روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني كُتِبَ عَلَيْكُمْ
إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا
الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ
حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا
سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ
جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ
عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ
عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ
عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ
تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ
عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا
هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ
عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ
إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي
لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ
الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ
وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا
عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ
اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا
تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ
اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا
مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(188) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ
لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا
الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى
وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ
أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا
تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى
يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ
كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى
لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ
انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
لأنهم أهل التأمل في حكمة الْقِصاصِ من
استبقاء الأرواح وحفظ النفوس، وقيل: للإشارة إلى أن الحكم
مخصوص بالبالغين دون الصبيان لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ربكم
باجتناب معاصيه المفضية إلى العذاب أو القتل بالخوف من
الْقِصاصِ وهو المروي عن ابن عباس والحسن وزيد رضي الله تعالى
عنهم، والجملة متعلقة بأول الكلام.
(1/449)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ بيان حكم آخر من الأحكام المذكورة، وفصله عما سبق
للدلالة على كونه حكما مستقلا- كما فصل اللاحق لذلك- ولم يصدره
بيا أيها الذين آمنوا لقرب العهد بالتنبيه مع ملابسته بالسابق
في كون كل منهما متعلقا بالأموات، أو لأنه لما لم يكن شاقا لم
يصدره كما صدر الشاق تنشيطا لفعله، والمراد من- حضور الموت-
حضور أسبابه، وظهور أماراته من العلل والأمراض المخوفة أو
حضوره نفسه ودنوه، وتقديم المفعول لإفادة كمال تمكن الفاعل عند
النفس وقت وروده عليها.
إِنْ تَرَكَ خَيْراً أي مالا- كما قاله ابن عباس رضي الله
تعالى عنه ومجاهد- وقيده بعضهم بكونه كثيرا إذ لا يقال في
العرف للمال: خَيْراً إلا إذا كان كثيرا، كما لا يقال: فلان ذو
مال إلا إذا كان له مال كثير، ويؤيده ما
أخرجه البيهقي وجماعة- عن عروة- أن عليا كرم الله تعالى وجهه
دخل على مولى له في الموت وله سبعمائة درهم أو ستمائة درهم،
فقال: ألا أوصي؟ قال لا إنما قال الله تعالى: إِنْ تَرَكَ
خَيْراً وليس لك كثير مال، فدع مالك لورثتك.
وما أخرجه ابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رجلا
قال لها: أريد أن أوصي قالت: كم مالك؟
قال: ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة، قالت: قال الله
تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً وهذا شيء يسير فاتركه لعيالك فهو
أفضل، والظاهر من هذا أن الكثرة غير مقدرة بمقدار، بل تختلف
باختلاف حال الرجل فإنه بمقدار من المال يوصف رجل بالغني ولا
يوصف به غيره لكثرة العيال. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
تقديرها، فقد أخرج عبد بن حميد عنه «من لم يترك ستين دينارا لم
يترك خيرا» ومذهب الزهري أن الْوَصِيَّةُ مشروعة مما قل أو
كثر،- فالخير- عنده المال مطلقا- وهو أحد إطلاقاته- ولعل
اختياره إيذانا بأنه ينبغي أن يكون الموصى به حلالا طيبا لا
خبيثا لأن الخبيث يجب رده إلى أربابه ويأثم ب الْوَصِيَّةُ
فيه.
الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مرفوع ب كُتِبَ
وفي الرضيّ إذا كان الظاهر غير حقيقي التأنيث منفصلا فترك
العلامة أحسن إظهار الفضل الحقيقي على غيره- ولهذا اختير هنا
تذكير الفعل- والْوَصِيَّةُ اسم من أوصى يوصي، وفي القاموس
أوصاه ووصاه توصية- عهد إليه- والاسم الوصاية والْوَصِيَّةُ
وهي الموصى به أيضا والجار متعلق بها فلا بد من تأويلها بأن مع
الفعل عند الجمهور، أو بالمصدر بناء على تحقيق الرضى من أن عمل
المصدر لا يتوقف على تأويله، وهو الراجح ولذلك ذكر الراجع في
بدله، وجوز أن يكون النائب عَلَيْكُمْ والْوَصِيَّةُ خبر مبتدأ
كأنه قيل: ما المكتوب؟ فقيل هو الوصية، وجواب الشرط محذوف دل
عليه كُتِبَ عَلَيْكُمْ، وقيل: مبتدأ خبره لِلْوالِدَيْنِ
والجملة جواب الشرط بإضمار الفاء لأن الاسمية إذا كانت جزاء لا
بد فيها منها، والجملة الشرطية مرفوعة ب كُتِبَ أو عَلَيْكُمْ
وحده، والجملة استئنافية ورد بأن إضمار الفاء غير صحيح لا
يجترى عليه إلا في ضرورة الشعر كما قال الخليل، والعامل في
إِذا معنى كُتِبَ والظرف قيد للإيجاب من حيث الحدوث والوقوع،
والمعنى توجه خطاب الله تعالى عَلَيْكُمْ ومقتضى كتابته إِذا
حَضَرَ وغير إلى ما ترى لينظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في
الأزل، وجوز أن يكون العامل الوصية، وهي وإن كانت اسما إلا
أنها مؤولة بالمصدر أو بأن والفعل، والظرف مما يكفيه رائحة
الفعل لأن له شأنا ليس لغيره لتنزيله من الشيء منزلة نفسه
لوقوعه فيه، وعدم انفكاكه عنه، ولهذا توسع في الظروف ما لم
يتوسع في غيرها، وليس كل مؤول بشيء حكمه حكم ما أوّل به، وقد
كثر تقديم معمول المصدر عليه في الكلام، والتقدير تكلف، ولا
يرد على التقديرين أن الوصية واجبة على- من حضره الموت-
(1/450)
لا على جميع المؤمنين عند حضور أحدهم الموت
لأن «أحدكم» يفيد العموم على سبيل البدل فمعنى إِذا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ إذا حضر واحدا بعد واحد، وإنما زيد لفظ- أحد-
للتنصيص على كونها فرض عين لا كفاية كما في كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى والقول بأن الوصية لم تفرض على من-
حضره الموت- فقط بل عليه بأن يوصي، وعلى الغير بأن يحفظ ولا
يبدل، ولهذا قال: عَلَيْكُمْ وقال أَحَدَكُمُ لأن الموت يحضر
أحد المخاطبين بالافتراض عليهم ليس بشيء لأن حفظ الوصية إنما
يفرض على البعض بعد الوصية لا وقت الاحتضار فكيف يصح أن يقال
فرض عليكم حفظ الوصية إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ولأن
إرادة الإيصاء، وحفظه من الوصية تعسف لا يخفى، واختار بعض
المحققين أن إِذا شرطية وجواب الشرط كل من الشرطين محذوف،
والتقدير إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ- فليوص إن ترك
خيرا- فليوص فحذف جواب الشرط الأول لدلالة السياق عليه، وحذف
جواب الشرط الثاني لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه، والشرط
الثاني عند صاحب التسهيل مقيد للأول كأنه قيل: إِذا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تاركا للخير فليوص، ومجموع الشرطين معترض
بين كُتِبَ وفاعله لبيان كيفية الإيصاء قبل، ولا يخفى أن هذا
الوجه مع غنائه عن تكلف تصحيح الظرفية وزيادة لفظ- أحد- أنسب
بالبلاغة القرآنية حيث ورد الحكم أولا مجملا ثم مفصلا ووقع
الاعتراض بين الفعل وفاعله للاهتمام ببيان كيفية الوصية
الواجبة انتهى. وأنت تعلم ما في ذلك من كثرة الحذف المهونة لما
تقدم، ثم إن هذا الحكم كان في بدء الإسلام ثم نسخ بآية
المواريث كما قاله ابن عباس وابن عمر وقتادة وشريح ومجاهد
وغيرهم،
وقد أخرج أحمد وعبد بن حميد، والترمذي، وصححه والنسائي، وابن
ماجة عن عمرو بن خارجة رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم خطبهم على راحلته فقال:
«إن الله قد قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث فلا تجوز لوارث
وصية»
وأخرج أحمد والبيهقي في سننه عن أبي أمامة الباهلي سمعت رسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حجة الوداع في خطبته يقول:
«إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» وأخرج عبد بن
حميد عن الحسن نحو ذلك،
وهذه الأحاديث لتلقي الأمة لها بالقبول انتظمت في سلك المتواتر
في صحة النسخ بها عند أئمتنا قدس الله أسرارهم بل قال البعض:
إنها من المتواتر وإن التواتر قد يكون بنقل من لا يتصور
تواطؤهم على الكذب وقد يكون بفعلهم بأن يكونوا عملوا به من غير
نكير منهم على أن النسخ في الحقيقة بآية المواريث والأحاديث
مبينة لجهة نسخها، وبين فخر الإسلام ذلك بوجهين «الأول» أنها
نزلت بعد آية الوصية بالاتفاق وقد قال تعالى: مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ [النساء: 11] فرتب الميراث
على- وصية- منكرة- والوصية- الأولى كانت معهودة فلو كانت تلك-
الوصية- باقية لوجب ترتيبه على المعهود فلما لم يترتب عليه
ورتب على المطلق دل على نسخ الوصية المقيدة لأن الإطلاق بعد
التقييد نسخ كما أن التقييد بعد الإطلاق كذلك لتغاير المعنيين
«والثاني» أن النسخ نوعان: أحدهما ابتداء بعد انتهاء محض،
والثاني بطريق الحوالة من محل إلى آخر كما في نسخ القبلة، وهذا
من قبيل الثاني لأن الله تعالى فرض الإيصاء في الأقربين إلى
العباد بشرط أن يراعوا الحدود، ويبينوا حق كل قريب بحسب
قرابته، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
بِالْمَعْرُوفِ أي بالعدل، ثم لما كان الموصي قد لا يحسن
التدبير في مقدار ما يوصي لكل واحد منهم وربما كان يقصد
المضارة تولى بنفسه بيان ذلك الحق على وجه تيقن به أنه الصواب
وأن فيه الحكمة البالغة، وقصره على حدود لازمة من السدس والثلث
والنصف والثمن لا يمكن تغيرها فتحول من جهة الإيصاء إلى
الميراث فقال:
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: 11] أي الذي فوض
إليكم تولي شأنه بنفسه إذ عجزتم عن مقاديره لجهلكم، ولما بين
بنفسه ذلك الحق بعينه انتهى حكم تلك الوصية لحصول المقصود
بأقوى الطرق كمن أمره غيره بإعتاق
(1/451)
عبده ثم أعتقه بنفسه فإنه بذلك انتهى حكم
الوكالة، وإلى ذلك تشير الأحاديث لما أن- الفاء- تدل على سببية
ما قبلها لما بعدها فما قيل: إن من أن آية المواريث لا تعارض
هذا الحكم بل تحققه من حيث تدل على تقديم الوصية مطلقا،
والأحاديث من الآحاد وتلقي الأمة لها بالقبول لا تلحقها
بالمتواتر، ولعله احترز عن النسخ من فسر الوصية بما أوصى به
الله عز وجل من توريث الوالدين والأقربين بقوله سبحانه
يُوصِيكُمُ اللَّهُ أو بإيصاء المحتضر لهم بتوفير ما أوصى به
الله تعالى عليهم على ما فيه بمعزل عن التحقيق وكذا ما قيل: من
أن الوصية للوارث كانت واجبة بهذه الآية من غير تعيين
لأنصبائهم فلما نزلت آية المواريث بيانا للأنصباء بلفظ الإيصاء
فهم منها بتنبيه النبي صلّى الله عليه وسلّم أن المراد منه هذه
الوصية التي كانت واجبة كأنه قيل: إن الله تعالى أوصى بنفسه
تلك الوصية ولم يفوضها إليكم فقام الميراث مقام الوصية فكان
هذا معنى النسخ لا أن فيها دلالة على رفع ذلك الحكم لأن كون
آية المواريث رافعة لذلك الحكم مبينة لانتهائه مما لا ينبغي أن
يشتبه على أحد، ثم إن القائلين بالنسخ اختلفوا، فمنهم من قال:
إن وجوبها صار منسوخا في حق الأقارب الذين يرثون وبقي في حق
الذين لا يرثون من الوالدين والأقربين كأن يكونوا كافرين،
وإليه ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنه،
وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه من لم يوص عند موته لذوي
قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية،
ومنهم من قال: إن الوجوب صار منسوخا في حق الكافة، وهي مستحبة
في حق الذين لا يرثون وإليه ذهب الأكثرون، واستدل محمد بن
الحسن بالآية على أن مطلق الأقربين لا يتناول الوالدين لعطفه
عليه حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ مصدر مؤكد للحدث الذي دل عليه
كُتِبَ وعامله إما كُتِبَ أو حق محذوفا أي حق ذلك حقا فهو على
طرز قعدت جلوسا، ويحتمل أن يكون مؤكدا لمضمون جملة كُتِبَ
عَلَيْكُمْ وإن اعتبر إنشاء فيكون على طرز- له عليّ ألف- عرفا،
وجعله صفة لمصدر محذوف أي إيصاء حقا ليس بشيء وعلى التقديرين
عَلَى الْمُتَّقِينَ صفة له أو متعلق بالفعل المحذوف على
المختار، ويجوز أن يتعلق بالمصدر لأن المفعول المطلق يعمل
نيابة عن الفعل، والمراد- بالمتقين- المؤمنون ووضع المظهر موضع
المضمر للدلالة على أن المحافظة على الوصية والقيام بها من
شعائر المتقين الخائفين من الله تعالى.
فَمَنْ بَدَّلَهُ أي غير الإيصاء من شاهد ووصي، وتغيير كل
منهما إما بإنكار الوصية من أصلها أو بالنقص فيها أو بتبديل
صفتها أو غير ذلك، وجعل الشافعية من التبديل عموم وصيته من
أوصى إليه بشيء خاص، فالموصي بشيء خاص لا يكون وصيا في غيره
عندهم ويكون عندنا وليس ذلك من التبديل في شيء بَعْدَ ما
سَمِعَهُ أي علمه وتحقق لديه، وكني بالسماع عن العلم لأنه طريق
حصوله فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ أي
فما إثم الإيصاء المبدل أو التبديل، والأول رعاية لجانب اللفظ،
والثاني رعاية لجانب المعنى إلا على مبدليه لا على الموصي
لأنهم الذين خالفوا الشرع وخانوا، ووضع الظاهر موضع المضمر
للدلالة على علية التبديل للإثم، وإيثار صيغة الجمع مراعاة
لمعنى من، وفيه إشعار بشمول الإثم لجميع الافراد إِنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ فيسمع أقوال المبدلين والموصين ويعلم بنياتهم
فيجازيهم على وفقها، وفي هذا وعيد للمبدلين ووعد للموصين،
واستدل بالآية على أن الفرض يسقط عن الموصي بنفس الوصية ولا
يلحقه ضرر إن لم يعمل بها، وعلى أن من كان عليه دين فأوصى
بقضائه يسلم من تبعته في الآخرة وإن ترك الوصي والوارث قضاءه-
وإلى ذلك ذهب الكيا- والذي يميل القلب إليه أن المديون لا تبعة
عليه بعد الموت مطلقا ولا يحبس في قبره- كما يقوله الناس- أما
إذا لم يترك شيئا ومات معسرا فظاهر لأنه لو بقي حيا لا شيء
عليه بعد تحقق إعساره سوى نظرة إلى ميسرة، فمؤاخذته وحبسه في
قبره بعد ذهابه إلى اللطيف الخبير مما لا يكاد يعقل، وأما إذا
ترك شيئا وعلم الوارث بالدين أو برهن عليه به كان هو المطالب
بأدائه والملزم بوفاته فإذا لم يؤد ولم
(1/452)
يف أوخذ هو لا من مات وترك ما يوفى منه
دينه كلا أو بعضا فإن مؤاخذة من يقول يا رب تركت ما يفي ولم يف
عني من أوجبت عليه الوفاء بعدي ولو أمهلتني لوفيت مما ينافي
الحكمة ولا تقتضيه الرحمة، نعم المؤاخذة معقولة فيمن استدان
لحرام وصرف المال في غير رضا الملك العلام، وما ورد في
الأحاديث محمول على هذا أو نحوه وأخذ ذلك مطلقا مما لا يقبله
العقل السليم والذهن المستقيم.
فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً الجنف مصدر جنف
كفرح مطلق الميل والجور، والمراد به الميل في الوصية من غير
قصد بقرينة مقابلته بالإثم فإنه إنما يكون بالقصد، ومعنى خاف
توقع وعلم، ومنه قوله:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
وتحقيق ذلك أن الخوف حالة تعتري عند انقباض من شر متوقع فلتلك
الملابسة استعمل في التوقع وهو قد يكون مظنون الوقوع وقد يكون
معلومه فاستعمل فيهما بمرتبة ثانية ولأن الأول أكثر كان
استعماله فيه أظهر، ثم أصله أن يستعمل في الظن والعلم
بالمحذور، وقد يتسع في إطلاقه على المطلق وإنما حمل على المجاز
هنا لأنه لا معنى للخوف من الميل والإثم بعد وقوع الإيصاء وقرأ
أهل الكوفة غير حفص ويعقوب- من موص- بالتشديد والباقون
بالتخفيف فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ أي بين الموصى لهم من الوالدين
والأقربين بإجرائهم على نهج الشرع، وقيل المراد فعل ما فيه
الصلاح بين الموصي والموصى له بأن يأمر بالعدل والرجوع عن
الزيادة وكونها للأغنياء وعليه لا يراد الصلح المرتب على
الشقاق فإن الموصي والموصى له لم يقع بينهما شقاق فَلا إِثْمَ
عَلَيْهِ في ذلك التبديل لأنه تبديل باطل إلى حق بخلاف السابق،
واستدل بالآية على أنه إذا أوصى بأكثر من الثلث لا تبطل الوصية
كلها خلافا لزاعمه.
وإنما يبطل منها ما زاد عليه لأن الله تعالى لم يبطل الوصية
جملة بالجور فيها بل جعل فيها الوجه الأصلح إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ تذييل أتى به للوعد بالثواب للمصلح على إصلاحه وذكر
المغفرة مع أن الإصلاح من الطاعات وهي إنما تليق من فعل ما لا
يجوز لتقدم ذكر الإثم الذي تتعلق به المغفرة ولذلك حسن ذكرها
وفائدتها التنبيه على الأعلى بما دونه يعني أنه تعالى غفور
للآثام فلأن يكون رحيما من أطاعه من باب الأولى، ويحتمل أن
يكون ذكرها وعدا للمصلح بمغفرة ما يفرط منه في الإصلاح إذ ربما
يحتاج فيه إلى أقوال كاذبة وأفعال تركها أولى، وقيل: المراد
غفور للجنف والإثم الذي وقع من الموصي بواسطة إصلاح الوصي
وصيته، أو غفور للموصي بما حدث به نفسه من الخطأ والعمل إذ رجع
إلى الحق، أو غفور للمصلح بواسطة إصلاحه بأن يكون الإصلاح
مكفرا لسيئاته والكل بعيد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ بيان لحكم آخر من الأحكام الشرعية
وتكرير النداء لإظهار الاعتناء مع بعد العهد، والصِّيامُ
كالصوم مصدر صام وهو لغة الإمساك، ومنه يقال للصمت صوم لأنه
إمساك عن الكلام، قال ابن دريد: كل شيء تمكث حركته فقد صام،
ومنه قول النابغة:
خيل «صيام» وخيل غير- صائمة ... تحت العجاج- وأخرى تعلك اللجما
فصامت الريح ركدت، وصامت الشمس إذا استوت في منتصف النهار،
وشرعا إمساك عن أشياء مخصوصة على وجه مخصوص في زمان مخصوص ممن
هو على صفات مخصوصة كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ أي الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه الصلاة والسلام
إلى يومنا كما هو ظاهر عموم الموصول، وعن ابن عباس ومجاهد رضي
الله تعالى عنهما اتهم أهل الكتاب، وعن الحسن والسدي والشعبي
أنهم النصارى، وفيه تأكيد للحكم وترغيب فيه وتطييب لأنفس
المخاطبين فيه، فإن الأمور الشاقة إذا عمت طابت، والمراد
بالمماثلة إما المماثلة في أصل
(1/453)
الوجوب- وعليه أبو مسلم والجبائي- وإما في
الوقت والمقدار بناء على أن أهل الكتاب فرض عليهم صوم رمضان
فتركه اليهود إلى صوم يوم من السنة زعموا أنه اليوم الذي أغرق
فيه فرعون، وزاد فيه النصارى يوما قبل ويوما بعد احتياطا حتى
بلغوا فيه خمسين يوما فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى زمن نزول
الشمس برج الحمل،
وأخرج ابن حنظلة والنحاس والطبراني عن مغفل بن حنظلة مرفوعا
كان على النصارى صوم شهر رمضان فمرض ملكهم فقالوا: لئن شفاه
الله تعالى لنزيدن عشرا، ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فوه
فقالوا: لئن شفاه الله لنزيدن سبعة، ثم كان عليهم ملك آخر
فقال: ما ندع من هذه الثلاثة أيام شيئا أن نتمها ونجعل صومنا
في الربيع ففعل فصارت خمسين يوما،
وفي كَما خمسة أوجه. أحدها أن محله النصب على أنه نعت لمصدر
محذوف أي- كتب كتبا- مثل ما كتب. الثاني أنه في محل نصب حال من
المصدر المعرفة أي- كتب عليكم الصيام الكتب- مشبها بما كتب، و
«ما» على الوجهين مصدرية. الثالث أن يكون نعتا لمصدر من لفظ
الصيام أي صوما مماثلا للصوم المكتوب على من قبلكم.
الرابع أن يكون حالا من الصيام أي حال كونه مماثلا لما كتب، و
«ما» على الوجهين موصولة. الخامس أن يكون في محل رفع على أنه
صفة للصيام بناء على أن المعرف- بأل- الجنسية قريب من النكرة
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي كي تحذروا المعاصي فإن الصوم يعقم
الشهوة التي هي أمها أو يكسرها.
فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله رضي الله
تعالى عنه قال: «قال لنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:
يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر
وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء»
ويحتمل أن يقدر المفعول الإخلال بأدائه، وعلى الأول يكون
الكلام متعلقا بقوله كُتِبَ من غير نظر إلى التشبيه، وعلى
الثاني بالنظر إليه أي كتب عليكم مثل ما كتب على الأولين لكي-
تتقوا- الإخلال بأدائه بعد العلم بأصالته وقدمه ولا حاجة إلى
تقدير محذوف أي أعلمتكم الحكم المذكور لذلك- كما قيل به- وجوز
أن يكون الفعل منزلا منزلة اللازم أي لكي تصلوا بذلك إلى رتبة
التقوى.
أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي معينات بالعد أو قليلات لأن القليل
يسهل عده فيعد والكثير يؤخذ جزافا قال مقاتل:
كل مَعْدُوداتٍ في القرآن أو- معدودة- دون الأربعين ولا يقال
ذلك لما زاد، والمراد بهذه الأيام إما رمضان واختار ذلك ابن
عباس والحسن وأبو مسلم رضي الله تعالى عنه وأكثر المحققين- وهو
أحد قولي الشافعي- فيكون الله سبحانه وتعالى قد أخبر أولا أنه
كتب علينا الصيام ثم بينه بقوله عز وجل: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ
فزال بعض الإبهام ثم بينه بقوله عز من قائل: شَهْرُ رَمَضانَ
توطينا للنفس عليه، واعترض بأنه لو كان المراد ذلك لكان ذكر
المريض والمسافر تكرارا، وأجيب بأنه كان في الابتداء صوم رمضان
واجبا على التخيير بينه وبين الفدية فحين نسخ التخيير وصار
واجبا على التعيين كان مظنة أن يتوهم أن هذا الحكم يعم الكل
حتى يكون المريض والمسافر فيه كالمقيم والصحيح فأعيد حكمهما
تنبيها على أن رخصتهما باقية بحالها لم تتغير كما تغير حكم
المقيم والصحيح وأما ما وجب صومه قبل وجوبه وهو ثلاثة أيام من
كل شهر- وهي أيام البيض- على ما روي عن عطاء ونسب إلى ابن عباس
رضي الله تعالى عنه، أو ثلاثة من كل شهر ويوم عاشوراء على ما
روي عن قتادة، واتفق أهل هذا القول على أن هذا الواجب قد نسخ
بصوم رمضان، واستشكل بأن فرضيته إنما ثبتت بما في هذه الآية
فإن كان قد عمل بذلك الحكم مدة مديدة- كما قيل به- فكيف يكون
الناسخ متصلا وإن لم يكن عمل به لا يصح النسخ إذ لا نسخ قبل
العمل، وأجيب أما على اختيار الأول فبأن الاتصال في التلاوة لا
يدل على الاتصال في النزول، وأما على اختيار الثاني فبأن الأصح
جواز النسخ قبل العمل فتدبر.
(1/454)
وانتصاب أَيَّاماً ليس بالصيام كما قيل
لوقوع الفصل بينهما بأجنبي بل بمضمر دل هو عليه أعني صوموا إما
على الظرفية أو المفعولية اتساعا، وقيل: منصوب بفعل يستفاد من
كاف التشبيه، وفيه بيان لوجه المماثلة كأنه قيل:
كتب عليكم الصيام مماثلا لصيام الذين من قبلكم في كونه
أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي المماثلة واقعة بين الصيامين من هذا
الوجه وهو تعلق كل منهما بمدة غير متطاولة، فالكلام من قبيل
زيد كعمرو فقها، وقيل: نصب على أنه مفعول ثان- لكتب- على
الاتساع ورده في البحر بأن الاتساع مبني على جواز وقوعه ظرفا-
لكتب- وذا لا يصح لأن الظرف محل الفعل، والكتابة ليست واقعة في
الأيام وإنما الواقع فيها متعلقها وهو الصيام، وأجيب بأنه يكفي
للظرفية ظرفية المتعلق كما في يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ [الحج: 70، العنكبوت: 52، التغابن: 4] وبأن معنى
كُتِبَ فرض، وفرضية الصيام، واقعة في الأيام وَمَنْ كانَ
مَرِيضاً مرضا يعسر عليه الصوم معه كما يؤذن به قوله تعالى
فيما بعد: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْرَ وعليه أكثر الفقهاء، وذهب ابن سيرين، وعطاء،
والبخاري إلى أن المرخص مطلق المرض عملا بإطلاق اللفظ، وحكي
أنهم دخلوا على ابن سيرين في رمضان وهو يأكل فاعتل بوجع إصبعه
وهو قول للشافعية أَوْ عَلى سَفَرٍ أو راكب سفر مستعل عليه
متمكن منه بأن اشتغل به قبل الفجر ففيه إيماء إلى أن من سافر
في أثناء اليوم لم يفطر ولهذا المعنى أوثر على مسافرا، واستدل
بإطلاق السفر على أن القصير وسفر المعصية مرخص للإفطار، وأكثر
العلماء على تقييده بالمباح وما يلزمه العسر غالبا وهو السفر
إلى المسافة المقدرة في الشرع فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ
أي فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر من أيام أخر إن أفطر وحذف
الشرط والمضافان للعلم بهما، أما الشرط فلأن المريض والمسافر
داخلان في الخطاب العام فدل على وجوب الصوم عليهما فلو لم
يتقيد الحكم هنا به لزم أن يصير المرض والسفر اللذان هما من
موجبات اليسر شرعا وعقلا موجبين للعسر، وأما المضاف الأول فلأن
الكلام في الصوم ووجوبه، وأما الثاني فلأنه لما قيل- من كان
مريضا أو مسافرا فعليه عدة- أي أيام معدودة موصوفة بأنها من
أيام أخر علم أن المراد معدودة بعدد أيام المرض والسفر واستغنى
عن الإضافة وهذا الإفطار مشروع على سبيل الرخصة فالمريض
والمسافر إن شاءا صاما وإن شاءا أفطرا كما عليه أكثر الفقهاء
إلا أن الإمام أبا حنيفة ومالكا قالا: الصوم أحب. والشافعي
وأحمد والأوزاعي قالوا: الفطر أحب، ومذهب الظاهرية وجوب
الإفطار وأنهما إذا صاما لا يصح صومهما لأنه قبل الوقت الذي
يقتضيه ظاهر الآية، ونسب ذلك إلى ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة
وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم- وبه قال الإمامية-
وأطالوا بالاستدلال على ذلك بما رووه عن أهل البيت، واستدل
بالآية على جواز القضاء متتابعا ومتفرقا وأنه ليس على الفور
خلافا لداود. وعلى أن من أفطر رمضان كله قضى- أياما معدودة-
فلو كان تاما لم يجزه شهر ناقص أو ناقصا لم يلزمه شهر كامل
خلافا لمن خالف في الصورتين، واحتج بها أيضا من قال: لا فدية
مع القضاء وكذا من قال: إن المسافر إذا أقام والمريض إذا شفي
أثناء النهار لم يلزمهما الإمساك بقيته لأن الله تعالى إنما
أوجب عدة من أيام أخر وهما قد أفطرا فحكم الإفطار باق لهما ومن
حكمه أن لا يجب أكثر من يوم ولو أمرناه بالإمساك ثم القضاء
لأوجبنا بدل اليوم أكثر منه، ولا يخفى ما فيه، وقرىء- فعدة-
بالنصب على أنه مفعول لمحذوف أي فليصم عدة ومن قدر الشرط هناك
قدره هنا وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أي وعلى المطيقين
للصيام إن أفطروا.
فِدْيَةٌ أي إعطاؤها طَعامُ مِسْكِينٍ وهي قدر ما يأكله كل يوم
وهي نصف صاع من بر أو صاع من غيره عند أهل العراق ومد عند أهل
الحجاز لكل يوم وكان ذلك في بدء الإسلام لما أنه قد فرض عليهم
الصوم وما كانوا متعودين له فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار
والفدية. وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي
(1/455)
والطبراني وآخرون عن سلمة بن الأكوع رضي
الله تعالى عنه قال: لما نزلت هذه الآية وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ كان من شاء منا صام ومن شاء أفطر ويفتدي فعل ذلك
حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وقرأ سعيد بن المسيب: «يطيقونه» بضم
الياء الأولى وتشديد الياء الثانية. ومجاهد وعكرمة «يطّيقونه»
بتشديد الطاء والياء الثانية وكلتا القراءتين على صيغة المبني
للفاعل على أن أصلهما يطيوقونه ويتطيوقونه من فيعل وتفيعل لا
من فعل وتفعل وإلا لكان بالواو دون الياء لأنه من طوق وهو
واوي، وقد جعلت الواو ياء فيهما ثم أدغمت الياء في الياء
ومعناهما يتكلفونه، وعائشة رضي الله تعالى عنها «يطوقونه»
بصيغة المبني للمفعول من التفعيل أي يكلفونه أو يقلدونه من
الطوق بمعنى الطاقة أو القلادة، ورويت الثلاث عن ابن عباس رضي
الله تعالى عنه أيضا، وعنه «يتطوقونه» بمعنى يتكلفونه أو
يتقلدونه ويطوقونه- بإدغام التاء في الطاء- وذهب إلى عدم
النسخ- كما رواه البخاري وأبو داود وغيرهما- وقال: إن الآية
نزلت في الشيخ الكبير الهرم، والعجوز الكبيرة الهرمة. ومن
الناس من لم يقل بالنسخ أيضا على القراءة المتواترة وفسرها
بيصومونه جهدهم وطاقتهم، وهو مبني على أن- الوسع- اسم للقدرة
على الشيء على وجه السهولة- والطاقة- اسم للقدرة مع الشدة
والمشقة، فيصير المعنى وَعَلَى الَّذِينَ يصومونه مع الشدة
والمشقة فيشمل نحو الحبلى والمرضع أيضا، وعلى أنه من أطاق
الفعل بلغ غاية طوقه أو فرغ طوقه فيه، وجاز أن تكون- الهمزة-
للسلب كأنه سلب طاقته بأن كلف نفسه المجهود فسلب طاقته عند
تمامه، ويكون مبالغة في بذل المجهود لأنه مشارف لزوال ذلك- كما
في الكشف- والحق أن كلّا من القراءات يمكن حملها على ما يحتمل
النسخ، وعلى ما لا يحتمله- ولكل ذهب بعض- وروي عن حفصة أنها
قرأت وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ وقرأ نافع وابن عامر
بإضافة فِدْيَةٌ إلى- الطعام وجمع المسكين- والإضافة حينئذ من
إضافة الشيء إلى جنسه- كخاتم فضة- لأن طعام المسكين يكون فدية
وغيرها، وجمع المسكين لأنه جمع في وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فقابل الجمع بالجمع، ولم يجمع فِدْيَةٌ لأنها
مصدر- والتاء فيها للتأنيث لا للمرة- ولأنه لما أضافها إلى
مضاف إلى الجمع فهم منها الجمع.
فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً بأن زاد على القدر المذكور في-
الفدية- قال مجاهد: أو زاد على عدد من يلزمه إطعامه فيطعم
مسكينين فصاعدا- قاله ابن عباس- أو جمع بين الإطعام والصوم-
قاله ابن شهاب.
فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ أي التطوع أو الخير الذي تطوعه، وجعل بعضهم
الخير الأول مصدر- خرت يا رجل وأنت خائر- أي حسن، والخير
الثاني اسم تفضيل- فيفيد الحمل أيضا بلا مرية- وإرجاع الضمير
إلى مِنْ أي فالمتطوع خير من غيره لأجل التطوع لا يخفى بعده
وَأَنْ تَصُومُوا أي أيها المطيقون المقيمون الأصحاء، أو
المطوقون من الشيوخ والعجائز، أو المرخصون في الإفطار من
الطائفتين، والمرضى والمسافرين، وفيه التفات من الغيبة إلى
الخطاب جبرا لكلفة الصوم بلذة المخاطبة، وقرأ أبيّ والصيام
خَيْرٌ لَكُمْ من الفدية أو تطوع الخير على الأولين، أو منهما
ومن التأخير للقضاء على الأخير إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما
في الصوم من الفضيلة، وجواب أَنْ محذوف ثقة بظهوره- أي
اخترتموه- وقيل: معناه إن كنتم من أهل العلم علمتم أن الصوم
خَيْرٌ لَكُمْ من ذلك، وعليه تكون الجملة تأكيدا لخيرية الصوم،
وعلى الأول تأسيسا.
شَهْرُ رَمَضانَ مبتدأ خبره الموصول بعده، ويكون ذكر الجملة
مقدمة لفرضية صومه بذكر فضله، أو فَمَنْ شَهِدَ والفاء لتضمنه
معنى الشرط لكونه موصوفا بالموصول، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره
ذلكم الوقت الذي كتب عليكم الصيام فيه، أو المكتوب شهر رمضان،
أو بدل من الصيام بدل كل بتقدير مضاف، أي كتب عليكم الصيام
(1/456)
صيام شهر رمضان، وما تخلل بينهما من الفصل
متعلق ب كُتِبَ لفظا أو معنى فليس بأجنبي مطلقا، وإن اعتبرته
بدل اشتمال استغنيت عن التقدير، إلا أن كون الحكم السابق- وهو
فرضية الصوم- مقصودا بالذات، وعدم كون ذكر المبدل منه مشوقا
إلى ذكر البدل يبعد ذلك، وقرىء شهر بالنصب على أنه مفعول ل
«صوموا» محذوفا وقيل إنه مفعول وَأَنْ تَصُومُوا وفيه لزوم
الفصل بين أجزاء المصدرية بالخبر، وجوز أن يكون مفعول
تَعْلَمُونَ بتقدير مضاف- أي شرف شهر رمضان ونحوه- وقيل: لا
حاجة إلى التقدير. والمراد إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ نفس
الشهر ولا تشكون فيه، وفيه إيذان بأن الصوم لا ينبغي مع الشك-
وليس بشيء كما لا يخفى- والشهر المدة المعينة التي ابتداؤها
رؤية الهلال، ويجمع في القلة على أشهر، وفي الكثرة على شهور،
وأصله من شهر الشيء أظهره، وهو- لكونه ميقاتا للعبادات
والمعاملات- صار مشهورا بين الناس، و «رمضان» مصدر رمض- بكسر
العين- إذا احترق، وفي شمس العلوم من المصادر التي يشترك فيها
الأفعال فعلان- بفتح الفاء والعين- وأكثر ما يجيء بمعنى المجيء
والذهاب والاضطراب- كالخفقان والعسلان واللمعان- وقد جاء لغير
المجيء والذهاب كما في- شنأته شنآنا إذا بغضته- فما في البحر
من أن كونه مصدرا يحتاج إلى نقل- فإن فعلانا ليس مصدر فعل
اللازم- فإن جاء شيء منه كان شاذا، فالأولى أن يكون مرتجلا لا
منقولا ناشىء عن قلة الاطلاع، والخليل يقول: إنه من الرمض-
مسكن الميم- وهو مطر يأتي قبل الخريف يطهر وجه الأرض عن
الغبار، وقد جعل مجموع المضاف والمضاف إليه علما للشهر
المعلوم، ولولا ذلك لم يحسن إضافة شَهْرُ إليه كما لا يحسن-
إنسان زيد- وإنما تصح إضافة العام إلى الخاص إذا اشتهر كون
الخاص من أفراده، ولهذا لم يسمع شهر رجب وشهر شعبان، وبالجملة
فقد أطبقوا على أن العلم في ثلاثة أشهر مجموع المضاف والمضاف
إليه شهر رمضان، وشهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني، وفي
البواقي لا يضاف شهر إليه، وقد نظم ذلك بعضهم فقال:
ولا تضف شهرا إلى اسم شهر ... إلا لما أوله- الرا- فادر
واستثن منها رجبا فيمتنع ... لأنه فيما رووه ما سمع
ثم في الإضافة يعتبر في أسباب منع الصرف وامتناع- اللام-
ووجوبها حال المضاف إليه فيمتنع في مثل شَهْرُ رَمَضانَ وابن
داية من الصرف ودخول- اللام- وينصرف في مثل شهر ربيع الأول-
وابن عباس- ويجب- اللام- في مثل- امرئ القيس- لأنه وقع جزءا
حال تحليته باللام، ويجوز في مثل- ابن عباس- أما دخوله فللمح
الأصل، وأما عدمه فلتجرده في الأصل، وعلى هذا فنحو من صام
رمضان من حذف جزء العلم لعدم الإلباس- كذا قيل- وفيه بحث- أما
أولا فلأن إضافة العام إلى الخاص مرجعها إلى الذوق، ولهذا تحسن
تارة كشجر الأراك، وتقبح أخرى- كإنسان زيد- وقبحها في شَهْرُ
رَمَضانَ لا يعرفه إلا من تغير ذوقه من أثر الصوم، وأما ثانيا
فإن قولهم: لم يسمع شهر رجب إلخ مما سمع بين المتأخرين- ولا
أصل له- ففي شرح التسهيل جواز إضافة شَهْرُ إلى جميع أسماء
الشهور وهو قول أكثر النحويين- فادعاء الاطباق غير مطبق عليه،
ومنشأ غلط المتأخرين ما في- أدب الكاتب- من أنه اصطلاح الكتاب،
قال: لأنهم لما وضعوا التاريخ في زمن عمر رضي الله تعالى عنه
وجعلوا أول السنة المحرم، فكانوا لا يكتبون في تواريخهم شهرا
إلا مع رمضان والربيعين، فهو أمر اصطلاحي- لا وضعي لغوي- ووجهه
في رَمَضانَ موافقة القرآن وفي ربيع الفصل عن الفصل، ولذا صحح
سيبويه جواز إضافة الشهر إلى جميع أسماء الشهور، وفرق بين ذكره
وعدمه بأنه حيث ذكر لم يفد العموم- وحيث حذف أفاده- وعليه يظهر
الفرق بين- إنسان زيد- وشَهْرُ رَمَضانَ ولا يغم هلال ذلك.
وأما ثالثا فلأن قوله: ثم في الإضافة إلخ، مما صرح النحاة
بخلافه، فإن- ابن داية- سمع منه وصرفه كقوله:
(1/457)
ولما رأيت النسر عز- ابن داية ... وعشش في
وكريه جاش له صدري
قالوا: ولكل وجه أما عدم الصرف فلصيرورة الكلمتين بالتركيب
كلمة بالتسمية فكان- كطلحة- مفردا وهو غير منصرف، وأما الصرف
فلأن المضاف إليه في أصله اسم جنس- والمضاف كذلك- وكل منهما
بانفراده ليس بعلم، وإنما العلم مجموعهما فلا يؤثر التعريف فيه
ولا يكون لمنع الصرف مدخل فليحفظ، وبالجملة المعول عليه أن
رَمَضانَ وحده علم وهو علم جنس لما علمت، ومنع بعضهم أن يقال:
رَمَضانَ بدون شَهْرُ لما
أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عدي والبيهقي والديلمي عن
أبي هريرة مرفوعا وموقوفا «لا تقولوا: رمضان، فإن رمضان اسم من
أسماء الله تعالى، ولكن قولوا: شهر رمضان»
وإلى ذلك ذهب مجاهد- والصحيح الجواز- فقد روي ذلك في الصحيح-
والاحتياط لا يخفى-
وإنما سمي الشهر به لأن الذنوب ترمض فيه- قاله ابن عمر- وروى
ذلك أنس.
وعائشة مرفوعا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم،
وقيل: لوقوعه أيام رمض الحر حيث نقلوا أسماء الشهور عن اللغة
القديمة، وكان اسمه قبل ناتقا، ولعل ما روي عنه صلى الله تعالى
عليه وسلم مبين لما ينبغي أن يكون وجه التسمية عند المسلمين،
وإلا فهذا الاسم قبل فرضية الصيام بكثير على ما هو الظاهر
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أي ابتدئ فيه إنزاله- وكان
ذلك ليلة القدر- قاله ابن إسحاق، وروي عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما وابن جبير والحسن أنه نزل فيه جملة إلى السماء
الدنيا ثم نزل منجما إلى الأرض في ثلاث وعشرين سنة، وقيل: أنزل
في شأنه القرآن، وهو قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ
وأخرج الإمام أحمد والطبراني من حديث واثلة بن الأسقع. عن
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «نزلت صحف إبراهيم
أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين، والإنجيل لثلاث
عشرة، والقرآن لأربع وعشرين»
ولما كان بين الصوم ونزول الكتب الإلهية مناسبة عظيمة كان هذا
الشهر المختص بنزولها مختصا بالصوم الذي هو نوع عظيم من آيات
العبودية، وسبب قوي في إزالة العلائق البشرية المانعة عن إشراق
الأنوار الصمدية. هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى
وَالْفُرْقانِ حالان لازمان من القرآن والعامل فيهما أنزل أي
أنزل وهو هداية للناس بإعجازه المختص به كما يشعر بذلك
التنكير، وآيات واضحات من جملة الكتب الإلهية الهادية إلى
الحق، والفارقة بين الحق والباطل باشتمالها على المعارف
الإلهية والأحكام العملية كما يشعر بذلك جعله بينات منها فهو
هاد بواسطة أمرين مختص وغير مختص فالهدى ليس مكررا، وقيل: مكرر
تنويها وتعظيما لأمره وتأكيدا لمعنى الهداية فيه كما تقول عالم
نحرير فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ من شرطية
أو موصولة- والفاء- إما جواب الشرط، أو زائدة في الخبر،
ومِنْكُمُ في محل نصب على الحال من المستكن في شَهِدَ والتقييد
به لإخراج الصبي والمجنون، وشَهِدَ من الشهود والتركيب يدل على
الحضور إما ذاتا أو علما، وقد قيل: بكل منهما هنا، والشَّهْرَ
على الأول مفعول فيه والمفعول به متروك لعدم تعلق الغرض به
فتقدير البلد أو المصر ليس بشيء، وعلى الثاني مفعول به بحذف
المضاف أي هلال الشهر- وأل- فيه على التقديرين للعهد ووضع
المظهر موضع المضمر للتعظيم ونصب الضمير المتصل في- يصمه- على
الاتساع لأن صام لازم والمعنى فمن حضر في الشهر ولم يكن مسافرا
فليصم فيه أو من علم هلال الشهر وتيقن به فليصم، ومفاد الآية
على هذا عدم وجوب الصوم على من شك في الهلال وإنما قدر المضاف
لأن شهود الشهر بتمامه إنما يكون بعد انقضائه ولا معنى لترتب
وجوب الصوم فيه بعد انقضائه وعليه يكون قوله تعالى: وَمَنْ
كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ مخصصا بالنظر إلى المريض والمسافر كليهما، وعلى الأول
مخصص بالنظر إلى الأول دون الثاني وتكريره حينئذ لذلك التخصيص
أو لئلا يتوهم نسخه كما نسخ قرينه والأول كما قيل على رأي من
شرط في المخصص أن يكون متراخيا موصولا، والثاني على رأي من جوز
كونه متقدما وهذا بجعل المخصص هو الآية السابقة، و «ما» هنا
لمجرد دفع التوهم ورجح المعنى الأول من المعنيين بعدم
(1/458)
الاحتياج إلى التقدير وبأن الفاء في «فمن
شهد» عليه وقعت في مخرها مفصلة لما أجمل في قوله تعالى: شَهْرُ
رَمَضانَ من وجوب التعظيم المستفاد مما في أثره على كل من
أدركه ومدركه إما حاضر أو مسافر فمن كان حاضرا فحكمه كذا إلخ
ولا يحسن أن يقال من علم الهلال فليصم وَمَنْ كانَ مَرِيضاً
أَوْ عَلى سَفَرٍ فليقض لدخول القسم الثاني في الأول والعاطف
التفصيلي يقتضي المغايرة بينهما كذا قيل، لكن ذكر المريض يقوي
كونه مخصصا لدخوله فيمن شهد على الوجهين، ولذا ذهب أكثر
النحويين إلى أن الشهر مفعول به- فالفاء- للسببية أو للتعقيب
لا للتفصيل.
يُرِيدُ اللَّهُ بهذا الترخيص بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْرَ لغاية رأفته وسعة رحمته، واستدل المعتزلة
بالآية على أنه قد يقع من العبد ما لا يريده الله تعالى وذلك
لأن المريض والمسافر إذا صاما حتى أجهدهما الصوم فقد فعلا خلاف
ما أراد الله تعالى لأنه أراد التيسير ولم يقع مراده، ورد بأن
الله تعالى أراد التيسير وعدم التعسير في حقهما بإباحة الفطر،
وقد حصل بمجرد الأمر بقوله عز شأنه: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ من غير تخلف، وفي البحر تفسير الإرادة هنا بالطلب، وفيه
أنه التزام لمذهب الاعتزال من أن إرادته تعالى لأفعال العباد
عبارة عن الأمر وأنه تعالى ما طلب منا اليسر بل شرعه لنا،
وتفسير اليسر بما يسر بعيد، وقرأ أبو جعفر اليسر والعسر
بضمتين.
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما
هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ علل لفعل محذوف دل عليه
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ إلخ أي وشرع لكم جملة ما ذكر
من أمر الشاهد بصوم الشهر المستفاد من قوله تعالى: فَمَنْ
شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وأمر المرخص له
بالقضاء كيفما كان متواترا أو متفرقا وبمراعاة عدة ما أفطره من
غير نقصان فيه المستفادين من قوله سبحانه وتعالى: فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ومن الترخيص المستفاد من قوله عز وجل:
يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ أو من قوله تعالى: فَعِدَّةٌ إلخ- لتكملوا- إلخ
والأول علة الأمر بمراعاة عدة الشهر بالأداء في حال شهود
الشهر، وبالقضاء في حال الإفطار بالعذر فيكون علة لمعللين أي
أمرناكم بهذين الأمرين لتكملوا عدة الشهر بالأداء والقضاء
فتحصلوا خيراته ولا يفوتكم شيء من بركاته نقصت أيامه أو كملت
وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ علة الأمر بالقضاء وبيان كيفيته
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ علة الترخيص والتيسير، وتغيير
الأسلوب للإشارة إلى أن هذا المطلوب بمنزلة المرجو لقوة
الأسباب المتآخذة في حصوله وهو ظهور كون الترخيص نعمة،
والمخاطب موقن بكمال رأفته وكرمه مع عدم فوات بركات الشهر،
وهذا نوع من اللف لطيف المسلك قلما يهتدى اليه لأن مقتضى
الظاهر ترك الواو لكونها عللا لما سبق ولذا قال من لم يبلغ
درجة الكمال: إنها زائدة أو عاطفة على علة مقدرة ووجه اختياره
أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلما فيه من مزيد
الاعتناء بالأحكام السابقة مع عدم التكلف لأن الفعل المقدر
لكونه مشتملا على ما سبق إجمالا يكون ما سبق قرينة عليه مع
بقاء التعليل بحاله ولكونه مغايرا له بالإجمال، والتفصيل يصح
عطفه عليه، وفي ذكر الأحكام تفصيلا أولا، وإجمالا ثانيا
وتعليلها من غير تعيين ثقة على فهم السامع بأن يلاحظها مرة بعد
أخرى ويرد كل علة إلى ما يليق به ما لا يخفى من الاعتناء، وجوز
أن تكون عللا لأفعال مقدرة كل فعل مع علة والتقدير- ولتكملوا
العدة- أوجب عليكم عدة أيام أخر وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى
ما هَداكُمْ علمكم كيفية القضاء وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
رخصكم في الإفطار وإن شئت جعلتها معطوفة على علة مقدرة أي
ليسهل عليكم أو لتعلموا ما تعملون وَلِتُكْمِلُوا إلخ وجعلت
المجموع علة للأحكام السابقة إما باعتبار أنفسها أو باعتبار
الإعلام بها فقوله: ليسهل أو لتعلموا علة لما سبق باعتبار
الإعلام وما بعده علة للأحكام المذكورة كما مر، ولك أن لا تقدر
شيئا أصلا وتجعل العطف على اليسر أي- ويريد بكم لتكملوا- إلخ
واللام زائدة مقدرة بعدها أن وزيدت كما قيل: بعد فعل الإرادة
تأكيدا له لما فيها من معنى الإرادة في قولك جئتك لإكرامك،
وقيل: إنها بمعنى أن كما في الرضيّ إلا أنه
(1/459)
يلزم على هذا الوجه أن يكون وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ عطفا على يُرِيدُ إذ لا معنى لقولنا يريد لعلكم
تشكرون، وحينئذ يحصل التفكيك بين المتعاطفات وهو بعيد،
ولاستلزام هذا الوجه ذلك وكثرة الحذف في بعض الوجوه السابقة
وخفاء بعضها عدل بعضهم عن الجميع، وجعل الكلام من الميل مع
المعنى لأن ما قبله علة للترخيص فكأنه قيل:
رخص لكم في ذلك لإرادته بكم اليسر دون ولتكملوا إلخ، ولا يخفى
عليك ما هو الأليق بشأن الكتاب العظيم، والمراد من التكبير
الحمد والثناء مجازا لكونه فردا منه ولذلك عدي بعلى، واعتبار
التضمين أي لتكبروا حامدين ليس بمعتبر لأن الحمد نفس التكبير
ولكونه على هذا عبادة قولية ناسب أن يعلل به الأمر بالقضاء
الذي هو نعمة قولية أيضا، وأخرج ابن المنذر وغيره عن زيد بن
أسلم أن المراد به التكبير يوم العيد، وروي عن ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما أنه التكبير عند الإهلال، وأخرج ابن جرير عنه
أنه قال: حق على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يكبروا
الله تعالى حتى يفرغوا من عيدهم لأن الله تعالى يقول:
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ وعلى هذين
القولين لا يلائم تعليل الأحكام السابقة، وما يحتمل أن تكون
مصدرية وأن تكون موصولة أي الذي هداكموه أو هداكم إليه،
والمراد من الشكر ما هو أعم من الثناء ولذا ناسب أن يجعل طلبه
تعليلا للترخيص الذي هو نعمة فعلية. وقرأ أبو بكر عن عاصم
وَلِتُكْمِلُوا بالتشديد وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي في تلوين
الخطاب مع توجيهه لسيد ذوي الألباب عليه الصلاة والسلام، ما لا
يخفى من التشريف ورفع المحل عَنِّي أي عن قربي وبعدي إذ ليس
السؤال عن ذاته تعالى فَإِنِّي قَرِيبٌ أي فقل لهم ذلك بأن
تخبر عن القرب بأي طريق كان، ولا بد من التقدير إذ بدونه لا
يترتب على الشرط، ولم يصرح بالمقدر كما في أمثاله للإشارة إلى
أنه تعالى تكفل جوابهم ولم يكلهم إلى رسوله صلى الله تعالى
عليه وسلم تنبيها على كمال لطفه، والقرب حقيقة في القرب
المكاني المنزه عنه تعالى فهو استعارة لعلمه تعالى بأفعال
العباد وأقوالهم واطلاعه على سائر أحوالهم،
وأخرج سفيان بن عيينة، وعبد الله بن أحمد عن أبي قال: قال
المسلمون يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟
فأنزل الله الآية
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ دليل للقرب وتقرير له
فالقطع لكمال الاتصال، وفيه وعد الداعي بالإجابة في الجملة على
ما تشير إليه كلمة إِذا لا كليا فلا حاجة إلى التقييد بالمشيئة
المؤذن به قوله تعالى في آية أخرى: فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ
إِلَيْهِ إِنْ شاءَ [الإنعام: 41] لا إلى أن القول بأن إجابة
الدعوة غير قضاء الحاجة لأنها قوله سبحانه وتعالى لبيك يا عبدي
وهو موعود موجود لكل مؤمن يدعو ولا إلى تخصيص الدعوة بما ليس
فيها إثم ولا قطيعة رحم، أو الداعي بالمطيع المخبت. نعم كونه
كذلك أزجي للإجابة لا سيما في الأزمنة المخصوصة والأمكنة
المعلومة، والكيفية المشهورة، ومع هذا قد تتخلف الإجابة مطلقا
وقد تتخلف إلى بدل،
ففي الصحيح عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم: ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم
إلا أعطاه الله تبارك وتعالى إحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته
وإما أن يدخر له وإما أن يكف عنه من السوء مثلها»
وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي أي
فليطلبوا إجابتي لهم إذا دعوني أو فليجيبوا لي إذا دعوتهم
للإيمان والطاعة كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم، واستجاب
وأجاب واحد ومعناه قطع مسألته بتبليغه مراده من الجواب بمعنى
القطع، وهذا ما عليه أكثر المفسرين ولا يغني عنه
وَلْيُؤْمِنُوا بِي لأنه أمر بالثبات والمداومة على الإيمان
لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ أي يهتدون لمصالح دينهم ودنياهم، وأصل
الباب إصابة الخير، وقرىء بفتح الشين وكسرها، ولما أمرهم
سبحانه وتعالى بصوم الشهر ومراعاة العدة وحثهم على القيام
بوظائف التكبير والشكر عقبه بهذه الآية الدالة على أنه تعالى
خبير بأفعالهم سميع لأقوالهم مجازيهم على أعمالهم تأكيدا له
وحثا عليه، أو أنه لما نسخ الأحكام في الصوم ذكر هذه الآية
الدالة على كمال علمه بحال العباد وكمال قدرته عليهم ونهاية
لطفه بهم في أثناء نسخ الأحكام تمكينا لهم في الإيمان، وتقريرا
لهم على الاستجابة لأن مقام النسخ من مظان الوسوسة
(1/460)
والتزلزل، فالجملة على التقديرين اعتراضية
بين كلامين متصلين معنى، أحدهما ما تقدم، والثاني قوله سبحانه
وتعالى:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ
أخرج أحمد وجماعة عن كعب بن مالك قال: كان الناس في رمضان إذا
صام الرجل فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من
الغد فرجع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من عند النبي صلّى
الله عليه وسلّم ذات ليلة وقد سمر عنده، فوجد امرأته قد نامت
فأيقظها وأرادها فقالت: إني قد نمت فقال: ما نمت، ثم وقع بها،
وصنع كعب بن مالك مثل ذلك فغدا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى
عنه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فنزلت.
وفي رواية ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بينما هو
نائم إذ سولت له نفسه فأتى أهله ثم أتى رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أعتذر إلى الله تعالى
وإليك من نفسي هذه الخاطئة فإنها زينت لي فواقعت أهلي هل تجد
لي من رخصة؟ قال: لم تكن حقيقا بذلك يا عمر فلما بلغ بيته أرسل
إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن وأمر الله تعالى رسوله أن
يضعها في المائة الوسطى من سورة البقرة فقال:
أُحِلَّ لَكُمْ إلخ
- وليلة الصيام- الليلة التي يصبح منها صائما فالإضافة لأدنى
ملابسة، والمراد بها الجنس وناصبها- الرفث- المذكور أو المحذوف
الدال هو عليه بناء على أن المصدر لا يعمل متقدما، وجوز أن
يكون ظرفا- لأحل- لأن إحلال الرفث في ليلة الصيام وإحلال الرفث
الذي فيها متلازمان، والرَّفَثُ من رفث في كلامه وأرفث وترفث
أفحش وأفصح بما يكنى عنه، والمراد به هنا الجماع لأنه لا يكاد
يخلو من الإفصاح، وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
أنه أنشد وهو محرم:
وهن يمشين بنا هميسا ... إن صدق الطير ننك لميسا
فقيل له: أرفثت؟ فقال: إنما الرفث ما كان عند النساء، فالرفث
فيه يحتمل أن يكون قولا وأن يكون فعلا، والأصل فيه أن يتعدى-
بالباء- وعدي بإلى لتضمنه معنى الإفضاء ولم يجعل من أول الأمر
كناية عنه لأن المقصود هو الجماع فقصرت المسافة، وإيثاره هاهنا
على ما كني به عنه في جميع القرآن من التغشية والمباشرة واللمس
والدخول ونحوها استقباحا لما وجد منهم قبل الإباحة، ولذا سماه
اختيانا فيما بعد، والنساء جمع نسوة فهو جمع الجمع أو جمع
امرأة على غير اللفظ وإضافتها إلى ضمير المخاطبين للاختصاص إذ
لا يحل الإفضاء إلا لمن اختص بالمفضي إما بتزويج أو ملك، وقرأ
عبد الله- الرفوث- هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ
لَهُنَّ أي هن سكن لكم وأنتم سكن لهن قاله ابن عباس حين سأله
نافع بن الأزرق وأنشد رضي الله تعالى عنهما لما قال له هل تعرف
العرب ذلك؟ قول الذبياني:
إذا ما الضجيع ثنى عطفه ... تثنت عليه فكانت «لباسا»
ولما كان الرجل والمرأة يتعانقان ويشتمل كل منهما على صاحبه
شبه كل واحد بالنظر إلى صاحبه باللباس أو لأن كل واحد منهما
يستر صاحبه ويمنعه عن الفجور، وقد جاء
في الخبر «من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه»
والجملتان مستأنفتان استئنافا نحويا والبياني يأباه الذوق،
ومضمونهما بيان لسبب الحكم السابق وهو قلة الصبر عنهن كما
يستفاد من الأولى، وصعوبة اجتنابهن كما تفيده الثانية- ولظهور
احتياج الرجل إليهن وقلة صبره- قدم الأولى،
وفي الخبر «لا خير في النساء ولا صبر عنهن يغلبن كريما ويغلبهن
لئيم وأحب أن أكون كريما مغلوبا ولا أحب أن أكون لئيما غالبا»
عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ
جملة معترضة بين قوله تعالى: أُحِلَّ إلخ وبين ما يتعلق به
أعني فَالْآنَ إلخ لبيان حالهم بالنسبة إلى ما فرط منهم قبل
الإحلال، ومعنى عَلِمَ تعلق علمه، والاختيان- تحرك
(1/461)
شهوة الإنسان لتحري الخيانة أو الخيانة
البليغة فيكون المعنى تنقصون أنفسكم تنقيصا تاما بتعريضها
للعقاب وتنقيص حظها من الثواب، ويؤول إلى معنى تظلمونها بذلك،
والمراد الاستمرار عليه فيما مضى قبل إخبارهم بالحال كما ينبىء
عنه صيغتا الماضي والمضارع وهو متعلق العلم، وما تفهمه الصيغة
الأولى من تقدم كونهم على الخيانة على العلم يأبى حمله على
الأزلي الذاهب إليه البعض فَتابَ عَلَيْكُمْ عطف على عَلِمَ
والفاء لمجرد التعقيب، والمراد قبل توبتكم حين تبتم عن المحظور
الذي ارتكبتموه وَعَفا عَنْكُمْ أي محا أثره عنكم وأزال
تحريمه، وقيل:
الأول لإزالة التحريم وهذا لغفران الخطيئة فَالْآنَ مرتب على
قوله سبحانه وتعالى أُحِلَّ لَكُمْ نظرا إلى ما هو المقصود من
الإحلال وهو إزالة التحريم أي حين نسخ عنكم تحريم القربان وهو
ليلة الصيام كما يدل عليه الغاية الآتية فإنها غاية للأوامر
الأربعة التي هذا ظرفها، والحضور المفهوم منه بالنظر إلى فعل
نسخ التحريم وليس حاضرا بالنظر إلى الخطاب بقوله تعالى:
بَاشِرُوهُنَّ، وقيل: إنه وإن كان حقيقة في الوقت الحاضر إلا
أنه قد يطلق على المستقبل القريب تنزيلا له منزلة الحاضر وهو
المراد هنا أو أنه مستعمل في حقيقته والتقدير قد أبحنا لكم
مباشرتهن، وأصل المباشرة إلزاق البشرة بالبشرة وأطلقت على
الجماع للزومها لها.
وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي اطلبوا ما قدره
اللَّهُ تعالى لَكُمْ في اللوح من الولد، وهو المروي عن ابن
عباس والضحاك ومجاهد رضي الله تعالى عنهم وغيرهم. والمراد
الدعاء بطلب ذلك بأن يقولوا: اللهم ارزقنا ما كتبت لنا، وهذا
لا يتوقف على أن يعلم كل واحد أنه قدر له ولد، وقيل: المراد ما
قدره لجنسكم والتعبير ب ما نظرا إلى الوصف كما في قوله تعالى:
وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس: 5] وفي الآية دلالة على أن
المباشر ينبغي أن يتحرى بالنكاح حفظ النسل- لا قضاء الشهوة
فقط- لأنه سبحانه وتعالى جعل لنا شهوة الجماع لبقاء نوعنا إلى
غاية كما جعل لنا شهوة الطعام لبقاء أشخاصنا إلى غاية، ومجرد
قضاء الشهوة لا ينبغي أن يكون إلا للبهائم، وجعل بعضهم هذا
الطلب كناية عن النهي عن العزل، أو عن إتيان المحاش، وبعض فسر
من أول مرة ما كتب بما سن وشرع من صب الماء في محله، أي اطلبوا
ذلك دون العزل والإتيان المذكورين- والمشهور حرمتهما- أما
الأول فالمذكور في الكتب فيه أنه لا يعزل الرجل عن الحرة بغير
رضاها، وعن الأمة المنكوحة بغير رضاها أو رضا سيدها على
الاختلاف بين الإمام وصاحبيه، ولا بأس بالعزل عن أمته بغير
رضاها إذ لا حق لها.
وأما الثاني فسيأتي بسط الكلام فيه على أتم وجه إن شاء الله
تعالى. وروي عن أنس رضي الله تعالى عنه تفسير ذلك بليلة القدر.
وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا وعن قتادة أن المراد
ابْتَغُوا الرخصة الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ تعالى لَكُمْ فإن
الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وعليه
تكون الجملة كالتأكيد لما قبلها، وعن عطاء أنه سأل ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما كيف تقرأ هذه الآية ابْتَغُوا أو
«اتبعوا» ؟ فقال: أيهما شئت، وعليك بالقراءة الأولى وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا الليل كله حَتَّى يَتَبَيَّنَ
أي يظهر لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ وهو أول ما يبدو من
الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل انتشاره، وحمله على الفجر
الكاذب المستطيل الممتد كذنب السرحان وهم مِنَ الْخَيْطِ
الْأَسْوَدِ وهو ما يمتد مع بياض الفجر من ظلمة آخر الليل مِنَ
الْفَجْرِ بيان لأول الخيطين- ومنه يتبين الثاني- وخصه بالبيان
لأنه المقصود وقيل: بيان لهما بناء على أن الْفَجْرِ عبارة عن
مجموعهما لقول الطائي: وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه فهو على
وزان قولك: حتى يتبين العالم من الجاهل من القوم، وبهذا البيان
خرج الخيطان عن الاستعارة إلى التشبيه لأن شرطها عندهم تناسيه
بالكلية، وادعاء أن المشبه هو المشبه به لولا القرينة والبيان
ينادي على أن المراد- مثل هذا الخيط وهذا الخيط- إذ هما لا
يحتاجان إليه، وجوّز أن
(1/462)
تكون مِنَ تبعيضية لأن ما يبدو جزء من
«الفجر» كما أنه فجر بناء على أنه اسم للقدر المشترك بين الكل
والجزء، ومِنَ الأولى قيل: لابتداء للغاية، وفيه أن الفعل
المتعدي بها يكون ممتدا أو أصلا للشيء الممتد، وعلامتها أن
يحسن في مقابلتها إِلى أو ما يفيد مفادها- وما هنا ليس كذلك-
فالظاهر أنها متعلقة ب يَتَبَيَّنَ بتضمين معنى التميز،
والمعنى حتى يتضح «لكم الفجر» متميزا عن غبش الليل، فالغاية
إباحة ما تقدم حَتَّى يَتَبَيَّنَ أحدهما من الآخر ويميز
بينهما، ومن هذا وجه عدم الاكتفاء ب حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ
الفجر، أو «يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر» لأن تبين الفجر
له مراتب كثيرة، فيصير الحكم مجملا محتاجا إلى البيان، وما
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد رضي الله تعالى
عنهما قال: أنزلت وَكُلُوا وَاشْرَبُوا إلخ ولم ينزل مِنَ
الْفَجْرِ فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه
الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له
رؤيتهما فأنزل الله تعالى بعد «من الفجر» فعلموا إنما يعني
الليل والنهار، فليس فيه نص على أن الآية قبل محتاجة إلى
البيان بحيث لا يفهم منها المقصود إلا به وأن تأخير البيان عن
وقت الحاجة جائز لجواز أن يكون الخيطان مشتهرين في المراد
منهما، إلا أنه صرح بالبيان لما التبس على بعضهم، ويؤيد ذلك
أنه صلّى الله عليه وسلّم وصف من لم يفهم المقصود من الآية قبل
التصريح- بالبلادة- ولو كان الأمر موقوفا على البيان لاستوى
فيه الذكي والبليد،
فقد أخرج سفيان بن عيينة وأحمد والبخاري.
ومسلم وأبو داود والترمذي وجماعة عن عدي بن حاتم رضي الله
تعالى عنه قال: لما أنزلت هذه الآية وَكُلُوا وَاشْرَبُوا إلخ
عمدت إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض فجعلتهما تحت وسادتي
فجعلت أنظر إليهما فلا يتبين لي الأبيض من الأسود فلما أصبحت
غدوت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته بالذي صنعت
فقال: «إن وسادك إذا لعريض إنما ذاك بياض النهار من سواد
الليل» وفي رواية «إنك لعريض القفا»
وقيل: إن نزول الآية كان قبل دخول رمضان- وهي مبهمة- والبيان
ضروري إلا أنه تأخر عن وقت الخطاب لا عن وقت الحاجة وهو لا
يضر- ولا يخفى ما فيه- وقال أبو حيان: إن هذا من باب النسخ،
ألا ترى أن الصحابة عملوا بظاهر ما دل عليه اللفظ ثم صار مجازا
بالبيان ويرده على ما فيه أن النسخ يكون بكلام مستقل ولم يعهد
نسخ هكذا وفي هذه الأوامر دليل على جواز نسخ السنة بالكتاب بل
على وقوعه بناء على القول بأن الحكم المنسوخ من حرمة الوقاع
والأكل والشرب كانت ثابتة بالسنة، وليس في القرآن ما يدل
عليها، وأُحِلَّ أيضا يدل على ذلك إلا أنه نسخ بلا بدل وهو
مختلف فيه، واستدل بالآية على صحة صوم الجنب لأنه يلزم من
إباحة المباشرة إلى تبين الفجر إباحتها في آخر جزء من أجزاء
الليل متصل بالصبح فإذا وقعت كذلك أصبح الشخص جنبا فإن لم يصح
صومه لما جازت المباشرة لأن الجنابة لازمة لها ومنافي اللازم
مناف للملزوم، ولا يرد خروج المني بعد الصبح بالجماع الحاصل
قبله لأنه إنما يفسد الصوم لكونه مكمل الجماع فهو جماع واقع في
الصبح، وليس بلازم للجماع كالجنابة، وخالف في ذلك بعضهم ومنع
الصحة زاعما أن الغاية متعلقة بما عندها، واحتج بآثار صح لدى
المحدثين خلافها.
واستدل بها أيضا على جواز الأكل مثلا لمن شك في طلوع الفجر
لأنه تعالى أباح ما أباح مغيّى بتبينه ولا تبين مع الشك خلافا
لمالك. ومجاهد بها على عدم القضاء والحال هذه إذا بان أنه أكل
بعد الفجر لأنه أكل في وقت اذن له فيه، وعن سعيد بن منصور
مثله- وليس بالمنصور- والأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم على
أن أول النهار الشرعي طلوع الفجر فلا يجوز فعل شيء من
المحظورات بعده وخالف في ذلك الأعمش ولا يتبعه إلا الأعمى،
فزعم أن أوله طلوع الشمس كالنهار العرفي وجوز فعل المحظورات
بعد طلوع الفجر، وكذا الإمامية وحمل مِنَ الْفَجْرِ على
التبعيض وإرادة الجزء الأخير منه والذي دعاه لذلك خبر صلاة
النهار عجماء وصلاة الفجر ليست بها فهي في الليل،
(1/463)
وأيده بعضهم بأن شوب الظلمة بالضياء كما
أنه لم يمنع من الليلية بعد غروب الشمس ينبغي أن لا يمنع منها
قبل طلوعها وتساوي طرفي الشيء مما يستحسن في الحكمة وإلى البدء
يكون العود، وفيه أن النهار في الخبر بعد تسليم صحته يحتمل أن
يكون بالمعنى العرفي ولو أراده سبحانه وتعالى في هذا الحكم
لقال: وكلوا واشربوا إلى النهار ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ
إِلَى اللَّيْلِ مع أنه أخصر وأوفق مما عدل إليه فحيث لم يفعل
فهم أن الأمر مربوط بالفجر لا بطلوع الشمس سواء عد ذلك نهارا
أم لا، وما ذكر من استحسان تساوي طرفي الشيء مع كونه- مما لا
يسمن ولا يغني من جوع- في هذا الباب يمكن معارضته بأن جعل أول
النهار كأول الليل وهما متقابلان مما يدل على عظم قدرة الصانع
الحكيم وإلى الانتهاء غاية الإتمام، ويجوز أن يكون حالا من
الصيام فيتعلق بمحذوف ولا يجوز جعله غاية للإيجاب لعدم
امتداده، وعلى التقديرين تدل الآية على نفي كون الليل محل
الصوم وأن يكون صوم اليومين صومة واحدة، وقد استنبط النبي صلى
الله تعالى عليه وسلم منها حرمة الوصال كما قيل،
فقد روى أحمد من طريق ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت: أردت
أن أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير وقال: إن رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم نهى عنه، وقال: يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا
كما أمركم الله تعالى،
وأَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ فإذا كان الليل فافطروا،
ولا تدل الآية على أنه لا يجوز الصوم حتى يتخلل الإفطار خلافا
لزاعمه، نعم استدل بها على صحة نية رمضان في النهار، وتقرير
ذلك أن قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا إلخ معطوف على قوله:
بَاشِرُوهُنَّ إلى قوله سبحانه:
حَتَّى يَتَبَيَّنَ وكلمة ثُمَّ للتراخي والتعقيب بمهلة-
واللام- في الصِّيامِ للعهد على ما هو الأصل، فيكون مفاد ثُمَّ
أَتِمُّوا إلخ الأمر- بإتمام الصيام- المعهود أي الإمساك
المدلول عليه بالغاية سواء فسر بإتيانه تاما، أو بتصييره كذلك
متراخيا عن الأمور المذكورة المنقضية بطلوع الفجر تحقيقا لمعنى
ثُمَّ فصارت نية الصوم بعد مضي جزء من الفجر لأن قصد الفعل
إنما يلزمنا حين توجه الخطاب، وتوجهه- بالإتمام- بعد الفجر
لأنه بعد الجزء الذي هو غاية لإنقضاء الليل تحقيقا لمعنى
التراخي، والليل لا ينقضي إلا متصلا بجزء من الفجر، فتكون
النية بعد مضي جزء الفجر الذي به انقطع الليل، وحصل فيه
الإمساك المدلول عليه بالغاية، فإن قيل: لو كان كذلك وجب وجوب
النية بعد المضي، أجيب بأن ترك ذلك بالإجماع، وبأن إعمال
الدليلين- ولو بوجه- أولى من إهمال أحدهما، فلو قلنا بوجوب
النية كذلك عملا بالآية بطل العمل
بخبر «لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل»
ولو قلنا باشتراط النية قبله عملا بالخبر بطل العمل بالآية،
فقلنا بالجواز عملا بهما، فإن قيل: مقتضى الآية- على ما ذكر-
الوجوب وخبر الواحد لا يعارضها، أجيب بأنها متروكة الظاهر
بالإجماع فلم تبق قاطعة- فيجوز أن يكون الخبر بيانا لها- ولبعض
الأصحاب تقرير الاستدلال بوجه آخر، ولعل ما ذكرناه أقل مؤنة
فتدبر. وزعم بعض الشافعية أن الآية تدل على وجوب التبييت، لأن
معنى «ثم أتموا» صيروه تاما بعد الانفجار، وهو يقتضي الشروع
فيه قبله- وما ذاك إلا بالنية- إذ لا وجوب للإمساك قبل، ولا
يخفي ما فيه وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي
الْمَساجِدِ أي معتكفون فيها- والاعتكاف- في اللغة الاحتباس
واللزوم مطلقا، ومنه قوله:
فباتت بنات الليل حولي- عكفا ... عكوف- بواك حولهن صريع
وفي الشرع لبث مخصوص، والنهي عطف على أول الأوامر- والمباشرة
فيه كالمباشرة فيه- وقد تقدم أن المراد بها الجماع، إلا أنه
لزم من إباحة الجماع إباحة اللمس والقبلة وغيرهما بخلاف النهي
فإنه- لا يستلزم النهي عن الجماع- النهي عنهما، فهما إما
مباحان اتفاقا بأن يكونا بغير شهوة، وإما حرامان بأن يكونا بها
«يبطل الاعتكاف ما لم ينزل» وصحح معظم أصحاب الشافعي البطلان-
وقيل: المراد من- المباشرة- ملاقاة البشرتين ففي الآية منع عن
(1/464)
مطلق المباشرة- وليس بشيء- فقد كانت عائشة
رضي الله تعالى عنها ترجل رأس النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
وهو معتكف، وفي تقييد- الاعتكاف بالمساجد- دليل على أنه لا يصح
إلا في المسجد إذ لو جاز شرعا في غيره لجاز في البيت- وهو باطل
بالإجماع- ويختص بالمسجد الجامع عند الزهري، وروي عن الإمام
أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه مختص بمسجد له إمام ومؤذن
راتب، وقال حذيفة رضي الله تعالى عنه: يختص بالمساجد الثلاثة،
وعن علي كرم الله تعالى وجهه لا يجوز إلا في المسجد الحرام،
وعن ابن المسيب لا يجوز إلا فيه أو في المسجد النبوي، ومذهب
الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه يصح في جميع المساجد مطلقا
بناء على عموم اللفظ وعدم اعتبار أن المطلق ينصرف إلى الكامل،
واستدل بالآية على صحة اعتكاف المرأة في غير المسجد بناء على
أنها لا تدخل في خطاب الرجال، وعلى اشتراط الصوم في الاعتكاف
لأنه قصر الخطاب على الصائمين، فلو لم يكن الصوم من شرطه لم
يكن لذلك معنى، وهو المروي عن نافع مولى ابن عمر، وعائشة رضي
الله تعالى عنهم، وعلى أنه لا يكفي فيه أقل من يوم- كما أن
الصوم لا يكون كذلك- والشافعي رضي الله تعالى عنه لا يشترط
يوما ولا صوما، لما
أخرج الدارقطني والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه
أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «ليس على المعتكف صيام
إلا أن يجعله على نفسه» ومثله عن ابن مسعود،
وعن علي كرم الله تعالى وجهه روايتان أخرجهما ابن أبي شيبة من
طريقين إحداهما الاشتراط، وثانيتهما عدمه، وعلى أن المعتكف إذا
خرج من المسجد فباشر خارجا جاز لأنه حصر المنع من المباشرة حال
كونه فيه، وأجيب بأن المعنى لا تُبَاشِرُوهُنَّ حال ما يقال
لكم: إنكم عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ومن خرج من المسجد لقضاء
الحاجة فاعتكافه باق، ويؤيده ما روي عن قتادة كان الرجل يعتكف
فيخرج إلى امرأته فيباشرها ثم يرجع- فنهوا عن ذلك- واستدل بها
أيضا على أن الوطء يفسد الاعتكاف لأن النهي للتحريم، وهو في
العبادات يوجب الفساد، وفيه أن المنهي عنه هنا- المباشرة حال
الاعتكاف- وهو ليس من العبادات لا يقال:
إذا وقع أمر منهي عنه في العبادة- كالجماع في الاعتكاف- كانت
تلك العبادة منهية باعتبار اشتمالها على المنهي ومقارنتها إياه
إذ يقال: فرق بين كون الشيء منهيا عنه باعتباره ما يقارنه،
وبين كون المقارن منهيا في ذلك الشيء والكلام في الأول، وما
نحن فيه من قبيل الثاني تِلْكَ أي الأحكام الستة المذكورة
المشتملة على إيجاب وتحريم وإباحة حُدُودُ اللَّهِ أي حاجزة
بين الحق والباطل فَلا تَقْرَبُوها كيلا يداني الباطل والنهي
عن القرب من- تلك الحدود- التي هي الأحكام كناية عن النهي عن
قرب الباطل لكون الأول لازما للثاني وهو أبلغ من فَلا
تَعْتَدُوها [البقرة: 229] لأنه نهي عن قرب الباطل بطريق
الكناية التي هي أبلغ من الصريح، وذلك نهي عن الوقوع في الباطل
بطريق الصريح، وعلى هذا لا يشكل «لا تقربوها» في تلك الأحكام
مع اشتمالها على ما سمعت، ولا وقوع «فلا تعتدوها» وفي آية أخرى
إذ قد حصل الجمع وصح «لا تقربوها» في الكل، وقيل: يجوز أن يراد
ب حُدُودُ اللَّهِ تعالى محارمه ومناهيه إما لأن الأوامر
السابقة تستلزم النواهي لكونها مغياة بالغاية، وإما لأن المشار
إليه قوله سبحانه: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وأمثاله، وقال أبو
مسلم: معنى «لا تقربوها» لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله تعالى:
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
[الإنعام: 152، الإسراء: 34] فيشمل جميع الأحكام- ولا يخفى ما
في الوجهين من التكليف- والقول- بأن تلك إشارة إلى الأحكام-
والحد- إما بمعنى المنع أو بمعنى الحاجز بين الشيئين، فعلى
الأول يكون المعنى تلك الأحكام ممنوعات الله تعالى عن الغير
ليس لغيره أن يحكم بشيء فَلا تَقْرَبُوها أي لا تحكموا على
أنفسكم أو على عباده من عند أنفسكم بشيء- فإن الحكم لله تعالى
عز شأنه- وعلى الثاني يريد أن تلك الأحكام حدود حاجزة بين
الألوهية والعبودية، فالإله يحكم والعباد تنقاد، فلا تقربوا
الأحكام لئلا تكونوا مشركين بالله تعالى- لا يكاد يعرض على ذي
لب فيرتضيه، وهو بعيد بمراحل عن المقصود كما لا يخفى.
(1/465)
كَذلِكَ أي مثل ذلك التبيين الواقع في
أحكام الصوم يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ إما مطلقا أو الآيات
الدالة على سائر الأحكام التي شرعها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ مخالفة أوامره ونواهيه، والجملة اعتراض بين المعطوف
والمعطوف عليه لتقرير الأحكام السابقة والترغيب إلى امتثالها
بأنها شرعت لأجل تقواكم، ولما ذكر سبحانه الصيام وما فيه عقبه
بالنهي عن الأكل الحرام المفضي إلى عدم قبول عبادته من صيامه
واعتكافه فقال:
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ والمراد
من- الأكل- ما يعم الأخذ والاستيلاء، وعبر به لأنه أهم
الحوائج- وبه يحصل إتلاف المال غالبا- والمعنى لا يأكل بعضكم
مال بعض، فهو على حد وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات:
11] وليس من تقسيم الجمع على الجمع، كما في- ركبوا دوابهم- حتى
يكون معناه لا يأكل كل واحد منكم مال نفسه، بدليل قوله سبحانه:
بَيْنَكُمْ فإنه- بمعنى الواسطة- يقتضي أن يكون ما يضاف إليه
منقسما إلى طرفين بكون الأكل والمال حال الأكل متوسطا بينهما-
وذلك ظاهر على المعنى المذكور- والظرف متعلق ب تَأْكُلُوا
كالجار والمجرور بعده، أو بمحذوف حال من «الأموال» - والباء-
للسببية والمراد من بِالْباطِلِ الحرام، كالسرقة، والغصب، وكل
ما لم يأذن بأخذه الشرع.
وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ عطف على تأكلوا فهو منهي
عنه مثله مجزوم بما جزم به وجوز نصبه بأن مضمرة ومثل هذا
التركيب وإن كان للنهي عن الجمع إلا أنه لا ينافي أن يكون كل
من الأمرين منهيا عنه والإدلاء في الأصل إرسال الحبل في البئر
ثم استعير للتوصل إلى الشيء أو الإلقاء- والباء- صلة الإدلاء
وجوز أن تكون سببية والضمير المجرور «للأموال» أي لا تتوصلوا،
أو لا تلقوا بحكومتها والخصومة فيها إلى- الحكام- وقيل: لا
تلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة، وقرأ أبيّ «ولا
تدلوا» لِتَأْكُلُوا بالتحاكم والرفع إليهم.
فَرِيقاً قطعة وجملة مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ أي
بسبب ما يوجب إثما كشهادة الزور واليمين الفاجرة، ويحتمل أن
تكون- الباء- للمصاحبة أي متلبسين- بالإثم. والجار والمجرور
على الأول متعلق «بتأكلوا» وعلى الثاني حال من فاعله وكذلك
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ومفعول العلم محذوف أي- تعلمون- أنكم
مبطلون، وفيه دلالة على أن من لا يعلم أنه مبطل، وحكم له
الحاكم بأخذ مال فإنه يجوز له أخذه،
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مرسلا أن عبدان بن أشوع
الحضرمي، وامرؤ القيس بن عابس اختصما في أرض ولم تكن بينة فحكم
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يحلف امرؤ القيس فهم
به فقرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا
[آل عمران: 77] فارتدع عن اليمين وسلم الأرض فنزلت.
واستدل بها على أن حكم القاضي لا ينفذ باطنا فلا يحل به الأخذ
في الواقع، وإلى ذلك ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وأبو يوسف
ومحمد ويؤيده ما
أخرجه البخاري ومسلم عن أم سلمة زوج النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «إنما أنا
بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض
فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا
يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من النار» .
وذهب الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أن الحاكم إذا
حكم ببينة بعقد أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ فهو نافذ ظاهرا
وباطنا ويكون كعقد عقداه بينهما، وإن كان الشهود زورا كما
روي أن رجلا خطب امرأة هو دونها فأبت فادعى عند علي كرم الله
تعالى وجهه أنه تزوجها وأقام شاهدين فقالت المرأة: لم أتزوجه
وطلبت عقد النكاح فقال علي كرم الله تعالى وجهه: قد زوجك
الشاهدان،
وذهب فيمن ادعى حقا في يدي رجل وأقام بينة تقتضي أنه له
(1/466)
وحكم بذلك الحاكم أنه لا يباح له أخذه وأن
حكم الحاكم لا يبيح له ما كان قبل محظورا عليه وحمل الحديث على
ذلك، والآية ليست نصا في مدعى مخالفيه لأنهم إن أرادوا أنها
دليل على عدم النفوذ مطلقا فممنوع وإن أرادوا أنها دليل على
عدم النفوذ في الجملة فمسلم ولا نزاع فيه لأن الإمام الأعظم
رضي الله تعالى عنه يقول بذلك، ولكن فيما سمعت والمسألة معروفة
في الفروع والأصول، ولها تفصيل في أدب القاضي فارجع إليه.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ
أخرج ابن عساكر بسند ضعيف- أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم،
قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقا مثل الخيط
ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير ثم لا يزال ينقص ويدق حتى
يعود كما كان لا يكون على حال واحد؟ فنزلت، وفي رواية أن معاذا
قال: يا رسول الله إن اليهود يكثرون مسألتنا عن الأهلة فأنزل
الله تعالى هذه الآية،
فيراد بالجمع على الرواية الأولى ما فوق الواحد أو ينزل
الحاضرون المترقبون للجواب منزلة السائل وظاهره المتبادر على
الرواية الثانية بناء على أن سؤال اليهود من بعض أصحابه بمنزلة
السؤال منه صلّى الله عليه وسلّم إذ هو طريق علمهم ومستمد
فيضهم، والْأَهِلَّةِ جمع هلال واشتقاقه من استهل الصبي إذا
بكى وصاح حين يولد ومنه أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم
بالتلبية، وسمي به القمر في ليلتين من أول الشهر أو في ثلاث أو
حتى يحجر وتحجيره أن يستدير بخط دقيق- وإليه ذهب الأصمعي- أو
حتى يبهر ضوءه سواد الليل، وغيا ذلك بعضهم بسبع ليال- وسمي
بذلك لأنه حين يرى يهل الناس بذكره- أو بالتكبير ولهذا يقال
أهلّ الهلال واستهل ولا يقال هلّ، والسؤال يحتمل أن يكون عن
الغاية والحكمة وأن يكون عن السبب والعلة، ولا نص في الآية
والخبر على أحدهما أما الملفوظ من الآية فظاهر، وأما المحذوف
فيحتمل أن يقدر ما سبب اختلافها وأن يقدر ما حكمته، وهي وإن
كانت في الظاهر سؤالا عن التعدد إلا أنها في الحقيقة متضمنة
للسؤال عن اختلاف التشكلات النورية لأن التعدد يتبع اختلافها
إذ لو كان الهلال على شكل واحد لا يحصل التعدد كما لا يخفى،
وأما الخبر فلأن ما فيه يسأل بها عن الجنس وحقيقته فالمسؤول
حينئذ حقيقة أمر الهلال وشأنه حال اختلاف تشكلاته النورية، ثم
عوده إلى ما كان عليه وذلك الأمر المسئول عن حقيقته يحتمل ذينك
الأمرين بلا ريب فعلى الأول يكون الجواب بقوله تعالى: قُلْ
هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ مطابقا مبينا للحكمة
الظاهرة اللائقة بشأن التبليغ العام المذكرة لنعمة الله تعالى
ومزيد رأفته سبحانه وهي أن يكون معالم للناس يوقتون بها أمورهم
الدنيوية ويعلمون أوقات زروعهم ومتاجرهم ومعالم للعبادات
الموقتة يعرف بها أوقاتها كالصيام والإفطار وخصوصا الحج، فإن
الوقت مراعى فيه أداء وقضاء ولو كان الهلال مدورا كالشمس أو
ملازما حالة واحدة لم يكد يتيسر التوقيت به، ولم يذكر صلى الله
تعالى عليه وسلم الحكمة الباطنة لذلك مثل كون اختلاف تشكلاته
سببا عاديا أو جعليا لاختلاف أحوال المواليد العنصرية كما بين
في محله لأنه مما لم يطلع عليه كل أحد، وعلى الثاني يكون من
الأسلوب الحكيم، ويسمى القول بالموجب وهو تلقي السائل بغير ما
يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنه الأولى بحاله-
واختاره السكاكي. وجماعة- فيكون في هذا الجواب إشارة إلى أن
الأولى على تقدير وقوع السؤال أن يسألوا عن الحكمة لا عن السبب
لأنه لا يتعلق به صلاح معاشهم ومعادهم، والنبي إنما بعث لبيان
ذلك لا لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ليسوا ممن يطلع على
دقائق علم الهيئة الموقوفة على الإرصاد والأدلة الفلسفية كما
وهم لأن ذلك على فرض تسليمه في حق أولئك المشائين في ركاب
النبوة، والمرتاضين في رواق الفتوة، والفائزين بإشراق الأنوار،
والمطلعين بأرصاد قلوبهم على دقائق الأسرار، وإن لم يكن نقصا
من قدرهم إلا أنه يدل على أن سبب الاختلاف ما بين في علم
الهيئة من بعد القمر عن الشمس وقربه إليها وهو باطل عند أهل
الشريعة فإنه مبني على أمور لم يثبت جزما شيء منها غاية الأمر
أن الفلاسفة الأول تخيلوها موافقة لما أبدعه الحكيم المطلق
(1/467)
كما يشير إليه كلام مولانا الشيخ الأكبر
قدس سره في فتوحاته، ومما ينادى على أن ما ذهبوا إليه مجرد
تخيل لا تأباه الحكمة وليس مطابقا لما في نفس الأمران
المتأخرين مما انتظم في سلك الفلاسفة كهرشل الحكيم وأتباعه
أصحاب الرصد والزيج الجديد تخيلوا خلاف ما ذهب إليه الأولون في
أمر الهيئة، وقالوا: بأن الشمس مركز والأرض وكذا النجوم دائرة
حولها وبنوا حكم الكسوف والخسوف ونحوه على ذلك وبرهنوا عليه
وردوا مخالفيه ولم يتخلف شيء من أحكامهم في هذا الباب بل يقع
حسبما يقع ما يقوله الأولون مبنيا على زعمهم فحيث اتفقت
الأحكام مع اختلاف المبنيين وتضاد المشائين، ورد أحد الزعمين
بالآخر ارتفع الوثوق بكلا المذهبين ووجب الرجوع إلى العلم
المقتبس من مشكاة الرسالة والمنقدح من أنوار شمس السيادة
والبسالة، والاعتماد على ما قاله الشارع الأعظم صلّى الله عليه
وسلّم بعد إمعان النظر فيه وحمله على أحسن معانيه وإذا أمكن
الجمع بين ما يقوله الفلاسفة كيف كانوا مما يقبله العقل
وبين ما يقوله سيد الحكماء ونور أهل الأرض والسماء فلا بأس به
بل هو الأليق الأحرى في دفع الشكوك التي كثيرا ما تعرض لضعفاء
المؤمنين وإذا لم يمكن ذلك فعليك بما دارت عليه أفلاك الشرع
وتنزلت به أملاك الحق.
إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام
وسيأتي تتمة لهذا المبحث إن شاء الله تعالى، و «المواقيت» جمع
ميقات صيغة آلة أي ما يعرف به الوقت، والفرق بينه وبين المدة
والزمان- على ما يفهم من كلام الراغب- أن المدة المطلقة امتداد
حركة الفلك في الظاهر من مبدئها إلى منتهاها، والزمان مدة
مقسومة إلى السنين والشهور والأيام والساعات، والوقت الزمان
المقدر والمعين، وقرىء بإدغام نون عَنِ في الْأَهِلَّةِ بعد
النقل والحذف، واستدل بالآية على جواز الإحرام بالحج في كل
السنة، وفيه بعد بل ربما يستدل بها على خلاف ذلك لأنه لو صح لم
يحتج إلى الهلال في الحج، وإنما احتيج إليه لكونه خاصا بأشهر
معلومة محتاجة في تمييزها عن غيرها إليه، وإلى هذا ذهب الشافعي
رضي الله تعالى عنه، ومناسبة الآية لما قبلها ظاهرة لأنه في
بيان حكم الصيام، وذكر شهر رمضان وبحث الْأَهِلَّةِ يلائم ذلك
لأن الصوم مقرون برؤية الهلال وكذا الإفطار، ولهذا
قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته»
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» أنه سبحانه ذكر قوانين جليلة
من قوانين العدالة، فمنها القصاص الذي فرض لإزالة عدوان القوة
السبعية، وهو ظل من ظلال عدله فإذا تصرف في عبده بإفنائه وقتله
بسيف حبه عوضه عن حر روحه روحا، وعن عبد قلبه قلبا، وعن أنثى
نفسه نفسا فإنّه كما كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ في قتلاكم-
كتب على نفسه الرحمة في قتلاه- ففي بعض الآثار من طرق القوم
أنه سبحانه يقول: من أحبني قتلته ومن قتلته فأنا ديته ولكم في
مقاصة الله تعالى إياكم بما ذكر حياة عظيمة لا موت بعدها يا
أولي العقول الخالصة عن قشر الأوهام وغواشي التعينات والإجرام
لكي تتقوا تركه أو شرك وجودكم، ومنها الوصية التي هي قانون آخر
فرض لإزالة نقصان القوة الملكية وقصورها عما تقتضي الحكمة من
التصرفات ووصية أهل الله تعالى قدس الله تعالى أسرارهم
المحافظة على عهد الأزل بترك ما سوى الحق، ومنها الصيام، وهو
قانون فرض لإزالة تسلط القوى البهيمية، وهو عند أهل الحقيقة
الإمساك عن كل قول وفعل وحركة ليس بالحق للحق والأيام المعدودة
هي أيام الدنيا التي ستنقرض عن قريب فاجعلها كلها أيام صومك
واجعل فطرك في عيد لقاء الله تعالى، وشهر رمضان هو وقت احتراق
النفس واضمحلالها بأنوار تجليات القرب الذي أنزل فيه القرآن،
وهو العلم الإجمالي الجامع هداية للناس إلى الوحدة باعتبار
الجمع، ودلائل مفصلة من الجمع، والفرق- فمن حضر منكم ذلك الوقت
وبلغ مقام الشهود فليمسك عن كل شيء إلا له، وبه، وفيه، ومنه،
وإليه، ومن كان مبتلى بأمراض القلب والحجب النفسانية المانعة
عن الشهود أو على سفر وتوجه إلى ذلك المقام فعليه مراتب أخر
يقطعها حتى يصل إليه
(1/468)
يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ والوصول
إلى مقام التوحيد، والاقتدار بقدرته وَلا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ وتكلف الأفعال بالنفس الضعيفة وَلِتُكْمِلُوا عدة
المراتب ولتعظموا الله تعالى على هدايته لكم إلى مقام الجمع
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ بالاستقامة وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي
المختصون بي المنقطعون إلى عن معرفتي فَإِنِّي قَرِيبٌ منهم
بلا أين ولا بين ولا إجماع ولا افتراق أُجِيبُ من يدعوني بلسان
الحال، والاستعداد بإعطائه ما اقتضى حاله، واستعداده
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي بتصفية استعدادهم وليشاهدوني عند
التصفية حين أتجلى في مرايا قلوبهم لكي يستقيموا في مقام
الطمأنينة وحقائق التمكين.
ولما كان للإنسان تلونات بحسب اختلاف الأسماء فتارة يكون بحكم
غلبات الصفات الروحانية في نهار الواردات الربانية وحينئذ يصوم
عن الحظوظ الإنسانية، وتارة يكون بحكم الدواعي والحاجات
البشرية مردودا بمقتضى الحكمة إلى ظلمات الصفات الحيوانية وهذا
وقت الغفلة الذي يتخلل ذلك الإمساك أباح له التنزل بعض
الأحايين إلى مقارنة النفوس وهو الرفث إلى النساء وعلله بقوله
سبحانه: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ أي لا
صبر لكم عنها بمقتضى الطبيعة لكونها تلابسكم وكونكم تلابسونهن
بالتعلق الضروري عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ وتنقصونها حظوظها الباقية باستراق
تلك الحظوظ الفانية في أزمنة السلوك والرياضة فَتابَ
عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ أي وقت الاستقامة
والتمكين حال البقاء بعد الفناء بَاشِرُوهُنَّ بقدر الحاجة
الضرورية وَابْتَغُوا بقوة هذه المباشرة ما كَتَبَ اللَّهُ
لَكُمْ من التقوى والتمكن على توفير حقوق الاستقامة والوصول
إلى المقامات العقلية وَكُلُوا وَاشْرَبُوا في ليالي الصحو حتى
يظهر لكم بوادر الحضور ولوامعه وتغلب آثاره وأنواره على سواد
الغفلة وظلمتها ثم كونوا على الإمساك الحقيقي بالحضور مع الحق
حتى يأتي زمان الغفلة الأخرى فإن لكل حاضر سهما منها ولولا ذلك
لتعطلت مصالح المعاش، وإليه الإشارة
بخبر «لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولي
وقت مع حفصة وزينب» ،
ولا تقاربوهن حال اعتكافكم وحضوركم في مقامات القربة والأنس
ومساجد القلوب وَلا تَأْكُلُوا أموال معارفكم بَيْنَكُمْ بباطل
شهوات النفس، وترسلوا بها إلى حكام النفوس الأمارة بالسوء
لِتَأْكُلُوا الطائفة مِنْ أَمْوالِ القوى الروحانية بالظلم
لصرفكم إياها في ملاذ القوى النفسانية وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
أن ذلك إثم ووضع للشيء في غير موضعه يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَهِلَّةِ وهي الطوالع القلبية عند إشراق نور الروح عليها
قُلْ هِيَ مَواقِيتُ للسالكين يعرف بها أوقات وجوب المعاملة في
سبيل الله وعزيمة السلوك وطواف بيت القلب، والوقوف في عرفة
العرفان، والسعي من صفوة الصفا ومروة المروة، وقيل:
الْأَهِلَّةِ للزاهدين مواقيت أورادهم.
وللصديقين مواقيت مراقباتهم، والغالب على الأولين القيام
بظواهر الشريعة، وعلى الآخرين القيام بأحكام الحقيقة، فإن تجلى
عليهم بوصف الجلال طاشوا، وإن تجلى عليهم بوصف الجمال عاشوا،
فهم بين جلال وجمال وخضوع ودلال نفعنا الله تعالى بهم، وأفاض
علينا من بركاتهم وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا
الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها أخرج ابن جرير والبخاري. عن البراء
قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل
الله وَلَيْسَ الْبِرُّ الآية، وكأنهم كانوا يتحرجون من الدخول
من الباب من أجل سقف الباب أن يحول بينهم وبين السماء كما صرح
به الزهري في رواية ابن جرير عنه- ويعدون فعلهم ذلك برا- فبين
لهم أنه ليس ببر وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى أي- بر من
اتقى- المحارم والشهوات، أو لكن ذا الْبِرُّ أو البار مَنِ
اتَّقى والظاهر أن جملة النفي معطوفة على مقول- قل- فلا بد من
الجامع بينهما فإما أن يقال: إنهم سألوا عن الأمرين كيف ما
اتفق، فجمع بينهما في الجواب بناء على الاجتماع الاتفاقي في
السؤال، والأمر الثاني مقدر إلا أنه ترك ذكره إيجازا واكتفاء
بدلالة الجواب عليه، وإيذانا بأن هذا الأمر مما لا ينبغي أن
يقع فيحتاج إلى السؤال عنه، أو يقال: إن السؤال واقع عَنِ
الْأَهِلَّةِ فقط وهذا مستعمل إما على الحقيقة
(1/469)
مذكور للاستطراد حيث ذكر- مواقيت الحج-
والمذكور أيضا من أفعالهم فيه إلا الخمس، أو للتنبيه على أن
اللائق بحالهم أن يسألوا عن أمثال هذا الأمر، ولا يتعرضوا بما
لا يهمهم عن أمر الْأَهِلَّةِ وإما على سبيل الاستعارة
التمثيلية بأن يكون قد شبه حالهم في سؤالهم عما لا يهم، وترك
المهم بحال من ترك الباب وأتى من غير الطريق للتنبيه على
تعكيسهم الأمر في هذا السؤال، فالمعنى وَلَيْسَ الْبِرُّ
بِأَنْ تعكسوا مسائلكم وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى ذلك ولم
يجبر على مثله، وجوز أن يكون العطف على قوله سبحانه:
يَسْئَلُونَكَ والجامع بينهما أن الأول قول لا ينبغي، والثاني
فعل لا ينبغي وقعا من الأنصار على ما تحكيه بعض الروايات.
وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها إذ ليس في العدول برا
وباشروا الأمور عن وجوهها، والجملة عطف على وَلَيْسَ الْبِرُّ
إما لأنه في تأويل- ولا تأتوا البيوت من ظهورها- أو لكونه مقول
القول، وعطف الإنشاء على الإخبار جائز فيما له محل من الإعراب
سيما بعد القول، وقرأ ابن كثير وكثير بكسر باء الْبُيُوتَ
حيثما وقع وَاتَّقُوا اللَّهَ في تغيير أحكامه- كإتيان البيوت
من أبوابها- والسؤال عما لا يعني، ومن الحكم والمصالح المودعة
في مصنوعاته تعالى بعد العلم بأنه أتقن كل شيء، أو في جميع
أموركم.
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تفوزوا بالمطلوب من الهدى
والبر، فإن مَنِ اتَّقى الله تعالى تفجرت ينابيع الحكمة من
قلبه وانكشفت له دقائق الأسرار حسب تقواه وَقاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أي جاهدوا لإعزاز دين الله تعالى وإعلاء
كلمته- فالسبيل- بمعنى الطريق مستعار لدين الله تعالى وكلمته
لأنه يتوصل المؤمن به إلى مرضاته تعالى، والظرفية التي هي
مدلولة في ترشيح للاستعارة الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ أي
يناجزونكم القتال من الكفار، وكان هذا- على ما روي عن أبي
العالية- قبل أن أمروا بقتال المشركين كافة- المناجزين
والمحاجزين- فيكون ذلك حينئذ تعميما بعد التخصيص المستفاد من
هذا الأمر مقررا لمنطوقه ناسخا لمفهومه- أي لا تقاتلوا
المحاجزين- وكذا المنطوق في النهي الآتي فإنّه على هذا الوجه
مشتمل على النهي عن قتالهم أيضا، وقيل: معناه الذين يناصبونكم
القتال، ويتوقع منهم ذلك دون غيرهم من المشايخ، والصبيان
والنساء والرهبان فتكون الآية مخصصة لعموم ذلك الأمر مخرجة لمن
لم يتوقع منهم وقيل: المراد ما يعم سائر الكفار فإنهم بصدد
قتال المسلمين وقصده فهم في حكم المقاتلة قاتلوا أو لم
يقاتلوا، ويؤيد الأول ما
أخرجه أبو صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين
صدوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن البيت عام
الحديبية وصالحوه على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة
أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما شاء فلما كان العام المقبل تجهز
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه لعمرة القضاء
وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدوهم عن المسجد الحرام
ويقاتلوهم وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم فأنزل
الله تعالى الآية،
وجعل ما يفهم من الأثر- وجها رابعا في المراد بالموصول بأن
يقال المراد به من يتصدى من المشركين للقتال في الحرم وفي
الشهر الحرام كما فعل البعض- بعيد لأنه تخصيص من غير دليل
وخصوص السبب لا يقتضي خصوص الحكم وَلا تَعْتَدُوا أي لا تقتلوا
النساء والصبيان والشيخ الكبير ولا من ألقى إليكم السلم وكف
يده فإن فعلتم فقد اعتديتم رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس- أو
لا تعتدوا- بوجه من الوجوه كابتداء القتال أو قتال المعاهد أو
المفاجأة به من غير دعوة أو قتل من نهيتم عن قتله قاله بعضهم،
وأيد بأن الفعل المنفي يفيد العموم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ أي المتجاوزين ما حد لهم وهو كالتعليل لما قبله
ومحبته تعالى لعباده في المشهور عبارة عن إرادة الخير والثواب
لهم ولا واسطة بين المحبة والبغض بالنسبة إليه عز شأنه وذلك
بخلاف محبة الإنسان وبغضه فإن بينهما واسطة وهي عدمهما.
(1/470)
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي
وجدتموهم كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حين سأله نافع
بن الأزرق، وأنشد عليه قول حسان رضي الله تعالى عنه:
فإمّا «يثقفن» بني لويّ ... جذيمة إن قتلهم دواء
وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء عملا كان أو علما ويستعمل
كثيرا في مطلق الإدراك، والفعل منه ثقف ككرم وفرح
وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي مكة وقد فعل بهم
ذلك عام الفتح وهذا الأمر معطوف على سابقه، والمراد افعلوا كل
ما يتيسر لكم من هذين الأمرين في حق المشركين فاندفع ما قيل:
إن الأمر بالإخراج لا يجامع الأمر بالقتل فإن القتل والإخراج
لا يجتمعان، ولا حاجة إلى ما تكلف من أن المراد إخراج من دخل
في الأمان أو وجدوه بالأمان كما لا يخفى وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ
مِنَ الْقَتْلِ أي شركهم في الحرم أشد قبحا فلا تبالوا بقتالهم
فيه لأنه ارتكاب القبيح لدفع الأقبح فهو مرخص لكم ويكفر عنكم،
أو المحنة التي يفتتن بها الإنسان كالإخراج من الوطن المحبب
للطباع السليمة أصعب من القتل لدوام تعبها وتألم النفس بها،
ومن هنا قيل:
لقتل بحد سيف أهون موقعا ... على النفس من قتل «بحد فراق»
والجملة على الأول من باب التكمل والاحتراس لقوله تعالى:
وَاقْتُلُوهُمْ إلخ عن توهم أن القتال في الحرم قبيح فكيف يؤمر
به، وعلى الثاني تذييل لقوله سبحانه: وَأَخْرِجُوهُمْ إلخ
لبيان حال الإخراج والترغيب فيه، وأصل- الفتنة- عرض الذهب على
النار لاستخلاصه من الغش ثم استعمل في الابتلاء والعذاب والصد
عن دين الله والشرك به، وبالأخير فسرها أبو العالية في الآية
وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى
يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ نهي للمؤمنين أن يبدؤوا القتال في ذلك
الموطن الشريف حتى يكون هم الذين يبدؤون، فالنهي عن المقاتلة
التي هي فعل اثنين باعتبار نهيهم عن الابتداء بها الذي يكون
سببا لحصولها، وكذا كونها غاية باعتبار المفاتحة لئلا يلزم كون
الشيء غاية لنفسه.
فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ نفي للحرج عن القتال في
الحرم الذي خاف منه المسلمون وكرهوه أي إن قاتلوكم هناك فلا
تبالوا بقتالهم لأنهم الذين هتكوا الحرمة وأنتم في قتالهم
دافعون القتل عن أنفسكم وكان الظاهر الإتيان بأمر المفاعلة إلا
أنه عدل عنه إلى أمر فعل بشارة للمؤمنين بالغلبة عليهم أي هم
من الخذلان وعدم النصر بحيث أمرتم بقتلهم، وقرأ حمزة والكسائي-
ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم فاقتلوهم- واعترض الأعمش
على حمزة في هذه القراءة فقال له: أرأيت قراءتك إذا صار الرجل
مقتولا فبعد ذلك كيف يصير قاتلا لغيره؟ فقال حمزة: إن العرب
إذا قتل منهم رجل قالوا: قتلنا، وإذا ضرب منهم الرجل قالوا:
ضربنا، وحاصله أن الكلام على حذف المضاف إلى المفعول وهو لفظ
بعض فلا يلزم كون المقتول قاتلا، وأما إسناد الفعل إلى الضمير
فمبني على أن الفعل الواقع من البعض برضا البعض الآخر يسند إلى
الكل على التجوز في الإسناد فلا حاجة فيه إلى التقدير، ولذا
اكتفى الأعمش في السؤال بجانب المفعول، وكذا قوله سبحانه: وَلا
تُقاتِلُوهُمْ جاز على حقيقة من غير تأويل لأن المعنى على
السلب الكلي أي لا يقتل واحد منكم واحدا منهم حتى يقع منهم قتل
بعضهم. ثم إن هذا التأويل مختص بهذه القراءة ولا حاجة إليه في-
لا تقاتلوهم- لأن المعنى لا تفاتحوهم والمفاتحة لا تكون إلا
بشروع البعض بقتال البعض قاله بعض المحققين، وقد خفي على بعض
الناظرين فتدبر كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ تذييل لما قبله أي
يفعل بهم مثل ما فعلوا، والْكافِرِينَ إما من وضع المظهر موضع
المضمر نعيا عليهم بالكفر أو المراد منه الجنس ويدخل المذكورون
فيه دخولا أوليا. والجار في المشهور خبر مقدم وما بعده مبتدأ
مؤخر، واختار أبو البقاء أن الكاف بمعنى مثل مبتدأ وجزاء خبره
إذ لا وجه للتقديم فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر بالتوبة منه كما
روي عن مجاهد وغيره، أو عنه وعن القتال كما قيل:
(1/471)
الشَّهْرُ الْحَرَامُ
بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ
أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا
تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ
فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ
فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا
أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا
رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ
يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا
اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ
الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي
الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ
يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ
عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ
وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ
لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ
أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ
ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي
الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا
حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
(201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ
سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ
مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ
عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ
اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي
قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى
سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ
وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا
قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ
فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ
وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ
يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ
الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى
اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ
نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا
فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ
فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ
مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
لقرينة ذكر الأمرين فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر لهم ما قد سلف، واستدل به في البحر على
قبول توبة قاتل العمد إذ كان الكفر أعظم مأثما من القتل، وقد
أخبر سبحانه أنه يقبل التوبة منه وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا
تَكُونَ فِتْنَةٌ عطف على قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ والأول مسوق لوجوب أصل القتال، وهذا
لبيان غايته، والمراد من «الفتنة» الشرك على ما هو المأثور عن
قتادة والسدي وغيرهما، ويؤيده أن مشركي العرب ليس في حقهم إلا
الإسلام أو السيف لقوله سبحانه تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ
يُسْلِمُونَ [الفتح: 16] وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ أي خالصا
له كما يشعر به اللام، ولم يجىء هنا كلمة- كله- كما في آية
الأنفال لأن ما هنا في مشركي العرب، وما هناك في الكفار عموما
فناسب العموم هناك وتركه هنا فَإِنِ انْتَهَوْا تصريح بمفهوم
الغاية فالمتعلق الشرك- والفاء- للتعقيب فَلا عُدْوانَ إِلَّا
عَلَى الظَّالِمِينَ علة للجزاء المحذوف أقيمت مقامه، والتقدير
فَإِنِ انْتَهَوْا وأسلموا- فلا تعتدوا- عليهم لأن «العدوان
على الظالمين» والمنتهون ليسوا بظالمين، والمراد نفي الحسن
والجواز لا نفي الوقوع لأن «العدوان» واقع على غير الظالمين،
والمراد من «العدوان» العقوبة بالقتل، وسمي القتل عدوانا من
حيث كان عقوبة- للعدوان- وهو الظلم كما في قوله تعالى:
فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ وَجَزاءُ
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] وحسن ذلك لازدواج
الكلام والمزاوجة هنا معنوية ويمكن أن يقال سمي جزاء الظلم
ظلما لأنه وإن كان عدلا من المجازي لكنه ظلم في حق الظالم من
عند نفسه لأنه ظلم بالسبب لإلحاق هذا الجزاء به وقيل: لا حذف
والمذكور هو الجزاء على معنى فلا تعتدوا على المنتهين إما بجعل
فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ بمعنى- فلا عدوان
على غير الظالمين- المكنى به عن المنتهين، أو جعل اختصاص
العدوان بالظالمين كناية عن عدم جواز العدوان على غيرهم وهم
المنتهون، واعترض بأنه على التقدير الأول يصير الحكم الثبوتي
المستفاد من القصر زائدا، وعلى التقدير الثاني يصير المكنى عنه
من المكنى به، وجوز أن يكون المذكور هو الجزاء ومعنى
الظَّالِمِينَ المتجاوزين عن حد حكم القتال، كأنه قيل:
فَإِنِ انْتَهَوْا عن الشرك فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى
المتجاوزين عما حده الله تعالى للقتال وهم المتعرضون للمنتهين،
ويؤول المعنى إلى أنكم إن تعرضتم للمتقين صرتم ظالمين وتنعكس
الحال عليكم- وفيه من المبالغة في النهي عن قتال المنتهين ما
لا يخفى- وذهب بعضهم إلى أن هذا المعنى يستدعي حذف الجزاء،
وجعل المذكور علة له على معنى فَإِنِ انْتَهَوْا فلا تتعرضوهم
لئلا تكونوا ظالمين فيسلط الله عليكم من يعدو عليكم لأن-
العدوان- لا يكون إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ أو فَإِنِ
انْتَهَوْا يسلط عليكم من يعدو عليكم على تقدير تعرضكم لهم
لصيرورتكم ظالمين بذلك، وفيه من البعد ما لا يخفى فتدبر.
(1/472)
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ
قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة قتالا خفيفا بالرمي
بالسهام والحجارة، فاتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه فكرهوا أن
يقاتلوهم لحرمته. فقيل: هذا الشَّهْرُ الْحَرامُ بذلك، وهتكه
بهتكه فلا تبالوا به وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ أي الأمور التي يجب
أن يحافظ عليها ذوات قِصاصٌ أو مقاصة، وهو متضمن لإقامة الحجة
على الحكم السابق، كأنه قيل: لا تبالوا بدخولكم عليه عنوة،
وهتك حرمة هذا الشهر ابتداء بالغلبة، فإن الْحُرُماتُ يجري
فيها- القصاص- فالصد قصاصه العنوة فَإِنْ قاتَلُوكُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ فذلكة لما تقدمه،
وهو أخص مفادا منه لأن الأول يشمل ما إذا هتك حرمة الإحرام
والصيد والحشيش مثلا بخلاف هذا، وفيه تأكيد لقوله تعالى:
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ ولا ينافي ذلك
فذلكيته معطوفا- بالفاء- والأمر للإباحة- إذ العفو جائز- و
«من» تحتمل الشرطية والموصولية، وعلى الثاني تكون- الفاء- صلة
في الخبر- والباء- تحتمل الزيادة وعدمها، واستدل الشافعي
بالآية على أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به من محدد أو خنق أو
حرق أو تجويع أو تغريق حتى لو ألقاه في ماء عذب لم يلق في ماء
ملح واستدل بها أيضا على أن من غصب شيئا وأتلفه يلزمه رد مثله،
ثم إن المثل قد يكون من طريق الصورة- كما في ذوات الأمثال- وقد
يكون من طريق المعنى كالقيم فيما لا مثل له وَاتَّقُوا اللَّهَ
في الانتصار لأنفسكم وترك الاعتداء بما لم يرخص لكم فيه
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالنصر والعون
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عطف على قاتلوا أي وليكن
منكم إنفاق ما في سبيله وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ بترك الغزو والإنفاق فيه، فهو متعلق بمجموع
المعطوف والمعطوف عليه نهيا عن ضدهما تأكيدا لهما، ويؤيد ذلك
ما أخرجه غير واحد- عن أبي عمران- قال: كنا بالقسطنطينية فخرج
صف عظيم من الروم فحمل رجل من المسلمين حتى دخل فيهم، فقال
الناس: ألقى بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال:
أيها الناس، إنكم تؤولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت
فينا معاشر الأنصار، إنا لما أعز الله تعالى دينه وكثر ناصروه
قال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:
إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله تعالى قد أعز الإسلام، وكثر
ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله
تعالى على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ما يرد علينا ما قلنا
وَأَنْفِقُوا إلخ، فكانت التَّهْلُكَةِ الإقامة في الأموال
وإصلاحها، وترك الغزو. وقال الجبائي: التَّهْلُكَةِ الإسراف في
الإنفاق، فالمراد بالآية النهي عنه بعد الأمر بالإنفاق تحريا
للطريق الوسط بين الإفراط والتفريط فيه، وروى البيهقي في
الشعب- عن الحسن- أنها البخل لأنه يؤدي إلى الهلاك المؤبد
فيكون النهي مؤكدا للأمر السابق، واختار البلخي أنها اقتحام
الحرب من غير مبالاة، وإيقاع النفس في الخطر والهلاك، فيكون
الكلام متعلقا ب قاتِلُوا نهيا عن الإفراط والتفريط في
الشجاعة، وأخرج سفيان بن عيينة.
وجماعة عن البراء بن عازب أنه قيل له: وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ هو الرجل يلقى العدو فيقاتل
حتى يقتل، قال: لا، ولكن هو الرجل يذنب الذنب فيلقي بيديه
فيقول: لا يغفر الله تعالى لي أبدا- وروي مثله عن عبيدة
السلماني- وعليه يكون متعلقا بقوله سبحانه: فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ وهو في غاية البعد، ولم أر من صحح الخبر عن
البراء رضي الله تعالى عنه سوى الحاكم- وتصحيحه لا يوثق به-
وظاهر اللفظ العموم- والإلقاء- تصيير الشيء إلى جهة السفل
وألقى عليه مسألة مجاز، ويقال لكل من أخذ في عمل ألقى يديه
إليه وفيه، ومنه قول لبيد في الشمس:
حتى إذا «ألقت» يدا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها
وعدي- بإلى- لتضمنه معنى الإفضاء أو الإنهاء- والباء- مزيدة في
المفعول لتأكيد معنى النهي، لأن- ألقى- يتعدى بنفسه كما في
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ [الشعراء: 45] وزيادتها في المفعول لا
تنقاس، والمراد- بالأيدي-
(1/474)
الأنفس مجازا، وعبر بها عنها لأن أكثر ظهور
أفعالها بها، وقيل: يحتمل أن تكون زائدة- والأيدي- بمعناها،
والمعنى لا تجعلوا التَّهْلُكَةِ آخذة بأيديكم قابضة إياها،
وأن تكون غير مزيدة- والأيدي- أيضا على حقيقتها ويكون المفعول
محذوفا أي لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ أنفسكم إِلَى
التَّهْلُكَةِ وفائدة ذكر- الأيدي- حينئذ التصريح بالنهي عن
الإلقاء إليها بالقصد والاختيار، والتَّهْلُكَةِ مصدر كالهلك
والهلاك، وليس في كلام العرب مصدر على تفعلة- بضم العين- إلا
هذا في المشهور، وحكى سيبويه عن العرب- تضره وتسره- أيضا بمعنى
الضرر والسرور، وجوز أن يكون أصلها- تهلكة بكسر اللام- مصدر
هلك مشددا كالتجربة والتبصرة فأبدلت- الكسرة ضمة- وفيه أن مجيء
تفعلة- بالكسر- من فعل المشدد الصحيح الغير المهموز شاذ،
والقياس تفعيل وإبدال- الكسرة بالضم من غير علة- في غاية
الشذوذ، وتمثيله بالجوار- مضموم الجيم- في جوار مكسورها- ليس
بشيء- إذ ليس ذلك نصا في الابدال لجواز أن يكون بناء المصدر
فيه على فعال- مضموم الفاء شذوذا- يؤيده ما في الصحاح جاورته
مجاورة وجوارا وجوارا- والكسر أفصح، وفرق بعضهم بين
التَّهْلُكَةِ والهلاك بأن الأول ما يمكن التحرز عنه، والثاني
ما لا يمكن، وقيل: الهلاك مصدر والتَّهْلُكَةِ نفس الشيء
المهلك، وكلا القولين خلاف المشهور، واستدل بالآية على تحريم
الإقدام على ما يخاف منه تلف النفس، وجواز الصلح مع الكفار
والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين وَأَحْسِنُوا
أي بالعود على المحتاج- قاله عكرمة- وقيل: أحسنوا الظن بالله
تعالى وَأَحْسِنُوا في أعمالكم بامتثال الطاعات ولعله أولى.
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ويثيبهم وَأَتِمُّوا
الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ أي اجعلوهما تامين إذا تصديتم
لأدائهما لوجه الله تعالى فلا دلالة في الآية على أكثر من وجوب
الإتمام بعد الشروع فيهما وهو متفق عليه بين الحنفية والشافعية
رضي الله تعالى عنهم، فإن إفساد الحج والعمرة مطلقا يوجب المضي
في بقية الأفعال والقضاء، ولا تدل على وجوب الأصل، والقول
بالدلالة بناء على أن الأمر- بالإتمام- مطلقا يستلزم الأمر
بالأداء لما تقرر من أن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو
واجب- ليس بشيء- لأن الأمر بالإتمام يقتضي سابقية الشروع فيكون
الأمر بالإتمام مقيدا بالشروع وادعاء أن المعنى ائتوا بهما حال
كونهما تامين مستجمعي الشرائط والأركان، وهذا يدل على وجوبهما
لأن الأمر ظاهر فيه، ويؤيده قراءة «وأقيموا الحج والعمرة» ليس
بسديد. «أما أولا» فلأنه خلاف الظاهر وبتقدير قبوله في مقام
الاستدلال يمكن أن يجعل الوجوب المستفاد من الأمر فيه متوجها
إلى القيد- أعني تامين- لا إلى أصل الإتيان كما في
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «بيعوا سواء بسواء»
«وأما ثانيا» فلأن الأمر في القراءة محمول على المعنى المجازي
المشترك بين الواجب والمندوب- أعني طلب الفعل- والقرينة على
ذلك الأحاديث الدالة على استحباب العمرة،
فقد أخرج الشافعي في الأم وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن
حميد وابن ماجة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «الحج جهاد
والعمرة تطوع»
وأخرج الترمذي وصححه- عن جابر- أن رجلا سأل رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم عن العمرة، أواجبة هي؟ قال: «لا، وأن تعتمروا
خير لكم»
ويؤيد ذلك أن ابن مسعود صاحب هذه القراءة قال فيما أخرجه عنه
ابن أبي شيبة وعبد بن حميد: «الحج فريضة والعمرة تطوع» وأخرج
ابن أبي داود في المصاحف- عنه أيضا- أنه كان يقرأ ذلك ثم يقول:
والله لولا التحرج أني لم أسمع فيها من رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم شيئا لقلت: إن العمرة واجبة مثل الحج، وهذا
يدل على أنه رضي الله تعالى عنه لم يجعل الأمر بالنسبة إليها
للوجوب لأنه لم يسمع شيئا فيه- ولعله سمع ما يخالفه- ولهذا جزم
في الرواية الأولى عنه بفرضية الحج واستحباب العمرة، وكأنه
لذلك حمل الأمر في قراءته على القدر المشترك الذي قلناه لا غير
بناء على امتناع استعمال المشترك في معنييه وعدم جواز الجمع
بين الحقيقة والمجاز والميل إلى عدم تقدير فعل موافق للمذكور
يراد به الندب، نعم لا يعد ما ذكر صارفا
(1/475)
إلا إذا ثبت كونه قبل الآية، أما إذا ثبت
كونه بعدها فلا لأنه يلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد لما أن الأمر
ظاهر في الوجوب، وليس مجملا في معانيه على الصحيح حتى يحمل
الخبر على تأخير البيان- على ما وهم- والقول- بأن أحاديث الندب
سابقة ولا تصرف الأمر عن ظاهره بل يكون ذلك ناسخا لها- سهو
ظاهر لأن الأحاديث نص في الاستحباب، والقرآن ظاهر في الوجوب
فكيف يكون الظاهر ناسخا للنص، والحال أن النص مقدم على الظاهر
عند التعارض. ثم إن هذا الذي ذكرناه- وإن لم يكن مبطلا لأصل
التأييد إلا أنه يضعفه جدا، وادعى بعضهم أن الأحاديث الدالة
على استحباب العمرة معارضة بما يدل على وجوبها منها، فقد
أخرج الحاكم عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم: «إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت»
وأخرج أبو داود والنسائي أن رجلا قال لعمر: إني وجدت الحج
والعمرة مكتوبين عليّ أهللت بهما جميعا فقال: هديت لسنة نبيك،
فإن هذا يدل على أن الإهلال بهما طريقة النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم لأن الاستدلال بما حكاه الصحابي من سنته عليه الصلاة
والسلام يكون استدلالا بالحديث الفعلي الذي رواه الصحابي،
والقول بأن- أهللت بهما- جملة مفسرة لقوله وجدت فيجوز أن يكون
الوجوب بسبب الإهلال بهما فلا يدل الحديث على الوجوب ابتداء
ليس بشيء لأن الجملة مستأنفة كأنه قيل: فما فعلت؟ فقال: أهللت
فيدل على أن الوجدان سبب الإهلال دون العكس لأن مقصود السائل
السؤال عن صحة إهلاله بهما فكيف يقول وجدتهما مكتوبين لأني
أهللت بهما فإنه إنما يصح على تقدير علمه بصحة إهلاله بهما،
وجواب عمر رضي الله تعالى عنه بمعزل عن وجوب الإتمام لأن كون
الشروع في الشيء موجبا لإتمامه، لا يقال فيه إنه طريقة النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم بل يقال في أداء المناسك والعبادات،
ويؤيد ذلك ما وقع في بعض الروايات- فأهللت- بالفاء الدالة على
الترتب، وما ذكر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه معارض بما
روي عنه من القول بالوجوب وبذلك
قال علي كرم الله تعالى وجهه وكان يقرأ: وأقيموا أيضا كما رواه
عنه ابن جرير وغيره،
وكذا ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم انتهى. والإنصاف
تسليم تعارض الأخبار، وقد أخذ كل من الأئمة بما صح عنده
والمسألة من الفروع، والاختلاف في أمثالها رحمة وإن الحق أن
الآية لا تصلح دليلا للشافعية ومن وافقهم كالإمامية علينا،
وليس فيها عند التحقيق أكثر من بيان وجوب إتمام أفعالهما عند
التصدي لأدائهما وإرشاد الناس إلى تدارك ما عسى يعتريهم من
العوارض المخلة بذلك من الإحصار ونحوه من غير تعرض لحالهما من
الوجوب وعدمه، ووجوب الحج مستفاد من قوله تعالى: وَلِلَّهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلًا [آل عمران: 97] ومن ادعى من المخالفين أنها دليل له
فقد ركب شططا وقال غلطا كما لا يخفى على من ألقى السمع وهو
شهيد،
وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي وجماعة عن علي كرم الله
تعالى وجهه إتمام الحج والعمرة لله أن تحرم بهما من دويرة
أهلك، ومثله عن أبي هريرة مرفوعا إلى رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم،
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله تعالى
عنهما من إتمامهما أن يفرد كل واحد منهما عن الآخر وأن يعتمر
في غير أشهر الحج وقيل: إتمامهما أن تكون النفقة حلالا، وقيل:
أن تحدث لكل منهما سفرا، وقيل: أن تخرج قاصدا لهما لا لتجارة
ونحوها، وقرىء «إلى البيت، وللبيت» والأول مروي عن ابن مسعود،
والثاني عن عليّ كرم الله تعالى وجهه فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ
مقابل لمحذوف أي هذا إن قدرتم على إتمامهما والإحصار والحصر
كلاهما في أصل اللغة بمعنى المنع مطلقا، وليس الحصر مختصا بما
يكون من العدو، والإحصار بما يكون من المرض، والخوف- كما توهم
الزجاج- من كثرة استعمالهما كذلك فإنه قد يشيع استعمال اللفظ
الموضوع للمعنى العام في بعض أفراده، والدليل على ذلك أنه
يقال: حصره العدو وأحصره كصده وأصده فلو كانت النسبة إلى العدو
معتبرة في مفهوم الحصر لكان التصريح بالإسناد إليه تكرارا ولو
كانت النسبة إلى المرض ونحوه معتبرة في مفهوم الإحصار لكان
إسناده إلى العدو مجازا وكلاهما خلاف الأصل، والمراد من
الإحصار
(1/476)
هنا حصر العدو عند مالك والشافعي رحمهما
الله تعالى لقوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فإن الأمن لغة
في مقابلة الخوف ولنزوله عام الحديبية ولقول ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما لا حصر إلا حصر العدو فقيد إطلاق الآية
وهو أعلم بمواقع التنزيل. وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن
المراد به ما يعم كل منع من عدو ومرض وغيرهما، فقد أخرج
أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة والحاكم من
حديث الحجاج بن عمرو «من كسر أو عرج فعليه الحج من قابل»
وروى الطحاوي من حديث عبد الرحمن بن زيد قال: «أهل رجل
بعمرة يقال له عمر بن سعيد فلسع فبينا هو صريع في الطريق
إذ طلع عليه ركب فيهم ابن مسعود فسألوه فقال: ابعثوا
بالهدي واجعلوا بينكم وبينه يوم أمارة فإذا كان ذلك فليحل»
وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء لا إحصار إلا من مرض أو عدو أو
أمر حابس، وروى البخاري مثله عنه، وقال عروة: كل شيء حبس
المحرم فهو إحصار، وما استدل به الخصم مجاب عنه، أما الأول
فستعلم ما فيه، وأما الثاني فإنه لا عبرة بخصوص السبب،
والحمل على أنه للتأييد يأبى عنه ذكره باللام استقلالا،
والقول بأن- أحصرتم- ليس عاما إذ الفعل المثبت لا عموم له
فلا يراد إلا ما ورد فيه وهو حبس العدو بالاتفاق ليس بشيء
لأنه وإن لم يكن عاما لكنه مطلق فيجري على إطلاقه، وأما
الثالث فلأنه بعد تسليم حجية قول ابن عباس رضي الله تعالى
عنه في أمثال ذلك معارض بما أخرجه ابن جرير وابن المنذر
عنه في تفسير الآية أنه كان يقول: «من أحرم بحج أو عمرة ثم
حبس عن البيت بمرض يجهده أو عدو يحبسه فعليه ذبح ما استيسر
من الهدي» فكما خصص في الرواية الأولى عمم في هذه وهو أعلم
بمواقع التنزيل والقول- بأن حديث الحجاج ضعيف- ضعيف إذ له
طرق مختلفة في السنن وقد روى أبو داود أن عكرمة سأل العباس
وأبا هريرة رضي الله تعالى عنهما عن ذلك فقالا: صدق، وحمله
على ما إذا اشترط المحرم الإحلال عند عروض المانع من المرض
له وقت النية
لقوله صلّى الله عليه وسلّم لضباعة: «حجي واشترطي وقولي
اللهم محلي حيث حبستني»
لا يتمشى على ما تقرر في أصول الحنفية من أن المطلق يجري
على إطلاقه إلا إذا اتحد الحادثة والحكم وكان الإطلاق
والتقييد في الحكم إذ ما نحن فيه ليس كذلك كما لا يخفى.
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي فعليكم أو فالواجب أو
فاهدوا ما استيسر أي تيسر فهو كصعب واستصعب، وليست السين
للطلب، والْهَدْيِ مصدر بمعنى المفعول أي المهدي ولذلك
يطلق على المفرد والجمع أو جمع هدية- كجدي وجدية- وقرىء
هدي بالتشديد جمع هدية- كمطي ومطية- وهي في موضع الحال من
الضمير المستكن، والمعنى أن المحرم إذا أحصر وأراد أن
يتحلل تحلل بذبح هدي تيسر عليه من بدنة أو بقرة أو شاة،
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: وما عظم فهو أفضل، وعن
ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه خص الهدي ببقرة أو جزور
فقيل له: أو ما يكفيه شاة؟ فقال: لا ويذبحه حيث أحصر عند
الأكثر لأنه صلّى الله عليه وسلّم ذبح عام الحديبية بها
وهي من الحل، وعندنا يبعث من أحصر به ويجعل للمبعوث بيده
يوم أمارة فإذا جاء اليوم وغلب على ظنه أنه ذبح تحلل لقوله
تعالى:
وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ فإن حلق الرأس كناية عن الحل الذي يحصل بالتقصير
بالنسبة للنساء، والخطاب للمحصرين لأنه أقرب مذكور، والهدي
الثاني عين الأول كما هو الظاهر أي لا تحلوا حتى تعلموا أن
الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ مكانه الذي يجب أن ينحر فيه
وهو الحرم لقوله تعالى: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ [الحج: 33] هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ
[المائدة: 95] وما روي من ذبحه صلى الله تعالى عليه وسلم
في الحديبية مسلم لكن كونه ذبح في الحل غير مسلم، والحنفية
يقولون: إن محصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان في
طريق الحديبية أسفل مكة، والحديبية متصلة بالحرم، والذبح
وقع في الطرف المتصل الذي نزله رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم وبه يجمع بين ما قاله مالك وبين ما
روى الزهري أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نحر في
الحرم
وكون الرواية عنه ليس
(1/477)
بثبت في حيز المنع، وحمل الأولون بلوغ
الهدي محله على ذبحه حيث يحل ذبحه فيه حلا كان أو حرما وهو
خلاف الظاهر إلا أنه لا يحتاج إلى تقدير العلم كما في
السابق، واستدل باقتصاره على الهدي في مقام البيان على عدم
وجوب القضاء، وعندنا يجب القضاء لقضاء رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم وأصحابه عمرة الحديبية التي أحصروا فيها
وكانت تسمى عمرة القضاء، والمقام مقام بيان طريق خروج
المحصر عن الإحرام لا مقام بيان كل ما يجب عليه ولم يعلم
من الآية حكم غير المحصر عبارة كما علم حكم المحصر من عدم
جواز الحل له قبل بلوغ الهدي، ويستفاد ذلك بدلالة النص
وجعل الخطاب عاما للمحصر وغيره بناء على عطف وَلا
تَحْلِقُوا على قوله سبحانه: وَأَتِمُّوا لا على فَمَا
اسْتَيْسَرَ يقتضي بتر النظم لأن فَإِذا أَمِنْتُمْ عطف
على فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ كما لا يخفى. والمحل- بالكسر من
حد ضرب يطلق للمكان كما هو الظاهر في الآية، وللزمان- كما
يقال- محل الدين لوقت حلوله وانقضاء أجله.
فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً يحتاج للحلق وهو مخصص لقوله
سبحانه وَلا تَحْلِقُوا متفرع عليه.
أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ من جراحة وقمل وصداع.
فَفِدْيَةٌ أي فعليه فدية إن حاق.
مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ بيان لجنس الفدية.
وأما قدرها
فقد أخرج في المصابيح عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم «مر به وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو
محرم وهو يوقد تحت قدر والقمل يتهافت على وجهه فقال:
أيؤذيك هوامك؟ قال: نعم: قال: فاحلق رأسك وأطعم فرقا بين
ستة مساكين- والفرق ثلاثة آصع- أو صم ثلاثة أيام أو انسك
نسيكة»
وفي رواية البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة والترمذي «أن
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال له: ما كنت أرى أن
الجهد بلغ بك هذا أما تجد شاة؟ فقال: لا قال: صم ثلاثة
أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق
رأسك»
وقد بين في هذه الرواية ما يطعم لكل مسكين ولم يبين محل
الفدية، والظاهر العموم في المواضع كلها كما قاله ابن
الفرس، وهو مذهب الإمام مالك فَإِذا أَمِنْتُمْ من الأمن
ضد الخوف، أو الأمنة زواله فعلى الأول معناه فإذا كنتم في
أمن وسعة ولم تكونوا خائفين، وعلى الثاني فإذا زال عنكم
خوف الإحصار، ويفهم منه حكم من كان آمنا ابتداء بطريق
الدلالة- والفاء- للعطف على أُحْصِرْتُمْ مفيدة للتعقيب
سواء أريد حصر العدو أو كل منع في الوجود، ويقال للمريض
إذا زال مرضه وبرئ: آمن كما روي ذلك عن ابن مسعود وابن
عباس رضي الله تعالى عنهم من طريق إبراهيم فيضعف استدلال
الشافعي ومالك بالآية على ما ذهبا إليه.
فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ الفاء
واقعة في جواب- إذا والباء وإلى- صلة التمتع، والمعنى فمن
استمتع وانتفع بالتقرب إلى الله تعالى بالعمرة إلى وقت
الحج أي قبل الانتفاع بالحج في أشهره، وقيل: الباء سببية
ومتعلق التمتع محذوف أي بشيء من محظورات الإحرام ولم يعينه
لعدم تعلق الغرض بتعيينه، والمعنى ومن استمتع بسبب أوان
العمرة والتحلل منها باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم
بالحج، وفيه صرف التمتع عن المعنى الشرعي إلى المعنى
اللغوي، والثاني هو الانتفاع مطلقا، والأول هو أن يحرم
بالعمرة في أشهر الحج ويأتي بمناسكها ثم يحرم بالحج من جوف
مكة ويأتي بأعماله ويقابله القرآن وهو أن يحرم بهما معا
ويأتي بمناسك الحج فيدخل فيها مناسك العمرة، والإفراد وهو
أن يحرم بالحج وبعد الفراغ منه بالعمرة فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ الفاء واقعة في جواب مِنَ أي فعليه دم
استيسر عليه بسبب التمتع فهو دم جبران لأن الواجب عليه أن
يحرم للحج من الميقات فلما أحرم لا من الميقات أورث ذلك
خللا فيه فجبر بهذا الدم، ومن ثم لا يجب على المكي ومن في
حكمه، ويذبحه إذا أحرم
(1/478)
بالحج، ولا يجوز قبل الإحرام ولا يتعين له
يوم النحر بل يستحب ولا يأكل منه، وهذا مذهب الشافعي وذهب
الإمام أبو حنيفة إلى أنه دم نسك كدم القارن لأنه وجب عليه
شكرا للجمع بين النسكين فهو كالأضحية ويذبح يوم النحر
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي الهدي وهو عطف على فَإِذا
أَمِنْتُمْ.
فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أي فعليه صيام
وقرىء فصيام بالنصب أي فليصم، وظرف الصوم محذوف إذ يمتنع
أن يكون شيء من أعمال الحج ظرفا له، فقال أبو حنيفة:
المراد في وقت الحج مطلقا لكن بين الإحرامين إحرام الحج
وإحرام العمرة وهو كناية عن عدم التحلل عنهما فيشمل ما إذا
وقع قبل إحرام الحج سواء تحلل من العمرة أولا، وما وقع
بعده بدليل أنه إذا قدر على الهدي بعد صوم الثلاثة قبل
التحلل وجب عليه الذبح ولو قدر عليه بعد التحلل لا يجب
عليه لحصول المقصد بالصوم وهو التحلل، وقال الشافعي:
المراد وقت أداء الحج وهو أيام الاشتغال به بعد الإحرام
وقبل التحلل، ولا يجوز الصوم عنده قبل إحرام الحج، والأحب
أن يصوم سابع ذي الحجة وثامنه وتاسعه لأنه غاية ما يمكن في
التأخير لاحتمال القدرة على الأصل وهو الهدي، ولا يجوز يوم
النحر وأيام التشريق لكون الصوم منهيا فيها، وجوز بعضهم
صوم الثلاثة الأخيرة احتجاجا بما
أخرجه ابن جرير والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر قال: رخص
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي
ولم يصم حتى فاته أيام العشر أن يصوم أيام التشريق مكانها،
وأخرج مالك عن الزهري قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم عبد الله بن حذافة فنادى في أيام التشريق فقال: إن
هذه أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى إلا من كان عليه صوم من
هدي» وأخرج الدارقطني مثله من طريق سعيد بن المسيب،
وأخرج البخاري وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
لم يرخص صلى الله تعالى عليه وسلم في أيام التشريق أن يصمن
إلا لمتمتع لم يجد هديا،
وبذلك أخذ الإمام مالك ولعل ساداتنا الحنفية عولوا على
أحاديث النهي وقالوا: إذا فاته الصوم حتى أتى يوم النحر لم
يجزه إلا الدم ولا يقضيه بعد أيام التشريق كما ذهب إليه
الشافعية لأنه بدل والأبدال لا تنصب إلا شرعا والنص خصه
بوقت الحج وجواز الدم على الأصل وعن عمر رضي الله تعالى
عنه أنه أمر في مثله بذبح الشاة..
وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ أي فرغتم ونفرتم من أعماله،
فذكر الرجوع وأريد سببه، أو المعنى إذا رجعتم من مني، وقال
الشافعي رضي الله تعالى عنه- على ما هو الأصح عند معظم
أصحابه: إذا رجعتم إلى أهليكم، ويؤيده ما أخرجه البخاري عن
ابن عباس رضي الله تعالى عنه «إذا رجعتم إلى أمصاركم» وأن
لفظ الرجوع أظهر في هذا المعنى، وحكم ناوي الإقامة بمكة
توطنا حكم الراجع إلى وطنه لأن الشرع أقام موضع الإقامة
مقام الوطن، وفي البحر المراد بالرجوع إلى الأهل الشروع
فيه- عند بعض- والفراغ بالوصول إليهم- عند آخرين- وفي
الكلام التفات، وحمل على معنى بعد الحمل (1) على لفظه في
إفراده وغيبته وقرىء «سبعة» بالنصب عطفا على محل ثَلاثَةِ
أَيَّامٍ لأنه مفعول اتساعا، ومن لم يجوزه قدر- وصوموا-
وعليه أبو حيان.
تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ الإشارة إلى- الثلاثة، والسبعة-
ومميز العدد محذوف أي «أيام» وإثبات- التاء- في العدد مع
حذف المميز أحسن الاستعمالين، وفائدة الفذلكة أن لا يتوهم
أن- الواو- بمعنى أو التخييرية، وقد نص السيرافي في شرح
الكتاب على مجيئها لذلك، وليس تقدم الأمر الصريح شرطا فيه
بل الخبر الذي هو بمعنى الأمر
__________
(1) قوله: (وحمل على معنى بعد الحمل) كذا بخط المؤلف ولعله
سقط (من) قلمه لفظ من سهوا أي وحمل على معنى من بعد الحمل
إلخ اهـ مصححه.
(1/479)
كذلك، وأن يندفع التوهم البعيد الذي أشرنا
إليه في مقدمة إعجاز القرآن، وأن يعلم العدد جملة- كما علم
تفصيلا- فيحاط به من وجهين فيتأكد العلم، ومن أمثالهم-
علمان خير من علم- لا سيما وأكثر العرب لا يحسن الحساب،
فاللائق بالخطاب العامي الذي يفهم به الخاص والعام الذين
هم من أهل الطبع، لا أهل الارتياض بالعلم أن يكون بتكرار
الكلام وزيادة الافهام والإيذان بأن المراد- بالسبعة-
العدد دون الكثرة فإنها تستعمل بهذين المعنيين، فإن قلت:
ما الحكمة في كونها كذلك حتى يحتاج إلى تفريقها المستدعي
لما ذكر؟ أجيب بأنها لما كانت بدلا عن الْهَدْيِ والبدل
يكون في محل المبدل منه غالبا جعل الثلاثة بدلا عنه في زمن
الحج وزيد عليها السبعة علاوة لتعادله من غير نقص في
الثواب لأن الفدية مبنية على التيسير، ولم يجعل- السبعة-
فيه لمشقة الصوم في الحج، وللإشارة إلى هذا التعادل وصفت-
العشرة- بأنها كامِلَةٌ فكأنه قيل: تِلْكَ عَشَرَةٌ
كامِلَةٌ في وقوعها بدلا من الْهَدْيِ وقيل:
إنها صفة مؤكدة تفيد زيادة التوصية بصيامها وأن لا يتهاون
بها ولا ينقص من عددها كأنه قيل تلك عشرة كاملة فراعوا
كمالها ولا تنقصوها، وقيل: إنها صفة مبينة كمال العشرة
فإنها عدد كمل فيه خواص الأعداد، فإن الواحدة مبتدأ العدد،
والاثنين أول العدد، والثلاثة أول عدد فرد، والأربعة أول
عدد مجذور، والخمسة أول عدد دائر، والستة أول عدد تام،
والسبعة عدد أول، والثمانية أول عدد زوج الزوج، والتسعة
أول عدد مثلث، والعشرة نفسها ينتهي إليها العدد فإن كل عدد
بعدها مركب منها ومما قبلها قاله بعض المحققين.
وذكر الإمام لهذه الفذلكة مع الوصف عشرة أوجه- لكنها عشرة
غير كاملة- ولولا مزيد التطويل لذكرتها بما لها وعليها
ذلِكَ إشارة إلى التمتع المفهوم من قوله سبحانه: فَمَنْ
تَمَتَّعَ عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إذ لا متعة
ولا قران لحاضري المسجد لأن شرعهما للترفه بإسقاط أحد
السفرتين وهذا في حق الآفاقي لا في حق أهل مكة ومن في
حكمهم، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: إنها إشارة إلى
الأقرب وهو الحكم المذكور أعني لزوم الهدي أو بدله على
المتمتع وإنما يلزم ذلك إذا كان المتمتع آفاقيا لأن الواجب
أن يحرم عن الحج من الميقات فلما أحرم من الميقات عن
العمرة ثم أحرم عن الحج لا من الميقات فقد حصل هناك الخلل
فجعل مجبورا بالدم، والمكي لا يجب إحرامه من الميقات
فإقدامه على التمتع لا يوقع خللا في حجه فلا يجب عليه
الهدي ولا بدله، ويرده أنه لو كانت الإشارة للهدي والصوم
لأتى- بعلى- دون اللام في قوله سبحانه:
لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ لأن الهدي وبدله واجب على المتمتع والواجب
يستعمل بعلى- لا باللام، وكون اللام واقعة موقع على كما
قيل به في «اشترطي لهم الولاء» خلاف الظاهر، والمراد
بالموصول من كان من الحرم على مسافة القصر عند الشافعي رضي
الله تعالى عنه، ومن كان مسكنه وراء الميقات عند أبي حنيفة
رضي الله تعالى عنه، وأهل الحل عند طاوس، وغير أهل مكة عند
مالك رضي الله تعالى عنه، والحاضر على الوجه الأول ضد
المسافر، وعلى الوجوه الأخر بمعنى الشاهد الغير الغائب،
والمراد من حضور الأهل حضور المحرم، وعبر به لأن الغالب
على الرجل كما قيل: أن يسكن حيث أهله ساكنون، وللمسجد
الحرام إطلاقان، أحدهما نفس المسجد، والثاني الحرم كله،
ومنه قوله سبحانه: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ
لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الإسراء: 1] بناء على
أنه صلى الله تعالى عليه وسلم إنما أسري به من الحرم لا من
المسجد، وعلى إرادة المعنى الأخير في الآية هنا أكثر أئمة
الدين وَاتَّقُوا اللَّهَ في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه
كما يستفاد من ترك المفعول ويدخل فيه الحج دخولا أوليا وبه
يتم الانتظام وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
لمن لم يتقه أي استحضروا ذلك لتمتنعوا عن العصيان، وإظهار
الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وإدخال
الروعة وإضافة شديد من إضافة الصفة
(1/480)
المشبهة إلى مرفوعها الْحَجُّ أَشْهُرٌ أي
وقته ذلك وبه يصح الحمل، وقيل: ذو أشهر أو حج أشهر، وقيل:
لا تقدير، ويجعل الحج الذي هو فعل من الأفعال عين الزمان
مبالغة، ولا يخفى أن المقصد بيان وقت الحج كما يدل عليه ما
بعد فالتنصيص عليه أولى، ومعنى قوله سبحانه وتعالى:
مَعْلُوماتٌ معروفات عند الناس وهي شوال وذو القعدة.
وعشر من ذي الحجة عندنا، وهو المروي عن ابن عباس وابن
مسعود وابن الزبير وابن عمر والحسن رضي الله تعالى عنهم،
وأيد بأن يوم النحر وقت لركن من أركان الحج- وهو طواف
الزيارة- وبأنه فسر يوم الحج الأكبر بيوم النحر، وعند مالك
الشهران الأولان وذو الحجة كله عملا بظاهر لفظ الأشهر،
ولأنّ أيام النحر يفعل فيها بعض أعمال الحج من طواف
الزيارة، والحلق، ورمي الجمار، والمرأة إذا حاضت تؤخر
الطواف الذي لا بد منه إلى انقضاء أيامه بعد العشرة، ولأنه
يجوز- كما قيل- تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر، على ما
روي عن عروة بن الزبير- ولأن ظواهر الأخبار ناطقة بذلك،
فقد أخرج الطبراني والخطيب وغيرهما بطرق مختلفة أن رسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم عد «الثلاثة أشهر الحج»
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عمر رضي الله تعالى
عنه مثل ذلك. وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه الشهران
الأولان وتسع ذي الحجة بليلة النحر لأن الحج يفوت بطلوع
الفجر من يوم النحر، والعبادة لا تكون فائتة مع بقاء
وقتها، قاله الرازي، وفيه أن فوته بفوت ركنه الأعظم- وهو
الوقوف- لا بفوت وقته مطلقا، ومدار الخلاف أنّ المراد
بوقته وقت مناسكه وأعماله من غير كراهة وما لا يحسن فيه
غيره من المناسك مطلقا- أو وقت إحرامه- والشافعي رضي الله
تعالى عنه- على الأخير- والإحرام لا يصح بعد طلوع فجر يوم
النحر لعدم إمكان الأداء، وإن جاز أداء بعض أعمال الحج في
أيام النحر، ومالك على الثاني فإنه- على ما قيل- كره
الاعتمار في بقية ذي الحجة، لما روي أنّ عمر رضي الله
تعالى عنه كان يخوّف الناس بالدرّة وينهاهم عن ذلك فيهن،
وإنّ ابنه رضي الله تعالى عنه قال لرجل: إن أطعتني انتظرت
حتى إذا هلّ المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة.
والإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه على الأول لكون
العاشر وقتا لأداء الرمي، والحلق وغيرهما، وغيرها من بقية
أيام النحر- وإن كان وقتا لذلك أيضا- إلا أنه خصص بالعشر
اقتضاء لما روي في الآثار من ذكر العشر، ولعل وجهه أنّ
المراد الوقت الذي يتمكن فيه المكلف من الفراغ عن مناسكه
بحيث يحل له كل شيء وهو اليوم العاشر وما سواه من بقية
أيام النحر، فللتيسير في أداء الطواف، ولتكميل الرمي، و
«الأشهر» مستعمل في حقيقته إلا أنه تجوز في بعض أفراده،
فإن أقل الجمع ثلاثة أفراد عند الجمهور فجعل بعض من فرد
فردا ثم جمع، وقيل: إنه مجاز فيما فوق الواحد بعلاقة
الاجتماع، وليس من الجمع حقيقة بناء على المذهب المرجوح
فيه لأنه إنما يصح إطلاقه على اثنين فقط، أو ثلاثة- لا على
اثنين- وبعض ثالث، والقول- بأن المراد به اثنان والثالث في
حكم العدم- وقيل: المراد ثلاثة، ولا تجوز في بعض الأفراد
لأن أسماء الظروف تطلق على بعضها حقيقة لأنها على معنى-
في- فيقال: رأيته في سنة كذا. أو شهر كذا أو يوم كذا. وأنت
قد رأيته في ساعة من ذلك- ولعله قريب إلى الحق- وصيغة جمع
المذكر في غير العقلاء تجيء- بالألف والتاء فَمَنْ فَرَضَ
أي ألزم نفسه فِيهِنَّ الْحَجَّ بالإحرام، ويصير محرما-
بمجرد النية- عند الشافعي لكون الإحرام التزام الكف عن
المحظورات فيصير شارعا فيه بمجردها كالصوم، وعندنا- لا- بل
لا بد من مقارنة التلبية لأنه عقد على الأداء فلا بد من
ذكر كما في تحريمه الصلاة، ولما كان باب الحج أوسع من باب
الصلاة كفى ذكر يقصد به التعظيم سوى التلبية- فارسيا كان
أو عربيا- وفعل كذلك من سوق الْهَدْيِ أو تقليده، واستدل
بالآية على أنه لا يجوز الإحرام بالحج إلا في تلك الأشهر،
كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه وعطاء وغيرهما. إذ
لو جاز في غيرها- كما ذهب إليه الحنفية- لما كان لقوله
سبحانه: فِيهِنَّ فائدة، وأجيب بأن فائدة
(1/481)
ذكر فِيهِنَّ كونها وقتا لأعماله من غير
كراهية فلا يستفاد منه عدم جواز الإحرام قبله، فلو قدّم
الإحرام انعقد حجا مع الكراهة، وعند الشافعي رضي الله
تعالى عنه يصير محرما بالعمرة، ومدار الخلاف أنه ركن عنده-
وشرط عندنا- فأشبه الطهارة في جواز التقديم على الوقت،
والكراهة جاءت للشبهة،
فعن جابر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «لا ينبغي
لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج»
فَلا رَفَثَ أي لا جماع، أو لا فحش من الكلام وَلا فُسُوقَ
ولا خروج عن حدود الشرع بارتكاب المحظورات، وقيل: بالسباب
والتنابز بالألقاب وَلا جِدالَ ولا خصام مع الخدم والرفقة.
فِي الْحَجِّ أي في أيامه، والإظهار في مقام الإضمار
لإظهار كمال الاعتناء بشأنه والإشعار بعلة الحكم فإن زيارة
البيت المعظم والتقرّب بها إلى الله تعالى من موجبات ترك
الأمور المذكورة المدنسة لمن قصد السير والسلوك إلى ملك
الملوك، وإيثار النفي للمبالغة في النهي والدلالة على أنها
حقيقة بأن لا تكون، فإن ما كان منكرا مستقبحا في نفسه
منهيا عنه مطلقا فهو للمحرم بأشرف العبادات وأشقها أنكر
وأقبح كلبس الحرير في الصلاة وتحسين الصوت بحيث تخرج
الحروف عن هيئاتها في القرآن، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو
الأولين بالرفع حملا لهما على معنى النهي أي لا يكونن
رَفَثَ وَلا فُسُوقَ والثالث- بالفتح- على معنى الإخبار
بانتفاء الخلاف في الحج، وذلك أن قريشا كانت تقف بالمشعر
الحرام وسائر العرب يقفون بعرفة، وبعد ما أمر الكل بالوقوف
في عرفة ارتفع الخلاف فأخبر به، وقرىء بالرفع فِيهِنَّ
ووجهه لا يخفى.
وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ بتأويل
الأمر معطوف على فَلا رَفَثَ أي لا ترفثوا وافعلوا
الخيرات- وفيه التفات- وحث على- الخير- عقيب النهي عن الشر
ليستبدل به، ولهذا خص متعلق العلم مع أنه تعالى عالم بجميع
ما يفعلونه من خير أو شر، والمراد من- العلم- إما ظاهره
فيقدر بعد الفعل فيثيب عليه، وإما المجازاة مجازا
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى أخرج
البخاري وأبو داود والنسائي وابن المنذر وابن حبان
والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان أهل
اليمن يحجون ولا يتزوّدون ويقولون: نحن متوكلون، وثم
يقدمون فيسألون الناس فنزلت- فالتزوّد- بمعناه الحقيقي-
وهو اتخاذ الطعام للسفر- والتَّقْوى بالمعنى اللغوي- وهو
الاتقاء من السؤال- وقيل: معنى الآية اتخذوا التَّقْوى
زادكم لمعادكم فإنها خير زاد، فمفعول تَزَوَّدُوا محذوف
بقرينة خبر إن- وهو التقوى بالمعنى الشرعي- وكان مقتضى
الظاهر أن يحمل خَيْرَ الزَّادِ على التَّقْوى فإن المسند
إليه والمسند إذا كانا معرفتين يجعل ما هو مطلوب الإثبات
مسندا، والمطلوب هنا إثبات خَيْرَ الزَّادِ للتقوى لكونه
دليلا على تزوّدها إلا أنه أخرج الكلام على خلاف مقتضى
الظاهر للمبالغة لأنه حينئذ يكون المعنى إن الشيء الذي
بلغكم أنه خَيْرَ الزَّادِ وأنتم تطلبون نعته هو التَّقْوى
فيفيد اتحاد خَيْرَ الزَّادِ بها وَاتَّقُونِ يا أُولِي
الْأَلْبابِ أي أخلصوا لي التقوى فإن مقتضى العقل الخالص
عن الشوائب ذلك وليس فيه- على هذا- شائبة تكرار مع سابقه
لأنه حث على الإخلاص بعد الحث على التقوى.
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي حرج في أَنْ تَبْتَغُوا أي
تطلبوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي رزقا منه تعالى بالربح
بالتجارة في مواسم الحج،
أخرج البخاري وغيره- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه- قال:
كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن
يتجروا في الموسم فسألوا رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم عن ذلك فنزلت،
واستدل بها على إباحة التجارة والإجارة وسائر أنواع
المكاسب في الحج وإن ذلك لا يحبط أجرا ولا ينقص ثوابا،
ووجه الارتباط أنه تعالى لما نهى عن الجدال في الحج كان
مظنة للنهي عن التجارة فيه أيضا لكونها مفضية في
(1/482)
الأغلب إلى النزاع في قلة القيمة وكثرتها
فعقب ذلك بذكر حكمها، وذهب أبو مسلم إلى المنع عنها في
الحج، وحمل الآية على ما بعد الحج، وقال: المراد واتقون في
كل أفعال الحج ثم بعد ذلك ليس عليكم جناح إلخ كقوله تعالى:
فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ
وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: 10] وزيف بأن
حمل الآية على محل الشبهة أولى من حملها على ما لا شبهة
فيه ومحل الاشتباه هو التجارة زمان الحج. وأما بعد الفراغ
فنفي الجناح معلوم وقياس الحج على الصلاة فاسد فإن الصلاة
أعمالها متصلة فلا يحل في أثنائها التشاغل بغيرها، وأعمال
الحج متفرقة تحتمل التجارة في أثنائها، وأيضا الآثار لا
تساعد ما قاله فقد سمعت ما أخرجه البخاري،
وقد أخرج أحمد وغيره عن أبي أمامة التيمي قال سألت ابن عمر
فقلت: إنا قوم نكري في هذا الوجه وإن قوما يزعمون أنه لا
حج لنا قال: ألستم تلبون ألستم تطوفون بين الصفا والمروة
ألستم ألستم؟؟ قلت: بلى قال: إن رجلا سأل النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم عما سألت عنه فلم يدر ما يرد عليه حتى
نزلت لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ الآية فدعاه فتلا عليه حين
نزلت وقال:
«أنتم الحجاج»
وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقرأ فيما أخرجه
البخاري وعبد بن حميد وابن جرير وغيرهم عنه لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ
في مواسم الحج، وكذلك روي عن ابن مسعود، وأيضا- الفاء- في
قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ ظاهرة في أن
هذه الإفاضة حصلت عقيب ابتغاء الفضل وذلك مؤذن بأن المراد
وقوع التجارة في زمان الحج، نعم قال بعضهم: إذا كان الداعي
للخروج إلى الحج هو التجارة أو كانت جزء العلة أضر ذلك
بالحج لأنه ينافي الإخلاص لله تعالى به- وليس بالبعيد-
وأَفَضْتُمْ من الإفاضة من فاض الماء إذا سال منصبا،
وأفضته أسلته والهمزة فيه للتعدية، ومفعوله مما التزم حذفه
للعلم به، وأصله أفيضتم فنقلت حركة- الياء- إلى- الفاء-
قبلها فتحركت- الياء- في الأصل وانفتح ما قبلها الآن فقلبت
الفا ثم حذفت، والمعنى هنا فإذا دفعتم أنفسكم بكثرة من
عرفات ومِنْ لابتداء الغاية وعَرَفاتٍ موضع بمنى وهي اسم
في لفظ الجمع فلا تجمع قال الفراء: ولا واحد له بصحة، وقول
الناس: نزلنا عرفة شبيه بمولد- وليس بعربي محض- واعترض
عليه
بخبر «الحج عرفة»
وأجيب بأن عرفة فيه اسم لليوم التاسع من ذي الحجة كما صرح
به الراغب والبغوي والكرماني، والذي أنكره استعماله في
المكان، فالاعتراض ناشىء من عدم فهم المراد ومن هنا قيل:
إنه جمع عرفة وعليه صاحب شمس العلوم، والتعدد حينئذ
باعتبار تسمية كل جزء من ذلك المكان عرفة كقولهم: جب
مذاكيره فلا يرد ما قاله العلامة: من أنه لو سلم كون عرفة
عربيا محصنا فعرفة وعرفات مدلولهما واحد، وليس ثمة أماكن
متعددة كل منها عرفة لتجمع على عرفات، وإنما نون وكسر مع
أن فيه العلمية والتأنيث لأن تنوين جمع المؤنث في مقابلة
نون جمع المذكر فإن النون في جمع المذكر قائم مقام التنوين
الذي في الواحد في المعنى الجامع لأقسام التنوين وهو كونه
علامة تمام الاسم فقط، وليس في النون شيء من معاني الأقسام
للتنوين فكذا التنوين في جمع المؤنث علامة لتمام الاسم
فقط، وليس فيها أيضا شيء من تلك المعاني سوى المقابلة وليس
الممنوع من غير المنصرف هذا التنوين بل تنوين التمكين لأنه
الدال على عدم مشابهة الاسم بالفعل وأن ذهاب الكسرة على
المذهب المرضي تبع لذهاب التنوين من غير عوض لعدم الصرف،
وهنا ليس كذلك- قاله الجمهور- وقال الزمخشري: إنما نون
وكسر لأنه منصرف لعدم الفرعيتين المعتبرتين إذ التأنيث
المعتبر مع العلمية في منع الصرف إما أن يكون بالتاء
المذكورة وهي ليست تاء تأنيث بل علامة الجمع، وإما أن يكون
بتاء مقدرة كما في زينب، واختصاص هذه التاء بجمع المؤنث
يأبى تقدير تاء لكونه بمنزلة الجمع بين علامتي تأنيث فهذه
التاء كتاء بنت ليست للتأنيث بل عوض عن الواو المحذوفة،
واختصت بالمؤنث فمنعت تقدير التاء فعلى هذا لو سمي
بمسلمات، وبنت مؤنث كان منصرفا، وقول ابن الحاجب: إن هذا
يقتضي أنه إذا سمي بذلك منع صرفه ليس بشيء إذ الاقتضاء غير
مسلم، وكذا ما قاله عصام الدين من أن التأنيث لمنع الصرف
لا يستدعي قوة ألا
(1/483)
يرى أن طلحة يعتبر تأنيثه لمنع الصرف ولا
يعتبر لتأنيث ضمير يرجع إليه لأن بناء الاستدلال ليس على
اعتبار القوة والضعف بل على عدم تحقق التأنيث، نعم يرد ما
أورده الرضي من أنه لو لم يكن فيه تأنيث لما التزم تأنيث
الضمير الراجع إليه، ويجاب بأن اختصاص هذا الوزن بالمؤنث
يكفي لإرجاع الضمير ولا يلزم فيه وجود التاء لفظا أو
تقديرا
وإنما سمي هذا المكان المخصوص بلفظ ينبىء عن المعرفة لأنه
نعت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام فعرفه، وروي ذلك عن علي
كرم الله تعالى وجهه
وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو لأن جبريل كان يدور به
في المشاعر فلما رآه قال: قد عرفت، وروي عن عطاء أو لأن
آدم وحواء اجتمعا فيه فتعارفا، وروي عن الضحاك والسدي أو
لأن جبريل عليه السلام قال لآدم فيه: اعترف بذنبك واعرف
مناسكك قاله بعضهم، وقيل: سمي بذلك لعلوه وارتفاعه، ومنه
عرف الديك، واختير الجمع للتسمية مبالغة فيما ذكر من
وجوهها كأنه عرفات متعددة وهي من الأسماء المرتجلة قطعا
عند المحققين، وعرفة يحتمل أن تكون منها وأن تكون منقولة
من جمع عارف ولا جزم بالنقل إذ لا دليل على جعلها جمع عارف
والأصل عدم النقل فَاذْكُرُوا اللَّهَ بالتلبية والتهليل
والدعاء، وقيل: بصلاة العشاءين لأن ظاهر الأمر للوجوب ولا
ذكر واجب عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ إلا الصلاة،
والمشهور أن المشعر مزدلفة كلها، فقد أخرج وكيع وسفيان
وابن جرير والبيهقي وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى
عنهما أنه سئل عن المشعر الحرام فسكت حتى إذا هبطت أيدي
الرواحل بالمزدلفة قال: هذا الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وأيد
بأن الفاء تدل على أن الذكر عِنْدَ الْمَشْعَرِ يحصل عقيب
الإفاضة من عرفات وما ذاك إلا بالبيتوتة بالمزدلفة، وذهب
كثير إلى أنه جبل يقف عليه الإمام في المزدلفة ويسمى قزح.
وخص الله تعالى الذكر عنده مع أنه مأمور به في جميع
«المزدلفة» لأنها كلها موقف إلا وادي محسر كما دلت عليه
الآثار الصحيحة لمزيد فضله وشرفه وعن سعيد بن جبير- ما بين
جبلي مزدلفة فهو الْمَشْعَرِ الْحَرامِ ومثله عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما، وإنما سمي- مشعرا- لأنه معلم
العبادة، ووصف- بالحرام- لحرمته، والظرف متعلق باذكروا أو
بمحذوف حال من فاعله وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ أي كما
علمكم المناسك والتشبيه لبيان الحال وإفادة التقييد أي
اذكروه على ذلك النحو ولا تعدلوا عنه، ويحتمل أن يراد مطلق
الهداية ومفاد التشبيه التسوية في الحسن والكمال أي
اذْكُرُوهُ ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة إلى المناسك
وغيرها.
وما- على المعنيين تحتمل أن تكون مصدرية فمحل كَما
هَداكُمْ النصب على المصدرية بحذف الموصوف أي ذكرا مماثلا
لهدايتكم، وتحتمل أن تكون كافة فلا محل لها من الإعراب،
والمقصود من الكاف مجرد تشبيه مضمون الجملة بالجملة، ولذا
لا تطلب عاملا تفضي بمعناه إلى مدخولها. وذهب بعضهم إلى
أن- الكاف- للتعليل. وأنها متعلقة بما عندها وما- مصدرية
لا غير أي اذْكُرُوهُ وعظموه لأجل هدايته السابقة منه
تعالى لكم وَإِنْ كُنْتُمْ أي وإنكم كُنْتُمْ فخففت أَنْ
وحذف الاسم وأهملت عن العمل ولزم اللام فيما بعدها، وقيل:
إن أَنْ نافية، واللام بمعنى إلا مِنْ قَبْلِهِ أي- الهدي-
والجار متعلق بمحذوف يدل عليه لَمِنَ الضَّالِّينَ ولم
يعلقوه به لأن ما بعد- ال- الموصولة لا يعمل فيما قبلها
وفيه تأمل، والمراد من الضلال الجهل بالإيمان ومراسم
الطاعات، والجملة تذييل لما قبلها كأنه قيل: اذْكُرُوهُ
الآن إذ لا يعتبر ذكركم السابق المخالف لما هَداكُمْ لأنه
من الضلالة، وحمله على الحال توهم بعيد عن المرام ثُمَّ
أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أي من عرفة لا من-
المزدلفة- والخطاب عام، والمقصود إبطال ما كان عليه الحمس
من الوقوف بجمع، فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله
تعالى عنها قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة
وكانوا يسمون الحمس وكانت سائر العرب يقفون بعرفات فلما
جاء الإسلام أمر الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم
أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم
(1/484)
يفيض منها فذلك قوله سبحانه: ثُمَّ
أَفِيضُوا الآية ومعناها ثُمَّ أَفِيضُوا أيها الحجاج من
مكان أفاض جنس الناس منه قديما وحديثا، وهو عرفة لا من
مزدلفة، وجعل الضمير عبارة عن الحمس يلزم منه بتر النظم إذ
الضمائر السابقة واللاحقة كلها عامة والجملة معطوفة على
قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ ولما كان المقصود من هذه
التعريض كانت في قوة ثم لا تفيضوا من المزدلفة وأتى- بثم-
إيذانا بالتفاوت بين الإفاضتين في الرتبة بأن إحداهما
صواب، والأخرى خطأ، ولا يقدح في ذلك أن التفاوت إنما يعتبر
بين المتعاطفين لا بين المعطوف عليه وما دخله حرف النفي من
المعطوف لأن الحصر ممنوع، وكذا لا يضر انفهام التفاوت من
كون أحدهما مأمورا به، والآخر منهيا عنه كيفما كان العطف
لأن المراد أن كلمة ثُمَّ تؤذن بذلك مع قطع النظر عن تعلق
الأمر والنهي، وجوز أن يكون العطف على- فاذكروا- ويعتبر
التفاوت بين الإفاضتين أيضا كما في السابق بلا تفاوت،
وبعضهم جعله معطوفا على محذوف أي أفيضوا إلى منى ثُمَّ
أَفِيضُوا إلخ وليس بشيء كالقول بأن في الآية تقديما
وتأخيرا، والتقدير «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من
ربكم- ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فإذا أفضتم من عرفات
فاذكروا الله عند المشعر الحرام واستغفروا» وإذا أريد
بالمفاض منه المزدلفة وبالمفاض إليه منى- كما قال الجبائي-
بقيت كلمة ثُمَّ على ظاهرها لأن الإفاضة إلى منى بعيدة عن
الإفاضة من- عرفات- لأن الحاج إذا أفاضوا منها عند غروب
الشمس يوم عرفة يجيئون إلى المزدلفة ليلة النحر ويبيتون
بها فإذا طلع الفجر وصلوا بغلس ذهبوا إلى قزح فيرقون فوقه
أو يقفون بالقرب منه ثم يذهبون إلى وادي محسر ثم منه إلى
منى، والخطاب على هذا عام بلا شبهة، والمراد من الناس
الجنس كما هو الظاهر- أي من حيث أفاض الناس كلهم قديما
وحديثا، وقيل: المراد بهم إبراهيم عليه السلام وسمي ناسا
لأنه كان إماما للناس، وقيل: المراد هو وبنوه، وقرىء-
«الناس» - بالكسر أي الناسي والمراد به آدم عليه السلام
لقوله تعالى في حقه:
فَنَسِيَ [طه: 115] وكلمة- ثم- على هذه القراءة للإشارة
إلى بعد ما بين الإفاضة من عرفات والمخالفة عنها بناء على
أن معنى ثم أفيضوا عليها ثم لا تخالفوا عنها لكونها شرعا
قديما كذا قيل فليتدبر وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ من
جاهليتكم في تغيير المناسك ونحوه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
للمستغفرين رَحِيمٌ بهم منعم عليهم فَإِذا قَضَيْتُمْ
مَناسِكَكُمْ أي أديتم عباداتكم الحجية وفرغتم منها
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أي كما كنتم
تذكرونهم عند فراغ حجكم بالمفاخر، روي عن ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما قال: كان أهل الجاهلية يجلسون بعد الحج
فيذكرون أيام آبائهم وما يعدون من أنسابهم يومهم أجمع
فأنزل الله تعالى ذلك أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً إما مجرور
معطوف على الذكر بجعل الذكر ذاكرا على المجاز والمعنى-
واذكروا الله ذكرا كذكركم آباءكم أو كذكر أشد منه وأبلغ-
أو على ما أضيف إليه بناء على مذهب الكوفيين المجوزين
للعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الخافض في السعة
بمعنى- أو كذكر قوم أشد منكم ذكرا- وإما منصوب بالعطف على
آباءَكُمْ وذِكْراً من فعل المبني للمفعول بمعنى أو كذكركم
أشد مذكورية من آبائكم، أو بمضمر دل عليه المعنى أي ليكن
ذكركم الله تعالى أشد من ذكركم آباءكم أو كونوا أشد ذكرا
لله تعالى منكم لآبائكم كذا قيل، واختار في البحر أن يكون
أَشَدَّ نصب على الحال من ذكرا المنصوب- باذكروا- إذ لو
تأخر عنه لكان صفة لو وحسن تأخر ذِكْراً لأنه كالفاصلة
ولزوال قلق التكرار إذ لو قدم لكان التركيب فاذكروا الله
كذكركم آباءكم، أو اذكروا ذكرا أشد، وفيه أن الظاهر على
هذا الوجه أن يقال أو أشد بدون ذِكْراً بأن يكون معطوفا
على كذكركم صفة للذكر المقدر وأن المطلوب الذكر الموصوف
بالأشدية لا طلبه حال الأشدية فَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ جملة معترضة بين الأمرين المتعاطفين للحث والإكثار
من ذكر الله تعالى وطلب ما عنده، وفيها تفصيل للذاكرين
مطلقا حجاجا أو غيرهم كما هو الظاهر إلى مقل لا يطلب بذكر
الله تعالى إلا الدنيا ومكثر يطلب خير الدارين، وما نقل عن
بعض المتصوفة من قولهم إن عبادتنا لذاته تعالى فارغة من
(1/485)
الأغراض والاعراض جهل عظيم ربما يجر إلى
الكفر كما قاله حجة الإسلام قدس سره لأن عدم التعليل في
الأفعال مختص بذاته تعالى على أن البعض قائل بأن أفعاله
سبحانه أيضا معللة بما تقتضيه الحكمة، نعم إن عبادته تعالى
قد تكون لطلب الرضا لا لخوف مكروه أو لنيل محبوب لكن ذا من
أجل حسنات الأخرى يطلبه خلص عباده قال تعالى:
وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 72] وقرن
سبحانه الذكر بالدعاء للإشارة إلى أن المعتبر من الذكر ما
يكون عن قلب حاضر وتوجه باطن كما هو حال الداعي حين طلب
حاجة لا مجرد التفوه والنطق به، وذهب الإمام وأبو حيان إلى
أن التفصيل للداعين المأمورين بالذكر بعد الفراغ من
المناسك، وبدأ سبحانه وتعالى بالذكر لكونه مفتاحا للإجابة
ثم بين جل شأنه أنهم ينقسمون في سؤال الله تعالى إلى من
يغلب عليه حب الدنيا فلا يدعو إلا بها ومن يدعو بصلاح حاله
في الدنيا والآخرة، وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة
حطا لطالب الدنيا عن ساحة عن الحضور، ولا يخفى أن الأول هو
المناسب لإبقاء الناس على عمومه والمطابق لما سيأتي من
قوله سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ إلخ وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نعم سبب النزول- كما روي عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما- طائفة من الأعراب يجيئون إلى
الموقف فيطلبون الدنيا، وطائفة من المؤمنين يجيئونه
فيطلبون الدنيا والآخرة وهذا لا يقتضي التخصيص رَبَّنا
آتِنا فِي الدُّنْيا أي اجعل كل إيتائنا ومنحتنا فيها
فالمفعول الثاني متروك ونزل الفعل بالقياس منزلة اللازم
ذهابا إلى عموم الفعل للإشارة إلى أن همته مقصورة على
مطالب الدنيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ إخبار
منه تعالى ببيان حال هذا النصف في الآخرة يعني أنه لا نصيب
له فيها ولا حظ، والخلاق- من خلق به إذا لاق، أو من الخلق
كأنه الأمر الذي خلق له وقدر، وقيل: الجملة بيان لحال ذلك
في الدنيا فهي تصريح بما علم ضمنا من سابقه تقريرا له
وتأكيدا أي ليس له في الدنيا طلب خلاق في الآخرة، وليس
المراد أنه ليس له طلب في الآخرة للخلاق ليقال: إن هذا حكم
كل أحد إذ لا طلب في الآخرة وإنما فيها الحظ والحرمان،
ويجاب بمنع عدم الطلب إذ المؤمنون يطلبون زيادة الدرجات
والكافرون الخلاص من شدة العذاب، ومَنْ صلة، وله- خبر مقدم
والجار والمجرور بعده متعلق بما تعلق به أو حال مما بعده
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا
حَسَنَةً يعني العافية والكفاف قاله قتادة، أو
المرأة الصالحة قاله علي كرم الله تعالى وجهه،
أو العلم والعبادة قاله الحسن، أو المال الصالح قاله
السدي، أو الأولاد الأبرار، أو ثناء الخلق قاله ابن عمر،
أو الصحة والكفاية والنصرة على الأعداء والفهم في كتاب
الله تعالى، أو صحبة الصالحين قاله جعفر، والظاهر أن
الحسنة وإن كانت نكرة في الإثبات وهي لا تعم إلا أنها
مطلقة فتنصرف إلى الكامل والحسنة الكاملة في الدنيا ما
يشمل جميع حسناتها وهو توفيق الخير وبيانها بشيء مخصوص ليس
من باب تعيين المراد إذ لا دلالة للمطلق على المقيد أصلا
وإنما هو من باب التمثيل وكذا الكلام في قوله تعالى: وَفِي
الْآخِرَةِ حَسَنَةً فقد قيل هي الجنة، وقيل: السلامة من
هول الموقف وسوء الحساب،
وقيل: الحور العين وهو مروي عن علي كرم الله تعالى وجهه،
وقيل: لذة الرؤية (وقيل، وقيل..) والظاهر الإطلاق وإرادة
الكامل وهو الرحمة والإحسان وَقِنا عَذابَ النَّارِ أي
احفظنا منه بالعفو والمغفرة واجعلنا ممن يدخل الجنة من غير
عذاب، وقال الحسن: احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إلى
عذاب النار،
وقال علي كرم الله تعالى وجهه: عذاب النار الامرأة السوء
أعاذنا الله تعالى منها وهو على نحو ما تقدم وقد كان صلّى
الله عليه وسلّم أكثر دعوة يدعو بها هذه الدعوة كما
رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه وأخرجا عنه
أيضا أنه قال: «إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دعا
رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف فقال له صلّى
الله عليه وسلّم: هل كنت تدعو الله تعالى بشيء؟ قال: نعم
كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في
الدنيا فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: سبحان
الله إذا لا تطيق ذلك ولا تستطيعه فهلا قلت ربنا آتنا في
الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ودعا له
فشفاه» الله تعالى
(1/486)
أُولئِكَ إشارة إلى الفريق الثاني والجملة
في مقابلة وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ والتعبير
باسم الإشارة للدلالة على أن اتصافهم بما سبق علة للحكم
المذكور ولذا ترك العطف هاهنا لكونه كالنتيجة لما قبله،
قيل: وما فيه من معنى البعد للإشارة إلى علو درجتهم وبعد
منزلتهم في الفضل، وجوز أن تكون الإشارة إلى كلا الفريقين
المتقدمين فالتنوين في قوله تعالى: لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا
كَسَبُوا على الأول للتفخيم وعلى الثاني للتنويع أي لكل
منهم نصيب من جنس ما كسبوا، أو من أجله، أو مما دعوا به
نعطيهم منه ما قدرناه، ومن- إما للتبعيض أو للابتداء،
والمبدئية على تقدير الأجلية على وجه التعليل، وفي الآية
على الاحتمال الثالث وضع الظاهر موضع المضمر بغير لفظ
السابق لأن المفهوم من رَبَّنا آتِنا الدعاء لا الكسب إلا
أنه يسمى كسبا لأنه من الأعمال وقرىء- مما اكتسبوا-
وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسب العباد على كثرتهم في
قدر نصف نهار من أيام الدنيا، وروي بمقدار فواق ناقة، وروي
بمقدار لمحة البصر أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب الناس
فبادروا إلى الطاعات واكتساب الحسنات، والجملة تذييل لقوله
تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ إلخ
والمحاسبة إما على حقيقتها كما هو قول أهل الحق من أن
النصوص على ظاهرها ما لم يصرف عنها صارف أو مجاز عن خلق
علم ضروري فيهم بأعمالهم وجزائها كما وكيفا، أو مجازاتهم
عليها هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» ولَيْسَ الْبِرُّ
بِأَنْ تَأْتُوا بيوت قلوبكم من طرف حواسكم ولو ماتكم
البدنية المأخوذة من المشاعر فإنها ظهور القلوب التي تلي
البدن وَلكِنَّ البر من اتقى شواغل الحواس وهواجس الخيال
ووساوس النفس الأمارة وأتوا هاتيك البيوت مِنْ أَبْوابِها
التي تلي الروح، ويدخل منها الحق واتقوا الله عن رؤية
تقواكم لعلكم تفوزون به وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ من قوى نفوسكم ودواعي بشريتكم
فإن ذلك هو الجهاد الأكبر وَلا تَعْتَدُوا بإهمالها
والوقوف مع حظوظها أو لا تتجاوزوا في القتال إلى أن تضعفوا
البدن عن القيام بمراسم الطاعة ووظائف العبودية فرب مخمصة
شر من التخم. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
الواقفين مع نفوسهم أو المتجاوزين ظل الوحدة وهو العدالة
وَاقْتُلُوهُمْ حيث وجدتموهم أي امنعوا هاتيك القوى عن شم
لذائذ الشهوات والهوى حيث كانوا وَأَخْرِجُوهُمْ عن مكة
الصدر كما أخرجوكم عنها واستنزلوكم إلى بقعة النفس وحالوا
بينكم وبين مقر القلب وفتنتهم التي هي عبادة الهوى والسجود
لأصنام اللذات أشد من الإماتة بالكلية أو بلاؤكم عند
استيلاء النفس أشد عليكم من القتل الذي هو محو الاستعداد
وطمس الغرائز لما يترتب على ذلك من ألم الفراق عن حضرة
القدس الذي لا يتناهى وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ
الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وهو مقام القلب إذا وافقوكم في
توجهكم حتى ينازعوكم في مطالبكم ويجروكم عن دين الحق
ويدعوكم إلى عبادة عجل النظر إلى الأغيار فإن نازعوكم
فَاقْتُلُوهُمْ بسيف الصدق واقطعوا مادة تلك الدواعي
كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ الساترين للحق فَإِنِ
انْتَهَوْا عن نزاعهم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
وَقاتِلُوهُمْ على دوام الرعاية وصدق العبودية حَتَّى لا
تَكُونَ فِتْنَةٌ ولا يحصل التفات إلى السوي وَيَكُونَ
الدِّينُ لِلَّهِ بتوجه الجمع إلى الجناب الأقدس والذات
المقدس فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إلا على المجاوزين
للحدود الشَّهْرُ الْحَرامُ الذي قامت به النفس لحقوقها
بِالشَّهْرِ الْحَرامِ الذي هو وقت حضوركم ومراقبتكم
وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فلا تبالوا بهتك حرمتها وَأَنْفِقُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ ما معكم من العلوم بالعمل به
والإرشاد- ولا تلقوا بأيديكم إلى تهلكة التفريط وأحسنوا-
بأن تكونوا مشاهدين ربكم في سائر أعمالكم إن الله يحب
المشاهدين له،- وأتموا حج- توحيد الذات وعمرة توحيد الصفات
لله بإتمام جميع المقامات والأحوال فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ
بمنع أعداء النفوس أو مرض الفتور فجاهدوا في الله بسوق هدي
النفس وذبحها بفناء كعبة القلب، ولاختلاف النفوس في
الاستعداد قال: ما استيسر ولا تحلقوا رؤوسكم ولا تزيلوا
آثار الطبيعة وتختاروا فراغ الخاطر حتى يبلغ هدي النفس
محله فحينئذ تأمنون من التشويش وتكدر الصفاء فَمَنْ كانَ
مِنْكُمْ مَرِيضاً ضعيف
(1/487)
الاستعداد أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ
أي مبتلى بالتعلقات ولم يتيسر له السلوك على ما ينبغي
فعليه فدية من إمساك عن بعض لذاته وشواغله أو فعل بر أو
رياضة تقمع بعض القوى فَإِذا أَمِنْتُمْ من المانع المحصر
فمن تمتع بذوق تجلي الصفات متوسلا
به إلى حج تجلي الذات فيجب عليه ما أمكن من الهدي بحسب
حاله فَمَنْ لَمْ يَجِدْ لضعف نفسه وانقهارها فَصِيامُ
ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أي فعليه الإمساك عن أفعال
القوى التي هي الأصول القوية في وقت التجلي والاستغراق في
الجمع والفناء، وهي العقل والوهم والمتخيلة وَسَبْعَةٍ
إِذا رَجَعْتُمْ إلى مقام التفصيل والكثرة، وهي الحواس
الخمسة الظاهرة والغضب والشهوة لتكون عند الاستقامة في
الأشياء بالله عز وجل تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ موجبة
لأفاعيل عجيبة مشتملة على أسرار غريبة ذلِكَ لِمَنْ لَمْ
يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ
من الكاملين الحاضرين مقام الوحدة لأن أولئك لا يخاطبون
ولا يعاتبون ومن وصل فقد استراح الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُوماتٌ وهي مدة الحياة الفانية أو من وقت بلوغ الحلم
إلى الأربعين كما قال في البقرة لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ
عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة: 68] .
ومن هنا قيل: الصوفي بعد الأربعين بارد نعم العمش خير من
العمى والقليل خير من الحرمان فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ
الْحَجَّ على نفسه بالعزيمة فَلا رَفَثَ أي فلا يمل إلى
الدنيا وزينتها وَلا فُسُوقَ ولا يخرج القوة الغضبية عن
طاعة القلب بل لا يخرج عن الوقت ولا يدخل فيما يورث المقت
وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ أي ولا ينازع أحدا في مقام
التوجه إليه تعالى إذ الكل منه وإليه ومن نازعه في شيء
ينبغي أن يسلمه إليه ويسلم عليه وَإِذا خاطَبَهُمُ
الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: 63] وما تفعلوا من
فضيلة في ترك شيء من هذه الأمور يعلمه الله ويثيبكم عليه،
وتزودوا من الفضائل التي يلزمها الاجتناب عن الرذائل
فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وتمامها بنفي السوي
وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ فإن قضية العقل الخالص
عن شوب الوهم وقشر المادة اتقاء الله تعالى ليس عليكم حرج
عند الرجوع إلى الكثرة أن تطلبوا رفقا لأنفسكم على مقتضى
ما حده المظهر الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم فإذا دفعتم
أنفسكم من عرفات المعرفة فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ
الْمَشْعَرِ الْحَرامِ أي شاهدوا جماله سبحانه عند السر
الروحي المسمى بالخفي وسمي مشعرا لأنه محل الشعور بالجمال،
ووصف بالحرام لأنه محرم أن يصل إليه الغير وَاذْكُرُوهُ
كَما هَداكُمْ إلى ذكره في المراتب وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ
قَبْلِهِ الوصول إلى عرفات المعرفة والوقوف بها لَمِنَ
الضَّالِّينَ عن هذه الأذكار في طلب الدنيا ثُمَّ
أَفِيضُوا إلى ظواهر العبادات مِنْ حَيْثُ أَفاضَ سائر
الناس إليها وكونوا كأحدهم فإن النهاية الرجوع إلى
البداية.
أو أفيضوا من حيث أفاض الأنبياء عليهم السلام لأجل أداء
الحقوق والشفقة على عباد الله تعالى بالإرشاد والتعليم
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ فقد كان الشارع الأعظم صلى الله
تعالى عليه وسلم يغان على قلبه ويستغفر الله تعالى في
اليوم سبعين مرة، ومن أنت يا مسكين بعده إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ وفرغتم من
الحج فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ قبل
السلوك أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً لأنه المبدأ الحقيقي فكونوا
مشغولين به حسبما تقتضيه ذاته سبحانه فمن الناس من لا يطلب
إلا الدنيا ولا يعبد إلا لأجلها وما له في مقام الفناء من
نصيب لقصور همته واكتسابه الظلمة المنافية للنور ومنهم من
يطلب خير الدارين ويحترز عن الاحتجاب بالظلمة والتعذيب
بنيران الطبيعة أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا
من حظوظ الآخرة والأنوار الباهرة واللذات الباقية والمراتب
العالية والله سريع الحساب وَاذْكُرُوا اللَّهَ أي كبروه
إدبار الصلوات وعند ذبح القرابين، ورمي الجمار وغيرها.
فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ
وهي ثلاثة أيام التشريق وهو المروي في المشهور عن عمر وعلي
وابن عباس رضي الله
(1/488)
تعالى عنهم، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما أنها أربعة أيام بضم يوم النحر
إليها، واستدل بعضهم للتخصيص بأن هذه الجملة معطوفة على
قوله سبحانه فَاذْكُرُوا اللَّهَ إلخ فكأنه قيل فإذا قضيتم
مناسككم فاذكروا الله في أيام معدودات، والفاء للتعقيب
فاقتضى ذلك إخراج يوم النحر من الأيام، ومن اعتبر العطف
والتعقيب وجعل بعض يوم يوما استدل بالآية على ابتداء
التكبير خلف الصلاة من ظهر يوم النحر، واستدل بعمومها من
قال: يكبر خلف النوافل واستشكل وصف أيام بمعدودات لأن
أياما جمع يوم وهو مذكر، ومَعْدُوداتٍ واحدها معدودة وهو
مؤنث فكيف تقع صفة له فالظاهر معدودة ووصف جمع ما لا يعقل
بالمفرد المؤنث جائز، وأجيب بأن معدودات جمع معدود لا
معدودة، وكثيرا ما يجمع المذكر جمع المؤنث كحمامات وسجلات،
وقيل: إنه قدر اليوم مؤنثا باعتبار ساعاته، وقيل: إن
المعنى أنها في كل سنة معدودة، وفي السنين معدودات فهي جمع
معدودة حقيقة ولا يخفى ما فيه فَمَنْ تَعَجَّلَ أي عجل في
النفر أو استعجل النفر من منى، وقد ذكر غير واحد أن عجل
واستعجل يجيئان مطلوعين بمعنى عجل يقال: تعجل في الأمر
واستعجل، ومتعديين يقال: تعجل الذهاب، والمطاوعة عند
الزمخشري أوفق لقوله تعالى: وَمَنْ تَأَخَّرَ كما هي كذلك
في قوله:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون من «المستعجل»
الزلل
لأجل المتأني، وذهب بعض أرباب التحقيق إلى ترجيح التعدي
لأن المراد بيان أمور- العجل- لا التعجل مطلقا، وقيل: لأن
اللازم يستدعي تقدير فِي فيلزم تعلق حرفي جر أحدهما المقدر
والثاني فِي يَوْمَيْنِ بالفعل وذا لا يجوز- واليومان- يوم
القر. ويوم الرؤوس. واليوم الذي بعده. والمراد فمن نفر في
ثاني أيام التشريق قبل الغروب- وبعد رمي الجمار عند
الشافعية- وقبل طلوع الفجر من اليوم الثالث إذا فرغ من رمي
الجمار عندنا- والنفر في أول يوم منها لا يجوز- فظرفية
«اليومين» له على التوسع باعتبار أن الاستعداد له في اليوم
الأول، والقول بأن التقدير في أحد يَوْمَيْنِ إلا أنه مجمل
فسر باليوم الثاني، أو في آخر يَوْمَيْنِ خروج عن مذاق
النظر فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ باستعجاله وَمَنْ تَأَخَّرَ في
النفر حتى رمى في اليوم الثالث قبل الزوال أو بعده عندنا،
وعند الشافعي بعده فقط فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بما صنع من
التأخر، والمراد التخيير بين- التعجل والتأخر- ولا يقدح
فيه أفضلية الثاني خلافا لصاحب- الإنصاف- وإنما ورد- بنفي
الإثم- تصريحا بالرد على أهل الجاهلية حيث كانوا مختلفين
فيه، فمن مؤثم للمعجل، ومؤثم للمتأخر لِمَنِ اتَّقى خبر
لمحذوف- واللام- إما للتعليل أو للاختصاص، أي ذلك التخيير
المذكور بقرينة القرب لأجل- المتقي- لئلا يتضرر بترك ما
يقصده من- التعجيل والتأخر- لأنه حذر متحرز عما يريبه، أو
ذلك المذكور من أحكام الحج مطلقا نظرا إلى عدم المخصص
القطعي، وإن كانت عامة لجميع المؤمنين مختصة- بالمتقي-
لأنه الحاج على الحقيقة، والمنتفع بها، والمراد من-
التقوى- على التقديرين التجنب عما يؤثم من- فعل أو ترك-
ولا يجوز حملها على التجنب عن الشرك لأن الخطاب في جميع ما
سبق للمؤمنين، واستدل بعضهم بالآية على أن الحاج إذا اتقى
في أداء حدود الحج وفرائضه غفرت له ذنوبه كلها، وروي ذلك
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج ابن جرير عنه أنه
فسر الآية بذلك ثم قال: إن الناس يتأولونها على غير
تأويلها، وهو من الغرابة بمكان.
وَاتَّقُوا اللَّهَ في جميع أموركم التي يتعلق بها العزم
لتنتظموا في سلك المغتنمين بالأحكام المذكورة، أو احذروا
الإخلال بما ذكر من أمور الحج وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ للجزاء على أعمالكم بعد الإحياء
والبعث، وأصل- الحشر- الجمع وضم المفرق وهو تأكيد للأمر
بالتقوى وموجب للامتثال به، فإن من علم بالحشر والمحاسبة
والجزاء كان ذلك من أقوى الدواعي له إلى ملازمة التقوى،
وقدم إليه للاعتناء بمن يكون الحشر إليه ولتواخي الفواصل
(1/489)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ
عطف على قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ والجامع
أنه سبحانه لما ساق بيان أحكام الحج إلى بيان انقسام الناس
في الذكر والدعاء في تلك المناسك إلى الكافر، والمؤمن تممه
سبحانه ببيان قسمين آخرين- المنافق والمخلص- وأصل- التعجب-
حيرة تعرض للإنسان لجهله بسبب المتعجب منه، وهو هنا مجاز
عما يلزمه من الروق والعظمة فإن الأمر الغريب المجهول
يستطيبه الطبع ويعظم وقعه في القلوب، وليس على حقيقته لعدم
الجهل بالسبب أعني الفصاحة والحلاوة، فالمعنى ومنهم من
يروقك ويعظم في نفسك ما يقوله: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي
في أمور الدنيا وأسباب المعاش- سواء كانت عائدة إليه أم
لا- فالمراد من الْحَياةِ ما به الحياة والتعيش، أو في
معنى الدُّنْيا فإنها مرادة من ادعاء المحبة وإظهار
الإيمان- فالحياة الدنيا- على معناها، وجعله ظرفا للقول من
قبيل قولهم في عنوان المباحث الفصل الأول في كذا والكلام
في كذا أي المقصود منه ذلك ولا حذف في شيء من التقديرين
على ما وهم وتكون الظرفية حينئذ تقديرية كما في
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «في النفس المؤمنة مائة من
الإبل»
أي في قتلها فالسبب الذي هو القتل متضمن للدية تضمن الظرف
للمظروف وهذه هي التي يقال لها إنها سببية كذا في الرضي
قاله بعض المحققين، وجوز تعلق المجرور بالفعل قبله أي
يعجبك في الدنيا قوله لفصاحته وطراوة ألفاظه ولا يعجبك في
الآخرة لما يعتريه من الدهشة واللكنة أو لأنه لا يؤذن له
في الكلام فلا يتكلم حتى يعجبك، والآية كما
قال السدي: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة
«أقبل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم في المدينة فأظهر له
الإسلام وأعجب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك منه
وقال: إنما جئت أريد الإسلام والله تعالى يعلم إني لصادق
ثم خرج من عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فمر
بزرع من المسلمين (1) وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر»
وقيل: في المنافقين كافة وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي
قَلْبِهِ أي بحسب ادعائه حيث يقول الله يعلم أن ما في قلبي
موافق لما في لساني وهو معطوف على يُعْجِبُكَ وفي مصحف
أبيّ ويستشهد الله، وقرىء ويشهد الله بالرفع، فالمراد بما
في قلبه ما فيه حقيقة، ويؤيده قراءة ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما، والله يشهد على ما في قلبه على أن كلمة على
لكون المشهود به مضرا له، والجملة حينئذ اعتراضية.
وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ أي شديد المخاصمة في الباطل كما
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واستشهد عليه بقول
مهلهل.
إن تحت الحجار حزما وجورا ... وخصيما ألد ذا مقلاق
فألد صفة كأحمر بدليل جمعه على لد ومجيء مؤنثه لداء لا
أفعل تفضيل والإضافة من إضافة الصفة إلى فاعلها كحسن الوجه
على الإسناد المجازي وجعلها بعضهم بمعنى في على الظرفية
التقديرية أي شديد في المخاصمة ونقل أبو حيان عن الخليل أن
ألد أفعل تفضيل فلا بد من تقدير، وخصامه ألد الخصام أو ألد
ذوي الخصام، أو يجعل وهو راجع إلى الخصام المفهوم من
الكلام على بعد، أو يقال الخصام جمع خصم كبحر وبحار وصعب
وصعاب، فالمعنى أشد الخصوم خصومة، والإضافة فيه للاختصاص
كما في أحسن الناس وجها، وفي الآية إشارة إلى أن شدة
المخاصمة مذمومة،
وقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «أبغض الرجال إلى الله
تعالى الألد الخصم»
وأخرج أحمد عن أبي الدرداء «كفى بك إثما أن لا تزال مماريا
وكفى بك ظالما أن لا تزال مخاصما وكفى بك كاذبا أن لا تزال
محدثا إلا حديث في ذات الله عز وجل» وشدة الخصومة من صفات
__________
(1) قوله: (بزرع من المسلمين) كذا بخطه اهـ.
(1/490)
المنافقين لأنهم يحبون الدنيا فيكثرون
الخصام عليها وَإِذا تَوَلَّى أي أدبر وأعرض قاله الحسن،
أو إذا غلب وصار واليا- قاله الضحاك- سَعى أي أسرع في
المشي أو عمل فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها ما أمكنه
وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ كما فعله الأخنس، أو كما
يفعله ولاة السوء بالقتل والإتلاف، أو بالظلم الذي يمنع
الله تعالى بشؤمه القطر، والْحَرْثَ الزرع وَالنَّسْلَ كل
ذات روح يقال نسل ينسل نسولا إذا خرج فسقط، ومنه نسل وبر
البعير أو ريش الطائر، وسمي العقب من الولد نسلا لخروجه من
ظهر أبيه وبطن أمه، وذكر الأزهري أن الْحَرْثَ هنا النساء
وَالنَّسْلَ الأولاد،
وعن الصادق أن الحرث في هذا الموضع الدين والنسل الناس،
وقرىء ويهلك الحرث، والنسل على أن الفعل للحرث والنسل،
والرفع للعطف على سَعى وقرأ الحسن بفتح اللام وهي لغة- أبى
يأبى- وروي عنه ويهلك على البناء للمفعول وَاللَّهُ لا
يُحِبُّ الْفَسادَ لا يرضى به فاحذروا غضبه عليه، والجملة
اعتراض للوعيد واكتفى فيها على الفساد لانطوائه على الثاني
لكونه من عطف العام على الخاص، ولا يرد أن الله تعالى مفسد
للأشياء قبل الإفساد، فكيف حكم سبحانه بأنه لا يحب الفساد،
لأنه يقال: الإفساد- كما قيل في الحقيقة- إخراج الشيء عن
حالة محمودة- لا لغرض صحيح- وذلك غير موجود في فعله تعالى
ولا هو آمر به، وما نراه من فعله جل وعلا إفسادا فهو
بالإضافة إلينا، وأما بالنظر إليه تعالى فكله صلاح، وأما
أمره بإهلاك الحيوان مثلا لأكله فلإصلاح الإنسان الذي هو
زبدة هذا العالم، وأما إماتته فأحد أسباب حياته الأبدية
ورجوعه إلى وطنه الأصلي، وقد تقدم ما عسى أن تحتاجه هنا.
وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ في فعلك أَخَذَتْهُ
الْعِزَّةُ أي احتوت عليه وأحاطت به، وصار كالمأخوذ بها،
والْعِزَّةُ في الأصل خلاف الذل وأريد بها الأنفة والحمية
مجازا. بِالْإِثْمِ أي مصحوبا أو مصحوبة به أو بسبب إثمه
السابق، ويجوز أن يكون- أخذ- من الأخذ بمعنى الأسر، ومنه
الأخيذ للأسير، أي جعلته الْعِزَّةُ وحمية الجاهلية أسيرا
بقيد الإثم لا يتخلص منه فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ مبتدأ وخبر
أي كافيه جَهَنَّمُ وقيل: جَهَنَّمُ فاعل لحسبه ساد مسد
خبره، وهو مصدر بمعنى الفاعل وقوي لاعتماده على- الفاء-
الرابطة للجملة بما قبلها، وقيل:
«حسب» اسم فعل ماض بمعنى كفى- وفيه نظر- وجَهَنَّمُ علم
لدار العقاب أو لطبقة من طبقاتها ممنوعة من الصرف للعلمية
والتأنيث، وهي من الملحق بالخماسي بزيادة الحرف الثالث
ووزن فعنلل، وفي البحر إنها مشتقة من قولها: ركية جهنام-
إذا كانت بعيدة القعر- وكلاهما من الجهم، وهي الكراهية،
والغلظ، ووزنها فعنل. ولا يلتفت لمن قال: وزنها فنعلل
كعرندس، وأن فعنلا مفقود لوجود فعنل نحو دونك وخفنك
وغيرهما، وقيل: إنها فارسي وأصلها كهنام فعربت- بإبدال
الكاف جيما وإسقاط الألف- والمنع من الصرف حينئذ للعلمية
والعجمة وَلَبِئْسَ الْمِهادُ جواب قسم مقدر والمخصوص
بالذم محذوف لظهوره وتعينه، والْمِهادُ الفراش، وقيل: ما
يوطىء للجنب- والتعبير به للتهكم- وفي الآية ذم لمن يغضب
إذا قيل له: اتَّقِ اللَّهَ ولهذا قال العلماء: إذا قال
الخصم للقاضي:
اعدل ونحوه له أن يعزره، وإذا قال له: اتَّقِ اللَّهَ لا
يعزره. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه
«إنّ من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله تعالى
فيقول: عليك بنفسك عليك بنفسك» وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْرِي نَفْسَهُ أي يبيعها ببذلها في الجهاد على ما روي
عن ابن عباس والضحاك رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت
في سرية الرجيع، أو في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر
على ما أخرج ابن جرير عن أبي الخليل قال: سمع عمر رضي الله
تعالى عنه إنسانا يقرأ هذه الآية فاسترجع وقال: قام رجل
يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل ابْتِغاءَ مَرْضاتِ
اللَّهِ أي طلبا لرضاه، ف ابْتِغاءَ مفعول له، ومَرْضاتِ
مصدر بني- كما في البحر- على التاء كمدعاة، والقياس تجريده
منها، وكتب في المصحف- بالتاء- ووقف عليه- بالتاء والهاء-
وأكثر الروايات أن الآية نزلت في
(1/491)
صهيب الرومي رضي الله تعالى عنه، فقد أخرج
جماعة أنّ صهيبا أقبل مهاجرا نحو النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم فاتبعه نفر من المشركين فنزل عن راحلته ونثر ما
في كنانته وأخذ قوسه ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني
من أرماكم رجلا وايم الله لا تصلون إليّ حتى أرمي بما في
كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما
شئتم. فقالوا: دلنا على بيتك ومالك بمكة ونخلي عنك،
وعاهدوه إن دلهم أن يدعوه ففعل، فلما قدم على النبي صلى
الله تعالى عليه وسلم قال: «أبا يحيى ربح البيع ربح البيع»
وتلا له الآية. وعلى هذا يكون الشراء على ظاهره بمعنى
الاشتراء.
وفي الكواشي أنها نزلت في الزبير بن العوام وصاحبه المقداد
بن الأسود لما
قال عليه الصلاة والسلام: «من ينزل خبيبا عن خشبته فله
الجنة»
فقال: أنا وصاحبي المقداد- وكان خبيب قد صلبه أهل مكة-
وقال الإمامية وبعض منا: إنها نزلت في على كرم الله تعالى
وجهه حين استخلفه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على
فراشه بمكة لما خرج إلى الغار، وعلى هذا يرتكب في السراء
مثل ما ارتكب أولا وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ أي
المؤمنين حيث أرشدهم لما فيه رضاه، وجعل النعيم الدائم
جزاء العمل المنقطع وأثاب على شراء ملكه بملكه.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ
كَافَّةً
أخرج غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت
في عبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي
صلى الله تعالى عليه وسلم وآمنوا بشرائعه وشرائع موسى عليه
السلام فعظموا السبت وكرهوا لحمان الإبل وألبانها بعد ما
أسلموا، فأنكر ذلك عليهم المسلمون، فقالوا:
إنا نقوى على هذا وهذا، وقالوا للنبي صلى الله تعالى عليه
وسلم: إن التوراة كتاب الله تعالى فدعنا فلنعمل بها، فأنزل
الله تعالى هذه الآية،
فالخطاب لمؤمني أهل الكتاب، والسِّلْمِ بمعنى الإسلام،
وكَافَّةً في الأصل صفة من كف بمعنى منع، استعمل بمعنى
الجملة بعلاقة أنها مانعة للأجزاء عن التفرق- والتاء- فيه
للتأنيث أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية كعامة وخاصة
وقاطبة أو للمبالغة. واختار الطيبي الأول مدعيا أن القول
بالأخيرين خروج عن الأصل من غير ضرورة، والشمول المستفاد
منه شمول الكل للأجزاء لا الكلي لجزئياته ولا الأعم منهما،
ولا يختص بمن يعقل، ولا بكونه حالا ولا نكرة خلافا لابن
هشام- وليس له في ذلك ثبت- وهو هنا حال من الضمير في
ادْخُلُوا والمعنى ادخلوا في الإسلام بكليتكم ولا تدعوا
شيئا من ظاهركم وباطنكم إلا والإسلام يستوعبه بحيث لا يبقى
مكان لغيره من شريعة موسى عليه السلام، وقيل: الخطاب
للمنافقين، والسِّلْمِ بمعنى الاستسلام والطاعة على ما هو
الأصل فيه، وكَافَّةً حال من الضمير أيضا، أي استسلموا لله
تعالى وأطيعوه جملة واتركوا النفاق وآمنوا ظاهرا وباطنا،
وقيل:
الخطاب لكفار أهل الكتاب الذين زعموا الإيمان بشريعتهم،
والمراد من السِّلْمِ جميع الشرائع بذكر الخاص وإرادة
العام بناء على القول بأن الإسلام شريعة نبينا صلى الله
تعالى عليه وسلم، وحمل- اللام- على الاستغراق، وكَافَّةً
حال من السِّلْمِ والمعنى ادخلوا أيها المؤمنون بشريعة
واحدة في الشرائع كلها ولا تفرقوا بينها، وقيل: الخطاب
للمسلمين الخلص، والمراد من السِّلْمِ شعب الإسلام،
وكَافَّةً حال منه، والمعنى ادْخُلُوا أيها المسلمون
المؤمنون بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فِي شعب الإيمان
كلها ولا تخلوا بشيء من أحكامه، وقال الزجاج في هذا الوجه:
المراد من السِّلْمِ الإسلام، والمقصود أمر المؤمنين
بالثبات عليه، وفيه أن التعبير عن الثبات على الإسلام
بالدخول فيه بعيد غاية البعد، وهذا ما اختاره بعض المحققين
من ستة عشر احتمالا في الآية حاصلة من ضرب احتمالي
السِّلْمِ في احتمالي كَافَّةً وضرب المجموع في احتمالات
الخطاب، ومبنى ذلك على أمرين، أحدهما أن كَافَّةً لإحاطة
الأجزاء، والثاني أن محط الفائدة في الكلام القيد كما هو
المقرر عند البلغاء، ونص عليه
(1/492)
الشيخ في دلائل الإعجاز، وإذا اعتبرت
احتمال الحالية من الضمير والظاهر معا كما في قوله:
خرجت بها نمشي تجر وراءنا ... على أثرينا ذيل مرط مرحل
بلغت الاحتمالات أربعة وعشرين، ولا يخفى ما هو الأوفق منها
بسبب النزول. وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي «السلم» بفتح
السين والباقون- بكسرها- وهما لغتان مشهورتان فيه، وقرأ
الأعمش بفتح السين واللام وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ
الشَّيْطانِ بمخالفة ما أمرتم به، أو بالتفرق في جملتكم،
أو بالتفريق بالشرائع أو الشعب إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ
مُبِينٌ ظاهر العداوة أو مظهر لها، وهو تعليل للنهي
والانتهاء.
فَإِنْ زَلَلْتُمْ أي ملتم عن الدخول فِي السِّلْمِ
وتنحيتم، وأصله السقوط وأريد به ما ذكر مجازا.
مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ أي الحجج الظاهرة
الدالة على أنه الحق، أو آيات الكتاب الناطقة بذلك الموجبة
للدخول فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على أمره
لا يعجزه شيء من الانتقام منكم حَكِيمٌ لا يترك ما تقتضيه
الحكمة من مؤاخذة المجرمين هَلْ يَنْظُرُونَ استفهام في
معنى النفي، والضمير للموصول السابق إن أريد به المنافقون
أو أهل الكتاب، أو إلى مَنْ يُعْجِبُكَ إن أريد به مؤمنو
أهل الكتاب أو المسلمون. إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ
بالمعنى اللائق به جل شؤونه منزها عن مشابهة المحدثات
والتقيد بصفات الممكنات. فِي ظُلَلٍ جمع ظلة كقلة وكقلل
وهي ما أظلك، وقرىء ظلال كقلال مِنَ الْغَمامِ أي السحاب
أو الأبيض منه وَالْمَلائِكَةُ يأتون، وقرىء «والملائكة»
بالجر عطف على ظلل أو الغمام والمراد مع الْمَلائِكَةُ
أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم قال: «يجمع الله تعالى الأولين والآخرين لميقات
يوم معلوم قياما شاخصة أبصارهم إلى السماء ينظرون فصل
القضاء وينزل الله تعالى في ظلل من الغمام من العرش إلى
الكرسي، وأخرج ابن جرير وغيره عن عبد الله بن عمر في هذه
الآية قال: يهبط حين يهبط وبينه وبين خاتمه سبعون ألف حجاب
منها النور والظلمة والماء فيصوت الماء في تلك العظمة صوتا
تنخلع له القلوب، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن من
الغمام ظللا يأتي الله تعالى فيها محفوفات بالملائكة، وقرأ
أبيّ «إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل» ومن الناس من
قدر في أمثال هذه المتشابهات محذوفا فقال: في الآية
الإسناد مجازي، والمراد يأتيهم أمر الله تعالى وبأسه أو
حقيقي، والمفعول محذوف أي يأتيهم الله تعالى ببأسه، وحذف
المأتي به للدلالة عليه بقوله سبحانه: أَنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ فإن العزة.
والحكمة تدل على الانتقام بحق، وهو البأس والعذاب، وذكر
الملائكة لأنهم الواسطة في إتيان أمره أو الآتون على
الحقيقة، ويكون ذكر الله تعالى حينئذ تمهيدا لذكرهم كما في
قوله سبحانه: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا
[البقرة: 9] على وجه وخص الغمام بمحلية العذاب لأنه مظنة
الرحمة فإذا جاء منه العذاب كان أفظع لأن الشر إذا جاء من
حيث لا يحتسب كان أصعب فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير،
ولا يخفى أن من علم أن الله تعالى أن يظهر بما شاء وكيف
شاء ومتى شاء وأنه في حال ظهوره باق على إطلاقه حتى عن قيد
الإطلاق منزه عن التقيد مبرأ عن التعدد كما ذهب إليه سلف
الأمة وأرباب القلوب من ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى
أسرارهم لم يحتج إلى هذه الكلفات، ولم يحم حول هذه
التأويلات وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي أتم أمر العباد وحسابهم
فأثيب الطائع وعوقب العاصي وأتم أمر إهلاكهم وفرغ منه وهو
عطف على هَلْ يَنْظُرُونَ لأنه خبر معنى ووضع الماضي موضع
المستقبل لدنو وتيقن وقوعه. وقرأ معاذ بن جبل وقضاء الأمر
عطفا على الملائكة وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ
تذييل للتأكيد كأنه قيل: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ التي من جملتها الحساب أو الإهلاك، وعلى قراءة
معاذ عطف على هَلْ يَنْظُرُونَ أي لا ينظرون إلا الإتيان
وأمر ذلك إلى الله تعالى، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو
وعاصم- ترجع- على البناء للمفعول على أنه من الرجع، وقرأ
(1/493)
الباقون على البناء للفاعل بالتأنيث غير
يعقوب على أنه من الرجوع، وقرىء أيضا بالتذكير وبناء
المفعول سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ أمر للرسول صلّى الله عليه
وسلّم كما هو الأصل في الخطاب أو لكل واحد ممن يصح منه
السؤال، والمراد بهذا السؤال تقريعهم وتوبيخهم على طغيانهم
وجحودهم الحق بعد وضوح الآيات لا أن يجيبوا فيعلم من
جوابهم كما إذا أراد واحد منا توبيخ أحد يقول لمن حضر سله
كم أنعمت عليه، وربط الآية بما قبلها على ما قيل: إن
الضمير في هَلْ يَنْظُرُونَ إن كان لأهل الكتاب فهي
كالدليل عليه وإن كان لمن يُعْجِبُكَ فهي بيان لحال
المعاندين من أهل الكتاب بعد بيان حال المنافقين من أهل
الشرك كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ أي علامة
ظاهرة وهي المعجزات الدالة على صدق رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم كما قال الحسن، ومجاهد، وتخصيص إيتاء
المعجزات بأهل الكتاب مع عمومه للكل لأنهم أعلم من غيرهم
بالمعجزات وكيفية دلالتها على الصدق لعلمهم بمعجزات
الأنبياء السابقة وقد يراد بالآية معناها المتعارف وهو
طائفة من القرآن وغيره، وبينة من بان المتعدي، فالسؤال على
إيتاء الآيات المتضمنة لنعت الرسول صلى الله تعالى عليه
وسلم وتحقيق نبوته والتصديق بما جاء به. وكَمْ إما خبرية
والمسئول عنه محذوف، والجملة ابتدائية لا محل لها من
الإعراب مبينة لاستحقاقهم التقريع كأنه قيل: سَلْ بَنِي
إِسْرائِيلَ عن طغيانهم وجحودهم للحق بعد وضوحه فقد-
آتيناهم آيات كثيرة بينة- وزعم لزوم انقطاع الجملة على هذا
التقدير- وهم كما ترى، وإما استفهامية والجملة في موضع
المفعول الثاني ل سَلْ وقيل: في موضع المصدر أي سلهم هذا
السؤال، وقيل: في موضع الحال أي سلهم قائلا- كم آتيناهم-
والاستفهام للتقرير بمعنى حمل المخاطب على الإقرار، وقيل:
بمعنى التحقيق والتثبيت، واعترض بأن معنى التقريع
الاستنكار والاستبعاد وهو لا يجامع التحقيق، وأجيب بأن
التقريع إنما هو على جحودهم الحق وإنكاره المجامع لإيتاء
الآيات لا على الإيتاء حتى يفارقه، ومحلها النصب على أنها
مفعول ثان- لآتينا- وليس من الاشتغال كما وهم أو الرفع
بالابتداء على حذف العائد، والتقدير- آتيناهموها- أو
آتيناهم إياها، وهو ضعيف عند سيبويه، وآيَةٍ تمييز، ومِنْ
صلة أتي بها للفصل بين كون آيَةٍ مفعولا- لآتينا- وكونها
مميزة ل كَمْ ويجب الإتيان بها في مثل هذا الموضع فقد قال
الرضي: وإذا كان الفصل بين- كم- الخبرية ومميزها بفعل متعد
وجب الإتيان بمن لئلا يلتبس المميز بمفعول ذلك المتعدي نحو
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ [الدخان: 25] وَكَمْ
أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ [الحجر: 4] وحال- كم-
الاستفهامية المجرور مميزها مع الفصل كحال- كم الخبرية في
جميع ما ذكرنا انتهى. وحكي عنه أنه أنكر زيادة من في مميز
الاستفهامية وهو محمول على الزيادة بلا فصل
لا مطلقا فلا تنافي بين كلاميه وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ
اللَّهِ أي آياته فإنها سبب الهدي الذي هو أجل النعم، وفيه
وضع المظهر موضع المضمر بغير لفظه السابق لتعظيم الآيات،
وتبديلها تحريفها وتأويلها الزائغ، أو جعلها سببا للضلالة
وازدياد الرجس، وعلى التقديرين لا حذف في الآية، وقال أبو
حيان حذف حرف الجر من نِعْمَةَ والمفعول الثاني ل
يُبَدِّلْ والتقدير ومن يبدل بنعمة الله كفرا، ودل على ذلك
ترتيب جواب الشرط عليه وفيه ما لا يخفى، وقرىء- ومن يبدل-
بالتخفيف مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ أي وصلته وتمكن من
معرفتها، وفائدة هذه الزيادة- وإن كان تبديل الآيات مطلقا
مذموما- التعريض بأنهم بدلوها بعد ما عقلوها، وفيه تقبيح
عظيم لهم ونعي على شناعة حالهم واستدلال على استحقاقهم
العذاب الشديد حيث بدلوا بعد المعرفة وبهذا يندفع ما
يتراءى من أن التبديل لا يكون إلا بعد المجيء فما الفائدة
في ذكره فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ تعليل للجواب
أقيم مقامه والتقدير ومن يبدل نعمة الله عاقبه أشد عقوبة
لأنه شديد العقاب، ويحتمل أن يكون هو الجواب بتقدير الضمير
أي شديد العقاب له وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة
وإدخال الروعة زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ
الدُّنْيا أي أوجدت حسنة وجعلت محبوبة في قلوبهم فتهافتوا
عليها تهافت الفراش على النار وأعرضوا عما سواها ولذا أعرض
أهل الكتاب عن الآيات
(1/494)
وبدلوها، وفاعل التزيين بهذا المعنى حقيقة
هو الله تعالى وإن فسر بالتحسين بالقول ونحوه من الوسوسة
كما في قوله تعالى: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ
وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ [الحجر: 39] كان فاعل ذلك هو الشيطان
والآية محتملة لمعنيين، والتزيين حقيقة فيهما على ما
يقتضيه ظاهر كلام الراغب وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ
آمَنُوا الموصول للعهد، والمراد به فقراء المؤمنين كصهيب
وبلال وعمار أي يستهزئون بهم على رفضهم الدنيا. وإقبالهم
على العقبى، ومِنَ للتعدية وتفيد معنى الابتداء كأنهم
جعلوا لفقرهم ورثاثة حالهم منشأ للسخرية وقد يعدى السخر
بالباء إلا أنه لغة رديئة، والعطف على زين وإيثار صيغة
الاستقبال للدلالة على الاستمرار، وجوز أن تكون الواو
للحال ويسخرون خبر لمحذوف أي وهم يسخرون، والآية نزلت في
أبي جهل وأضرابه من رؤساء قريش بسطت لهم الدنيا وكانوا
يسخرون من فقراء المؤمنين ويقولون لو كان محمد صلى الله
تعالى عليه وسلم نبيا لاتبعه أشرافنا، وروي ذلك عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنه، وقيل: نزلت في ابن سلول، وقيل:
في رؤساء اليهود، ومن بني قريظة، والنضير وقينقاع سخروا من
فقراء المهاجرين وعن عطاء لا مانع من نزولها في جميعهم
وَالَّذِينَ اتَّقَوْا هم الذين آمنوا بعينهم وآثر التعبير
به مدحا لهم بالتقوى وإشعارا بعلة الحكم، ويجوز أن يراد
العموم ويدخل هؤلاء فيهم دخولا أوليا فَوْقَهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ مكانا لأنهم في عليين وأولئك في أسفل
السافلين، أو مكانة لأنهم في أوج الكرامة وهم في حضيض الذل
والمهانة، أو لأنهم يتطاولون عليهم في الآخرة فيسخرون منهم
كما سخروا منهم في الدنيا، والجملة معطوفة على ما قبلها،
وإيثار الاسمية للدلالة على دوام مضمونها، وفي ذلك من
تسلية المؤمنين ما لا يخفى وَاللَّهُ يَرْزُقُ في الآخرة
مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي بلا نهاية لما يعطيه، وقال
ابن عباس رضي الله تعالى عنه: هذا الرزق في الدنيا، وفيه
إشارة إلى تملك المؤمنين المستهزأ بهم أموال بني قريظة
والنضير، ويجوز أن يراد في الدارين فيكون تذييلا لكلا
الحكمين كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً متفقين على
التوحيد مقرين بالعبودية حين أخذ الله تعالى عليهم العهد،
وهو المروي عن أبيّ بن كعب، أو بين آدم وإدريس عليهما
السلام بناء على ما في روضة الأحباب أن الناس في زمان آدم
كانوا موحدين متمسكين بدينه بحيث يصافحون الملائكة إلا
قليل من قابيل ومتابعيه إلى زمن رفع إدريس، أو بين آدم
ونوح عليهما السلام على ما روى البزار وغيره عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما أنه كان بينهما عشرة قرون على شريعة
من الحق، أو بعد الطوفان إذ لم يبق بعده سوى ثمانين رجلا
وامرأة ثم ماتوا إلا نوحا وبنيه حام وسام ويافث وأزواجهم
وكانوا كلهم على دين نوح عليه الصلاة والسلام فالاستغراق
على الأول والأخير حقيقي، وعلى الثاني والثالث
ادعائي بجعل القليل في حكم العدم، وقيل: متفقين على
الجهالة والكفر بناء على ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق
العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا كفارا
وذلك بعد رفع إدريس عليه الصلاة والسلام إلى أن بعث نوح أو
بعد موت نوح عليه الصلاة والسلام إلى أن بعث هود عليه
الصلاة والسلام فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ أي
فاختلفوا فبعث إلخ وهي قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى
عنه، وإنما حذف تعويلا على ما يذكر عقبه مُبَشِّرِينَ من
آمن بالثواب وَمُنْذِرِينَ من كفر بالعذاب وهم كثيرون،
فقد أخرج أحمد وابن حبان عن أبي ذر أنه سئل النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم كم الأنبياء؟
قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قلت: يا رسول الله كم
الرسل؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير»
ولا يعارض هذا قوله تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ
عَلَيْكَ [النساء: 164] الآية لما سيأتي إن شاء الله
تعالى، والجمعان منصوبان على الحال من النبيين، والظاهر
أنها حال مقدرة، والقول بأنها حال مقارنة خلاف الظاهر.
وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ اللام للجنس ومعهم حال
مقدرة من الكتاب فيتعلق بمحذوف، وليس منصوبا بأنزل والمعنى
أنزل جنس الكتاب مقدرا مقارنته ومصاحبته للنبيين حيث كان
كل واحد منهم يأخذ الأحكام إما من كتاب
(1/495)
يخصه أو من كتاب من قبله، والكتب المنزلة
مائة وأربعة في المشهور وأنزل على آدم عشر صحائف وعلى شيث
ثلاثون وعلى إدريس خمسون وعلى موسى قبل التوراة عشرة
والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان وجوز كون اللام للعهد
وضمير معهم للنبيين باعتبار البعض أي أنزل مع كل واحد من
بعض النبيين كتابه ولا يخفى ما فيه من الركة بِالْحَقِّ
متعلق ب أَنْزَلَ أو حال من الْكِتابَ أي متلبسا شاهدا به
لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ علة للإنزال المذكور أوله
وللبعث، وهذا البعث المعلل هو المتأخر عن الاختلاف فلا يضر
تقدم بعثة آدم وشيث وإدريس عليهم الصلاة والسلام بناء على
بعض الوجوه السابقة والحكم بمعنى الفصل بقرينة تعلق بين به
ولو كان بمعنى القضاء لتعدى بعلى والضمير المستتر راجع إلى
الله سبحانه ويؤيده قراءة الجحدري فيما رواه عنه مكي لنحكم
بنون العظمة أو إلى النبي وأفرد الفعل لأن الحاكم كل واحد
من النبيين، وجوز رجوعه إلى الكتاب والإسناد حينئذ مجازي
باعتبار تضمنه ما به الفصل، وزعم بعضهم أنه الأظهر إذ لا
بد في عوده إلى الله تعالى من تكلف في المعنى أي يظهر حكمه
وإلى النبي من تكلف في اللفظ حيث لم يقل ليحكموا، ومما
ذكرنا يعلم ما فيه من الضعف، والمراد من الناس المذكورون
والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التعيين.
فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أي في الحق الذي اختلفوا فيه
بناء على أن وحدة الأمة بالاتفاق على الحق وإذا فسرت
الوحدة بالاتفاق على الجهالة والكفر يكون الاختلاف مجازا
عن الالتباس والاشتباه اللازم له والمعنى فيما التبس عليهم
وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أي في الحق بأن أنكروه وعاندوه أو
في الكتاب المنزل متلبسا به بأن حرفوه وأولوه بتأويلات
زائغة والواو حالية إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أي الكتاب
المنزل لإزالة الاختلاف وإزاحة الشقاق أي عكسوا الأمر حيث
جعلوا ما أنزل مزيحا للاختلاف سببا لرسوخه واستحكامه،
وبهذا يندفع السؤال بأنه لما لم يكن الاختلاف إلا من الذين
أوتوه- فالاختلاف لا يكون سابقا على البعثة- وحاصله أن
المراد هاهنا استحكام الاختلاف واشتداده، وعبر عن- الإنزال
بالإيتاء- للتنبيه من أول الأمر على كمال تمكنهم من الوقوف
على ما فيه من الحق فإن- الإنزال- لا يفيد ذلك، وقيل:
عبر به ليختص الموصول بأرباب العلم والدراسة من أولئك
المختلفين، وخصهم بالذكر لمزيد شناعة فعلهم ولأن غيرهم تبع
لهم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي رسخت في
عقولهم الحجج الظاهرة الدالة على الحق، ومِنْ متعلقة ب
اخْتَلَفُوا محذوفا، والحصر على تسليم أن يكون مقصودا
مستفاد من المقام أو من حذف الفعل، ووقوع الظرف بعد حرف
الاستثناء لفظا، أو من تقدير المحذوف مؤخرا- وفي الدر
المصون تجويز تعلقه بما اختلف قبله- ولا يمنع منه إلا كما
قاله أبو البقاء، وللنحاة في هذا المقام كلام محصله أنّ
استثناء شيئين بأداة واحدة بلا عطف غير جائز مطلقا عند
الأكثرين، لا على وجه البدل ولا غيره- ويجوز عند جماعة
مطلقا- وفصل بعضهم إن كان المستثنى منه مذكورا مع كل من
المستثنيين وهما بدلان جاز- وإلا فلا- واستدل من أجاز
مطلقا بقوله تعالى: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا
الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وأجاب من لم
يجوّز بأن النصب بفعل مقدر أي «اتبعوا» وبأن الظرف يكفيه
رائحة الفعل فيجوز فيه ما لا يجوز في غيره- قاله الرضيّ-
وهو مبنى الاختلاف في الآية، وقوله تعالى: بَغْياً
بَيْنَهُمْ متعلق بما تعلق به مِنْ والبغي- الظلم أو
الحسد، وبَيْنَهُمْ متعلق بمحذوف صفة بَغْياً وفيه إشارة-
على ما أرى- إلى أن هذا- البغي- قد باض وفرخ عندهم، فهو
يحوم عليهم ويدور بينهم لا طمع له في غيرهم، ولا ملجأ له
سواهم، وفيه إيذان بتمكنهم في ذلك وبلوغهم الغاية القصوى
فيه- وهو فائدة التوصيف بالظرف- وقيل: أشار بذلك إلى أن
البغي أمر مشترك بينهم وأنّ كلهم سفل، ومنشأ ذلك مزيد
حرصهم في الدنيا وتكالبهم عليها فَهَدَى اللَّهُ
(1/496)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ
الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ
اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ
مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا
تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
(215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ
وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ
قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ
أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ
أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ
يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ
اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ
فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ
نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ
الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ
إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ
فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ
الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ
اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ
خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا
تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ
مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ
أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو
إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ
آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى
فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ
فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ
فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ
مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلَا
تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ
تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ
اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ
نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا
الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ
مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ
أي بأمره أو بتوفيقه وتيسيره، ومِنْ بيان لِمَا والمراد
للحق الذي اختلف الناس فيه- فالضمير عام شامل للمختلفين
السابقين واللاحقين- وليس راجعا إلى الذين أوتوه كالضمائر
السابقة، والقرينة على ذلك عموم الهداية للمؤمنين السابقين
على اختلاف أهل الكتاب واللاحقين بعد اختلافهم، وقيل:
المراد من الَّذِينَ آمَنُوا أمة محمد صلى الله تعالى عليه
وسلم، والضمير في اخْتَلَفُوا للذين أوتوه أي الكتاب،
ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال:
اخْتَلَفُوا في يوم الجمعة، فأخذ اليهود يوم السبت
والنصارى يوم الأحد فَهَدَى اللَّهُ تعالى أمة محمد صلى
الله تعالى عليه وسلم ليوم الجمعة، واخْتَلَفُوا في
القبلة، فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس وهدي
الله تعالى أمّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للقبلة.
واخْتَلَفُوا في الصلاة فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من
يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي
وهو يمشي، فهدي الله تعالى أمة محمد صلى الله تعالى عليه
وسلم للحق من ذلك واخْتَلَفُوا في الصيام، فمنهم من يصوم
النهار والليل، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام، فهدي الله
أمّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للحق من ذلك.
واخْتَلَفُوا في إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقالت
اليهود: كان يهوديا، وقالت النصارى: كان نصرانيا، وجعله
الله تعالى: حَنِيفاً مُسْلِماً [آل عمران: 67] فهدي الله
تعالى أمّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للحق من ذلك.
وَاخْتَلَفُوا في عيسى عليه الصلاة والسلام، فكذبت به
اليهود وقالوا لأمّه بهتانا عظيما، وجعلته النصارى إلها
وولدا، وجعله الله تعالى روحه وكلمته، فهدي الله تعالى
أمّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للحق من ذلك وقراءة
أبيّ بن كعب «فهدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من
الحق بإذنه ليكونوا شهداء على الناس» .
وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
وهو طريق الحق الذي لا يضل سالكه، والجملة مقررّة لمضمون
ما قبلها.
(1/497)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا
الْجَنَّةَ نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما
أصابهم من الجهد والشدة والخوف والبرد وسوء العيش وأنواع
الأذى. حتى بلغت القلوب الحناجر، وقيل: في غزوة أحد، وقال
عطاء: لما دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه
المدينة اشتد الضر عليهم، لأنهم خرجوا بغير مال وتركوا
ديارهم وأموالهم بيد المشركين، وآثروا رضا الله تعالى
ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وأظهرت اليهود العداوة لرسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأسر قوم من الأغنياء
النفاق فأنزل الله تطييبا لقلوبهم هذه الآية، والخطاب إما
للمؤمنين خاصة، أو للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولهم،
ونسبة- الحسبان- إليه عليه الصلاة والسلام إما لأنه لما
كان يضيق صدره الشريف من شدائد المشركين نزل منزلة من يحسب
أن يدخل الجنة بدون تحمل المكاره، وإما على سبيل التغليب
كما في قوله سبحانه: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا
[الأعراف: 88] وأَمْ منقطعة- والهمزة المقدّرة- لإنكار ذلك
الحسبان وأنه لا ينبغي أن يكون، وقيل: متصلة بتقدير معادل،
وقيل: منقطعة بدون تقدير، وفي الكلام التفات إلا أنه غير
صريح من الغيبة إلى الخطاب لأن قوله سبحانه: كانَ النَّاسُ
أُمَّةً واحِدَةً كلام مشتمل على ذكر الأمم السابقة
والقرون الخالية، وعلى ذكر من بعث إليهم من الأنبياء وما
لقوا منهم من الشدائد، وإظهار المعجزات تشجيعا للرسول صلى
الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر على أذى
المشركين، أو للمؤمنين خاصة- فكانوا من هذا الوجه مرادين
غائبين- ويؤيده فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ
فإذا قيل: بعد أَمْ حَسِبْتُمْ كان نقلا من الغيبة إلى
الخطاب، أو لأنّ الكلام الأول تعريض للمؤمنين بعدم التثبت
والصبر على أذى المشركين، فكأنه وضع موضع كان من حق
المؤمنين
(1/498)
التشجيع والصبر تأسيا بمن قبلهم، كما يدل
عليه ما
أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي والإمام أحمد عن خباب بن
الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
ما لقينا من المشركين فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله
تعالى لنا/ فقال: «إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار
على مفرق رأسه فتخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه،
ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن
دينه» ثم قال: «والله ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من
صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله تعالى، والذئب على
غنمه، ولكنكم تستعجلون»
وهذا هو المضرب عنه- ببل- التي تضمنتها أَمْ أي دع ذلك-
أحسبوا أن يدخلوا الجنة- فترك هذا إلى الخطاب وحصل
الالتفات معنى، ومما ذكر يعلم وجه ربط الآية بما قبلها،
وقيل: وجه ذلك أنه سبحانه لما قال: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وكان المراد بالصراط الحق الذي
يفضي اتباعه إلى دخول الجنة بين أن ذلك لا يتم إلا باحتمال
الشدائد والتكليف وَلَمَّا يَأْتِكُمْ الواو للحال،
والجملة بعدها نصب على الحال أي غير آتيكم وَلَمَّا جازمة-
كلم- وفرق بينهما في كتب النحو، والمشهور أنها بسيطة،
وقيل: مركبة من- لم وما النافية- وهي نظيرة قد في أنّ
الفعل المذكور بعدها منتظر الوقوع.
مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي مثل مثلهم
وحالهم العجيبة، فالكلام على حذف مضاف، والَّذِينَ صفة
لمحذوف أي المؤمنين، ومِنْ قَبْلِكُمْ متعلق ب خَلَوْا وهو
كالتأكيد لما يفهم منه.
مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ بيان- للمثل- على
الاستئناف سواء قدّر كيف ذلك المثل أو لا، وجوّز أبو
البقاء كونها حالية بتقدير قد وَزُلْزِلُوا أي أزعجوا
إزعاجا شديدا بأنواع البلاء.
حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي
انتهى أمرهم من البلاء إلى حيث اضطروا إلى أن يَقُولَ
الرَّسُولُ وهو أعلم الناس بما يليق به تعالى، وما تقتضيه
حكمته، والمؤمنون المقتدون بآثاره، المهتدون بأنواره مَتى
يأتي نَصْرُ اللَّهِ طلبا وتمنيا له، واستطالة لمدة الشدة-
لا شكا وارتيابا- والمراد من الرَّسُولُ الجنس لا واحد
بعينه، وقيل: وهو اليسع، وقيل: شعياء، وقيل: أشعياء، وعلى
التعيين يكون المراد من الَّذِينَ خَلَوْا قوما بأعيانهم-
وهم أتباع هؤلاء الرسل- وقرأ نافع يَقُولَ بالرفع على أنها
حكاية حال ماضية ومَعَهُ يجوز أن يكون منصوبا ب يَقُولَ أي
إنهم صاحبوه في هذا القول وأن يكون منصوبا ب آمَنُوا أي
وافقوه في الإيمان أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ
استئناف نحوي على تقدير القول أي فقيل لهم حينئذ ذلك
تطييبا لأنفسهم بإسعافهم بمرامهم وإيثار الجملة الاسمية
على الفعلية المناسبة لما قبلها وتصديرها بحرف التنبيه
والتأكيد من الدلالة على تحقق مضمونها وتقريره ما لا يخفى،
واختيار حكاية الوعد بالنصر لما أنها في حكم إنشاء الوعد
للرسول والاقتصار على حكايتها دون حكاية النصر مع تحققه
للإيذان بعدم الحاجة إلى ذلك لاستحالة الخلف، وقيل: لما
كان السؤال- بمتى- يشير إلى استعلام القرب تضمن الجواب
القرب واكتفى به ليكون الجواب طبق السؤال، وجوز أن يكون
هذا واردا من جهته تعالى عند الحكاية على نهج الاعتراض لا
واردا عند وقوع المحكي، والقول بأن هذه الجملة: مقول
الرسول ومَتى نَصْرُ اللَّهِ تعالى مقول من معه على طريق
اللف والنشر الغير المرتب ليس بشيء، إما لفظا فلأنه لا
يحسن تعاطف القائلين دون المقولين، وإما معنى فلأنه لا
يحسن ذكر قول الرسول أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ في
الغاية التي قصد بها بيان تناهي الأمر في الشدة، والقول-
بأن ترك العطف للتنبيه على أن كلّا مقول لواحد منهما،
واحتراز عن توهم كون المجموع مقول واحد وتنبيه على أن
الرسول قال لهم في جوابهم وبأن منصب الرسالة يستدعي تنزيه
الرسول عن التزلزل- لا
(1/499)
ينبغي أن يلتفت إليه لأنه إذا ترك العطف لا
يكون معطوفا على القول الأول فكيف التنبيه على كون كل
مقولا لواحد منهما، ولا نأمن وراء منع كون منصب الرسالة
يستدعي ذلك التنزيه وليس التزلزل والانزعاج أعظم من الخوف،
وقد عرى الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم كما يصرح به
كثير من الآيات، وفي الآية رمز إلى أن الوصول إلى الجناب
الأقدس لا يتيسر إلا برفض اللذات ومكابدة المشاق كما ينبىء
عنه
خبر «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات»
وأخرج الحاكم وصححه عن أبي مالك قال: «قال رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم إن الله تعالى ليجرب أحدكم بالبلاء
وهو أعلم به كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار فمنهم من يخرج
كالذهب الإبريز فذلك الذي نجاه الله تعالى من السيئات
ومنهم من يخرج كالذهب الأسود فذلك الذي قد افتتن»
«ومن باب الإشارة في الآيات» وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يدعي المحبة
ويتكلم في دقائق الأسرار ويظهر خصائص الأحوال وهو في مقام
النفس الأمارة وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ من
المعارف والإخلاص بزعمه وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ شديد
الخصومة لأهل الله تعالى في نفس الأمر وَإِذا تَوَلَّى
سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها بإلقاء الشبه على
ضعفاء المريدين وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ ويحصد بمنجل تمويهاته
زرع الإيمان النابت في رياض قلوب السالكين ويقطع نسل
المرشدين وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ فكيف يدعي هذا
الكاذب محبة الله تعالى ويرتكب ما لا يحبه وَإِذا قِيلَ
لَهُ اتَّقِ اللَّهَ حملته الحمية النفسانية حمية الجاهلية
على الإثم لجاجا وحبا لظهور نفسه وزعما منه أنه أعلم بالله
سبحانه من ناصحه فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ أي يكفيه حبسه في
سجين الطبيعة وظلماتها، وهذه صفة أكثر أرباب الرسوم الذين
حجبوا عن إدراك الحقائق بما معهم من العلوم وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يبذل نفسه في سلوك سبيل الله طلبا لرضاه ولا
يلتفت إلى القال والقيل ولا يغلو لديه في طلب مولاه جليل
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ
وتسليم الوجود لله تعالى والخمود تحت مجاري القدرة لكم
وعليكم كافة فإن زللتم عن مقام التسليم والرضا بالقضاء من
بعد ما جاءتكم دلائل تجليات الأفعال والصفات، فاعلموا أن
الله تعالى عزيز غالب يقهركم، حكيم لا قهر إلا على مقتضى
الحكمة، هل ينظرون إلا أن يتجلى الله سبحانه في ظلل صفات
قهرية من جملة تجليات الصفات وصور ملائكة القوى السماوية،
وقضي الأمر بوصول كل إلى ما سبق له في الأزل وَإِلَى
اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ بالفناء كانَ النَّاسُ
أُمَّةً واحِدَةً على الفطرة ودين الحق في عالم الإجمال ثم
اختلفوا في النشأة بحسب اختلاف طبائعهم وغلبة صفات نفوسهم
واحتجاب كل بمادة بدنه فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ
ليدعوهم من الخلاف إلى الوفاق ومن الكثرة إلى الوحدة ومن
العداوة إلى المحبة فتفرقوا وتحزبوا عليهم وتميزوا،
فالسفليون ازدادوا خلافا وعنادا والعلويون هداهم الله
تعالى إلى الحق وسلكوا الصراط المستقيم أَمْ حَسِبْتُمْ
أَنْ تَدْخُلُوا جنة المشاهدة ومجالس الأنس بنور المكاشفة
وَلَمَّا يَأْتِكُمْ حال السالكين قبلكم مستهم بأساء
الفقراء وضراء المجاهدة وكسر النفس بالعبادة حتى تضجروا من
طول مدة الحجاب وعيل صبرهم عن مشاهدة الجمال وطلبوا نصر
الله تعالى بالتجلي، فأجيبوا: إذا بلغ السيل الزبى، وقيل:
لهم أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ برفع الحجاب وظهور آثار
الجمال قَرِيبٌ ممن بذل نفسه وصرف عن غير مولاه حسنه وتحمل
المشاق وذبح الشهوات بسيف الأشواق:
ومن لم يمت في حبه لم يعش به ... ودون اجتناء النحل ما جنت
النحل
يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية أبي صالح:
«كان عمرو بن الجموح شيخا كبيرا ذا مال كثير فقال: يا رسول
الله بماذا نتصدق وعلى من ننفق؟ فنزلت»
وفي رواية عطاء عنه لا إنها نزلت في رجل أتى النبي صلى
الله تعالى عليه وسلم فقال: إن لي دينارا فقال: أنفقه على
نفسك فقال: إن لي دينارين فقال:
(1/500)
أنفقهما على أهلك فقال: إن لي ثلاثة فقال:
أنفقها على خادمك فقال: إن لي أربعة فقال: أنفقها على
والديك فقال: إن لي خمسة فقال: أنفقها على قرابتك فقال: إن
لي ستة فقال: أنفقها في سبيل الله تعالى»
وعن ابن جريج قال: «سأل المؤمنون رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم أين يضعون أموالهم؟» فنزلت.
قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ ظاهر الآية أنه سئل عن المنفق فأجاب ببيان
المصرف صريحا لأنه أهم فإن اعتداد النفقة باعتباره، وأشار
إجمالا إلى بيان المنفق فإن: مِنْ خَيْرٍ يتضمن كونه حلالا
إذ لا يسمى ما عداه خيرا وإنما تعرض لذلك وليس في السؤال
ما يقتضيه لأن السؤال للتعلم لا للجدل، وحق المعلم فيه أن
يكون كطبيب رفيق يتحرى ما فيه الشفاء طلبه المريض أم لم
يطلبه، ولما كانت حاجتهم إلى من ينفق عليه كحاجتهم إلى ما
ينفق بين الأمرين وهذا كمن به صفراء فاستأذن طبيبا في أكل
العسل فقال: كله مع الخل، فالكلام إذا من أسلوب الحكيم،
ويحتمل أن يكون في الكلام ذكر المصرف أيضا كما تدل عليه
الرواية الأولى في سبب النزول إلا أنه لم يذكره في الآية
للإيجاز في النظم تعويلا على الجواب فتكون الآية جوابا
لأمرين مسؤول عنهما، والاقتصار في بيان المنفق على الإجمال
من غير تعرض للتفصيل كما في بيان المصرف للإشارة إلى كون
الثاني أهم، وهل تخرج الآية بذلك عن كونها من أسلوب الحكيم
أم لا؟ قولان أشهرهما الثاني حيث أجيب عن المتروك صريحا
وعن المذكور تبعا، والأكثرون على أن الآية في التطوع،
وقيل: في الزكاة، واستدل بها من أباح صرفها للوالدين، وفيه
أن عموم خَيْرٍ مما ينافي كونها في الزكاة لأن الفرض فيها
قدر معين بالإجماع ولم يتعرض سبحانه للسائلين، والرِّقابِ
إما اكتفاء بما ذكر في المواضع الأخر، وإما بناء على
دخولهم تحت عموم قوله تعالى: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ
فإنه شامل لكل خَيْرٍ واقع في أي مصرف كان وَما شرطية
مفعول به- لتفعلوا- والفعل أعم من الإنفاق وأتى بما يعم
تأكيدا للخاص الواقع في الجواب.
فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ يعلم كنهه كما يشير به صيغة
فعيل مع الجملة الاسمية المؤكدة، والجملة جواب الشرط
باعتبار معناها الكنائي إذ المراد منها توفية الثواب،
وقيل: إنها دليل الجواب، وليست به، ومناسبة هذه الآية لما
قبلها هو أن الصبر على النفقة وبذل المال من أعظم ما تحلى
به المؤمن وهو من أقوى الأسباب الموصلة إلى الجنة حتى
ورد «الصدقة تطفئ غضب الرب»
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أي قتال الكفار وهو فرض عين
إن دخلوا بلادنا، وفرض كفاية إن كانوا ببلادهم وقرىء
بالبناء للفاعل وهو الله عز وجل ونصب القتال، وقرىء أيضا
كتب عليكم القتل أي قتل الكفرة وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ عطف
على كتب وعطف الاسمية على الفعلية جائز كما نص عليه، وقيل:
الواو للحال، والجملة حال ورد بأن الحال المؤكدة لا تجيء-
بالواو- والمنتقلة لا فائدة فيها «والكره» بالضم- كالكره
بالفتح- وبهما قرىء «الكراهة» وقيل: المفتوح المشقة التي
تنال الإنسان من خارج والمضموم ما يناله من ذاته، وقيل:
المفتوح اسم بمعنى الإكراه، والمضموم بمعنى «الكراهة» وعلى
كل حال فإن كان مصدرا فمؤول أو محمول على المبالغة أو هو
صفة كخبز بمعنى مخبوز، وإن كان بمعنى الإكراه وحمل على
الكره عليه فهو على التشبيه البليغ كأنهم أكرهوا عليه
لشدته وعظم مشقته ثم كون القتل مكروها لا ينافي الإيمان
لأن تلك الكراهية طبيعية لما فيه من القتل والأسر وإفناء
البدن وتلف المال وهي لا تنافي الرضا بما كلف به كالمريض
الشارب للدواء البشع يكرهه لما فيه من البشاعة ويرضى به من
جهة أخرى.
وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وهو
جميع ما كلفوا به فإن الطبع يكرهه وهو مناط صلاحهم ومنه
القتال فإن فيه الظفر والغنيمة والشهادة التي هي السبب
الأعظم للفوز بغاية الكرامة.
(1/501)
وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ
شَرٌّ لَكُمْ وهو جميع ما نهوا عنه فإن النفس تحبه وتهواه
وهو يفضي بها إلى الردى، ومن ذلك ترك قتال الأعداء فإن فيه
الذل وضعف الأمر وسبي الذراري ونهب الأموال وملك البلاد
وحرمان الحظ الأوفر من النعيم الدائم، والجملتان الاسميتان
حالان من النكرة وهو قليل، ونص سيبويه على جوازه كما في
البحر، وجوز أبو البقاء أن يكونا صفة لها وساغ دخول الواو
لما أن صورة الجملة هنا كصورتها إذا كانت حالا وَعَسى
الأولى للاشفاق والثانية للترجي على ما ذهب إليه البعض،
وإنما ذكر عسى الدالة على عدم القطع لأن النفس إذا ارتاضت
وصفت انعكس عليها الأمر الحاصل لها قبل ذلك فيكون محبوبها
مكروها ومكروهها محبوبا فلما كانت قابلة بالارتياض لمثل
هذا الانعكاس لم يقطع بأنها تكره ما هو خير لها وتحب ما هو
شر لها فلا حاجة إلى أن يقال: إنها هنا مستعملة في التحقيق
كما في سائر القرآن ما عدا قوله تعالى: عَسى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَّ [التحريم: 5] وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما هو خير
لكم وما هو شر لكم وحذف المفعول للإيجاز وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ ذلك فبادروا إلى ما يأمركم به لأنه لا يأمركم
إلا بما علم فيه خيرا لكم وانتهوا عما نهاكم عنه لأنه لا
ينهاكم إلا عما هو شر لكم، ومناسبة هذه الآية لما قبلها
ظاهرة لأن فيها الجهاد وهو بذل النفس الذي هو فوق بذل
المال.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ
أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي من طريق
زيد بن رومان عن عروة قال: بعث رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم عبد الله بن جحش، وهو ابن عمة النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم إلى نخلة فقال: كن بها حتى تأتينا بخبر من
أخبار قريش ولم يأمره بقتال، وذلك في الشهر الحرام وكتب له
كتابا قبل أن يعلمه أين يسير فقال: اخرج أنت وأصحابك حتى
إذا سرت يومين فافتح كتابك، وانظر فيه فما أمرتك به فامض
له ولا تستكره أحدا من أصحابك على الذهاب معك. فلما سار
يومين فتح الكتاب فإذا فيه «أن امض حتى تنزل نخلة فأتنا من
أخبار قريش، بما اتصل إليك منهم» فقال لأصحابه: وكانوا
ثمانية حين قرأ الكتاب سمعا وطاعة من كان منكم له رغبة في
الشهادة فلينطلق معي فإني ماض لأمر رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم ومن كره ذلك منكم فليرجع فإن رسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم قد نهاني أن أستكره منكم أحدا
فمضى معه القوم حتى إذا كانوا بنجران أضل سعد بن أبي وقاص
وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه فتخلفا عليه
يطلبانه ومضى القوم حتى نزلوا نخلة فمر بهم عمرو بن
الحضرمي، والحكم بن كيسان، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة
ونوفل بن عبد الله معهم تجارة قد مروا بها من الطائف أدم
وزبيب فلما رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبد الله، وكان قد
حلق رأسه فلما رأوه حليقا قالوا: عمار ليس عليكم منهم بأس
وأتمر القوم بهم أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
وكان آخر يوم من جمادى فقالوا: لئن قتلتموهم إنكم
لتقتلونهم في الشَّهْرِ الْحَرامِ ولئن تركتموهم ليدخلن في
هذه الليلة- مكة الحرام- فليتمنعن منكم فأجمع القوم على
قتلهم فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم
فقتله واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت
نوفل وأعجزهم واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم فقال لهم والله ما أمرتكم بقتال في
الشهر الحرام فأوقف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
الأسيرين والعير فلم يأخذ منها شيئا فلما قال لهم رسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال:
سقط في أيديهم، وظنوا أن قد هلكوا وعنفهم إخوانهم من
المسلمين، وقالت قريش: حين بلغهم أمر هؤلاء قد سفك محمد
صلى الله تعالى عليه وسلم الدم الحرام وأخذ المال وأسر
الرجال، واستحل الحرام فنزلت فأخذ رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم العير وفدى الأسيرين، وفي سيرة ابن سيد
الناس أن ذلك في رجب وأنهم لقوا أولئك في آخر يوم منه، وفي
رواية الزهري عن عروة أنه لما بلغ كفار قريش تلك الفعلة
ركب وفد منهم حتى قدموا على النبي
(1/502)
صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: أيحل
القتال في الشهر الحرام؟ فأنزل الله تعالى الآية،
ومن هنا قيل: السائلون هم المشركون، وأيد بأن ما سيأتي من
ذكر الصد والكفر والإخراج أكبر شاهد صدق على ذلك ليكون
تعريضا بهم موافقا لتعريضهم بالمؤمنين.
واختار أكثر المفسرين أن السائلين هم المسلمون قالوا:
وأكثروا الروايات تقتضيه، وليس الشاهد مفصحا بالمقصود
والمراد من الشَّهْرِ الْحَرامِ رجب أو جمادى فأل فيه
للعهد، والكثير والأظهر أنها للجنس فيراد به الأشهر الحرم
وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب، وسميت حرما لتحريم
القتال فيها والمعنى يَسْئَلُونَكَ أي المسلمون أو الكفار
عن القتال في الشهر الحرام على أن قِتالٍ فِيهِ بدل اشتمال
من الشهر لما أن الأول غير واف بالمقصود مشوق إلى الثاني
ملابس له بغير الكلية والجزئية، ولما كان النكرة موصوفة أو
عاملة صح إبدالها من المعرفة على أن وجوب التوصيف إنما هو
في بدل الكل كما نص عليه الرضي، وقرأ عبد الله عن قتال وهو
أيضا بدل اشتمال إلا أنه بتكرير العامل، وقرأ عكرمة قتل
فيه وكذا في قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ أي عظيم وزرا، وفيه
تقرير لحرمة القتال في الشهر الحرام، وأن ما اعتقد من
استحلاله صلّى الله عليه وسلّم القتال فيه باطل، وما وقع
من أصحابه عليه الصلاة والسلام كان من باب الخطأ في
الاجتهاد وهو معفو عنه- بل
من اجتهد وأخطأ فله أجر واحد- كما في الحديث،
والأكثرون على أن هذا الحكم منسوخ بقوله سبحانه: فَإِذَا
انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:
5] فإن المراد بالأشهر الحرم أشهر معينة أبيح للمشركين
السياحة فيها بقوله تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة: 2] وليس المراد بها الأشهر
الحرم من كل سنة فالتقييد بها يفيد أن قتلهم بعد انسلاخها
مأمور به في جميع الأمكنة والأزمنة وهو نسخ الخاص بالعام،
وساداتنا الحنفية يقولون به، وأما الشافعية فيقولون: إن
الخاص سواء كان متقدما على العام أو متأخرا عنه مخصص له
لكون العام عندهم ظنيا والظني لا يعارض القطعي، وقال
الإمام: الذي عندي أن الآية لا تدل على حرمة القتال مطلقا
في الشهر الحرام لأن القتال فيها نكرة في حيز مثبت فلا تعم
فلا حاجة حينئذ إلى القول بالنسخ، واعترض بأنها عامة
لكونها موصوفة بوصف عام أو بقرينة المقام ولو سلم فقتال
المشركين مراد قطعا لأن قتال المسلمين حرام مطلقا من غير
تقييد بالأشهر الحرم، وفيه أنا لا نسلم أنها موصوفة لجواز
أن يكون الجار ظرفا لغوا ولو سلم فلا نسلم عموم الوصف بل
هو مخصص لها بالقتال الواقع في الشهر الحرام المعين،
والوصف المفيد للعموم هو الوصف المساوي عمومه عموم الجنس
كما في قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا
طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الإنعام: 38] وقول الشاعر:
ولا ترى الضب بها ينجحر. وكون الأصل مطابقة الجواب للسؤال
قرينة على الخصوص وكون المراد قتال المشركين على عمومه غير
مسلم لأن الكلام في القتال المخصوص ولو سلم عمومها في
السؤال فلا نسلم عمومها في الجواب بناء على ما ذكره الراغب
أن النكرة المذكورة إذا أعيد ذكرها يعاد معرفا نحو سألتني
عن رجل والرجل كذا وكذا ففي تنكيرها هنا تنبيه على أن ليس
المراد كل قتال حكمه هذا فإن قتال النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم لأهل مكة لم يكن هذا حكمه
فقد قال عليه الصلاة والسلام: «أحلت لي ساعة من نهار»
وحرمة قتال المسلمين مطلقا لا يخفى ما فيه لأن قتال أهل
البغي يحل وهم مسلمون فالإنصاف أن القول بالنسخ ليس
بضروري، نعم هو ممكن وبه قال ترجمان القرآن ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما كما رواه عنه الضحاك، وأخرج ابن أبي حاتم
عن سفيان الثوري أنه سئل عن هذه الآية فقال: هذا شيء منسوخ
ولا بأس بالقتال في الشهر الحرام، وخالف عطاء في ذلك فقد
روي عنه أنه سئل عن القتال في الشهر الحرام فحلف بالله
تعالى ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام
إلا أن يقاتلوا فيه وجعل ذلك حكما مستمرا إلى يوم القيامة
والأمة اليوم على خلافه في
(1/503)
سائر الأمصار وَصَدٌّ أي منع وصرف عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ وهو الإسلام قاله مقاتل، أو الحج قاله ابن
عباس والسدي، أو الهجرة كما قيل، أو سائر ما يوصل العبد
إلى الله تعالى من الطاعات، فالإضافة إما للعهد أو للجنس
وَكُفْرٌ بِهِ أي بالله أو بسبيله وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ
اختار أبو حيان عطفه على الضمير المجرور وإن لم يعد الجار،
وأجاز ذلك الكوفيون ويونس والأخفش وأبو علي وهو شائع في
لسان العرب نظما ونثرا، واعترض بأنه لا معنى للكفر بالمسجد
الحرام وهو لازم من العطف، وفيه بحث إذ الكفر قد ينسب إلى
الأعيان باعتبار الحكم المتعلق بها كقوله تعالى: فَمَنْ
يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ [البقرة: 256] واختار القاضي تقدير
مضاف معطوف على صَدٌّ أي وصد المسجد الحرام عن الطائفين
والعاكفين والركع السجود، واعترض بأن حذف المضاف وإبقاء
المضاف إليه بحاله مقصور على السماع ورد بمنع الإطلاق ففي
التسهيل إذا كان المضاف إليه إثر عاطف متصل به أو مفصول
بلا مسبوق بمضاف مثل المحذوف لفظا ومعنى جاز حذف المضاف
وإبقاء المضاف إليه على انجراره قياسا نحو ما مثل زيد
وأبيه يقولان ذلك- أي مثل أبيه- ونحو ما كل سوداء تمرة ولا
بيضاء شحمة، وإذا انتفى واحد من الشروط كان مقصورا على
السماع، وفيما نحن فيه سبق إضافة مثل ما حذف منه، واختار
الزمخشري عطفه على سبيل الله تعالى، واعترض بأن عطف
وَكُفْرٌ بِهِ على وَصَدٌّ مانع من ذلك إذ لا يقدم العطف
على الموصول على العطف على الصلة، وذكر لصحة ذلك وجهان،
أحدهما أن وَكُفْرٌ بِهِ في معنى الصد عن سبيل الله فالعطف
على سبيل التفسير كأنه قيل- وصد عن سبيل الله أعني كفرا به
والمسجد الحرام- والفاصل ليس بأجنبي، ثانيهما أن موضع
وَكُفْرٌ بِهِ عقيب وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ إلا أنه قدم
لفرط العناية كما في قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: 4] حيث كان من حق الكلام ولم يكن
أحد كفوا له، ولا يخفى أن الوجه الأول أولى لأن التقديم لا
يزيل محذورا الفصل ويزيد محذورا آخر، واختار السجاوندي
العطف على- الشهر الحرام- وضعف بأن القوم لم يسألوا عن
المسجد الحرام واختار أبو البقاء كونه متعلقا بفعل محذوف
دل عليه الصد- أي ويصدون عن المسجد الحرام- كما قال
سبحانه: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ
الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الفتح: 25] وضعف بأن حذف حرف الجر
وبقاء عمله مما لا يكاد يوجد إلا في الشعر، وقيل: إن الواو
للقسم وقعت في أثناء الكلام وهو كما ترى وَإِخْراجُ
أَهْلِهِ مِنْهُ وهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
والمؤمنون وإنما كانوا أهله لأنهم القائمون بحقوقه، وقيل:
إن ذلك باعتبار أنهم يصيرون أهله في المستقبل بعد فتح مكة
أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ خبر للأشياء المعدودة من كبائر
قريش، وأفعل من يستوي فيه الواحد والجمع المذكور والمؤنث.
والمفضل عليه محذوف أي مما فعلته السرية خطأ في الاجتهاد،
ووجود أصل الفعل في ذلك الفعل مبني على الزعم
وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ تذييل لما تقدم
للتأكيد عطف عليه عطف الحكم الكلي على الجزئي أي ما يفتن
به المسلمون ويعذبون به ليكفروا أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ
من القتل وما ذكر سابقا داخل فيه دخولا أوليا، وقيل:
المراد بالفتنة الكفر، والكلام كبرى لصغرى محذوفة، وقد سيق
تعليلا للحكم السابق وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ
حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ عطف على يَسْئَلُونَكَ
بجامع الاتحاد في المسند إليه إن كان السائلون هم
المشركون، أو معترضة إن كان السائلون غيرهم والمقصود
الاخبار بدوام عداوة الكفار بطريق الكناية تحذيرا
للمؤمنين عنهم وإيقاظا لهم إلى عدم المبالاة بموافقتهم في
بعض الأمور، وحَتَّى للتعليل، والمعنى لا يزالون يعاودونكم
لكي يردوكم عن دينكم، وقوله تعالى: إِنِ اسْتَطاعُوا متعلق
بما عنده، والتعبير بإن لاستبعاد استطاعتهم وأنها لا تجوز
إلا على سبيل الفرض كما يفرض المحال وفائدة التقييد بالشرط
التنبيه على سخافة عقولهم وكون دوام عداوتهم فعلا عبثا لا
يترتب عليه الغرض وليس متعلقا- بلا يزالون يقاتلونكم- إذ
لا معنى لدوامهم على العداوة إن استطاعوها لكنها مستبعدة.
وذهب ابن عطية إلى أن حَتَّى للغاية والتقييد بالشرط حينئذ
لإفادة أن الغاية
(1/504)
مستبعدة الوقوع والتقييد بالغاية الممتنع
وقوعها شائع كما في قوله تعالى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ
فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف: 40] وفيه أن استبعاد وقوع
الغاية مما يترتب عليه عدم انقطاع العداوة وقد أفاده صدر
الكلام، والقول بالتأكيد غير أكيد، نعم يمكن الحمل على
الغاية لو أريد من المقاتلة معناها الحقيقي ويكون الشرط
متعلقا- بلا يزالون- فيفيد التقييد أن تركهم المقاتلة في
بعض الأوقات لعدم استطاعتهم إلا أن المعنى حينئذ يكون
مبتذلا كما لا يخفى وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ
دِينِهِ الحق بإضلالهم وإغواهم، أو الخوف من عداوتهم
فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ بأن لم يرجع إلى الإسلام
فَأُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز
الصلة من الارتداد والموت على الكفر وما فيه من البعد
للإشعار ببعد منزلة من يفعل ذلك في الشر والفساد والجمع
والإفراد نظرا للفظ والمعنى حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي صارت
أعمالهم الحسنة التي عملوها في حالة الإسلام فاسدة بمنزلة
ما لم تكن، قيل وأصل الحبط فساد يلحق الماشية لأكل الحباط
وهو ضرب من الكلأ مضر، وفي النهاية أحبط الله تعالى عمله
أبطله يقال: حبط عمله وأحبط وأحبطه غيره، وهو من قولهم:
حبطت الدابة حبطا بالتحريك إذا أصابت مرعى طيبا فأفرطت في
الأكل حتى تنتفخ فتموت، وقرىء- حبطت- بالفتح وهو لغة فيه،
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لبطلان ما تخيلوه وفوات ما
للإسلام من الفوائد في الأولى وسقوط الثواب في الأخرى
وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ كسائر
الكفرة ولا يغني عنهم إيمانهم السابق على الردة شيئا،
واستدل الشافعي بالآية على أن الردة لا تحبط الأعمال حتى
يموت عليها وذلك بناء على أنها «لو أحبطت» مطلقا لما كان
للتقييد بقوله سبحانه: فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فائدة
والقول بأن فائدته أن «إحباط» جميع الأعمال حتى لا يكون له
عمل أصلا موقوف على الموت على الكفر حتى لو مات مؤمنا «لا
يحبط» إيمانه ولا عمل يقارنه وذلك لا ينافي إحباط الأعمال
السابقة على الارتداد بمجرد الارتداد مما لا معنى له لأن
المراد من الأعمال في الآية الأعمال السابقة على الارتداد
إذ لا معنى لحبوط ما لم يفعل فحينئذ لا يتأتى هذا القول
كما لا يخفى، وقيل: بناء على أنه جعل الموت عليها شرطا في
الإحباط وعند انتفاء الشرط ينتفي المشروط، واعترض بأن
الشرط النحوي والتعليقي ليس بهذا المعنى بل غايته السببية
والملزومية وانتفاء السبب أو الملزوم لا يوجب انتفاء
المسبب أو اللازم لجواز تعدد الأسباب ولو كان شرطا بهذا
المعنى لم يتصور اختلاف القول بمفهوم الشرط، وذهب إمامنا
أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أن مجرد الارتداد يوجب
الإحباط لقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ
حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة: 5] وما استدل به الشافعي ليس
صريحا في المقصود لأنه إنما يتم إذا كانت جملة، وَأُولئِكَ
إلخ تذييلا معطوفة على الجملة الشرطية، وأما لو كانت
معطوفة على الجزاء وكان مجموع الإحباط والخلود في النار
مرتبا على الموت على الردة فلا نسلم تماميته، ومن زعم ذلك
اعترض على الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه بأن اللازم
عليه حمل المطلق على المقيد عملا بالدليلين، وأجيب بأن حمل
المطلق على المقيد مشروط عنده يكون الإطلاق والتقييد في
الحكم واتحاد الحادثة وما هنا في السبب فلا يجوز الحمل
لجواز أن يكون المطلق سببا كالمقيد، وثمرة الخلاف على ما
قيل: تظهر فيمن صلى ثم ارتد ثم أسلم والوقت باق فإنه يلزمه
عند الإمام قضاء الصلاة خلافا للشافعي وكذا الحج واختلف
الشافعيون فيمن رجع إلى الإسلام بعد الردة هل يرجع له عمله
بثوابه أم لا؟ فذهب بعض إلى الأول فيما عدا الصحبة فإنها
ترجع مجردة عن الثواب، وذهب الجل إلى الثاني وأن أعماله
تعود بلا ثواب ولا فرق
بين الصحبة وغيرها، ولعل ذلك هو المعتمد في المذهب فافهم.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أخرج ابن أبي حاتم والطبراني في
الكبير من حديث جندب بن عبد الله أنها نزلت في السرية لما
ظن بهم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر وَالَّذِينَ
هاجَرُوا أي فارقوا أوطانهم، وأصله من الهجر ضد
(1/505)
الوصل وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
لإعلاء دينه وإنما كرر الموصول مع أن المراد بهما واحد
لتفخيم شأن الهجرة والجهاد فكأنهما وإن كانا مشروطين
بالإيمان في الواقع مستقلان في تحقق الرجاء، وقدم الهجرة
على الجهاد لتقدمها عليه في الوقوع تقدم الإيمان عليهما
أُولئِكَ المنعوتون بالنعوت الجليلة يَرْجُونَ رَحْمَتَ
اللَّهِ أي يؤملون تعلق رحمته سبحانه بهم أو ثوابه على
أعمالهم، ومنها تلك الغزاة في الشهر الحرام، واقتصر البعض
عليها بناء على ما
رواه الزهري أنه لما فرج الله تعالى عن أهل تلك السرية ما
كانوا فيه من غم طمعوا فيما عند الله تعالى من ثوابه
فقالوا: يا نبي الله أنطمع أن تكون غزوة نعطى فيها أجر
المهاجرين في سبيل الله تعالى فأنزل الله تعالى هذه الآية،
ولا يخفى أن العموم أعم نفعا وأثبت لهم الرجاء دون الفوز
بالمرجو للإشارة إلى أن العمل غير موجب إذ لا استحقاق به
ولا يدل دلالة قطعية على تحقق الثواب إذ لا علاقة عقلية
بينهما وإنما هو تفضل منه تعالى سيما والعبرة بالخواتيم
فلعله يحدث بعد ذلك ما يوجب الحبوط ولقد وقع ذلك والعياذ
بالله تعالى كثيرا فلا ينبغي الاتكال على العمل وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ تذييل لما تقدم وتأكيد له ولم يذكر
المغفرة فيما تقدم لأن رجاء الرحمة يدل عليها وقدم وصف
المغفرة لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
قال الواحدي: نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من
الأنصار أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا:
أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل ومسلبة للمال
فأنزل الله تعالى هذه الآية
وفي بعض الروايات «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
قدم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر فسألوه عن
ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال قوم: ما حرما علينا
فكانوا يشربون الخمر إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما
فدعا أناسا من الصحابة وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا وحضرت
صلاة المغرب فقدموا عليا كرم الله تعالى وجهه فقرأ قُلْ يا
أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: 1] إلخ بحذف لا فأنزل
الله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى
[النساء: 43] فقلّ من يشربها ثم اتخذ عتبان بن مالك صنيعا
ودعا رجالا من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى
لهم رأس بعير فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى أخذت منهم ثم
إنهم افتخروا عند ذلك وتناشدوا الأشعار فأنشد سعد ما فيه
هجاء الأنصار وفخر لقومه فأخذ رجل من الأنصار لحي البعير
فضرب به رأس سعد فشجه موضحة فانطلق سعد إلى رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم وشكا إليه الأنصار فقال: اللهم بين
لنا رأيك في الخمر بيانا شافيا فأنزل الله تعالى إِنَّمَا
الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله تعالى:
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ
وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام فقال عمر رضي الله تعالى عنه:
انتهينا يا رب.
وعن علي كرم الله تعالى وجهه لو وقعت قطرة منها في بئر
فبنيت في مكانها منارة لم أؤذن عليها ولو وقعت في بحر ثم
جف فنبت فيه الكلأ لم أرعه دابتي.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لو أدخلت أصبعي فيها لم
تتبعني- وهذا هو الإيمان والتقى حقا.
والخمر عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه التي من
ماء العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد وسميت بذلك لأنها
تخمر العقل أي تستره ومنه خمار المرأة لستره وجهها،
والخامر وهو من يكتم الشهادة، وقيل: لأنها تغطى حتى تشتد،
ومنه «خمروا آنيتكم» أي غطوها، وقيل: لأنها تخالط العقل
وخامره داء خالطه، وقيل: لأنها تترك حتى تدرك، ومنه اختمر
العجين أي بلغ إدراكه وهي أقوال متقاربة، وعليها فالخمر
مصدر يراد به اسم الفاعل أو المفعول ويجوز أن يبقى على
مصدريته للمبالغة. وذهب الإمامان إلى عدم اشتراط القذف
ويكفي الاشتداد لأن المعنى المحرم يحصل به، وللإمام أن
الغليان بداية الشدة وكمالها بقذف الزبد وسكونه إذ به
يتميز الصافي من الكدر وأحكام الشرع قطعية فتناط بالنهاية
كالحد وإكفار المستحل وحرمة البيع، وأخذ بعضهم بقولهما في
حرمة الشرب احتياطا، ثم إطلاق
(1/506)
الخمر على غير ما ذكر مجاز عندنا وهو
المعروف عند أهل اللغة، ومن الناس من قال هو حقيقة في كل
مسكر لما أخرج الشيخان، وأبو داود والترمذي والنسائي «كل
مسكر خمر» .
وأخرج أبو داود نزل تحريم الخمر يوم نزل وهو من خمسة من
العنب والتمر والحنطة والشعير والذرة، والْخَمْرِ ما خامر
العقل، وأخرج مسلم عن أبي هريرة الْخَمْرِ من هاتين
الشجرتين،- وأشار إلى الكرم والنخلة- وأخرج البخاري عن أنس
«حرّمت الخمر حين حرمت» وما يتخذ من خمر الأعناب إلا قليل،
وعامة خمرنا البسر والتمر، ويمكن أن يجاب أن المقصود من
ذلك كله بيان الحكم، وتعليم أن ما أسكر حرام- كالخمر- وهو
الذي يقتضيه منصب الإرشاد- لا تعليم اللغات العربية- سيما
والمخاطبون في الغاية القصوى من معرفتها، وما يقال: إنه
مشتق من مخامرة العقل، وهي موجودة في كل مسكر لا يقتضي
العموم، ولا ينافي كون الاسم خاصا فيما تقدم فإن النجم
مشتق من الظهور، ثم هو اسم خاص للنجم المعروف- لا لكل ما
ظهر- وهذا كثير النظير، وتوسط بعضهم فقال: إن الْخَمْرِ
حقيقة في لغة العرب في التي من ماء العنب إذا صار مسكرا،
وإذا استعمل في غيره كان مجازا إلا أن الشارع جعله حقيقة
في كل مسكر شابه موضوعه اللغوي، فهو في ذلك حقيقة شرعية
كالصلاة، والصوم. والزكاة في معانيها المعروفة شرعا،
والخلاف قوي ولقوّته ووقوع الإجماع على تسمية المتخذ من
العنب خمرا دون المسكر من غيره، أكفروا مستحل الأول، ولم
يكفروا مستحل الثاني بل قالوا: إن عين الأوّل حرام غير
معلول بالسكر ولا موقوف عليه، ومن أنكر حرمة العين وقال:
إن السكر منه حرام لأنه به يحصل الفساد فقد كفر لجحوده
الكتاب إذ سماه رجسا فيه والرجس محرّم العين فيحرم كثيره
وإن لم يسكر- وكذا قليله ولو قطرة- ويحد شاربه مطلقا،
وفي الخبر «حرّمت الخمر لعينها» وفي رواية «بعينها قليلها
وكثيرها سواء»
والسكر من كل شراب، وقالوا: إن الطبخ لا يؤثر لأنه للمنع
من ثبوت الحرمة- لا لرفعها بعد ثبوتها- إلا أنه لا يحد فيه
ما لم يسكر منه بناء على أن الحد بالقليل النيء خاصة- وهذا
قد طبخ- وأما غير ذلك فالعصير إذا طبخ حتى يذهب أقل من
ثلثيه وهو المطبوخ أدنى طبخة- ويسمى الباذق- والمنصف وهو
ما ذهب نصفه بالطبخ فحرام عندنا إذا غلى واشتدّ وقذف
بالزبد أو إذا اشتد على الاختلاف، وقال الأوزاعي وأكثر
المعتزلة: إنه مباح لأنه مشروب طيب- وليس بخمر- ولنا أنه
رقيق ملد مطرب، ولذا يجتمع عليه الفساق فيحرم شربه رفعا
للفساد المتعلق به، وأما نقيع التمر وهو السكر- وهو النيء
من ماء التمر- فحرام مكروه، وقال شريك: إنه مباح للامتنان
ولا يكون بالمحرم، ويرده إجماع الصحابة، والآية محمولة على
الابتداء كما أجمع عليه المفسرون، وقيل: أراد بها التوبيخ
أي «أتتخذون منه سكرا، وتدعون رزقا حسنا» وأمّا نقيع
الزبيب- وهو النيء من ماء الزبيب- فحرام إذا اشتدّ وغلى،
وفيه خلاف الأوزاعي، ونبيذ الزبيب والتمر إذا طبخ كل واحد
منهما أدنى طبخة حلال، وإن اشتدّ إذا شرب منه ما يغلب على
ظنه أنه لا يسكر من غير لهو ولا طرب عند أبي حنيفة وأبي
يوسف وعند محمد والشافعي حرام ونبيذ العسل والتين والحنطة
والذرة والشعير وعصير العنب إذا طبخ وذهب ثلثاه حلال عند
الإمام الأوّل، والثاني، وعند محمد والشافعي حرام أيضا،
وأفتى المتأخرون بقول محمد في سائر الأشربة، وذكر ابن
وهبان أنه مروي عن الكل ونظم ذلك فقال:
وفي عصرنا فاختير حد وأوقعوا ... طلاقا لمن من مسكر الحب
يسكر
وعن كلهم يروى، وأفتى محمد ... بتحريم ما قد- قلّ- وهو
المحرر
وعندي أنّ الحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن الشراب المتخذ
مما عدا العنب كيف كان وبأي اسم سمي متى كان بحيث يسكر من
لم يتعوّده حرام- وقليله ككثيره- ويحدّ شاربه ويقع طلاقه
ونجاسته غليظة.
(1/507)
وفي الصحيحين أنه صلى الله تعالى عليه وسلم
سئل عن النقيع- وهو نبيذ العسل- فقال: «كل شراب أسكر فهو
حرام»
وروى أبو داود «نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن
كل مسكر ومفتر»
وصح «ما أسكر كثيره فقليله حرام»
وفي حديث آخر «ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام»
والأحاديث متظافرة على ذلك، ولعمري إنّ اجتماع الفساق في
زماننا على شرب المسكرات مما عدا الْخَمْرِ ورغبتهم فيها
فوق اجتماعهم عى شرب الْخَمْرِ ورغبتهم فيه بكثير، وقد
وضعوا لها أسماء- كالعنبرية والإكسير- ونحوهما ظنا منهم
أنّ هذه الأسماء تخرجها من الحرمة وتبيح شربها للأمة-
وهيهات هيهات- الأمر وراء ما يظنون، فإنا لله وإنا إليه
راجعون، نعم حرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر حتى لا يكفر
مستحلها كما قدّمنا لأنها اجتهادية، ولو ذهب ذاهب إلى
القول بالتكفير لم يبق في يده من الناس اليوم إلا قليل
وَالْمَيْسِرِ مصدر ميمي من- يسر- كالموعد والمرجع يقال:
يسرته إذا قمرته واشتقاقه إما من- اليسر- لأنه أخذ المال
بيسر وسهولة، أو من- اليسار- لأنه سلب له، وقيل: من يسروا
الشيء إذا اقتسموه، وسمي المقامر- ياسرا- لأنه بسبب ذلك
الفعل يجزىء لحم الجزور، وقال الواحدي: من يسر الشيء إذا
وجب، والياسر الواجب بسبب القدح، وصفته أنه كانت لهم عشرة
أقداح هي الأزلام والأقلام الفذ والتوأم والرقيب والحلس
والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفيح والوغد لكل واحد
منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزئونها ثمانية وعشرين
إلا الثلاثة: وهو المنيح والسفيح والوغد، للفذ سهم،
وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس
خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة يجعلونها في الربابة- وهي
خريطة- ويضعونها على يدي عدل ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج
باسم رجل رجل قدحا منها، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء
أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح مما لا
نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله مع حرمانه،
وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها،
ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم، ونقل
الأزهري كيفية أخرى لذلك ولم يذكر- الوغد- في الأسماء بل
ذكر غيره، والذي اعتمده الزمخشري وكثيرون ما ذكرناه، وقد
نظم بعضهم هذه الأسماء فقال:
كل سهام الياسرين عشره ... فأودعوها صحفا منشره
لها فروض ولها نصيب ... الفذ والتوأم والرقيب
والحلس يتلوهن ثم النافس ... وبعده مسبلهن السادس
ثم المعلى كاسمه المعلى ... صاحبه في الياسرين الأعلى
والوغد والسفيح والمنيح ... غفل فما فيما يرى ربيح
وفي حكم ذلك جميع أنواع القمار من النرد والشطرنج، وغيرهما
حتى أدخلوا فيه لعب الصبيان بالجوز والكعاب والقرعة في غير
القسمة وجميع أنواع المخاطرة والرهان، وعن ابن سيرين- كل
شيء فيه خطر فهو من الميسر- ومعنى الآية يَسْئَلُونَكَ عما
في تعاطي هذين الأمرين، ودل على التقدير بقوله تعالى: قُلْ
فِيهِما إذ المراد في تعاطيهما بلا ريب إِثْمٌ كَبِيرٌ من
حيث إن تناولهما مؤدّ إلى ما يوجب- الإثم- وهو ترك
المأمور، وفعل المحظور وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ من اللذة
والفرح وهضم الطعام وتصفية اللون وتقوية الباه وتشجيع
الجبان وتسخية البخيل وإعانة الضعيف. وهي باقية قبل
التحريم وبعده، وسلبها بعد التحريم مما لا يعقل ولا يدل
عليه دليل،
وخبر «ما جعل الله تعالى شفاء أمتي فيما حرّم عليها»
لا دليل فيه عند التحقيق كما لا يخفى وَإِثْمُهُما
أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما أي المفاسد التي تنشأ منها أعظم
من المنافع المتوقعة فيهما. فمن مفاسد الخمر إزالة العقل
الذي هو أشرف صفات الإنسان، وإذا
(1/508)
كانت عدوة للأشرف لزم أن تكون أخس الأمور
لأن العقل إنما سمي عقلا لأنه يعقل- أي يمنع صاحبه عن
القبائح التي يميل إليها بطبعه- فإذا شرب زال ذلك العقل
المانع عن القبائح وتمكن إلفها- وهو الطبع- فارتكبها وأكثر
منها، وربما كان ضحكة للصبيان حتى يرتد إليه عقله. ذكر ابن
أبي الدنيا أنه مرّ بسكران وهو يبول بيده ويغسل به وجهه
كهيئة المتوضئ ويقول: الحمد لله الذي جعل الإسلام نورا
والماء طهورا. وعن العباس بن مرداس أنه قيل له في
الجاهلية:
ألا تشرب الخمر فإنها تزيد في حرارتك؟ فقال: ما أنا بآخذ
جهلي بيدي فأدخله جوفي، ولا أرضي أن أصبح سيد قوم وأمسي
سفيههم، ومنها صدّها عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة
وإيقاعها العداوة والبغضاء غالبا. وربما يقع القتل بين
الشاربين في مجلس الشرب، ومنها أن الإنسان إذا ألفها اشتد
ميله إليها وكاد يستحيل مفارقته لها وتركه إياها، وربما
أورثت فيه أمراضا كانت سببا لهلاكه. وقد ذكر الأطباء لها
مضار بدنية كثيرة كما لا يخفى على من راجع كتب الطب،
وبالجملة لو لم يكن فيها سوى إزالة العقل والخروج عن حد
الاستقامة لكفى فإنه إذا اختل العقل حصلت الخبائث بأسرها،
ولذلك
قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «اجتنبوا الخمر فإنها أم
الخبائث»
ولم يثبت أن الأنبياء عليهم السلام شربوها في وقت أصلا،
ومن مفاسد الْمَيْسِرِ أن فيه أكل الأموال بالباطل وأنه
يدعو كثيرا من المقامرين إلى السرقة وتلف النفس وإضاعة
العيال وارتكاب الأمور القبيحة والرذائل الشنيعة والعداوة
الكامنة والظاهرة، وهذا أمر مشاهد لا ينكره إلا من أعماه
الله تعالى وأصمه، ولدلالة الآية على أعظمية المفاسد ذهب
بعض العلماء إلى أنها هي المحرمة للخمر فإن المفسدة إذا
ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل وزاد بعضهم على ذلك
بأن فيها الإخبار بأن فيها الإثم الكبير، والإثم إما
العقاب أو سببه، وكل منهما لا يوصف به إلا المحرم، والحق
أن الآية ليست نصا في التحريم كما قال قتادة: إذ للقائل أن
يقول: الإثم بمعنى المفسدة، وليس رجحان المفسدة مقتضيا
لتحريم الفعل بل لرجحانه، ومن هنا شربها كبار الصحابة رضي
الله تعالى عنهم بعد نزولها، وقالوا: إنما نشرب ما ينفعنا،
ولم يمتنعوا حتى نزلت آية المائدة فهي المحرمة من وجوه كما
سيأتي إن شاء الله تعالى، وقرىء إثم كثير بالمثلثة، وفي
تقدم الإثم ووصفه بالكبر أو الكثرة وتأخير ذكر المنافع مع
تخصيصها بالناس من الدلالة على غلبة الأول ما لا يخفى،
وقرأ أبيّ- وإثمهما أقرب من نفعهما- وَيَسْئَلُونَكَ ماذا
يُنْفِقُونَ
أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن نفرا من
الصحابة أمروا بالنفقة في سبيل الله تعالى أتوا النبي صلى
الله تعالى عليه وسلم فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة
التي أمرنا بها في أموالنا فما ننفق منها فنزلت،
وكان قبل ذلك ينفق الرجل ماله حتى ما يجد ما يتصدق، ولا ما
يأكل حتى يتصدق عليه،
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبان عن يحيى أنه بلغه أن معاذ
بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالا:
يا رسول الله إن لنا أرقاء وأهلين فما ننفق من أموالنا
فأنزل الله تعالى هذه الآية،
وهي معطوفة على يَسْئَلُونَكَ قبلها عطف القصة على القصة،
وقيل: نزلت في عمرو بن الجموح كنظيرتها، وكأنه سئل أولا عن
المنفق والمصرف ثم سئل عن كيفية الإنفاق بقرينة الجواب
فالمعنى يسألونك عن صفة ما ينفقونه قُلِ الْعَفْوَ أي صفته
أن يكون عفوا فكلمة «ما» للسؤال عن الوصف كما يقال ما زيد؟
فيقال كريم إلا أنه قليل في الاستعمال وأصل العفو نقيض
الجهد، ولذا يقال- للأرض الممهدة السهلة الوطء- عفو،
والمراد به ما لا يتبين في الأموال، وفي رواية عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما الفضل من العيال، وعن الحسن ما لا
يجهد،
أخرج الشيخان وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى
وابدأ بمن تعول
وأخرج ابن خزيمة عنه أيضا أنه قال: «قال رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم: خير الصدقة ما أبقت غني واليد
العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول تقول المرأة
أنفق عليّ أو طلقني، ويقول مملوكك أنفق علي أو بعني، ويقول
ولدك إلى من تكلني»
وأخرج ابن سعد عن جابر قال: قدم أبو حصين السلمي بمثل بيضة
الحمامة من ذهب فقال: «يا رسول الله
(1/509)
أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك
غيرها فأعرض عنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم
أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك فأعرض عنه ثم
أتاه من ركنه الأيسر فأعرض عنه ثم أتاه من خلفه فأخذها
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحذفه بها فلو أصابته
لأوجعته أو لعقرته فقال: يأتي أحدكم بما يملك فيقول: هذه
صدقة ثم يقعد يتكفف الناس خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى
وابدأ بمن تعول» .
وقرأ أبو عمرو بالرفع بتقدير المبتدأ على أن ماذا
يُنْفِقُونَ مبتدأ وخبر، والباقون بالنصب بتقدير الفعل،
وماذا مفعول يُنْفِقُونَ ليطابق الجواب السؤال كَذلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي مثل ما بين أن العفو
أصلح من الجهد لأنه أبقى للمال وأكثر نفعا في الآخرة
فالمشار إليه ما يفهم من قوله سبحانه: قُلِ الْعَفْوَ
وإيراد صيغة البعيد مع قربه لكونه معنى متقدم الذكر، ويجوز
أن يكون المشار إليه جميع ما ذكر من قوله سبحانه:
يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ إذ لا مخصص مع كون التعميم
أفيد والقرب إنما يرجح القريب على ما سواه فقط وجعل المشار
إليه قوله عز شأنه: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما
على ما فيه لا يخفى بعده، والكاف في موضع النصب صفة
لمحذوف، واللام في الْآياتِ للجنس أي يبين لكم الآيات
المشتملة على الأحكام تبيينا مثل هذا التبيين إما بإنزالها
واضحة الدلالة، أو بإزالة إجمالها بآية أخرى أو ببيان من
قبل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وكان مقتضى الظاهر أن
يقال- كذلكم- على طبق لَكُمُ لكنه وحد بتأويل نحو القبيلة،
أو الجمع ما هو مفرد اللفظ جمع المعنى روما للتخفيف لكثرة
لحوق علامة الخطاب باسم الإشارة، وقيل: إن الإفراد للإيذان
بأن المراد به كل من يتلقى الكلام كما في قوله تعالى:
ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ [البقرة: 52]
وفيه أنه يلزم تعدد الخطاب في كلام واحد من غير عطف وذا لا
يجوز كما نص عليه الرضي لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي في
الآيات فتستنبطوا الأحكام منها وتفهموا المصالح والمنافع
المنوطة بها وبهذا التقدير حسن كون ترجي التفكر غاية
لتبيين الآيات فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي في أمورهما
فتأخذون بالأصلح منهما وتجتنبون عما يضركم ولا ينفعكم أو
يضركم أكثر مما ينفعكم، والجار بعد تقدير المضاف متعلق ب
تَتَفَكَّرُونَ بعد تقييده بالأول، وقيل: يجوز أن يتعلق ب
يُبَيِّنُ أي يبين لكم الآيات فيما يتعلق بأمور الدنيا
والآخرة لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ وقدم التفكر للاهتمام،
وفيه أنه خلاف ظاهر النظم مع أن ترجي أصل التفكر ليس غاية
لعموم التبيين فلا بد من عموم التفكر فيكون المراد- لعلكم
تتفكرون في أمور الدنيا والآخرة- وفي التكرار ركاكة، وقيل:
متعلق بمحذوف وقع حالا من الآيات أي يبينها لكم كائنة
فيهما أي مبينة لأحوالكم المتعلقة بهما ولا يخفى ما فيه،
ومن الناس من لم يقدر- ليتفكرون- متعلقا وجعل المذكور
متعلقا بها أي بين الله لكم الآيات لتتفكروا في الدنيا
وزوالها والآخرة وبقائها فتعلموا فضل الآخرة على الدنيا
وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وقتادة والحسن.
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى عطف على ما قبله من نظيره،
أخرج أبو داود والنسائي وابن جرير وجماعة عن ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما قال لما أنزل الله تعالى: وَلا
تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ
[الإنعام: 152، الإسراء: 34] إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
أَمْوالَ الْيَتامى [النساء: 10] الآية انطلق من كان عنده
يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل له
الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فيرمى به فاشتد
ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم
فنزلت،
والمعنى- يسألونك عن القيام بأمر اليتامى، أو التصرف في
أموالهم، أو عن أمرهم وكيف يكونون معهم- قُلْ إِصْلاحٌ
لَهُمْ خَيْرٌ أي مداخلتهم مداخلة يترتب عليها إصلاحهم أو
إصلاح أموالهم بالتنمية والحفظ خير من مجانبتهم، وفي
الاحتمال الأول إقامة غاية الشيء مقامه وَإِنْ
تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ عطف على سابقه
(1/510)
والمقصود الحث على المخالطة المشروعة
بالإصلاح مطلقا أي إن تخالطوهم في الطعام والشراب والمسكن
والمصاهرة تؤدوا اللائق بكم لأنهم إخوانكم أي في الدين
وبذلك قرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وأخرج عبد بن حميد
عن المخالطة أن يشرب من لبنك وتشرب من لبنه ويأكل في قصعتك
وتأكل في قصعته ويأكل من تمرتك وتأكل من تمرته، واختار أبو
مسلم الأصفهاني أن المراد بالمخالطة المصاهرة، وأيد بما
نقله الزجاج كانوا يظلمون اليتامى فيتزوجون منهم العشرة
ويأكلون أموالهم فشدد عليهم في أمر اليتامى تشديدا خافوا
معه التزوج بهم فنزلت هذه الآية فأعلمهم سبحانه أن الإصلاح
لهم خير الأشياء وأن مخالطتهم في التزويج مع تحري الإصلاح
جائزة وبأن فيه على هذا الوجه تأسيسا إذ المخالطة بالشركة
فهمت مما قبل وبأن المصاهرة مخالطة مع اليتيم نفسه بخلاف
ما عداها وبأن المناسبة حينئذ لقوله تعالى: فَإِخْوانُكُمْ
ظاهرة لأنها المشروطة بالإسلام فإن اليتيم إذا كان مشركا
يجب تحري الإصلاح في مخالطته فيما عدا المصاهرة وبأنه
ينتظم على ذلك النهي الآتي بما قبله كأنه قيل: المخالطة
المندوبة إنما هي في اليتامى الذين هم إخوانكم فإن كان
اليتيم من المشركات فلا تفعلوا ذلك، ولا يخفى أن ما نقله
الزجاج أضعف من الزجاج إذ لم يثبت ذلك في أسباب النزول في
كتاب يعول عليه، والزجاج وأمثاله ليسوا من فرسان هذا الشأن
وبأن التأسيس لا ينافي الحث على المخالطة لما أن القوم
تجنبوا عنها كل التجنب وأن إطلاق المخالطة أظهر من تخصيصها
بخلط نفسه وأن المناسبة والانتظام حاصلان بدخول المصاهرة
في مطلق المخالطة وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ في
أمورهم بالمخالطة مِنَ الْمُصْلِحِ لها بها فيجازي كلّا
حسب فعله أو نيته ففي الآية وعيد ووعدهم، وقدم المفسد
اهتماما بإدخال الروع عليه وأل في الموضعين للعهد، وقيل:
للاستغراق ويدخل المعهود دخولا أوليا، وكلمة مِنَ للفضل
وضمن يعلم معنى يميز فلذا عداه بها وَلَوْ شاءَ اللَّهُ
لَأَعْنَتَكُمْ أي لضيق عليكم ولم يجوز لكم مخالطتهم، أو
لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا- قاله ابن عباس رضي
الله تعالى عنه- وأصل الإعنات الحمل على مشقة لا تطاق
ثقلا، ويقال: عنت العظم عنتا إذا أصابه وهن أو كسر بعد
جبر، وحذف مفعول المشيئة لدلالة الجواب عليه، وفي ذلك
إشعار بكمال لطفه سبحانه ورحمته حيث لم يعلق مشيئته بما
يشق علينا في اللفظ أيضا، وفي الجملة تذكير بإحسانه تعالى
على أوصياء اليتامى إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على أمره
لا يعجزه أمر من الأمور التي من جملتها إعناتكم حَكِيمٌ
فاعل لأفعاله حسبما تقتضيه الحكمة وتتسع له الطاقة التي هي
أساس التكليف، وهذه الجملة تذييل وتأكيد لما تقدم من حكم
النفي والإثبات- أي ولو شاء لأعنتكم لكونه غالبا- لكنه لم
يشأ لكونه حكيما. وفي الآية- كما قال الكيا- دليل لمن جوز
خلط مال الولي بمال اليتيم والتصرف فيه بالبيع والشراء
ودفعه مضاربة إذا وافق الإصلاح، وفيها دلالة على جواز
الاجتهاد في أحكام الحوادث لأن الإصلاح الذي تضمنته الآية
إنما يعلم من الاجتهاد وغلبة الظن وفيها دلالة على أنه لا
بأس بتأديب اليتيم وضربه بالرفق لإصلاحه ووجه مناسبتها لما
قبلها أنه سبحانه لما ذكر السؤال عن الخمر والميسر وكان في
تركها مراعاة لتنمية المال ناسب ذلك النظر في حال اليتيم
فالجامع بين الآيتين أن في ترك الخمر والميسر إصلاح
أحوالهم أنفسهم. وفي النظر في أحوال اليتامى إصلاحا لغيرهم
ممن هو عاجز أن يصلح نفسه فمن ترك ذلك وفعل هذا فقد جمع
بين النفع لنفسه ولغيره وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ
حَتَّى يُؤْمِنَ
روى الواحدي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه «أن
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث رجلا من غني يقال
له مرثد بن أبي مرثد حليفا لبني هاشم إلى مكة ليخرج أناسا
من المسلمين بها أسرى فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها
عناق وكانت خليلة له في الجاهلية فلما أسلم أعرض عنها
فأتته فقالت: ويحك يا مرثد ألا تخلو فقال لها: إن الإسلام
قد حال بيني وبينك وحرمه علينا ولكن إن شئت تزوجتك فقالت:
نعم فقال إذا رجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
استأذنته في ذلك ثم تزوجتك فقالت له: أبي تتبرم؟ ثم
استعانت عليه فضربوه ضربا وجيعا
(1/511)
ثم خلوا سبيله فلما قضى حاجته بمكة انصرف
إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم راجعا وأعلمه الذي
كان من أمره وأمر عناق وما لقي بسببها فقال: يا رسول الله
أيحل أن أتزوجها- وفي رواية- إنها تعجبني فنزلت»
وتعقب ذلك السيوطي بأن هذا ليس سببا لنزول هذه الآية وإنما
هو سبب في نزول آية النور [3] الزَّانِي لا يَنْكِحُ
إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً
وروى السدي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه نزلت
في عبد الله بن رواحة وكانت له أمة سوداء وأنه غضب عليها
فلطمها ثم إنه فزع فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
فأخبره خبرها فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: «ما
هي يا عبد الله؟ فقال: هي يا رسول الله تصوم وتصلي وتحسن
الوضوء وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله فقال يا عبد
الله هي مؤمنة قال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق نبيا
لأعتقنها ولأتزوجنها ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين
فقالوا: أنكح أمة وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين
وينحكوهم رغبة في أنسابهم فأنزل الله تعالى وَلا
تَنْكِحُوا الآية»
وقرىء بفتح- التاء- وبضمها وهو المروي عن الأعمش أي لا
تتزوجوهن أو لا تزوجوهن من المسلمين وحمل كثير من أهل
العلم المشركات على ما عدا الكتابيات فيجوز نكاح الكتابيات
عنده لقوله تعالى:
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
وَالْمُشْرِكِينَ [البينة: 1] وما يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ
[البقرة: 105] والعطف يقتضي المغايرة وأخرج ابن حميد عن
قتادة المراد بالمشركات مشركات العرب التي ليس لهن كتاب،
وعن حماد قال: سألت إبراهيم عن تزويج اليهودية والنصرانية
فقال: لا بأس به فقلت: أليس الله تعالى يقول: وَلا
تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ؟ فقال: إنما ذلك المجوسيات وأهل
الأوثان، وذهب البعض إلى أنها تعم الكتابيات قيل: لأن من
جحد نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام فقد أنكر معجزته
وأضافها إلى غيره تعالى وهذا هو الشرك بعينه ولأن الشرك
وقع في مقابلة الإيمان فيما بعد ولأنه تعالى أطلق الشرك
على أهل الكتاب لقوله: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ
اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ
[التوبة: 30] إلى قوله سبحانه: عَمَّا يُشْرِكُونَ
[التوبة: 30] وأخرج البخاري والنحاس في ناسخه عن نافع عن
ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان إذا سئل عن نكاح الرجل
النصرانية أو اليهودية قال حرم الله تعالى المشركات على
المسلمين ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة
ربها عيسى أو عبد من عباد الله تعالى، وإلى هذا ذهب
الإمامية وبعض الزيدية، وجعلوا آية [المائدة: 5]
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ منسوخة
بهذه الآية نسخ الخاص بالعام وتلك وإن تأخرت تلاوة مقدمة
نزولا والإطباق على أن سورة المائدة لم ينسخ منها شيء
ممنوع ففي الإتقان ومن [المائدة: 2، 97] قوله تعالى: وَلَا
الشَّهْرَ الْحَرامَ منسوخ بإباحة القتال فيه وقوله تعالى:
فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ
عَنْهُمْ [المائدة: 42] منسوخ بقوله سبحانه: وَأَنِ
احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة: 49]
وقوله تعالى: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [المائدة: 106]
منسوخ بقوله عز شأنه: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ
[الطلاق: 2] والمشهور الذي عليه العمل أن هذه الآية قد
نسخت بما في المائدة على ما يقتضيه الظاهر، فقد أخرج أبو
داود في ناسخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال
في وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ نسخ من ذلك نكاح نساء
أهل الكتاب أحلهم للمسلمين وحرم المسلمات على رجالهم، وعن
الحسن ومجاهد مثل ذلك وهو الذي ذهب إليه الحنفية والشافعية
يقولون بالتخصيص دون النسخ، ومبنى الخلاف أن قصر العام
بكلام مستقل تخصيص عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ونسخ
عندنا وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ تعليل
للنهي وترغيب في مواصلة المؤمنات صدر بلام الابتداء
الشبيهة بلام القسم في إفادة التأكيد مبالغة في الحمل على
الانزجار، وأصل أمة أمو حذفت لامها على غير قياس وعوض عنها
هاء التأنيث ويدل على أن لامها واو رجوعها في الجمع كقوله:
(1/512)
أما الإماء فلا يدعونني ولدا ... إذا تداعى
بنو الأموان بالعار
وظهورها في المصدر يقال: هي أمة بينة الأموة وأقرت له
بالأموّة، وهل وزنها فعلة- بسكون العين أو فعلة- بفتحها.؟
قولان اختار الأكثرون ثانيهما، وتجمع على آم وهو في
الاستعمال دون إماء وأصله أأمو- بهمزتين- الأولى مفتوحة
زائدة، والثانية ساكنة هي فاء الكلمة، فوقعت- الواو- طرفا
مضموما ما قبلها في اسم معرب ولا نظير له فقلبت- ياء
والضمة قبلها كسرة لتصح الياء- فصار الاسم من قبيل- غاز
وقاض- ثم قلبت- الهمزة الثانية ألفا لسكونها بعد همزة أخرى
مفتوحة- فصارا آم وإعرابه كقاض، والظاهر أن المراد-
بالأمة- ما تقابل الثانية الحرة، وسبب النزول يؤيد ذلك
لأنه العيب على من تزوج الأمة والترغيب في نكاح حرّة
مشركة، ففي الآية تفضيل الأمة المؤمنة على المشركة مطلقا-
ولو حرّة- ويعلم منه تفضيل الحرّة عليها بالطريق الأولى،
ثم إنّ التفضيل يقتضي أنّ في الشركة خيرا، فإما أن يراد
بالخير الانتفاع الدنيوي وهو مشترك بينهما، أو يكون على حد
أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا
[الفرقان:
24] وقيل: المراد- بالأمة- المرأة حرّة كانت أو مملوكة فإن
الناس كلهم عبيد الله تعالى وإماؤه، ولا تحمل على الرقيقة
لأنه لا بدّ من تقدير الموصوف في مُشْرِكَةٍ فإن قدر «أمة»
بقرينة السياق لم يفد خيرية الأمة المؤمنة على الحرة
المشركة، وإن قدر حرّة أو امرأة كان خلاف الظاهر، والمذكور
في سبب النزول التزوج- بالأمة- بعد عتقها.
و «الأمة» بعد العتق حرة ولا يطلق عليها «أمة» إلا باعتبار
مجاز الكون والحق أن «الأمة» بمعنى- الرقيقة- كما هو
المتبادر، وأن الموصوف المقدر ل مُشْرِكَةٍ عام- وكونه
خلاف الظاهر- خلاف الظاهر.
وعلى تقدير التسليم هو مشترك الإلزام، ولعل ارتكاب ذلك
آخرا أهون من ارتكابه أول وهلة إذ هو من قبيل نزع الخف قبل
الوصول إلى الماء- وما في سبب النزول مؤيد لا دليل عليه-
وقد قيل فيه: إنّ عبد الله نكح أمة- إن حقا وإن كذبا-
فالمعنى وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ مع ما فيها من خساسة الرق
وقلة الخطر خَيْرٌ مما اتصفت بالشرك مع ما لها من شرف
الحرّية ورفعة الشأن وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ لجمالها ومالها
وسائر ما يوجب الرغبة فيها،
أخرج سعيد بن منصور وابن ماجة، عن ابن عمر رضي الله تعالى
عنهما عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لا تنكحوا
النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تنكحوهن على
أموالهن فعسى أموالهنّ أن تطغيهن، وانكحوهن على الدين
فلأمة سوداء خرماء ذات دين أفضل»
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «تنكح المرأة لأربع لمالها
ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك»
والواو للحال- ولو لمجرّد الفرض- مجرّدة عن معنى الشرط
ولذا لا تحتاج إلى الجزاء والتقدير مفروضا إعجابها لكن
بالحسن ونحوه، وقال الجرمي: الواو للعطف على مقدّر أي لم
تعجبكم وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وجواب الشرط محذوف دل عليه
الجملة السابقة، وقال الرضي: إنها اعتراضية تقع في وسط
الكلام وآخره، وعلى التقادير إثبات الحكم في نقيض الشرط
بطريق الأولى ليثبت في جميع التقادير، واستدل بعضهم بالآية
على جواز نكاح «الأمة المؤمنة» مع وجود طول الحرّة،
واعترضه الكيا بأنه ليس في الآية نكاح الإماء وإنما ذلك
للتنفير عن نكاح الحرّة المشركة لأنّ العرب كانوا بطباعهم
نافرين عن نكاح «الأمة» فقيل لهم: إذا نفرتم عن الأمة
فالمشركة أولى- وفيه تأمّل- وفي البحر أن مفهوم الصفة
يقتضي أن لا يجوز نكاح «الأمة» الكافرة كتابية أو غيرها
وأمّا وطؤها بملك اليمين فيجوز مطلقا وَلا تُنْكِحُوا
الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا أي لا تزوجوا الكفار من
المؤمنات سواء كان الكافر كتابيا أو غيره وسواء كانت-
المؤمنة أمة- أو حرة، ف تَنْكِحُوا بضم التاء لا غير، ولا
يمكن الفتح- وإلا لوجب- ولا ينكحن المشركين، واستدل بها
على اعتبار الولي في النكاح مطلقا وهو خلاف مذهبنا، وفي
دلالة الآية على ذلك خفاء لأن المراد النهي عن إيقاع هذا
الفعل والتمكين
(1/513)
منه، وكل المسلمين أولياء في ذلك
وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ مع ما فيه من ذل المملوكية.
خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ مع ما ينسب إليه من عز المالكية
وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ بما فيه من دواعي الرغبة أُولئِكَ أي
المذكورون من المشركين والمشركات يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ
أي الكفر المؤدي إليها إما بالقول أو بالمحبة والمخالطة
فلا تليق مناكحتهم، فإن قيل: كما أن الكفار يدعون المؤمنين
إلى النار كذلك المؤمنون يدعونهم إلى الجنة بأحد الأمرين،
أجيب بأن المقصود من الآية أن المؤمن يجب أن يكون حذرا عما
يضره في الآخرة وأن لا يحوم حول حمى ذلك ويجتنب عما فيه
الاحتمال مع أن النفس والشيطان يعاونان على ما يؤدّي إلى
النار، وقد ألفت الطباع في الجاهلية ذلك- قاله بعض
المحققين- والجملة إلخ معللة لخيرية المؤمنين والمؤمنات من
المشركين والمشركات وَاللَّهُ يَدْعُوا بواسطة المؤمنين من
يقاربهم إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ أي إلى الاعتقاد
الحق والعمل الصالح الموصلين إليهما وتقديم الْجَنَّةِ على
الْمَغْفِرَةِ مع قولهم: التخلية أولى بالتقديم على
التحلية لرعاية مقابلة النار ابتداء بِإِذْنِهِ متعلق ب
يَدْعُوا أي يَدْعُوا إلى ذلك متلبسا بتوفيقه الذي من
جملته إرشاد المؤمنين لمقاربيهم إلى الخير أحقاء بالمواصلة
وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
لكي يتعظوا أو يستحضروا معلوماتهم بناء على أنّ معرفة الله
تعالى مركوزة في العقول، والجملة تذييل للنصح والإرشاد،
والواو اعتراضية أو عاطفة، وفصلت الآية السابقة ب
تَتَفَكَّرُونَ لأنها كانت لبيان الأحكام والمصالح
والمنافع والرغبة فيها التي هي محل تصرف العقل والتبيين
للمؤمنين فناسب التفكر، وهذه الآية ب يَتَذَكَّرُونَ لأنها
تذييل للإخبار بالدعوة إلى الْجَنَّةِ والنَّارِ التي لا
سبيل إلى معرفتها إلا النقل والتبيين لجميع الناس فناسب
التذكر.
ومن الناس من قدّر في الآية مضافا أي فريق الله أو أولياؤه
وهم المؤمنون فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه تشريفا
لهم، واعترض بأن الضمير في المعطوف على الخبر لله تعالى
فيلزم التفكيك مع عدم الداعي لذلك، وأجيب بأن الداعي كون
هذه الجملة معللة للخيرية السابقة ولا يظهر التعليل بدون
التقدير، وكذا لا تظهر الملاءمة لقوله سبحانه: بِإِذْنِهِ
بدون ذلك فإن تقييد دعوته تعالى بِإِذْنِهِ ليس فيه حينئذ
كثير فائدة بأي تفسير فسر- الإذن- وأمر التفكيك سهل لأنه
بعد إقامة المضاف إليه مقام المضاف للتشريف بجعل فعل الأول
فعلا للثاني صورة فتتناسب الضمائر- كما في الكشف ولا يخفى
ما فيه- وعلى العلات هو أولى مما قيل: إن المراد وَاللَّهُ
يَدْعُوا على لسان رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ذلك
فتجب إجابته بتزويج أوليائه لأنه وإن كان مستدعيا لاتحاد
المرجع في الجملتين المتعاطفتين الواقعتين خبرا، لكن يفوت
التعليل وحسن المقابلة بينه وبين أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى
النَّارِ وكذا لطافة التقييد كما لا يخفى وَيَسْئَلُونَكَ
عَنِ الْمَحِيضِ
أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن
ماجة وغيرهم عن أنس رضي الله تعالى عنهم «أن اليهود كانوا
إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم
يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت، فسئل رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم عن ذلك؟ فأنزل الله هذه الآية فقال صلّى
الله عليه وسلّم: «جامعوهنّ في البيوت واصنعوا كل شيء إلا
النكاح»
وعن السدي- إن الذي سأل عن ذلك ثابت بن الدحداح رضي الله
تعالى عنه- والجملة معطوفة على ما تقدم من مثلها، ووجه
مناسبتها له أنه لما نهى عن مناكحة الكفار ورغب في مناكحة
أهل الإيمان بين حكما عظيما من أحكام النكاح، وهو حكم
النكاح في الحيض، ولعل حكاية هذه الأسئلة الثلاثة بالعطف
لوقوع الكل في وقت واحد عرفي، وهو وقت السؤال عن الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ فكأنه قيل: يجمعون لك بين السؤال عنهما
والسؤال عن كذا وكذا وحكاية ما عداها بغير عطف لكونها كانت
في أوقات متفرقة فكان كل واحد سؤالا مبتدأ ولم يقصد الجمع
بينهما بل الإخبار
(1/514)
عن كل واحد على حدة، فلهذا لم يورد الواو
بينها، وقال صاحب الانتصاف في بيان العطف والترك: إن أول
المعطوفات عين الأول من المجردة، ولكن وقع جوابه أولا
بالمصرف لأنه الأهم، وأن كان المسئول عنه إنما هو المنفق
لا جهة مصرفه ثم لما لم يكن في الجواب الأول تصريح
بالمسئول عنه أعيد السؤال ليجابوا عن المسئول عنه صريحا،
وهو العفو الفاضل فتعين إذا عطفه ليرتبط بالأول، وأما
السؤال الثاني من المقرونة فقد وقع عن أحوال اليتامى، وهل
يجوز مخالطتهم في النفقة والسكنى فكان له مناسبة مع النفقة
باعتبار أنهم إذا خالطوهم أنفقوا عليهم فلذا عطف على سؤال
الإنفاق، وأما السؤال الثالث فلما كان مشتملا على اعتزال
الحيض ناسب عطفه على ما قبله لما فيه من بيان ما كانوا
يفعلونه من اعتزال اليتامى، وإذا اعتبرت الأسئلة المجردة
من الواو لم تجد بينها مداناة ولا مناسبة البتة إذ الأول
منها عن النفقة والثاني عن القتال في الشَّهْرِ الْحَرامِ،
والثالث عن الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وبينها من التباين،
والتقاطع ما لا يخفى فذكرت كذلك مرسلة متقاطعة غير مربوطة
بعضها ببعض، وهذا من بدائع البيان الذي لا تجده إلا في
الكتاب العزيز اهـ.
ولا أرى القلب يطمئن به كما لا يخفى على من أحاط خبرا بما
ذكرناه فتدبر، والمحيض كما قال الزجاج:
وعليه الكثير مصدر حاضت المرأة تحيض حيضا ومحاضا فهو
كالمجيء والمبيت وأصله السيلان يقال: حاض السيل وفاض قال
الأزهري: ومنه قيل: للحوض حوض لأن الماء يحيض إليه أي
يسيل، والعرب تدخل الواو على الياء لأنهما من جنس واحد،
وقيل: إنه هنا اسم مكان، ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما وحكى الواحدي عن ابن السكيت أنه إذا كان الفعل من
ذوات الثلاثة نحو كال يكيل، وحاض يحيض فاسم المكان منه
مكسور، والمصدر منه مفتوح، وحكى غيره عن غيره التخيير في
مثله بل قيل: إن الكسر والفتح جائزان في اسم الزمان
والمكان والمصدر وعلى ما نسب للترجمان، واختاره الإمام
يحتاج إلى الحذف في قوله تعالى: قُلْ هُوَ أَذىً أي موضع
أذى وكذا يحتاج إلى اعتبار الزمان في قوله سبحانه:
فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ لركاكة قولنا
فَاعْتَزِلُوا في موضع الحيض، وإن اختاره الإمام وقال: إن
المعنى- اعتزلوا مواضع الحيض، والأذى- مصدر من- أذا يؤذيه
أذا وإذاء، ولا يقال في المشهور إيذاء وحمله على المحيض
للمبالغة، والمعنى المقصود منه المستقذر وبه فسره قتادة،
واستعمل فيه بطريق الكناية، والمراد من اعتزال النساء
اجتناب مجامعتهن كما يفهمه آخر الآية، وإنما أسند الفعل
إلى الذات للمبالغة كما في قوله تعالى: حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النساء: 23] ووضع الظاهر موضع
المضمر لكمال العناية بشأنه بحيث لا يتوهم غيره أصلا، وقد
يقال لا وضع، وحديث الإعادة أغلبي بل يعتبر ما أشرنا إلى
اعتباره فيما أشرنا إلى عدم اعتباره لضعف النسبة، وقوة
الداعي إلى التقدير وعدمه أولى، وإنما وصف بأنه أذى ورتب
الحكم عليه بالفاء ولم يكتف في الجواب بالأمر للإشعار بأنه
العلة والحكم المعلل أوقع في النفس.
وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ تقرير للحكم السابق
لأن الأمر بالاعتزال يلزمه النهي عن القربان وبالعكس فيكون
كل منهما مقررا وإن تغايرا بالمفهوم فلذا عطف أحدهما على
الآخر وفيه بيان لغايته فإن تقييد الاعتزال بقوله سبحانه
وتعالى: فِي الْمَحِيضِ وترتبه على كونه أذى يفيد تخصيص
الحرمة بذلك الوقت، ويفهم منه عقلا انقطاعها بعده، ولا يدل
عليه اللفظ صريحا بخلاف حَتَّى يَطْهُرْنَ والغاية انقطاع
الدم عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فإن كان
الانقطاع لأكثر مدة الحيض حل القربان بمجرد الانقطاع، وإن
كان لأقل منها لم يحل إلا باغتسال أو ما هو في حكمه من مضي
وقت صلاة، وعند الشافعية هي الاغتسال بعد الانقطاع قالوا:
ويدل عليه صريحا قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية ابن
عياش «يطهرن» بالتشديد أي «يتطهرن» والمراد به يغتسلن لا
لأن الاغتسال
(1/515)
معنى حقيقي للتطهير كما يوهمه بعض
عباراتهم- لأن استعماله فيما عدا الاغتسال شائع في الكلام
المجيد والأحاديث على ما لا يخفى على المتتبع- بل لأن صيغة
المبالغة يستفاد منها الطهارة الكاملة، والطهارة الكاملة
للنساء عن المحيض هو الاغتسال فلما دلت قراءة التشديد على
أن غاية حرمة القربان هو الاغتسال والأصل في القراءات
التوافق حملت قراءة التخفيف عليها بل قد يدعى أن الطهر يدل
على الاغتسال أيضا بحسب اللغة ففي القاموس طهرت المرأة
انقطع دمها واغتسلت من الحيض كتطهرت، وأيضا قوله تعالى:
فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ يدل التزاما على أن
الغاية هي الاغتسال لأنه يقتضي تأخر جواز الإتيان عن الغسل
فهو يقوي كون المراد بقراءة التخفيف الغسل لا الانقطاع
وربما يكون قرينة على التجوز في الطهر بحمله على الاغتسال
إن لم يسلم ما تقدم وعلى فرض عدم تسليم هذا وذاك والرجوع
إلى القول بأن قراءة التخفيف من الطهر وهو حقيقة في انقطاع
الدم لا غير ولا تجوز ولا قرينة، وقراءة التشديد من
التطهر، ويستفاد منه الاغتسال يقال أيضا في وجه الجمع كما
في الكشف: إن القراءة بالتشديد لبيان الغاية الكاملة
وبالتخفيف لبيان الناقصة، وحتى في الأفعال نظير إلى في أنه
لا يقتضي دخول ما بعدها فتكون الكاملة البتة، وبيانه أن
الغاية الكاملة ما يكون غاية بجميع أجزائه وهي الخارجة عن
المغيا، والناقصة ما تكون غاية باعتبار آخرها وحتى الداخلة
على الأسماء تقتضي دخول ما بعدها لولا الغاية والداخلة على
الأفعال مثل إلى لا تقتضي كون ما بعدها جزءا لما قبلها
فانقطاع الدم غاية للحرمة باعتبار آخره فيكون وقت الانقطاع
داخلا فيها والاغتسال غاية لها باعتبار أوله فلا تعارض بين
القراءتين، ولعل فائدة بيان الغايتين بيان مراتب حرمة
القربان فإنها أشد قبل الانقطاع مما بعده، ولما رأى
ساداتنا الحنفية أن هاهنا قراءتين التخفيف والتشديد وأن
مؤدى الأولى انتهاء الحرمة العارضة على الحل بانقطاع الدم
مطلقا فإذا انتهت الحرمة العارضة حلت بالضرورة وأن مؤدى
الثانية عدم انتهائها عنده بل بعد الاغتسال، ورأوا أن
الطهر إذا نسب إلى المرأة لا يدل على الاغتسال لغة بل
معناه فيها انقطاع الدم وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد،
وفي تاج البيهقي طهرت خلاف طمثت، وفي شمس العلوم امرأة
طاهر بغير- هاء- انقطع دمها وفي الأساس امرأة طاهر ونساء
طواهر طهرن من الحيض، ولا يعارض ذلك ما في القاموس لجواز
أن يكون بيانا للاستعمال ولو مجازا على ما هو طريقته في
كثير من الألفاظ وأن الحمل على الاغتسال مجازا من غير
قرينة معينة له مما لا يصح واعتبار فَإِذا تَطَهَّرْنَ
فَأْتُوهُنَّ قرينة بناء على ما ذكروا ليس بشيء وما ذكروه
في وجه الدلالة من الاقتضاء فيه بحث لأن- الفاء- الداخلة
على الجملة التي لا تصلح أن تكون شرطا كالجملة الإنشائية
لمجرد الربط كما نص عليه ابن هشام في المغني ومثل له بقوله
تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي [آل عمران: 31] ولو سلم فاللازم تأخر جواز
الإتيان عن الغسل في الجملة لا مطلقا حتى يكون قرينة على
أن المراد بقراءة التخفيف أيضا الغسل وأن القول بأن إحدى
الغايتين داخلة في الحكم والأخرى خارجة خلاف المتبادر
احتاجوا للجمع بجعل كل منهما آية مستقلة فحملوا الأولى على
الانقطاع بأكثر المدة، والثانية لتمام العادة التي ليست
أكثر مدة الحيض كما حمل إبراهيم النخعي قراءة النصب والجرّ
في أرجلكم على حالة التخفيف وعدمه وهو المناسب لأن في توقف
قربانها في الانقطاع للأكثر على الغسل إنزالها حائضا حكما
وهو مناف لحكم الشرع لوجوب الصلاة عليها المستلزم لإنزاله
إياها ظاهرا حكما بخلاف تمام العدة فإن الشرع لم يقطع
عليها بالطهر بل يجوز الحيض بعده، ولذا لو زادت ولم يجاوز
العشرة كان الكل حيضا بالاتفاق بقي أن مقتضى الثانية ثبوت
الحرمة قبل الغسل فرفع الحرمة قبله بمضي أول وقت الصلاة
أعني أدناه الواقع آخرا، واعتبار الغسل حكما على ما قالوا
معارضة النص بالمعنى، والجواب أن القراءة الثانية خص منها
صورة الانقطاع للعشرة بقراءة التخفيف فجاز أن يخص ثانيا
(1/516)
بالمعنى كما قاله بعض المحققين ولا يخفى ما
في مذهب الإمام من التيسير والاحتياط لا يخفى، وحكي عن
الأوزاعي أن حل الإتيان موقوف على التطهر وفسره بغسل موضع
الحيض وقد يقال لتنقية المحل تطهير،
فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن عائشة رضي الله تعالى
عنها «أن امرأة سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن
غسلها من المحيض فأمرها قبل أن تغتسل قال: خذي فرصة من مسك
فتطهري بها قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: تطهري بها قالت:
كيف؟
قال: سبحان الله تطهري بها فاجتذبتها فقلت: تتبعي بها أثر
الدم»
وذهب طاوس ومجاهد في رواية عنه أن غسل الموضع مع الوضوء
كاف في حل الإتيان- وإليه ذهب الإمامية- ولا يخفى أنه ليس
شيء من ذلك طهارة كاملة للنساء وإنما هي طهارة كاملة
لأعضائهن وهو خلاف المتبادر في الآية وإنما المتبادر هو
الأول وما في الحديث وإن كان أمرا بالتطهر لتلك المرأة لكن
المراد بذلك المبالغة في تطهير الموضع إلا أنه لأمر ما لم
يصرح به صلى الله تعالى عليه وسلم وإطلاق التطهير على
تنقية المحل مما لا ننكره وإنما ننكر إطلاق يطهرن على من
طهرن مواضع حيضهن ودون إثباته حيض الرجال. واستدل بالآية
على أنه لا يحرم الاستمتاع بالحائض بما بين السرة والركبة
وإنما يحرم الوطء، وسئلت عائشة رضي الله تعالى عنها فيما
أخرجه ابن جرير ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟
قالت: كل شيء إلا الجماع وذهب جماعة إلى حرمة الاستمتاع
بما بين السرة والركبة استدلالا بما
أخرجه مالك عن زيد بن أسلم «أن رجلا سأل رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم فقال: ماذا يحل لي من امرأتي وهي
حائض؟ فقال له صلى الله تعالى عليه وسلم: لتشد عليها
إزارها ثم شأنك بأعلاها»
وكأنه من باب سد الذرائع في الجملة، ولهذا ورد فيما أخرجه
الإمام أحمد والتعفف عن ذلك أفضل والأمر في الآية للإباحة
على حد إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة: 2] ففيها
إباحة الإتيان لكنه مقيد بقوله سبحانه:
مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أي من المكان الذي أمركم
الله تعالى بتجنبه لعارض الأذى وهو الفرج ولا تعدوا غيره
قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع، وقال الزجاج: معناه
من الجهات التي يحل فيها أن تقرب المرأة ولا تقربوهن من
حيث لا يحل كما إذا كن صائمات أو محرمات أو معتكفات وأيد
بأنه لو أراد الفرج لكانت- في- أظهر فيه من- من- لأن
الإتيان بمعنى الجماع يتعدى بها غالبا لا بمن، ولعله في
حيز المنع عند أهل القول الأول إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ مما عسى يندر منهم من ارتكاب بعض الذنوب
كالإتيان في الحيض المورث للجذام في الولد كما ورد في
الخبر،
والمستدعي عقاب الله تعالى
فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي، والنسائي عن أبي هريرة رضي
الله تعالى عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من
أتى حائضا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله تعالى عليه
وسلم،
وهو جار مجرى الترهيب فلا يعارض ما
أخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:
«جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: يا
رسول الله أصبت امرأتي وهي حائض فأمره رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم أن يعتق نسمة»
وقيمة النسمة حينئذ دينار، وهذا إذا كان الإتيان في أول
الحيض والدم أحمر أما إذا كان في آخره والدم أصفر فينبغي
أن يتصدق بنصف دينار كما دلت عليه الآثار وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ أي المتنزهين عن الفواحش والأقذار
كمجامعة الحائض والإتيان لا من حيث أمر الله تعالى وحمل
التطهر على التنزه هو الذي تقتضيه البلاغة وهو مجاز على ما
في الأساس وشمس العلوم، وعن عطاء حمله على التطهر بالماء
والجملتان تذييل مستقل لما تقدم نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ
أخرج البخاري وجماعة عن جابر قال: «كانت اليهود تقول إذا
أتى الرجل امرأته من خلفها في قبلها ثم حملت جاء الولد
أحول فنزلت» والحرث إلقاء البذر في الأرض وهو غير الزرع
لأنه إنباته يرشدك إلى ذلك قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ ما
تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ
الزَّارِعُونَ [الواقعة: 63، 64] وقال الجوهري: الحرث
الزرع والحارث الزارع وعلى كل تقدير هو خبر عما
(1/517)
قبله إما بحذف المضاف أي مواضع حرث، أو
التجوز والتشبيه البليغ أي كمواضع ذلك وتشبيههن بتلك
المواضع متفرع على تشبيه النطف بالبذور من حيث إن كلّا
منهما مادة لما يحصل منه ولا يحسن بدونه فهو تشبيه يكنى به
عن تشبيه آخر فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أي ما هو كالحرث ففيه
استعارة تصريحية ويحتمل أن يبقى الحرث على حقيقته والكلام
تمثيل شبه حال إتيانهم النساء في المأتي بحال إتيانهم
المحارث في عدم الاختصاص بجهة دون جهة ثم أطلق لفظ المشبه
به على المشبه، والأول أظهر وأوفق لتفريع حكم الإتيان على
تشبيههن بالحرث تشبيها بليغا، وهذه الجملة مبينة لقوله
تعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ لما
فيه من الإجمال من حيث المتعلق، والفاء جزائية وما قبلها
علة لما بعدها، وقدم عليه اهتماما بشأن العلة وليحصل الحكم
معللا فيكون أوقع، ويحتمل أن يكون المجموع كالبيان لما
تقدم، والفاء للعطف وعطف الإنشاء على الأخبار جائز بعاطف
سوى الواو أَنَّى شِئْتُمْ قال قتادة والربيع من أين
شِئْتُمْ وقال مجاهد: كيف شئتم، وقال الضحاك: متى شئتم،
ومجيء أَنَّى بمعنى- أين- وكيف ومتى مما أثبته الجم
الغفير، وتلزمها على الأول- من- ظاهرة أو مقدرة، وهي شرطية
حذف جوابها لدلالة الجملة السابقة عليه.
واختار بعض المحققين كونها هنا بمعنى من أين أي من أي جهة
ليدخل فيه بيان النزول، والقول بأن الآية حينئذ تكون دليلا
على جواز الإتيان من الإدبار ناشىء من عدم التدبر في أن-
من- لازمة إذ ذاك فيصير المعنى من أي مكان لا في أي مكان
فيجوز أن يكون المستفاد حينئذ تعميم الجهات من القدام
والخلف والفوق والتحت واليمين والشمال لا تعميم مواضع
الإتيان فلا دليل في الآية لمن جوز إتيان المرأة في دبرها
كابن عمر، والأخبار عنه في ذلك صحيحة مشهورة، والروايات
عنه بخلافها على خلافها، وكابن أبي مليكة وعبد الله بن
القاسم حتى قال فيما أخرجه الطحاوي عنه: ما أدركت أحدا
أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال، وكمالك بن أنس حتى أخرج
الخطيب عن أبي سليمان الجوزجاني أنه سأله عن ذلك فقال له:
الساعة غسلت رأس ذكري منه، وكبعض الإمامية لا كلهم كما
يظنه بعض الناس ممن لا خبرة له بمذهبهم، وكسحنون من
المالكية، والباقي من أصحاب مالك ينكرون رواية الحل عنه
ولا يقولون به، ويا ليت شعري كيف يستدل بالآية على الجواز
مع ما ذكرناه فيها ومع قيام الاحتمال كيف ينتهض الاستدلال
لا سيما وقد تقدم قبل وجوب الاعتزال في المحيض وعلل بأنه
أذى مستقذر تنفر الطباع السليمة عنه، وهو يقتضي وجوب
الاعتزال عن الإتيان في الأدبار لاشتراك العلة ولا يقاس ما
في المحاش من الفضلة بدم الاستحاضة ومن قاس فقد أخطأت استه
الحفرة لظهور الاستقذار. والنفرة مما في المحاش دون دم
الاستحاضة، وهو دم انفجار العرق كدم الجرح وعلى فرض تسليم
أن أَنَّى تدل على تعميم مواضع الإتيان كما هو الشائع يجاب
بأن التقييد بمواضع الحرث يدفع ذلك فقد أخرج ابن جرير،
وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: بينا أنا ومجاهد
جالسان عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذ أتاه رجل
فقال: ألا تشفيني من آية المحيض قال: بلى فقرأ
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ إلى فَأْتُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فقال ابن عباس: من حيث جاء الدم
من ثم أمرت أن تأتي فقال:
كيف بالآية نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ؟ فقال: ويحك، وفي الدبر من حرث لو كان ما
تقول حقا لكان المحيض منسوخا إذا شغل من هاهنا جئت من
هاهنا ولكن أنى شئتم من الليل والنهار، وما قيل من أنه لو
كان في الآية تعين الفرج لكونه موضع الحرث للزم تحريم
الوطء بين الساقين وفي الاعكان لأنها ليست موضع حرث
كالمحاش مدفوع بأن الإمناء فيما عدا الضمامين لا يعد في
العرف جماعا ووطئا والله تعالى قد حرم الوطء والجماع في
غير موضع الحرث لا الاستمناء فحرمة الاستمناء بين الساقين
وفي الاعكان لم تعلم من الآية إلا أن يعد ذلك إيتاء وجماعا
وأنى به، ولا أظنك في مرية من هذا وبه يعلم ما في مناظرة
الإمام الشافعي، والإمام محمد بن الحسن، فقد أخرج الحاكم
عن عبد الحكم أن الشافعي ناظر محمدا في هذه المسألة فاحتج
عليه ابن الحسن بأن الحرث إنما يكون
(1/518)
في الفرج فقال له أفيكون ما سوى الفرج
محرما فألتزمه؟ فقال: أرأيت لو وطئها بين ساقيها أو في
أعكانها أو في ذلك حرث؟ قال: لا قال: أفيحرم؟ قال: لا قال:
فكيف تحتج بما لا تقول به، وكأنه من هنا قال الشافعي فيما
حكاه عنه الطحاوي والحاكم والخطيب لما سئل عن ذلك: ما صح
عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في تحليله ولا تحريمه
شيء والقياس أنه حلال وهذا خلاف ما نعرف من مذهب الشافعي
فإن رواية التحريم عنه مشهورة فلعله كان يقول ذلك في
القديم ورجع عنه في الجديد لما صح عنده من الأخبار أو ظهر
له من الآية وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ ما يصلح للتقديم
من العمل الصالح ومنه التسمية عند الجماع وطلب الولد
المؤمن،
فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لو
أن أحدكم إذا أتى أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان
وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضى بينهما ولد لم يضره الشيطان
أبدا»
وصح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا
من ثلاث صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له»
وعن عطاء تخصيص المفعول بالتسمية. وعن مجاهد بالدعاء عند
الجماع، وعن بعضهم بطلب الولد وعن آخرين بتزوج العفائف
والتعميم أولى وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم به ونهاكم
عنه.
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ بالبعث فيجازيكم بأعمالكم
فتزودوا ما ينفعكم والضمير المجرور راجع إلى الله تعالى
بحذف مضاف أو بدونه ورجوعه إلى ما قدمتم أو إلى الجزاء
المفهوم منه بعيد والأوامر معطوفة على قوله تعالى:
فَأْتُوا حَرْثَكُمْ وفائدتها الإرشاد العام بعد الإرشاد
الخاص وكون الجملة السابقة مبينة لا يقتضي أن يكون المعطوف
عليها كذلك وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الذين تلقوا ما
خوطبوا به بالقبول والامتثال بما لا تحبط به عبارة من
الكرامة والنعيم، وحمل بعضهم المؤمنين على الكاملين في
الإيمان بناء على أن الخطابات السابقة كانت للمؤمنين مطلقا
فلو كانت هذه البشارة لهم كان مقتضى الظاهر وبشرهم فلما
وضع المظهر موضع المضمر علم أن المراد غير السابقين وهم
المؤمنون الكاملون ولا يخفى أنه يجوز أن يكون العدول إلى
الظاهر للدلالة على العلية ولكونه فاصلة فلا يتم ما ذكره
والواو للعطف، وَبَشِّرِ عطف على قُلْ المذكور سابقا أو
على «قل» مقدرة قبل قدموا وهي معطوفة على المذكورة «ومن
باب الإشارة» يسألونك عن خمر الهوى وحب الدنيا وميسر
احتيال النفس بواسطة قداحها التي هي حواسها العشرة المودعة
في ربابة البدن لنيل شيء من جزور اللذات والشهوات قل فيهما
إثم الحجاب والبعد عن الحضرة ومنافع للناس في باب المعاش
وتحصيل اللذة النفسانية والفرح بالذهول عن المعايب
والخطرات المشوشة والهموم المكدرة وإثمهما أكبر من نفعهما
لأن فوات الوصال في حظائر الجمال لا يقابله شيء، ولا يقوم
مقامه- وصال سعدى ولامى- ولفرق عند الأبرار بين السكر من
المدير والسكر من المدار:
وأسكر القوم ورود كأس ... وكان سكرى من المدير
وهذا هو السكر الحلال لكنه فوق عالم التكليف ووراء هذا
العالم الكثيف وهو سكر أرواح لا أشباح وسكر رضوان لا حميا
دنان:
وما مل ساقيها ولا مل شارب ... عقار لحاظ كأسها يسكر اللبا
وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ وهو ما
سوى الحق من الكونين كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ
الْآياتِ المنزلة من سماء الأرواح لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ في الدنيا والآخرة وتقطعون بواديهما بأجنحة
السير والسلوك إلى ملك الملوك وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْمَحِيضِ وهو غلبة دواعي الصفات البشرية والحاجات
الإنسانية «قل هو أذى» تنفر القلوب الصافية عنه فاعتزلوا
بقلوبكم نساء النفوس في محيض غلبات الهوى حتى يطهرن ويفرغن
من قضاء الحوائج الضرورية
(1/519)
فإذا تطهرن بماء الإنابة ورجعن إلى الحضرة
في طلب القربة فأتوهن من حيث أمركم الله أي عند ظهور شواهد
الحق لزهوق باطل النفس واضمحلال هواها إن الله يحب
التوابين عن أوصاف الوجود ويحب المتطهرين بنور المعرفة عن
غبار الكائنات، أو يحب التوابين من سؤالاتهم ويحب
المتطهرين من إراداتهم نساؤكم وهي النفوس التي غدت لباسا
لكم وغدوتم لباسا لهن موضع حرثكم للآخرة فأتوا حرثكم متى
شئتم الحراثة لمعادكم وقدموا لأنفسكم ما ينفعها ويكمل
نشأتها واتقوا الله من النظر إلى ما سواه واعلموا أنكم
ملاقوه بالفناء فيه إذا اتقيتم وبشر المؤمنين بما لا عين
رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وَلا تَجْعَلُوا
اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أخرج ابن جرير عن ابن
جريج أنها نزلت في الصديق رضي الله تعالى عنه لما حلف أن
لا ينفق على مسطح ابن خالته وكان من الفقراء المهاجرين لما
وقع في إفك عائشة رضي الله تعالى عنها، وقال الكلبي: نزلت
في عبد الله بن رواحة حين حلف على ختنه بشير بن النعمان أن
لا يدخل عليه أبدا ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين امرأته
بعد أن كان قد طلقها وأراد الرجوع إليها والصلح معها،
والعرضة فعلة بمعنى المفعول كالقبضة والغرفة وهي هنا من
عرض الشيء من باب نصر أو ضرب جعله معترضا أو من عرضه للبيع
عرضا من باب ضرب إذا قدمه لذلك، ونصبه له والمعنى على
الأول لا تجعلوا الله حاجزا لما حلفتم عليه وتركتموه من
أنواع الخير فيكون المراد بالأيمان الأمور المحلوف عليها
وعبر عنها بالأيمان لتعلقها بها أو لأن اليمين بمعنى الحلف
تقول حلفت يمينا كما تقول حلفت حلفا فسمي المفعول بالمصدر
كما في
قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه مسلم وغيره: «من حلف
على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل
الذي هو خير» ،
وقيل: على في الحديث زائدة لتضمن معنى الاستعلاء وقوله
تعالى أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ
النَّاسِ عطف بيان لأيمانكم وهو في غير الأعلام كثير وفيها
أكثر، وقيل: بدل وضعف بأن المبدل منه لا يكون مقصودا
بالنسبة بل تمهيد وتوطئة للبدل وهاهنا ليس كذلك واللام صلة
عرضة، وفيها معنى الاعتراض أو بتجعلوا والأول أولى وإن كان
المال واحدا، وجوز أن تكون الأيمان على حقيقتها واللام
للتعليل وأن تبروا في تقدير لأن ويكون صلة للفعل أو لعرضة،
والمعنى لا تجعلوا الله تعالى:
حاجزا لأجل حلفكم به عن البر والتقوى والإصلاح، وعلى
الثاني ولا تجعلوا الله نصبا لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة
الحلف به في كل حق وباطل لأن في ذلك نوع جرأة على الله
تعالى وهو التفسير المأثور عن عائشة رضي الله تعالى عنها،
وبه قال الجبائي وأبو مسلم وروته الإمامية عن الأئمة
الطاهرين، ويكون أن تبروا علة للنهي على معنى أنهيكم عنه
طلب بركم وتقواكم وإصلاحكم إذ الحلاف مجترئ على الله تعالى
والمجترئ عليه بمعزل عن الاتصاف بتلك الصفات ويؤول إلى لا
تكثروا الحلف بالله تعالى لتكونوا بارين متقين ويعتمد
عليكم الناس فتصلحوا بينهم، وتقدير الطلب ونحوه لازم إن
كان أَنْ تَبَرُّوا في موضع النصب ليتحقق شرط حذف اللام
وهو المقارنة لأن المقارنة للنهي ليس هو البر والتقوى
والإصلاح بل طلبها وإن كان في موضع الجر بناء على أن حذف
حرف الجر من أن وإن قياسي فليس بلازم وإنما قدروه لتوضيح
المعنى والمراد به طلب الله تعالى لا طلب العبد، وإن أريد
ذلك كان علة للكف المستفاد من النهي كأنه قيل: كفوا أنفسكم
من جعله سبحانه عرضة وطلب العبد صالح للكف وَاللَّهُ
سَمِيعٌ لأقوالكم وأيمانكم عَلِيمٌ بأحوالكم ونياتكم
فحافظوا على ما كلفتموه، ومناسبة الآية لما قبلها أنه
تعالى لما أمرهم بالتقوى نهاهم عن ابتذال اسمه المنافي لها
أو نهاهم عن أن يكون اسمه العظيم حاجزا لها ومانعا منها لا
يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ اللغو
الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره ولغو اليمين عند
الشافعي رضي الله تعالى عنه ما سبق له اللسان، وما في حكمه
مما لم يقصد منه اليمين كقول العرب لا والله لا بالله
لمجرد التأكيد، وهو المروي عن عائشة وابن عمر وغيرهما في
أكثر الروايات، والمعنى لا يؤاخذكم أصلا بما لا قصد لكم
فيه من الأيمان.
(1/520)
وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ
قُلُوبُكُمْ أي بما قصدتم من الأيمان وواطأت فيها قلوبكم
ألسنتكم، ولا يعارض هذه الآية ما في المائدة [89] من قوله
تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ
الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ
إلخ بناء على أن مقتضى هذه المؤاخذة بالغموس لأنها من كسب
القلب وتلك تقتضي عدمها لأن اللغو فيها خلاف المعقودة، وهي
ما يحلف فيها على أمر في المستقبل أن يفعل ولا يفعل لوقوعه
في مقابلة قوله سبحانه: بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ
فيتناول الغموس وهو الحلف على أمر ماض متعمد الكذب فيه
ولغويته لعدم تحقق البر فيه الذي هو فائدة اليمين الشرعية
لأن الشافعي حمل بما عقدتم على كسب القلب من عقدت على كذا
عزمت عليه، ولم يعكس لأن العقد مجمل يحتمل عقد القلب،
ويحتمل ربط الشيء بالشيء، والكسب مفسر، ومن القواعد حمل
المجمل على المفسر، وإذا حمل عليه شمل الغموس، وكان اللغو
ما لا قصد فيه لا خلاف المعقودة إذ لا معقودة فتتحد
الآيتان في المؤاخذة على الغموس وعدم المؤاخذة على اللغو
إلا أنه إن كان للفعل المنفي عموم كان في الآيتين نفي
المؤاخذة فيما لا قصد فيه بالعقوبة، والكفارة وإثبات
المؤاخذة في الجملة بهما أو بأحداهما فيما فيه قصد، وإن لم
يكن له عموم حمل المؤاخذة المطلقة في هذه الآية على
المؤاخذة المقيدة بالكفار في آية المائدة بناء على اتحاد
الحادثة والحكم وسوق الآية لبيان الكفارة فلا تكرار، وأيد
العموم بما
أخرجه ابن جرير عن الحسن أنه صلى الله تعالى عليه وسلم «مر
بقوم ينتصلون ومعه بعض أصحابه فرمى رجل من القوم فقال:
أصبت والله أخطأت والله، فقال الذي معه: حنث الرجل يا رسول
الله فقال كلا أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة»
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن اللغو هنا ما لا قصد فيه إلى
الكذب بأن لا يكون فيه قصد أو يكون بظن الصدق، وحمل
المؤاخذة على الأخروية بناء على أن دار المؤاخذة هي الآخرة
وأن المطلق ينصرف إلى الكامل وقرنت هذه المؤاخذة بالكسب إذ
لا عبرة للقصد وعدمه في وجوب الكفارات التي هي مؤاخذات
دنيوية، لا شك أنه بمجرد اليمين بدون الحنث لا تتحقق
المؤاخذة الأخروية في المعقودة فلا يمكن إجراء ما كسبت على
عمومه فلا بد من تخصيصه بالغموس فيتحصل من هذه الآية
المؤاخذة الأخروية في الغموس دون الدنيوية التي هي
الكفارة، وفيه خلاف الشافعي وعدم المؤاخذة الأخروية فيما
عداها مما فيه قصد بظن الصدق، ومما لا قصد فيه أصلا- وفيه
وفاق الشافعي- وحمل المؤاخذة في آية المائدة على الدنيوية
بقرينة قوله سبحانه فيها: فَكَفَّارَتُهُ إلخ، وقوله
تعالى: بِما عَقَّدْتُمُ على المعقودة لأن المتبادر من-
العقد- ربط الشيء بالشيء وهو ظاهر في «المعقودة» فالمراد
بِاللَّغْوِ وفي تلك الآية ما عداها من الغموس وغيره
فيتحصل منها عدم المؤاخذة الدنيوية- بالكفارة- على غير
المعقودة، وهي الغموس والمؤاخذة عليه في الآخرة- كما علم
من آية البقرة- والحلف بلا قصد أو به مع ظن الصدق لغير
المؤاخذة عليهما في الآخرة كما علم منها أيضا، والمؤاخذة
الدنيوية على المعقودة التي لم يعلم حكمها في الآخرة من
الآيتين لظهوره من ترتب المؤاخذة الدنيوية عليه- فلا تدافع
بين الآيتين عنده أيضا- لأن مقتضى الأولى تحقق المؤاخذة
الأخروية في الغموس، ومقتضى الثانية عدم المؤاخذة الدنيوية
فيه، ومن هذا يعلم أن ما في- الهداية- وشاع في كتب الأصحاب
عن الإمام حيث قال: إن الأيمان على ثلاثة أضرب: يمين
الغموس ويمين منعقدة ويمين لغو وبين حكم كل وفسر الأخير
بأن يحلف على ماض وهو يظن- كما قال- والأمر بخلافه، وثبت
في بعض الروايات عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وغيره-
ليس بشيء- لو كان المقصود بما في التفسير «الحصر» لا
التمثيل للغو لأن اللائق بالنظم أن يكون بِما كَسَبَتْ
مقابلا للغو من غير واسطة بينهما، وبقصد «الحصر» يبقى
اليمين الذي لا قصد معه واسطة بينهما غير معلوم الاسم ولا
الرسم، وهو مما لا يكاد يكون كما لا يخفى على المنصف
فليتدبر فإنه مما فات كثيرا من
(1/521)
الناس. وذهب مسروق إلى أن «اللغو» هو الحلف
على المعاصي وبره ترك ذلك الفعل ولا كفارة وروي عن ابن
عباس وطاوس أنه اليمين في حال الغضب فلا كفارة فيها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحرم
ما أحل الله تعالى عليك بأن تقول: مالي علي حرام إن فعلت
كذا مثلا- وبهذا أخذ مالك إلا في الزوجة- وأخرج ابن جرير
عن زيد بن أسلم قال: هو كقول الرجل: أعمى الله بصري إن لم
أفعل كذا، وكقوله: هو مشرك، هو كافر إن لم يفعل كذا، فلا
يؤاخذ به حتى يكون من قلبه، وقيل:
لغو اليمين يمين المكره- حكاه ابن الفرس ولم ير مسندا- هذا
ولم يعطف قوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ الآية على ما قبله
لاختلافها خبرا وإنشاء، وإن كانا متشاركين في كون كل منهما
بيانا لحكم الأيمان وَاللَّهُ غَفُورٌ حيث لم يؤاخذكم
باللغو حَلِيمٌ حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجد
والجملة تذييل للجملتين السابقتين، وفائدته الامتنان على
المؤمنين وشمول الإحسان لهم و «الحليم» من حلم بالضم يحلم
إذا أمهل بتأخير العقاب، وأصل «الحلم» لأناة، وأما حلم
الأديم- فبالكسر يحلم بالفتح- إذا فسد، وأما حلم أي رأى في
نومه- فبالفتح- ومصدر الأول- الحلم- بالكسر ومصدر الثاني-
الحلم- بفتح اللام ومصدر الثالث- الحلم- بضم الحاء مع ضم
اللام وسكونها لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ
الإيلاء- كما قال الراغب- الحلف الذي يقتضي النقيصة في
الأمر الذي يحلف فيه من قوله تعالى: لا يَأْلُونَكُمْ
خَبالًا [آل عمران: 118] أي باطلا وَلا يَأْتَلِ أُولُوا
الْفَضْلِ مِنْكُمْ [النور:
22] وصار في الشرع عبارة عن الحلف المانع عن جماع المرأة،
ف يُؤْلُونَ أي يحلفون، ومِنْ نِسائِهِمْ على حذف المضاف،
أو من إقامة العين مقام الفعل المقصود منه للمبالغة، وعدي
القسم على المجامعة ب مِنْ لتضمنه معنى البعد، فكأنه قيل:
يبعدون مِنْ نِسائِهِمْ مولين، وقيل: إن هذا الفعل يتعدى ب
«من» وعلى، ونقل أبو البقاء عن بعضهم من أهل اللغة تعديته
ب مِنْ وقيل: بها بمعنى على، وقيل: بمعنى في، وقيل: زائدة،
وجوّز جعل الجار ظرفا مستقرا، أي استقرّ لهم مِنْ
نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وقرأ «ألوا من
نسائهم» وفي مصحف أبيّ «للذين يقسمون» وهو المروي عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما- والتربص- الانتظار والتوقف
وأضيف إلى الظرف على الاتساع- وإجراء المفعول فيه مجرى
المفعول به، والمعنى على الظرفية وهو مبتدأ ما قبله خبره
أو فاعل للظرف- على ما ذهب إليه الأخفش من جواز عمله وإن
لم يعتمد- والجملة- على التقديرين- بمنزلة الاستثناء من
قوله سبحانه وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ
قُلُوبُكُمْ فإن- الإيلاء- لكون أحد الأمرين لازما له
الكفارة على تقدير الحنث من غير إثم، والطلاق على تقدير
البر مخالف لسائر الأيمان المكتوبة حيث يتعين فيها-
المؤاخذة- بهما أو بأحدهما عند الشافعي- والمؤاخذة-
الأخروية عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، فكأنه قيل:
إلا الإيلاء فإنّ حكمه غير ما ذكر، ولذلك لم تعطف هذه
الجملة على ما قبلها، وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى- أنّ
للمولين من نسائهم تربص أربعة أشهر- بين حكمه بقوله تعالى
جل شأنه: فَإِنْ فاؤُ أي رجعوا في المدّة فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ لما حدث منهم من اليمين على الظالم وعقد
القلب على ذلك الحنث، أو بسبب الفيئة والكفارة، ويؤيده
قراءة ابن مسعود فَإِنْ فاؤُ فيهن وَإِنْ عَزَمُوا
الطَّلاقَ أي صمموا قصده بأن لم يفيئوا واستمرّوا على
الإيلاء فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لإيلائهم الذي صار منهم
طلاقا بائنا بمضي العدة عَلِيمٌ بغرضهم من هذا الإيلاء
فيجازيهم على وفق نياتهم، وهذا ما حمل عليه الحنفية هذه
الآية فإنهم قالوا: الإيلاء من المرأة أن يقول: والله لا
أقربك أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فصاعدا على التقييد بالأشهر، أو
لا أقربك على الإطلاق، ولا يكون فيما دون ذلك عند الأئمة
الأربعة، وأكثر العلماء خلافا للظاهرية والنخعية وقتادة
وحماد وابن أبي حماد وإسحاق حيث يصير عندهم موليا في قليل
المدة وكثيرها، وحكمه إن فاء إليها في المدّة بالوطء إن
أمكن، أو بالقول إن عجز عنه صح الفيء وحنث القادر ولزمته
كفارة اليمين ولا كفارة على
(1/522)
|