمير المجرور بدون إعادة الجار وإن أباه أكثر النحاة إلا أن
المحققين من علماء العربية وأئمة الدين على جوازه حتى قال صاحب
العباب: إنه وارد في القراءات السبع المتواترة فمن رد ذلك فقد
رد على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ودفع «الثالث» بأنه من
قبيل عطف التلقين فهو خبر في معنى الطلب وكأن أصله واجعل بعض
ذُرِّيَّتِي كما قدره المعترض لكنه عدل عنه إلى المنزل لما فيه
من البلاغة من حيث جعله من تتمة كلام المتكلم كأنه مستحق مثل
المعطوف عليه وجعل نفسه كالنائب عن المتكلم والعدول من صيغة
الأمر للمبالغة في الثبوت ومراعاة الأدب في التفادي عن صورة
الأمر وفيه من الاختصار الواقع موقعه ما يروق كل ناظر ونظير
هذا العطف ما
روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «اللهم ارحم المحلقين قالوا:
(1/374)
والمقصرين يا رسول الله؟ قال: اللهم ارحم
المحلقين قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: والمقصرين» .
وقد ذكر الأصوليون أن التلقين ورد بالواو وغيرها من الحروف
وأنه وقع في الاستثناء كما
في الحديث «إن الله تعالى حرم شجر الحرم قالوا إلا الإذخر يا
رسول الله»
واعترض أيضا بأن العطف المذكور يستدعي أن تكون إمامة- ذريته-
عامة لجميع الناس عموم إمامته عليه السلام على ما قيل. وليس
كذلك وأجيب بأنه يكفي في العطف الاشتراك في أصل المعنى، وقيل:
يكفي قبولها في حق نبينا عليه الصلاة والسلام- والذرية- نسل
الرجل وأصلها الأولاد الصغار ثم عمت الكبار والصغار الواحد
وغيره، وقيل: إنها تشمل الآباء لقوله تعالى: أَنَّا حَمَلْنا
ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس: 41] يعني نوحا
وأبناءه والصحيح خلافه، وفيها ثلاث لغات- ضم الذال وفتحها
وكسرها- وبها قرىء وهي إما فعولة من ذروت أو ذريت والأصل ذرووة
أو ذروية فاجتمع في الأول واوان زائدة وأصلية فقلبت الأصلية
ياء فصارت كالثانية فاجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون
فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء فصارت ذرية أو فعلية
منهما والأصل في الأولى- ذريوية- فقلبت الواو ياء لما سبق
فصارت- ذريية- كالثانية فأدغمت الياء في مثلها فصارت ذرية، أو
فعلية من الذرء بمعنى الخلق والأصل ذرئية فقلبت الهمزة ياء
وأدغمت، أو فعلية من الذر بمعنى التفريق والأصل ذريرة قلبت
الراء الأخيرة ياء هربا من ثقل التكرير كما قالوا في تظننت
تظنيت، وفي تقضضت تقضيت، أو فعولة منه والأصل ذرورة فقلبت
الراء الأخيرة ياء فجاء الإدغام، أو فعلية منه على صيغة النسبة
قالوا: وهو الأظهر لكثرة مجيئها كحرية ودرية، وعدم احتياجها
إلى الاعلال وإنما ضمت ذاله لأن الابنية قد تغير في النسبة
خاصة كما قالوا في النسبة إلى الدهر: دهري.
قالَ استئناف بياني أيضا، والضمير لله عز اسمه لا يَنالُ
عَهْدِي الظَّالِمِينَ إجابة لما راعى الأدب في طلبه من جعل
بعض ذريته نبيا كما جعل مع تعيين جنس البعض الذي أبهم في دعائه
عليه السلام بأبلغ وجه وآكده حيث نفى الحكم عن أحد الضدين مع
الاشعار إلى دليل نفيه عنه ليكون دليلا على الثبوت للآخر
فالمتبادر من العهد الإمامة، وليست هي هنا إلا النبوة. وعبر
عنها «به» للإشارة إلى أنها أمانة الله تعالى وعهده الذي لا
يقوم به إلا من شاء الله تعالى من عباده، وآثر النيل على الجعل
إيماء إلى أن إمامة الأنبياء من ذريته عليهم السلام ليست بجعل
مستقل بل هي حاصلة في ضمن إمامته تنال كلّا منهم في وقته
المقدر له، ولا يعود من ذلك نقص في رتبة نبوة نبينا صلى الله
تعالى عليه وسلم لأنه جار مجرى التغليب على أن مثل ذلك لو كان
يحط من قدرها لما خوطب صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله تعالى:
أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [النحل: 123] والمتبادر من-
الظلم- الكفر لأنه الفرد الكامل من أفراده، ويؤيده قوله تعالى:
وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254] فليس في
الآية دلالة على عصمة الأنبياء عليهم السلام من الكبائر قبل
البعثة ولا على أن الفاسق لا يصلح للخلافة، نعم فيها قطع أطماع
الكفرة الذين كانوا يتمنون النبوة، وسد أبواب آمالهم الفارغة
عن نيلها، واستدل بها بعض الشيعة على نفي إمامة الصديق وصاحبيه
رضي الله تعالى عنهم حيث أنهم عاشوا مدة مديدة على الشرك
وإِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] والظالم بنص
الآية لا تناله الإمامة، وأجيب بأن غاية ما يلزم أن الظالم في
حال الظلم لا تناله، والإمامة إنما نالتهم رضي الله تعالى عنهم
في وقت كمال إيمانهم وغاية عدالتهم، واعترض بأن مِنْ تبعيضية
فسؤال إبراهيم عليه السلام الإمامة إما للبعض العادل من ذريته
مدة عمره أو الظالم حال الامامة سواء كان عادلا في باقي العمر
أم لا، أو العادل في البعض الظالم في البعض الآخر أو الأعم،
فعلى الأول يلزم عدم مطابقة الجواب، وعلى الثاني جهل الخليل،
وحاشاه وعلى الثالث المطلوب وحياه، وعلى الرابع إما المطلوب أو
الفساد وأنت خبير بأن مبنى الاستدلال حمل العهد على الأعم من
النبوة والإمامة التي
(1/375)
يدعونها- ودون إثباته خرط القتاد- وتصريح
البعض كالجصاص لا يبنى عليه إلزام الكل، وعلى تقدير التنزل
يجاب بأنا نختار أن سؤال الإمامة بالمعنى الأعم للبعض المبهم
من غير إحضار الاتصاف بالعدالة والظلم حال السؤال، والآية
إجابة لدعائه مع زيادة على ما أشرنا إليه، وكذا إذا اختير الشق
الأول بل الزيادة عليه زيادة، ويمكن الجواب باختيار الشق
الثالث أيضا بأن نقول: هو على قسمين، أحدهما من يكون ظالما قبل
الإمامة ومتصفا بالعدالة وقتها اتصافا مطلقا بأن صار تائبا من
المظالم السابقة فيكون حال الإمامة متصفا بالعدالة المطلقة،
والثاني من يكون ظالما قبل الإمامة ومحترزا عن الظلم حالها لكن
غير متصف بالعدالة المطلقة لعدم التوبة، ويجوز أن يكون السؤال
شاملا لهذا القسم ولا بأس به إذ أمن الرعية من الفساد الذي هو
المطلوب يحصل به فالجواب بنفي حصول الإمامة لهذا القسم
والشيخان وعثمان رضي الله تعالى عنهم ليسوا منه بل هم في أعلى
مراتب القسم الأول متصفون بالتوبة الصادقة، والعدالة المطلقة،
والإيمان الراسخ، والإمام لا بد أن يكون وقت الإمامة كذلك، ومن
كفر أو ظلم ثم تاب وأصلح لا يصح أن يطلق عليه أنه كافر أو ظالم
في لغة وعرف وشرع إذ قد تقرر في الأصول أن المشتق فيما قام به
المبدأ في الحال حقيقة، وفي غيره مجاز، ولا يكون المجاز أيضا
مطردا بل حيث يكون متعارفا وإلا لجاز صبي لشيخ ونائم لمستيقظ
وغني لفقير. وجائع لشبعان وحي لميت وبالعكس، وأيضا لو اطرد ذلك
يلزم من حلف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال
إلا أنه كان كافرا قبل بسنين متطاولة أن يحنث ولا قائل به، هذا
ومن أصحابنا من جعل الآية دليلا على عصمة الأنبياء عن الكبائر
قبل البعثة وأن الفاسق لا يصح للخلافة، ومبنى ذلك حمل العهد
على الإمامة وجعلها شاملة للنبوة والخلافة، وحمل الظالم على من
ارتكب معصية مسقطة للعدالة بناء على أن الظلم خلاف العدل، ووجه
الاستدلال حينئذ أن الآية دلت على أن نيل الامامة
لا يجامع الظلم السابق فإذا تحقق النيل كما في الأنبياء علم
عدم اتصافهم حال النيل بالظلم السابق وذلك إما بأن لا يصدر
منهم ما يوجب ذلك أو بزواله بعد حصوله بالتوبة ولا قائل
بالثاني إذ الخلاف إنما هو في أن صدور الكبيرة هل يجوز قبل
البعثة أم لا؟ فيتعين الثاني وهو العصمة، أو المراد بها هاهنا
عدم صدور الذنب لا الملكة وكذا إذا تحقق الاتصاف بالظلم كما في
الفاسق علم عدم حصول الإمامة بعد ما دام اتصافه بذلك واستفادة
عدم صلاحية الفاسق للإمامة على ما قررنا من منطوق الآية وجعلها
من دلالة النص أو القياس المحوج إلى القول بالمساواة ولا أقل،
أو التزام جامع، وهما مناط العيوق وإنما يدعو اليه حمل الإمامة
على النبوة، وقد علمت أن المبني الحمل على الأعم وكان الظاهر
أن الظلم الطارئ والفسق العارض يمنع عن الإمامة بقاء كما منع
عنها ابتداء لأن المنافاة بين الوصفين متحققة في كل آن- وبه
قال بعض السلف- إلا أن الجمهور على خلافه مدعين أن المنافاة في
الابتداء لا تقتضي المنافاة في البقاء لأن الدفع أسهل من
الرفع، واستشهدوا له بأنه لو قال لامرأة مجهولة النسب يولد
مثلها لمثله: هذه بنتي لم يجز له نكاحها ولو قال لزوجته
الموصوفة بذلك لم يرتفع النكاح لكن إن أصر عليه يفرق القاضي
بينهما وهذا الذي قالوه إنما يسلم فيما إذا لم يصل الظلم إلى
حد الكفر أما إذا وصل إليه فإنه ينافي الإمامة بقاء أيضا بلا
ريب وينعزل به الخليفة قطعا، ومن الناس من استدل بالآية على أن
الظالم إذا عوهد لم يلزم الوفاء بعهده وأيد ذلك بما روي عن
الحسن أنه قال: إن الله تعالى لم يجعل للظالم عهدا وهو كما
ترى، وقرأ أبو الرجاء وقتادة والأعمش- الظالمون- بالرفع على أن
عَهْدِي مفعول مقدم على الفاعل اهتماما ورعاية للفواصل وَإِذْ
جَعَلْنَا الْبَيْتَ عطف على وَإِذِ ابْتَلى وَالْبَيْتِ من
الأعلام الغالبة للكعبة كالنجم للثريا مَثابَةً لِلنَّاسِ أي
مجمعا لهم قاله الخليل. وقتادة- أو معاذا وملجأ- قاله ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما، أو مرجعا يثوب إليه أعيان الزوار أو
أمثالهم- قاله مجاهد. وجبير- أو مرجعا يحق أن يرجع ويلجأ إليه-
قاله بعض المحققين- أو موضع ثواب يثابون بحجه واعتماره- قاله
عطاء- وحكاه الماوردي عن بعض أهل اللغة والتاء فيه وتركه لغتان
كما في مقام ومقامة وهي
(1/376)
لتأنيث البقعة- وهو قول الفراء. والزجاج-
وقال الأخفش: إن- التاء فيه للمبالغة كما في نسابة وعلامة،
وأصله مثوبة على وزن مفعلة مصدر ميمي، أو ظرف مكان، واللام في
الناس للجنس وهو الظاهر وجوز حمله على العهد أو الاستغراق
العرفي، وقرأ الأعمش، وطلحة مثابات على الجمع لأنه مثابة كل
واحد من الناس لا يختص به أحد منهم سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ
وَالْبادِ [الحج: 25] فهو وإن كان واحدا بالذات إلا أنه متعدد
باعتبار الإضافات، وقيل: إن الجمع بتنزيل تعدد الرجوع منزلة
تعدد المحل أو باعتبار أن كل جزء منه مثابة، واختار بعضهم ذلك
زعما منه أن الأول يقتضي أن يصح التعبير عن غلام جماعة
بالمملوكين ولم يعرف، وفيه أنه قياس مع الفارق إذ له إضافة
المملوكية إلى كلهم لا إلى كل واحد منهم وَأَمْناً عطف على
مَثابَةً وهو مصدر وصف به للمبالغة، والمراد موضع أمن إما
لسكانه من الخطف أو لحجاجه من العذاب حيث إن الحج يزيل ويمحو
ما قبله غير حقوق العباد والحقوق المالية كالكفارة على الصحيح،
أو للجاني الملتجئ إليه من القتل- وهو مذهب الإمام أبي حنيفة
رضي الله تعالى عنه- إذ عنده لا يستوفى قصاص النفس في الحرم
لكن يضيق على الجاني ولا يكلم ولا يطعم ولا يعامل حتى يخرج
فيقتل، وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه من وجب عليه الحد
والتجأ إليه يأمر الإمام بالتضييق عليه بما يؤدي إلى خروجه
فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحل فإن لم يخرج جاز قتله فيه،
وعند الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه لا يستوفى من المتلجئ
قصاص مطلقا ولو قصاص الأطراف حتى يخرج ومن الناس من جعل- أمنا-
مفعولا ثانيا لمحذوف على معنى الأمر أي- واجعلوه أمنا- كما
جعلناه مثابة وهو بعيد عن الظاهر النظم، ولم يذكر للناس هنا
كما ذكر من قبل اكتفاء به أو إشارة إلى
العموم أي أنه أمن لكل شيء كائنا ما كان حتى الطير والوحش إلا
الخمس الفواسق فإنها خصت من ذلك على لسان رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم ويدخل فيه أمن الناس دخولا أوليا وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى عطف على جعلنا أو حال من فاعله
على إرادة القول أي وقلنا أو قائلين لهم اتخذوا والمأمور به
الناس كما هو الظاهر أو إبراهيم عليه السلام وأولاده كما قيل،
أو عطف على اذكر المقدر عاملا ل إِذْ، أو معطوف على مضمر
تقديره ثوبوا إليه وَاتَّخِذُوا وهو معترض باعتبار نيابته عن
ذلك بين جعلنا وعهدنا ولم يعتبر الاعتراض من دون عطف مع أنه لا
يحتاج إليه ليكون الارتباط مع الجملة السابقة أظهر، والخطاب
على هذين الوجهين لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وهو صلى
الله تعالى عليه وسلم رأس المخاطبين. ومِنْ إما للتبعيض أو
بمعنى- في- أو زائدة- على مذهب الأخفش- والأظهر الأول، وقال
القفال: هي مثل اتخذت من فلان صديقا وأعطاني الله تعالى من
فلان أخا صالحا، دخلت لبيان المتخذ الموهوب وتمييزه، والمقام-
مفعل من القيام يراد به المكان أي مكان قيامه وهو الحجر الذي
ارتفع عليه إبراهيم عليه السلام حين ضعف من رفع الحجارة التي
كان ولده إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت، وفيه أثر قدميه
قاله ابن عباس وجابر وقتادة وغيرهم، وأخرجه البخاري- وهو قول
جمهور المفسرين- وروي عن الحسن أنه الحجر الذي وضعته زوجة
إسماعيل عليه السلام تحت إحدى رجليه وهو راكب فغسلت أحد شقي
رأسه ثم رفعته من تحتها وقد غاصت فيه ووضعته تحت رجله الأخرى
فغسلت شقه الآخر وغاصت رجله الأخرى فيه أيضا، أو الموضع الذي
كان فيه الحجر حين قام عليه ودعا الناس إلى الحج ورفع بناء
البيت، وهو موضعه اليوم- فالمقام- في أحد المعنيين حقيقة لغوية
وفي الآخر مجاز متعارف ويجوز حمل اللفظ على كل منهما- كذا
قالوا- إلا أنه استشكل تعيين الموضع بما هو الموضع اليوم لما
في فتح الباري من أنه كان المقام أي الحجر من عهد إبراهيم عليه
السلام لزيق البيت إلى أن أخره عمر رضي الله تعالى عنه إلى
المكان الذي هو فيه الآن أخرجه عبد الرزاق بسند قوي، وأخرج ابن
مردويه بسند ضعيف عن مجاهد أن رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم هو الذي حوله فإن هذا يدل على تغاير الموضعين سواء كان
المحول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أو عمر رضي الله تعالى
عنه، وأيضا كيف يمكن رفع البناء حين القيام
(1/377)
عليه حال كونه في موضعه اليوم؟! وهو بعيد
من الحجر الأسود بسبعة وعشرين ذراعا، وأيضا المشهور أن دعوة
الناس إلى الحج كانت فوق أبي قبيس فإنه صعده بعد الفراغ من
عمارة البيت ونادى أيها الناس حجوا بيت ربكم فإن لم يكن الحجر
معه حينئذ أشكل القول بأنه قام عليه ودعا وإن كان معه وكان
الوقوف عليه فوق الجبل- كما يشير إليه كلام روضة الأحباب، وبه
يحصل الجمع- أشكل التعيين بما هو اليوم وغاية التوجيه أن يقال
لا شك أنه عليه السلام كان يحول الحجر حين البناء من موضع إلى
موضع ويقوم عليه فلم يكن له موضع معين، وكذا حين الدعوة لم يكن
عند البيت بل فوق أبي قبيس فلا بد من صرف عباراتهم عن ظاهرها
بأن يقال الموضع الذي كان ذلك الحجر في أثناء زمان قيامه عليه
واشتغاله بالدعوة، أو رفع البناء لا حالة القيام عليه، ووقع في
بعض الكتب أن هذا المقام الذي فيه الحجر الآن كان بيت إبراهيم
عليه السلام، وكان ينقل هذا الحجر بعد الفراغ من العمل إليه،
وأن الحجر بعد إبراهيم كان موضوعا في جوف الكعبة، ولعل هذا هو
الوجه في تخصيص هذا الموضع بالتحويل، وما وقع في الفتح من أنه
كان المقام من عهد إبراهيم لزيق البيت معناه بعد إتمام العمارة
فلا ينافي أن يكون في أثنائها في الموضع الذي فيه اليوم- كذا
ذكره بعض المحققين فليفهم- وسبب النزول ما
أخرجه أبو نعيم من حديث ابن عمر «أن النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم أخذ بيد عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا عمر هذا مقام
إبراهيم فقال عمر: أفلا نتخذه مصلى فقال: لم أومر بذلك فلم تغب
الشمس حتى نزلت هذه الآية»
والأمر فيها للاستحباب إذ المتبادر- من- المصلى- موضع الصلاة
مطلقا، وقيل: المراد به الأمر بركعتي الطواف لما
أخرجه مسلم عن جابر «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، وقرأ
الآية»
فالأمر للوجوب على بعض الأقوال، ولا يخفى ضعفه لأن فيه التقييد
بصلاة مخصوصة من غير دليل، وقراءته عليه الصلاة والسلام الآية
حين أداء الركعتين لا يقتضي تخصيصه بهما، وذهب النخعي ومجاهد
إلى أن المراد من مقام إبراهيم الحرم كله، وابن عباس وعطاء إلى
أنه مواقف الحج كلها، والشعبي إلى أنه عرفة ومزدلفة والجمار،
ومعنى- اتخاذها مصلى- أن يدعى فيها ويتقرب إلى الله تعالى
عندها، والذي عليه الجمهور، هو ما قدمناه أولا، وهو الموافق
لظاهر اللفظ ولعرف الناس اليوم وظواهر الأخبار تؤيده، وقرأ
نافع وابن عامر «واتخذوا» بفتح الخاء على أنه فعل ماض، وهو
حينئذ معطوف على جَعَلْنَا أي- واتخذ الناس- من مكان إبراهيم
الذي عرف به وأسكن ذريته عنده- وهو الكعبة قبلة يصلون إليها.
فالمقام مجاز عن ذلك المحل وكذا- المصلى- بمعنى القبلة مجاز عن
المحل الذي يتوجه إليه في الصلاة بعلاقة القرب والمجاورة
وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أي وصينا أو أمرنا
أو أوحينا أو قلنا، والذي عليه المحققون أن العهد إذا تعدى ب
إِلى يكون بمعنى التوصية، ويتجوز به عن الأمر، وإسماعيل علم
أعجمي قيل: معناه بالعربية مطيع الله، وحكي أن إبراهيم عليه
السلام كان يدعو أن يرزقه الله تعالى ولدا، ويقول:- اسمع إيل-
أي استجب دعائي يا الله فلما رزقه الله تعالى ذلك سماه بتلك
الجملة، وأراه في غاية البعد وللعرب فيه لغتان اللام والنون
أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ أي بأن طَهِّرا على أن أَنْ مصدرية وصلت
بفعل الأمر بيانا للموصى المأمور به، وسيبويه. وأبو علي جوزا
كون صلة الحروف المصدرية أمرا أو نهيا والجمهور منعوا ذلك
مستدلين بأنه إذا سبك منه مصدر فات معنى الأمر، وبأنه يجب في
الموصول الاسمي كون صلته خبرية. والموصول الحرفي مثله، قدروا
هنا- قلنا- ليكون مدخول الحرف المصدري خبرا، ويردّ عليهم أولا
أن كونه مع الفعل بتأويل المصدر لا يستدعي اتحاد معناهما ضرورة
عدم دلالة المصدر على الزمان مع دلالة الفعل عليه، وثانيا أن
وجوب كون الصلة خبرية في الموصول الاسمى إنما هو للتوصل إلى
وصف المعارف بالجمل وهي لا توصف بها إلا إذا كانت خبرية، وأما
الموصول الحرفي فليس كذلك، وثالثا أن تقدير- قلنا- يفضي إلى أن
يكون المأمور به القول، وليس كذلك، وجوز أن تكون أَنْ هذه
مفسرة لتقدم ما
(1/378)
يتضمن معنى القول دون حروفه، وهو العهد،
ويحتاج حينئذ إلى تقدير المفعول إذ يشترط مع تقدم ما ذكر كون
مدخولها مفسرا لمفعول مقدر أو ملفوظ أي قلنا لهما شيئا هو أَنْ
طَهِّرا والمراد من التطهير التنظيف من كل ما لا يليق فيدخل
فيه الأوثان والأنجاس وجميع الخبائث وما يمنع منه شرعا كالحائض
وخص مجاهد وابن عطاء ومقاتل وابن جبير التطهير بإزالة الأوثان،
وذكروا أن البيت كان عامرا على عهد نوح عليه السلام وأنه كان
فيه أصنام على أشكال صالحيهم، وأنه طال العهد فعبدت من دون
الله تعالى فأمر الله تعالى بتطهيره منها، وقيل: المراد بخّراه
ونظفاه وخلقاه وارفعا عنه الفرث والدم الذي كان يطرح فيه،
وقيل: أخلصاه لمن ذكر بحيث لا يغشاه غيرهم فالتطهير عبارة عن
لازمه، ونقل عن السدي أن المراد به البناء والتأسيس على
الطهارة والتوحيد وهو بعيد، وتوجيه الأمر هنا إلى إبراهيم
وإسماعيل لا ينافي ما في سورة الحج من تخصيصه بإبراهيم عليه
السلام فإن ذلك واقع قبل بناء البيت كما يفصح عنه قوله تعالى:
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ [الحج: 26]
وكان إسماعيل حينئذ بمعزل من مثابة الخطاب، وظاهر أن هذا بعد
بلوغه مبلغ الأمر والنهي، وتمام البناء بمباشرته كما ينبىء عنه
إيراده إثر حكاية جعله مَثابَةً وإضافة البيت إلى ضمير الجلالة
للتشريف ك ناقَةُ اللَّهِ [الأعراف: 73، هود: 64، الشمس: 13]
لا أنه مكان له تعالى عن ذلك علوا كبيرا لِلطَّائِفِينَ أي
لأجلهم فاللام تعليلية وإن فسر التطهير بلازمه كانت صلة له،
والطائف- اسم فاعل من طاف به إذا دار حوله، والظاهر أن المراد
كل من يطوف من حاضر أو باد- وإليه ذهب عطاء وغيره- وقال ابن
جبير: والمراد الغرباء الوافدون مكة حجاجا وزوارا.
وَالْعاكِفِينَ وهم أهل البلد الحرام المقيمون عند ابن جبير،
وقال عطاء: هم الجالسون من غير طواف من بلدي وغريب، وقال
مجاهد: المجاورون له من الغرباء، وقيل: هم المعتكفون فيه
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وهم المصلون جمع راكع وساجد، وخص
الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلي لأنهما أقرب
أحواله إليه تعالى وهما الركنان الأعظمان وكثيرا ما يكنى عن
الصلاة بهما ولذا ترك العطف بينهما ولم يعبر بالمصلين مع
اختصاره إيذانا بأن المعتبر صلاة ذات ركوع وسجود لا صلاة
اليهود. وقدم الركوع لتقدمه في الزمان وجمعا جمع تكسير لتغير
هيئة المفرد مع مقابلتهما ما قبلهما من جمعي السلامة وفي ذلك
تنويع في الفصاحة، وخالف بين وزني تكسيرهما للتنويع مع
المخالفة في الهيئات وكان آخرهما على فعول لأجل كونه فاصلة
والفواصل قبل وبعد آخرها حرف قبله حرف مدّ ولين وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً الإشارة إلى
الوادي المذكور بقوله تعالى: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ
ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ [إبراهيم: 37] أي اجعل هذا المكان القفر بلدا إلخ
فالمدعو به البلدية مع الأمن، وهذا بخلاف ما في سورة إبراهيم
[35] رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ولعل السؤال متكرر،
وما في تلك السورة كان بعد، والأمن المسئول فيها إما هو الأول
وأعاد سؤاله دون البلدية رغبة في استمراره لأنه المقصد الأصلي،
أو لأن المعتاد في البلدية الاستمرار بعد التحقق بخلافه. وإما
غيره بأن يكون المسئول أولا مجرد الأمن المصحح للسكنى، وثانيا
الأمن المعهود، ولك أن تجعل هَذَا الْبَلَدَ في تلك السورة
إشارة إلى أمر مقدر في الذهن كما يدل عليه رَبَّنا إِنِّي
أَسْكَنْتُ إلخ فتطابق الدعوتان حينئذ وإن جعلت الإشارة هنا
إلى البلد تكون الدعوة بعد صيرورته بلدا والمطلوب كونه آمنا
على طبق ما في السورة من غير تكلف إلا أنه يفيد المبالغة أي
بلدا كاملا في الأمن كأنه قيل اجعله بلدا معلوم الاتصاف بالأمن
مشهورا به كقولك كان هذا اليوم يوما حارا، والوصف بآمن إما على
معنى النسب أي ذا أمن على حد ما قيل: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ
[الحاقة: 21، القارعة: 7] وإما على الاتساع والإسناد المجازي،
والأصل آمنا أهله فأسند ما للحال للمحل لأن الأمن والخوف من
صفات ذوي الإدراك، وهل الدعاء بأن يجعله آمنا
(1/379)
من الجبابرة والمتغلبين، أو من أن يعود
حرمه حلالا، أو من أن يخلو من أهله. أو من الخسف والقذف، أو من
القحط والجدب، أو من دخول الدجال، أو من دخول أصحاب الفيل؟؟
أقوال، والواقع يرد بعضها فإن الجبابرة دخلته وقتلوا فيه-
كعمرو بن لحي الجرهمي، والحجاج الثقفي، والقرامطة وغيرهم- وكون
البعض لم يدخله للتخريب بل كان غرضه شيئا آخر لا يجدي نفعا
كالقول بأنه ما آذى أهله جبار إلا قصمه الله تعالى ففي المثل:
إذا مت عطشانا فلا نزل القطر
وكان النداء بلفظ الرب مضافا لما في ذلك من التلطف بالسؤال
والنداء بالوصف الدال على قبول السائل، وإجابة ضراعته، وقد
أشرنا من قبل إلى ما ينفعك هنا فتذكر.
وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ أي من أنواعها بأن تجعل
قريبا منه قرى يحصل فيها ذلك أو تجيء إليه من الأقطار الشاسعة-
وقد حصل كلاهما- حتى أنه يجتمع فيه الفواكه الربيعية والصيفية
والخريفية في يوم واحد روي أن الله سبحانه لما دعا إبراهيم أمر
جبريل فاقتلع بقعة من فلسطين، وقيل: من الأردن وطاف بها حول
البيت سبعا فوضعها حيث وضعها رزقا للحرم وهي الأرض المعروفة
اليوم بالطائف وسميت به لذلك الطواف، وهذا على تقدير صحته غير
بعيد عن قدرة الملك القادر جل جلاله، وإن أبيت إبقاءه على
ظاهره فباب التأويل واسع، وجمع القلة إظهارا للقناعة، وقد
أشرنا إلى أنه كثيرا ما يقوم مقام جمع الكثرة، ومِنَ للتبعيض،
وقيل: لبيان الجنس.
مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بدل من
أَهْلَهُ بدل البعض وهو مخصص لما دل عليه المبدل منه واقتصر في
متعلق الإيمان بذكر المبدأ والمعاد لتضمن الإيمان بهما الإيمان
بجميع ما يجب الإيمان به قالَ أي الله تعالى.
وَمَنْ كَفَرَ عطف على مَنْ آمَنَ أي- وارزق من كفر أيضا-
فالطلب بمعنى الخبر على عكس ومِنْ ذُرِّيَّتِي وفائدة العدول
تعليم تعميم دعاء الرزق وأن لا يحجر في طلب اللطف وكأن إبراهيم
عليه السلام قاس الرزق على الإمامة فنبهه سبحانه على أن الرزق
رحمة دنيوية لا تخص المؤمن بخلاف الإمامة أو أنه عليه السلام
لما سمع لا يَنالُ إلخ احترز من الدعاء لمن ليس مرضيا عنده
تعالى فأرشده إلى كرمه الشامل، وبما ذكرنا اندفع ما في البحر
من أن هذا العطف لا يصح لأنه يقتضي التشريك في العامل فيصير
قال إبراهيم: وَارْزُقْ فينافيه ما بعد، ولك أن تجعل العطف على
محذوف أي- ارزق من آمن ومن كفر- بلفظ الخبر ومن لا يقول بالعطف
التلقيني يوجب ذلك ويجوز أن تكون مِنَ مبتدأ شرطية أو موصولة
وقوله تعالى: فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا على الأول معطوف على
كَفَرَ وعلى «الثاني» خبر للمبتدأ- والفاء- لتضمن المبتدأ معنى
الشرط ولا حاجة إلى تقدير- أنا- لأن ابن الحاجب نص على أن
المضارع في الجزاء يصح اقترانه بالفاء إلا أن يكون استحسانا،
وإلى عدم التقدير ذهب المبرد، ومذهب سيبويه وجوب التقدير وأيد
بأن المضارع صالح للجزاء بنفسه فلولا أنه خبر مبتدأ لم يدخل
عليه الفاء، ثم الكفر وإن لم يكن سببا للتمتع المطلق لكنه يصلح
سببا لتقليله وكونه موصولا بعذاب النار- وقليلا- صفة لمحذوف أي
متاعا أو زمانا قَلِيلًا وقرأ ابن عامر فَأُمَتِّعُهُ مخففا
على الخبر، وكذا قرأ يحيى بن وثاب إلا أنه كسر الهمزة، وقرأ
أبيّ- فنمتعه- بالنون، وابن عباس ومجاهد فَأُمَتِّعُهُ على
صيغة الأمر، وعلى هذه القراءة يتعين أن يكون الضمير في قالَ
عائدا إلى إبراهيم، وحسن إعادة قالَ طول الكلام وأنه انتقل من
الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين فكأنه
(1/380)
أخذ في كلام آخر وكونه عائدا إليه تعالى-
أي قال الله: فَأُمَتِّعُهُ يا قادر يا رازق خطابا لنفسه على
طريق التجريد- بعيد جدا لا ينبغي أن يلتفت إليه.
ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ الاضطرار ضد الاختيار
وهو حقيقة في كون الفعل صادرا من الشخص من غير تعلق إرادته به
كمن ألقى من السطح مثلا مجاز في كون الفعل باختياره لكن بحيث
لا يملك الامتناع عنه بأن عرض له عارض يقسره على اختياره كمن
أكل الميتة حال المخمصة وبكلا المعنيين قال بعض، ويؤيد الأول
قوله تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا
[الطور: 13] ويُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ
[القمر: 48] وفَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ [الرحمن:
41] ويؤيد الثاني قوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى
جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها
[الزمر: 71] وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] الآية
وإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ
جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء: 98] والتحقيق أن
أحوال الكفار يوم القيامة عند إدخالهم النار شتى وبذلك يحصل
الجمع بين الآيات وإن الاضطرار مجاز عن كون العذاب واقعا به
وقوعا محققا حتى كأنه مربوط به، قيل: إن هذا الاضطرار في
الدنيا وهو مجاز أيضا كأنه شبه حال الكافر الذي أدرّ الله
تعالى عليه النعمة التي استدناه بها قليلا إلى ما يهلكه بحال
من لا يملك الامتناع مما اضطر إليه فاستعمل في المشبه ما
استعمل في المشبه به وهو كلام حسن لولا أنه يستدعي ظاهرا حمل
ثُمَّ على التراخي الرتبي وهو خلاف الظاهر، وقرأ ابن عامر-
اضطره- بكسر الهمزة، ويزيد بن أبي حبيب- اضطره- بضم الطاء
وأبيّ- نضطره- بالنون، وابن عباس. ومجاهد على صيغة الأمر، وابن
محيصن- أطره- بإدغام الضاد في الطاء خبرا- قال الزمخشري- وهي
لغة مرذولة لأن حروف ضم شفر يدغم فيها ما يجاورها دون العكس،
وفيه أن هذه الحروف أدغمت في غيرها فأدغم أبو عمرو الراء في
اللام في نَغْفِرْ لَكُمْ [البقرة: 284، الأعراف: 161] والضاد
في الشين في- لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ- والشين في السين في
الْعَرْشِ سَبِيلًا [الإسراء: 42] والكسائي الفاء في الباء في
نَخْسِفْ بِهِمُ [سبأ: 9] ونقل سيبويه عن العرب أنهم قالوا-
مضطجع ومطجع- إلا أن عدم الإدغام أكثر، وأصل اضطر على هذا على
ما قيل: اضتر فأبدلت التاء طاء، ثم وقع الإدغام وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ المخصوص بالذم محذوف لفهم المعنى أي- وبئس المصير
النار- إن كان المصير اسم مكان وإن كان مصدرا على من أجاز ذلك
فالتقدير وبئست الصيرورة صيرورته إلى العذاب وَإِذْ يَرْفَعُ
إِبْراهِيمُ عطف على وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ وإذ للمضي وآثر
صيغة المضارع مع أن القصة ماضية استحضارا لهذا الأمر ليقتدي
الناس به في إتيان الطاعات الشاقة مع الابتهال في قبولها
وليعلموا عظمة البيت المبني فيعظموه الْقَواعِدَ مِنَ
الْبَيْتِ القواعد جمع قاعدة وهي الأساس كما قاله أبو عبيدة
صفة صارت بالغلبة من قبيل الأسماء الجامدة بحيث لا يذكر لها
موصوف ولا يقدر من القعود بمعنى الثبات، ولعله مجاز من المقابل
للقيام، ومنه قعدك الله تعالى في الدعاء بمعنى أدامك الله
تعالى وثبتك، ورفع القواعد على هذا المعنى مجاز عن البناء
عليها إذ الظاهر من رفع الشيء جعله عاليا مرتفعا، والأساس لا
يرتفع بل يبقى بحاله لكن لما كانت هيئته قبل البناء عليه
الانخفاض ولما بني عليه انتقل إلى هيئة الارتفاع بمعنى أنه حصل
له مع ما بني عليه تلك الهيئة صار البناء عليه سببا للحصول
كالرفع فاستعمل الرفع في البناء عليه واشتق من ذلك يَرْفَعُ
بمعنى يبنى عليها، وقيل: الْقَواعِدَ ساقات البناء وكل ساق
قاعدة لما فوقه، فالمراد برفعها على هذا بناؤها نفسها، ووجه
الجمع عليه ظاهر وعلى الأول لأنها مربعة ولكل حائط أساس، وضعف
هذا القول بأن فيه صرف لفظ الْقَواعِدَ عن معناه المتبادر وليس
هو كصرف الرفع في الأول، وقيل: الرفع بمعنى الرفعة والشرف،
والْقَواعِدَ بمعناه الحقيقي السابق فهو استعارة تمثيلية- وفيه
بعد- إذ لا يظهر حينئذ فائدة لذكر الْقَواعِدَ. ومِنَ ابتدائية
(1/381)
متعلقة ب يَرْفَعُ أو حال من الْقَواعِدَ
ولم يقل قواعد البيت لما في الإبهام والتبيين من الاعتناء
الدال على التفخيم ما لا يخفى.
وَإِسْماعِيلُ عطف على إِبْراهِيمُ، وفي تأخيره عن المفعول
المتأخر عنه رتبة إشارة إلى أن مدخليته في رفع البناء، والعمل
دون مدخلية إبراهيم عليه السلام، وقد ورد أنه كان يناوله
الحجارة، وقيل: كانا يبنيان في طرفين أو على التناوب، وأبعد
بعضهم فزعم أن إِسْماعِيلُ مبتدأ وخبره محذوف أي يقول: ربنا،
وهذا ميل إلى القول بأن إبراهيم عليه السلام هو المتفرد
بالبناء ولا مدخلية لإسماعيل فيه أصلا بناء على ما
روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان إذ ذاك طفلا صغيرا،
والصحيح أن الأثر غير صحيح، هذا وقد ذكر أهل الأخبار في ماهية
هذا البيت وقدمه وحدوثه، ومن أي شيء كان باباه، وكم مرة حجه
آدم، ومن أي شيء بناه إبراهيم، ومن ساعده على بنائه، ومن أين
أتي بالحجر الأسود؟؟؟ أشياء لم يتضمنها القرآن العظيم، ولا
الحديث الصحيح، وبعضها يناقض بعضا، وذلك على عادتهم في نقل ما
دب ودرج، ومن مشهور ذلك أن الكعبة أنزلت من السماء في زمان
آدم، ولها بابان إلى المشرق والمغرب فحج آدم من أرض الهند
واستقبلته الملائكة أربعين فرسخا فطاف بالبيت ودخله ثم رفعت في
زمن طوفان نوح عليه السلام إلى السماء ثم أنزلت مرة أخرى في
زمن إبراهيم فزارها. ورفع قواعدها وجعل بأبيها بابا واحدا ثم
تمخض أبو قبيس فانشق عن الحجر الأسود، وكان ياقوتة بيضاء من
يواقيت الجنة نزل بها جبريل فخبئت في زمان الطوفان إلى زمن
إبراهيم فوضعه إبراهيم مكانه ثم اسود بملامسة النساء الحيض،
وهذا الخبر وأمثاله إن صح- عند أهل الله تعالى- إشارات ورموز
لمن أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37] فنزولها في زمن
آدم عليه السلام إشارة إلى ظهور عالم المبدأ والمعاد ومعرفة
عالم النور وعالم الظلمة في زمانه دون عالم التوحيد، وقصده
زيارتها من أرض الهند إشارة إلى توجهه بالتكوين، والاعتدال من
عالم الطبيعة الجسمانية المظلمة إلى مقام القلب، واستقبال
الملائكة إشارة إلى تعلق القوى النباتية والحيوانية بالبدن
وظهور آثارها فيه قبل آثار القلب في الأربعين التي تكونت فيها
بنيته وتخمرت طينته أو توجهه بالسير والسلوك من عالم النفس
الظلماني إلى مقام القلب، واستقبال الملائكة تلقي القوى
النفسانية والبدنية إياه بقبول الآداب والأخلاق الجميلة،
والملكات الفاضلة، والتمرن والتنقل في المقامات قبل وصوله إلى
مقام القلب، وطوافه بالبيت إشارة إلى وصوله إلى مقام القلب
وسلوكه فيه مع التلوين، ودخوله إشارة إلى تمكينه واستقامته
فيه، ورفعه في زمن الطوفان إلى السماء إشارة إلى احتجاب الناس
بغلبة الهوى وطوفان الجهل في زمن نوح عن مقام القلب، وبقاؤه في
السماء إشارة إلى البيت المعمور الذي هو قلب العالم ونزوله مرة
أخرى في زمان إبراهيم إشارة إلى اهتداء الناس في زمانه إلى
مقام القلب بهدايته، ورفع إبراهيم قواعده وجعله ذا باب واحد
إشارة إلى ترقي القلب إلى مقام التوحيد إذ هو أول من أظهر
التوحيد الذاتي المشار إليه بقوله تعالى حكاية عنه: وَجَّهْتُ
وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً
وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الإنعام: 79] والحجر الأسود
إشارة إلى الروح التي هي أمر الله عز شأنه ويمينه، وموضع سره،
وتمخض أبي قبيس وانشقاقه عنه إشارة إلى ظهوره بالرياضة وتحرك
آلات البدن باستعمالها في التفكر والتعبد في طلب ظهوره، ولهذا
قيل: خبئت أي احتجبت بالبدن، واسوداده بملامسة الحيض إشارة إلى
تكدره بغلبة القوى النفسانية على القلب، واستيلائها عليه،
وتسويدها الوجه النوراني الذي يلي الروح منه.
ولو ترك القطا ليلا لناما
رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا أي يقولان رَبَّنا وبه قرأ أبيّ
والجملة حال من فاعل يَرْفَعُ وقيل: معطوفة على ما قبله بجعل
القول متعلقا ل إِذْ والتقبل مجاز عن الإثابة والرضا لأن كل
عمل يقبله الله تعالى فهو يثيب صاحبه ويرضاه منه، وفي سؤال
الثواب على العمل دليل على أن ترتبه عليه ليس واجبا، وإلا لم
يطلب، وفي اختيار صيغة التفعل اعتراف بالقصور
(1/382)
لما فيه من الإشعار بالتكلف في القبول، وإن
كان التقبل والقبول بالنسبة إليه تعالى على السواء إذ لا يمكن
تعقل التكلف في شأنه عز شأنه، ويمكن أن يكون المراد من التقبل
الرضا فقط دون الإثابة لأن غاية ما يقصده المخلصون من الخدم
لوقوع أفعالهم موضع القبول والرضا عند المخدوم، وليس الثواب
مما يخطر لهم ببال، ولعل هذا هو الأنسب بحال الخليل وابنه
إسماعيل عليهما السلام إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
تعليل لاستدعاء التقبل، والمراد السميع لدعائنا، والعليم
بنياتنا، وبذلك يصح الحصر المستفاد من تعريف المسندين ويفيد
نفي السمعة والرياء في الدعاء والعمل الذي هو شرط القبول،
وتأكيد الجملة لاظهار كمال قوة يقينهما بمضمونها وتقديم صفة
السمع، وإن كان سؤال التقبل متأخرا عن العمل للمجاورة ولأنها
ليست مثل العلم شمولا.
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أي منقادين قائمين
بشرائع الإسلام أو مخلصين موحدين لك- فمسلمين- إما من استسلم
إذا انقاد أو من أسلم وجهه إذا أخلص نفسه أو قصده ولكل من
المعنيين عرض عريض، فالمراد طلب الزيادة فيهما أو الثبات
عليهما، والأول أولى نظرا إلى منصبهما وإن كان الثاني أولى
بالنظر إلى أنه أتم في إظهار الانقطاع إليه جل جلاله. وقرأ ابن
عباس رضي الله تعالى عنه «مسلمين» بصيغة الجمع على أن المراد
أنفسهما والموجود من أهلهما كهاجر (1) وهذا أولى من جعل لفظ
الجمع مرادا به التثنية، وقد قيل به هنا، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا
عطف على الضمير المنصوب في اجْعَلْنا وهو في محل المفعول الأول
وأُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ في موضع المفعول الثاني معطوف على
مُسْلِمَيْنِ لَكَ ولو اعتبر حذف الجعل فلا بد أن يحمل على
معنى التصيير لا الإيجاد لأنه وإن صح من جهة المعنى إلا أن
الأول لا يدل عليه وإنما خصا- الذرية- بالدعاء لأنهم أحق
بالشفقة كما قال الله تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ
ناراً [التحريم: 6] ولأنهم أولاد الأنبياء وبصلاحهم صلاح كل
الناس فكان الاهتمام بصلاحهم أكثر، وخصا البعض لما علما من
قوله سبحانه: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ
لِنَفْسِهِ [الصافات: 113] أو من قوله عز شأنه: لا يَنالُ
عَهْدِي الظَّالِمِينَ باعتبار السياق ان في- ذريتهما- ظلمة
وأن الحكمة الإلهية تستدعي الانقسام إذ لولاه ما دارت أفلاك
الأسماء ولا كان ما كان من أملاك السماء، والمراد من الأمة
الجماعة أو الجيل، وخصها بعضهم بأمة محمد صلى الله تعالى عليه
وسلم وحمل التنكير على التنويع، واستدل على ذلك بقوله تعالى:
وَابْعَثْ إلخ، ولا يخفى أنه صرف للفظ عن ظاهره واستدلال بما
لا يدل، وجوز أبو البقاء أن يكون أُمَّةً المفعول الأول وَمِنْ
ذُرِّيَّتِنا حال لأنه نعت نكرة تقدم عليها- ومسلمة- المفعول
الثاني وكان الأصل- واجعل أمة من ذريتنا مسلمة لك- فالواو
داخلة في الأصل على أُمَّةً وقد فصل بينهما بالجار والمجرور،
ومِنْ عند بعضهم على هذا بيانية على حد وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [النور: 55] ونظر فيه أبو حيان بأن
أبا علي وغيره منعوا أن يفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف
والفصل بالحال أبعد من الفصل بالظرف، وجعلوا ما ورد من ذلك
ضرورة وبأن كون مِنْ للتبيين مما يأباه الأصحاب ويتأولون ما
فهم ذلك من ظاهره، ولا يخفى أن المسألة خلافية وما ذكره مذهب
البعض وهو لا يقوم حجة على البعض الآخر وَأَرِنا مَناسِكَنا
قال قتادة: معالم الحج، وقال عطاء. وابن جريج: مواضع الذبح،
وقيل: أعمالنا التي نعملها إذا حججنا فالمنسك بفتح السين
والكسر شاذ إما مصدر أو مكان وأصل النسك بضمتين غاية العبادة
وشاع في الحج لما فيه من الكلفة غالبا والبعد عن العادة،
وأَرِنا من رأى البصرية ولهمزة الافعال تعدت إلى مفعولين أو من
رأى القلبية بمعنى عرف لا علم، وإلا لتعدت إلى ثلاثة، وأنكر
ابن الحاجب وتبعه أبو حيان
__________
(1) بفتح الجيم اسم أم إسماعيل اهـ منه.
(1/383)
ثبوت رأى بمعنى عرف، وذكره الزمخشري في
المفصل، والراغب في مفرداته وهما من الثقات فلا عبرة
بإنكارهما، وقرأ ابن مسعود- وأرهم مناسكهم- باعادة الضمير إلى
الذرية، وقرأ ابن كثير ويعقوب- وأرنا- بسكون الراء وقد شبه فيه
المنفصل بالمتصل فعومل معاملة فَخُذْ [البقرة: 260، الأعراف:
144، يوسف: 78] في إسكانه للتخفيف، وقد استعملته العرب كذلك
ومنه قوله:
أرنا إداوة عبد الله نملؤها ... من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا
وقول الزمخشري: إن هذه القراءة قد استرذلت لأن الكسرة منقولة
من الهمزة الساقطة دليل عليها فإسقاطها إجحاف مما لا ينبغي لأن
القراءة من المتواترات ومثلها أيضا موجود في كلام العرب
العرباء وَتُبْ عَلَيْنا أي وفقنا للتوبة أو اقبلها منا
والتوبة تختلف باختلاف التائبين فتوبة سائر المسلمين الندم
والعزم على عدم العود ورد المظالم إذا أمكن، ونية الرد إذا لم
يمكن، وتوبة الخواص الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء،
والفتور في الأعمال، والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال،
وتوبة خواص الخواص لرفع الدرجات، والترقي في المقامات، فإن كان
إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام طلبا التوبة لأنفسهما خاصة،
فالمراد بها ما هو من توبة القسم الأخير، وإن كان الضمير شاملا
لهما وللذرية كان الدعاء بها منصرفا لمن هو من أهلها ممن يصح
صدور الذنب المخل بمرتبة النبوة منه، وإن قيل: إن الطلب للذرية
فقط وارتكب التجوز في النسبة إجراء للولد مجرى النفس بعلاقة
البعضية ليكون أقرب إلى الإباحة، أو في الطرف حيث عبر عن الفرع
باسم الأصل، أو قيل: بحذف المضاف- أي على عصاتنا- زال الاشكال
كما إذا قلنا: إن ذلك عما فرط منهما من الصغائر سهوا، والقول
بأنهما لم يقصدا الطلب حقيقة، وإنما ذكرا ذلك للتشريع وتعليم
الناس ان تلك المواضع مواضع التنصل، وطلب التوبة من الذنوب
بعيد جدا، وجعل الطلب للتثبيت لا أراه هنا يجدي نفعا- كما لا
يخفى- وقرأ عبد الله «وتب عليهم» بضمير جمع الغيبة أيضا
إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ تعليل للدعاء ومزيد
استدعاء للإجابة، وتقديم التوبة للمجاورة، وتأخير الرحمة
لعمومها ولكونها أنسب بالفواصل.
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ أي أرسل في- الأمة المسلمة- وقيل:
في- الذرية- وعود الضمير إلى أهل مكة بعيد رَسُولًا مِنْهُمْ
أي من أنفسهم، ووصفه بذلك ليكون أشفق عليهم، ويكونوا أعز به
وأشرف، وأقرب للإجابة، لأنهم يعرفون منشأه وصدقه وأمانته، ولم
يبعث من ذرية كليهما سوى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وجميع
أنبياء بني إسرائيل من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام- لا
من ذريتهما- فهو المجاب به دعوتهما، كما
روى الإمام أحمد وشارح السنة عن العرباض عن رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم أنه قال: «سأخبركم بأول أمري، أنا دعوة
إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني»
وأراد صلى الله تعالى عليه وسلم إثر دعوته، أو مدعوه، أو عين
دعوته- على المبالغة- ولما كان إسماعيل عليه السلام شريكا في
الدعوة كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دعوة إسماعيل
أيضا إلا أنه خص إبراهيم لشرافته، وكونه أصلا في الدعاء، ووهم
من قال: إن الاقتصار في الحديث على إبراهيم يدل على أن المجاب
من الدعوتين كان دعوة إبراهيم دون إسماعيل عليهما الصلاة
والسلام. وقرأ أبيّ «وابعث فيهم في آخرهم رسولا» وهذا يؤيد أن
المراد به نبينا صلّى الله عليه وسلّم، «وفي الأثر» أنه لما
دعي إبراهيم قيل له: قد استجيب لك، وهو يكون في آخر الزمان.
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ أي يقرأ عليهم ما توحي إليه من
العلامات الدالة على التوحيد والنبوة وغيرهما، وقيل:
خبر من مضى ومن يأتي إلى يوم القيامة، والجملة صفة رَسُولًا
وقيل: في موضع الحال منه.
(1/384)
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ بأن يفهمهم
ألفاظه ويبين لهم كيفية أدائه، ويوقفهم على حقائقه وأسراره.
«والظاهر» أن مقصودهما من هذه الدعوة أن يكون- الرسول- صاحب
كتاب يخرجهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، وقد أجاب سبحانه هذه
الدعوة بالقرآن، وكونه بخصوصه كان مدعوا به غير بين ولا مبين.
وَالْحِكْمَةَ أي وضع الأشياء مواضعها، أو ما يزيل من القلوب
وهج حب الدنيا، أو الفقه في الدين، أو السنة المبينة- للكتاب-
أو- الكتاب- نفسه، وكرر للتأكيد اعتناء بشأنه، وقد يقال:
المراد بها حقائق الكتاب ودقائقه وسائر ما أودع فيه، ويكون-
تعليم الكتاب- عبارة عن تفهيم ألفاظه، وبيان كيفية أدائه،
وتعليم الْحِكْمَةَ الإيقاف على ما أودع فيه، وفسرها بعضهم بما
تكمل به النفوس من المعارف والأحكام فتشمل الْحِكْمَةَ النظرية
والعملية، قالوا:
وبينها وبين ما في الْكِتابَ عموم من وجه لاشتمال القرآن على
القصص والمواعيد، وكون بعض الأمور الذي يفيد كمال النفس- علما
وعملا- غير مذكور في الْكِتابَ وأنت تعلم أنت هذا القول بعد
سماع قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ
[الإنعام: 38] وقوله تعالى سبحانه: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ
[النحل: 89] مما لا ينبغي الاقدام عليه، اللهم إلا أن تكون هذه
النسبة بين ما في الْكِتابَ الذي في الدعوة مع قطع النظر عما
أجيبت به وبين الحكمة فتدبر وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم من أرجاس
الشرك وأنجاس الشك وقاذورات المعاصي. وهو إشارة إلى التخلية
كما أن التعليم إشارة إلى التحلية- ولعل تقديم الثاني على
الأول لشرافته- والقول بأن المراد يأخذ منهم الزكاة التي هي
سبب لطهارتهم أو يشهد لهم- بالتزكية والعدالة- بعيد إِنَّكَ
أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي الغالب المحكم لما يريد، فلك
أن تخصص واحدا منهم بالرسالة الجامعة لهذه الصفات بإرادته من
غير مخصص، وحمل الْعَزِيزُ هنا على من لا مثل له- كما قاله ابن
عباس- أو المنتقم- كما قاله الكلبي- والْحَكِيمُ على العالم-
كما قيل- لا يخلو عن بعد.
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إنكار واستبعاد لأن
يكون في العقلاء- من يرغب عن ملته- وهي الحق الواضح غاية
الوضوح، أي لا يرغب عن ذلك أحد إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ أي
جعلها مهانة ذليلة. وأصل- السفه- الخفة، ومنه زمام سفيه- أي
خفيف- وسفه- بالكسر- كما قال المبرد. وثعلب: متعد بنفسه،
ونَفْسَهُ مفعول به، وأما سَفِهَ بالضم فلازم، ويشهد له ما جاء
في الحديث «الكبر أن تسفه الحق وتغمط الناس»
وقيل: إنه لازم أيضا، وتعدى إلى المفعول لتضمنه معنى ما يتعدى
إليه، أي جهل نفسه لخفة عقله وعدم تفكره، وهو قول الزجاج، أو
أهلكها، وهو قول أبي عبيدة وقيل: إن النصب بنزع الخافض- أي في
نفسه- فلا ينافي اللزوم- وهو قول لبعض البصريين- وقيل: على
التمييز كما في قول النابغة الذبياني:
ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجبّ الظهر ليس له سنام
وقيل: على التشبيه بالمفعول به، واعترض الجميع أبو حيان قائلا:
إن التضمين والنصب بنزع الخافض لا ينقاسان. وإن التشبيه
بالمفعول به مخصوص عند الجمهور بالصفة- كما قيل به في البيت-
وإن البصريين منعوا مجيء التمييز معرفة، فالحق الذي لا ينبغي
أن يتعدى القول بالتعدي. ومَنْ إما موصولة أو موصوفة في محل
الرفع على المختار بدلا من الضمير في يَرْغَبُ لأنه استثناء من
غير موجب، وسبب نزول الآية ما
روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى
الإسلام فقال لهما: قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة:
إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى
ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر، فنزلت
وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا
أي اخترناه بالرسالة بتلك الملة، واجتبيناه من بين سائر الخلق،
وأصله اتخاذ
(1/385)
صفوة الشيء أي خالصه وَإِنَّهُ فِي
الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي المشهود لهم بالثبات على
الاستقامة والخير والصلاح، والجملة معطوفة على ما قبلها، وذلك
من حيث المعنى دليل مبين لكون- الراغب عن ملة إبراهيم سفيها-
إذ الاصطفاء والعز في الدنيا غاية المطالب الدنيوية- والصلاح-
جامع للكمالات الأخروية ولا مقصد للإنسان الغير- السفيه- سوى
خير الدارين، وأما من حيث اللفظ فيحتمل أن يكون حالا مقررة
لجهة الإنكار- واللام لام الابتداء- أي أيرغب عن ملته ومعه ما
يوجب عكس ذلك، وهو الظاهر لفظا لعدم الاحتياج إلى تقدير القسم-
وارتضاه الرضيّ- ويحتمل أن يكون عطفا على ما قبله، أو اعتراضا
بين المعطوفين- واللام- جواب القسم المقدر وهو الظاهر معنى لأن
الأصل في الجمل الاستقلال ولإفادة زيادة التأكيد المطلوب في
المقام والاشعار بأن المدعى لا يحتاج إلى البيان، والمقصود
مدحه عليه السلام وإيراد الجملة الأولى ماضوية لمضيها من وقت
الاخبار، والثانية اسمية لعدم تقييدها بالزمان لأن انتظامه في
زمرة صالحي أهل الآخرة أمر مستمر في الدارين لا أنه يحدث في
الآخرة، والتأكيد «بأن، واللام» لما أن الأمور الأخروية خفية
عند المخاطبين فحاجتها إلى التأكيد أشد من الأمور التي تشاهد
آثارها، وكلمة فِي متعلقة ب الصَّالِحِينَ على أن- أل- فيه
للتعريف لا موصولة ليلزم تقديم ب اصْطَفَيْناهُ وفي الآية
تقديم وتأخير، أو بمحذوف حالا من المستكن في الوصف بعيد.
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ
الْعالَمِينَ ظرف- لاصطفيناه- والمتوسط المعطوف ليس بأجنبي
لأنه لتقدير المتعلق المعطوف تأكيده لأن اصطفاءه في الدنيا
إنما هو للرسالة وما يتعلق بصلاح الآخرة فلا حاجة إلى أن يجعل
اعتراضا أو حالا مقدرة كما قيل به، أو تعليل له، أو منصوب ب
«اذكر» كأنه قيل: اذكر ذلك الوقت لتقف على أنه المصطفى الصالح
وأنه ما نال ما نال إلا بالمبادرة والانقياد إلى ما أمر به
وإخلاص سره حين دعاه ربه، وجوز جعله ظرفا ل قالَ وليس الأمر
وما في جوابه على حقيقتهما بل هو تمثيل والمعنى أخطر بباله
الدلائل المؤيدة إلى المعرفة، واستدل بها وأذعن بمدلولاتها إلا
أنه سبحانه وتعالى عبر عن ذلك بالقولين تصويرا لسرعة الانتقال
بسرعة الإجابة فهو إشارة إلى استدلاله عليه السلام بالكوكب
والشمس والقمر واطلاعه على أمارات الحدوث على ما يشير إليه
كلام الحسن وابن عباس من أن ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ، ومن
ذهب إلى أنه بعد النبوة قال: المراد الأمر بالطاعة والإذعان
لجزئيات الأحكام والاستقامة والثبات على التوحيد على حد
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: 19] ولا
يمكن الحمل على الحقيقة أعني إحداث الإسلام والإيمان لأن
الأنبياء معصومون عن الكفر قبل النبوة وبعدها ولأنه لا يتصور
الوحي والاستنباء قبل الإسلام نعم إذا حمل الإسلام على العمل
بالجوارح لا على معنى الإيمان أمكن الحمل على الحقيقة- كما قيل
به- وفي الالتفات مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليه
عليه السلام إظهار لمزيد اللطف به والاعتناء بتربيته، وإضافة
الرب في الجواب إلى الْعالَمِينَ للإيذان بكمال قوة إسلامه حيث
أتقن حين النظر شمول ربوبيته تعالى للعالمين قاطبة لا لنفسه
فقط كما هو المأمور به ظاهرا.
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ مدح له عليه السلام بتكميله
غيره إثر مدحه بكماله في نفسه، وفيه توكيد لوجود الرغبة في
ملته، والتوصية التقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة سواء كان
حالة الاحتضار أو لا وسواء كان ذلك التقدم بالقول أو الدلالة
وإن كان الشائع في العرف استعمالها في القول المخصوص حالة
الاحتضار وأصلها الوصل من قولهم أرض واصية أي متصلة النبات،
ويقال: وصاه إذا وصله، وفصاه إذا فصله كأن الموصي يصل فعله
بفعل الوصي، والضمير في بِها إما للملة أو لقوله أَسْلَمْتُ
على تأويل الكلمة أو الجملة، ويرجح الأول كون المرجح مذكورا
صريحا وكذا ترك المضمر إلى المظهر، وعطف يَعْقُوبُ عليه فإن
ذلك يدل على أنه شروع في كلام آخر لبيان
(1/386)
تواصي الأنبياء باستمساك الدين الحق الجامع
لجميع أحكام الأصول والفروع ليتوارثوا الملة القويمة والشرع
المستقيم نسلا بعد نسل، وذكر يعقوب الدين في توصيته لبنيه- وهو
والملة- أخوان ولو كان الضمير للثاني لكان الإسلام بدله، ويؤيد
الثاني كون الموصى به مطابقا في اللفظ ل أَسْلَمْتُ وقرب
المعطوف عليه لأنه حينئذ يكون معطوفا على قالَ أَسْلَمْتُ أي
ما اكتفى بالامتثال بل ضم توصية بنيه بالإسلام بخلاف التقدير
الأول فإنه معطوف على- من يرغب- لأنه كما أشرنا إليه في معنى
النفي، وخص البنين لأنه عليهم أشفق وهم بقبول وصيته أجدر ولأن
النفع بهم أكثر، وقرأ نافع وابن عامر- أوصى- ولا دلالة فيها
على التكثير كالأولى الدالة عليه لصيغة التفعيل.
وَيَعْقُوبُ عطف على إبراهيم، ورفعه على الابتداء وحذف الخبر
أي- يعقوب- كذلك، والجملة معطوفة على الجملة الفعلية، وجعله
فاعلا- لوصى- مضمرا بعيد، وقرىء بالنصب فيكون عطفا على بَنِيهِ
والمراد بهم أبناء الصلب وهو عليه الصلاة والسلام كان نافلة،
وإنما سمي يعقوب لأنه وعيصا- كانا توأمين- فتقدم عيص، وخرج
يعقوب على أثره آخذا بعقبه كذا روي عن ابن عباس ولا أظن صحته
يا بَنِيَّ على إضمار القول عند البصريين، ويقدر بصيغة الإفراد
على تقدير نصب يعقوب أي قال، أو قائلا وبصيغة التثنية على
تقدير الرفع ووقوع الجملة بعد القول مشروط بأن يكون المقصود
مجرد الحكاية، والكلام المحكي مشترك بين إبراهيم ويعقوب، وإن
كان المخاطبون في الحالين متغايرين، وذهب الكوفيون إلى عدم
الإضمار لأن التوصية لاشتمالها على معنى القول بل هي القول
المخصوص كان حكمها حكمه فيجوز وقوع الجملة في حيز مفعولها،
وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن يا بني ولا حاجة حينئذ
إلى تقدير القول عند البصريين بل لا يجوز ذلك عندهم على ما
يشير إليه كلام بعض المحققين، وبنو إبراهيم على ما في الإتقان
اثنا عشر، وهم إسماعيل وإسحاق ومدين وزمزان وسرح. ونقش.
ونقشان.
وأميم. وكيسان. وسورج. ولوطان، نافس. وبنو يعقوب أيضا كذلك
وهم. يوسف. وروبيل. وشمعون. ولاوي. ويهوذا.
وداني. ونفتالي. وكاد. واسبر. وإيساجر. ورايكون وبنيامين إِنَّ
اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ أي جعل لكم الدين الذي هو
صفوة الأديان بأن شرعه لكم ووفقكم للأخذ به، والمراد به دين
الإسلام الذي به الإخلاص لله تعالى، والانقياد له، وليس المراد
ما يتراءى من أن الله تعالى جعله صفوة الأديان لكم لأن هذا
الدين صفوة في نفسه لا اختصاص له بأحد، وليس عند الله تعالى
غيره، ومن هنا يعلم أن الإسلام يطلق على غير ديننا لكن العرف
خصصه به، وزعم بعضهم عدم الإطلاق وألف في ذلك رسالة تكلف بها
غاية التكلف.
فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ نهي عن الاتصاف
بخلاف حال الإسلام وقت الموت، والمفهوم من الآية ظاهرا النهي
عن الموت على خلاف تلك الحال، وليس بمقصود لأنه غير مقدور
وإنما المقدور قيده فيعود النهي إليه كما جمعت لما أن الامتناع
عن الاتصاف بتلك الحال يستتبع الامتناع عن الموت في تلك الحال
فأما أن يقال استعمل اللفظ الموضوع للأول في الثاني فيكون
مجازا، أو يقال استعمل اللفظ في معناه لينتقل منه إلى ملزومه
فيكون كناية، وقال الفاضل اليمني: إن هذا كناية بنفي الذات عن
نفي الحال على عكس ما قيل في قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللَّهِ [البقرة: 28] من أنه كناية بنفي الحال عن نفي الذات،
وفيه أن نفي الذات إنما يصير كناية عن نفي جميع الصفات لا عن
صفة معينة فافهم، والمراد من الأمر الذي يشير إليه ذلك النهي
الثبات على الإسلام لأنه اللازم له، والمقصود من التوصية، ولأن
أصل الإسلام كان حاصلا لهم، وإنما أدخل حرف النفي على الفعل مع
أنه ليس منهيا عنه للدلالة على أن موتهم لا على الإسلام موت لا
خير فيه، وأن حقه أن لا يحل بهم وأنه يجب أن يحذروه غاية
الحذر، وذكر بعضهم أن الإسلام المأمور به هنا ما يكون بالقلب
دون العمل بالجوارح لأن ذلك مما لا يكاد يمكن عند الموت
(1/387)
ولهذا
ورد في الحديث «اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن
توفيته منا فتوفه على الإيمان»
ولا يخفى ما فيه أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ
الْمَوْتُ الخطاب لجنس اليهود أو الموجودين في زمانه صلى الله
تعالى عليه وسلم على ما يشير إليه سبب النزول
فقد ذكر الواحدي أن الآية نزلت في اليهود حين قالوا للنبي صلّى
الله عليه وسلّم: ألست تعلم أن يعقوب لما مات أوصى بنيه
باليهودية؟
وأَمْ إما منقطعة بمعنى بل، وهمزة الإنكار، ومعنى بل الإضراب
عن الكلام الأول وهو بيان التوصية إلى توبيخ اليهود على
ادعائهم اليهودية على يعقوب وأبنائه، وفائدته الانتقال من جملة
إلى أخرى أهم منها أي ما كنتم حاضرين حين احتضاره عليه الصلاة
والسلام وسؤاله بنيه عن الدين فلم تدعون ما تدعون؟ ولك أن تجعل
الاستفهام للتقرير أي كانت أوائلكم حاضرين حين وصى بنيه عليه
الصلاة والسلام بالإسلام والتوحيد وأنتم عالمون بذلك فما لكم
تدعون عليه خلاف ما تعلمون؟! فيكون قد نزل عليهم بشهادة
أوائلهم منزلة الشهادة فخوطبوا بما خوطبوا، وإما متصلة وفي
الكلام حذف- والتقدير أكنتم غائبين أم كنتم شاهدين- وليس
الاستفهام على هذا على حقيقته للعلم بتحقق الأول وانتفاء
الثاني بل هو للإلزام والتبكيت أي أي الأمرين كان فمدعاكم
باطل، أما على الأول فلأنه رجم بالغيب، وأما على الثاني فلأنه
خلاف المشهور، واعترض أبو حيان على هذا الوجه بأنا لا نعلم
أحدا أجاز حذف الجملة المعطوف عليها في أَمْ المتصلة وإنما سمع
حذف أَمْ مع المعطوف لأن الثواني تحتمل ما لا تحتمل الأوائل،
وقيل: الخطاب للمؤمنين ومعنى بل الإضراب عن الكلام الأول
والأخذ فيما هو الأهم وهو التحريض على اتباعه صلّى الله عليه
وسلّم بإثبات بعض معجزاته وهو الإخبار عن أحوال الأنبياء
السابقين من غير سماع من أحد ولا قراءة من كتاب كأنه تعالى بعد
ذكر ما تقدم التفت إلى مؤمني الأمة أما شهدتم ما جرى وأ ما
علمتم ذلك بالوحي وإخبار الرسول صلّى الله عليه وسلّم فعليكم
باتباعه إلا أنه اكتفى بذكر مقاولة يعقوب وبنيه ليعلم عدم
حضورهم حين توصية إبراهيم عليه الصلاة والسلام بطريق الأولى،
ولا يخفى أن هذا القائل لم يعتبر سبب النزول ولعله لما فيه من
الضعف حتى قال الإمام السيوطي: لم أقف عليه، والشهداء- جمع
شهيد أو شاهد بمعنى حاضر، وحضر من باب قعد، وقرىء حَضَرَ
بالكسر ومضارعه أيضا- يحضر- بالضم وهي لغة شاذة، وقيل: إنها
على التداخل إِذْ قالَ لِبَنِيهِ بدل من إِذْ حَضَرَ بدل
اشتمال وكلاهما مقصودان كما هو المقرر في إبدال الجمل إلا أن
في البدل زيادة بيان ليست في المبدل منه ولو تعلقت إِذْ هنا ب
قالُوا لم ينتظم الكلام.
ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي أي أي شيء تعبدونه بعد موتي ف ما
في محل رفع والعائد محذوف، وكونه في محل نصب على المفعولية
مفوت للتقوى المناسب للمقام ويسأل بها عن كل شيء فإذا عرف خص
العقلاء ب مِنْ إذا سئل عن تعينه فيجاب بما يفيده، وإذا سأل عن
وصفه قيل ما زيد أكاتب أم شاعر، وفي السؤال عن حالهم بعد موته
دليل على أن الغرض حثهم على ما كانوا عليه حال حياته من
التوحيد والإسلام، وأخذ الميثاق منهم عليه فليس الاستفهام
حقيقيا وكان هذا بعد أن دخل عليه السلام مصر ورأى فيها من يعبد
النار فخاف على ولده فحثهم على ما حثهم قالُوا نَعْبُدُ
إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ
استئناف وقع جوابا لسؤال نشأ عن حكاية السؤال وفي إضافة الإله
إلى المتعدد إشارة إلى الاتفاق على وجوده وألوهيته وقدم
إِسْماعِيلَ في الذكر على إِسْحاقَ لكونه أسنّ منه وعده من
آباء يعقوب مع أنه عمه تغليبا للأكثر على الأقل أو لأنه شبه
العم بالأب لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوة فأطلق عليه
لفظه، ويؤيده ما أخرجه الشيخان «عم الرجل صنو أبيه» وحينئذ
يكون المراد- بآبائك- ما يطلق عليه اللفظ كيلا يلزم الجمع بين
الحقيقة والمجاز، والآية على حد ما
أخرجه ابن أبي شيبة وغيره من قوله عليه الصلاة والسلام
«احفظوني في العباس فإنه بقية آبائي»
وقرأ الحسن- أبيك- وهو إما مفرد
(1/388)
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ عطف نسق عليه
وإِبْراهِيمَ وحده عطف بيان، أو جمع وسقطت نونه للاضافة كما في
قوله:
فلما «تبينّ» أصواتنا ... بكين وفديننا بالأبينا
إِلهاً واحِداً بدل من إِلهَ آبائِكَ والنكرة تبدل من المعرفة
بشرط أن توصف كما في قوله تعالى:
بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ [العلق: 16] والبصريون لا
يشترطون فيها ذلك، وفائدة الإبدال دفع توهم التعدد الناشئ من
ذكر الإله مرتين، أو نصب على المدح أو الحال الموطئة كما في
البحر وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي مذعنون مقرون بالعبودية،
وقيل: خاضعون منقادون مستسلمون لنهيه وأمره قولا وعقدا، وقيل:
داخلون في الإسلام ثابتون عليه، والجملة حال من الفاعل، أو
المفعول، أو منهما لوجود ضميريهما، أو اعتراضية محققة لمضمون
ما سبق في آخر الكلام- بلا كلام- وقال أبو حيان: الأبلغ أن
تكون معطوفة على نَعْبُدُ فيكونوا قد أجابوا بشيئين وهو من باب
الجواب المربي عن السؤال تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ الإشارة
إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأولاده والأمة- أتت بمعان،
والمراد بها هنا الجماعة من أمّ بمعنى قصد، وسميت كل جماعة
يجمعهم أمر ما إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان بذلك لأنهم
يؤم بعضهم بعضا ويقصده، والخلو- المضي وأصله الانفراد.
لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ استئناف، أو بدل من
قوله تعالى: خَلَتْ لأنها بمعنى لا تشاركونهم وهي كغير الوافية
وهذه وافية بتمام المراد، أو الأولى صفة أخرى- لأمة- أو حال من
ضمير خَلَتْ والثانية جملة مبتدأة، إذ لا رابط فيها ولا مقارنة
في الزمان، وفي الكلام مضاف محذوف بقرينة المقام، أي لكل أجر
عمله، وتقديم المسند لقصر المسند إليه على المسند، والمعنى أن
انتسابكم إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم، وإنما تنتفعون
بموافقتهم واتباعهم، كما
قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا معشر قريش، إن أولى الناس
بالنبي المتقون، فكونوا بسبيل من ذلك، فانظروا أن لا يلقاني
الناس يحملون الأعمال وتلقوني بالدنيا فأصد عنكم بوجهي»
ولك أن تحمل الجملة الأولى على معنى- لها ما كسبته- لا يتخطاها
إلى غيرها، والثانية على معنى ولكم ما كسبتموه- لا ما كسبه
غيرهم- فيختلف القصران لاقتضاء المقام ذلك.
وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ إن أجري- السؤال-
على ظاهره فالجملة مقررة لمضمون ما قبلها وإن أريد به مسببه-
أعني الجزاء- فهو تذييل لتتميم ما قبله، والجملة مستأنفة أو
معترضة، والمراد تخييب المخاطبين وقطع أطماعهم من الانتفاع
بحسنات من مضى منهم، وإنما أطلق- العمل- لإثبات الحكم بالطريق
البرهاني في ضمن قضية كلية، وحمل الزمخشري الآية على معنى- لا
تؤاخذون بسيئاتهم كما لا تثابون بحسناتهم- واعترض بأنه مما لا
يليق بشأن التنزيل، كيف لا وهم منزهون عن كسب السيئات، فمن أين
يتصور تحميلها على غيرهم حتى يتصدى لبيان انتفائه، وأنت تعلم
أنه إذا كان المقصود سوق ذلك بطريق كلي برهاني لا يتوهم ما
ذكر.
هذا ومن الغريب حمل الإشارة على كل من إِبْراهِيمَ
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وأن المعنى كل واحد منهم أُمَّةٌ أي
بمنزلتها في الشرف والبهاء قَدْ خَلَتْ أي مضت، ولستم مأمورين
بمتابعتهم لَها ما كَسَبَتْ وهو ما أمرها الله تعالى به
وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ مما يأمركم به سبحانه وتعالى، ولا
ينفعكم مكتسبهم لأنه ليس مقبولا منكم لأنه ليس في حقكم، إنما
ينفعكم ما يجب عليكم كسبه وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا
يَعْمَلُونَ هل عملتم به؟ وإنما تسألون
(1/389)
عما كان يعمل نبيكم الذي أمرتم بمتابعته،
فإن أعماله ما هو كسبكم المسئول عنه، فدعوا (1) أن هذا ما أمر
به إبراهيم أو غيره، وتمسكوا بما أمر به نبيكم، واعتبروا إضافة
العمل إليه دونهم، ولا يخفى أنه لو كانت هذه الآيات كلام هذا
المفسر لأمكن حملها على هذا التفسير الذي لا فرع ولا أصل له،
لكنها كلام رب العالمين الذي يجل عن الحمل على مثل ذلك.
«ومن باب الإشارة والتأويل في الآيات السابقة إلى هنا» وَإِذِ
ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ أي بمراتب الروحانيات
كالقلب والسر والروح والخفاء والوحدة والأحوال والمقامات التي
يعبر بها على تلك المراتب.
كالتسليم والتوكل والرضا وعلومها فَأَتَمَّهُنَّ بالسلوك إلى
الله تعالى وفي الله تعالى حتى الفناء فيه قالَ إِنِّي
جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً بالبقاء بعد الفناء، والرجوع إلى
الخلق من الحق، تؤمهم وتهديهم سلوك سبيلي، ويقتدون بك فيهتدون
قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
فلا يكونون خلفائي مع ظلمهم وظلمتهم برؤية الأغيار ومجاوزة
الحدود وَإِذْ جَعَلْنَا بيت القلب مرجعا للناس، ومحل أمن
وسلامة لهم إذا وصلوا إليه وسكنوا فيه من شر غوائل صفات النفس،
وفتك قتال القوى الطبيعية وإفسادها، وتخييل شياطين الوهم
والخيال وإغوائهم. وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ الذي
هو مقام الروح والخلة موطنا للصلاة الحقيقية التي هي المشاهدة
والخلة الذوقية وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ
أمرناهما بتطهير بيت القلب من قاذورات أحاديث النفس، ونجاسات
وساوس الشيطان، وأرجاس دواعي الهوى، وأدناس صفات القوى
للسالكين المشتاقين الذين يدورون حول القلب في سيرهم،
والواصلين إلى مقامه بالتوكل الذي هو توحيد الأفعال، والخاضعين
الذين بلغوا إلى مقام تجلي الصفات وكمال مرتبة الرضا، الغائبين
في الوحدة، الفانين فيها وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ
اجْعَلْ هذا الصدر الذي هو حريم القلب بلدا آمِناً من استيلاء
صفات النفس، واغتيال العدو اللعين، وتخطف جن القوى البدنية
وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ثمرات معارف الروح من وحد الله تعالى
منهم وعلم المعاد إليه، قال: ومن احتجب أيضا من الذين يسكنون
الصدر ولا يجاوزون حده بالترقي إلى مقام العين لاحتجابهم
بالعلم الذي وعاؤه الصدر فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا من المعاني
العقلية والمعلومات الكلية النازلة إليهم من عالم الروح على
حسب استعدادهم ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ نار الحرمان
والحجاب وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصيرهم لتعذيبهم بنقصانهم وعدم
تكميل نشأتهم وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ
الْبَيْتِ على الكيفية التي ذكرناها قبل وَإِسْماعِيلُ كذلك
قائلين رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا مجاهداتنا ومساعينا في السلوك
إليك بامداد التوفيق إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لهواجس خواطرنا
فيك الْعَلِيمُ بنياتنا وأسرارنا رَبَّنا وَاجْعَلْنا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ لا تكلنا إلى أنفسنا وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا
المنتمين إلينا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا طرق الوصول
إلى نفي ما سواك وَتُبْ عَلَيْنا لنفنى فيك عن أنفسنا وفنائنا
إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الموفق للرجوع إليك الرَّحِيمُ بمن
عول دون السوي عليك رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا
مِنْهُمْ وهو الحقيقة المحمدية يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ
الدالة عليك وَيُعَلِّمُهُمُ كتاب العقل الجامع لصفاتك
وَالْحِكْمَةَ الدالة على نفي غيرك وَيُزَكِّيهِمْ ويطهرهم عن
دنس الشرك إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الغالب، فأنى يظهر سواك
المحكم لما ظهرت فيه فلا يرى إلا إياك وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ
مِلَّةِ إِبْراهِيمَ وهي التوحيد الصرف، إلا من احتجب عن نور
العقل بالكلية، وبقي في ظلمة نفسه وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فكان
من المحبوبين المرادين بالسابقة الأزلية في عالم الملك، وأنه
في عالم الملكوت من أهل الاستقامة، الصالح لتدبير النظام
وتكميل النوع
__________
(1) هكذا ولعل كلمة أن هذا زائدة: تنبيه
(1/390)
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ أي وحّد
وأسلم لله تعالى ذاتك قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ
وفنيت فيه وَوَصَّى بكلمة التوحيد إِبْراهِيمُ بَنِيهِ
السالكين على يده وكذلك يعقوب يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفى لَكُمُ دينه الذي لا دين غيره عنده فَلا تَمُوتُنَّ
بالموت الطبيعي وموت الجهل، بل كونوا ميتين بأنفسكم، أحياء
بالله أبدا، فيدرككم موت البدن على هذه الحالة تِلْكَ أُمَّةٌ
قَدْ خَلَتْ فلا تكونوا مقيدين بالتقليد البحت لهم، فليس لأحد
إلا ما كسب من العلم والعمل والاعتقاد والسيرة، فكونوا على
بصيرة في أمركم، واطلبوا ما طلبوا لتنالوا ما نالوا
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ومن دق
باب الكريم ولجّ ولج.
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا الضمير الغائب
لأهل الكتاب، والجملة عطف على ما قبلها عطف القصة على القصة،
والمراد منها رد دعوتهم إلى دينهم الباطل إثر رد ادعائهم
اليهودية على يعقوب عليه السلام، وأَوْ لتنويع المقال- لا
للتخيير- بدليل أن كل واحد من الفريقين يكفر الآخر، أي قال
اليهود للمؤمنين كُونُوا هُوداً وقالت النصارى لهم كونوا
نَصارى وتَهْتَدُوا جواب الأمر، أي إن كنتم كذلك تَهْتَدُوا.
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في رؤوس يهود
المدينة، كعب بن الأشرف. ومالك بن الصيف. ووهب بن يهوذا. وأبي
ياسر بن أخطب. وفي نصارى أهل نجران، وذلك أنهم خاصموا المسلمين
في الدين، كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله من غيرها، فقالت
اليهود: نبينا موسى أفضل الأنبياء، وكتابنا التوراة أفضل
الكتب، وديننا أفضل الأديان، وكفرت بعيسى والإنجيل ومحمد
والقرآن، وقالت النصارى: نبينا عيسى أفضل الأنبياء، وكتابنا
الإنجيل أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان، وكفرت بمحمد
والقرآن، وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين: كُونُوا على
ديننا، فلا دين إلا ذلك،
في رواية ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما عنه أن عبد الله بن
صوريا الأعور قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ما الهدى
إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد، وقالت النصارى مثل ذلك
فأنزل الله تعالى فيهم الآية
قُلْ خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أي قل لأولئك
القائلين على سبيل الرد عليهم، وتبيين ما هو الحق لديهم
وإرشادهم إليه بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي لا نكون كما
تقولون، بل نكون مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي أهل- ملته- أو بل نتبع
مِلَّةَ إِبْراهِيمَ «والأول» يقتضيه رعاية جانب لفظ ما تقدم-
وإن احتاج إلى حذف المضاف «والثاني» يقتضيه الميل إلى جانب
المعنى إذ يؤول الأول إلى اتبعوا ملة اليهود أو النصارى مع عدم
الاحتياج إلى التقدير، وجوّز أن يكون المعنى بل اتبعوا أنتم
ملته، أو كونوا أهل ملته، وقيل: الأظهر بل نؤتى ملة إبراهيم-
ولم يظهر لي وجهه- وقرىء بَلْ مِلَّةَ بالرفع، أي بل ملتنا أو
أمرنا ملته أو نحن ملته أي أهلها، وقيل: بل الهداية أو تهدى
ملة إبراهيم وهو كما ترى حَنِيفاً أي مستقيما أو مائلا عن
الباطل إلى الحق ويوصف به المتدين والدين، وهو حال إما من
المضاف بتأويل الدين أو تشبيها له بفعيل بمعنى مفعول كما في
قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] وهذا على قراءة النصب وتقدير
«نتبع» ظاهر، وأما على تقدير تكون عليها فلأن ملة فاعل الفعل
المستفاد من الإضافة أي تكون ملة ثبتت لإبراهيم، وعلى قراءة
الرفع تكون الحال مؤكدة لوقوعها بعد جملة اسمية جزآها جامدان
معرفتان مقررة لمضمونها لاشتهار ملته عليه الصلاة والسلام بذلك
فالنظم على حد- أنا حاتم جوادا- أو من المضاف إليه بناء على ما
ارتضوه من أنه يجوز مجيء الحال منه في ثلاث صور: إذا كان
المضاف مشتقا عاملا، أو جزءا، أو بمنزلة الجزء في صحة حذفه كما
هنا فإنه يصح- اتبعوا إبراهيم- بمعنى اتبعوا ملته، وقيل: إن
الذي سوغ وقوع الحال من المضاف إليه كونه مفعولا لمعنى الفعل
المستفاد من الإضافة أو اللام- وإليه يشير كلام أبي البقاء-
ولعله أولى لاطراده في التقدير الأول، وقيل: هو منصوب بتقدير
أعني وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عطف على حنيفا على طبق
حُنَفاءَ
(1/391)
لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ
[الحج: 31] فهو حال من المضاف إليه لا من المضاف إلا أن يقدر-
وما كان دين المشركين- وهو تكلف، والمقصود التعريض بأهل الكتاب
والعرب الذين يدعون اتباعه ويدينون بشرائع مخصوصة به من حج
البيت والختان وغيرهما فإن في كل طائفة منهم شركاء فاليهود
قالوا- عزير ابن الله- والنصارى- المسيح ابن الله- والعرب
عبدوا الأصنام وقالوا الملائكة بنات الله قُولُوا آمَنَّا
بِاللَّهِ خطاب للمؤمنين لا للكافرين- كما قيل- لما فيه من
الكلف والتكلف وبيان للاتباع المأمور به فهو بمنزلة بدل البعض
من قوله سبحانه: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ لأن الاتباع يشمل
الاعتقاد والعمل وهذا بيان الاعتقاد أو بدل الاشتمال لما فيه
من التفصيل الذي ليس في الأول، وقيل: استئناف كأنهم سألوا كيف
الاتباع؟ فأجيبوا، بذلك وأمر أولا بصيغة الإفراد، وثانيا بصيغة
الجمع إشارة إلى أنه يكفي في الجواب قول الرسول صلّى الله عليه
وسلّم من جانب كل المؤمنين بخلاف الاتباع فإنه لا بد فيه من
قول كل واحد لأنه شرط الإيمان أو شطره قاله بعض المحققين،
والقول بأنه بمنزلة البيان والتأكيد للقول الأول- ولذا ترك
العطف- لا يخلو عن شيء وقدم الإيمان بالله سبحانه لأنه أول
الواجبات ولأنه بتقدم معرفته تصح معرفة النبوات والشرعيات.
وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا أي القرآن وهو وإن كان في الترتيب
النزولي مؤخرا عن غيره لكنه في الترتيب الإيماني مقدم عليه
لأنه سبب الإيمان بغيره لكونه مصدقا له ولذا قدمه.
وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ
وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ يعني الصحف وهي وإن نزلت على
إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكن لما كان ما عطف عليه متعبدين
بتفاصيلها داخلين تحت أحكامها صح نسبة نزولها إليهم أيضا كما
صحح تعبدنا بتفاصيل القرآن ودخولنا تحت أحكامه نسبة نزوله
إلينا، والْأَسْباطِ جمع سبط كأحمال وحمل وهم أولاد إسرائيل،
وقيل: هم أولاد إسحاق كالقبائل في أولاد إسماعيل مأخوذ من
السبط وهو شجرة كثيرة الأغصان فكأنهم سموا بذلك لكثرتهم، وقيل:
من السبوطة وهي الاسترسال، وقيل: إنه مقلوب البسط، وقيل:
للحسنين سبطا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لانتشار ذريتهم
ثم قيل لكل ابن بنت: سبط، وكذا قيل له: حفيد أيضا، واختلف
الناس في الأسباط أولاد يعقوب هل كانوا كلهم أنبياء أم لا؟
والذي صح عندي الثاني وهو المروي عن جعفر الصادق رضي الله
تعالى عنه- وإليه ذهب الإمام السيوطي- وألف فيه لأن ما وقع
منهم مع يوسف عليه الصلاة والسلام ينافي النبوة قطعا وكونه قبل
البلوغ غير مسلم لأن فيه أفعالا لا يقدر عليها إلا البالغون،
وعلى تقدير التسليم لا يجدي نفعا على ما هو القول الصحيح في
شأن الأنبياء وكم كبيرة تضمن ذلك الفعل وليس في القرآن ما يدل
على نبوتهم، والآية قد علمت ما ذكرنا فيها فاحفظ ذلك هديت.
وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى أي التوراة والإنجيل، ولكون أهل
الكتاب زادوا ونقصوا وحرفوا فيهما وادعوا أنهما أنزلا كذلك،
والمؤمنون ينكرونه اهتم بشأنهما فأفردهما بالذكر وبين طريق
الإيمان بهما ولم يدرجهما في الموصول السابق، ولأن أمرهما أيضا
بالنسبة إلى مُوسى وَعِيسى أنهما منزلان عليهما حقيقة، لا
باعتبار التعبد فقط كما في المنزل على إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْباطِ ولم يعد الموصول لذلك في عِيسى لعدم مخالفة
شريعته لشريعة مُوسى إلا في النزر، ولذلك الاهتمام عبر-
بالإيتاء- دون- الإنزال- لأنه أبلغ لكونه المقصود منه، ولما
فيه من الدلالة على الإعطاء الذي فيه شبه التمليك والتفويض،
ولهذا يقال: أنزلت الدلو في البئر، ولا تقول: آتيتها إياها.
ولك أن تقول: المراد بالموصول هنا ما هو أعم من التوراة
والإنجيل وسائر المعجزات الظاهرة بأيدي هذين النبيين الجليلين
حسبما فصل في التنزيل الجليل، وإيثار- الإيتاء- لهذا التعميم،
وتخصيص النبيين بالذكر لما أن الكلام مع- اليهود والنصارى..
(1/392)
فَإِنْ آمَنُوا
بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ
اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ
عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ
رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ
أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ
تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ
أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ
كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ
خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا
تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ وهي الكتب التي
خصت من خصته منهم، أو ما يشمل ذلك والمعجزات، وهو تعميم بعد
التخصيص كيلا يخرج من الإيمان أحد من الأنبياء مِنْ رَبِّهِمْ
متعلق ب أُوتِيَ قبله، والضمير- للنبيين- خاصة، وقيل: ل مُوسى
وَعِيسى أيضا، ويكون ما أُوتِيَ تكريرا للأولى، والجار متعلقا
بها، وهو- على التقديرين- ظرف لغو، وجوّز أن يكون في موضع
الحال من العائد المحذوف، واحتمال أن يكون ما مبتدأ والجار
خبره بعيد لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أي كما فرق أهل
الكتاب، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض- بل نؤمن بهم جميعا- وإنما
اعتبر عدم التفريق بينهم، مع أن الكلام فيما أوتوه لاستلزام
ذلك- عدم التفريق- فيه بين- ما أوتوه- وأَحَدٍ أصله- وحد-
بمعنى- واحد- وحيث وقع في سياق النفي عم واستوى فيه- الواحد
والكثير- وصح إرادة كل منهما- وقد أريد به هنا الجماعة- ولهذا
ساغ أن يضاف إليه بَيْنَ ويفيد عموم الجماعات- كذا قاله بعض
المحققين- وهو مخالف لما هو المشهور عند أرباب العربية من أن
الموضوع في النفي العام أو المستعمل مع كل في الإثبات- همزته-
أصلية بخلاف ما استعمل في الإثبات بدون كل فإن- همزته- منقلبة
عن- واو- ومن هنا قال العلامة التفتازاني: إن أَحَدٍ في معنى
الجماعة بحسب الوضع لأنه اسم لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه
المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع، ويشترط أن يكون
استعماله مع كلمة- كل- أو مع النفي، نص على ذلك أبو عليّ وغيره
من أئمة العربية، وهذا غير- الأحد- الذي هو أول العدد في قوله
تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:
1] وليس كونه في معنى الجماعة من جهة كونه نكرة في سياق النفي-
على ما سبق- إلى كثير من الأوهام، ألا ترى أنه لا يستقيم لا
نُفَرِّقُ بين رسول من الرسل إلا بتقدير عطف أي رسول ورسول،
ولَسْتُنَّ- كَأَحَدٍ- مِنَ النِّساءِ [الأحزاب: 32] ليس في
معنى- كامرأة منهن- انتهى. وأنت- بعد التأمل- تعلم أن ما ذكره
العلامة لا يرد على ذلك البعض، وإنما ترد عليه المخالفة في
الأصالة وعدمها فقط- ولعل الأمر فيها سهل- على أن دعوى عدم تلك
الاستقامة إلا بذلك التقدير غير مجمع عليه، فقد ذكر في
الانتصاف أن النكرة الواقعة في سياق النفي تفيد العموم لفظا
عموما شموليا حتى ينزل المفرد فيها منزلة الجمع في تناوله-
الآحاد- مطابقة، لا كما ظنه بعض الأصوليين من أن مدلولها بطريق
المطابقة في النفي كمدلولها في الإثبات، وجعل هذا التعدد
والعموم وضعا هو المسوّغ لدخول بَيْنَ عليها هنا، ومن الناس من
جوّز كون أَحَدٍ في الآية بمعنى واحد، وعمومه بدلي، وصحة دخول
بَيْنَ عليه باعتبار معطوف قد حذف لظهوره بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْهُمْ وغيره، وفيه من الدلالة على تحقق التفريق بين كل فرد
فرد منهم، وبين من عداه كائنا من كان ما ليس في أن يقال: لا
نُفَرِّقُ بينهم- ولا يخفى ما فيه- والجملة حال من الضمير في
آمَنَّا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي خاضعون لله تعالى
بالطاعة، مذعنون بالعبودية، وقيل: منقادون لأمره ونهيه، ومن
جعل الضمير المجرور لما تقدم ذكره من الأنبياء فقد أبعد،
والجملة حال أخرى، أو عطف على آمَنَّا.
(1/393)
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ
فَقَدِ اهْتَدَوْا متعلق بقوله سبحانه: قُولُوا آمَنَّا إلخ،
أو بقوله عز شأنه: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ إلخ، وإن- لمجرد
الفرض والكلام من باب الاستدراج، وإرخاء العنان مع الخصم حيث
يراد تبكيته، وهو مما تتراكض فيه خيول المناظرين- فلا بأس بحمل
كلام الله تعالى عليه- يعني نحن لا نقول: إننا على الحق وأنتم
على الباطل، ولكن إن حصلتم شيئا مساويا لما نحن عليه مما يجب
الإيمان أو التدين به فقد اهتديتم ومقصودنا هدايتكم كيفما
كانت، والخصم إذا نظر بعين الإنصاف في هذا الكلام وتفكر فيه
علم أن الحق ما عليه المسلمون لا غير، إذ لا مثل لما آمنوا به،
وهو ذاته تعالى وكتبه المنزلة على أنبيائه- ولا دين كدينهم- ف
آمَنُوا متعدية- بالباء- ومثل- على ظاهرها، وقيل: آمَنُوا جار
مجرى اللازم- والباء- إما للاستعانة والآلة والمعنى إن دخلوا
في الإيمان بواسطة شهادة مثل شهادتكم قولا واعتقادا فَقَدِ
اهْتَدَوْا أو فإن تحروا- الإيمان- بطريق يهدي إلى الحق مثل
طريقكم، فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدد الطرق، كما قيل: الطرق
إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق، والمقام مقام تعيين الدين
الحق لا مقام تعيين شخص الطريق الموصل إليه ليأتي هذا التوجيه،
وإما زائدة للتأكيد وما مصدرية وضمير بِهِ لله، أو لقوله
سبحانه: آمَنَّا بِاللَّهِ إلخ بتأويل المذكور، أو للقرآن، أو
لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، والمعنى فَإِنْ آمَنُوا بما
ذكر مثل إيمانكم به، وإما للملابسة، أي فآمنوا متلبسين
بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ متلبسين به، أو فإن آمنوا إيمانا متلبسا
بمثل ما آمنتم إيمانا متلبسا به من الإذعان والإخلاص وعدم
التفريق بين الأنبياء عليهم السلام، وقيل: المثل مقحم كما في
قوله تعالى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى
مِثْلِهِ [الأحقاف: 10] أي عليه، ويشهد له قراءة أبي «بالذي
آمنتم به» وقراءة ابن عباس «بما آمنتم به» وكان رضي الله تعالى
عنه يقول: اقرؤوا ذلك فليس لله تعالى مثل، ولعل ذلك محمول على
التفسير لا على أنه أنكر القراءة المتواترة- وخفي عليه معناها-
ومن الناس من قال: يمكن الاستغناء عن جميع ذلك بأن يقال: فإن
آمن اليهود بمثل ما آمنتم كمؤمنيهم قبل التحريف، فإنهم آمنوا
بمثل ما آمن المؤمنون. فإن فيما أوتي به النبيون في زمن محمد
صلى الله تعالى عليه وسلم ما أنزل إليه- ولم يكن ذلك قبله- إلا
أن هذا التوجيه يقتضي إبقاء صيغة الماضي على معناها كما في
قولهم: إن أكرمتني فقد أكرمتك، فتأمل انتهى.
وأنت تعلم أن المؤمن به لا يتصور فيه التعدد وإبقاء الكلام على
ظاهره، والاستغناء عن جميع ما ذكر يستدعي وجود ذلك التعدد
المحال، فماذا عسى ينفع هذا سوى تكثير القيل والقال، وتوسيع
دائرة النزاع والجدال، فتدبر.
وَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الإيمان المأمور به، أو عن
قولكم في جواب قولهم.
فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ أي مخالفة لله تعالى- قاله ابن
عباس- أو منازعة ومحاربة- قاله ابن زيد- أو عداوة- قاله الحسن-
واختلف في اشتقاق- الشقاق- فقيل: من الشق أي الجانب، وقيل: من
المشقة، وقيل: مأخوذ من قولهم: شق العصا إذا أظهر العداوة-
والتنوين للتفخيم- والجملة جواب الشرط إما على أن المراد
مشاقتهم الحادثة بعد توليهم عن الإيمان، وأوثرت الاسمية
للدلالة على ثباتهم واستقرارهم على ذلك، وإما بتأويل فاعلموا.
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم
وتفريح للمؤمنين بوعد النصر والغلبة وضمان التأييد والإعزاز
على أبلغ وجه للسين الدالة على تحقق الوقوع البتة، أو للتذييل
الآتي حيث إن السين في المشهور لا تدل على أكثر من التنفيس عقب
ذكر ما يؤدي إلى الجدال والقتال، والمراد سيكفيك كيدهم وشقاقهم
لأن الكفاية لا تتعلق
(1/394)
بالأعيان بل بالأفعال، وتلوين الخطاب
بتجريده للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم مع أنه سبحانه أنجز
وعده الكريم بما هو كفاية للكل من قتل بني قريظة وسبيهم وإجلاء
بني النضير لما أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مع الأصل والعمدة
في ذلك وهو سلك حبات أفئدة المؤمنين ومطمح نظر كيد الكافرين،
وللإيذان بأن القيام بأمور الحروب وتحمل المشاق ومقاساة
الشدائد في مناهضة الأعداء من وظائف الرؤساء فنعمته تعالى في
الكفاية والنصرة في حقه أتم وأكمل وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ تذييل لما سبق من الوعد وتأكيد له أي هُوَ
السَّمِيعُ لما تدعو به الْعَلِيمُ بما في نيتك من إظهار دينه
فيستجيب لك ويوصلك إلى مرادك أو وعيد للكفرة بمعنى- يسمع- ما
يبدون- ويعلم- ما يخفون مما لا خير فيه وهو معاقبهم عليه، وفيه
أيضا تأكيد الوعد السابق فإن وعيد الكفرة وعد للمؤمنين
صِبْغَةَ اللَّهِ الصبغة بالكسر فعلة من- صبغ- كالجلسة من جلس
وهي الحالة التي يقع عليها- الصبغ- عبر بها عن التطهير
بالإيمان بما ذكر على الوجه الذي فصل لأنه ظهر أثره عليهم
ظهور- الصبغ- على- المصبوغ- وتداخل في قلوبهم تداخله فيه وصار
حلية لهم فهناك استعارة تحقيقية تصريحية والقرينة الإضافة
والجامع ما ذكر، وقيل: للمشاكلة التقديرية فإن النصارى كانوا-
يصبغون- أولادهم بماء أصفر يسمونه المعمودية يزعمون أنه الماء
الذي ولد فيه عيسى عليه الصلاة والسلام ويعتقدون أنه تطهير
للمولود كالختان لغيرهم، وقيل: هو ماء يقدس بما يتلى من
الإنجيل ثم تغسل به الحاملات، ويرد على هذا الوجه أن الكلام
عام لليهود غير مختص بالنصارى اللهم إلا أن يعتبر أن ذلك الفعل
كائن فيما بينهم في الجملة ونصبها على أنها مصدر مؤكد لقوله
تعالى: آمَنَّا وهي من المصادر المؤكدة لأنفسها فلا ينافي
كونها للنوع والعامل فيها- صبغنا- كأنه قيل- صبغنا الله صبغته-
وقدر المصدر مضافا إلى الفاعل لتحقق شرط وجوب حذف عامله من
كونه مؤكدا لمضمون الجملة إذ لو قدر منكرا لكان مؤكدا لمضمون
أحد جزئيه أعني الفعل فقط نحو ضربت ضربا، وقيل: إنها منصوبة
بفعل الإغراء أي الزموا- صبغة الله- لا عليكم وإلا لوجب ذكره-
كما قيل- وإليه ذهب الواحدي، ولا يجب حينئذ إضمار العامل لأنه
مختص في الإغراء بصورتي التكرار أو العطف كالعهد العهد وكالأهل
والولد وذهب الأخفش والزجاج والكسائي. وغيرهم إلى أنها بدل من
ملة إبراهيم وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً مبتدأ
وخبر، والاستفهام للإنكار، وقوله تعالى: صِبْغَةَ تمييز منقول
من المبتدأ نحو زيد أحسن من عمرو وجها- والتقدير- ومن صبغته
أحسن من صبغة الله تعالى- كما يقدر وجه زيد أحسن من وجه عمرو،
والتفضيل جار بين الصبغتين لا بين فاعليهما أي لا صبغة
أَحْسَنُ من صبغته تعالى على معنى أنه أَحْسَنُ مِنَ كل
صِبْغَةَ وحيث كان مدار التفضيل على تعميم- الحسن- للحقيقي
والفرضي المبني على زعم الكفرة لم يلزم أن يكون في صِبْغَةَ
غيره تعالى حسن في الجملة، والجملة معترضة مقررة لما في صبغة
الله تعالى من التبجح والابتهاج أو جارية مجرى التعليل للإغراء
وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ أي موحدون أو مطيعون متبعون ملة
إبراهيم أو خاضعون مستكنون في اتباع تلك الملة، وتقديم الجار
لإفادة اختصاص العبادة له تعالى، وتقديم المسند إليه لإفادة
قصر ذلك الاختصاص عليهم، وعدم تجاوزه إلى أهل الكتاب فيكون
تعريضا لهم بالشرك أو عدم الانقياد له تعالى باتباع ملة
إبراهيم، والجملة عطف على آمَنَّا وذلك يقتضي دخول صبغة الله
في مفعول قُولُوا لئلا يلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه
بالأجنبي، وإيثار الجملة الاسمية للإشعار بالدوام، ولمن نصب
صِبْغَةَ على الإغراء أو البدل أن يضمر قُولُوا قبل هذه الجملة
معطوفا على الزموا على تقدير الإغراء، وإضمار القول سائغ شائع،
والقرينة- السياق- لأن ما قبله مقول المؤمنين وأن يضمر اتبعوا
في بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ لا نتبع ويكون قُولُوا آمَنَّا
بدلا من اتبعوا بدل البعض لأن الإيمان داخل
في اتباع ملة إبراهيم فلا يلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف
عليه، ولا بين البدل والمبدل منه بالأجنبي وما قيل: إنه يلزم
الفصل ببدل الفعل بين المفعول، والمبدل منه ففيه أن قُولُوا
ليس بدلا من الفعل
(1/395)
فقط بل الجملة بدل من الجملة فلا محذور،
وأما القول- بأنه يمكن أن تجعل هذه الجملة حالا من لفظة الله
في قوله سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً أي
صبغته بتطهير القلب أو الإرشاد أو حفظ الفطرة أحسن الإصباغ حال
إخلاص العبادة له- فليس بشيء كما لا يخفى قُلْ أَتُحَاجُّونَنا
تجريد الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما أن المأمور
به من الوظائف الخاصة به عليه الصلاة والسلام، والهمزة
للإنكار، وقرأ زيد، الحسن، وغيرهما بإدغام النون أي تجادلونا.
فِي اللَّهِ أي في دينه وتدعون أن دينه الحق اليهودية
والنصرانية وتبنون دخول الجنة والاهتداء عليهما، وقيل: المراد
في شأن الله تعالى واصطفائه نبيا من العرب دونكم بناء على أن
الخطاب لأهل الكتاب وسوق النظم يقتضي أن تفسر المحاجة بما يختص
بهم، والمحاجة في الدين ليست كذلك والقرينة على التقييد قوله
سبحانه قيل:
وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وبعد وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ
شَهادَةً حيث إنه تعريض بكتمان أهل الكتاب شهادة الله سبحانه
بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وما روي في سبب النزول
أن أهل الكتاب قالوا الأنبياء كلهم منا فلو كنت نبيا لكنت منا
فنزلت، ولا يخفى عليك أن المحاجة في الدين على ما ذكرنا مختصة
بهم على أن ظاهر السوق يقتضي ذمهم بما صار ديدنا لهم وشنشنة
فيهم حتى عرفوا فيه، ومشركو العرب وإن حاجوا في الدين أيضا
لكنهم لم يصلوا فيه إلى رتبة أهل الكتاب لما أنهم أميون عارون
عن سائر العلوم جاهلون بوظائف البحث بالكلية نظرا إلى أولئك
القائمين على ساق الجدال وإن القرينتين السابقة واللاحقة على
التقييد في غاية الخفاء وأن ما روي في سبب النزول ليس مذكورا
في شيء من كتب الحديث ولا التفاسير المعتبرة كما نص على ذلك
الإمام السيوطي وكفى به حجة في هذا الشأن.
وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ جملة حالية أي أتجادلوننا والحال
أنه لا وجه للمجادلة أصلا لأنه تعالى مالك أمرنا وأمركم وَلَنا
أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ عطف على ما قبله أي لنا جزاء
أعمالنا الحسنة الموافقة لأمره ولكم جزاء أعمالكم السيئة
المخالفة لحكمه وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ في تلك الأعمال لا
نبتغي بها إلا وجهه فأنى لكم المحاجة ودعوى حقية ما أنتم عليه
والقطع بدخول الجنة بسببه ودعوة الناس إليه. والجملة حالية
كالتي قبلها، وذهب بعض المحققين أن هذه الجملة كجملتي وَنَحْنُ
لَهُ مُسْلِمُونَ وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ اعتراض وتذييل
للكلام الذي عقب به مقول على ألسنة العباد بتعليم الله تعالى
لا عطف، وتحريره أن وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ مناسب- لآمنا-
أي نؤمن بالله وبما أنزل على الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه
عليهم ونستسلم له وننقاد لأوامره ونواهيه وقوله تعالى:
وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ ملائم لقوله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ
لأنها بمعنى دين الله فالمصدر كالفذلكة لما سبق، وهذه الآية
موافقة لما قبلها، ولعل الذوق السليم لا يأباه، وأما القول بأن
معنى وَهُوَ رَبُّنا إلخ أنه لا اختصاص له تعالى بقوم دون قوم
فيصيب برحمته من يشاء فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا كما أكرمكم
بأعمالكم كأنه ألزمهم على كل مذهب يفتحونه إفحاما وتبكيتا فإن
كرامة النبوة إما تفضل من الله تعالى فالكل فيه سواء، وإما
إفاضة حق على المستحقين لها بالمواظبة على الطاعة والتحلي
بالإخلاص فكما أن لكم أعمالا ربما يعتبرها الله تعالى في
إعطائها فلنا أيضا أعمال ونحن له مخلصون بها لا أنتم، فمع
بنائه على ما علمت ركاكته غير ملائم لسباق النظم الكريم وسياقه
بل غير صحيح في نفسه كما أفتى به مولانا مفتي الديار الرومية
لما أن المراد بالأعمال من الطرفين ما أشير إليه من الأعمال
الصالحة والسيئة ولا ريب أن أمر الصلاح والسوء يدور على موافقة
الدين المبني على البعثة ومخالفته فكيف يتصور اعتبار تلك
الأعمال في استحقاق النبوة واستعدادها المتقدم على البعثة
بمراتب هذا؟! وقد اختلف الناس في الإخلاص،
فروي عن النبي صلى
(1/396)
الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «سألت جبريل
عن الإخلاص ما هو؟ فقال: سألت رب العزة عنه فقال: سرّ من
أسراري استودعته قلب من أحببته من عبادي»
وقال سعيد بن جبير: الإخلاص أن لا تشرك في دينه ولا تراء أحدا
في عمله، وقال الفضيل: ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من
أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله تعالى منهما، وقال
حذيفة المرعشي: أن تستوي أفعال العبد في الباطن والظاهر، وقال
أبو يعقوب: المكفوف أن يكتم العبد حسناته كما يكتم سيئاته،
وقال سهل: هو الإفلاس، ومعناه احتقار العمل وهو معنى قول رويم-
ارتفاع عملك عن الرؤية- قيل:
ومقابل الإخلاص الرياء، وذكر سليمان الداراني ثلاث علامات له.
الكسل عند العبادة في الوحدة، والنشاط في الكثرة، وحب الثناء
على العمل.
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ
وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى أَمْ إما
متصلة معادلة للهمزة في أَتُحَاجُّونَنا داخلة في حيز الأمر
والمراد بالاستفهام إنكارهما معا بمعنى كل من الأمرين منكر
ينبغي أن لا يكون إقامة الحجة وتنوير البرهان على حقية ما أنتم
عليه، والحال ما ذكر والتشبث بذيل التقليد والافتراء على
الأنبياء عليهم السلام، وفائدة هذا الأسلوب مع أن العلم حاصل
بثبوت الأمرين الإشارة إلى أن أحدهما كاف في الذم فكيف إذا
اجتمعا كما تقول لمن أخطأ تدبيرا ومقالا: أتدبيرك أم تقريرك،
وبهذا يندفع ما قاله أبو حيان من أن الاتصال يستدعي وقوع إحدى
الجملتين والسؤال عن تعيين إحداهما وليس الأمر كذلك إذ وقعتا
معا، وإما منقطعة مقدرة ببل والهمزة دالة على الإضراب
والانتقال من التوبيخ على المحاجة إلى التوبيخ على الافتراء
على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقرأ غير ابن عامر، وحمزة
والكسائي وحفص «أم يقولون» - بالياء- ويتعين كون أَمْ حينئذ
منقطعة لما فيها من الإضراب من الخطاب إلى الغيبة ولا يحسن في
المتصلة أن يختلف الخطاب من مخاطب إلى غيره كما يحسن في
المنقطعة ويكون الكلام استئنافا غير داخل تحت الأمر بل وارد
منه تعالى توبيخا لهم. وإنكارا عليهم، وحكى أبو جعفر الطبري عن
بعض النحاة جواز الاتصال لأنك إذا قلت- أتقوم يا زيد أم يقوم
عمرو- صح الاتصال، واعترض عليه ابن عطية بأن المثال غير جيد
لأن القائل فيه واحد والمخاطب واحد والقول في الآية من اثنين
والمخاطب اثنان غير أن يتجه معادلة أَمْ للهمزة على الحكم
المعنوي كان معنى قُلْ أَتُحَاجُّونَنا أي يحاجون يا محمد أم
يقولون، ولا يخفى أن القول بالانقطاع إن لم يكن متعينا فلا أقل
من أنه أولى.
قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ أي لستم أعلم بحال
إبراهيم عليه السلام في باب الدين بل الله تعالى أعلم بذلك وقد
أخبر سبحانه بنفي اليهودية والنصرانية عنه، واحتج على
انتفائهما عنه بقوله: وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ
وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران: 65] وهؤلاء
المعطوفون عليه أتباعه في الدين وفاقا فحالهم حاله فلم تدعون
له ولهم ما نفى الله تعالى؟ فما ذلك إلا جهل غال ولجاج محض
وَمَنْ أَظْلَمُ إنكار لأن يكون أحد أظلم مِمَّنْ كَتَمَ
شَهادَةً ثابتة.
عِنْدَهُ واصلة مِنَ اللَّهِ إليه وهي شهادته تعالى لإبراهيم
عليه السلام بالحنيفية والبراءة عن اليهودية والنصرانية حسبما
تلي آنفا، وجيء بالوصفين لتعليل الإنكار وتأكيده فإن ثبوت-
الشهادة عنده- وكونها من جانب جناب العلي الأعلى عز شأنه من
أقوى الدواعي إلى إقامتها وأشد الزواجر عن كتمانها، وتقديم
الأول مع أنه متأخر في الوجود لمراعاة طريق الترقي والمعنى لا
أحد أظلم من أهل الكتاب- حيث كتموا هذه الشهادة وأثبتوا نقيضها
بما ذكر من الافتراء- والجملة تذييل يقرر ما أنكر عليهم من
ادعاء اليهودية والنصرانية وتعليق الأظلمية بمطلق الكتمان
للإيماء إلى أن مرتبة من يردها ويشهد بخلافها في الظلم خارجة
عن دائرة البيان، أو لا أحد- أظلم منا لو كتمنا هذه- الشهادة-
ولم نقمها في مقام المحاجة، والجملة حينئذ تذييل مقرر ما أوقع
في قوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ من أنهم
(1/397)
شاهدون بما شهد الله تعالى به مصدقونه بما
أعلمهم، وجعلها على هذا من تتمة قُولُوا آمَنَّا لأنه في معنى
إظهار الشهادة. وعلى الأول من تتمة قُلْ أَتُحَاجُّونَنا لأنه
في معنى كتمانها ظاهر التعسف، ولا يخفى أن في الآية تعريضا
بغاية أظلمية أهل الكتاب على نحو ما أشير إليه، وفي إطلاق
الشهادة- مع أن المراد بها ما تقدم من الشهادة المعينة- تعريض
بكتمانهم شهادة الله تعالى لنبيه محمد صلى الله تعالى عليه
وسلم في التوراة والإنجيل، وفي ري الظمآن أن- من- صلة أَظْلَمُ
والكلام على التقديم والتأخير كأنه قيل: ومن أظلم من الله ممن
كتم شهادة حصلت عنده كقولك ومن أظلم من زيد من جملة الكاتمين
للشهادة، والمعنى لو كان إبراهيم وبنوه يهودا أو نصارى ثم إن
الله تعالى كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم الشهادة أظلم
منه لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزيهه عما لا يليق علمنا أن
الأمر ليس كذلك، وقيل: إن مِمَّنْ صلة كَتَمَ والكلام على حذف
مضاف- أي كتم من عباد الله شهادة عنده- ومعناه أنه تعالى ذمهم
على منع أن يوصلوا إلى عباد الله تعالى، ويؤدوا إليهم شهادة
الحق، ولا يخفى ما في هذين الوجهين من التكلف والتعسف وانحطاط
المعنى فلينزه كتاب الله تعالى العظيم عنه، على أنك لو نظرت
بعين الإنصاف رأيت الوجه الثاني من الأولين لا يخلو عن بعد لأن
الآية إنما تقدمها الإنكار لما نسب إلى إبراهيم عليه السلام،
ومن ذكر معه فالذي يليق أن يكون الكلام مع أهل الكتاب لا مع
الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وأتباعه لأنهم مقرون بما أخبر
الله تعالى به وعالمون بذلك فلا يفرض في حقهم كتمانه والتذييل
الذي ادعي فيه خلاف الظاهر أيضا.
وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وعيد وتهديد لأهل
الكتاب أي إن الله تعالى لا يترك أمركم سدى بل هو محصل
لأعمالكم محيط بجميع ما تأتون وتذرون فيعاقبكم بذلك أشد عقاب،
ويدخل في ذلك كتمانهم لشهادته تعالى وافتراؤهم على أنبيائه
عليهم السلام، وقرىء- عما يعملون- بصيغة الغيبة فالضمير إما
لمن كتم باعتبار المعنى أو لأهل الكتاب.
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما
كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ تكرير
لما تقدم للمبالغة في التحذير عما استحكم في الطباع من
الافتخار بالآباء والاتكال عليهم كما يقال: اتق الله اتق الله،
أو تأكيد وتقرير للوعيد يعني أن الله تعالى يجازيكم على
أعمالكم ولا تنفعكم آباؤكم ولا تسألون يوم القيامة عن أعمالهم
بل عن أعمال أنفسكم، وقيل: الخطاب فيما سبق لأهل الكتاب، وفي
هذه الآية لنا تحذيرا عن الاقتداء بهم، وقيل: المراد بالأمة في
الأول الأنبياء وفي الثاني أسلاف اليهود لأن القوم لما قالوا
في إبراهيم وبنيه: إنهم كانوا ما كانوا- فكأنهم قالوا- إنهم
على مثل طريقة أسلافنا فصار سلفهم في حكم المذكورين فجاز أن
يعنوا بالآية، ولا يخفى ما في ذلك من التعسف الظاهر.
تم طبع الجزء الأول، ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني
وأوله
(1/398)
الجزء الثاني
(1/399)
سَيَقُولُ
السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ
الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
(142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ
عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ
مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ
لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ
لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ
فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ
وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ
أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا
تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ
وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ
اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ
الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ
أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ
الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ
وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ
مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ
لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ
فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا
تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ
وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ
رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا
وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ
(152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
(153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ
وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ
مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ
رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
بسم الله الرحمن الرحيم
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ أي الخفاف الأحلام أو المستمهنوها
بالتقليد المحض، والاعراض عن التدبر، والمتبادر منهم ما يشمل
سائر المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين، واليهود،
والمشركين، وروي عن السدي الاقتصار على الأول، وعن ابن عباس
الاقتصار على الثاني، وعن الحسن الاقتصار على الثالث، ولعل
المراد بيان طائفة نزلت هذه
(1/401)
الآية في حقهم لا حمل الآية عليها لأن
الجمع فيها محلى باللام، وهو يفيد العموم فيدخل فيه الكل،
والتخصيص بالبعض لا يدعو إليه داع، وتقديم الأخبار بالقول على
الوقوع لتوطين النفس به فإن مفاجأة المكروه أشد إيلاما، والعلم
به قبل الوقوع أبعد من الاضطراب، ولما أن فيها إعداد الجواب
والجواب المعد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وفي المثل- قبل
الرمي يراش السهم- وليكون الوقوع بعد الأخبار معجزة له صلى
الله تعالى عليه وسلم، وقيل: إن الوجه في التقديم هو التعليم
والتنبيه على أن هذا القول أثر السفاهة فلا يبالي به ولا يتألم
منه ويرد عليه- أن التعليم- والتنبيه المذكورين يحصلان بمجرد
ذكر هذا السؤال، والجواب ولو بعد الوقوع، وقال القفال: إن
الآية نزلت بعد تحويل القبلة، وإن لفظ سَيَقُولُ مراد منه
الماضي، وهذا كما يقول الرجل إذا عمل عملا فطعن فيه بعض
أعدائه: أنا أعلم أنهم سيطعنون في- كأنه يريد أنه إذا ذكر مرة
فيذكرونه مرات أخرى- ويؤيد ذلك ما
رواه البخاري عن البراء رضي الله تعالى عنه قال: لما قدم رسول
صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر
شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة فأنزل الله تعالى: قَدْ نَرى
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ إلى آخر الآية فقال:
السُّفَهاءُ وهم اليهود ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ إلى
آخر الآية وفي رواية أبي إسحاق وعبيد بن حميد، وأبي حاتم عنه
زيادة فأنزل الله تعالى سَيَقُولُ السُّفَهاءُ إلخ،
ومناسبة الآية لما قبلها أن الأولى قدح في الأصول، وهذا في أمر
متعلق بالفروع، وإنما لم يعطف تنبيها على استقلال كل منهما في
الشناعة.
مِنَ النَّاسِ في موضع نصب على الحال، والمراد منهم الجنس،
وفائدة ذكره التنبيه على كمال سفاهتهم بالقياس إلى الجنس،
وقيل: الكفرة، وفائدته بيان أن ذلك القول المحكي لم يصدر عن كل
فرد فرد من تلك الطوائف بل عن أشقيائهم المعتادين للخوض في آسن
الفساد، والأول أولى كما لا يخفى ما وَلَّاهُمْ أي أي شيء
صرفهم، وأصله من الولي، وهو حصول الثاني بعد الأول من غير فصل
والاستفهام للإنكار عَنْ قِبْلَتِهِمُ يعني بيت المقدس وهي
فعلة من المقابلة كالوجهة من المواجهة، وأصلها الحالة التي كان
عليها المقابل إلا أنها في العرف العام اسم للمكان المقابل
المتوجه إليه للصلاة الَّتِي كانُوا عَلَيْها أي على
استقبالها، والموصول صفة القبلة، وفي وصفها بذلك بعد إضافتها
إلى ضمير المسلمين تأكيد للإنكار ومدار هذا الإنكار بالنسبة
إلى اليهود زعمهم استحالة النسخ وكراهتهم مخالفته صلى الله
تعالى عليه وسلم لهم في القبلة حتى أنهم قالوا له: ارجع إلى
قبلتنا نتبعك ونؤمن بك، ولعلهم ما أرادوا بذلك إلا فتنته عليه
الصلاة والسلام، وبالنسبة إلى مشركي العرب القصد إلى الطعن في
الدين وإظهار أن كلا التوجه إليها، والانصراف عنها بغير داع
إليه حتى أنهم كانوا يقولون: إنه رغب عن قبلة آبائه ثم رجع
إليها وليرجعن إلى دينهم أيضا وبالنسبة إلى المنافقين مختلف
باختلاف أصولهم فإن فيهم اليهود وغيرهم، واختلف الناس في مدة
بقائه صلّى الله عليه وسلّم مستقبلا بيت المقدس، ففي رواية
البخاري ما علمت، وفي رواية مالك بن أنس تسعة أشهر أو عشرة
أشهر، وعن معاذ ثلاثة عشر شهرا،
وعن الصادق سبعة أشهر،
وهل استقبل غيره قبل بمكة أم لا؟
قولان أشهرهما الثاني وهو المروي أيضا عن الصادق رضي الله
تعالى عنه.
قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أي جميع الأمكنة
والجهات مملوكة له تعالى مستوية بالنسبة إليه عز شأنه لا
اختصاص لشيء منها به جل وعلا إنما العبرة لامتثال أمره فله أن
يكلف عباده باستقبال أي مكان وأي جهة شاء يَهْدِي مَنْ يَشاءُ
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي طريق مستو وهو ما تقتضيه الحكمة من
التوجه إلى بيت المقدس تارة وإلى الكعبة أخرى، والجملة بدل
اشتمال مما تقدم وهو إشارة إلى مصحح التولية وهذا إلى مرجحها
كأنه قيل: إن التولية المذكورة هداية يخص الله تعالى بها من
يشاء ويختار من عباده وقد خصنا بها فله الحمد.
(1/402)
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً
اعتراض بين كلامين متصلين وقعا خطابا له صلى الله تعالى عليه
وسلم استطرادا لمدح المؤمنين بوجه آخر أو تأكيدا لرد الإنكار
بأن هذه الأمة وأهل هذه الملة شهداء عليكم يوم الجزاء
وشهاداتهم مقبولة عندكم فأنتم إذا أحق باتباعهم والاقتداء بهم
فلا وجه لإنكاركم عليهم، وذلك إشارة إلى الجعل المدلول عليه-
بجعلناكم- وجيء بما يدل على البعد تفخيما. والكاف مقحم
للمبالغة وهو إقحام مطرد ومحلها في الأصل النصب على أنه نعت
لمصدر محذوف، وأصل التقدير- جعلناكم أمة وسطا- جعلا كائنا مثل
ذلك الجعل فقدم على الفعل لإفادة القصر، وأقحمت الكاف فصار نفس
المصدر المؤكد لا نعتا له أي ذلك الجعل البديع جعلناكم لا جعلا
آخر أدنى منه كذا قالوا، وقد ذكرنا قبل أن كَذلِكَ كثيرا ما
يقصد بها تثبيت ما بعدها وذلك لأن وجه الشبه يكون كثيرا في
النوعية والجنسية كقولك- هذا الثوب كهذا الثوب- في كونه خزا أو
بزا، وهذا التشبيه يستلزم وجود مثله وثبوته في ضمن النوع فأريد
به على طريق الكناية مجرد الثبوت لما بعده، ولما كانت الجملة
تدل على الثبوت كان معناها موجودا بدونها وهي مؤكدة له فكانت
كالكلمة الزائدة، وهذا معنى قولهم: إن الكاف مقحمة لا أنها
زائدة كما يوهمه كلامهم، وأما استفادة كون ما بعدها عجيبا فليس
إلا لأن ما ليس كذلك لا يحتاج لبيان فلما اهتم بإثباته في
الكلام البليغ علم أنه أمر غريب، أو لحمل البعد المفهوم من ذلك
على البعد الرتبي، ومن الناس من جعل كَذلِكَ للتشبيه- بجعل-
مفهوم من الكلام السابق أي مثل ما جعلناكم مهديين، أو جعلنا
قبلتكم أفضل القبل- جعلناكم أمة وسطا- ويرد على ذلك أن المحل
المشبه به غير مختص بهذه الأمة لأن مؤمني الأمم السابقة كانوا
أيضا مهتدين إلى صراط مستقيم، وكانت قبلة بعضهم أفضل القبل
أيضا، والجعل المشبه مختص بهم فلا يحسن التشبيه على أنه لا
يفهم من السابق سوى أن التوجه إلى كل واحد القبلتين في وقته-
صراط مستقيم والأمر به في ذلك الوقت هداية ولا يفهم منه أن
قبلتهم أفضل القبل، والناسخ لا يلزم أن يكون خيرا من المنسوخ
اللهم إلا أن يكون مراد القائل- كما جعلنا قبلتكم الكعبة التي
هي أفضل القبل في الواقع جعلنا- إلا أنه على ما فيه لا يحسم
الإيراد كما لا يخفى. ومعنى وَسَطاً خيارا أو عدولا وهو في
الأصل اسم لما يستوي نسبة الجوانب إليه- كالمركز- ثم استعير
للخصال المحمودة البشرية لكونها أوساطا للخصال الذميمة
المكتنفة بها من طرفي الإفراط والتفريط كالجود بين الإسراف،
والبخل والشجاعة بين الجبن والتهور، والحكمة بين الجربزة
والبلادة، ثم أطلق على المتصف بها إطلاق الحال على المحل
واستوى فيه الواحد وغيره لأنه بحسب الأصل جامد لا تعتبر
مطابقته، وقد يراعى فيه ذلك وليس هذا الإطلاق مطردا كما يظن من
قولهم: خير الأمور الوسط إذ يعارضه قولهم- على الذم أثقل من
مغن وسط- لأنه كما قال الجاحظ يختم على القلب ويأخذ بالأنفاس
وليس بجيد فيطرب ولا برديء فيضحك، وقولهم: أخو الدون الوسط بل
هو وصف مدح في مقامين في النسب لأن أوسط القبيلة أعرقها
وصميمها، وفي الشهادة كما هنا لأنه العدالة التي هي كمال القوة
العقلية والشهوية والغضبية أعني استعمالها فيما ينبغي على ما
ينبغي، ولما كان علم العباد لم يحط إلا بالظاهر أقام الفقهاء
الاجتناب عن الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر مقام ذلك- وسموه
عدالة- في إحياء الحقوق فليحفظ، وشاع عن أبي منصور الاستدلال
بالآية- على أن الإجماع حجة إذ لو كان ما اتفقت عليه الأمة
باطلا لا نثلمت به عدالتهم وهو مع بنائه على تفسير الوسط
بالعدول وللخصم أن يفسره بالخيار
فلا يتم إذ كونهم خيارا لا يقتضي خيريتهم في جميع الأمور فلا
ينافي اتفاقهم على الخطأ- لا يخلو عن شيء، أما أولا فلأن
العدالة لا تنافي الخطأ في الاجتهاد إذ لا فسق فيه كيف
والمجتهد المخطئ مأجور، وأما ثانيا فلأن المراد كونهم وَسَطاً
بالنسبة إلى سائر الأمم، وأما ثالثا فلأنه لا معنى لعدالة
المجموع بعد القطع بعدم عدالة كل واحد، وأما رابعا فلأنه لا
يلزم أن يكونوا عدولا في جميع الأوقات بل وقت أداء الشهادة وهو
يوم القيامة، وأما خامسا فلأن قصارى ما تدل عليه بعد
(1/403)
اللتيا والتي حجية إجماع كل الأمة أو كل
أهل الحل والعقد منهم وذا متعذر، ولا تدل على حجية إجماع
مجتهدي كل عصر والمستدل بصدد ذلك، وأجيب عن الأول، والثاني بأن
العدالة بالمعنى المراد تقتضي العصمة في الاعتقاد والقول
والفعل وإلا لما حصل التوسط بين الإفراط والتفريط وبأنه عبارة
عن حالة متشابهة حاصلة عن امتزاج الأوساط من القوى التي
ذكرناها فلا يكون أمرا نسبيا، وعن الثالث بأن المراد أن فيهم
من يوجد على هذه الصفة، فإذا كنا لا نعرفهم بأعيانهم افتقرنا
إلى اجتماعهم كيلا يخرج من يوجد على هذه الصفة- لكن يدخل
المعتبرون في اجتماعهم- ومتى دخلوا وحصل الخطأ انثلمت عدالة
المجموع.
وعن الرابع بأن جَعَلْناكُمْ يقتضي تحقق العدالة بالفعل،
واستعمال الماضي بمعنى المضارع خلاف الظاهر.
وعن الخامس بأن الخطاب للحاضرين- أعني الصحابة كما هو أصله-
فيدل على حجية الإجماع في الجملة، وأنت تعلم أن هذا الجواب
الأخير لا يشفي عليلا، ولا يروي غليلا، لأنه بعيد بمراحل عن
مقصود المستدل، على أن من نظر بعين الإنصاف لم ير في الآية
أكثر من دلالتها على أفضلية هذه الأمة على سائر الأمم، وذلك لا
يدل على حجية إجماع ولا عدمها، نعم ذهب بعض الشيعة إلى أن
الآية خاصة بالأئمة الاثني عشر،
ورووا عن الباقر أنه قال: نحن الأمة الوسط، ونحن شهداء الله
على خلقه، وحجته في أرضه،
وعن علي كرم الله تعالى وجهه: نحن الذين قال الله تعالى فيهم:
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً
وقالوا: قول كل واحد من أولئك حجة فضلا عن إجماعهم، وأن الأرض
لا تخلو عن واحد منهم حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، ولا
يخفى أن دون إثبات ما قالوه خرط القتاد لِتَكُونُوا شُهَداءَ
عَلَى النَّاسِ أي سائر الأمم يوم القيامة بأن الله تعالى قد
أوضح السبل وأرسل الرسل فبلغوا ونصحوا وهو غاية- للجعل-
المذكور مترتبة عليه.
أخرج الإمام أحمد وغيره عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم: يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل
والنبي ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه فيقال لهم هل
بلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم،
فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيدعى محمد وأمته
فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم. فيقال: وما علمكم؟
فيقولون: جاءنا نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبرنا أن
الرسل قد بلغوا فذلك قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ
أُمَّةً وَسَطاً وفي رواية «فيؤتى بمحمد صلى الله تعالى عليه
وسلم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم»
وذلك قوله عز وجل: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً
وكلمة الاستعلاء لما في- الشهيد- من معنى الرقيب، أو لمشاكلة
ما قبله، وأخرت صلة الشهادة أولا وقدمت آخرا لأن المراد في
الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الثاني اختصاصهم- بكون
الرسول شهيدا عليهم- وقيل: لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا
فيما لا يصلح إلا بشهادة العدول الأخيار وَيَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيداً ويزكيكم ويعلم بعدالتكم، والآثار لا تساعد
ذلك على ما فيه وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ
عَلَيْها وهي صخرة بيت المقدس، بناء على ما روي عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما أن قبلته صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة
كانت بيت المقدس لكنه لا يستدبر الكعبة- بل يجعلها بينه وبينه-
والَّتِي مفعول ثان- لجعل- لا صفة الْقِبْلَةَ والمفعول الثاني
محذوف أي الْقِبْلَةَ كما قيل. وقال أبو حيان: إن- الجعل-
تحويل الشيء من حالة إلى أخرى، فالمتلبس بالحالة الثانية هو
المفعول الثاني، كما في- جعلت الطين خزفا- فينبغي أن يكون
المفعول الأول هو الموصول، والثاني هو الْقِبْلَةَ وهو المنساق
إلى الذهن بالنظر الجليل، ولكن التأمل الدقيق يهدي إلى ما
ذكرنا لأن الْقِبْلَةَ عبارة عن الجهة التي تستقبل للصلاة- وهو
كلي- والجهة التي كنت عليها جزئي من جزئياتها،- فالجعل-
المذكور من باب تصيير الكلي جزئيا، ولا شك أن الكلي يصير
جزئيا- كالحيوان يصير إنسانا- دون العكس،
(1/404)
والمعنى أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة- كما
هو الآن- وَما جَعَلْنَا قبلتك بيت المقدس لشيء من الأشياء
إِلَّا لِنَعْلَمَ أي في ذلك الزمان مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ
أي يتبعك في الصلاة إليها، والالتفات إلى الغيبة مع إيراده صلى
الله تعالى عليه وسلم بعنوان الرسالة للإشارة إلى علة الاتباع.
مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ أي يرتد عن دين الإسلام
فلا يتبعك فيها ألفا لقبلة آبائه، ومَنْ هذه للفصل كالتي في
قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ
[البقرة: 220] والكلام من باب الاستعارة التمثيلية بجامع أن
المنقلب يترك ما في يديه ويدبر عنه على أسوأ أحوال الرجوع،
وكذلك المرتد يرجع عن الإسلام ويترك ما في يديه من الدلائل على
أسوأ حال. و «نعلم» حكاية حال ماضية، ويَتَّبِعُ ويَنْقَلِبُ
بمعنى الحدوث- والجعل- مجاز باعتبار أنه كان الأصل استقبال
الكعبة أو المعنى (ما جعلنا) قبلتك بيت المقدس إِلَّا
لِنَعْلَمَ الآن بعد التحويل إلى الكعبة من يتبعك حينئذ
مِمَّنْ لا يتبعك كبعض أهل الكتاب ارتدوا لما تحولت
الْقِبْلَةَ فنعلم على حقيقة الحال. والحاصل أن ما فعلناه كان
لأمر عارض- وهو امتحان الناس- إما في وقت- الجعل- أو في وقت
التحويل، وما كان لعارض يزول بزواله، وقيل: المراد ب
الْقِبْلَةَ الكعبة بناء على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان
يصلي إليها بمكة، والمعنى ما رددناك إِلَّا لِنَعْلَمَ الثابت
الذي لا يزيغه شبهة ولا يعتريه اضطراب ممن يرتد بقلقلة واضطراب
بسبب التحويل بأنه إن كان الأول حقا فلا وجه للتحويل عنه، وإن
كان الثاني فلا معنى للأمر بالأول- والجعل- على هذا حقيقة،
ويَتَّبِعُ للاستمرار بقرينة مقابله، ويضعف هذا القول أنه
يستلزم دعوى نسخ الْقِبْلَةَ مرتين، واستشكلت الآية بأنها تشعر
بحدوث- العلم- في المستقبل- وهو تعالى لم يزل عالما- وأجيب
بوجوه «الأول» أن ذلك على سبيل التمثيل، أي فعلنا ذلك فعل من
يريد أن يعلم «الثاني» أن المراد- العلم- الحالي الذي يدور
عليه- فلك الجزاء- أي ليتعلق علمنا به موجودا بالفعل، فالعلم
مقيد بالحادث، والحدوث راجع إلى القيد «الثالث» أن المراد
ليعلم الرسول والمؤمنون، وتجوز في إسناد فعل بعض خواص الملك
إليه تنبيها على كرامة القرب والاختصاص فهو كقول الملك: فتحنا
البلد، وإنما فتحها جنده «الرابع» أنه ضمن العلم معنى التمييز
أو أريد به التمييز في الخارج، وتجوز بإطلاق اسم السبب على
المسبب، ويؤيده تعديه ب مَنْ كالتمييز- وبه فسره ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما- ويشهد له قراءة «ليعلم» على البناء للمفعول
حيث إن المراد ليعلم كل من يأتي منه- العلم- وظاهر أنه فرع
تمييز الله وتفريقه بينهما في الخارج بحيث لا يخفى على أحد
«الخامس» أن المراد به الجزاء، أي لنجازي الطائع والعاصي،
وكثيرا ما يقع التهديد في القرآن بالعلم «السادس» أن «نعلم»
للمتكلم مع الغير، فالمراد ليشترك- العلم- بيني وبين الرسول
صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين، ويرد على هذا أن مخالفته
مع جعلنا آب عنه، مع أن تشريك الله تعالى مع غيره في ضمير واحد
غير مناسب، ثم العلم إن كان مجازا عن التمييز- فمن، وممن-
مفعولاه بواسطة وبلا واسطة، وإن كان حقيقة فإمّا أن يكون من
الإدراك المعدى إلى مفعول واحد- فمن- موصولة في موضع نصب به،
ومِمَّنْ حال أي متميزا مِمَّنْ أو من- العلم- المعدى إلى
مفعولين ف مَنْ استفهامية في موضع المبتدأ، ويَتَّبِعُ في موضع
الخبر، والجملة في موضع المفعولين مِمَّنْ يَنْقَلِبُ حال من
فاعل يَتَّبِعُ وبهذا يندفع قول أبي البقاء: إنه لا يجوز أن
تكون مَنْ استفهامية لأنه لا يبقى لقوله تعالى: مِمَّنْ
يَنْقَلِبُ متعلق لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيما بعده، ولا
معنى لتعلقه ب يَتَّبِعُ والكلام دال على هذا التقدير- فلا يرد
أنه لا قرينة عليه- ثم إن جملة وَما جَعَلْنَا إلخ، معطوفة
كالجملتين التاليتين لها على مجموع السؤال والجواب بيان لحكمة
التحويل، وقيل: معطوفة على لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ
ويحتاج إلى أن يقال حينئذ: إنه صلّى الله عليه وسلّم مأمور
بأداء مضمون
(1/405)
هذا الكلام بألفاظه إذ لا يصح ضمير المتكلم
في كلامه عليه الصلاة والسلام، وفيه بعد ما كما لا يخفى وَإِنْ
كانَتْ لَكَبِيرَةً أي شاقة ثقيلة، والضمير لما دل عليه قوله
تعالى: وَما جَعَلْنَا إلخ من الجعلة، أو التولية، أو الردة،
أو التحويلة، أو الصيرورة، أو المتابعة، أو القبلة، وفائدة
اعتبار التأنيث- على بعض الوجوه- الدلالة على أن هذا الرد
والتحويل بوقوعه مرة واحدة، واختصاصه بالنبي صلى الله تعالى
عليه وسلم كانت ثقيلة عليهم حيث لم يعهدوه سابقا، والقول بأن
تأنيث «كبيرة» يجعله صفة حادثة، وتأنيث الضمير لتأنيث الخبر
فيرجع إلى- الجعل- أو الرد أو التحويل بدون
تكلف تكلف عريّ عن الفائدة وَإِنْ هي المخففة من الثقيلة
المفيدة لتأكيد الحكم ألغيت عن العمل فيما بعدها بتوسط «كان» -
واللام- هي الفاصلة بين المخففة والنافية وزعم الكوفيون أن
إِنْ هي النافية- واللام- بمعنى إلا، وقال البصريون: لو كان
كذلك لجاز أن يقال: جاء القوم لزيدا على معنى إلا زيدا- وليس
فليس- وقرىء لَكَبِيرَةً بالرفع ففي «كان» ضمير القصة، و
«كبيرة» خبر مبتدأ محذوف، أي لهي «كبيرة» والجملة خبر «كان»
وقيل: إن كانت زائدة كما في قوله: وإخوان لنا كانوا كرام
واعترض بأنه إن أريد أن «كان» مع اسمها زائدة كانت «كبيرة» بلا
مبتدأ وَإِنْ المخففة بلا جملة، ومثله خارج عن القياس، وإن
أريد أن «كان» وحدها كذلك والضمير باق على الرفع بالابتداء-
فلا وجه لاتصاله واستتاره- وأجيب بأنه لما وقع بعد «كان» وكان
من جهة المعنى في موقع اسم «كان» جعل مستترا تشبيها بالاسم،
وإن كان مبتدأ تحقيقا، ولا يخفى أنه من التكلف غايته، ومن
التعسف نهايته إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أي إلى سر
الأحكام الشرعية المبنية على الحكم والمصالح إجمالا أو تفصيلا،
والمراد بهم مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ من الثابتين على
الإيمان الغير المتزلزلين المنقلبين على أعقابهم.
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أي صلاتكم إلى القبلة
المنسوخة، ففي الصحيح أنه لما وجه رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم إلى القبلة قالوا: يا رسول الله، فكيف بالذين ماتوا
وهم يصلون إلى بيت المقدس، فنزلت، فالإيمان مجاز من إطلاق
اللازم على ملزومه، والمقام قرينة وهو التفسير المروي عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره من أئمة الدين- فلا معنى
لتضعيفه كما يحكيه صنيع بعضهم- وقيل: المراد ثباتكم على
الإيمان أو إيمانكم بالقبلة المنسوخة- واللام- في لِيُضِيعَ
متعلقة بخبر كانَ المحذوف- كما هو رأي البصريين- وانتصاب الفعل
بعدها بأن مضمرة أي ما كان مريدا- لأن يضيع- وفي توجيه النفي
إلى إرادة الفعل مبالغة ليست في توجيهه إليه نفسه، وقال
الكوفيون: اللام زائدة وهي الناصبة للفعل، ولِيُضِيعَ هو
الخبر، ولا يقدح في عملها زيادتها كما لا تقدح زيادة حروف الجر
في العمل، وبهذا يندفع استبعاد أبي البقاء خبرية لِيُضِيعَ
بأن- اللام لام الجر- وَإِنْ بعدها مرادة فيصير التقدير ما كان
الله إضاعة إيمانكم- فيحوج للتأويل- لكن أنت تعلم أن هذا الذي
ذهب إليه الكوفيون بعيد من جهة أخرى لا تخفى.
إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ تذييل لجميع ما
تقدم، فإن اتصافه تعالى بهذين الوصفين يقتضي لا محالة أن الله
لا يضيع أجورهم ولا يدع ما فيه صلاحهم- والباء- متعلقة ب
لَرَؤُفٌ وقدم على رَحِيمٌ لأن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة،
وهي رفع المكروه وإزالة الضرر كما يشير إليه قوله تعالى: وَلا
تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:
2] أي لا ترأفوا بهما فترفعوا الجلد عنهما- والرحمة- أعم منه،
ومن الإفضال ودفع الضرر أهم من جلب النفع، وقول القاضي بيض
الله تعالى غرة أحواله: لعل تقديم- الرؤوف- مع أنه أبلغ-
محافظة على الفواصل- ليس بشيء لأن فواصل القرآن لا يلاحظ فيها
الحرف الأخير كالسجع- فالمراعاة حاصلة على كل حال- ولأن الرحمة
حيث وردت في القرآن قدمت ولو في غير الفواصل كما في قوله
تعالى: رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها
[الحديد: 27] في
(1/406)
وسط الآية، وكلام الجوهري في هذا الموضع
خزف لا يعول عليه، وقول عصام:- إنه لا يبعد أن يقال:- الرؤوف-
إشارة إلى المبالغة في رحمته لخواص عباده- والرحيم- إشارة إلى
الرحمة لمن دونهم فرتبا على حسب ترتيبهم، فقدم- الرؤوف- لتقدم
متعلقه شرفا وقدرا- لا شرف ولا قدر، بل ولا عصام له لأنه تخصيص
لا يدل عليه كتاب ولا سنة ولا استعمال وقرأ نافع وابن كثير
وابن عامر وحفص «لرؤوف» بالمد، والباقون بغير مدكندس.
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ أي كثيرا ما نرى
تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء متشوفا للوحي، وكان رسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقع في قلبه، ويتوقع من ربه أن
يحوله إلى الكعبة لما أن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا محمد
ويتبع قبلتنا، ولما أنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، وأقدم
القبلتين وأدعى للعرب إلى الإيمان، والظاهر أنه صلى الله تعالى
عليه وسلم لم يسأل ذلك من ربه بل كان ينتظر فقط إذ لو وقع
السؤال لكان الظاهر ذكره، ففي ذلك دلالة على كمال أدبه صلى
الله تعالى عليه وسلم،
وقال قتادة والسدي وغيرهما: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوله إلى الكعبة،
فعلى هذا يكون السؤال واقعا منه عليه الصلاة والسلام، ولم يذكر
لأن تَقَلُّبَ الوجه نحو السماء التي هي قبلة الدعاء يشير إليه
في الجملة، ولعل ذلك بعد حصول الإذن له بالدعاء لما أن
الأنبياء لا يسألون الله تعالى شيئا من غير أن يؤذن لهم فيه
لأنه يجوز أن لا يكون فيه مصلحة فلا يجابون إليه فيكون فتنة
لقومهم، ويؤيد ذلك ما
في بعض الآثار أنه صلى الله تعالى عليه وسلم استأذن جبريل أن
يدعو الله تعالى فأخبره بأن الله تعالى قد أذن له بالدعاء
كذا يفهم من كلامهم، والذي أراه أنه لا مانع من دعائه صلى الله
تعالى عليه وسلم وسؤاله التحويل لمصلحة ألهمها ومنفعة دينية
فهمها، ولا يتوقف ذلك على الاستئذان، ولا الإذن الصريحين لأن
من نال قرب النوافل مستغن عن ذلك فكيف من حصل له مقام قرب
الفرائض حتى غدا سيد أهله، ومن علم مرتبة الحبيب عد جميع ما
يصدر منه في غاية الكمال مع مراعاة نهاية الأدب، وأما معاتبته
صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض ما صدر فليس لنقص فيه ولا
لإخلال بالأدب عند فعله حاشاه ثم حاشاه، ولكن الأسرار خفية،
وحكم ربانية علمها من علمها وجهلها من جهلها، بقي هل دعا صلى
الله تعالى عليه وسلم في هذه الحادثة صريحا أم لا؟ الظاهر
الثاني بناء على ما صح عندنا من ظواهر الأخبار حيث لم يكن فيها
سوى حب التحويل،
فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن البراء قال: صلينا مع
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد قدومه المدينة ستة عشر
شهرا نحو بيت المقدس، ثم علم الله تعالى هوى نبيه عليه الصلاة
والسلام فنزلت قَدْ نَرى الآية،
وليس في الآية ما يدل صريحا على أحد الأمرين، وأما الإشارة فقد
تصلح لهذا وهذا كما لا يخفى، وهذا ومن الناس من جعل قَدْ هنا
للتقليل زعما منه أن وقوع التقلب قليلا أدل على كمال أدبه صلى
الله تعالى عليه وسلم، واعترض بأن من رفع بصره إلى السماء مرة
واحدة لا يقال له: قلب بصره إلى السماء، وإنما يقال: قلب إذا
داوم فالكثرة تفهم من الآية لا محالة- لأن التقلب- الذي هو
مطاوع التقليب يدل عليها، وهل التكثير معنى مجازي- لقد- أو
حقيقي؟ قولان نسب ثانيهما إلى سيبويه، وهذه الكثرة أو القلة
هنا منصرفة إلى التقلب، وذكر بعض النحاة أن «قد» تقلب المضارع
ماضيا، ومنه ما هنا، وقوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ
عَلَيْهِ [النور: 64] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ
صَدْرُكَ [الحجر:
97] إلى غير ذلك فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً أي لنمكننك من
استقبالها من قولك: وليته كذا إذا جعلته واليا له أو فلنجعلنك
تلي جهتها دون جهة بيت المقدس من وليه دنا منه ووليته إياه
أدنيته منه، والفاء لسببية ما قبلها لما بعدها، وهي في الحقيقة
داخلة على قسم محذوف تدل عليه اللام، وجاء هذا الوعد على إضمار
القسم مبالغة في وقوعه لأنه يؤكد مضمون الجملة المقسم عليها،
وجاء قبل الأمر لفرح النفس بالإجابة ثم بإنجاز الوعد فيتوالى
السرور مرتين،- ونولي-
(1/407)
يتعدى لاثنين الكاف الأول وقبلة الثاني،
وقوله تعالى: تَرْضاها أي تحبها وتميل إليها للأغراض الصحيحة
التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله تعالى وحكمته في موضع نصب صفة-
لقبلة.، ونكرها لأنه لم يجر قبلها ما يقتضي أن تكون معهودة
فتعرف باللام، وليس في اللفظ ما يدل على أنه صلى الله تعالى
عليه وسلم كان يطلب قبلة معينة فَوَلِّ وَجْهَكَ الفاء لتفريع
الأمر على الوعد وتخصيص التولية بالوجه لما أنه مدار التوجه
ومعياره، وقيل: المراد به جميع البدن وكني بذلك عنه لأنه أشرف
الأعضاء وبه يتميز بعض الناس عن بعض، أو مراعاة لما قبل
والتولية إذا كانت متعدية بنفسها إلى تمام المفعولين كانت
مستعملة بأحد المعنيين المتقدمين، وإذا كانت متعدية إلى واحد
فمعناها الصرف إما عن الشيء أو إلى الشيء على اختلاف صلتها
الداخلة على المفعول الثاني، وهي هنا بهذا المعنى- فوجهك-
مفعول أول وقوله تعالى: شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي نحوه
كما روي عن ابن عباس، أو
قبله كما روي عن علي كرم الله وجهه،
أو تلقاءه كما روي عن قتادة ظرف مكان مبهم كمفسره منصوب على
الظرفية أغنى غناء إلى فإن مؤدى- ولّ وجهك- نحو أو قبل أو
تلقاء المسجد- وولّ وجهك إلى المسجد- واحد وإنما لم يجعل الأمر
من المتعدية إلى مفعولين بأن يكون شَطْرَ مفعوله الثاني- كما
قيل به- لأن ترتبه بالفاء وكونه إيجازا للوعد بأن الله تعالى
يجعل مستقبل القبلة أو قريبا من جهتها بأن يؤمر بالصلاة إليها
يناسبه أن يكون مأمورا بصرف الوجه إليها لا بأن يجعل نفسه
مستقبلا لها أو قريبا من جهتها فإن المناسب لهذا فلنأمرنك بأن
تولي ولأنه يلزم حينئذ أن يكون الواجب رعاية سمت الجهة لأن
المسجد الحرام جهة القبلة فإذا كان النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم مأمورا بجعل نفسه مستقبل جهة المسجد أو قريبا منها كان
مأمورا باستقبال جهة الجهة أو بقرب جهة الجهة بخلاف ما إذا جعل
من التولية بمعنى الصرف، وشطر- ظرفا فإنه يصير المعنى اصرف
وجهك نحو المسجد الحرام وتلقاءه الذي هو جهة القبلة فيكون
مأمورا بمسامتة الجهة وإصابته- قاله بعض المحققين- وقيل: الشطر
في الأصل لما انفصل عن الشيء ثم استعمل لجانبه وإن لم ينفصل
فيكون بمعنى بعض الشيء ويتعين حينئذ جعله مفعولا ثانيا- وفيه
أنه- وإن لم يلزم حينئذ وجوب رعاية جهة الجهة لكن عدم مناسبته
بإنجاز الوعد باق، والقول- بأن الشطر هنا بمعنى النصف- مما لا
يكاد يصح، والحرام- المحرم أي محرم فيه القتال، أو ممنوع من
الظلمة أن يتعرضوا، وفي ذكر المسجد الحرام الذي هو محيط
بالكعبة دون الكعبة مع أنها القبلة التي دلت عليها الأحاديث
الصحاح إشارة إلى أنه يكفي للبعيد محاذاة جهة القبلة وإن لم
يصب عينها وهذه الفائدة لا تحصل من لفظ الشطر- كما قاله جمع-
لأنه لو قيل: فولّ وجهك شطر الكعبة لكان المعنى اجعل صرف الوجه
في مكان يكون مسامتا ومحاذيا للكعبة- وهذا هو مذهب أبي حنيفة
رضي الله تعالى عنه.
وأحمد وقول أكثر الخراسانيين من الشافعية- ورجحه حجة الإسلام
في الاحياء إلا أنهم قالوا: يجب أن يكون قصد المتوجه إلى الجهة
العين التي في تلك الجهة لتكون القبلة عين الكعبة، وقال
العراقيون والقفال منهم: يجب إصابة العين، وقال الإمام مالك:
إن الكعبة قبلة أهل المسجد، والمسجد قبلة مكة، وهي قبلة الحرم،
وهو قبلة الدنيا، وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
مرفوعا ما يدل عليه، وهذا الخلاف في غير من يكون شاهدا أما هو
فيجب عليه إصابة العين بالإجماع، ولم يقيد سبحانه وتعالى
التولية في الصلاة لأن المطلوب لم يكن سوى ذلك فأغنى عن الذكر،
وقيل: لأن الآية نزلت، وهو صلى الله تعالى عليه وسلم في الصلاة
فأغنى التلبس بها عن ذكرها، واستدل هذا القائل بما
ذكره القاضي تبعا لغيره أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قدم
المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم وجه إلى الكعبة
في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين، وقد صلى بأصحابه في
مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر فتحول في الصلاة واستقبل
الميزاب، وتبادل الرجال والنساء صفوفهم
- فسمي المسجد مسجد القبلتين- وهذا- كما قال الإمام السيوطي-
تحريف للحديث، فإن قصة بني سلمة لم يكن فيها النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم
(1/408)
إماما ولا هو الذي تحول في الصلاة،
فقد أخرج النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنا نغدو إلى
المسجد فمررنا يوما ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قاعد
على المنبر فقلت: حدث أمر، فجلست فقرأ رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ
الآية، فقلت لصاحبي: تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم فنكون أول من صلى، فصليناهما، ثم نزل
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فصلى للناس الظهر يومئذ.
وروى أبو داود عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون نحو بيت المقدس، فلما
نزلت هذه الآية مرّ رجل ببني سلمة فناداهم وهم ركوع في صلاة
الفجر نحو بيت المقدس، ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة
فمالوا كما هم ركوعا إلى الكعبة،
فما ذكر مخالف للروايات الصحيحة الثابتة عند أهل هذا الشأن فلا
يعول عليه. وقرأ أبي «تلقاء المسجد الحرام» وهي تؤيد القول
الأول في شَطْرَ كما لا يخفى وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ عطف على فَوَلِّ وَجْهَكَ ومن تتمة إنجاز
الوعد- والفاء- جواب الشرط لأن حَيْثُ إذا لحقه ما الكافة عن
الإضافة يكون من كلم المجازاة، والفراء لا يشترط ذلك فيها، و
(كان) تامة- أي في أي موضع وجدتم- وأصل ولوا وليوا فاستثقلت
الضمة على الياء فحذفت فالتقى ساكنان فحذف أولهما وضم ما قبل
الياء للمناسبة- فوزنه فعوا- وهذا تصريح بعموم الحكم المستفاد
من السابق اعتناء به إذ الخطاب الوارد في شأن النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم عام حكمه ما لم يظهر اختصاصه به عليه الصلاة
والسلام، وفائدة تعميم الأمكنة- على ما ذهب إليه البعض- دفع
توهم أن هذه القبلة مختصة بأهل المدينة، وقيل: لما كان الصرف
عن الكعبة لاستجلاب قلوب اليهود وكان مظنة أن لا يتوجه إليها
في حضورهم أشار إلى تعميم التولية جميع الأمكنة أو يقال: صرح
بأن التولية جهة الكعبة فرض مع حضور بيت المقدس، ولأهله أيضا
لئلا يظن أن حضور بيت المقدس يمنع التوجه إلى جهة الكعبة مع
غيبتها فليفهم. وقرأ عبد الله «فولوا وجوهكم قبله» .
وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي من اليهود
لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ أي التحويل أو التوجه المفهوم من
التولية الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ لا غيره لعلمهم بأن محمدا صلى
الله تعالى عليه وسلم لا يأمر بالباطل إذ هو النبي المبشر به
في كتبهم وتحققهم أنه لا يتجاوز كل شريعة عن قبلتها إلى قبلة
شريعة أخرى، وأما اشتراك النبي صلّى الله عليه وسلّم وإبراهيم
عليه السلام في هذه القبلة فلاشتراكهما في الشريعة على ما
ينبىء عنه قوله تعالى: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً
[البقرة: 135] ، ووقوفهم على ما تضمنته كتبهم من أنه صلّى الله
عليه وسلّم يصلي إلى القبلتين، والجملة عطف على قَدْ نَرى
بجامع أن السابقة مسوقة لبيان أصل التحويل وهذه لبيان حقيته
قيل: أو اعتراضية لتأكيد أمر القبلة وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ
عَمَّا يَعْمَلُونَ اعتراض بين الكلامين جيء به للوعد والوعيد
للفريقين من أهل الكتاب الداخلين تحت العموم السابق المشار
إليهما فيما سيجيء قريبا إن شاء الله تعالى وهما من كتم ومن لم
يكتم، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي تعملون بالتاء فهو وعد
للمؤمنين، وقيل: على قراءة الخطاب وعدلهم، وقراءة الغيبة وعيد
لأهل الكتاب مطلقا وقيل: الضمير على القراءتين لجميع الناس
فيكون وعدا ووعيدا لفريقين من المؤمنين والكافرين.
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ عطف على
وَإِنَّ الَّذِينَ بجامع أن كلا منهما مؤكد لأمر القبلة ومبين
لحقيته والمراد من الموصول الكفار من أولئك بدليل الجواب ولذا
وضع المظهر موضع المضمر ومن خص ما تقدم بالكفار جعل هذا الوضع
للإيذان بكمال سوء حالهم من العناد مع تحقق ما ينافيه من
الكتاب الصادح بحقية ما كابروا في قبوله بِكُلِّ آيَةٍ وحجة
قطعية دالة على أن توجهك إلى الكعبة هو الحق واللام موطئة لقسم
محذوف ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ جواب القسم ساد مسد جواب الشرط
لا جواب الشرط، لما تقرر أن الجواب إذا كان القسم مقدما
(1/409)
للقسم لا للشرط إن لم يكن مانع فكيف إذا
كان كترك الفاء هاهنا فإنها لازمة في الماضي المنفي إذا وقع
جزاء وهذا تسلية للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن قبولهم
الحق، والمعنى أنهم ما تركوا قِبْلَتَكَ لشبهة تدفعها بحجة
وإنما خالفوك لمحض العناد وبحت المكابرة، وليس المراد من
التعليق بالشرط الإخبار عن عدم متابعتهم على أبلغ وجه وآكده
بأن يكون المعنى أنهم لا يتبعونك أصلا- وإن أتيت بكل- حجة
فاندفع ما قيل: كيف حكم بأنهم لا يتبعون وقد آمن منهم فريق
واستغنى عن القول بأن ذلك في قوم مخصوصين أو حكم على الكل دون
الأبعاض فإنه تكلف مستغنى عنه وإضافة القبلة إلى ضميره صلّى
الله عليه وسلّم لأن الله تعالى تعبده باستقبالها وَما أَنْتَ
بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ أي لا يكون ذلك منك ومحال أن يكون
فالجملة خبرية لفظا ومعنى سيقت لتأكيد حقية أمر القبلة كل
التأكيد وقطع تمني أهل الكتاب فإنهم قالوا: يا محمد عد إلى
قبلتنا ونؤمن بك ونتبعك مخادعة منهم لعنهم الله تعالى، وفيها
إشارة إلى أن هذه القبلة لا تصير منسوخة أبدا، وقيل: إنها
خبرية لفظا إنشائية معنى ومعناها النهي أي لا تتبع قبلتهم أي
داوم على عدم اتباعها، وأفرد القبلة وإن كانت مثناة إذ لليهود
قبلة وللنصارى قبلة لأنهما اشتركتا في كونهما باطلتين فصار
الاثنان واحدا من حيث البطلان، وحسن ذلك المقابلة لأن قبلة ما
تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وقد يقال: إن الإفراد بناء على أن قبلة
الطائفتين الحقة في الأصل بيت المقدس وعيسى عليه السلام لم يصل
جهة الشرق حتى رفع وإنما كانت قبلته قبلة بني إسرائيل اليوم ثم
بعد رفعه شرع أشياخ النصارى لهم الاستقبال إلى الشرق واعتذروا
بأن المسيح عليه السلام فوض إليهم التحليل والتحريم وشرع
الأحكام وأن ما حللوه وحرموه فقد حلله هو وحرمه في السماء
وذكروا لهم أن في الشرق أسرارا ليست في غيره ولهذا كان مولد
المسيح شرقا كما يشير إليه قوله تعالى: إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ
أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
[مريم: 16] واستقبل المسيح حين صلب بزعمهم الشرق، وقيل: إن بعض
رهبانهم قال لهم: إني لقيت عيسى عليه الصلاة والسلام فقال لي:
إن الشمس كوكب أحبه يبلغ سلامي في كل يوم فمر قومي ليتوجهوا
إليها في صلاتهم فصدقوا وفعلوا، ويؤيد ذلك أنه ليس في الإنجيل
استقبال الشرق، وذهب ابن القيم إلى أن قبلة الطائفتين الآن لم
تكن قبلة بوحي وتوقيف من الله تعالى بل بمشورة واجتهاد منهم،
أما النصارى فاجتهدوا وجعلوا الشرق قبلة وكان عيسى قبل الرفع
يصلي إلى الصخرة، وأما اليهود فكانوا يصلون إلى التابوت الذي
معهم إذا خرجوا وإذا قدموا بيت المقدس نصبوه إلى الصخرة وصلوا
إليه فلما رفع اجتهدوا فأدى اجتهادهم إلى الصلاة إلى موضعه وهو
الصخرة وليس في التوراة الأمر بذلك، والسامرة منهم يصلون إلى
طورهم بالشام قرب بلدة نابلس، وهذان القولان إن صحا يشكل
عليهما القول بأن عادته تعالى تخصيص كل شريعة بقبلة فتدبر.
ثم إن هذه الجملة أبلغ في النفي من الجملة الأولى من وجوه:
كونها اسمية وتكرر فيها الاسم مرتين وتأكد نفيها بالباء وفعل
ذلك اعتناء بما تقدم وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ
أي أن اليهود لا تتبع قبلة النصارى ولا النصارى تتبع قبلة
اليهود ما داموا باقين على اليهودية والنصرانية وفي ذلك بيان
لتصابهم في الهوى وعنادهم بأن هذه المخالفة والعناد لا يختص بك
بل حالهم فيما بينهم أيضا كذلك، والجملة عطف على ما تقدم مؤكدة
لأمر القبلة ببيان أن إنكارهم ذلك ناشىء عن فرط العناد وتسلية
للرسول صلّى الله عليه وسلّم وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ
أي على سبيل الفرض وإلا فلا معنى لاستعمال أن الموضوعة للمعاني
المحتملة بعد تحقق الانتفاء فيما سبق، والمقصود بهذا الفرض ذكر
مثال لاتباع الهوى وذكر قبحه من غير نظر إلى خصوصية المتبع
والمتبع.
مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي المعلوم الذي أوحي
إليك بقرينة إسناد المجيء إليه، والمراد بعد ما بان لك الحق
إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي المرتكبين الظلم
الفاحش، وهذه الجملة أيضا تقرير لأمر «القبلة» وفيها وجوه من
(1/410)
التأكيد والمبالغة، وهي القسم، واللام
الموطئة له، وإن الفرضية، وأن التحقيقية، واللام في حيزها،
وتعريف الظالمين، والجملة الاسمية، وإذا الجزائية، وإيثار «من
الظالمين» على- ظالم أو الظالم- لإفادته أنه مقرر محقق وأنه
معدود في زمرتهم عريق فيهم. وإيقاع- الاتباع- على ما سماه-
هوى- أي لا يعضده برهان، ولا نزل في شأنه بيان، والإجمال
والتفصيل وجعل الجائي نفس الْعِلْمِ وعد أيضا من ذلك عده واحدا
«من الظالمين» مغمورا فيهم غير متعين كتعينهم فيما بين
المسلمين، فإن فيه مبالغة عظيمة للإشعار بالانتقال من مرتبة
العدل إلى الظلم، ومن مرتبة التعين والسيادة المطلقة إلى
السفالة والمجهولية، ولو جعل كُنْتَ في كُنْتَ عَلَيْها بمعنى
صرت لكان أعلى كعبا في الإفادة. وأنت تعلم أن التركيب يقتضي
المبالغة في الاستعمال لا المجهولية، ولو اقتضاها فيه لكان
العد معدودا في عداد المقبول، وفي هذه المبالغات تعظيم لأمر
الحق وتحريض على اقتفائه وتحذير عن متابعة الهوى، واستعظام
لصدور الذنب عن الأنبياء وذو المرتبة الرفيعة إلى تجديد
الانذار عليه أحوج حفظا لمرتبته، وصيانة لمكانته، فلا حاجة إلى
القول بأن الخطاب للنبي والمعني به غيره.
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ مبتدأ وخبر،
والمراد بهم العلماء لأن- العرفان- لهم حقيقة، ولذا وضع المظهر
موضع المضمر، ولأن- أوتوا- يستعمل فيمن لم يكن له قبول، وآتينا
أكثر ما جاء فيمن له ذلك، وجوز أن يكون الموصول بدلا من
الموصول الأول، أو لَمِنَ الظَّالِمِينَ فتكون الجملة حالا من
الْكِتابَ أو من الموصول، ويجوز أن يكون نصبا بأعني، أو رفعا
على تقديرهم، وضمير يَعْرِفُونَهُ لرسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم- وإن لم يسبق ذكره- لدلالة قوله تعالى: كَما
يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ عليه، فإن تشبيه معرفته بمعرفة-
الأبناء- دليل على أنه المراد، وقيل: المرجع مذكور فيما سبق
صريحا بطريق الخطاب، فلا حاجة إلى اعتبار التقديم المعنوي
«غاية الأمر» أن يكون هاهنا التفات إلى الغيبة للإيذان بأن
المراد ليس معرفتهم له عليه الصلاة والسلام من حيث ذاته ونسبه
الزاهر، بل من حيث كونه مسطورا في الكتاب منعوتا فيه بالنعوت
التي تستلزم إفحامهم، ومن جملتها أنه يصلي إلى القبلتين، كأنه
قال: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكتاب يعرفون من وصفناه فيه،
وأجيب بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم وإن خوطب في الكلام الذي
في شأن «القبلة» مرارا لكنه لا يحسن إرجاع الضمير إليه لأن هذه
الجملة اعتراضية مستطردة بعد ذكر أمر «القبلة» وظهورها عند أهل
الكتاب بجامع المعرفة الجلية مع الطعن- ولذا لم تعطف- فلو رجع
الضمير إلى المذكور لأوهم نوع اتصال- ولم يحسن ذلك الحسن-
ودليل الاستطراد (ولكل وجهة) نعم إن قيل: بمجرد الجواز فلا بأس
به إذ هو محتمل، ولعله الظاهر بالنظر الجليل، وقيل: الضمير-
للعلم- المذكور بقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ
الْعِلْمِ أو القرآن بادعاء حضوره في الأذهان، أو للتحويل
لدلالة مضمون الكلام السابق عليه، وفيه أن التشبيه يأبى ذلك
لأن المناسب تشبيه الشيء بما هو من جنسه، فكان الواجب في نظر
البلاغة حينئذ كما يعرفون التوراة أو الصخرة، وأن التخصيص بأهل
الكتاب يقتضي أن تكون هذه المعرفة مستفادة من الْكِتابَ وقد
أخبر سبحانه عن ذكر نعته صلى الله تعالى عليه وسلم في التوراة
والإنجيل بخلاف المذكورات فإنها غير مذكور فيه ذكرها فيهما-
والكاف- في محل نصب على أنها صفة لمصدر محذوف أي يَعْرِفُونَهُ
بالأوصاف المذكورة في الْكِتابَ بأنه النبي الموعود بحيث لا
يلتبس عليهم عرفانا مثل- عرفانهم أبناءهم- بحيث لا تلتبس عليهم
أشخاصهم بغيرهم، وهو تشبيه للمعرفة العقلية الحاصلة من مطالعة
الكتب السماوية بالمعرفة الحسية في أن كلّا منهما يتعذر
الاشتباه فيه، والمراد- بالأبناء- الذكور لأنهم أكثر مباشرة
ومعاشرة للآباء، وألصق وأعلق بقلوبهم من البنات، فكان ظن
اشتباه أشخاصهم أبعد، وكان التشبيه بمعرفة الأبناء آكد من
التشبيه بالأنفس لأن الإنسان قد يمر عليه قطعة من
(1/411)
الزمان لا يعرف فيها نفسه كزمن الطفولية-
بخلاف الأبناء- فإنه لا يمر عليه زمان إلا وهو يعرف ابنه. وما
حكي عن عبد الله بن سلام أنه قال في شأنه صلى الله تعالى عليه
وسلم: أنا أعلم به مني بابني، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه:
لم؟ قال: لأني لست أشك بمحمد أنه نبي، فأما ولدي فلعل والدته
خانت، فقبل عمر رضي الله تعالى عنه رأسه، فمعناه أني لست أشك
في نبوته عليه الصلاة والسلام بوجه، وأما ولدي فأشك في بنوته
وإن لم أشك بشخصه، وهو المشبه به في الآية فلا يتوهم منه أن-
معرفة الأبناء- لا تستحق أن يشبه بها لأنها دون المشبه
للاحتمال، ولا يحتاج إلى القول بأنه يكفي في وجه الشبه كونه
أشهر في المشبه به- وإن لم يكن أقوى- ومعرفة الأبناء- أشهر من
غيرها، ولا إلى تكلف أن المشبه به في الآية إضافة- الأبناء-
إليهم مطلقا سواء كانت حقة أو لا. وما ذكره ابن سلام كونه ابنا
له في الواقع وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ وهم الذين لم يسلموا.
لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ الذي يعرفونه وَهُمْ يَعْلَمُونَ جملة
حالية، ويَعْلَمُونَ إما منزلة منزلة اللازم ففيه تنبيه على
كمال شناعة كتمان الحق وأنه لا يليق بأهل العلم، أو المفعول
محذوف أي «يعلمونه» فيكون حالا مؤكدة لأن لفظ لَيَكْتُمُونَ
الْحَقَّ يدل على علمه إذ- الكتم- إخفاء ما يعلم، أو يعلمون
عقاب الكتمان، أو أنهم لَيَكْتُمُونَ فتكون مبينة، وهذه الجملة
عطف على ما تقدم من عطف الخاص على العام، وفائدته تخصيص من
عاند وكتم بالذم، واستثناء من آمن وأظهر علمه عن حكم الكتمان
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ استئناف كلام قصد به رد الكاتمين،
وتحقيق أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولذا فصل،
والْحَقُّ إما مبتدأ خبره الجار- واللام- إما للعهد إشارة إلى
ما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذا ذكر بلفظ
المظهر أو الحق الذي كتمه هؤلاء ووضع فيه المظهر موضع المضمر
تقريرا لحقيته وتثبيتا لها، أو للجنس وهو يفيد قصر جنس
الْحَقُّ على ما ثبت من الله أي أن الْحَقُّ ذلك كالذي أنت
عليه لا غيره كالذي عليه أهل الكتاب، وإما خبر مبتدأ محذوف أي
هو الحق، أو هذا الحق، ومِنْ رَبِّكَ خبر بعد خبر أو حال
مؤكدة- واللام- حينئذ للجنس كما في ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة:
2] ومعناه أن ما يكتمونه هو الحق- لا ما يدعونه ويزعمونه- ولا
معنى حينئذ للعهد لأدائه إلى التكرار فيحتاج إلى تكلف.
وقرأ الإمام علي كرم الله تعالى وجهه «الحق» بالنصب على أنه
مفعول يَعْلَمُونَ أو بدل، ومِنْ رَبِّكَ حال منه، وبه يحصل
مغايرته للأول وإن اتحد لفظهما، وجوز النصب بفعل مقدر- كالزم-
وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة من إظهار اللطف به صلى
الله تعالى عليه وسلم ما لا يخفى.
فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي الشاكين أو المترددين
في كتمانهم الحق عالمين به، أو في أنه مِنْ رَبِّكَ وليس
المراد نهي الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك لأن النهي
عن شيء يقتضي وقوعه أو ترقبه من المنهي عنه وذلك غير متوقع من
ساحة حضرة الرسالة صلى الله تعالى عليه وسلم فلا فائدة في
نهيه، ولأن المكلف به يجب أن يكون اختياريا، وليس الشك والتردد
مما يحصل بقصد واختيار بل المراد إما تحقيق الأمر وأنه بحيث لا
يشك فيه أحد كائنا من كان، أو الأمر للأمة بتحصيل المعارف
المزيلة لما نهى عنه فيجعل النهي مجازا عن ذلك الأمر وفي جعل
امتراء الأمة امتراءه صلّى الله عليه وسلّم مبالغة لا تخفى،
ولك أن تقول: إن الشك ونحوه وإن لم يكن مقدور التحصيل لكنه
مقدور لإزالة البقاء، ولعل النهي عنه بهذا الاعتبار ولهذا قال
الله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ دون فلا
تمتر، ومن ظن أن منشأ الاشكال إفخام الكون لأنه هو الذي ليس
مقدورا فلا ينهى عنه دون الشك والتردد لم يأت بشيء لِكُلٍّ
وِجْهَةٌ
أي لكل أهل ملة أو جماعة من المسلمين واليهود والنصارى أو لكل
قوم من المسلمين جهة وجانب من الكعبة يصلي إليها جنوبية أو
شمالية أو شرقية أو غربية، وتنوين- كل- عوض عن المضاف إليه
ووجهة- جاء
(1/412)
على الأصل والقياس جهة مثل عدة وزنة وهي
مصدر بمعنى المتوجه إليه كالخلق بمعنى المخلوق وهو محذوف
الزوائد لأن الفعل توجه أو اتجه، والمصدر التوجه أو الاتجاه،
ولم يستعمل منه وجه كوعد، وقيل: إنها اسم للمكان المتوجه إليه
فثبوت الواو ليس بشاذ وقرأ أبيّ- ولكل قبلة-وَمُوَلِّيها
الضمير المرفوع عائد إلى- كل باعتبار لفظه، والمفعول الثاني
للوصف محذوف أي وجهه أو نفسه أي مستقبلها، ويحتمل أن يكون
الضمير لله تعالى أي- الله موليها- إياه، وأخرج ابن أبي حاتم
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ «ولكل وجهة»
بالإضافة، وقد صعب تخريجها حتى تجرأ بعضهم على ردها وهو خطأ
عظيم، وخرجها البعض أن- كل- كان في الأصل منصوبا على أنه مفعول
به لعامل محذوف يفسره وَلِّيها
وضميروَ
عائد إلى الله تعالى قطعا ثم زيدت اللام في المفعول به صريحا
لضعف العامل المقدر من جهتين، كونه اسم فاعل وتقديم المعمول
عليه والمفعول الآخر محذوف- أي لكل وجهة الله مولى موليها- ورد
بأن لام التقوية لا تزاد في أحد مفعولي المتعدي لاثنين، لأنه
إما أن تزاد في الآخر ولا نظير له، أو لا فيلزم الترجيح بلا
مرجح، وإن أجيب بإطلاق النحاة يقتضي جوازه، والترجيح بلا مرجح
مدفوع هنا بأنه ترجح بتقديمه وقيل: إن المجرور معمول للوصف
المذكور على أنه مفعول به له واللام مزيدة، أو أن الكلام من
باب الاشتغال بالضمير، ولا يخفى أن هذين التخريجين يحوج أولهما
إلى إرجاع الضمير المجرور بالوصف إلى التولية، وجعله مفعولا
مطلقا كقوله: هذا سراقة للقرآن يدرسه لئلا يقال: كيف يعمل
الوصف مع اشتغاله بالضمير، وثانيهما إلى القول: بأنه قد يجيء
المجرور من باب الاشتغال على قراءة من قرأ «والظالمين أعدلهم»
والقول: بأن اللام أصلية، والجار متعلق- بصلوا- محذوفا أو
باستبقوا والفاء زائدة بعيد بل لا أكاد أجيزه، وقرأ ابن عامر،
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- مولاها- على صيغة اسم
المفعول- أي هو قد ولي تلك الجهة- فالضمير المرفوع حينئذ عائد
إلى كل البتة، ولا يجوز رجوعه إلى الله تعالى لفساد المعنى،
وأخرج ابن جرير وابن أبي داود في المصاحف عن منصور قال: نحن
نقرأ- ولكل جعلنا قبلة يرضونها-اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
جمع خيرة بالتخفيف وهي الفاضلة من كل شيء، والتأنيث باعتبار
الخصلة، «واللام» للاستغراق فيعم المحلى أمر القبلة وغيره،
والخطاب للمؤمنين، والاستباق متعد كما في التاج، وقيل: لازم، و
«إلى» بعده مقدرة أي إذا كان كذلك فبادروا أيها المؤمنون ما به
يحصل السعادة في الدارين من استقبال القبلة وغيره ولا تنازعوا
من خالفكم إذ لا سبيل إلى الاجتماع على قبلة واحدة لجري العادة
على تولية كل قوم قبلة يستقبلها، وفي أمر المؤمنين بطلب
التسابق فيما بينهم كما قال السعد: دلالة على طلب سبق غيرهم
بطريق الأولى، وقيل: الاقتصار على سبق بعضهم إشارة إلى أن
غيرهم ليس في
طريق الخير حتى يتصور أمر أحد بالسبق إلى الخير عليه، ويجوز أن
تكون «اللام» للعهد فالمراد بالخيرات الفاضلات من الجهات التي
تسامت الكعبة، وفيه إشارة إلى أن الصلاة إلى عين الكعبة أكثر
ثوابا من الصلاة التي جهتها، وقيل: يحتمل أن يراد بها الصلوات
الفاضلات، والمراد- بالاستباق- السرعة فيها والقيام بها في أول
أوقاتها، وفيه بعد، وأبعد منه ما قيل: إن المعنى- فاستبقوا
قبلتكم- وعبر عنها بالخيرات إشارة إلى اشتمالها على كل خير.
واستدل الشافعية بالآية على أن الصلاة في أول الوقت بعد تحققه
أفضل وهي مسألة فرغ منها في الفروع، ولبعض العارفين في الآية
وجه آخر وهو أنه تعالى جعل الناس في أمور دنياهم وأخراهم على
أحوال متفاوتة، فجعل بعضهم أعوان بعض فواحد يزرع وآخر يطحن
وآخر يخبز، وكذلك في أمر الدين، واحد يجمع الحديث. وآخر يحصل
الفقه وآخر يطلب الأصول، وهم في الظاهر مختارون، وفي الباطن
مسخرون، وإليه الإشارة
بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «كل ميسر لما خلق له»
ولهذا قال بعض الصالحين لما سئل عن تفاوت الناس في أفعالهم: كل
ذلك طرق إلى
(1/413)
الله تعالى أراد أن يعمرها بعباده ومن تحرى
وجه الله تعالى في كل طريق يسلكه وصل إليه لكن ينبغي تحري
الأحسن من تلك الطرق إذ المراتب متفاوتة والشؤون مختلفة ومظاهر
الأسماء شتى، وقيل: المراد بها أن لكل أحد قبلة فقبلة المقربين
العرش والروحانيين الكرسي والكروبيين البيت المعمور والأنبياء
قبلك بيت المقدس وقبلتك الكعبة، وهي قبلة جسدك، وأما قبلة روحك
فأنا، وقبلتي أنت كما يشير إليه
«أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي»
ْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
أين ظرف مكان تضمن معنى الشرط، وا
مزيدة وأْتِ
جوابها والمعنى في أي موضع تكونوا من المواضع الموافقة لطبعكم
كالأرض أو المخالفة كالسماء أو المجتمعة الأجزاء كالصخرة أو
المتفرقة التي يختلط بها ما فيها كالرمل يحشركم الله تعالى
إليه لجزاء أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر، والجملة معللة
لما قبلها، وفيها حث على الاستباق بالترغيب والترهيب وهي على
حد قوله تعالى: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ
مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ
أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [لقمان: 16] أو في أي
موضع تكونوا من أعماق الأرض وقلل الجبال يقبض الله تعالى
أرواحكم إليه فهي على حد قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا
يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ
مُشَيَّدَةٍ [النساء: 78] ففيها حث على الاستباق باغتنام
الفرصة فإن الموت لا يختص بمكان دون مكان، أو أَيْنَما
تَكُونُوا من الجهات المتقابلات يمنة ويسرة وشرقا وغربا يجعل
الله تعالى صلاتكم مع اختلاف جهاتها في حكم صلاة متحدة الجهة
كأنها إلى عين الكعبة أو في المسجد الحرام- فيأت بكم- مجاز عن
جعل الصلاة متحدة الجهة وفائدة الجملة المعللة حينئذ بيان حكم
الأمر بالاستباق، ومنهم من قال: الخطاب في استبقوا إما عام
للمؤمنين والكافرين، وإما خاص بالمؤمنين فعلى الأول يراد هنا
العموم أي في أي موضع تكونوا من المواضع الموافقة للحق أو
المخالفة له، وعلى الثاني الخصوص- أي أينما تكونوا في الصلاة
أيها المؤمنون من الجهات المتقابلة شمالا وجنوبا وشرقا وغربا
بعد أن تولوا جهة الكعبة يجعل الله تعالى صلاتكم كأنها إلى جهة
واحدة لاتحادكم في الجهة التي أمرتم بالاتجاه إليها- وليس بشيء
كما لا يخفى نَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
ومن ذلك إماتتكم وإحياؤكم، وجمعكم والجملة وتأكيد لما تقدم.
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ عطف على اسْتَبِقُوا
وحَيْثُ ظرف لازم الإضافة إلى الجمل غالبا، والعامل فيها ما هو
في محل الجزاء لا الشرط فهي هنا متعلقة- بولّ- والفاء صلة
للتنبيه على أن ما بعدها لازم لما قبلها لزوم الجزاء للشرط
لأن- حيث- وإن لم تكن شرطية لكنها لدلالتها على العموم أشبهت
كلمات الشرط ففيها رائحة الشرط، ولا يجوز تعلقها- بخرجت- لفظا
وإن كانت ظرفا له معنى لئلا يلزم عدم الإضافة والمعنى من أي
موضع خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ من ذلك الموضع شَطْرَ إلخ
وَمِنْ ابتدائية لأن الخروج أصل لفعل ممتد وهو المشي وكذا
التولية أصل للاستقبال وقت الصلاة الذي هو ممتد، وقيل:
إن- حيث- متعلقة- بولّ- والفاء ليست زائدة، وما بعدها يعمل
فيما قبلها كما بين في محله إلا أنه لا وجه لاجتماع الفاء
والواو فالوجه أن يكون التقدير افعل ما أمرت به من حَيْثُ
خَرَجْتَ فَوَلِّ فيكون فَوَلِّ عطفا على المقدر، ويجوز أن
يجعل- من حيث خرجت- بمعنى أينما كنت وتوجهت فيكون- فول- جزاء
له على أنها شرطية العامل فيها الشرط- ولا يخفى ما فيه من
التكلف- والتخريج على قول ضعيف لم يذهب إليه إلا الفراء وهو
شرطية- حيث- بدون- ما- حتى قالوا: إنه لم يسمع في كلام العرب،
ثم الأمر بالتولية مقيد بالقيام إلى الصلاة للإجماع على عدم
وجوب استقبال القبلة في غير ذلك.
وَإِنَّهُ أي الاستقبال أو الصرف أو التولية والتذكير باعتبار
أنها أمر من الأمور أو لتذكير الخبر أو لعدم الاعتداد
(1/414)
بتأنيث المصدر أو بذي التاء الذي لا معنى
للمجرد عنه سواء كان مصدرا أو غيره، وإرجاع الضمير للأمر
السابق واحد الأوامر على قربه بعيد لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي
الثابت الموافق للحكمة.
وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيجازيكم بذلك أحسن
الجزاء فهو وعيد للمؤمنين، وقرىء- يعملون- على صيغة الغيبة فهو
وعيد للكافرين، والجملة عطف على ما قبلها وهما اعتراض للتأكيد.
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ معطوف على مجموع قوله تعالى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
إلخ أو على قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ إلخ عطف
القصة على القصة وليس معطوفا على قوله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ الداخل تحت فاء السببية الدالة على ترتبه على قوله
تعالى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
لأنه معلل بقوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ
حُجَّةٌ وهو وإن كان علة- لولوا- لا لمحذوف- أي عرفناكم وجه
الصواب في قبلتكم- والحجة في ذلك كما قيل به: إلا أنه يفهم منه
كونه علة- لول- لأن انقطاع الحجة بالتولية إذا حصل للأمة كان
حصوله بها للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بطريق الأولى، ولو
جعل الخطاب عاما للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والأمة ولم
يلتزم تخصيصه بالأمة على حد خطابات الآية كان علة لهما وإنما
كرر هذا الحكم لتعدد علله، والحصر المستفاد من «إلا لنعلم» إلخ
إضافي أو ادعائي فإنه تعالى ذكر للتحويل ثلاث علل، تعظيم
الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بابتغاء مرضاته أولا، وجري
العادة الإلهية على أن يؤتى كل أهل ملة وجهة «ثانيا» ودفع حجج
المخالفين «ثالثا» فإن التولية إلى الكعبة تدفع احتجاج اليهود
بأن المنعوت في التوراة قبلته الكعبة لا الصخرة وهذا النبي
يصلي إلى الصخرة فلا يكون النبي الموعود، وبأنه صلى الله تعالى
عليه وسلم يدعي أنه صاحب شريعة ويتبع قبلتنا وبينهما تدافع لأن
عادته سبحانه وتعالى جارية بتخصيص كل صاحب شريعة بقبلة، وتدفع
احتجاج المشركين بأنه عليه الصلاة والسلام يدعي ملة إبراهيم
ويخالف قبلته وترك سبحانه التعميم بعد التخصيص في المرتبة
الثالثة اكتفاء بالعموم المستفاد من العلة، وزاد مِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ دفعا لتوهم مخالفة حال السفر لحال الحضر بأن يكون حال
السفر باقيا على ما كان كما في الصلاة حيث زيد في الحضر ركعتان
أو يكون مخيرا بين التوجهين كما في الصوم. وقد يقال فائدة هذا
التكرار الاعتناء بشأن الحكم لأنه من مظان الطعن وكثرة
المخالفين فيه لعدم الفرق بين النسخ والبداء، وقيل: لا تكرار
فإن الأحوال ثلاثة، كونه في المسجد، وكونه في البلد خارج
المسجد، وكونه خارج البلد، فالأول محمول على الأول، والثاني
على الثاني، والثالث على الثالث، ولا يخفى أنه مجرد تشبيه لا
يقوم عليه دليل.
إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ إخراج من الناس، وهو بدل
على المختار، والمعنى عند القائلين: بأن الاستثناء من النفي
إثبات لئلا يكون لأحد من الناس عليكم حجة إِلَّا الَّذِينَ
ظَلَمُوا بالعناد فإن لهم عليكم حجة فإن اليهود منهم يقولون ما
تحول إلى الكعبة إلا ميلا لدين قومه وحبا لبلده، والمشركين
منهم يقولون بدا له فرجع إلى قبلة آبائه، ويوشك أن يرجع إلى
دينهم، وتسمية هذه الشبهة الباطلة حجة مع أنها عبارة عن
البرهان المثبت للمقصود لكونها شبيهة بها باعتبار أنهم
يسوقونها مساقها، واعترض بأن صدر الكلام لو تناول هذا لزم
الجمع بين الحقيقة والمجاز وإلا لم يصح الاستثناء لأن الحجة
مختصة بالحقيقة، ولا محيص سوى أن يراد بالحجة المتمسك حقا كان
أو باطلا، وأجيب بأنه لم يستثن شبهتهم عن الحجة بل ذواتهم عن
الناس إلا أنه لزم تسمية شبهتهم حجة باعتبار مفهوم المخالفة
فلا حاجة إلى تناول الصدر إياها، وأنت تعلم أن مراد المعترض إن
الاستثناء وإن كان من الناس إلا أنه يثبت به ما نفي عن
المستثني منه للمستثني بناء على أن الاستثناء من النفي إثبات
فإن كان الصدر مشتملا على ما أثبت للمستثني لزم الجمع وإلا لم
(1/415)
يتحقق الاستثناء بمقتضاه إذ الثابت
للمستثنى منه شيء وللمستثني شيء آخر، ولا محيص للتفصي عن ذلك
إلا أن يراد بالحجة المتمسك أو ما يطلق عليه الحجة في الجملة
فيتحقق حينئذ الاستثناء بمقتضاه لأن الشبهة حجة بهذا المعنى
كالبرهان، ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، ولك أن تحمل
الحجة على الاحتجاج والمنازعة كما في قوله تعالى: لا حُجَّةَ
بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ [الشورى: 15] فأمر الاستثناء حينئذ واضح
إلا أن صوغ الكلام بعيد عن الاستعمال عند إرادة هذا المعنى،
وقيل: الاستثناء منقطع، وهو من تأكيد الشيء بضده وإثباته
بنفيه، والمعنى إن يكن لهم حجة فهي الظلم والظلم لا يمكن أن
يكون حجة فحجتهم غير ممكنة أصلا فهو إثبات بطريق البرهان على
حد قوله:
ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم ... «يلام» بنسيان الأحبة والوطن
وقرأ زيد بن عليّ رضي الله تعالى عنهما «ألا» بالفتح والتخفيف
وهي حرف يستفتح به الكلام لينبه السامع إلى الإصغاء،
والَّذِينَ مبتدأ خبره قوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ والفاء
زائدة فيه للتأكيد، وقيل: لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وجوز أن
يكون الموصول نصبا على شريطة التفسير، والمشهور أن- الخشية-
مرادفة للخوف أي فلا تخافوا الظالمين لأنهم لا يقدرون على نفع
ولا ضر، وجوز عود الضمير إلى الناس وفيه بعد.
وَاخْشَوْنِي أي وخافوني فلا تخالفوا أمري فإني القادر على كل
شيء، واستدل بعض أهل السنة بالآية على حرمة التقية التي يقول
بها الإمامية، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك في محله.
وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
الظاهر من حيث اللفظ أنه عطف على قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ
كأنه قيل: فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة ولأتم-
إلخ فهو علة لمذكور أي أمرتكم بذلك لأجمع لكم خير الدارين، أما
دنيا فلظهور سلطانكم على المخالفين، وأما عقبى فلإثابتكم
الثواب الأوفى ولا يرد الفصل بالاستثناء وما بعده لأنه- كلا
فصل- إذ هو من متعلق العلة الأولى، نعم اعترض ببعد المناسبة
وبأن إرادة الاهتداء المشعر بها الترجي إنما تصلح علة للأمر
بالتولية لا لفعل المأمور به كما هو الظاهر في المعطوف عليه
فالظاهر معنى جعله علة لمحذوف أي وأمرتكم بالتولية- والخشية-
لإتمام نعمتي عليكم وإرادتي اهتداءكم- والجملة المعللة معطوفة
على الجملة المعللة السابقة، أو عطف على علة مقدرة مثل
وَاخْشَوْنِي لأحفظكم ولأتم إلخ. ورجح بعضهم هذا الوجه بما
أخرجه البخاري في الأدب المفرد. والترمذي من حديث معاذ بن جبل
«تمام النعمة دخول الجنة» ولا يخفى أنه على الوجه الأول قد
يؤول الكلام إلى معنى- فاعبدوا، وصلوا متجهين شطر المسجد
الحرام لأدخلكم الجنة- والحديث لا يأبى هذا بل يطابقه حذو
القذة بالقذة فكونه مرجحا لذلك بمعزل عن التحقيق «فإن قيل» إنه
تعالى أنزل عند قرب وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِي [المائدة: 3] فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك
اليوم فكيف قال قبل ذلك بسنين في هذه الآية: وَلِأُتِمَّ
نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ؟ أجيب بأن تمام النعمة في كل وقت بما
يليق به فتدبر.
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ متصل بما قبله،
فالكاف للتشبيه وهي في موضع نصب على أنه نعت لمصدر محذوف،
والتقدير- لأتم نعمتي عليكم- في أمر القبلة أو في الآخرة
إتماما مثل إتمام إرسال الرسول، وذكر الإرسال وإرادة الإتمام
من إقامة السبب مقام المسبب، وفِيكُمْ متعلق- بأرسلنا- وقدم
على المفعول الصريح تعجيلا بإدخال السرور ولما في صفاته من
الطول، وقيل: متصل بما بعده أي اذكروني ذكرا مثل ذكري لكم
بالإرسال، أو اذكروني بدل إرسالنا فيكم رسولا فالكاف للمقابلة
متعلق باذكروني، ومنها يستفاد التشبيه لأن المتقابلين متشابهان
ومتبادلان، وإيثار صيغة المتكلم مع الغير بعد التوحيد افتنان
وجريان على سنن الكبرياء وإشارة إلى عظمة نعمة هذا
(1/416)
الإرسال، وهذا الرسول صلى الله تعالى عليه
وسلم يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا صفة رسولا، وفيه إشارة إلى
طريق إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام لأن تلاوة الأمي الآيات
الخارجة عن طوق البشر باعتبار بلاغتها واشتمالها على الأخبار
بالمغيبات والمصالح التي ينتظم بها أمر المعاد والمعاش أقوى
دليل على نبوته وَيُزَكِّيكُمْ أي يطهركم من الشرك وهي صفة
أخرى للرسول وأتى بها عقب التلاوة لأن التطهير عن ذلك ناشىء عن
إظهار المعجزة لمن أراد الله تعالى توفيقه وَيُعَلِّمُكُمُ
الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ صفة إثر صفة وأخرت لأن تعليم
الْكِتابَ وتفهيم ما انطوى عليه من الحكمة الإلهية والأسرار
الربانية إنما يكون بعد التخلي عن دنس الشرك ونجس الشك
بالاتباع، وأما قبل ذلك فالكفر حجاب، وقدم التزكية على التعليم
في هذه الآية وأخرها عنه في دعوة إبراهيم لاختلاف المراد بها
في الموضعين، ولكل مقام مقال، وقيل: التزكية عبارة عن تكميل
النفس بحسب القوة العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب
القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة إلا أنها
وسطت بين التلاوة والتعليم المترتب عليها للإيذان بأن كلّا من
الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر ولو روعي
ترتيب الوجود كما في دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لتبادر
إلى الفهم كون الكل نعمة واحدة، وقيل: قدمت التزكية تارة وأخرت
أخرى لأنها علة غائية لتعليم الْكِتابَ والحكمة، وهي مقدمة في
القصد والتصور مؤخرة في الوجود والعمل فقدمت وأخرت رعاية لكل
منهما، واعترض بأن غاية التعليم صيرورتهم أزكياء عن الجهل لا
تزكية الرسول عليه الصلاة والسلام إياها المفسرة بالحمل على ما
يصيرون به أزكياء لأن ذلك إما بتعليمه إياهم أو بأمرهم بالعمل
به فهي إما نفس التعليم أو أمر لا تعلق له به (1) ، وغاية ما
يمكن أن يقال: إن التعليم باعتبار أنه يترتب عليه زوال الشك
وسائر الرذائل تزكيته إياهم فهو باعتبار غاية وباعتبار مغيا-
كالرمي.
والقتل- في قولهم: رماه فقتله فافهم وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ
تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مما لا طريق إلى معرفته سوى الوحي وكان
الظاهر وما لَمْ تَكُونُوا ليكون من عطف المفرد على المفرد إلا
أنه تعالى كرر الفعل للدلالة على أنه جنس آخر غير مشارك لما
قبله أصلا فهو تخصيص بعد التعميم مبين لكون إرساله صلى الله
تعالى عليه وسلم نعمة عظيمة ولولاه لكان الخلق متحيرين في أمر
دينهم لا يدرون ماذا يصنعون فَاذْكُرُونِي بالطاعة قلبا وقالبا
فيعم الذكر باللسان والقلب والجوارح، فالأول- كما في المنتخب-
الحمد والتسبيح والتحميد وقراءة كتاب الله تعالى «والثاني»
الفكر في الدلائل الدالة على التكاليف والوعد والوعيد وفي
الصفات الإلهية والأسرار الربانية.
«والثالث» استغراق الجوارح في الأعمال المأمور بها خالية عن
الأعمال المنهي عنها ولكون الصلاة مشتملة على هذه الثلاثة
سماها الله تعالى ذكرا في قوله: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ
اللَّهِ [الجمعة: 9] وقال أهل الحقيقة: حقيقة ذكر الله تعالى
أن ينسى كل شيء سواه أَذْكُرْكُمْ أي أجازكم بالثواب، وعبر عن
ذلك بالذكر للمشاكلة ولأنه نتيجته ومنشؤه،
وفي الصحيحين «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في
ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه»
وَاشْكُرُوا لِي ما أنعمت به عليكم وهو- واشكروني- بمعنى ولي
أفصح مع الشكر وإنما قدم الذكر على الشكر لأن في الذكر اشتغالا
بذاته تعالى وفي الشكر اشتغالا بنعمته والاشتغال بذاته تعالى
أولى من الاشتغال بنعمته.
وَلا تَكْفُرُونِ بجحد نعمتي وعصيان أمري وأردف الأمر بهذا
النهي ليفيد عموم الأزمان وحذف ياء المتكلم تخفيفا لتناسب
الفواصل وحذفت نون الرفع للجازم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ على
الذكر والشكر وسائر الطاعات من الصوم والجهاد وترك المبالاة
__________
(1) قوله: «أو أمر لا تعلق له به» كذا بخطه ولعل حق العبارة له
تعلق به تأمل اهـ مصححه.
(1/417)
بطعن المعاندين في أمر القبلة وَالصَّلاةِ
التي هي الأصل والموجب لكمال التقرب إليه تعالى.
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ معية خاصة بالعون والنصر ولم
يقل مع المصلين لأنه إذا كان مع الصابرين كان مع المصلين من
باب أولى لاشتمال الصلاة على الصبر وَلا تَقُولُوا عطف على
اسْتَعِينُوا إلخ مسوق لبيان أنه لا غائلة للمأمور به وأن
الشهادة التي ربما يؤدي إليها الصبر حياة أبدية لِمَنْ
يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعته وإعلاء كلمته وهم
الشهداء واللام للتعليل لا للتبليغ لأنهم لم يبلغوا الشهداء
قولهم: أَمْواتٌ أي هم أموات. بَلْ أَحْياءٌ.
أي بل هم أحياء، والجملة معطوفة على لا تَقُولُوا إضراب عنه،
وليس من عطف المفرد على المفرد ليكون في حيز القول ويصير
المعنى بل- قولوا أحياء- لأن المقصود إثبات الحياة لهم لا
أمرهم بأن يقولوا في شأنهم إنهم أحياء وإن كان ذلك أيضا صحيحا
وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ. أي لا تحسون ولا تدركون ما حالهم
بالمشاعر لأنها من أحوال البرزخ التي لا يطلع عليها ولا طريق
للعلم بها إلا بالوحي- واختلف في هذه الحياة- فذهب كثير من
السلف إلى أنها حقيقية بالروح والجسد ولكنا لا ندركها في هذه
النشأة، واستدلوا بسياق قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169] وبأن الحياة الروحانية التي ليست
بالجسد ليست من خواصهم فلا يكون لهم امتياز بذلك على من عداهم،
وذهب البعض إلى أنها روحانية وكونهم يرزقون لا ينافي ذلك- فقد
روي عن الحسن- أن الشهداء أحياء عند الله تعالى تعرض أرزاقهم
على أرواحهم فيصل إليهم الرّوح (1) والفرح كما تعرض النار على
أرواح آل فرعون غدوا وعشيا فيصل إليهم الوجع، فوصول هذا الروح
إلى الروح هو الرزق والامتياز ليس بمجرد الحياة بل مع ما ينضم
إليها من اختصاصهم بمزيد القرب من الله عز شأنه ومزيد البهجة
والكرامة، وذهب البلخي إلى نفي الحياة بالفعل عنهم مطلقا-
وأخرج الجملة الاسمية الدالة على الاستمرار المستوعب للأزمنة
من وقت القتل إلى ما لا آخر له عن ظاهرها- وقال:
معنى بَلْ أَحْياءٌ إنهم يحيون يوم القيامة فيجزون أحسن
الجزاء، فالآية على حد إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار: 13، 14] وفائدة
الأخبار بذلك الرد على المشركين حيث قالوا: إن أصحاب محمد
يقتلون أنفسهم ويخرجون من الدنيا بلا فائدة ويضيعون أعمارهم
فكأنه قيل: ليس الأمر كما زعمتم بل يحيون ويخرجون، وذهب بعضهم
إلى إثبات الحياة الحكمية لهم بما نالوا من الذكر الجميل
والثناء الجليل كما
روي عن علي كرم الله تعالى وجهه هلك خزان الأموال والعلماء
باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة،
وحكي عن الأصم أن المراد بالموت والحياة الضلال والهدى أي لا
تقولوا هم أموات في الدين ضالون عن الصراط المستقيم بل هم
أحياء بالطاعة قائمون بأعبائها، ولا يخفى أن هذه الأقوال- ما
عدا الأولين- في غاية الضعف بل نهاية البطلان، والمشهور ترجيح
القول الأول، ونسب إلى ابن عباس، وقتادة، ومجاهد والحسن وعمرو
بن عبيد وواصل بن عطاء والجبائي والرماني وجماعة من المفسرين
لكنهم اختلفوا في المراد بالجسد، فقيل: هو هذا الجسد الذي هدمت
بنيته بالقتل ولا يعجز الله تعالى أن يحل به حياة تكون سبب
الحس والإدراك وإن كنا نراه رمة مطروحة على الأرض لا يتصرف ولا
يرى فيه شيء من علامات الإحياء، فقد جاء
في الحديث «إن المؤمن يفسح له مد بصره، ويقال له نم نومة
العروس»
مع أنا لا نشاهد ذلك إذ البرزخ برزخ آخر بمعزل عن أذهاننا
وإدراك قوانا. وقيل: جسد آخر على صورة الطير تتعلق الروح فيه،
واستدل بما
أخرجه عبد الرزاق عن عبد الله بن كعب بن مالك قال قال رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أرواح الشهداء في صور طير خضر
معلقة في قناديل الجنة حتى يرجعها الله تعالى يوم القيامة»
ولا يعارض هذا ما
أخرجه
__________
(1) - الروح- بفتح الراء الراحة والسرور اهـ- ادارة.
(1/418)
مالك وأحمد والترمذي وصححه والنسائي، وابن
ماجة عن كعب بن مالك: «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
قال: إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق من ثمر الجنة-
أو- شجر الجنة»
ولا ما
أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود مرفوعا «إن أرواح الشهداء
عند الله في حواصل طيور خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت، ثم
تأوي إلى قناديل تحت العرش»
لأن كونها في الأجواف أو في الحواصل يجامع كونها في تلك الصور
إذ الرائي لا يرى سواها، وقيل: جسد آخر على صور أبدانهم في
الدنيا بحيث لو رأى الرائي أحدهم لقال: رأيت فلانا- وإلى ذلك
ذهب بعض الإمامية- واستدلوا بما
أخرجه أبو جعفر مسندا إلى يونس بن ظبيان قال: كنت عند أبي عبد
الله جالسا فقال: ما تقول الناس في أرواح المؤمنين؟ قلت:
يقولون: في حواصل طير خضر في قناديل تحت العرش، فقال أبو عبد
الله:
سبحان الله! المؤمن أكرم على الله تعالى من أن يجعل روحه في
حوصلة طائر أخضر يؤنس المؤمن إذا قبضه الله تعالى صير روحه في
قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون، فإذا قدم عليهم القادم
عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا.
ووجه الاستدلال إذا كان المراد- بالمؤمنين- الشهداء ظاهر، وأما
إذا كان المراد بهم سائر من آمن فيعلم منه حال الشهداء وأن
أرواحهم ليست في الحواصل بطريق الأولى، وعندي أن الحياة في
البرزخ ثابتة لكل من يموت من شهيد وغيره، وأن الأرواح- وإن
كانت جواهر قائمة بأنفسها- مغايرة لما يحس به من البدن لكن لا
مانع من تعلقها ببدن برزخي مغاير لهذا البدن الكثيف، وليس ذلك
من التناسخ الذي ذهب إليه أهل الضلال، وإنما يكون منه لو لم
تعد إلى جسم نفسها الذي كانت فيه- والعود حاصل في النشأة
الجنانية- بل لو قلنا بعدم عودها إليه والتزمنا العود إلى جسم
مشابه لما كان في الدنيا مشتمل على الأجزاء النطقية الأصلية أو
غير مشتمل لا يلزم ذلك التناسخ أيضا لأنهم قالوه على وجه نفوا
به الحشر والمعاد، وأثبتوا فيه سرمدية عالم الكون والفساد، وأن
أرواح الشهداء يثبت لها هذا التعلق على وجه يمتازون به عمن
عداهم إما في أصل التعلق أو في نفس الحياة بناء على أنها من
المشكك لا المتواطئ، أو في نفس المتعلق به مع ما ينضم إلى ذلك
من البهجة والسرور والنعيم اللائق بهم، والذي يميل القلب إليه
أن لهاتيك الأبدان شبها تاما صوريا بهذه الأبدان، وأن المواد
مختلفة والأجزاء متفاوتة- إذ فرق بين العالمين، وشتان ما بين
البرزخين- ويمكن حمل أحاديث الطير على تشبيه هذه الأبدان الغضة
الطرية بسرعة حركتها وذهابها حيث شاءت بالطير الخضر، وتحمل
الصورة على الصفة كما حملت على ذلك
في حديث «خلق آدم على صورة الرحمن»
واستبعاد أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ما تقدم محمول على
ما يفهمه العامة من ظاهر اللفظ، ولمزيد الإيضاح اللائق بعوام
وقته عدل عنه إلى عبارة لا يتراءى منها شائبة استبعاد كما
يتراءى من ظاهر الحديث حتى أن بعض العلماء لذلك حملوا «في» فيه
على- على- وهو إما تجاهل أو جهل بأن صغر المتعلق أو ضيقه لو
كان موجودا فيما نحن فيه لا يضر الروح شيئا ولا ينافي نعيمها،
أو ظن بأن لتلك الصورة روحا غير روح- الشهيد- فلا يمكن أن
تتعلق بها روحان، والأمر على خلاف ما يظنون، وإن شئت قلت بتمثل
الروح نفسها صورة لأن الأرواح في غاية اللطافة وفيها قوة
التجسد كما يشعر به ظهور الروح الأمين عليه السلام بصورة دحية
الكلبي رضي الله تعالى عنه. وأما القول بحياة هذا الجسد الرميم
مع هدم بنيته وتفرق أجزائه وذهاب هيئته- وإن لم يكن ذلك بعيدا
عن قدرة من يبدأ الخلق ثم يعيده- لكن ليس إليه كثير حاجة، ولا
فيه مزيد فضل، ولا عظيم منة، بل ليس فيه سوى إيقاع ضعفة
المؤمنين بالشكوك والأوهام وتكليفهم من غير حاجة بالإيمان بما
يعدون قائله من سفهة الأحلام، وما يحكى من مشاهدة بعض الشهداء
الذين قتلوا منذ مائة سنين، وأنهم إلى اليوم تشخب جروحهم دما
إذا رفعت العصابة عنها فذلك مما رواه- هيان بن بيان- وما هو
إلا حديث خرافة وكلام يشهد على مصدقيه تقديم السخافة.
(1/419)
هذا ثم إن نهي المؤمنين عن أن يقولوا في
شأن الشهداء أموات، إما أن يكون دفعا لإيهام مساواتهم لغيرهم
في ذلك البرزخ- وتلك خصوصية لهم وإن شاركهم في النعيم- بل وزاد
عليهم بعض عباد الله تعالى المقربين ممن يقال في حقهم ذلك،
وإما أن يكون صيانة لهم عن النطق بكلمة قالها أعداء الدين
والمنافقون في شأن أولئك الكرام قاصدين بها أنهم حرموا من
النعيم ولم يروه أبدا، وليس في الآية نهي عن نسبة الموت إليهم
بالكلية بحيث إنهم ما ذاقوه أصلا ولا طرفة عين، وإلا لقال
تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
ماتوا، فحيث عدل عنه إلى ما ترى علم أنهم امتازوا بعد أن قتلوا
بحياة لائقة بهم مانعة عن أن يقال في شأنهم: أَمْواتٌ وعدل
سبحانه عن- قتلوا- المعبر عنه في آل عمران إلى يُقْتَلُ روما
للمبالغة في النهي، وتأكيد الفعل في تلك السورة يقوم مقام هذا
العدول هنا كما قرره بعض أحبابنا من الفضلاء المعاصرين، والآية
نزلت- كما أخرجه ابن منده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه- في
شهداء بدر وكانوا عدة لياليه ثمانية من الأنصار وستة من
المهاجرين رضي الله تعالى عنهم أجمعين وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ عطف
على قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا إلخ عطف المضمون على المضمون،
والجامع أن مضمون الأولى طلب الصبر، ومضمون الثانية بيان
مواطنه، والمراد لنعاملنكم معاملة المبتلى والمختبر، ففي
الكلام استعارة تمثيلية لأن الابتلاء حقيقة لتحصيل العلم، وهو
محال من اللطيف الخبير- والخطاب عام لسائر المؤمنين- وقيل:
للصحابة فقط، وقيل:
لأهل مكة فقط.
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ أي بقليل من ذلك، والقلة
بالنسبة لما حفظهم عنه مما لم يقع بهم وأخبرهم سبحانه به قبل
وقوعه ليوطنوا عليه نفوسهم فإن مفاجأة المكروه أشد، ويزداد
يقينهم عند مشاهدتهم له حسبما أخبر به، وليعلموا أنه شيء يسير
له عاقبة محمودة.
وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ عطف
إما على شيء ويؤيده التوافق في التنكير ومجيء البيان بعد كل
وإما على الْخَوْفِ ويؤيده قرب المعطوف عليه ودخوله تحت
بِشَيْءٍ والمراد من الْخَوْفِ خوف العدو، ومن الْجُوعِ القحط
إقامة للمسبب مقام السبب- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما،
ومن نقص الْأَمْوالِ هلاك المواشي، ومن نقص الْأَنْفُسِ ذهاب
الأحبة بالقتل والموت، ومن نقص الثَّمَراتِ تلفها بالجوائح،
ونص عليها مع أنها من الْأَمْوالِ لأنها قد لا تكون مملوكة،
وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه:
الْخَوْفِ خوف الله تعالى وَالْجُوعِ صوم رمضان، والنقص من
الْأَمْوالِ الزكوات والصدقات، ومن الْأَنْفُسِ الأمراض، ومن
الثَّمَراتِ موت الأولاد، وإطلاق الثمرة على الولد مجاز مشهور
لأن الثمرة كل ما يستفاد ويحصل، كما يقال: ثمرة العلم العمل.
وأخرج الترمذي من حديث أبي موسى وحسنه عن النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة: أقبضتم
ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون:
نعم، فيقول الله تعالى: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع،
فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد»
واعترض ما قاله الإمام بعد تسلم أن الآية نزلت قبل فرضية الصوم
والزكاة بأن خوف الله تعالى لم تزل قلوب المؤمنين مشحونة به
قبل نزول الآية، وكذا الأمراض وموت الأولاد موجودان قبل، فلا
معنى للوعد بالابتلاء بذلك، وكذا لا معنى للتعبير عن الزكاة-
وهي النمو والزيادة- بالنقص، «وأجيب بأن كون قلوب المؤمنين
مشحونة بالخوف قبل لا ينافي ابتلاءهم في الاستقبال بخوف آخر،
فإن الخوف يتضاعف بنزول الآيات، وكذا الأمراض، وموت الأولاد
أمور متجددة يصح الابتلاء بها في الآتي من الأزمان، والتعبير
عن الزكاة- بالنقص- لكونها نقصا صورة- وإن كانت زيادة معنى-
فعند الابتلاء سماها نقصا، وعند الأمر بالأداء سماها زكاة يسهل
أداؤها وَبَشِّرِ
(1/420)
الصَّابِرِينَ
خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل من تتأتى منه
البشارة، والجملة عطف على ما قبلها عطف المضمون على المضمون من
غير نظر إلى الخبرية والإنشائية- والجامع ظاهر- كأنه قيل:
الابتلاء حاصل لكم- وكذا البشارة- ولكن لمن صبر منكم. وقيل:
على محذوف أي أنذر الجازعين وبشر، وفي توصيف الصابرين بقوله
تعالى:
الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إشارة إلى أن الأجر لمن صبر وقت
إصابتها، كما
في الخبر «إنما الصبر عند أول صدمة»
والمصيبة تعم ما يصيب الإنسان من مكروه في نفس أو مال أو أهل-
قليلا كان المكروه أو كثيرا- حتى لدغ الشوكة، ولسع البعوضة،
وانقطاع الشسع، وانطفاء المصباح، وقد استرجع النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم من ذلك
وقال: «كل ما يؤذي المؤمن فهو مصيبة له وأجر»
وليس الصبر بالاسترجاع باللسان، بل الصبر باللسان وبالقلب بأن
يخطر بباله ما خلق لأجله من معرفة الله تعالى وتكميل نفسه،
وأنه راجع إلى ربه وعائد إليه بالبقاء السرمدي، ومرتحل عن هذه
الدنيا الفانية وتارك لها على علاتها، ويتذكر نعم الله تعالى
عليه ليرى ما أعطاه أضعاف ما أخذ منه فيهون على نفسه ويستسلم
له، والصبر من خواص الإنسان لأنه يتعارض فيه العقل والشهوة،
والاسترجاع من خواص هذه الأمة،
فقد أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه
قال: قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: «أعطيت أمتي شيئا لم
يعطه أحد من الأمم، أن تقول عند المصيبة إنا لله وإنا إليه
راجعون» وفي رواية «أعطيت هذه الأمة عند المصيبة شيئا لم تعطه
الأنبياء قبلهم، إنا لله وإنا إليه راجعون ولو أعطيها الأنبياء
قبلهم لأعطيها يعقوب إذ يقول: يا أسفا على يوسف»
ويسن أن يقول بعد الاسترجاع: اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي
خيرا منها،
فقد أخرج مسلم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا
إليه راجعون، اللهم آجرني إلخ، إلا آجره الله تعالى في مصيبته
وأخلف له خيرا منها» قالت فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخلف الله تعالى لي خيرا
منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
ومفعول بَشِّرِ محذوف أي برحمة عظيمة وإحسان جزيل- بدليل قوله
تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ
وَرَحْمَةٌ الصلاة في الأصل على ما عليه أكثر أهل اللغة الدعاء
ومن الله تعالى الرحمة، وقيل: الثناء، وقيل:
التعظيم، وقيل: المغفرة، وقال الإمام الغزالي: الاعتناء
بالشأن، ومعناها الذي يناسب أن يراد هنا سواء كان حقيقيا أو
مجازيا الثناء والمغفرة لأن إرادة الرحمة يستلزم التكرار،
ويخالف ما
روي «نعم العدلان للصابرين الصلاة والرحمة»
وحملها على التعظيم والاعتناء بالشأن يأباهما صيغة الجمع ثم إن
جوزنا إرادة المعنيين بتجويز عموم المشترك أو الجمع بين
الحقيقة والمجاز أو بين المعنيين المجازيين يمكن إرادة
المعنيين المذكورين كليهما وإلا فالمراد أحدهما والرحمة تقدم
معناها، وأتي بعلى إشارة إلى أنهم منغمسون في ذلك وقد غشيهم
وتجللهم فهو أبلغ من اللام، وجمع صَلَواتٌ للإشارة إلى أنها
مشتملة على أنواع كثيرة على حسب اختلاف الصفات التي بها الثناء
والمعاصي التي تتعلق بها المغفرة، وقيل: للإيذان بأن المراد
صلاة بعد صلاة على حد التثنية في «لبيك وسعديك» وفيه أن مجيء
الجمع لمجرد التكرار لم يوجد له نظير، والتنوين فيها وكذا فيما
عطف عليها للتفخيم والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى
ضميرهم لإظهار مزيد العناية بهم- ومن- ابتدائية، وقيل تبعيضية،
وثم مضاف محذوف أي من صَلَواتٌ ربهم، وأتي بالجملة اسمية
للإشارة إلى أن نزول ذلك عليهم في الدنيا والآخرة.
فقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني، والبيهقي في شعب الإيمان عن
ابن عباس رضي الله تعالى عنه مرفوعا «من استرجع عند المصيبة
جبر الله تعالى مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفا صالحا
يرضاه»
وأُولئِكَ إشارة كسابقه إلى الصابرين المنعوتين بما
(1/421)
إِنَّ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ
أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ
بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ
عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا
مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ
لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا
وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ
وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ
لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
(161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ
وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي
خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا
يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ
مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ
فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ
وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ
كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ
وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ
أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ
الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ
بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ
أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا
مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ
عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يَا
أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا
طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ
لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ
بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا
لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا
عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ
شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا
كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً
وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ
تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ
وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ
اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا
إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ
وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا
يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا
يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ
بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ
الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ
(176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ
وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ
وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى
الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا
وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ
الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ (177) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ
وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ
عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ
وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ
عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا
أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
ذكر من النعوت، والتكرير لإظهار كمال
العناية بهم، ويجوز أن يكون إشارة إليهم باعتبار حيازتهم ما
ذكر من- الصلوات والرحمة- المترتبة على ما تقدم، فعلى الأول
المراد بالاهتداء في قوله عز شأنه هُمُ الْمُهْتَدُونَ. هو
الاهتداء للحق والصواب مطلقا والجملة مقررة لما قبل كأنه قيل:
وأولئك هم المختصون بالاهتداء لكل حق وصواب، ولذلك استرجعوا
واستسلموا لقضاء الله تعالى، وعلى الثاني هو «الاهتداء» والفوز
بالمطالب، والمعنى أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ [التوبة: 20]
بمطالبهم الدينية والدنيوية فإن من نال تزكية الله تعالى
ورحمته لم يفته مطلب.
«ومن باب الإشارة والتأويل» يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
الإيمان العياني اسْتَعِينُوا بالصبر معي عند سطوات تجليات
عظمتي وكبريائي، والصلاة أي الشهود الحقيقي إِنَّ اللَّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ المطيقين لتجليات أنواري وَلا تَقُولُوا لِمَنْ
يجعل فانيا مقتولا في سلوك سبيل التوحيد أَمْواتٌ أي عجزة
مساكين بَلْ هم أَحْياءٌ عند ربهم بالحياة الحقيقية الدائمة
السرمدية شهداء لله تعالى قادرون به وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ
لعمى بصيرتكم وحرمانكم من النور الذي تبصر به القلوب أعيان
عالم القدس وحقائق الأرواح وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ
الْخَوْفِ أي خوفي الموجب لانكسار النفس وانهزامها وَالْجُوعِ
الموجب لهتك البدن وضعف القوى ورفع حجاب الهوى وتضييق مجاري
الشيطان إلى القلب وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ التي هي مواد
الشهوات المقوية للنفس الزائدة في طغيانها وَالْأَنْفُسِ
المستولية على القلب بصفاتها أو أنفس الأحباب الذين تأوون
إليهم لتنقطعوا إلي وَالثَّمَراتِ أي الملاذ النفسانية لتلتذوا
بالمكاشفات والمعارف القلبية والمشاهدات الروحية عند صفاء
بواطنكم وخلوص نضار قلوبكم بنار الرياضة وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ معي بي أو عن مألوفاتهم بلذة محبتي الَّذِينَ
إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ من تصرفاتي فيهم شاهدوا آثار
قدرتي بل أنوار تجليات صفتي واستسلموا وأيقنوا أنهم ملكي أتصرف
فيه بتجلياتي وتفانوا فيّ وشاهدوا هلكهم بي- فقالوا إنا لله
وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم- بالوجود الموهوب
لهم بعد الفناء المنهلة عليه صفاتي الساطعة عليه أنواري
وَرَحْمَةٌ أي هداية يهدون بها خلقي، ومن أراد التوجه نحوي
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ بي الواصلون إلي بعد تخلصهم من
وجودهم الذي هو الذنب الأعظم عندي.
(1/422)
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ
اللَّهِ لما أشار سبحانه فيما تقدم إلى الجهاد عقب ذلك ببيان
معالم الحج فكأنه جمع بين الحج والغزو، وفيهما شق الأنفس وتلف
الأموال، وقيل: لما ذكر الصبر عقبه ببحث الحج لما فيه من
الأمور المحتاجة إليه، والصَّفا في الأصل الحجر الأملس مأخوذ
من صفا يصفو إذا خلص، واحده صفاة- كحصى وحصاة، ونوى ونواة-
وقيل: إِنَّ الصَّفا واحد قال المبرد وهو كل حجر لا يخالطه
غيره من طين أو تراب، وأصله من الواو لأنك تقول في تثنيته
صفوان ولا يجوز إمالته، وَالْمَرْوَةَ في الأصل الحجر الأبيض
اللين- والمرو- لغة فيه، وقيل: هو جمع مثل تمرة وتمر، وثم صارا
في العرق علمين لموضعين معروفين بمكة للغلبة، واللام لازمة
فيهما، وقيل: سمي الصَّفا لأنه جلس عليه آدم صفي الله تعالى،
وسمي- المروة- لأنه جلست عليه امرأته حواء، والشعائر- جمع
شعيرة، أو شعارة- وهي العلامة- والمراد بهما أعلام المتعبدات
أو العبادات الحجية، وقيل: المعنى إن الطواف بين هذين الجبلين
من علامات دين الله تعالى، أو أنهما من المواضع التي يقام فيها
دينه، أو من علاماته التي تعبد بالسعي بينهما لا من علامات
الجاهلية فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ الحج لغة
القصد مطلقا أو إلى معظم، وقيده بعضهم بكونه على وجه التكرار،
والعمرة- الزيارة أخذا من العمارة كأن الزائر يعمر المكان
بزيارته فغلبا شرعا على المقصد المتعلق بالبيت وزيارته على
الوجهين المخصوصين، والْبَيْتَ خارج من المفهوم، والنسبة
مأخوذة فيه فلا بد من ذكره فلا يرد أن البيت مأخوذ في مفهومهما
فيكفي من حج أو اعتمر ولا حاجة إلى أن يتكلف بأنه مأخوذ في
مفهوم الاسمين خارج عن مفهوم الفعلين، وعلى تقدير أخذه في
مفهومهما يعتبر التجريد ليظهر شرف البيت فَلا جُناحَ عَلَيْهِ
أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما أي لا إثم عليه في أن يطوف. وأصل
الجناح الميل، ومنه وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ [الأنفال: 61]
وسمي الإثم به لأنه ميل من الحق إلى الباطل، وأصل يطوف يتطوف
فأدغمت التاء في الطاء، وسبب النزول ما صح عن ابن عباس رضي
الله تعالى عنه أنه كان على الصفا صنم على صورة رجل يقال له
أساف، وعلى المروة صنم على صورة امرأة تدعى نائلة زعم أهل
الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما الله تعالى حجرين فوضعا
على الصفا والمروة ليعتبر بهما فلما طالت المدة عبدا من دون
الله تعالى فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما مسحوا الوثنين
فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما
لأجل الصنمين فأنزل الله تعالى هذه الآية، ومن يعلم دفع ما
يتراءى انه لا يتصور فائدة في نفي الجناح بعد إثبات أنهما من
الشعائر بل ربما لا يتلازمان إذ أدنى مراتب الأول الندب وغاية
الثاني الإباحة، وقد وقع الإجماع على مشروعية الطواف بينهما في
الحج والعمرة لدلالة نفي الجناح عليه قطعا لكنهم اختلفوا في
الوجوب، فروي عن أحمد أنه سنة- وبه قال أنس وابن عباس وابن
الزبير- لأن نفي الجناح يدل على الجواز، والمتبادر منه عدم
اللزوم كما في قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ
يَتَراجَعا [البقرة: 230] وليس مباحا بالاتفاق ولقوله تعالى:
مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فيكون مندوبا، وضعف بأن نفي الجناح. وإن
دل على الجواز المتبادر منه- عدم اللزوم إلا أنه يجامع الوجوب
فلا يدفعه ولا ينفيه- والمقصود ذلك- فلعل هاهنا دليلا يدل على
الوجوب كما في قوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ
تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء: 101] ولعل هذا كقولك لمن
عليه صلاة الظهر مثلا وظن أنه لا يجوز فعلها عند الغروب فسأل
عن ذلك: لا جناح عليك إن صليتها في هذا الوقت فإنه جواب صحيح
لا يقتضي نفي وجوب صلاة الظهر، وعن الشافعي ومالك إنه ركن- وهو
رواية عن الإمام أحمد- واحتجوا بما
أخرج الطبراني عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم فقال: «إن الله تعالى كتب عليكم السعي فاسعوا»
ومذهب إمامنا أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه واجب يجبر
بالدم لأن الآية لا تدل إلا على نفي الإثم المستلزم للجواز،
والركنية لا تثبت إلا بدليل مقطوع به ولم يوجد، والحديث إنما
يفيد حصول الحكم معللا ومقررا في الذهن، ولا يدل على بلوغه
غاية الوجوب بحيث يفوت الجواز بفوته لتتحقق الركنية وهو ظني
السند وإن فرض
(1/424)
قطعي الدلالة فلا يدل على الفرضية، وما روى
مسلم عن عائشة أنها قالت- لعمري ما أتم الله تعالى حج من لم
يسع بين الصفا والمروة ولا عمرته- ليس فيه دليل على الفرضية
أيضا سلمنا لكنه مذهب لها، والمسألة اجتهادية فلا تلزم به على
أنه معارض بما
أخرجه الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي أنه قال: أتيت النبي صلى
الله تعالى عليه وسلم بالمزدلفة فقلت: «يا رسول الله جئت من
جبل طي ما تركت جبلا إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال: من صلي
معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف، وقد أدرك عرفة قبل ذلك
ليلا أو نهارا فقد تم حجه، وقضى تفثه»
فأخبر صلى الله تعالى عليه وسلم بتمام حجه، وليس في السعي
بينهما، ولو كان من فروضه لبينه للسائل لعلمه بجهله، وقرأ ابن
مسعود وأبيّ- أن لا يطوف- ولا تصلح أن تكون ناصرة للقول الأول
لأنها شاذة لا عمل بها مع ما يعارضها ولاحتمال أن «لا» زائدة
كما يقتضيه السياق.
وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً أي من انقاد انقيادا- خيرا أو بخير،
أو آتيا بخير- فرضا كان أو نفلا، وهو عطف على فَمَنْ حَجَّ إلخ
مؤكد أمر الحج والعمرة والطواف تأكيد الحكم الكلي للجزئي، أو
من تبرع تبرعا- خيرا- أو بخير أو آتيا بخير من حج أو عمرة أو
طواف لقرينة المساق، وعليه تكون الجملة مسوقة لإفادة شرعية
التنفل بالأمور الثلاثة، وفائدة خَيْراً على الوجهين مع أن
التطوع لا يكون إلا كذلك التنصيص بعموم الحكم بأن من فعل خيرا
أي خير كان يثاب عليه، أو من تبرع تبرعا خيرا أو بخير أو آتيا
بخير من السعي فقط بناء على أنه سنة، والجملة حينئذ تكميل لدفع
ما يتوهم من نفي الجناح من الإباحة، وفائدة القيد التنصيص
بخيرية الطواف دفعا لحرج المسلمين. وقرأ ابن مسعود- ومن تطوع
بخير- وحمزة والكسائي ويعقوب- يطوع- على صيغة المضارع المجزوم
لتضمن مِنْ معنى الشرط وأصله- يتطوع- فأدغم فَإِنَّ اللَّهَ
شاكِرٌ أي مجاز على الطاعة بالثواب وفي التعبير به مبالغة في
الإحسان إلى العباد. عَلِيمٌ. مبالغ في العلم بالأشياء فيعلم
مقادير أعمالهم وكيفياتها فلا ينقص من أجورهم شيئا، وبهذا ظهر
وجه تأخير هذه الصفة عما قبلها، ومن قال: أتى بالصفتين هاهنا-
لأن التطوع بالخير يتضمن الفعل والقصد فناسب ذكر الشكر باعتبار
الفعل وذكر العلم باعتبار القصد وأخر صفة العلم وإن كانت
متقدمة على الشكر كما أن النية متقدمة على الفعل لتواخي رؤوس
الآي- لم يأت بشيء.
وهذه الجملة علة لجواب الشرط المحذوف قائم مقامه كأنه قيل: ومن
تطوع خيرا جازاه الله تعالى أو أثابه فإن الله شاكر عليم-
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ اخرج جماعة عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنه قال: سأل معاذ بن جبل وسعد بن معاذ. وخارجة بن زيد
نفرا من أحبار يهود عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه وأبوا
أن يخبروهم فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية، وعن قتادة أنها
نزلت في الكاتمين من اليهود والنصارى، وقيل: نزلت في كل من كتم
شيئا من أحكام الدين لعموم الحكم للكل فقد روى البخاري وابن
ماجة وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: لولا
آية في كتاب الله تعالى ما حدثت أحدا بشيء أبدا ثم تلا هذه
الآية،
وأخرج أبو يعلى والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من سئل
عن علم فكتمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار»
والأقرب أنها نزلت في اليهود والحكم عام كما تدل عليه الأخبار
وكونها نزلت في اليهود لا يقتضي الخصوص فإن العبرة لعموم اللفظ
لا لخصوص السبب، فالموصول للاستغراق ويدخل فيه من ذكر دخولا
أوليا، والكتم والكتمان ترك إظهار الشيء قصدا مع مساس الحاجة
إليه وتحقق الداعي إلى إظهاره وذلك قد يكون بمجرد ستره وإخفائه
وقد يكون بإزالته ووضع شيء آخر موضعه واليهود قاتلهم الله
تعالى ارتكبوا كلا الأمرين ما أَنْزَلْنا على الأنبياء مِنَ
الْبَيِّناتِ أي الآيات الواضحة الدالة على الحق ومن ذلك ما
أنزلناه على موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام في أمر محمد
صلّى الله عليه وسلّم.
(1/425)
وَالْهُدى عطف على الْبَيِّناتِ والمراد
به- ما يهدي- إلى الرشد مطلقا ومنه- ما يهدي- إلى وجوب اتباعه
صلى الله تعالى عليه وسلم والإيمان به وهي الآيات الشاهدة على
صدقه عليه الصلاة والسلام، والعطف باعتبار التغاير في المفهوم
كجاءني الآكل فالشارب، وقيل: إنه عطف على ما أَنْزَلْنا إلخ،
والمراد بالأول الأدلة النقلية، وبالثاني ما يدخل فيه الأدلة
العقلية، أو المراد بالأول التنزيل، وبالثاني ما يقتضيه من
الفوائد، ولا يخفى أنه تكلف يأبى عنه قرب المعطوف عليه
والتبيين الدال على كمال الوضوح في قوله سبحانه: مِنْ بَعْدِ
ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ أي شرحناه وأظهرناه لهم والظرف
متعلق- بيكتمون- واللام في- الناس- صلة- بينا- أو لام الأجل،
والمراد بهم الجنس أو الاستغراق، وفي تقييد الكتمان بالظرف
إشارة إلى شناعة حالهم بأنهم يكتمون ما وضح- للناس- وإلى عظم
الإثم بأنهم يكتمون ما فيه النفع العام فِي الْكِتابِ متعلق-
ببيناه- وتعلق جارين بفعل واحد عند اختلاف المعنى مما لا ريب
في جوازه، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعوله، والمراد به
الجنس، وقيل: التوراة، وقيل: هي والإنجيل، وقيل: القرآن،
والمراد من الناس أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن
الناس من حمل- البينات- على ما في القرآن وعلق مِنْ بَعْدِ ب
أَنْزَلْنا، وفسر الْكِتابِ بالتوراة- والكتمان- بعدم الاعتراف
بالحقية، ولعل ما ذهبنا إليه أولى من جميع ذلك أُولئِكَ
يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ أي يبعدهم عن رحمته ويذيقهم أليم نقمته
والالتفات إلى الغيبة بإظهار اسم الذات لتربية المهابة
والإشعار بأن مبدأ صدور اللعن صفة الجلال المغايرة لما هو مبدأ
الإنزال والتبيين من صفة الجمال، ولم يؤت بالفاء في هذه الجملة
التي هي خبر الموصول كما أتي به فيما بعد من قوله سبحانه:
فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ مع أن الموصول متضمن لمعنى
الشرط وقصد السببية في الموضعين ولذا أورد اسم الإشارة الذي
تعليق الحكم به كتعليقه بالمشتق، قيل: لئلا يتوهم أن- لعنهم-
إنما هو بهذا السبب بناء على أن- فاء- السببية في الأصل لكونه-
فاء- التعقيب يفيد أن حصول المسبب بعد السبب بلا تراخ، وقد
يقصد منه ذلك بمعونة المقام كما في الآية بعد، وليس كذلك بل له
أسباب جمة وبهذا علم أن اسم الإشارة لا يغني عن الفاء لأنه
يشعر بالسببية ولا يشعر بالتعقيب الموهم للانحصار بناء على
امتناع التوارد.
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ أي من يتأتى منه اللعن عليهم من
الملائكة والثقلين، فالمراد- باللاعنون- معناه الحقيقي وليس
على حد من- قتل قتيلا- في المشهور والاستغراق عرفي أي كل فرد
مما يتناوله اللفظ بحسب متفاهم العرف، وليس بحقيقي حتى يرد أنه
لا يلعنهم كل لاعن في الدنيا، ويحتاج إلى التخصيص وإنما أعاد
الفعل لأن لعنة اللاعنين بمعنى الدعاء عليهم بالإبعاد عن رحمة
الله تعالى، وروى البيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد تفسير
اللاعنين بدواب الأرض حتى العقارب والخنافس، ولعل الجمع حينئذ
على حد قوله تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي
ساجِدِينَ [يوسف: 4] واستدل بهذه الآية على وجوب إظهار علم
الشريعة وحرمة كتمانه لكن اشترطوا لذلك أن لا يخشى العالم على
نفسه وأن يكون متعينا وإلا لم يحرم عليه الكتم إلا إن سئل
فيتعين عليه الجواب ما لم يكن إثمه أكبر من نفعه قالوا: وفيها
دليل أيضا على وجوب قبول خبر الواحد لأنه لا يجب عليه البيان
إلا وقد وجب قبول قوله، وقد يستدل بها على عدم وجوب ذلك على
النساء بناء على أنهن لا يدخلن في خطاب الرجال.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أي رجعوا عن الكتمان أو عنه وعن سائر
ما يجب أن يتاب عنه بناء على أن حذف المعمول يفيد العموم، وفيه
إشارة إلى أن التوبة عن الكتمان فقط لا يوجب صرف اللعن عنهم ما
لم يتوبوا عن الجميع فإن للعنهم أسبابا جمة وَأَصْلَحُوا ما
أفسدوا بالتدارك فيما يتعلق بحقوق الحق والخلق ومن ذلك أن
يصلحوا قومهم بالإرشاد إلى الإسلام بعد الإضلال وأن يزيلوا
الكلام المحرف ويكتبوا مكانه ما كانوا أزالوه عند التحريف
وَبَيَّنُوا
(1/426)
أي أظهروا ما بينه الله تعالى للناس معاينة
وبهذين الأمرين تتم التوبة، وقيل: أظهروا ما أحدثوه من التوبة
ليمحوا سمة الكفر عن أنفسهم ويقتدي بهم أضرابهم فإن إظهار
التوبة ممن يقتدي به شرط فيها على ما يشير إليه بعض الآثار،
وفيه إن الصحيح أن إظهار التوبة إنما هو لدفع معصية المتابعة
وليس شرطا في التوبة عن أصل المعصية فهو داخل في قوله تعالى:
وَأَصْلَحُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ بالقبول وإفاضة
المغفرة والرحمة وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ عطف على ما
قبله تذييل له والالتفات إلى التكلم للإفتنان مع ما فيه من
الرمز إلى اختلاف مبدأ فعليه السابق واللاحق إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ الموصول للعهد كما هو
الأصل، والمراد به الذين كتموا وعبر عن الكتمان بالكفر نعيا
عليهم به، والجملة عديلة لما فيها إِلَّا ولم تعطف عليها إشارة
إلى كمال التباين بين الفريقين، والآية مشتملة على الجمع
والتفريق جمع الكاتمين في حكم واحد وهو أنهم ملعونون ثم فرق
فقال: أما الذين تابوا فقد تاب الله تعالى عليهم وأزال عنهم
عقوبة اللعنة، وأما الذين ماتوا على الكتمان ولم يتوبوا عنه
فقد استقرت عليهم اللعنة ولم تزل عنهم.
وأورد كلمة الاستثناء في الجملة الأولى مع أنه ليس للإخراج عن
الحكم السابق بل هو بمعنى لكن للدلالة على أن التوبة صارت
مكفرة للعن عنهم فكأنهم لم يباشروا ولم يدخلوا تحته- قاله بعض
المحققين- وفيه ارتكاب خلاف الظاهر في الاستثناء ولهذا قال
البعض إن المراد بالجملة المستثنى منها بيان دوام اللعن
واستمراره وعليه يدور الاستثناء المتصل، وجملة إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا إلخ مستأنفة سيقت لتحقيق بقاء اللعن فيما وراء
الاستثناء وتأكيد دوامه واستمراره على غير التائبين والاقتصار
على ذكر الكفر في الصلة من غير تعرض لعدم التوبة والإصلاح
والتبيين مبني على أن وجود الكفر مستلزم لعدمها جميعها كما أن
وجودها مستلزم للإيمان الموجب لعدم الكفر، ولذا لم يصرح
بالإيمان في صفات التائبين، والفرق بين الدوامين أن الأول
تجددي، والثاني ثبوتي- ولا يخفى أن هذا أوفق بظاهر اللفظ- وما
ذكره بعض المحققين أجزل معنى وأعلى كعبا وأدق نظرا، وقيل:
الموصول عام للذين كتموا وغيرهم كما يقتضيه ظاهر الصلة، والآية
من باب التذييل فيدخل الكاتمون الذين ماتوا على الكتمان دخولا
أوليا، واعترض بأن تقييد الوعيد بعدم التخفيف أعدل شاهد على أن
الآية في شأن الكاتمين الذين ماتوا على ذلك لأنهم أشد الكفرة
وأخبثهم فإن الوعيد في حق الكفرة مطلق الخلود في النار، وأنت
تعلم أن هذا في حيز المنع بل ما من كافر جهنمي إلا وحاله يوم
القيامة طبق ما ذكر في الآية ولا أظنك في مرية من ذلك بعد سماع
قوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ
خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ
[الزخرف: 75] فلا يبعد القول بحسن هذا القيل- وإليه ذهب
الإمام- وكلام الطيبي يشير إلى حسنه وطيبه فتدبر.
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ المراد استمرار ذلك ودوامه فهذا الحكم
غير ما سبق إذ المراد منه حدوث اللعنة ووقوعها عليهم وليس
المقصود من ذكر- الملائكة والناس- التخصيص لينافي العموم
السابق ولا العموم ليرد خروج المهيمين الذين لا شعور لهم
بذواتهم وكثير من الأتقياء الذين لا يلعنون أحدا بل المقصود
أنه يلعنهم هؤلاء المتعدون من خلقه وأَجْمَعِينَ تأكيد بالنسبة
إلى الكل لا للناس فقط، والمراد بهم المؤمنون لأنهم المعتدّون
منهم، والكفار كالإنعام لأنه لا يحسم مادة الإشكال، وقيل: إنه
باق على عمومه والكفار يلعن بعضهم بعضا يوم القيامة، أو الجملة
مساقة للإخبار باستحقاق أولئك اللعن من العموم لا بوقوعه
بالفعل ولم يكرر اللعنة هنا كما كرر الفعل قبل اكتفاء به
وافتنانا في النظم الكريم ومناسبة لما يشعر به التأكيد. وقرأ
الحسن- والملائكة والناس أجمعون- بالرفع، وخرج على وجوه، فقيل:
عطف على لَعْنَةُ بتقدير لعنة الله ولعنة الملائكة فحذف المضاف
من الثاني وأقيم المضاف إليه مقامه، وقيل: مبتدأ محذوف الخبر
أي- والملائكة، والناس يلعنونهم- أو فاعل لفعل محذوف أي
(1/427)
يلعنهم، وقيل إن لَعْنَةُ مصدر مضاف إلى
فاعله والمرفوع معطوف على محله، وقد أتبعت العرب فاعل المصدر
على محله رفعا كقوله:
مشى الهلوك عليها الخيعل «الفضل» برفع الفضل وهو صفة للهلوك
على الموضع، وإذا ثبت في النعت جاز في العطف إذ لا فارق
بينهما، وادعى أبو حيان عدم الجواز لأن شرط العطف على الموضع
أن يكون ثمت طالب ومحرز للموضع لا يتغير، وأيضا لَعْنَةُ وإن
سلم مصدريته فهو إنما يعمل إذا انحل- لأن، والفعل- وهنا
المقصود الثبوت فلا يصح انحلاله لهما وسلمه له غيره، وقالوا:
إنه مذهب سيبويه خالِدِينَ فِيها أي في اللعنة، وهو يؤكد ما
تفيده اسمية الجملة من الثبات، وجوز رجوع الضمير إلى النار
والإضمار قبل الذكر يدل على حضورها في الذهن المشعر بالاعتناء
المفضي إلى التفخيم والتهويل، وقيل: إن اللعن يدل عليها إذ
استقرار الطرد عن الرحمة يستلزم الخلود في النار خارجا وذهنا،
والموت على الكفر وإن استلزم ذلك خارجا لكنه لا يستلزمه ذهنا
فلا يدل عليه، وخالِدِينَ على كلا التقديرين في المرجع حال
مقارن لاستقرار اللعنة لا كما قيل: إنه على الثاني حال مقدرة
لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ إما مستأنف لبيان كثرة عذابهم
من حيث الكيف إثر بيانه كثرته من حيث الكم، وإما حال من ضمير
عليهم أيضا أو من ضمير خالِدِينَ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ عطف
على ما قبله جار فيه ما جرى فيه، وإيثار الجملة الاسمية لإفادة
دوام النفي واستمراره، والفعل إما من الإنظار بمعنى التأخير-
أي لا يمهلون- عن العذاب ولا يؤخرون عنه ساعة.
وإما من النظر بمعنى الانتظار أي- لا ينتظرون- ليعتذروا، وإما
من النظر بمعنى الرؤية أي- لا ينظر الله تعالى إليهم نظر رحمة-
والنظر بهذا المعنى يتعدى بنفسه أيضا كما في الأساس فيصاغ منه
المجهول. وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ نزلت كما روي عن ابن عباس
لما قال كفار قريش للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: صف لنا
ربك، والخطاب عام لكل من يصح أن يخاطب كما هو الظاهر غير مختص
بشأن النزول، والجملة معطوفة على إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ
عطف القصة على القصة، والجامع أن الأولى مسوقة لإثبات نبوته
صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذه لإثبات وحدانيته تعالى، وقيل:
الخطاب للكاتمين، وفيه انتقال عن زجرهم عما يعاملون رسولهم إلى
زجرهم عن معاملتهم ربهم حيث يكتمون وحدانيته، ويقولون: عزير،
وعيسى- ابنان لله عز وجل، وفيه أنه وإن حسن الانتظام إلا أنه
فيه خروج شأن النزول عن الآية- وهو باطل- وإضافة- إله- إلى
ضمير المخاطبين باعتبار الاستحقاق لا باعتبار الوقوع فإن
الآلهة الغير المستحقة كثيرة، وإعادة لفظ- إله- وتوصيفه
بالوحدة لإفادة أن المعتبر الوحدة في الألوهية، واستحقاق
العبادة، ولولا ذلك لكفي- وإلهكم واحد- فهو بمنزلة وصفهم
الرجل- بأنه سيد واحد، وعالم واحد- وقال أبو البقاء: إله- خبر
المبتدأ، وواحِدٌ صفة له، والغرض هنا هو الصفة إذ لو قال:-
وإلهكم واحد- لكان هو المقصود إلا أن في ذكره زيادة تأكيد،
وهذا يشبه الحال الموطئة كقولك: مررت بزيد رجلا صالحا، وكقولك
في الخبر: زيد شخص صالح، ولعل الأول ألطف، وأكثر الناس على أن
الواحد هنا بمعنى لا نظير له ولا شبيه في ذاته ولا في صفاته
ولا في أفعاله، وقيل: إن المراد به ما ليس بذي أبعاض ولا يجوز
عليه الانقسام ولا يحتمل التجزئة أصلا، وليس المعنى به هنا
مبدأ العدد، وأصح الأقوال عند ذوي العقول السليمة أنه الذي لا
نظير له ولا شبيه له في استحقاق العبادة، وهو مستلزم لكل كمال
آب عما فيه أدنى وصمة وإخلال لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خبر ثان
للمبتدأ أو صفة أخرى للخبر أو جملة معترضة لا محل لها من
الإعراب، وعلى أي تقدير هو مقرر للوحدانية، ومزيح- على ما قيل-
لما عسى أن يتوهم أن في الوجود إلها لكن لا يستحق العبادة،
والضمير المرفوع على الصحيح بدل من الضمير المستكن في الخبر
المحذوف فهو بدل مرفوع من ضمير مرفوع، وقد اختلف في المنفي هل
المعبود بحق أو المبعود بباطل، فقال محمد الشيشيني: النفي إنما
تسلط
(1/428)
على الآلهة المعبودة بباطل تنزيلا لها
منزلة العدم، وقال عبد الله الهبطي: إنما تسلط على الآلهة
المعبودة بحق ولك انتصر بعض، وذكر الملوي أن الحق مع الثاني
لأن المعبود بباطل له وجود في الخارج، ووجود في ذهن المؤمن
بوصف كونه باطلا، ووجود في ذهن الكافر بوصف كونه حقا فهو من
حيث وجوده في الخارج في نفسه لا تنفى لأن الذات لا تنفى، وكذا
من حيث كونه معبودا بباطل لا ينفى أيضا إذ كونه معبودا بباطل
أمر حق لا يصح نفيه وإلا كان كذبا، وإنما ينفى من حيث وجوده في
ذهن الكافر من حيث وجوده في ذهنه بوصف كونه معبودا بحق،
فالمعبودات الباطلة لم تنف إلا من حيث كونها معبودة بحق لم ينف
في هذه الكلمة إلا المعبود بحق غيره تعالى فافهم، وسيأتي تحقيق
ما في هذه الكلمة الطيبة في محله إن شاء الله تعالى:
الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. خبران آخران بعد خبر أو خبرين لقوله
تعالى إِلهُكُمْ أو لمبتدأ محذوف والجملة معترضة، أو بدلان على
رأي وجيء بهما لتمييز الذات الموصوفة بالوحدة عما سواه وليكون
الجواب، موافقا لما سألوه وفي ذلك إشارة إلى حجة الوحدانية
لأنه لما كان مولى النعم كلها أصولا وفروعا دنيا وأخرى، وما
سواه إما خير محض أو خير غالب، وهو إما نعمة أو منعم عليه لم
يستحق العبادة أحد غيره لاستواء الكل في الاحتياج إليه تعالى
في الوجود وما يتبعه من الكمالات.
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أخرج البيهقي عن أبي
الضحى- معضلا- أنه كان للمشركين حول الكعبة ثلاثمائة وستون
صنما، فلما سمعوا هذه الآية تعجبوا وقالوا: إن كنت صادقا فأت
بآية نعرف بها صدقك، فنزلت.
ولفرط جهلهم لم يكفهم الحجة الإجمالية المشير إليها الوصفان،
وإنما جمع السَّماواتِ وأفرد الْأَرْضِ للانتفاع بجميع أجزاء
الأولى باعتبار ما فيها من نور كواكبها وغيره دون الثانية فإنه
إنما ينتفع بواحدة من آحادها- وهي ما نشاهده منها- وقال أبو
حيان: لم تجمع الْأَرْضِ لأن جمعها ثقيل وهو مخالف للقياس، ورب
مفرد لم يقع في القرآن جمعه لثقله وخفة المفرد، وجمع لم يقع
مفرده- كالألباب- وفي المثل السائر نحوه، وقال بعض المحققين:
جمع السَّماواتِ لأنها طبقات ممتازة كل واحدة من الأخرى بذاتها
الشخصية كما يدل عليه قوله تعالى:
فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة: 29] سواء كانت متماسة-
كما هو رأي الحكيم- أو لا، كما جاء في الآثار- أن بين كل
سماءين مسيرة خمسمائة عام- مختلفة الحقيقة لما أن الاختلاف في
الآثار المشار إليه بقوله تعالى: وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ
أَمْرَها [فصلت: 12] يدل عليه، ولم يجمع الْأَرْضِ لأن طبقاتها
ليست متصفة بجميع ذلك فإنها سواء كانت متفاصلة بذواتها، كما
ورد في الأحاديث- من أن بين كل أرضين كما بين كل سماءين- أو لا
تكون متفاصلة- كما هو رأي الحكيم- غير مختلفة في الحقيقة
اتفاقا.
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي تعاقبهما وكون كل منهما
خلفا للآخر، أو اخْتِلافِ كل منهما في أنفسهما إزديادا
وانتقاصا، أو ظلمة ونورا، وقدم اللَّيْلِ لسبقه في الخلق أو
لشرفه.
وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ عطف على خَلْقِ
السَّماواتِ لا على السَّماواتِ أو عطف على اللَّيْلِ
وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ من الألفاظ التي استعملت مفردا وجمعا،
وقدر بينهما تغاير اعتباري، فإن اعتبر أن ضمته أصلية كضمة-
قفل- فمفرد، وإن اعتبر أنها عارضة كضمة- أسد- فجمع، ومن الأول
قوله تعالى: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [الشعراء: 119] ومن
الثاني قوله تعالى: إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ
بِهِمْ [يونس: 22] وقيل: إنه جمع فلك- بفتح الفاء وسكون اللام-
وقيل: إنه اسم جمع، وزعم بعضهم أنه قرىء «فلك» بضمتين وهو عند
بعض مفرد لا غير وقال الكواشي: الفلك، والفلك- بضمتين- لغتان
الواحد والجمع سواء في اللفظ، ويعرف ذلك بجمع ضمير فعلهما
وإفراده.
(1/429)
بِما يَنْفَعُ النَّاسَ «ما» إما مصدرية
أي- بنفعهم- أو موصولة أي- بالذي ينفعهم- وعلى الأول ضمير
الفاعل إما- للفلك- لأنه مذكر اللفظ مؤنث المعنى- كما قيل- أو-
للجري- أو- للبحر- واحتمال كونها موصوفة لا يلائمه مقام
الاستدلال وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ عطف
على الْفُلْكِ قيل: وتأخيره عن ذكرها مع كونه أعم منها نفعا
لما فيه من مزيد تفضيل، وقيل: المقصود من الأول الاستدلال ب
الْبَحْرِ وأحواله لا ب الْفُلْكِ الجاري فيه لأن الاستدلال
بذلك إما بصنعته على وجه يجري في الماء، أو العلم بكيفية
اجرائه، أو- بتسخير الريح والبحر- لذلك، أو توسله إلى بِما
يَنْفَعُ النَّاسَ وشيء منها ليس من حاله في نفس، ولأن
الاستدلال- بالفلك الجاري في البحر- استدلال بحال من أحوال
الْبَحْرِ بخلاف ما لو استدل ب الْبَحْرِ وجميع أحواله فإنه
أعم وأليق بالمقام، إلا أنه خص الْفُلْكِ بالذكر مع أن مقتضى
المقام حينئذ أن يقال: والعجائب التي في البحر- لأنه سبب
الإطلاع على أحواله وعجائبه- فكان ذكره ذكرا لجميع أحواله،
وطريقا إلى العلم بوجوه دلالته، ولذلك قدم على ذكر- المطر
والسحاب- لأن منشأهما البحر في غالب الأمر، وإلا فالمناسب بعد
ذكر اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ الذي هو من الآيات
العلوية ذكر- المطر والسحاب- اللذين هما من كائنات الجو وعدم
نظم الْفُلْكِ في البين لكونها من الآيات السفلية. وعندي أن
هذا خلاف الظاهر جدا- وإن جل قائله- إذ يؤول المعنى إلى-
والبحر الذي تجري فيه الفلك بما ينفع الناس- وهو قلب للنظم
الكريم بغير داع إليه ولا دليل يعول عليه، وأي مانع من كون
الاستدلال باختلاف الفلك وذهابها مرة كذا ومرة كذا على حسب ما
تحركها المقادير الإلهية، أو بالفلك الجارية في البحر من حيث
إنها جارية فيه موقرة مقبلة ومدبرة، متعلقة بحبال الهواء على
لطفه، وكثافتها لا ترسب إلى قاع البحر مع تلاطم أمواجه واضطراب
لججه، وكون شيء من ذلك ليس حالا لها في نفسها غير مسلم، ووجه
الترتيب- على ما أرى- أنه سبحانه ذكر أولا خلق أمرين علوي
وسفلي، واختلاف شيئين بمدخلية أمرين سماوي وأرضي «ثانيا» إذ
تعاقب الليل والنهار أو اختلافهما ازديادا وانتقاصا أو ظلمة
ونورا إنما هو بمدخلية سير الفلك وحيلولة جرم الأرض على
كيفيتين مخصوصتين، ثم عقب ذلك بما يشبه آيتي الليل والنهار
السابح كل منهما في لجة بحر فلكه الدوار المسخر بالجريان فيه
ذهابا وإيابا بِما يَنْفَعُ النَّاسَ في أمر معاشهم وانتظام
أحوالهم، وهو الْفُلْكِ التي تجري على كبد الْبَحْرِ بذلك،
ويختلف جريانها شرقا وغربا على حسب تسليك المقادير الإلهية لها
في هاتيك المسالك، فالآية حينئذ على حد قوله تعالى: وَآيَةٌ
لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ
مُظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ
تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ
مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لَا
الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا
اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ [يس: 37- 41] إلا أن الفرق بين الآيتين أن
الآيتين في الثانية ذكرتا متوسطتين صريحا بين حديث الفلك وشأن
الليل والنهار، وفي الأولى تقدم ما يشعر بهما ويشير إليهما، ثم
عقب ذلك بما يشترك فيه العالم العلوي والعالم السفلي، وله
مناسبة لذكر الْبَحْرِ بل ولذكر الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فيه
بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وهو إنزال الماء من السماء ونشر ما كان
دفينا في الأرض بالإحياء، وفي ذلك النفع التام والفضل العام.
ومِنَ الأولى ابتدائية والثانية بيانية، وجوّز أن
تكون تبعيضية وأن تكون بدلا من الأولى، والمراد من السَّماءِ
جهة العلو، وقد تقدم تحقيق ذلك فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بتهييج
قواها النامية، وإظهار ما أودع فيها من أنواع النبات والأزهار
والأشجار بَعْدَ مَوْتِها وعدم ظهور ذلك فيها لاستيلاء اليبوسة
عليها حسبما تقتضيه طبيعتها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ
عطف إما على أَنْزَلَ والجامع كون كل منهما آية مستقلة
لوحدانيته تعالى وهو الغرض المسوق له الكلام مع الاشتراك في
الفاعل، وفَأَحْيا من تتمة الأول كان الاستدلال بالإنزال
المسبب عنه الإحياء فلا يكون الفصل به مانعا للعطف، إما على
«أحيا» فيدخل تحت فاء السببية، وسببية إنزال «الماء»
(1/430)
للبث باعتبار أن الماء سبب حياة المواشي
والدواب- والبث- فرع الحياة، ولا يحتاج إلى تقدير الضمير للربط
لا غناء فاء السببية عنه في المشهور، وقيل: يحتاج إلى تقدير
به- أي بالماء- ليشعر بارتباطه ب أَنْزَلَ استقلالا كأحيا وفاء
السببية لا تكفي في ذلك إذ يجوز أن يكون السبب مجموعهما، وحديث
أن المجرور إنما يحذف إن جر الموصول بمثله أكثري لا كلي، و
«من» بيانية على التقدير الأول على الصحيح، والمراد مِنْ كُلِّ
دَابَّةٍ كل نوع من الدواب، ومعنى- بثها- تكثيرها بالتوالد
والتولد، فالاستدلال بتكثير كل نوع مما يدب على الأرض وعدم
انحصاره في البعض، وقيل: تبعيضية لأن الله تعالى لم يبث إلا
بعض الأفراد بالنسبة إلى ما في قدرته، على أنه أثبت الزمخشري
دواب في السماء أيضا في سورة «حمعسق» ، وفيه أن بث كل نوع مما
يدب على الأرض لا ينافي كون بعض أفراده مقدرا ولا وجوده في
السماء، على أن مدلول التبعيضية كون شيء جزءا من مدخولها لا
فردا منه، وزائدة على التقدير الثاني لعدم تقدم المبين، وعدم
صحة التبعيض، وهي زيادة في الإثبات لم يجوزها سوى الأخفش
وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ أي تقليب الله تعالى لها جنوبا وشمالا
وقبولا ودبورا، حارة. وباردة. وعاصفة. ولينة. وعقيما. ولواقح،
وتارة بالرحمة ومرة بالعذاب، وقرأ حمزة والكسائي الريح على
الإفراد وأريد به الجنس، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما-
الرياح- للرحمة والريح للعذاب،
وروي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا هبت ريح «قال:
اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا»
ولعله قصد بالأول، والثاني قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ [الروم: 46] وقوله تعالى:
وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ
[الذاريات: 41] وعقب إحياء الأرض بالمطر، وبث كل دابة فيها
بتصريف الرياح لأن في ذلك تربية النبات وبقاء حياة الحيوانات
التي تدب على وجه الأرض ولو أمسك الله تعالى الريح ساعة لأنتن
ما بين السماء والأرض كما نطق به بعض الآثار وَالسَّحابِ عطف
على ما قبله، وهو اسم جنس واحده سحابة سمي بذلك لانسحابه في
الجو أو لجر الرياح له الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ صفة- للسحاب- باعتبار لفظه، وقد يعتبر معناه فيوصف
بالجمع ك سَحاباً ثِقالًا [الأعراف: 57] و «بين» ظرف لغو متعلق
بالمسخر ومعنى تسخيره أنه لا ينزل ولا يزول مع أن الطبع يقتضي
صعوده إن كان لطيفا وهبوطه إن كان كثيفا، وقيل: الظرف مستقر
وقع حالا من ضمير المسخر ومتعلقه محذوف أي المسخر للرياح حيث
تقلبه في الجو بمشيئة الله تعالى، وتوقيت تصريف الرياح بالسحاب
لأنه كالمعلول للرياح كما يشير إليه قوله تعالى: اللَّهُ
الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [الروم: 48،
فاطر:
9] ولأن في جعله ختم المتعاطفات مراعاة في الجملة لما بدىء به
منها لأنه أرضي سماوي فينتظم بدء الكلام وختمه، وبما ذكرنا علم
وجه الترتيب في الآية، وقال بعض الفضلاء: لعل تأخير تصريف
الرياح وتسخير السحاب في الذكر عن جريان الفلك وإنزال الماء مع
انعكاس الترتيب الخارجي للإشعار باستقلال كل من الأمور
المعدودة في كونها آية ولو روعي الترتيب الخارجي لربما توهم
كون المجموع المرتب بعضه على بعض آية واحدة، ولا يخفى أنه يبعد
هذا التوهم ظاهر قوله تعالى: لَآياتٍ اسم «إن» دخلته- اللام-
لتأخره عن خبرها والتنكير للتفخيم كما وكيفا أي آيات عظيمة
كثيرة دالة على القدرة القاهرة والحكمة الباهرة والرحمة
الواسعة المقتضية لاختصاص الإلهية به سبحانه لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ أي يتفكرون، فالعقل مجاز عن التفكر الذي هو ثمرته،
أخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها
أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما قرأ هذه الآية قال:
«ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها»
وفيها تعريض بجعل المشركين الذين اقترحوا على النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم آية تصدقه وتسجيل عليهم بسخافة العقول، وإلا
فمن تأمل في تلك الآيات وجد كلا منها مشتملا على وجوه كثيرة من
الدلالة على وجوده تعالى ووحدانيته وسائر صفاته الكمالية
الموجبة لتخصيص العبادة به تعالى واستغنى عن سائرها، ومجمل
القول في ذلك أن كل واحد من هذه الأمور المعدودة قد وجد على
وجه خاص من الوجوه الممكنة دون ما عداه مستتبعا لآثار معينة،
(1/431)
وأحكام مخصوصة من غير أن تقتضي ذاته وجوده
فضلا عن وجوده على النمط الكذائي فإذا لا بد له من موجد
لامتناع وجود الممكن بلا موجد، قادر إن شاء فعل وإن لم يشأ لم
يفعل، حكيم عالم بحقائق الأشياء وما فيها من المفاسد والمصالح
يوجده حسبما يستدعيه علمه بما فيه من المصلحة وتقتضيه مشيئته،
متعال عن مقابلة غيره إذ لو كان معه واجب يقدر على ما يقدر
الحق تعالى عليه فإن وافقت إرادة كل منهما إيجاده على وجه
مخصوص أراده الآخر فالتأثير إن كان لكل منهما لزم اجتماع
فاعلين على أثر واحد وهو يستلزم اجتماع العلتين التامتين، وإن
كان الفعل لأحدهما لزم ترجيح الفاعل من غير مرجح لاستوائهما في
إرادة إيجاده على الاستقلال، وعجز الآخر لما أن الفاعل سد عليه
إيقاع ما أراده، وإن اختلفت الإرادتان بأن أراد أحدهما وجوده
على نحو، وأراد الآخر وجوده على نحو آخر لزم التمانع والتطارد
لعدم المرجح فيلزم عجزهما والعجز مناف للألوهية بديهة، وفي
الآية إثبات الاستدلال بالحجج العقلية وتنبيه على شرف علم
الكلام وفضل أهله وربما أشارت إلى شرف علم الهيئة.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً
بيان لحال المشركين بعد بيان الدلائل الدالة على توحيده تعالى،
و «من» دون الله حال من ضمير «يتخذ» والأنداد- الأمثال والمراد
بها الأصنام كما هو الشائع في القرآن، والمروي عن قتادة ومجاهد
وأكثر المفسرين، وقيل:
الرؤساء الذين يطيعونهم طاعة الأرباب من الرجال، وروي عن
السدي- ونسب إلى الصادق رضي الله تعالى عنه-
وقيل: المراد أعم منهما وهو ما يشغل عن الله تعالى والمعنى
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ متجاوزين الإله الواحد الذي
ذكرت شؤونه الجليلة أمثالا فلا يقصرون الطاعة عليه سبحانه بل
يشاركونهم إياه، وإيثار الاسم الجليل لتعيينه تعالى بالذات غبّ
تعيينه بالصفات يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ إما جملة
مستأنفة أو صفة الأنداد، أو صفة- لمن- إذا جعلتها نكرة موصوفة
مسوقة لبيان وجه الاتخاذ، والمحبة- ميل القلب من الحب واحد
الحبوب استعير لحبة القلب وسويدائه ثم اشتق منه الحب لأنه يؤثر
في صميم القلب ويرسخ فيه، ومحبة العباد لله تعالى عند جمهور
المتكلمين نوع من الإرادة سواء قلنا إنها نفس الميل التابع
لاعتقاد النفع كما هو رأي المعتزلة، أو صفة مرجحة مغايرة له
كما هو مذهب أهل السنة فلا تتعلق إلا بالجائزات ولا يمكن
تعلقها بذاته تعالى فمحبة العبد له سبحانه إرادة طاعته وتحصيل
مراضيه وهذا مبني على انحصار المطلوب بالذات في اللذة ورفع
الألم، والعارفون بالله سبحانه قالوا: إن الكمال أيضا محبوب
لذاته فالعبد يحب الله تعالى لذاته لأنه الكامل المطلق الذي لا
يداني كماله كمال، وأما محبة خدمته وثوابه فمرتبة نازلة، ومحبة
الله تعالى للعباد صفة له عز شأنه لا تتكيف ولا يحوم طائر
الفكر حول حماها، وقيل: إرادة إكرامه واستعماله في الطاعة
وصونه عن المعاصي، والمراد بالمحبة هنا التعظيم والطاعة أي
أنهم يسوون بين الله تعالى وبين الأنداد المتخذة فيعظمونهم
ويطيعونهم كما يعظمون الله تعالى ويميلون إلى طاعته، وضمير
الجمع المنصوب راجع إلى الأنداد فإن أريد بها الرؤساء فواضح
وإلا فالتعبير عنها بضمير العقلاء باعتبار ذلك الزعم الباطل
أنهم أنداد الله تعالى والمصدر المضاف من المبني للفاعل وفاعله
ضميرهم بقرينة سبق الذكر وإن المشركين يعترفون به تعالى
ويلجأون إليه في الشدائد وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
[لقمان: 25، الزمر: 38] فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت: 65] ، وقيل وهو
الخلاف الظاهر وعدول عما يقتضيه كون جملة- يحبونهم بيانا لوجه
الاتخاذ إنه مصدر المبني للمفعول واستغني عن ذكر من يحب لأنه
غير ملبس، والمعنى على تشبيه محبوبية الأنداد من جهة المشركين
بمحبوبيته تعالى من جهة المؤمنين، ولا ينافي ذلك قوله تعالى:
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ لأن التشبيه إنما
وقع بين المحبوبيتين وذلك يقتضي أن يكون محبوبية الأصنام
مماثلا لمحبوبيته تعالى، والترجيح بين المحبتين لكن باعتبار
رسوخ إحداهما دون الأخرى فإن المراد
(1/432)
بشدة محبة المؤمنين شدتها في المحل وهو
رسوخها فيهم وعدم زوالها عنهم بحال لا كمحبة المشركين لآلهتهم
حيث يعدلون عنها إلى الله تعالى عند الشدائد ويتبرؤون منها عند
معاينة الأهوال ويعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه إلى غيره وربما
أكلوه- كما يحكى: أن باهلة كانت لهم أصنام من حيس فجاعوا في
قحط أصابهم فأكلوها- ولله أبوهم فإنه لم ينتفع مشرك بآلهته
كانتفاع هؤلاء بها فإنهم ذاقوا حلاوة الكفر، وليس المراد من
شدة المحبة شدتها. وقوتها في نفسها ليرد أنا نرى الكفار يأتون
بطاعات شاقة لا يأتي بشيء منها أكثر المؤمنين فكيف يقال: إن
محبتهم أشد من محبتهم ومن هذا ظهر وجه اختيار- أشد حبا- على
أحب إذ ليس المراد الزيادة في أصل الفعل بل الرسوخ والثبات وهو
ملاك الأمر ولهذا نزل فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: 112]
وكان أحب الأعمال إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أدومها، وقال
العلامة: عدل عن أحب إلى أشد- لأنه شاع في الأشد محبوبية- فعدل
عنه احترازا عن اللبس، وقيل: إن أحب أكثر من حب، فلو صيغ منه
أفعل لتوهم أنه من المزيد.
وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لو يعلم هؤلاء الَّذِينَ
ظَلَمُوا بالاتخاذ المذكور، ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة
على أن ذلك- الاتخاذ- ظلم عظيم، وأن اتصاف المتخذين به أمر
معلوم مشهور حيث عبر عنه بمطلق الظلم، والموصول والصلة للاشعار
بسبب- رؤيتهم العذاب- المفهومة من قوله سبحانه:
إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أي عاينوا الْعَذابَ المعد لهم
وأبصروه يوم القيامة، وأورد صيغة المستقبل بعد لَوْ وإِذْ
المختصين بالماضي لتحقق مدلوله فيكون ماضيا تأويلا مستقبلا
تحقيقا فروعي الجهتان.
أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ساد مسد مفعولي يرى، وجواب
لَوْ محذوف للإيذان بخروجه عن دائرة البيان، أي لوقعوا من
الحسرة والندامة فيما لا يكاد يوصف، وقيل: هو متعلق الجواب-
والمفعولان محذوفان- والتقدير وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
أندادهم لا تنفع لعلموا أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً لا
ينفع ولا يضر غيره. وقرأ ابن عامر ونافع ويعقوب «ترى» على أن
الخطاب له صلى الله تعالى عليه وسلم، أو لكل أحد ممن يصلح
للخطاب، فالجواب حينئذ- لرأيت أمرا لا يوصف من الهول والفظاعة-
وابن عامر «إذ يرون» بالبناء للمفعول، ويعقوب «إن» بالكسر،
وكذا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ على الاستئناف أو
إضمار القول- أي قائلين ذلك- وفائدة هذه الجملة المبالغة في
تهويل الخطب وتفظيع الأمر، فإن اختصاص الْقُوَّةَ به تعالى لا
يوجب شدة «العذاب» لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه إِذْ
تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا بدل من إِذْ يَرَوْنَ مطلقا
وجاز الفصل بين البدل والمبدل منه بالجواب ومتعلقة لطول البدل،
وجوّز أن يكون ظرفا ل شَدِيدُ الْعَذابِ أو مفعولا- لاذكروا-
وزعم بعضهم أنه بدل من مفعول «ترى» على قراءة الخطاب، كما أن
إِذْ يَرَوْنَ بدل منه أيضا أَنَّ الْقُوَّةَ في موضع بدل
الاشتمال من الْعَذابَ ولا يخفى أن هذا يقتضي جواز تعدد البدل
ولم يعثر عليه في شيء من كتب النحو، وأيضا يرد عليه أن المبدل
منه في بدل الاشتمال يجب أن يكون متقاضيا للبدل دالا عليه
إجمالا، وأن يكون البدل مشتملا على ضمير المبدل منه- وكلاهما
مفقودان- والمعنى «إذ تبرأ» الرؤساء المتبعون مِنَ الَّذِينَ
اتَّبَعُوا أي المرءوسين بقولهم: تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما
كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ [القصص: 63] وقرأ مجاهد «الأول»
على البناء للفاعل «والثاني» على البناء للمفعول، أي تبرأ
الأتباع وانفصلوا عن متبوعيهم، وندموا على عبادتهم وَرَأَوُا
الْعَذابَ حال من- الأتباع والمتبوعين- كما في لقيته راكبين-
أي رائين له- فالواو- للحال، وقد مضمرة، وقيل: عطف على
تَبَرَّأَ وفيه أنه يؤدي إلى إبدال وَرَأَوُا الْعَذابَ من
إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ وليس فيه كثير فائدة لأن فاعل
الفعلين- وإن كانا متغايرين- إلا أن تهويل الوقت باعتبار ما
وقع فيه- وهو رؤية العذاب- ولأن الحقيق بالاستفظاع- هو تبرؤهم
حال رؤية العذاب- لا هو نفسه،
(1/433)
وأجيب أن البدل الوقت المضاف إلى الأمرين،
والمبدل منه الوقت المضاف إلى واحد- وهو الرؤية فقط- وفيه أن
هذا أيضا لا يخرج ذلك عن الركاكة إِذْ بعد تهويل الوقت بإضافته
إلى- رؤية العذاب- لا حاجة إلى جمعها مع التبري بخلاف ما إذا
جعل حالا، فإن البدل هو التبرؤ الواقع في حال رؤية العذاب.
وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ إما عطف على تَبَرَّأَ أو
رَأَوُا أو حال، ورجح الأول لأن الأصل في- الواو- العطف، وفي
الجملة الاستقلال ولإفادته تكثير أسباب التهويل والاستفظاع مع
عدم الاحتياج إلى تقدير قد والباء من بِهِمُ للسببية، أي
تَقَطَّعَتْ بسبب كفرهم الْأَسْبابُ التي كانوا يرجون منها
النجاة، وقيل: للملابسة أي- تقطعت الأسباب- موصولة بِهِمُ
كقولك: خرج زيد بثيابه، وقيل: بمعنى عن، وقيل: للتعدية، أي-
قطعتهم الأسباب- كما تقول: تفرقت بهم الطريق، ومنه قوله تعالى:
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الإنعام: 153] وأصل-
السبب- الحبل مطلقا، أو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء، أو
الحبل الذي أحد طرفيه متعلق بالسقف، أو الحبل الذي يرتقي به
النخل. والمراد ب الْأَسْبابُ هنا الوصل التي كانت بين-
الأتباع والمتبوعين- في الدنيا من الأنساب والمحاب، والاتفاق
على الدين، والاتباع والاستتباع، وقرىء تَقَطَّعَتْ بالبناء
للمفعول- وتقطع- جاء لازما ومتعديا وَقالَ الَّذِينَ
اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي لو ثبت لنا عودة ورجوع
إلى الدنيا.
فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ أي من المتبوعين كَما تَبَرَّؤُا
مِنَّا تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يطيعوا الله تعالى
فيتبرؤوا من متبوعيهم في الآخرة إذا حشروا جميعا مثل تبري
المتبوعين منهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم، أي كما جعلوا بالتبري
غائظين متحيرين على متابعتهم نجعلهم أيضا بالتبري غائظين
متحيرين على ما حصل لنا بترك متابعتهم، ولذا لم يتبرؤوا منهم
قبل تمني الرجوع لأنه لا يغيظ المتبوعين حيث تبرؤوا من الأتباع
أو لا، ومن هنا يظهر وجه القراءة على البناء للفاعل لأن تبرؤ
الأتباع من المتبوعين بالآخرة بالانفصال عنهم بعد ما تبين لهم
عدم نفعهم، وذلك لا يغيظ المتبوعين لاشتغال كل منهم بما
يقاسيه، فلذا تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليتبرؤوا منهم تبرؤا
يغيظهم. وأما قوله سبحانه: كَما تَبَرَّؤُا فلا يقتضي إلا وقوع
التبرؤ من المتبوعين- وهو منصوص في آية أخرى- ولا يقتضي أن
يكون مذكورا فيما سبق، وقيل: إن الأتباع بعد أن- تبرؤوا- من
المتبوعين يوم القيامة تمنوا الكرة إلى الدنيا مع متبوعيهم
ليتبرؤوا منهم فيها ويخذلوهم- فيجتمع لهم ذل الدنيا والآخرة-
ويحتاج هذا التوجيه إلى اعتبار التغليب في لَنا أي لنا ولهم،
إذ التبرؤ في الدنيا إنما يتصور إذا رجع كلتا الطائفتين.
كَذلِكَ في موضع المفعول المطلق لما بعده، والمشار إليه الإراء
المفهوم من إِذْ يَرَوْنَ أي كإراء العذاب المتلبس بظهور أن
الْقُوَّةَ لِلَّهِ والتبري، وتقطع الأسباب، وتمني الرجعة.
يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وجوّز أن
يكون المشار إليه المصدر المفهوم مما بعد- والكاف- مقحمة
لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ومحله النصب على
المصدرية أيضا، أي ذلك الإراء الفظيع يريهم على حد ما قيل في
قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة:
143] والجملة تذييل لتأكيد الوعيد، وبيان حال المشركين في
الآخرة وخلود عذابهم، ويجوز أن تكون استئنافا كأنه لما بولغ في
وعيدهم وتفظيع عذابهم كان محل أن يتردد السامع ويسأل هل لهم
سوى ذلك من العذاب أم تم؟ فأجيب بما ترى، وحَسَراتٍ أي ندمات
وهو مفعول ثالث ليرى إن كانت الرؤية قلبية، وحال من
أَعْمالَهُمْ إن كانت بصرية، ومعنى رؤية هؤلاء المشركين
أَعْمالَهُمْ السيئة يوم القيامة حَسَراتٍ رؤيتها مسطورة في
كتاب لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها
[الكهف: 49] وتيقن الجزاء عليها، فعند ذلك يندمون على ما فرطوا
في جنب الله تعالى، وعَلَيْهِمْ صفة حَسَراتٍ وجوّز
(1/434)
تعلقه بها على حذف المضاف أي تفريطهم لأن-
حسر- يتعدى- بعلى- واستدل بالآية من ذهب إلى أن الكفار مخاطبون
بالفروع وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ المتبادر في
أمثاله حصر النفي في المسند إليه نحو وَما أَنَا بِطارِدِ
الَّذِينَ آمَنُوا [هود: 29] وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ
[هود: 91] ففيه إشارة إلى عدم خلود عصاة المؤمنين الداخلين في
قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ في
النار، وإذا أريد من الَّذِينَ ظَلَمُوا الكفار مطلقا دون
المشركين فقط كان الحصر حقيقيا، ويكون المقصود منه المبالغة في
الوعيد بأنه لا يشاركهم في الخلود غيرهم، فإن الشركة تهوّن
العقوبات، وقيل: إن المقصود نفي أصل الفعل لأنه اللائق بمقام
الوعيد- لا حصر النفي- إذ ليس المقام مقام تردد ونزاع في أن
الخارج هم أو غيرهم على الشركة أو الانفراد وإن كان صحيحا
بالنظر إلى العصاة إلا أنه غير إلى ما ترى إفادة للمبالغة في
الخلود، والإقناط عن الخلاص، والرجوع إلى الدنيا، وزيادة-
الباء- وإخراج ذواتهم من عداد الخارجين لتأكيد النفي، وأنت
تعلم أنه إذا لم يعتبر في الحصر حال المخاطب لم يبق فيه ما
يقال سوى أن ظواهر بعض الآيات تقتضي عدم إرادة الحصر، ومن ذلك
قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما
هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها [المائدة: 37] فليس القول بعدم الحصر
نصا في الاعتزال كما وهم.
«ومن باب الإشارة في الآيات» إِنَّ الصَّفا أي الروح الصافية
عن دون المخالفات وَالْمَرْوَةَ أي النفس القائمة بخدمة مولاها
من إعلام دين الله ومناسكه القلبية والقالبية، فمن بلغ مقام
الوحدة الذاتية، ودخل بيت الحضرة الإلهية بالفناء عن السوي
أوزار الحضرة بتوحيد الصفات واتزر بأنوار الجلال والجمال فلا
حرج عليه حينئذ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ويرجع إلى مقامهما
بالوجود الموهوب بعد التمكين المطلوب وَمَنْ تبرع خَيْراً
بالتعليم والنصيحة وإرشاد المسترشدين فإن الله يشكر عمله ويعلم
جزاءه إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أفضنا عليهم من أنوار
المعارف وهدى الأحوال مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ
فِي كتاب عقولهم المنورة بنور المتابعة أُولئِكَ يبعدهم الله
تعالى ويحجبهم عنه وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ من الملأ
الأعلى فلا يمدونهم، ومن المستعدين فلا يصحبونهم إِلَّا
الَّذِينَ رجعوا إلى الله تعالى وعلموا أن ما هم فيه ابتلاء
منه عز وجل، وأصلحوا أحوالهم بالرياضة، وأظهروا ما احتجب عنهم
بصدق المعاملة فَأُولئِكَ أقبل توبتهم وَأَنَا التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا واحتجبوا عن الحق، وبقوا
على احتجابهم حتى زال استعدادهم وانطفأ نور فطرتهم أُولئِكَ
استحقوا الطرد والبعد عن الحق وعالم الملكوت، خالِدِينَ في ذلك
لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ لرسوخ الأمور الموجبة له فيهم
وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ للزوم تلك الهيئات المظلمة إياهم
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ بالذات لا شيء في الوجود غيره فأنى
يعبد سواه، وهو العدم البحت إن في إيجاد سماوات الأرواح وأرض
النفوس، واختلاف النور والظلمة بينهما، وفلك البدن التي تجري
في بحر الاستعداد بما ينفع الناس في كسب كمالاتهم، وتكميل
نشأتهم، وما أنزل الله من سماء الأرواح من ماء العلم فأحيا به
أرض النفوس بعد موتها بالجهل وبث فيها القوى الحيوانية، وفرق
في أفلاكها سيارات عالم الملكوت، وتصريف رياح النفحات المحركة
لأغصان أشجار الشوق في رياض القلوب وسحاب التجليات المسخر بين
سماء الروح وأرض النفس ليمطر قطرات الخطاب على نيران الألباب
لتسكن ساعة من الاحتراق بالتهاب نار الوجد لآيات ودلائل
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بالعقل المنور بالأنوار القدسية المجرد
عن شوائب الوهم، ومن الناس من يعبد من دون الله أشياء منعته عن
خدمة سيده، والتوجه إليه يحبونهم ويميلون إليهم كحبهم لله
ويسوون بينهم وبينه سبحانه لأنهم لم يذوقوا لذة محبته ولم يروا
نور مشاهدته وحقائق وصله وقربه وَالَّذِينَ آمَنُوا الإيمان
الكامل أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ لأنهم مستغرقون بمشاهدته هائمون
بلذيذ خطابه من عهد أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ لا يلتفتون إلى سواه
طرفة عين فهيهات أن يزول حبهم أو يميل إلى
(1/435)
الأغيار لبهم وهم أحبوه بحبه وصارت قلوبهم
عرش تجلياته وقربه وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وأشركوا من
هو في الحقيقة لا شيء ولا حي ولا لي في وقت رؤيتهم عذاب
الاحتجاب عن رب الأرباب، وإن القدرة لله جميعا، وليس لآلهتهم
التي ألهتهم عنه منها شيء لندموا وتحسروا حيث لم يقصدوا وجه
الله تعالى ولم يطلبوه، وعند ذلك يتبرأ الأتباع من المتبوعين
وقد رَأَوُا عذاب الحرمان وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الوصل التي
كانت بينهم في الدنيا وتمنوا ما لا يمكن بحال وبقوا بحسرة
وعذاب. وكذا يكون حال القوى الروحانية الصافية للقوى النفسانية
التابعة لها في تحصيل لذاتها، وطوبى للمتحابين في الله تعالى
عز شأنه.
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا
نزلت في المشركين الذين حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة
والوصيلة والحام- كما ذكره ابن جرير وابن عباس رضي الله تعالى
عنهما- وقيل: في عبد الله بن سلام وأضرابه حيث حرموا على
أنفسهم لحم الإبل لما كان حراما في دين اليهود، وقيل: في قوم
من ثقيف وبني عامر بن صعصعة وخزاعة وبني مدلج حيث حرموا التمر
والأقط على أنفسهم، وحَلالًا إما مفعول كُلُوا أو حال من
الموصول- أي كلوه حال كونه حلالا- أو صفة لمصدر مؤكد أي أكلا
حلالا، ومن على التقديرين الأخيرين للتبعيض ليكون مفعولا به-
لكلوا- وعلى التقدير الأول يجوز أن تكون ابتدائية متعلقة-
بكلوا- أو حالا من حَلالًا وقدم عليه لتنكيره، وأن تكون
ابتدائية بل هي متعينة كما في الكشف على مذهب من جعل الأصل في
الأشياء الإباحة، وأن تكون تبعيضية بناء على ما ارتضاه الرضي
من أن التبعيضية في الأصل ابتدائية إلا أنه يكون هناك شيء ظاهر
أو مقدر هو بعض المجرور- بمن- ولا يلزم صحة إقامة لفظ البعض
مقامها، والعلامة التفتازاني منع كونها تبعيضية على هذا
التقدير لأنها في موضع المفعول به حينئذ، والفعل لا ينصب
مفعولين وهو مبني- على ما في التسهيل وغيره- أن التبعيض معنى
حقيقي- لمن- وعلامته صحة إقامة لفظ البعض مقامها، والأمر
للوجوب فيما إذا كان الأكل لقوام البنية وللندب كما إذا كان
لمؤانسة الضيف وللإباحة فيما عدا ذلك «ومناسبة الآية لما
قبلها» أنه سبحانه لما بين التوحيد ودلائله وما للتائبين
والعاصين أتبع ذلك بذكر إنعامه وشمول رحمته ليدل على أن الكفر
لا يؤثر في قطع الانعام وقوله تعالى طَيِّباً صفة حَلالًا
ومعناه كما قال الإمام مالك ما يجده فم الشرع لذيذا لا يعافه
ولا يكرهه، أو تراه عينه طاهرا عن دنس الشبهة، وفائدة وصف
الحلال به تعميم الحكم كما في قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ [الإنعام: 38، هود:
6] ليحصل الرد على من حرم بعض الحلالات، فإن النكرة الموصوفة
بصفة عامة تعم بخلاف غير الموصوفة، وقال الإمام الشافعي رضي
الله تعالى عنه: المراد به ما تستطيبه الشهوة المستقيمة
الناشئة من المزاج الصحيح، ورد بأن ما لا تستطيبه إما حلال لا
شبهة فيه فلا منع وإلا خرج بقيد الحلال، وأجيب بأن المراد
بالحلال ما نص الشارع على حله- وبهذا ما لم يرد فيه نص- ولكنه
مما يستلذ ويشتهيه الطبع المستقيم، ولم يكن في الشرع ما يدل
على حرمته كإسكار وضرر، والأولى نظرا للمقام أن يقال: إن
التقييد ليس للاحتراز عما تستطيبه الشهوة الفاسدة بل لكونه
معتبرا في مفهومه إذ لا يقال الطيب واللذيذ إلا على ما تستلذه
الشهوة المستقيمة وتكون فائدة التوصيف حينئذ التنصيص على إباحة
ما حرموه، والقول بأن في الآية على هذا التفسير إشارة إلى
النهي عن الأكل على امتلاء المعدة والشهوة الكاذبة لأن ذلك لا
يستطاب لأن الطعام اللذيذ المأكول كذلك مما تستطيبه الشهوة إلا
أنه ليس مأكولا بالشهوة المستقيمة، وبين المعنيين بعد بعيد كما
قاله بعض المحققين- واستدل بعضهم بالآية على أن من حرم طعاما
مثلا فهو لاغ ولا يحرم عليه، وفيه خفاء لا يخفى وَلا
تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي آثاره- كما حكي عن
الخليل- أو أعماله- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه-
أو خطاياه- كما نقل عن مجاهد- وحاصل المعنى لا تعتقدوا به
وتستنوا بسنته
(1/436)
فتحرموا الحلال وتحللوا الحرام،
وعن الصادق من خطوات الشيطان الحلف بالطلاق والنذور في المعاصي
وكل يمين بغير الله تعالى،
وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة بتسكين الطاء وهما لغتان في جمع
خطوة وهي ما بين قدمي الماشي، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه
بضمتين وهمزة، وفي توجيهها وجهان، الأول ما قيل: إن الهمزة
أصلية من الخطأ بمعنى الخطيئة، والثاني إن الواو قلبت همزة لأن
الواو المضمومة تقلب لها نحو- أجوه- وهذه لما جاورت الضمة جعلت
كأنها عليها قال الزجاج: وهذا جائز في العربية، وعن أبي السمال
أنه قرأ بفتحتين على أنه جمع خطوة وهي المرة من الخطو.
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تعليل للنهي، ومُبِينٌ من أبان
بمعنى بان وظهر أي ظاهر- العداوة- عند ذوي البصيرة وإن كان
يظهر الولاية لمن يغويه ولذلك سمي وليا في قوله تعالى:
أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [البقرة: 257] ويحتمل أن يكون ذلك
من باب تحيتهم السيف، وقيل:- أبان- بمعنى أظهر أي مظهر-
العداوة- والأول أليق بمقام التعليل إِنَّما يَأْمُرُكُمْ
بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ استئناف لبيان كيفية عداوته وتفصيل
لفنون شره وإفساده وانحصار معاملته معهم في ذلك، أو علة للعلة
بضم، وكل من هذا شأنه فهو- عدو مبين- أو علة للأصل بضم، وكل من
هذا شأنه لا يتبع فيكون الحكم معللا بعلتين- العداوة- والأمر
بما ذكر وليس الأمر على حقيقته لا لأن قوله تعالى: إِنَّ
عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: 42، الإسراء:
65] ينافي ذلك لكونه مبينا على أن المعتبر في الأمر العلو- كما
هو مذهب المعتزلة- وإلا فمجرد الاستعلاء لا ينافي أن يكون له
سلطان، وعلى أن يكون- عبادي- لعموم الكل بدليل الاستثناء، وعلى
أن الخطاب في يَأْمُرُكُمْ لجميع الناس لا للمتبعين فقط، ولا
منافاة أيضا بل لأنا نجد من أنفسنا أنه لا طلب منه للفعل منا
وليس إلا التزيين والبعث فهو استعارة تبعية لذلك ويتبعها الرمز
إلى أن المخاطبين بمنزلة المأمورين المنقادين له، وفيه تسفيه
رأيهم وتحقير شأنهم، ولا يرد أنه إذا كان الأمر بمعنى التزيين
فلا بد أن يقال: يأمر لكم، وإن كان بمعنى البعث فلا بد أن
يقال: يأمركم على السوء أو للسوء إذ المذكور لفظ الأمر فلا بد
من رعاية طريق استعماله- والسوء- في الأصل مصدر ساءه يسوءه
سوءا أو مساءة إذا أحزنه، ثم أطلق على جميع المعاصي سواء كانت
قولا أو فعلا أو عقدا لاشتراك كلها في أنها تسوء صاحبها،
والْفَحْشاءِ أقبح أنواعها وأعظمها مساءة، وروي عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما أن السوء ما لا حد فيه، والْفَحْشاءِ ما
فيه حد، وقيل: هما بمعنى وهو ما أنكره العقل وحكم بأنه ليس فيه
مصلحة وعاقبة حميدة واستقبحه الشرع، والعطف حينئذ لتنزيل تغاير
الوصفين منزلة تغاير الحقيقتين فإن ذلك سوء لاغتمام العاقل،
وفحشاء باستقباحه إياه، ولعل الداعي إلى هذا القول أنه سبحانه
سمى جميع المعاصي والفواحش سيئة في قوله جل شأنه: مَنْ كَسَبَ
سَيِّئَةً [البقرة: 81] وإِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئاتِ [هود:
114] وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] وسمى
جميع المعاصي بالفواحش فقال تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ
رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأعراف:
33] ويمكن أن يقال: سلمنا ولكن السيئة والفاحشة إذا اجتمعا
افترقا وإذا افترقا اجتمعا فلا يتم الاستدلال وَأَنْ تَقُولُوا
عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ عطف على سابقه أي- ويأمركم
الشيطان بأن تفتروا على الله الكذب بأنه حرم هذا- وأحل هذا أو
بذلك وبأنه أمر باتخاذ الأنداد ورضي بما أنتم عليه من الإفساد،
والتنصيص على الأمر بالتقول مع دخوله فيما سبق للاهتمام بشأنه،
ومفعول العلم محذوف أي- ما لا تعلمون- الإذن فيه منه تعالى،
والتحذير عن ذلك مستلزم للتحذير عن التقول عليه سبحانه بما
يعلمون عدم الإذن فيه كما هو حال كثير من المشركين استلزاما
ظاهرا، وظاهر الآية المنع من اتباع الظن رأسا لأن الظن مقابل
للعلم لغة وعرفا، ويشكل عليه أن المجتهد يعمل بمقتضى ظنه
الحاصل عنده من النصوص فكيف يسوغ اتباعه للمقلد؟! وأجيب بأن
الحكم
(1/437)
المظنون للمجتهد يجب العمل به للدليل
القاطع وهو الإجماع، وكل حكم يجب العمل به قطعا علم قطعا بأنه
حكم الله تعالى: وإلا لم يجب العمل به قطعا، وكل ما علم قطعا
أنه حكم الله تعالى فهو معلوم قطعا، فالحكم المظنون للمجتهد
معلوم قطعا وخلاصته أن الظن كاف في طريق تحصيله ثم بواسطة
الإجماع على وجوب العمل صار المظنون معلوما وانقلب الظن علما،
فتقليد المجتهد ليس من اتباع الظن في شيء، وزعم ذلك من اتباع
الظن وتحقيقه في الأصول وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما
أَنْزَلَ اللَّهُ الضمير للناس والعدول عن الخطاب إلى الغيبة
للتنبيه على أنهم لفرط جهلهم وحمقهم ليسوا أهلا للخطاب بل
ينبغي أن يصرف عنهم إلى من يعقله، وفيه من النداء لكل أحد من
العقلاء على ضلالتهم ما ليس إذا خوطبوا بذلك، وقيل: الضمير
لليهود وإن لم يذكروا بناء على ما روي عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنه أن الآية نزلت فيهم لما دعاهم رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم إلى الإسلام، وقيل: إنه راجع إلى من يتخذ أو
إلى المفهوم من أن الذين يكتمون، والجملة مستأنفة بناء على ما
روي أنها نزلت في المشركين، وأنت تعلم أن النزول في حق اليهود
أو المشركين لا يقتضي تخصيص الضمير بهم، وقد شاع أن عموم
المرجع لا يقتضي عموم الضمير كما في قوله تعالى:
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ [البقرة: 228] وقوله تعالى:
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [البقرة: 228] على أن
نظم القرآن الكريم يأبى هذا القيل، والموصول إما عام لسائر
الأحكام الحقة المنزلة من الله تعالى، وإما خاص بما يقتضيه
المقام قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا
أي وجدناهم عليه، والظرف إما حال من- آبائنا، وألفينا- متعد
إلى واحد، وإما مفعول ثان له مقدم على الأول.
أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا
يَهْتَدُونَ جواب الشرط محذوف أي- لو كان آباؤهم جهلة لا
يتفكرون في أمر الدين ولا يهتدون إلى الحق لاتبعوهم- والواو
للحال أو للعطف، والجملة الشرطية إما حال عن ضمير قالُوا أو
معطوفة عليه، والهمزة لإنكار مضمون تلك الجملة وهو التزامهم
الاتباع على تقدير ينافيه وهو كونهم غير عاقلين ولا مهتدين
المستلزم لالتزامهم الاتباع على أي حال كانوا من غير تمييز،
وعلم بكونهم محقين أو مبطلين وهو التقليد المذموم- ويتولد من
ذلك الإنكار التعجيب- وجوز أن تكون الجملة حالا عن ضمير جملة
محذوفة أي أيتبعونهم في حال فرضهم غير عاقلين ولا مهتدين- وأن
تكون معطوفة على شرط مقدر أي- يتبعونهم لو لم يكونوا غير
عاقلين، ولو كانوا غير عاقلين، وإلى الأول ذهب الزمخشري، وإلى
الثاني الجرمي، ولا يخفى أنه على تقدير حذف الجملة المتقدمة لا
يحتاج إلى القول بحذف الجزاء، ولعل ما ذكر أولا أولى لما فيه
من التحرز عن كثرة الحذف وإبقاء لَوْ على معناها المشهور،
والهمزة الاستفهامية على أصلها- وهو إيلاء المسئول عنه- وكون
المعنى يدور على العطف على المحذوف في أمثال ذلك في سائر
اللغات غير مسلم، واختار الرضي أن- الواو- الداخلة على كلمة
الشرط في مثل هذا اعتراضية، وعنى بالجملة الاعتراضية ما يتوسط
بين أجزاء الكلام، أو يجيء آخره متعلقا به معنى مستأنفا لفظا،
قيل: وفي الآية دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر،
وأما اتباع الغير في الدين بعد العلم بدليل ما أنه محق فاتباع
في الحقيقة لما أنزل الله تعالى- وليس من التقليد المذموم في
شيء- وقد قال سبحانه: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل: 43] .
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما
لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً جملة ابتدائية واردة
لتقرير ما قبلها أو معطوفة عليه، والجامع أن الأولى لبيان حال
الكفار وهذه تمثيل لها وفيها مضاف محذوف إما من جانب المشبه أو
المشبه به- أي مثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق- أو مثل
الذين كفروا- كمثل بهائم الذي ينعق- ووضع المظهر- وهو الموصول-
موضع المضمر- وهو البهائم- ليتمكن من إجراء الصفة التي هي وجه
الشبه عليه، وحاصل
(1/438)
المعنى على التقديرين أن الكفرة لانهماكهم
في التقليد وإخلادهم إلى ما هم عليه من الضلالة لا يلقون
أذهانهم إلى ما يتلى عليهم ولا يتأملون فيما يقرر معهم فهم في
ذلك كالبهائم التي ينعق عليها وهي لا تسمع إلا جرس النغمة
ودويّ الصوت، وقيل: المراد تمثيلهم في اتباع آبائهم على ظاهر
حالهم جاهلين بحقيقتها بالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفهم ما
تحته، أو تمثيلهم في دعائهم الأصنام بالناعق في نعقه وهذا يغني
عن الإضمار لكن لا يساعده قوله تعالى: إِلَّا دُعاءً وَنِداءً
لأن الأصنام بمعزل عن ذلك فلا دخل للاستثناء في التشبيه إلا أن
يجعل من التشبيه المركب ويلتزم كون مجموع لا يَسْمَعُ إِلَّا
دُعاءً وَنِداءً كناية عن عدم الفهم والاستجابة، والنعيق
التتابع في التصويت على البهائم للزجر، ويقال: نعق الغراب
نعاقا ونعيقا إذا صوت من غير أن يمد عنقه ويحركها، ونغق بالغين
بمعناه فإذا مد عنقه وحركها ثم صاح قيل: نعب بالباء، والدعاء
والنداء بمعنى، وقيل: إن الدعاء ما يسمع، والنداء قد يسمع وقد
لا يسمع، وقيل: إن الدعاء للقريب والنداء للبعيد صُمٌّ بُكْمٌ
عُمْيٌ رفع على الذم إذ فيه معنى الوصف مع مانع لفظي من الوصف
به فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي لا يدركون شيئا لفقدان الحواس
الثلاثة وقد قيل: من فقد حسا فقد فقد علما، وليس المراد نفي
العقل الغريزي باعتبار انتفاء ثمرته- كما قيل به- لعدم صحة
ترتبه بالفاء على ما قبله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي مستلذاته أو من
حلاله، والآية إما أمر للمؤمنين بما يليق بشأنهم من طلب
الطيبات وعدم التوسع في تناول ما رزقوا من الحلال وذا لم يستفد
من الأمر السابق، وإما أمر لهم على طبق ما تقدم إلا أن فائدة
تخصيصهم بعد التعميم تشريفهم بالخطاب وتمهيد لطلب الشكر،
وكُلُوا لعموم جميع وجوه الانتفاع دلالة وعبارة وَاشْكُرُوا
لِلَّهِ على ما أنعم به عليكم والالتفات لتربية المهابة إِنْ
كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ بمنزلة التعليل لطلب الشكر كأنه
قيل:
واشكروا له لأنكم تخصونه بالعبادة وتخصيصكم إياه بالعبادة يدل
على أنكم تريدون عبادة كاملة تليق بكبريائه وهي لا تتم إلا
بالشكر لأنه من أجل العبادات- ولذا جعل نصف الإيمان-
وورد من حديث أبي الدرداء مرفوعا يقول الله تعالى «إني والإنس
والجن في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري»
والقول بأن المراد إن كنتم تعرفونه أو إن أردتم عبادته منحط من
القول إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ أي أكلها
والانتفاع بها وأضاف الحرمة إلى العين- مع أن الحرمة من
الأحكام الشرعية التي هي من صفات فعل المكلف، وليست مما تتعلق
بالأعيان- إشارة إلى حرمة التصرف في الميتة، وهي التي ماتت من
غير ذكاة شرعية من جميع الوجوه بأخصر طريق وأوكده حيث جعل
العين غير قابلة لتعلق فعل المكلف بها إلا ما خصه الدليل
كالتصرف بالمدبوغ وألحق ب الْمَيْتَةَ ما أبين من حي للحديث
الذي
أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه عن أبي واقد الليثي قال: «قال
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما قطع من البهيمة، وهي
حية فهي ميتة»
وخرج عنها السمك والجراد للحديث الذي
أخرجه ابن ماجة والحاكم من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما
مرفوعا «أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال»
وللعرف أيضا فإنه إذا قال القائل: أكل فلان الميتة لم يسبق
الوهم إليهما، نعم حرم بعضهم ميتة السمك الطافي وما مات من
الجراد بغير سبب، وعليه أكثر المالكية، واستدل بعموم الآية على
تحريم الأجنة، وتحريم ما لا نفس له سائلة خلافا لمن أباحه من
المالكية، وقرأ أبو جعفر: الميتة مشددة وَالدَّمَ قيد في سورة
الإنعام بالمسفوح وسيأتي، واستدل بعمومه على تحريم نجاسة دم
الحوت، وما لا نفس له تسيل وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ خص اللحم
بالذكر مع أن بقية أجزائه أيضا حرام خلافا للظاهرية لأنه معظم
ما يؤكل من الحيوان وسائر أجزائه كالتابع له، وقيل: خص اللحم
ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك، وفيه ما لا يخفى، ولعل
السر في إقحام لفظ اللحم هنا إظهار حرمة ما استطيبوه وفضلوه
على سائر اللحوم واستعظموا وقوع تحريمه، واستدل أصحابنا بعموم
الخنزير على حرمة خنزير البخر، وقال الشافعي رضي الله تعالى
عنه:
لا بأس به، وروي عن الإمام مالك أنه قال له شخص: ما تقول في
خنزير البحر؟ فقال: حرام ثم جاء آخر فقال له: ما
(1/439)
تقول في حيوان في البحر على صورة الخنزير؟
فقال حلال- فقيل له- في ذلك فقال: إن الله تعالى حرم الخنزير
ولم يحرم ما هو على صورته، والسؤال مختلف في الصورتين.
وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أي ما وقع متلبسا به أي
بذبحه الصوت لغير الله تعالى، وأصل الإهلال عند كثير من أهل
اللغة رؤية الهلال لكن لما جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير
إذا رئي سمي بذلك إهلالا، ثم قيل لرفع الصوت وإن كان بغيره،
والمراد- بغير الله- تعالى الصنم وغيره كما هو الظاهر، وذهب
عطاء ومكحول والشعبي والحسن وسعيد بن المسيب إلى تخصيص الغير
بالأول وأباحوا ذبيحة النصراني إذا سمى عليها باسم المسيح،
وهذا خلاف ما اتفق عليه الأئمة من التحريم وإنما قدم به هنا
لأنه أمس بالفعل وأخر في مواضع أخر نظرا للمقصود فيها من ذكر
المستنكر وهو الذبح لغير الله عز شأنه فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ
باغٍ بالاستتار على مضطر آخر بأن ينفرد بتناوله فيهلك الآخر
وَلا عادٍ أي متجاوز ما يسد الرمق والجوع وهو ظاهر في تحريم
الشبع وهو مذهب الأكثرين فعن الإمام أبي حنيفة والشافعي رضي
الله تعالى عنهما لا يأكل المضطر من الميتة إلا قدر ما يمسك
رمقه لأن الإباحة للاضطرار، وقد اندفع به، وقال عبد الله بن
الحسن العبري: يأكل منها قدر ما يسد جوعته، وخالف في ذلك
الإمام مالك فقال: يأكل منها حتى يشبع ويتزود فإن وجد غني عنها
طرحها، ونقل عن الشافعي أن المراد غَيْرَ باغٍ على الوالي وَلا
عادٍ بقطع الطريق وجعل من ذلك السفر في معصية فالعاصي في سفره
لا يباح له الأكل من هذه المحرمات- وهو المروي عن الإمام أحمد
أيضا- وهو خلاف مذهبنا، ويحتاج حكم الرخصة على هذا إلى التقييد
بأن لا يكون زائدا على قدر الضرورة من خارج، واستدل بعموم
الآية على جواز أكل المضطر ميتة الخنزير والآدمي خلافا لمن منع
ذلك، وقرأ أهل الحجاز والشام والكسائي فَمَنِ اضْطُرَّ بضم
النون وأبو جعفر منهم بكسر الطاء من اضطر فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ
أي في تناوله بل ربما يأثم بترك التناول إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ فلذا أسقط الحرمة في تناوله ورخص، وقيل: الحرمة باقية
إلا أنه سقط الإثم عن المضطر وغفر له لاضطراره كما هو من تقييد
الإثم بعليه، واستدل للأول بقوله تعالى: إِلَّا مَا
اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الإنعام: 119] حيث استثني من الحرمة،
ثم أعلم أنه ليس المراد من الآية قصر الحرمة على ما ذكر مطلقا
كما هو الظاهر حتى يرد منع الحصر بحرمة أشياء لم تذكر بل مقيد
بما اعتقدوه حلالا بقرينة أنهم كانوا يستحلون ما ذكر فكأنه
قيل: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ما ذكر من جهة ما استحللتموه
لأشياء أخر، والمقصود من قصر الحرمة على ما ذكر رد اعتقادهم
حليته بأبلغ وجه وآكده فيكون قصر قلب إلا أن الجزء الثاني ليس
لرد اعتقاد الحرمة إذ لم يعتقدوا حرمة شيء مما استحلوه بل
تأكيد الجزء الأول، والخطاب للناس باعتبار دخول المشركين فيهم
فيكون مفاد الآية الزجر عن تحليل المحرمات كما أن يا أَيُّهَا
النَّاسُ كُلُوا زجر عن تحريم الحلالات أو المراد قصر حرمة ما
ذكر على حال الاختيار، كأنه قيل: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ
هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها، والأنسب حينئذ أن يكون الخطاب
للمؤمنين ليكون محط الفائدة هو القيد حيث كانوا معتقدين لحرمة
هذه الأمور، وفائدة الحكم الترخيص بعد التضييق عليهم بطلب
الحلال الطيب، أو تشريفهم بالامتنان بهذا الترخيص بعد الامتنان
عليهم بإباحة المستلذات، واختار بعضهم أن المراد من الحصر رد
المشركين في تحريمهم ما أحله الله تعالى- من البحيرة والوصيلة
والحام- وأمثالها لأكلهم من هذه المحرمات المذكورة في الآية،
فكأنهم قالوا: تلك حرمت علينا ولكن هذه أحلت لنا، فقيل: ما
حرمت إلا هذه- فهو إذا إضافي- وذهب آخرون إلى أنه قصر إفراد
بالنسبة إلى ما حرمه المؤمنون مع المذكورات من المستلذات، وفيه
أن المؤمنين لم يعتقدوا حرمة المستلذات بل حرموها على أنفسهم
لما سمعوا من شدائد المحاسبة والسؤال عن النعم، قاله بعض
المحققين فليتدبر.
(1/440)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ
اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ المشتمل على فنون الأحكام التي من
جملتها أحكام المحللات والمحرمات، والآية نزلت- كما روي عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنه- في علماء اليهود كانوا يصيبون من
سفلتهم هدايا، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم، فلما
بعث من غيرهم كتموا وغيروا صفته صلى الله تعالى عليه وسلم حتى
لا يتبع فتزول رئاستهم وتنقطع هداياهم وَيَشْتَرُونَ بِهِ أي
يأخذون بدله في نفس الأمر، والضمير- للكتاب
- أو لما أنزل أو للكتمان ثَمَناً قَلِيلًا أي عوضا حقيرا.
أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ إما
في الحال- كما هو أصل المضارع- لأنهم أكلوا ما يتلبس ب
النَّارَ وهو- الرشا- لكونها عقوبة لها فيكون في الآية استعارة
تمثيلية بأن شبه الهيئة الحاصلة من أكلهم ما يتلبس بالنار
بالهيئة المنتزعة من- أكلهم النار- من حيث إنه يترتب على- أكل-
كل منهما من تقطع الأمعاء والألم ما يترتب على الآخر، فاستعمل
لفظ المشبه به في المشبه، وإما في المآل، أي لا يأكلون يوم
القيامة إِلَّا النَّارَ فالنار في الاحتمالين مستعمل في معناه
الحقيقي، وقيل:
إنها مجاز عن- الرشا- إذا أريد الحال، والعلاقة السببية
والمسببية وحقيقة إذا أريد المآل، ولا يخفى أن الأول هو الأليق
بمقام الوعيد، والجار والمجرور حال مقدرة، أي ما يَأْكُلُونَ
شيئا حاصلا فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ إذ الحصول في-
البطن- ليس مقارنا للأكل، وبهذا التقدير يندفع ضعف تقديم الحال
على الاستثناء، ولا يحتاج إلى القول بأنه متعلق ب يَأْكُلُونَ
والمراد في طريق بُطُونِهِمْ كما اختاره أبو البقاء، والتقييد-
بالبطون- لإفادة- الملء- لا للتأكيد- كما قيل به- والظرفية
بلفظة فِي وإن لم تقتض استيعاب المظروف الظرف، لكنه شاع
استعمال ظرفية- البطن- في الاستيعاب كما شاع ظرفية بعضه في
عدمه كقوله:
كلوا- في بعض- بطنكم- تعفوا ... فإن زمانكم زمن خميص
وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي كلام رحمة-
كما قال الحسن- فلا ينافي سؤاله سبحانه إياهم، وقيل:
«لا يكلمهم» أصلا لمزيد غضبه جل جلاله عليهم، والسؤال بواسطة
الملائكة.
وَلا يُزَكِّيهِمْ أي لا يطهرهم من دنس الذنوب، أو لا يثني
عليهم.
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم، وقد جاءت هذه الأخبار مرتبة
بحسب المعنى، لأنه لما ذكر سبحانه اشتراءهم بذلك- الثمن
القليل- وكان كناية عن مطاعمهم الخبيثة الفانية بدأ أولا في
الخبر بقوله تعالى: ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا
النَّارَ ثم قابل- كتمانهم الحق- وعدم التكلم به بقوله تعالى:
وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ تعالى، وابتنى على- كتمانهم
واشترائهم بما أنزل الله تعالى ثمنا قليلا- أنهم شهود زور
وأحبار سوء آذوا بهذه الشهادة الباطلة رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم وآلموه فقوبلوا بقوله سبحانه: وَلا
يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وبدأ أولا بما يقابل
فردا فردا، وثانيا بما يقابل المجموع أُولئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا بسبب كتمانهم الحق للمطامع الدنية، والأغراض
الدنيوية الضَّلالَةَ بِالْهُدى في الدنيا وَالْعَذابَ
بِالْمَغْفِرَةِ في الآخرة، والجملة إما مستأنفة فإنه لما عظم
وعيد الكاتمين كان مظنة أن يسأل عن سبب عظم وعيدهم، فقيل: إنهم
بسبب الكتمان خسروا الدنيا والآخرة، وإما خبر بعد خبر لأن،
والجملة الأولى لبيان شدة وعيدهم، وهذه لبيان شناعة كتمانهم.
فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ أي ما أشد صبرهم، وهو تعجيب
للمؤمنين من ارتكابهم موجباتها من غير مبالاة وإلا فأي صبر
لهم، وما في مثل هذا التركيب قيل: نكرة تامة- وعليه الجمهور-
وقيل: استفهامية ضمنت معنى التعجب- وإليه ذهب الفراء- وقيل:
موصولة- وإليه ذهب الأخفش- وحكي عنه أيضا أنها نكرة موصوفة-
وهي على هذه الأقوال- في محل رفع على الابتداء، والجملة خبرها،
أو خبرها محذوف إن كانت صفة أو صلة، وتمام الكلام
(1/441)
في كتب النحو. ذلِكَ أي مجموع ما ذكر من
أكل النار، وعدم التكليم، والتزكية والعذاب المرتب على الكتمان
بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي بسبب أن الله
تعالى نَزَّلَ القرآن، أو التوراة متلبسا بالحق ليس فيه شائبة
البطلان أصلا فرفضوه- بالتكذيب أو الكتمان.
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ أي في جنسه- بأن
آمنوا ببعض كتب الله تعالى وكفروا ببعض- أو في التوراة، ومعنى
اخْتَلَفُوا تخلفوا عن سلوك طريق الحق فيها، أو جعلوا ما بدلوه
خلفا عما فيها- أو في القرآن- واختلافهم فيه قول بعضهم: إنه
سحر، وبعضهم إنه شعر، وبعضهم إنه أساطير الأولين.
لَفِي شِقاقٍ أي خلاف بَعِيدٍ عن الحق موجب لأشد العذاب، وهذه
الجملة تذييل لما تقدم معطوفة عليه. ومن الناس من جعل- الواو-
للحال والسببية المتقدمة راجعة إليها والتذييل أدخل في الذم
كما لا يخفى لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الْبِرَّ اسم جامع لأنواع
الخير والطاعات المقربة إلى الله تعالى- والخطاب لأهل
الكتابين- والمراد من قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
السمتان المعينان، فإن اليهود تصلي- قبل المغرب- إلى بيت
المقدس من أفق مكة، والنصارى- قبل المشرق- والآية نزلت ردا
عليهم حيث أكثروا الخوض في أمر القبلة وادعى كل طائفة حصر-
البر- على قبلته ردا على الآخر فرد الله تعالى عليهم جميعا
بنفي جنس الْبِرَّ عن قبلتهم لأنها منسوخة، فتعريفه للجنس
لإفادة عموم النفي- لا للقصر- إذ ليس المقصود نفي القصر أو قصر
النفي.
ويحتمل أن يكون الخطاب عاما لهم وللمسلمين- فيكون عودا على
بدء- فإن الكلام في أمر القبلة وطعنهم في النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم بذلك كان أساس الكلام إلى هذا القطع، فجعل خاتمة
كلية أجمل فيها ما فصل. والمراد من ذكر الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ التعميم- لا تعيين السمتين- وتعريف الْبِرَّ
حينئذ إما للجنس فيفيد القصر، والمقصود نفي اختصاص الْبِرَّ
بشأن القبلة مطلقا على ما يقتضيه الحال من كثرة الاشتغال
والاهتمام بذلك والذهول عما سواه، وإما للعهد أي ليس الْبِرَّ
العظيم الذي أكثرتم الخوض فيه وذهلتم عما سواه ذلك، وقدم
المشرق على المغرب مع تأخر زمان الملة النصرانية رعاية لما
بينهما من الترتيب المتفرع على ترتيب الشروق والغروب، وقرأ
حمزة وحفص- البر- بالنصب والباقون بالرفع. ووجه الأولى أن يكون
خبرا مقدما كما في قوله:
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم ... فليس «سواء» عالم وجهول
وحسن ذلك أن المصدر المؤول أعرف من المحلى باللام لأنه يشبه
الضمير من حيث إنه لا يوصف ولا يوصف به والأعرف أحق بالاسمية
ولأن في الاسم طولا فلو روعي الترتيب المعهود لفات تجاوب أطراف
النظم الكريم، ووجه الثانية أن كل فريق يدعي أن البر هذا فيجب
أن يكون الرد موافقا لدعواهم وما ذلك إلا بكون البر اسما كما
يفصح عنه جعله مخبرا عنه في الاستدراك، وقرأ ابن مسعود رضي
الله تعالى عنه لَيْسَ الْبِرَّ بالنصب بأن تولوا- بالباء-
وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ تحقيق للحق بعد بيان
بطلان الباطل، وأل- في الْبِرَّ إما للجنس فيكون القصر ادعائيا
لكمال ذلك الجنس في هذا الفرد، وإما للعهد أي ما ينبغي أن يهتم
به ويعتني بشأنه ويجد في تحصيله، والكلام على حذف مضاف أي- برّ
من آمن- إذ لا يخبر بالجثة عن المعنى ويجوز أن لا يرتكب الحذف
ويجعل المصدر بمعنى اسم الفاعل أو يقال بإطلاق الْبِرَّ على
البار مبالغة، والأول أوفق لقوله: لَيْسَ الْبِرَّ وأحسن في
نفسه لأنه كنزع الخف عند الوصول إلى الماء ولأن المقصود من كون
ذي البر من آمن إفادة أن البر إيمانه فيؤول إلى الأول، والمراد
بهذا الإيمان إيمان خال عن شائبة الإشراك لا كإيمان اليهود
والنصارى القائلين- عزير ابن الله والمسيح ابن الله- وقرأ نافع
وابن عامر- «ولكن» - بالتخفيف، وقرأ بعضهم «البار» بصيغة اسم
الفاعل.
(1/442)
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي المعاد الذي يقول
به المسلمون وما يتبعه عندهم وَالْمَلائِكَةِ أي وآمن بهم وصدق
بأنهم عباد مكرمون لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة ومنهم المتوسطون
بينه تعالى وبين أنبيائه عليهم الصلاة والسلام بإلقاء الوحي
وإنزال الكتب وَالْكِتابِ أي جنسه فيشمل جميع- الكتب- الإلهية
لأن البر الإيمان بجميعها وهو الظاهر الموافق لقرينه، ولما
ورد في الحديث «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله»
أو القرآن لأنه المقصود بالدعوة والكامل الذي يستأهل أن يسمى
كتابا والإيمان به الإيمان بجميع الكتب لكونه مصدقا لما بين
يديه، وقيل: التوراة ويبعده عدم ظهور القرينة المخصصة لها وأن
الإيمان بها لا يستلزم الإيمان بالجميع إلا باعتبار استلزامه
الإيمان بالقرآن، والإيمان بالكتب أن يؤمن بأنها كلام الرب جل
شأنه منزهة عن الحدوث منزلة على ذويها ظاهرة لديهم حسبما
اقتضته الحكمة من اللغات وَالنَّبِيِّينَ أي جميعهم من غير
تفرقة بين أحد منهم كما فعل أهل الكتابين والإيمان بهم أن يصدق
بأنهم معصومون مطهرون وأنهم أشرف الناس حسبا ونسبا وأن ليس
فيهم وصمة ولا عيب منفر ويعتقد أن سيدهم وخاتمهم محمد صلى الله
تعالى عليه وسلم وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع والتمسك بها
لازم لجميع المكلفين إلى يوم القيامة.
وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ حال من ضمير آتى، والضمير المجرور
للمال- أي أعطى المال كائنا على حب المال- والتقييد لبيان أفضل
أنواع الصدقة
فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى
عنه قال:
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «أفضل الصدقة أن تصدق
وأنت صحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت
الحلقوم [الواقعة: 83] قلت لفلان كذا لفلان كذا إلا وقد كان
لفلان»
وفي هذا إيذان بأن درجات الثواب تتفاوت حسب تفاوت المراتب في
الحب حتى أن صدقة الفقير والبخيل أفضل من صدقة الغني والكريم
إلا أن يكونا أحب للمال منهما، ويؤيد ذلك
قوله عليه الصلاة والسلام: «أفضل الأعمال أحمزها»
وجوز رجوع الضمير لله تعالى أو للمصدر المفهوم من الفعل
والتقييد حينئذ للتكميل، وبيان اعتبار الإخلاص أو طيب النفس في
الصدقة ودفع كون إيتاء المال مطلقا برا، والأول هو المأثور عن
السلف الصالح، ولعله المروي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم ذَوِي الْقُرْبى مفعول أول ل آتَى قدم عليه مفعوله
«الثاني» للاهتمام أو لأن فيه مع «ما» عطف عليه طولا لو روعي
الترتيب لفات تجاوب الأطراف، وهو الذي اقتضى تقديم الحال أيضا،
وقيل: هو المفعول الثاني، والمراد ب ذَوِي الْقُرْبى - ذوو
قرابة- المعطي لكن المحاويج منهم لا مطلقا لدلالة سوق الكلام،
وعد مصارف الزكاة على أن المراد الخير والصدقة- وإيتاء-
الأغنياء هبة لا صدقة، وقدم هذا الصنف لأن- إيتاءهم- أهم فقد
صح
عن أم كلثوم بنت عقبة قالت: سمعت رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم يقول: «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح»
وأخرج أحمد والترمذي وغيرهما عن سلمان بن عامر قال: قال رسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «الصدقة على المسكين صدقة وعلى
ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة» .
وَالْيَتامى عطف على ذَوِي الْقُرْبى وقيل على الْقُرْبى إذ لا
يصح إيصال المال إلى من لا يعقل فالمعطي حينئذ كافلهم لأجلهم،
فيه ما لا يخفى وَالْمَساكِينَ جمع- مسكين- وهو الدائم السكون
لما أن الحاجة أسكنته بحيث لا حراك به أو دائم السكون،
والالتجاء إلى الناس، وتخصيصه بمن لا شيء له أو بمن لا يملك ما
يقع موقعا من حاجته خارج عن مفهومه وَابْنَ السَّبِيلِ أي
المسافر- كما قاله مجاهد- وسمي بذلك لملازمته الطريق في السفر
أو لأن الطريق تبرزه فكأنها ولدته وكأن إفراده لانفراده عن
أحبابه ووطنه وأصحابه فهو أبدا يتوق إلى الجمع، ويشتاق إلى
الربع، والكريم يحن إلى وطنه حنين الشارف إلى عطنه، أو لأنه
لما لم يكن بين أبناء السبيل، والمعطي تعارف غالبا يهون أمر
الإعطاء ويرغب فيه أفردهم ليهون أمر إعطائهم
(1/443)
وليشير إلى أنهم وإن كانوا جمعا ينبغي أن
يعتبروا كنفس واحدة فلا يضجر من إعطائهم لعدم معرفتهم وبعد
منفعتهم فليفهم، وروي عن ابن عباس وقتادة وابن جبير أنه الضيف
الذي ينزل بالمسلمين وَالسَّائِلِينَ أي الطالبين للطعام سواء
كانوا أغنياء إلا أن ما عندهم لا يكفي لحاجتهم أو فقراء كما
يدل عليه ظاهر ما
أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن أبي حاتم عن الحسين بن علي
رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم: «للسائل حق وإن جاء على فرس»
فإن الجائي على فرس يكون في الغالب غنيا، وقيل: أراد
الْمَساكِينَ الذين يسألون فتعرف حالهم بسؤالهم،
وَالْمَساكِينَ السابق ذكرهم الذين لا يسألون وتعرف حاجتهم
بحالهم وإن كان ظاهرهم الغنى وعليه يكون التقييد في الحديث
لتأكيد رعاية حق السائل وتحقيق أن السؤال سبب للاستحقاق، وإن
فرض وجوده من الغنى كالقرابة واليتم.
وَفِي الرِّقابِ متعلق ب آتَى أي آتى المال في تخليص الرقاب
وفكاكها بمعاونة المكاتبين، أو فك الأسارى، أو ابتياع الرقاب
لعتقها، والرقبة- مجاز عن الشخص وإيراد كلمة- في للإيذان بأن
ما يعطى لهؤلاء مصروف في تخليصهم لا يملكونه كما في المصارف
الأخر وَأَقامَ الصَّلاةَ عطف على صلة مَنْ والمراد بالصلاة
المفروضة كالزكاة في وَآتَى الزَّكاةَ بناء على أن المراد بما
مر من إيتاء المال نوافل الصدقات وقدمت على الفريضة مبالغة في
الحث عليها، أو حقوق كانت في المال غير مقدرة سوى الزكاة،
أخرج الترمذي والدارقطني وجماعة عن فاطمة بنت قيس قالت: «قال
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: في المال حق سوى الزكاة ثم
قرأ الآية» وأخرج البخاري في تاريخه عن أبي هريرة رضي الله
تعالى عنه نحو ذلك،
واختلف هل بقي هذا الحق أم لا؟ فذهب قوم إلى الثاني واستدلوا
بما
روي عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا- نسخ الأضحى كل ذبح،
ورمضان كل صوم وغسل الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة-
وقال جماعة بالأول لقوله تعالى: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:
19]
ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن بالله واليوم الآخر من
بات شبعا وجاره طاو إلى جنبه»
وللإجماع على أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس
أن يعطوا مقدار دفع الضرورة وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم ولو
امتنعوا عن الأداء جاز الأخذ منهم وأجابوا عن الحديث بأنه غريب
معارض، وفي إسناده المسيب بن شريك- وهو ليس بالقوي عندهم- وبأن
المراد أن الزكاة نسخت كل صدقة مقدرة، وجوز أن يكون المراد بما
مر الزكاة المفروضة أيضا ولا تكرار لأن الغرض مما تقدم بيان
مصارفها، ومن هذا بيان أدائها والحث عليها وترك ذكر بعض
المصارف لأن المقصود هاهنا بيان أبواب الخير دون الحصر، وقدم
بيان المصرف اهتماما بشأنه فإن الصدقة إنما تعتبر إذا كانت في
مصرفها ومحلها كما يدل عليه قوله تعالى: قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ
مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة: 215]
وعلى هذا يتعين أن يراد بالسائلين الفقراء وَالْمُوفُونَ
بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا عطف على مَنْ آمَنَ ولم يقل وأوفى
كما قبله إشارة إلى وجوب استقرار الوفاء، وقيل: رمزا إلى أنه
أمر مقصود بالذات، وقيل: إيذانا بمغايرته لما سبق فإنه من حقوق
الله تعالى والسابق من حقوق الناس، وعلى هذا فالمراد بالعهد ما
لا يحلل حراما ولا يحرم حلالا من العهود الجارية فيما بين
الناس، والظاهر حمل العهد على ما يشمل حقوق الحق وحقوق الخلق،
وحذف المعمول يؤذن بذلك، والتقييد بالظرف للإشارة إلى أنه لا
يتأخر إيفاؤهم بالعهد عن وقت المعاهدة، وقيل: للإشارة إلى عدم
كون العهد من ضروريات الدين وليس للتأكيد كما قيل: به
وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ نصب على المدح
بتقدير- أخص أو أمدح- وغير سبكه عما قبله تنبيها على فضيلة
الصبر ومزيته على سائر الأعمال حتى كأنه ليس من جنس الأول،
ومجيء القطع في العطف مما أثبته الأئمة الأعلام ووقع في الكتاب
أيضا واستحسنه الأجلة وجعلوه أبلغ من الاتباع
(1/444)
وقد جاء في النكرة أيضا كقول الهذلي:
ويأوي إلى نسوة عطل ... وشعثا مراضيع مثل السعالى
والبأساء- البؤس والفقر، والضراء- السقم والوجع وهما مصدران
بنيا على فعلاء وليس لهما أفعل لأن أفعل وفعلاء في الصفات
والنعوت ولم يأتيا في الأسماء التي ليست بنعوت وقرىء والصابرون
كما قرىء والموفين.
وَحِينَ الْبَأْسِ أي وقت القتال وجهاد العدو وهذا من باب
الترقي في الصبر من الشديد إلى الأشد لأن الصبر على المرض فوق
الصبر على الفقر والصبر على القتال فوق الصبر على المرض، وعدي
الصبر على الأولين بفي لأنه لا يعد الإنسان من الممدوحين إذا
صبر على شيء من ذلك إلا إذا صار الفقر والمرض كالظرف له وأما
إذا أصاباه وقتا ما وصبر فليس فيه مدح كثير إذ أكثر الناس كذلك
وأتى- بحين- في الأخير لأن القتال حالة لا تكاد تدوم في أغلب
الأوقات أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في إيمانهم أو طلب البر.
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ عذاب الله تعالى بتجنب معاصيه
وامتثال أوامره، وأتى بخبر- أولئك- الأولى موصولا بفعل ماض
إيذانا بتحقق اتصافهم به وإن ذلك قد وقع منهم واستقر، وغاير في
خبر الثانية ليدل على أن ذلك ليس بمتجدد بل صار كالسجية لهم،
وأيضا لو أتى به على طبق سابقه لما حسن وقوعه فاصلة، هذا
والآية كما ترى مشتملة على خمس عشرة خصلة وترجع إلى ثلاثة
أقسام، فالخمسة الأولى منها تتعلق بالكمالات الإنسانية التي هي
من قبيل صحة الاعتقاد، وآخرها قوله: وَالنَّبِيِّينَ وافتتحها
بالإيمان بالله واليوم الآخر لأنهما إشارة إلى المبدأ والمعاد
اللذين هما المشرق والمغرب في الحقيقة فيلتئم مع ما نفاه أو لا
غاية الالتئام، والستة التي بعدها تتعلق بالكمالات النفسية
التي هي من قبيل حسن معاشرة العباد وأولها وَآتَى الْمالَ
وآخرها وَفِي الرِّقابِ والأربعة الأخيرة تتعلق بالكمالات
الإنسانية التي هي من قبيل تهذيب النفس وأولها وَأَقامَ الصلاة
وآخرها وَحِينَ الْبَأْسِ ولعمري من عمل بهذه الآية فقد استكمل
الإيمان ونال أقصى مراتب الإيقان «ومن باب التأويل» لَيْسَ
الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ مشرق عالم الأرواح
ومغرب عالم الأجساد فإن ذلك تقيد واحتجاب وَلكِنَّ الْبِرَّ بر
الموحد الذي آمن بالله والمعاد في مقام الجمع وشاهد الجمع في
تفاصيل الكثرة ولم يحتجب بالجمع عن التفصيل الذي هو باطن عالم
الملائكة وظاهر عالم النبيين والكتاب الجامع بين الظاهر
والباطن وَآتَى العلم الذي هو مال القلب مع كونه محبوبا ذوي
قربى القوى الروحانية القريبة منه، ويتامى القوى النفسانية
المنقطعة عن الأب الحقيقي وهو نور الروح، ومساكين القوى
الطبيعية التي لم تزل دائمة السكون إلى تراب البدن، وأبناء
السبيل السالكين إلى منازل الحق، والسائلين الطالبين بلسان
استعدادهم ما يكون غذاء لأرواحهم، وفي فك رقاب عبدة الدنيا
وأسراء الشهوات بالوعظ والإرشاد، وأقام صلاة الحضور، وآتى ما
يزكي نفسه بنفي الخواطر ومحو الصفات، والموفون بعهد الأزل بترك
المعارضة في العبودية والإعراض عما سوى الحق في مقام المعرفة،
والصابرين في بأساء الافتقار إلى الله تعالى دائما، وضراء كسر
النفس، وحين بأس محاربة العدو الأعظم أولئك الذين صدقوا الله
تعالى في السير إليه وبذل الوجود وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ عن الشرك المنزهون عن سائر الرذائل يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا شروع في بيان بعض الأحكام الشرعية على وجه
التلافي لما فرط من المخلين بما تقدم من قواعد الدين التي يبنى
عليها أمر المعاش والمعاد كُتِبَ عَلَيْكُمُ أي فرض وألزم عند
مطالبة صاحب الحق فلا يضر فيه قدرة الولي على العفو فإن الوجوب
إنما اعتبر بالنسبة إلى الحكام أو القاتلين، وأصل الكتابة الخط
ثم كني به عن الإلزام، وكلمة- على- صريحة في ذلك الْقِصاصُ فِي
الْقَتْلى أي بسببهم على حد «إن امرأة دخلت النار في هرة
ربطتها» وقيل: عدي القصاص بفي لتضمنه معنى المساواة إذ معناه
أن يفعل
(1/445)
بالإنسان مثل ما فعل، ومنه سمي المقص مقصا
لتعادل جانبيه، والقصة قصة لأن الحكاية تساوي المحكي، والقصاص
قصاصا لأنه يذكر مثل أخبار الناس، والْقَتْلى جمع قتيل كجريح
وجرحى، وقرىء- كتب- على البناء للفاعل، والْقِصاصُ بالنصب وليس
في إضمار المتعين المتقرر قبل ذكره إضمار قبل الذكر الْحُرُّ
بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى جملة مبينة
لما قبلها أي الحر يقتص بالحر، وقيل: مأخوذ به
روي أنه كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء وكان
لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منهم بالعبد والذكر
بالأنثى فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم فنزلت فأمرهم (1) أن يتباؤوا،
فالآية كما تدل على أن لا يقتل العبد بالحر والأنثى بالذكر لأن
مفهوم المخالفة إنما يعتبر إذا لم يعلم نفيه بمفهوم الموافقة
وقد علم من قتل العبد بالعبد وقتل الأنثى بالأنثى أنه يقتل
العبد بالحر والأنثى بالذكر بطريق الأولى كذلك لا تدل على أن
لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى لأن مفهوم المخالفة كما هو
مشروط بذلك الشرط مشروط بأن لا يكون للتخصيص فائدة أخرى،
والحديث بين الفائدة وهو المنع من التعدي وإثبات المساواة بين
حر وحر وعبد وعبد فمنع الشافعي ومالك قتل الحر بالعبد سواء كان
عبده أو عبد غيره ليس للآية بل للسنة والإجماع والقياس، أما
الأول
فقد أخرج ابن أبي شيبة عن علي رضي الله تعالى عنه «أن رجلا قتل
عبده فجلده الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ونفاه سنة ولم
يقده به»
وأخرج أيضا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال «من السنة أن لا
يقتل مسلم بذي عهد ولا حر بعبد»
وأما الثاني فقد روي أن أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما
كانا لا يقتلان الحر بالعبد بين أظهر الصحابة ولم ينكر عليهما
أحد منهم وهم الذين لم تأخذهم في الله تعالى لومة لائم. وأما
الثالث فلأنه لا قصاص في الأطراف بين الحر والعبد بالاتفاق
فيقاس القتل عليه، وعند إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه يقتل
الحر بالعبد
لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم»
ولأن القصاص يعتمد المساواة في العصمة وهي بالدين أو بالدار
وهما سيان فيهما، والتفاضل في الأنفس غير معتبر بدليل أن
الجماعة لو قتلوا واحدا قتلوا به ولقوله تعالى: أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة: 45] وشريعة من قبلنا إذا قصت
علينا من غير دلالة على نسخها فالعمل بها واجب على أنها شريعة
لنا، ومن الناس من قال: إن الآية دالة على ما ذهب إليه المخالف
لأن الْحُرُّ بِالْحُرِّ بيان وتفسير لقوله تعالى: كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى فدل على أن رعاية التسوية
في- الحرية والعبدية- معتبرة، وإيجاب الْقِصاصُ على- الحر-
بقتل الْعَبْدُ إهمال لرعاية التسوية في ذلك المعنى، ومقتضى
هذا أن لا يقتل الْعَبْدُ إلا بِالْعَبْدِ ولا تقتل الْأُنْثى
إلا بِالْأُنْثى إلا أن المخالف لم يذهب إليه، وخالف الظاهر
للقياس والإجماع، ومن سلم هذا منا ادعى نسخ الآية بقوله تعالى:
أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ لأنه لعمومه نسخ اشتراط المساواة
في الحرية والذكورة المستفادة منها، وهو المروي عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما، وسعيد بن المسيب والشعبي والنخعي
والثوري وأورد عليه أن الآية حكاية ما في التوراة وحجية حكاية
شرع من قبلنا مشروطة بأن لا يظهر ناسخه كما صرحوا به، وهو
يتوقف على أن لا يوجد في القرآن ما يخالف المحكي إذ لو وجد ذلك
كان ناسخا له لتأخره عنه فتكون الحكاية حكاية المنسوخ، ولا
تكون حجة فضلا عن أن تكون ناسخا، وبعد تسليم الدلالة يوجد
الناسخ كما لا يخفى هذا، وذهب ساداتنا الحنفية والمالكية
وجماعة إلى أنه ليس للولي إلا
__________
(1) إن كان الحيان كفارا كما يشعر به لفظ التحاكم. ويدل عليه
ما في المغني أنهم قريظة، والنضير فالأمر بالتساوي ظاهر، وإن
كانوا مسلمين كما يدل عليه ما في الدر المنظوم- فمعنى الأمر به
أن ما مضى سواء بسواء، وأن ما أقسموا عليه يجب أن ينتهوا عنه
فلا يرد أن الإسلام يجب ما قبله اهـ منه.
(1/446)
القصاص ولا يأخذ الدية إلا برضا القاتل لأن
الله تعالى ذكر في الخطأ الدية فتعين أن يكون القصاص فيما هو
ضد الخطأ وهو العمد ولما تعين بالعمد لا يعدل عنه لئلا يلزم
الزيادة على النص بالرأي، واعترض بأن منطوق النص وجوب رعاية
المساواة في القود وهو لا يقتضي وجوب أصل القود، وأجيب بأن
القصاص وهو القود بطريق المساواة يقتضي وجوبهما فَمَنْ عُفِيَ
لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ أي ما يسمى شيئا من العفو والتجاوز
ولو أقل قليل فالمصدر المبهم في حكم الموصوف فيجوز نيابته عن
الفاعل وله مفعول به، ومِنْ أَخِيهِ يجوز أن يتعلق بالفعل
ويجوز أن يكون حالا من شيء، وفي إقامة شيء مقام الفاعل على
إشعار بأن بعض العفو كأن يعفى عن بعض الدم أو يعفو عنه بعض
الورثة كالعفو التام في إسقاط القصاص لأنه لا يتجزأ، والمراد
بالأخ وليّ الدم سماه أخا استعطافا بتذكير إخوة البشرية
والدين، وقيل: المراد به المقتول، والكلام على حذف مضاف أي من
دم أخيه، وسماه أخا القاتل للإشارة إلى أن أخوة الإسلام بينهما
لا تنقطع بالقتل، وعُفِيَ تعدى إلى الجاني وإلى الجناية بعن
يقال: عفوت عن زيد وعن ذنبه- وإذا عديت إلى الذنب مرادا سواء
كان مذكورا أولا كما في الآية عدي إلى الجاني «باللام» لأن
التجاوز عن الأول والنفع للثاني فالقصد هنا إلى التجاوز عن
الجناية إلا أنه ترك ذكرها لأن الاهتمام بشأن الجاني، وقدر
بعضهم- عن- هذه داخلة على شيء لكن لما حذفت ارتفع لوقوعه موقع
الفاعل، وهو من باب الحذف والإيصال المقصور على السماع، ومن
الناس من فسر عُفِيَ بترك فهو حينئذ متعد أقيم مفعوله مقام
فاعله، واعترض بأنه لم يثبت- عفا- الشيء بمعنى تركه، وإنما
الثابت أعفاه، ورد بأنه ورد، ونقله أئمة اللغة المعول عليهم في
هذا الشأن وهو وإن لم يشتهر إلا أن إسناد المبني للمجهول إلى
المفعول الذي هو الأصل يرجح اعتباره ويجعله أولى من المشهور
لما أن فيه إسناد المجهول للمصدر وهو خلاف الأصل، والقول بأن
شَيْءٌ مرفوع- بترك- محذوفا يدل عليه عُفِيَ ليس بشيء لأنه بعد
اعتبار معنى العفو لا حاجة إلى معنى الترك بل هو ركيك كما لا
يخفى فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ
أي فليكن- اتباع- أو فالأمر- اتباع- والمراد وصية العافي بأن
لا يشدد في طلب الدية على المعفو له وينظره إن كان معسرا ولا
يطالبه بالزيادة عليها والمعفو بأن لا يمطل العافي فيها ولا
يبخس منها ويدفعها عند الإمكان، وإلى هذا ذهب ابن عباس رضي
الله تعالى عنه والحسن وقتادة ومجاهد، وقيل: المراد فعلى
المعفو له الاتباع والأداء، والجملة خبر مِنْ على تقدير
موصوليتها، وجواب الشرط على تقدير شرطيتها، وربما يستدل بالآية
على أن مقتضى العمد القصاص وحده حيث رتب الأمر بأداء الدية على
العفو المرتب على وجوب القصاص، واستدل بها بعضهم على أن الدية
أحد مقتضى العمد وإلا لما رتب الأمر بأداء الدية على مطلق
العفو الشامل للعفو عن كل الدم وبعضه بل يشترط رضا القاتل
وتقييده بالبعض، واعترض بأنه إنما يتم لو كان التنوين في شيء
للإبهام أي شيء من العفو أي شيء كان ككله أو بعضه أما لو كان
للتقليل فلا إذ يكون الأمر بالأداء مرتبا على بعض العفو ولا شك
أنه إذا تحقق عن الدم يصير الباقي مالا وإن لم يرض القاتل،
وأيضا الآية نزلت في الصلح وهو الموافق للأم فإن عفا إذا
استعملت بها كان معناها البدل أي فمن أعطى له من جهة أخيه
المقتول شيء من المال بطريق الصلح فلمن أعطى وهو الولي مطالبة
البدل عن مجاملة وحسن معاملة إلا أن يقال: إنها نزلت في-
العفو- كما هو ظاهر اللفظ، وبه قال أكثر المفسرين.
ذلِكَ أي الحكم المذكور في ضمن بيان العفو والدية تَخْفِيفٌ
مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ لما في شرعية العفو تسهيل على
القاتل، وفي شرعية- الدية- نفع لأولياء المقتول، وعن مقاتل أنه
كُتِبَ على اليهود الْقِصاصُ وحده، وعلى النصارى- العفو- مطلقا
وخير هذه الأمة بين الثلاث تيسيرا عليهم وتنزيلا للحكم على حسب
المنازل وعلى هذا يكون فَمَنْ تَصَدَّقَ بيانا لحكم هذه
الشريعة بعد حكاية حكم كان في التوراة، وليس داخلا تحت
(1/447)
الحكاية فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ أي
تجاوز ما شرع بأن قتل غير القاتل بعد ورود هذا الحكم، أو قتل
القاتل بعد- العفو- وأخذ الدية فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ أي نوع
من العذاب مؤلم، والمتبادر أنه في الآخرة، والمروي عن الحسن
وابن جبير أنه في الدنيا بأن يقتل لا محالة ولا يقبل منه دية
لما
أخرجه أبو داود من حديث سمرة مرفوعا «لا أعافي أحدا قتل بعد
أخذ الدية» .
وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ عطف على قوله تعالى: كُتِبَ
عَلَيْكُمُ والمقصود منه توطين النفس على الانقياد لحكم
الْقِصاصِ لكونه شاقا للنفس- وهو كلام في غاية البلاغة- وكان
أوجز كلام عندهم في هذا المعنى- القتل أنفى للقتل- وفضل هذا
الكلام عليه من وجوه «الأول» قلة الحروف، فإن الملفوظ هنا عشرة
أحرف- إذا لم يعتبر التنوين حرفا على حدة- وهناك أربعة عشر
حرفا «الثاني» الإطراد، إذ في كل- قصاص حياة- وليس كل قتل أنفى
للقتل- فإن للقتل ظلما أدعى للقتل «الثالث» ما في تنوين حَياةٌ
من النوعية أو التعظيم.
«الرابع» صنعة الطباق بين- القصاص والحياة- فإن الْقِصاصِ
تفويت- الحياة- فهو مقابلها.
«الخامس» النص على ما هو المطلوب بالذات- أعني الحياة- فإن
نفي- القتل- إنما يطلب لها لا لذاته.
«السادس» الغرابة من حيث جعل الشيء فيه حاصلا في ضده، ومن جهة
أن المظروف إذا حواه الظرف صانه عن التفرق، فكان الْقِصاصِ
فيما نحن فيه يحمي الحياة من الآفات «السابع» الخلو عن التكرار
مع التقارب، فإنه لا يخلو عن استبشاع، ولا يعد رد العجز على
الصدر حتى يكون محسنا «الثامن» عذوبة اللفظ وسلاسته حيث لم يكن
فيه ما في قولهم من توالي الأسباب الخفيفة إذ ليس في قولهم:
حرفان متحركان على التوالي إلا في موضع واحد، ولا شك أنه ينقص
من سلاسة اللفظ وجريانه على اللسان، وأيضا الخروج من- الفاء
إلى اللام- أعدل من الخروج من- اللام إلى الهمزة لبعد الهمزة
من اللام- وكذلك الخروج من- الصاد إلى الحاء- أعدل من الخروج
من- الألف إلى اللام- «التاسع» عدم الاحتياج إلى الحيثية،
وقولهم: يحتاج إليها.
«العاشر» تعريف الْقِصاصِ بلام الجنس الدالة على حقيقة هذا
الحكم المشتملة على- الضرب والجرح والقتل- وغير ذلك، وقولهم:
لا يشمله «الحادي عشر» خلوه من أفعل الموهم أن في الترك نفيا
للقتل أيضا.
«الثاني عشر» اشتماله على ما يصلح للقتال وهو- الحياة- بخلاف
قولهم، فإنه يشتمل على نفي اكتنفه قتلان، وإنه لمما يليق بهم
«الثالث عشر» خلوه عما يوهمه ظاهر قولهم من كون الشيء سببا
لانتفاء نفسه- وهو محال إلى غير ذلك- فسبحان من علت كلمته،
وبهرت آيته، ثم المراد ب حَياةٌ اما الدنيوية- وهو الظاهر- لأن
في شرع الْقِصاصِ والعلم به يروع القاتل عن القتل، فيكون سبب
حَياةٌ نفسين في هذه النشأة، ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل،
والجماعة بالواحد، فتثور الفتنة بينهم، وتقوم حرب البسوس على
ساق، فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون- ويصير ذلك سببا
لحياتهم- ويلزم على الأول الإضمار، وعلى الثاني التخصيص، وأما
الحياة الأخروية بناء على أن القاتل إذا اقتص منه في الدنيا لم
يؤاخذ بحق المقتول في الآخرة، وعلى هذا يكون الخطاب خاصا
بالقاتلين، والظاهر أنه عام والظرفان إما خبران ل حَياةٌ أو
أحدهما خبر والآخر صلة له، أو حال من المستكن فيه. وقرأ أبو
الجوزاء «في القصص» وهو مصدر بمعنى المفعول، والمراد من
المقصوص هذا الحكم بخصوصه- أو القرآن مطلقا- وحينئذ يراد-
بالحياة- حياة القلوب لا حياة الأجساد، وجوز كون «القصص» مصدرا
بمعنى الْقِصاصِ فتبقى- الحياة- على حالها يا أُولِي
الْأَلْبابِ يا ذوي العقول الخالصة عن شوب الهوى، وإنما خصهم
بالنداء مع أن الخطاب السابق عام
(1/448)
|