روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا
يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ
إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي
عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ
دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ
مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا
آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا
حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ
اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ
طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ
زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا
أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
(230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ
اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ
يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ
أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ
ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ
كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ
بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى
الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ
تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا
وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ
مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا
بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ
فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ
وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا
قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ
حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ
تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً
وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى
الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً
فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ
الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ
إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حَافِظُوا
عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا
فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا
لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ
مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ
مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ
مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ
آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ
الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ
إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ
ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ
لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا
لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا
نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ
دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ
الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ
إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا
أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ
بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي
الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ
مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ
الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ
قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ
مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ
مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا
مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا
الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ
أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ
غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ
قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ
أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
(250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ
جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ
وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ
ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ
نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ (252)
العاجز، وإن مضت الأربعة بانت بتطليقة من
غير مطالبة المرأة إيقاع الزوج أو الحكم، وقالت الشافعية: لا
إيلاء إلا فى أكثر من «الأربعة أشهر» فلو قال: والله لا أقربك
«الأربعة أشهر» لا يكون إيلاء شرعا عندهم ولا يترتب حكمه عليه
بل هو يمين كسائر الأيمان، إن حنث كفر، وإن برّ فلا شيء عليه،
وللمولي التلبث في هذه المدّة فلا يطالب بفيء ولا طلاق، فإن
فاء في اليمين بالحنث فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ للمولي
إثم حنثه إذا كفر كما في الجديد، أو ما توخى بالإيلاء من ضرار
المرأة ونحوه بالفيئة التي هي كالتوبة وَإِنْ عَزَمُوا
الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لطلاقه عَلِيمٌ بنيته، وإذا
مضت المدّة ولم يفئ ولم يطلق طولب بأحد الأمرين، فإن أبى عنهما
طلق عليه الحاكم وأريد كون مدته أكثر من أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ
بأن- الفاء- في الآية للتعقيب فتدل على أن حكم الإيلاء من
الفيئة والطلاق يترتب عليه بعد مضي أربعة أشهر، فلا يكون
الإيلاء في هذه المدة إيلاء شرعا لانتفاء حكمه- وبذلك اعترضوا
على الحنفية- واعترضوا عليهم أيضا بأنه لو لم يحتج إلى الطلاق
بعد مضي المدّة لزم وقوع الطلاق من غير موقع، وإن النص يشير
إلى أنه مسموع، فلو بانت من غير طلاق لا يكون هاهنا شيء مسموع،
وأجيب عن الأول بأن- الفاء- للتعقيب في الذكر، وعن الثاني بأن
المسموع ما يقارن ذلك الترك من المقاولة والمجادلة وحديث النفس
به كما يسمع وسوسة الشيطان عليهم بما استمرّوا عليه من الظلم
أو الإيلاء الذي صار طلاقا بائنا بالمضي، وهذا أنسب بقوله
سبحانه وتعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ حيث اكتفى بمجرّد
العزم بخلاف ما قالته الشافعية من أنه يحتاج إلى الطلاق بعد
مضي المدة فإنه يحتاج إلى التقدير، وبعده
لا يحتاج إلى عَزَمُوا أو يحتاج إلى جعل «عزم الطلاق» كناية
عنه، فما قيل: من أن الآية بصريحها مع الشافعي ليس في محله،
وقد ذهب إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة وكثير من الإمامية،
وأخرج عبد بن حميد عن علي كرّم الله تعالى وجهه قال: الإيلاء
إيلاءان إيلاء في الغضب، وإيلاء في الرضا، فأمّا الإيلاء في
الغضب فإذا مضت أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فقد بانت منه، وأمّا ما
كان في الرضا فلا يؤاخذ به.
وأخرج عبد الرزاق عن سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنهما قال:
أتى رجل عليا كرم الله تعالى وجهه فقال: إني حلفت أن لا آتي
امرأتي سنتين فقال: ما أراك إلا قد آليت، قال إنما حلفت من أجل
أنها ترضع ولدي، قال فلا إذا.
وروي عن إبراهيم «ما أعلم الإيلاء إلا في الغضب لقوله سبحانه
وتعالى فَإِنْ فاؤُ وإنما الفيء من الغضب» وروي ذلك عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما، واستدل بعموم الآية على صحة
الإيلاء من الكافر، وبأي يمين كان، ومن غير المدخول بها
والصغيرة والخصي. وأن العبد تضرب له «الأربعة أشهر» كالحر،
واستدل بتخصيص هذا الحكم بالمولي على أنّ من ترك الوطء «ضرارا»
بلا يمين لا يلزمه شيء، وما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها
أنها قالت وهي تعظ خالد بن سعيد المخزومي وقد بلغها أنه هجر
امرأته: إياك يا خالد وطول الهجر، فإنك قد سمعت ما جعل الله
تعالى للمولي من الأجل محمول على إرادة العطف والتحذير من
التشبه بالإيلاء.
(1/523)
وَالْمُطَلَّقاتُ أي ذوات الأقراء من
الحرائر المدخول بهنّ لما قد بين في الآيات والأخبار أن لا
عدّة على غير المدخول بها وأن عدّة من لا تحيض لصغر أو كبر أو
حمل بالأشهر ووضع الحمل، وأن عدة الأمة قرءان أو شهران- فأل-
ليست للاستغراق لأنه هاهنا متعذر لما بين، فتحمل على الجنس كما
في- لا أتزوج النساء- ويراد منه ما ذكر بقرينة الحكم، وهذا
مذهب ساداتنا الحنفية لأن الكلام المستقل الغير الموصول عندهم
ناسخ للعام، والنسخ إنما يصح إذا ثبت عموم الحكم السابق- ولا
عموم هاهنا- وقال الشافعية: إن الْمُطَلَّقاتُ عام وقد خص
البعض بكلام
(1/525)
مستقل غير موصول، واعترضه الإمام بأنّ
التخصيص إنما يحسن إذا كان الباقي تحت العام أكثر، وهاهنا ليس
كذلك وليس بشيء لأنه مما لا شاهد له فإنّ المذكور في كتب
الأصول أن العام يجوز تخصيصه إلى أن يبقى تحته ما يستحق به
معنى الجمع لئلا يلزم إبطال الصيغة فليفهم.
يَتَرَبَّصْنَ أي ينتظرن، وهو خبر قصد منه الأمر على سبيل
الكناية فلا يحتاج في وقوعه خبرا لمبتدأ إلى التأويل على رأي
من لم يجوّز وقوع الإنشاء خبرا من غير تأويل، وقيل: إنّ الجملة
الاسمية خبرية بمعنى الأمر، أي ليتربصن الْمُطَلَّقاتُ ولا
يخفى أنه لا يحتاج إليه، وتغيير العبارة للتأكيد بدلالته على
التحقيق لأن الأصل في الخبر الصدق والكذب احتمال عقلي،
والإشعار بأنه مما يجب أن يسارع إلى امتثاله حيث أقيم اللفظ
الدال على الوقوع مقام الدال على الطلب، وفي ذكره متأخرا عن
المبتدأ فضل تأكيد لما فيه من إفادة التقوى على أحد الطريقين
المنقولين عن الشيخ عبد القاهر والسكاكي وقيد- التربص- هنا
بقوله سبحانه وتعالى: بِأَنْفُسِهِنَّ وتركه في قوله تعالى:
تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لتحريض النساء على- التربص-
لأن- الباء- للتعدية فيكون المأمور به أن يقمعن أنفسهن
ويحملنها على الانتظار، وفيه إشعار بكونهنّ مائلات إلى الرجال
وذلك مما يستنكفن منه، فإذا سمعن هذا تربصن وهذا بخلاف الآية
السابقة فإن المأمور فيها- بالتربص- الأزواج وهم وإن كانوا
طامحين إلى النساء لكن ليس لهم استنكاف منه، فذكر- الأنفس-
فيها لا يفيد تحريضهم على التربص ثَلاثَةَ قُرُوءٍ نصب على
الظرف لكونه عبارة عن المدّة، والمفعول به محذوف لأن- التربص-
متعدّ قال تعالى: وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ
يُصِيبَكُمُ اللَّهُ [التوبة: 52] أي يتربصن التزوج، وفي حذفه
إشعار بأنهنّ يتركن التزوّج في هذه المدّة بحيث لا يتلفظن به،
وجوّز أن يكون على المفعولية بتقدير مضاف أي يَتَرَبَّصْنَ
مضيها- والقروء- جمع قرء- بالفتح والضم- والأول أفصح وهو يطلق
للحيض، لما
أخرج النسائي وأبو داود والدارقطني «أن فاطمة ابنة أبي حبيش
قالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟
فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا، دعي الصلاة أيام أقرائك»
ويطلق للطهر الفاصل بين الحيضتين كما في ظاهر قول الأعشى:
أفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة مالا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
أي أطهارهن لأنها وقت الاستمتاع ولا جماع في الحيض في الجاهلية
أيضا وأصله الانتقال من الطهر إلى الحيض لاستلزامه كل واحد
منهما، والدليل على ذلك كما قال الراغب: إن الطاهر التي لم تر
الدم لا يقال لها ذات قرء والحائض التي استمر لها الدم لا يقال
لها ذلك أيضا، والمراد بالقرء في الآية عند الشافعي الانتقال
من الطهر إلى الحيض في قول قوي له، أو الطهر المنتقل منه كما
في المشهور وهو المروي عن عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت وخلق
كثير لا الحيض، واستدلوا على ذلك بمعقول ومنقول أما الأول فهو
أن المقصود من العدة براءة الرحم من ماء الزوج السابق والمعرف
لبراءة الرحم هو الانتقال إلى الحيض لأنه يدل على انفتاح فم
الرحم فلا يكون فيه العلوق لأنه يوجب انسداد فم الرحم عادة دون
الحيض فإن الانتقال من الحيض إلى الطهر يدل على انسداد فم
الرحم وهو مظنة العلوق فإذا جاء بعده الحيض علم عدم انسداده.
«وأما الثاني» فقوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ
[الطلاق: 1] واللام للتأقيت والتخصيص بالوقت فيفيد أن مدخوله
وقت لما قبله كما في قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ
الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الأنبياء: 47] أَقِمِ
الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء: 78] فيفيد أن العدة
وقت الطلاق والطلاق في الحيض غير مشروع لما
أخرج الشيخان أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما طلق زوجته وهي
حائض فذكر عمر لرسول
(1/526)
الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتغيظ ثم
قال: «مرة فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم
إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر
الله تعالى أن يطلق لها النساء»
وهو أحد الأدلة أيضا على أن العدة بالاطهار، وذهب ساداتنا
الحنفية إلى أن المراد بالقرء الحيض وهو المروي عن ابن عباس
ومجاهد وقتادة والحسن وعكرمة وعمرو بن دينار وجم غفير وكون
الانتقال من الطهر إلى الحيض هو المعرف للبراءة إذا سلم معارض
بأن سيلان الدم هو السبب للبراءة المقصودة ولا نسلم أن اعتبار
المعرف أولى من اعتبار السبب وليس هذا من المكابرة في شيء على
أن المهم في مثل هذه المباحث الأدلة النقلية، وفيما ذكروه منها
بحث لأن لام التوقيت لا تقتضي أن يكون مدخولها ظرفا لما قبلها
ففي الرضي أن اللام في نحو جئتك لغرة كذا هي المفيدة للاختصاص
الذي هو أصلها، والاختصاص هاهنا على ثلاثة أضرب: أما أن يختص
الفعل بالزمان بوقوعه فيه نحو كتبته لغرة كذا. أو يختص به
لوقوعه بعده نحو لليلة خلت أو اختص به لوقوعه قبله نحو لليلة
بقيت، فمع الإطلاق يكون الاختصاص لوقوعه فيه ومع قرينة نحو خلت
يكون لوقوعه بعده ومع قرينة نحو بقيت لوقوعه قبله انتهى. وفيما
نحن فيه قرينة تدل على كونه قبله لأن التطليق يكون قبل العدة
لا مقارنا لها، ويؤيده قراءة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
في قبل عدتهن ففي الصحاح القبل والقبل نقيض الدبر والدبر، ووقع
السهم بقبل الهدف وبدبره- وقدّ قميصه من قبل ودبر- أي من مقدمه
ومؤخره، ويقال: أنزل بقبل هذا الجبل- أي بسفحه- فمعنى في قبل
عدتهنّ في مقدم عدتهنّ وأمامها- كما يقتضيه ظاهر الأمثلة- وما
ذكره من أن قبل الشيء أوله يرجع إلى هذا أيضا، على تسليم عدم
الرجوع يرجع المقدّم الأول بالتبادر وكثرة الاستعمال والتأييد
يحصل بذلك المقدار، والحديث الذي أخرجه الشيخان مسلم لكن جعله
دليلا على أن- العدّة- هي الأطهار غير مسلم لأنه موقوف على جعل
الإشارة للحالة التي هي الطهر، ولا يقوم عليه دليل فإن- اللام-
في
«يطلق لها النساء»
كاللام في لِعِدَّتِهِنَّ يجوز أن تكون بمعنى- في- وأن تكون
بمعنى- قبل- فيجوز أن يكون المشار إليه الحيض، وأنث اسم
الإشارة مراعاة للخبر كالضمير إذا وقع بين مرجع مذكر وخبر مؤنث
فإنّ الأولى على ما عليه الأكثر مراعاة الخبر إذ ما مضى فات،
والمعنى فتلك الحيض العدّة التي أمر الله تعالى أن يطلق قبلها
النساء- لا أن يطلق فيها النساء- كما فهمه ابن عمر وأوقع
الطلاق فيه، وقول الخطابي: الأقراء التي تعتدّ بها المطلقة
الاطهار لأنه ذكر فتلك العدّة بعد الطهر مجاب عنه بأن ذكره بعد
الطهر لا يقتضي أن يكون مشارا إليه لجواز أن يكون ذكر الطهر
للإشارة إلى أنّ الحيض المحفوف بالطهر يكون عدة، وحينئذ لا
يحتاج ذكر الطهر الثاني إلى نكتة وهي أنه إذا راجعها في الطهر
الأوّل بالجماع لم يكن طلاقها فيه للسنة فيحتاج للطهر الثاني
ليصح فيه إيقاع الطلاق السني، وأن لا تكون الرجعة لغرض الطلاق
فقط، وأن يكون كالتوبة عن المعصية باستبدال حاله، وأن يطول
مقامه معها فلعله يجامعها فيذهب ما في نفسها من سبب الطلاق
فيمسكها هذا ما يرجع إلى الدفع، وأما الاستدلال على أن «القرء»
الحيض فهو ما
أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة والدارقطني عن عائشة أنه
صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «طلاق الأمة تطليقتان، وعدّتها
حيضتان»
فصرح بأن عدة الأمة حيضتان، ومعلوم أن الفرق بين الحرّة والأمة
باعتبار مقدار العدّة لا في جنسها فيلتحق قوله تعالى: ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ للإجمال الكائن بالاشتراك بيانا به وكونه لا يقاوم ما
أخرجه الشيخان في قصة ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لضعفه لأن
فيه مظاهرا ولم يعرف له سواه لا يخلو عن بحث، أما أولا فلما
علمت أن ذلك الحديث ليس بنص في المدعى، وأما ثانيا فلأن تعليل
تضعيف مظاهر غير ظاهر، فإن ابن عدي أخرج له حديثا آخر ووثقه
ابن حبان، وقال الحاكم: ومظاهر شيخ من أهل البصرة ولم يذكره
أحد من متقدمي مشايخنا بجرح فإذا إن لم يكن الحديث صحيحا كان
حسنا، ومما يصحح الحديث عمل العلماء على وفقه قال الترمذي عقيب
روايته: حديث غريب والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب الرسول
صلى الله تعالى عليه وسلم
(1/527)
وغيرهم، وفي الدارقطني قال القاسم وسالم:
وعمل به المسلمون، وقال مالك: شهرة الحديث تغني عن سنده كذا في
الفتح، ومن أصحابنا من استدل بأنه لو كان المراد من القرء
الطهر لزم إبطال موجب الخاص أعني لفظ ثلاثة فإنه حينئذ تكون
العدة طهرين، وبعض الثالث في الطلاق المشهور ولا يخفى أنه
كأمثاله في هذا المقام ناشىء من قلة التدبر فيما قاله الإمام
الشافعي رضي الله تعالى عنه فلهذا اعترضوا به عليه لأنه إنما
جعل القرء الانتقال من الطهر إلى الحيض، أو الطهر المنتقل منه
لا الطهر الفاصل بين الدمين، والانتقال المذكور، أو الطهر
المنتقل منه تام على أن كون الثلاثة اسما لعدد كامل غير مسلم،
والتحقيق فيه أنه إذا شرع في الثالث ساغ الإطلاق ألا تراهم
يقولون هو ابن ثلاث سنين وإن لم تكمل الثالثة، وذلك لأن الزائد
جعل فردا مجازا ثم أطلق على المجموع اسم العدد الكامل، ومن
الشافعية من جعل القرء اسما للحيض الذي يحتوشه دمان وجعل
إطلاقه على بعض الطهر وكله كإطلاق الماء والعسل، قالوا
والاشتقاق مرشد إلى معنى الضم والاجتماع، وهذا الطهر يحصل فيه
اجتماع الدم في الرحم وبعضه وكله في الدلالة على ذلك على
السواء- وأطالوا الكلام في ذلك- والإمامية وافقوهم فيه
واستدلوا عليه برواياتهم عن الأئمة والرواية عن علي كرم الله
تعالى وجهه في هذا الباب مختلفة، وبالجملة كلام الشافعية في
هذا المقام قوي كما لا يخفى على من أحاط بأطراف كلامهم واستقرأ
ما قالوه وتأمل ما دفعوا به أدلة مخالفيهم وفي الكشف بعض الكشف
وما في الكشاف غير شاف لبغيتنا وهذا المقدار يكفي أنموذجا.
هذا وكان القياس ذكر القرء بصيغة القلة التي هي الإقراء ولكنهم
يتوسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من البناءين مكان الآخر ولعل
النكتة المرجحة لاختياره هاهنا أن المراد بالمطلقات هاهنا جميع
المطلقات ذوات الأقراء الحرائر وجميعها متجاوز فوق العشرة فهي
مستعملة مقام جمع الكثرة ولكل واحدة منها ثلاثة أقراء فيحصل في
الأقراء الكثرة فحسن أن يستعمل جمع الكثرة في تمييز الثلاثة
تنبيها على ذلك وهذا كما استعمل أنفسهن مكان نفوسهن للإشارة
إلى أن الطلاق ينبغي أن يقع على القلة وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ
أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ قال ابن
عمر:
الحمل والحيض أي لا يحل لها إن كانت حاملا أن تكتم حملها ولا
إن كانت حائضا أن تكتم حيضها فتقول وهي حائض: قد طهرت وكن
يفعلن الأول لئلا ينتظر لأجل طلاقها أن تضع ولئلا يشفق الرجل
على الولد فيترك تسريحها والثاني
استعجالا لمضي العدة وإبطالا لحق الرجعة وهذا القول هو المروي
عن الصادق
والحسن ومجاهد وغيرهم والقول- بأن الحيض غير مخلوق في الرحم بل
هو خارج عنه- فلا يصح حمل ما على عمومها بل يتعين حملها على
الولد وهو المروي عن ابن عباس وقتادة مدفوع بأن ذات الدم وإن
كان غير مخلوق في الرحم لكن الاتصاف بكونه حيضا إنما يحصل له
فيه وما قيل: إن الكلام في المطلقات ذوات الأقراء فلا يحتمل
خلق الولد في أرحامهن فيجب حمل ما على الحيض كما حكي عن عكرمة
فمدفوع أيضا بأن تخصيص العام وتقييده بدليل خارجي لا يقتضي
اعتبار ذلك التخصيص أو التقييد في الراجع، واستدل بالآية على
أنّ قولهما يقبل فيما خلق الله تعالى في أرحامهن إذ لولا قبول
ذلك لما كان فائدة في تحريم كتمانهن، قال ابن الفرس: وعندي أن
الآية عامة في جميع ما يتعلق بالفرج من بكارة وثيوبة وعيب.
لأنّ كل ذلك مما خلق الله تعالى في أرحامهن فيجب أن يصدقن فيه،
وفيه تأمل إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ شرط لقوله تعالى: لا يَحِلُّ لكن ليس الغرض منه
التقييد حتى لو لم يؤمن كالكتابيات- حل لهنّ الكتمان- بل بيان
منافاة الكتمان للإيمان وتهويل شأنه في قلوبهنّ، وهذه طريقة
متعارفة يقال: إن كنت مؤمنا فلا تؤذ أباك، وقيل: إنه شرط جزاؤه
محذوف- أي فلا يكتمن- وقوله سبحانه: لا يَحِلُّ علة له أقيم
مقامه، وتقدير الكلام «إن كنّ يؤمنّ بالله واليوم الآخر لا
يكتمن ما خلق الله في أرحامهن لأنه لا يحل لهن» وفيه «أن لا
يكتمن
(1/528)
المقدّر» إن كان نهيا يلزم تعليل الشيء
بنفسه، وإن كان نفيا يكون مفاد الكلام تعليق عدم وقوع الكتمان
في المستقبل بأيمانهم في الزمان الماضي وهو كما ترى
وَبُعُولَتُهُنَّ أي أزواج المطلقات جمع- بعل- كعم وعمومة،
وفحل وفحولة- والهاء- زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة، والأمثلة
سماعية لا قياسية، لا يقال: كعب وكعوبة، قاله الزجاج «وفي
القاموس» - البعل- الزوج، والأنثى- بعل وبعلة- والرب والسيد
والمالك والنخلة التي لا تسقى أو تسقى بماء المطر «وقال
الراغب» - البعل- النخل الشارب بعروقه، عبر به عن الزوج
لإقامته على الزوجة للمعنى المخصوص، وقيل:
باعلها جامعها، وبعل الرجل إذا دهش فأقام كأنه النخل الذي لا
يبرح، ففي اختيار لفظ- البعولة- إشارة إلى أنّ أصل الرجعة
بالمجامعة، وجوّز أن يكون- البعولة- مصدرا نعت به من قولك: بعل
حسن البعولة- أي العشرة مع الزوجة- أو أقيم مقام المضاف
المحذوف، أي وأهل بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ إلى
النكاح والرجعة إليهن، وهذا إذا كان الطلاق رجعيا للآية بعدها،
فالضمير- بعد اعتبار القيد- أخص من المرجوع إليه، ولا امتناع
فيه كما إذا كرّر الظاهر، وقيل: بعولة المطلقات أَحَقُّ
بِرَدِّهِنَّ وخصص بالرجعي، وأَحَقُّ هاهنا بمعنى- حقيق- عبر
عنه بصيغة التفضيل للمبالغة، كأنه قيل: للبعولة حق الرجعة، أي
حق محبوب عند الله تعالى بخلاف الطلاق فإنه مبغوض، ولذا
ورد للتنفير عنه «أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق»
وإنما لم يبق على معناه من المشاركة والزيادة إذ لا حق للزوجة
في الرجعة كما لا يخفى. وقرأ أبيّ «بردّتهن» فِي ذلِكَ أي
زمان- التربص- وهو متعلق ب أَحَقُّ أو بِرَدِّهِنَّ إِنْ
أَرادُوا إِصْلاحاً أي إن أراد البعولة بالرجعة إِصْلاحاً لما
بينهم وبينهن، ولم يريدوا الإضرار بتطويل العدّة عليهنّ مثلا،
وليس المراد من التعليق اشتراط جواز الرجعة بإرادة الإصلاح حتى
لو لم يكن قصده ذلك لا تجوز للإجماع على جوازها مطلقا، بل
المراد تحريضهم على قصد الإصلاح حيث جعل كأنه منوط به ينتفي
بانتفائه وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ
فيه صنعة الاحتباك، ولا يخفى لطفه فيما بين الزوج والزوجة حيث
حذف في الأول بقرينة الثاني، وفي الثاني بقرينة الأول، كأنه
قيل: ولهنّ عليهم مثل الذي لهم عليهنّ، والمراد- بالمماثلة-
المماثلة في الوجوب- لا في جنس الفعل- فلا يجب عليه إذا غسلت
ثيابه أو خبزت له أن يفعل لها مثل ذلك، ولكن يقابله بما يليق
بالرجال،
أخرج الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة عن عمرو بن الأحوص أن
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «ألا إنّ لكم على
نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فأمّا حقكم على نسائكم فلا
يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون، ألا
وحقهنّ عليكم أن تحسنوا إليهنّ في كسوتهنّ وطعامهن»
وأخرج وكيع وجماعة عن أنس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
قال: «إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين المرأة لي،
لأن الله تعالى يقول: وَلَهُنَّ» الآية، وجعلوا مما يجب لهنّ
عدم العجلة إذا جامع حتى تقضي حاجتها.
والمجرور الأخير متعلق بما تعلق به الخبر، وقيل: صفة ل مِثْلُ
وهي لا تتعرف بالإضافة وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ
زيادة في الحق لأنّ حقوقهم في أنفسهن، فقد ورد أنّ النكاح
كالرق أو شرف فضيلة لأنهم قوام عليهن وحرّاس لهن، يشاركوهنّ في
غرض الزواج من التلذذ وانتظام مصالح المعاش، ويخصون بشرف يحصل
لهم لأجل الرعاية والإنفاق عليهن- والدرجة- في الأصل- المرقاة-
ويقال فيها: دَرَجَةٌ كهمزة «قال الراغب» الدرجة- نحو المنزلة
لكن تقال إذا اعتبرت بالصعود دون الامتداد على البسيط- كدرجة
السطح والسلم- ويعبر بها عن المنزلة الرفيعة، ومنه الآية فهي
على التوجيهين مجاز «وفي الكشف» أن أصل التركيب لمعنى الأناة
والتقارب على مهل من- درج الصبي إذا حبا- وكذلك الشيخ والمفيد
لتقارب خطوهما- والدرجة- التي يرتقي عليها لأن الصعود ليس في
السهولة كالانحدار والمشي على مستو، فلا بدّ من تدرّج- والدرج-
المواضع التي يمر عليها السيل شيئا فشيئا، ومنه التدرّج في
الأمور، والاستدراج من الله، والدركة هي الدرجة بعينها لكن في
الانحدار- والرجال- جمع رجل، وأصل الباب القوّة والغلبة
(1/529)
وأتى بالمظهر بدل المضمر للتنويه بذكر-
الرجولية- التي بها ظهرت المزية لِلرِّجالِ على النساء
وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب لا يعجزه الانتقام ممن خالف الأحكام
حَكِيمٌ عالم بعواقب الأمور والمصالح التي شرع ما شرع لها،
والجملة تذييل للترهيب والترغيب.
الطَّلاقُ مَرَّتانِ إشارة إلى الطلاق المفهوم من قوله تعالى:
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ وهو الرجعي وهو بمعنى
التطليق الذي هو فعل الرجل- كالسلام بمعنى التسليم- لأنه
الموصوف بالوحدة والتعدّد دون ما هو وصف المرأة، ويؤيد ذلك ذكر
ما هو من فعل الرجل أيضا بقوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ
أي بالرجعة وحسن المعاشرة أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أي إطلاق
مصاحب له من جبر الخاطر وأداء الحقوق، وذلك إما بأن لا يراجعها
حتى تبين، أو يطلقها الثالثة- وهو المأثور-
فقد أخرج أبو داود وجماعة عن أبي رزين الأسدي أنّ رجلا قال: يا
رسول الله- صلى الله تعالى عليه وسلم- إني أسمع الله تعالى
يقول الطَّلاقُ مَرَّتانِ فأين الثالثة؟ فقال: «التسريح بإحسان
هو الثالثة»
وهذا يدل على أن معنى مَرَّتانِ اثنتان، ويؤيد العهد- كالفاء-
في الشق الأوّل فإنّ ظاهرها التعقيب بلا مهلة، وحكم الشيء
يعقبه بلا فصل، وهذا هو الذي حمل عليه الشافعية الآية، ولعله
أليق بالنظم حيث قد انجرّ ذكر اليمين إلى ذكر الإيلاء الذي هو
طلاق، ثم انجرّ ذلك إلى ذكر حكم الْمُطَلَّقاتُ من العدة
والرجعة، ثم انجر ذلك إلى ذكر أحكام الطلاق المعقب للرجعة، ثم
انجرّ ذلك إلى بيان الخلع والطلاق الثلاثة- وأوفق بسبب النزول-
فقد أخرج مالك والشافعي والترمذي رضي الله تعالى عنهما وغيرهم.
عن عروة قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن
تنقضي عدّتها كان ذلك له وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى
امرأته فطلقها حتى إذا ما شارفت انقضاء عدّتها ارتجعها ثم
طلقها ثم قال: والله لا آويك إليّ ولا تخلين أبدا، فأنزل الله
تعالى الآية، والذي دعاهم إلى ذلك قولهم إن جمع الطلقات الثلاث
غير محرّم وأنه لا سنة في التفريق كما في تحفتهم، واستدلوا
عليه بأن- عويمرا العجلاني- لما لاعن امرأته طلقها ثلاثا قبل
أن يخبره صلى الله تعالى عليه وسلم بحرمتها عليه- رواه
الشيخان- فلو حرم لنهاه عنه لأنه أوقعه معتقدا بقاء الزوجية،
ومع اعتقادها يحرم الجمع عند المخالف، ومع الحرمة يجب الإنكار
على العالم وتعليم الجاهل، ولم يوجدا فدل على أنه لا حرمة
وبأنه قد فعله جمع من الصحابة وأفتى به آخرون، وقال ساداتنا
الحنفية: إن الجمع بين التطليقتين والثلاث بدعة، وإنما السنة
التفريق لما
روي في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم قال له: «إنما السنة أن تستقبل الطهر
استقبالا فتطلقها لكل قرء تطليقة»
فإنه لم يرد صلى الله تعالى عليه وسلم من السنة أنه يستعقب
الثواب لكونه أمرا مباحا في نفسه لا مندوبا بل كونه من الطريقة
المسلوكة في الدين- أعني ما لا يستوجب عقابا- وقد حصره عليه
الصلاة والسلام على التفريق فعلم أن ما عداه من الجمع، والطلاق
في الحيض بدعة- أي موجب لاستحقاق العقاب- وبهذا يندفع ما قيل:
إن الحديث إنما يدل على أن جمع الطلقتين أو الطلقات في طهر
واحد ليس سنة، وأمّا أنه بدعة فلا لثبوت الواسطة عند المخالف،
ووجه الدفع ظاهر كما لا يخفى «وفي الهداية» وقال الشافعي، كل
الطلاق مباح لأنه تصرف مشروع- حتى يستفاد به الحكم- المشروعية
لا تجامع الحظر بخلاف الطلاق في الحيض لأن المحرّم تطويل
العدّة عليها- لا الطلاق- ولنا أن الأصل في الطلاق هو الحظر
لما فيه من قطع النكاح الذي تعلقت به المصالح الدينية
والدنيوية والإباحة للحاجة إلى الخلاص، ولا حاجة إلى الجمع بين
الثلاث، وهي في المفرق على- الاطهار- ثابتة نظرا إلى دليلها،
والحاجة في نفسها باقية فأمكن تصوير الدليل عليها، والمشروعية
في ذاته من حيث إنه إزالة الرق لا ينافي الحظر لمعنى في غيره-
وهو ما ذكرناه- انتهى. ومنه يعلم أن المخالف معمم- لا مقسم-
وإذا قلنا إنه مقسم بناء على ما في كتب بعض مذهبه فغاية ما
أثبت
(1/530)
أن الجمع خلاف الأولى من التفريق على
الأقراء أو الأشهر، وقد علمت أن تقسيم أبي القاسم صلى الله
تعالى عليه وسلم غير تقسيمه، وأجيب عما في خبر عويمر بأنها
وقاعة حال- فلعلها من المستثنيات- لما أن مقام اللعان ضيق
فيغتفر فيه مثل ذلك ويعذر فيه الغيور وأعمال الدليلين أولى من
إهمال أحدهما وحملوا الآية على أن المراد التطليق الشرعي
تطليقة بعد تطليقة على التفريق لما أن وظيفة الشارع بيان
الأمور الشرعية واللام ليست نصا في العهد بل الظاهر منها الجنس
وأيضا تقييد الطلاق بالرجعي يدع ذكر الرجعة بقوله سبحانه:
فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ تكرارا إلا أن يقال المطلوب هاهنا
الحكم المردد بين الإمساك والتسريح، وأيضا لا يعلم على ذلك
الوجه حكم الطلاق الواحد إلا بدلالة النص، وهذا الوجه مع كونه
أبعد عن توهم التكرار ودلالته على حكم الطلاق الواحد بالعبارة
يفيد حكما زائدا وهو التفريق، ودلالة الآية حينئذ على ما ذهبوا
إليه ظاهرة إذا كان معنى مرتين مجرد التنكير يردون التثنية على
حد ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: 4] أي كرة بعد
كرة لا كرتين ثنتين إلا أنه يلزم عليه إخراج التثنية عن معناها
الظاهر، وكذا إخراج- الفاء- أيضا وجعل ما بعدها حكما مبتدأ
وتخييرا مطلقا عقيب تعليمهم كيفية التطليق وليس مرتبا على
الأول ضرورة أن التفريق المطلق لا يترتب عليه أحد الأمرين لأنه
إذا كان بالثلاث لا يجوز بعده الإمساك ولا التسريح وتحمل-
الفاء- حينئذ على الترتيب الذكري- أي إذا علمتم كيفية الطلاق
فاعلموا أن حكمه الإمساك أو التسريح- فالامساك في الرجعي
والتسريح في غيره، وإذا كان معنى- مرتين- التفريق مع التثنية
كما قال به المحققون- بناء على أنه حقيقة في الثاني ظاهر في
الأول إذ لا يقال لمن دفع إلى آخر درهمين مرة واحدة أنه أعطاه
مرتين حتى يفرق بينهما وكذا لمن طلق زوجته ثنتين دفعة أنه طلق
مرتين- اندفع حديث ارتكاب خلاف الظاهر في التثنية كما هو ظاهر،
وفيما بعدها أيضا لصحة الترتب ويكون عدم جواز الجمع بين
التطليقتين مستفادا من مَرَّتانِ الدالة على التفريق والتثنية،
وعدم الجمع بين الثالثة مستفادا من قوله سبحانه: أَوْ
تَسْرِيحٌ حيث رتب على ما قبله بالفاء قيل: إنه مستفاد من
دلالة النص هذا ثم من أوجب التفريق ذهب إلى أنه لو طلق غير
مفرق وقع طلاقه وكان عاصيا وخالف في ذلك الإمامية وبعض من أهل
السنة- كالشيخ أحمد بن تيمية ومن اتبعه- قالوا: لو طلق ثلاثا
بلفظ واحد لا تعد له أربعا بالإجماع وكذا لو رمى بسبع حصيات
دفعة واحدة لم يجزه إجماعا، ومثل ذلك ما لو حلف ليصلين على
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ألف مرة فقال صلى الله تعالى
عليه وسلم على النبي صلّى الله عليه وسلّم ألف مرة فإنه لا
يكون بارا ما لم يأت بآحاد الألف، وتمسكا بما أخرجه مسلم. وأبو
داود والنسائي والحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما قال:
كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر واحدة فقال عمر: إن الناس قد
استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه.
وذهب بعضهم إلى أن مثل ذلك ما لو طلق في مجلس واحد ثلاث مرات
فإنه لا يقع إلا واحدة أيضا لما
أخرج البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «طلق
ركانة امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كيف طلقتها؟ قال: طلقتها
ثلاثا قال: في مجلس واحد؟ قال: نعم قال:
فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت فراجعها»
والذي عليه أهل الحق اليوم خلاف ذلك كله.
والجواب عن الاحتجاج بالآية أنها كما علمت ليست نصا في
المقصود، وأما الحديث فقد أجاب عنه جماعة قال السبكي: وأحسن
الأجوبة أنه فيمن يعرف اللفظ فكانوا أولا يصدقون في إرادة
التأكيد لديانتهم فلما كثرت الأخلاط فيهم اقتضت المصلحة عدم
تصديقهم وإيقاع الثلاث، واعترضه العلامة ابن حجر قائلا: إنه
عجيب فإن
(1/531)
صريح مذهبنا تصديق مريد التأكيد بشرطه وإن
بلغ في الفسق ما بلغ، ثم نقل عن بعض المحققين أن أحسنها أنهم
كانوا يعتادونه طلقة ثم في زمن عمر رضي الله تعالى عنه
استعجلوا وصاروا يوقعونه ثلاثا فعاملهم بقضيته وأوقع الثلاث
عليهم، فهو إخبار عن اختلاف عادة الناس لا عن تغيير حكم في
مسألة، واعترض عليه بعدم مطابقته للظاهر المتبادر من كلام عمر
لا سيما مع قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الثلاث إلخ،
فهو تأويل بعيد لا جواب حسن فضلا عن كونه أحسن، ثم قال:
والأحسن عندي أن يجاب بأن عمر رضي الله تعالى عنه لما استشار
الناس علم فيه ناسخا لما وقع قبل فعمل بقضيته وذلك الناسخ إما
خبر بلغه أو إجماع وهو لا يكون إلا عن نص، ومن ثمّ أطبق علماء
الأمة عليه، وأخبار ابن عباس لبيان أن الناسخ إنما عرف بعد مضي
مدة من وفاته صلّى الله عليه وسلّم انتهى، وأنا أقول الطلاق
الثلاث في كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يحتمل أن يكون
بلفظ واحد، وحينئذ يكون الاستدلال به على المدعى ظاهرا، ويؤيد
هذا الاحتمال ظاهرا ما أخرجه أبو داود عنه إذا قال الرجل
لامرأته أنت طالق ثلاثا بفم واحدة فهي واحدة وحينئذ يجاب
بالنسخ، ويحتمل أن يكون بألفاظ ثلاثة في مجلس واحد مثل أنت
طالق أنت طالق أنت طالق، ويحمل ما أخرجه أبو داود على هذا بأن
يكون ثلاثا متعلقا- يقال- لا صفة لمصدر محذوف أي طلاقا ثلاثا
ولا تمييز للابهام الذي في الجملة قبله، وبفم واحدة معناه
متتابعا وحينئذ يوافق الخبر بظاهره أهل القول الأخير، ويجاب
عنه بأن هذا في الطلاق قبل الدخول فإنه كذلك لا يقع إلا واحدة
كما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لأن
البينونة وقعت بالتطليقة الأولى فصادفتها الثانية وهي مبانة،
ويدل على ذلك ما أخرجه أبو داود والبيهقي عن طاوس أن رجلا يقال
له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال: أما علمت أن
الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة
على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من
إمارة عمر؟ قال ابن عباس: بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا
قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر فلما رأى الناس
قد تتايعوا (1) فيها قال: أجيزوهن عليهم، وهذه مسألة اجتهادية
كانت على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يرو في
الصحيح أنها رفعت إليه فقال فيها شيئا، ولعلها كانت تقع في
المواضع النائية في آخر أمره صلّى الله عليه وسلّم فيجتهد فيها
من أوتي علما فيجعلها واحدة، وليس في كلام ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما تصريح بأن الجاعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
بل في قوله جعلوها واحدة إشارة إلى ما قلنا، وعمر رضي الله
تعالى عنه بعد مضي أيام من خلافته ظهر له بالاجتهاد أن الأولى
القول بوقوع الثلاث لكنه خلاف مذهبنا، وهو مذهب كثير من
الصحابة حتى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقد أخرج مالك
والشافعي وأبو داود والبيهقي عن معاوية بن أبي عياش أنه كان
جالسا مع عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر فجاءهما محمد بن أبي
إياس ابن البكير فقال إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا
قبل أن يدخل بها فماذا تريان؟ فقال ابن الزبير: إن هذا الأمر
ما لنا فيه قول اذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند
عائشة فاسألهما فذهب فسألهما فقال ابن عباس لأبي هريرة: أفته
يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة فقال أبو هريرة رضي الله تعالى
عنه: الواحدة تبينها والثلاثة تحرمها حتى تنكح زوجا غيره، وقال
ابن عباس مثل ذلك، وإن حملت الثلاث في هذا الخبر على ما كان
بلفظ واحد لئلا يخالف مذهب الإمام فإن عنده إذا طلق الرجل
امرأته الغير المدخول بها ثلاثا بلفظ واحد وقعن عليها
لأن الواقع مصدر محذوف لأن معناه طلاقا بائنا فلم
__________
(1) قوله: تتايع الناس هو بتاءين فوقيتين بعدهما ألف ومثناة
تحتية بعدها عين مهملة وهو الوقوع في الشر من غير تماسك ولا
توقف. وفي أصل المؤلف بتاء بعدها باء وهو تصحيف تدبر اهـ إدارة
الطباعة المنيرية.
(1/532)
يكن أنت طالق إيقاعا على حدة فيقعن جملة
كان هذا الخبر معارضا لما رواه مسلم مؤيدا للنسخ كالخبر الذي
أخرجه الطبراني والبيهقي عن سويد بن غفلة قال: كانت عائشة
الخثعمية عند الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما فقال لها: قتل
علي كرم الله وجهه قالت: لتهنك الخلافة قال: يقتل عليّ وتظهرين
الشماتة اذهبي فأنت طالق ثلاثا قال:
فتلفعت بثيابها وقعدت حتى قضت عدتها فبعث إليها ببقية بقيت لها
من صداقها وعشرة آلاف صدقة فلما جاءها الرسول قالت: متاع قليل
من حبيب مفارق فلما بلغه قولها بكى ثم قال: لولا أني سمعت جدي-
أو حدثني- أبي أنه سمع جدي يقول أيما رجل طلق امرأته ثلاثا عند
الأقراء أو ثلاثا مبهمة لم تحل به حتى تنكح زوجا غيره
لراجعتها،
وما
أخرجه ابن ماجة عن الشعبي قال: قلت لفاطمة بنت قيس حدثيني عن
طلاقك قالت: طلقني زوجي ثلاثا وهو خارج إلى اليمن فأجاز ذلك
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم،
وأما حديث ركانة فقد روي على أنحاء، والذي صح ما
أخرجه الشافعي وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم والبيهقي
«أن ركانة طلق امرأته البتة فأخبر النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم بذلك وقال: والله ما أردت إلا واحدة فقال صلى الله تعالى
عليه وسلم: والله ما أردت إلّا واحدة؟
فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة قال: هو ما أردت فردها
عليه»
وهذا لا يصلح دليلا لتلك الدعوى لأن الطلاق فيه كناية ونية
العدد فيها معتبرة، وقد يستدل به على صحة وقوع الثلاث بلفظ
واحد لأنه دل على أنه لو أراد ما زاد على الواحدة وقع وإلا لم
يكن للاستخلاف فائدة والقياس على شهادات اللعان. ورمي الجمرات
قياس في غير محله، ألا ترى أنه لا يمكن الاكتفاء ببعض ذلك بوجه
ويمكن الاكتفاء ببعض وحدات الثلاث في الطلاق وتحصل به البينونة
بانقضاء العدة ويتم الغرض إجماعا، ولعظم أمر اللعان لم يكتف
فيه إلا بالإتيان بالشهادات واحدة واحدة مؤكدات بالأيمان
مقرونة، خامستها باللعن في جانب الرجل لو كان كاذبا وفي جانبها
بالغضب لو كان صادقا فلعل الرجوع أو الإقرار يقع في البين
فيحصل الستر أو يقام الحد ويكفر الذنب، وأيضا الشهادات الأربع
من الرجل منزلة منزلة الشهود الأربعة المطلوبة في رمي المحصنات
مع زيادة كما يشير إليه قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ
فَاجْلِدُوهُمْ [النور: 4] مع قوله سبحانه بعده: وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا
أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ [النور:
6] إلخ فكما أن- شهادة الشهود- متعددة لا يكفي فيها اللفظ
الواحد كذلك المنزل منزلتها، ورمي الجمرات وتسبيعها أمر تعبدي
وسره خفي فيحتاط له ويتبع المأثور فيه حذو القذة بالقذة، وباب
الطلاق ليس كهذين البابين على أن من الاحتياط فيه أن نوقعه
ثلاثا بلفظ واحد، ومجلس واحد، ولا نلغي فيه لفظ الثلاث التي لم
يقصد بها إلا إيقاعه على أتم وجه وأكمله، وما ذكر في مسألة
الحلف على أن لا يصلين ألف مرة من أنه لا يبر ما لم يأت بآحاد
الألف فأمر اقتضاه القصد والعرف، وذلك وراء ما نحن فيه كما لا
يخفى، ولهذا ورد عن أهل البيت ما يؤيد مذهب أهل السنة
فقد أخرج البيهقي عن بسام الصيرفي قال: سمعت جعفر بن محمد يقول
من طلق امرأته ثلاثا بجهالة أو علم فقد برئت،
وعن مسلمة بن جعفر الأحمس، قال: قلت لجعفر بن محمد رضي الله
تعالى عنهما يزعمون أن من طلق ثلاثا بجهالة رد إلى السنة
يجعلونه واحدة يروونها عنكم؟ قال: معاذ الله ما هذا من قولنا
من طلق ثلاثا فهو كما قال،
وقد سمعت ما رويناه عن الحسن: وما أخذ به الإمامية يروونه عن
علي كرم الله تعالى وجهه مما لا ثبت له والأمر على خلافه، وقد
افتراه على علي كرم الله تعالى وجهه شيخ بالكوفة وقد أقر
بالافتراء لدى الأعمش رحمه الله تعالى فليحفظ ما تلوناه فإني
لا أظنك تجده مسطورا في كتاب.
وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا في مقابلة الطلاق مِمَّا
آتَيْتُمُوهُنَّ أي من الصدقات فإن ذلك مناف للإحسان ومثلها في
الحكم سائر أموالهن إلا أن التخصيص إما لرعاية العادة أو
للتنبيه على أن عدم حل الأخذ مما عدا ذلك من
(1/533)
باب الأولى، والجار والمجرور يحتمل أن يكون
متعلقا بما عنده أو حالا من شَيْئاً لأنه لو أخر عنه كان صفة
له، والتنوين للتحقير، والخطاب مع الحكام، وإسناد الأخذ
والإيتاء إليهم لأنهم الآمرون بهما عند الترافع، وقيل: إنه
خطاب للأزواج، ويرد عليه أن فيه تشويشا للنظم الكريم لأن قوله
تعالى: إِلَّا أَنْ يَخافا أي الزوجان كلاهما أو أحدهما أَلَّا
يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ بترك إقامة مواجب الزوجية غير منتظم
معه لأن المعبر عنه في الخطاب الأزواج فقط، وفي الغيبة الأزواج
والزوجات ولا يمكن حمله على الالتفات إذ من شرطه أن يكون
المعبر عنه في الطريقين واحدا، وأين هذا الشرط نعم لهذا القيل
وجه صحة لكنها لا تسمن ولا تغني، وهو أن الاستثناء لما كان بعد
مضي جملة الخطاب من أعم الأحوال أو الأوقات أو المفعول له على
أن يكون المعنى بسبب من الأسباب إلا بسبب الخوف جاز تغيير
الكلام من الخطاب إلى الغيبة لنكتة وهي أن لا يخاطب مؤمن
بالخوف من عدم إقامة حدود الله، وقرىء «تخافا» و «تقيما» بتاء
الخطاب وعليها يهون الأمر فإن في ذلك حينئذ تغليب المخاطبين
على الزوجات الغائبات، والتعبير بالتثنية باعتبار الفريقين،
وقرأ حمزة ويعقوب «يخافا» على البناء للمفعول وإبدال أَنْ
بصلته من- ألف الضمير- بدل اشتمال كقولك: خيف زيد تركه حُدُودَ
اللَّهِ ويعضده قراءة عبد الله إلا أن تخافوا وقال ابن عطية:
عدي «خاف» إلى مفعولين «أحدهما» أسند إليه الفعل «والآخر»
بتقدير حرف جر محذوف فموضع أَنْ جرّ بالجار المقدر، أو نصب على
اختلاف الرأيين وردّه في البحر بأنه لم يذكره النحويون حين
عدوا ما يتعدى إلى اثنين، وأصل «أحدهما» بحرف الجرّ، وفي قراءة
أبيّ «إلا أن يظنا» وهو يؤيد تفسير- الظن بالخوف- فَإِنْ
خِفْتُمْ خطاب للحكام لا غير لئلا يلزم تغيير الأسلوب قبل مضي
الجملة أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ التي حدّها لهم.
فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي الزوجين، وهذا قائم مقام الجواب أي
فمروهما فإنه لا جناح فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ نفسها واختلعت لا
على الزوج في أخذه ولا عليها في إعطائه إياه،
أخرج ابن جرير عن عكرمة أنه سئل هل كان للخلع أصل؟ قال: كان
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: إن أوّل خلع كان في
الإسلام في أخت عبد الله بن أبي امرأة ثابت بن قيس «أنها أتت
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله لا يجمع
رأسي ورأسه شيء أبدا إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة
فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها قال زوجها: يا
رسول الله إني أعطيتها أفضل مالي حديقة لي فإن ردت عليّ حديقتي
قال: ما تقولين؟ قالت: نعم وإن شاء زدته قال: ففرق بينهما»
وفي رواية البخاري- أن المرأة اسمها جميلة وأنها بنت عبد الله
المنافق- وهو الذي رجحه الحفاظ وكون اسمها زينب جاء من طريق
الدارقطني قال الحافظ ابن حجر: فلعل لها اسمين أو أحدهما لقب
وإلا فجميلة أصح، وقد وقع في حديث آخر أخرجه مالك والشافعي
وأبو داود أن اسم امرأة ثابت حبيبة بنت سهل، قال الحافظ: والذي
يظهر أنهما قضيتان وقعتا له في امرأتين لشهرة الحديثين وصحة
الطريقين واختلاف السياقين تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إشارة إلى
ما حد من الأحكام من قوله سبحانه: الطَّلاقُ مَرَّتانِ إلى هنا
فالجملة فذلكة لذلك أوردت لترتيب النهي عليها فَلا تَعْتَدُوها
بالمخالفة والرفض وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ تذييل للمبالغة في التهديد والواو للاعتراض
وفي إيقاع الظاهر موقع المضمر ما لا يخفى من إدخال الروعة
وتربية المهابة، وظاهر الآية يدل على أن الخلع لا يجوز من غير
كراهة وشقاق لأن نفي الحل الذي هو حكم العقد في جميع الأحوال
إلا حال الشقاق يدل على فساد العقد وعدم جوازه ظاهرا إلا أن
يدل الدليل على خلاف الظاهر، وعلى أنه لا يجوز أن يكون بجميع
ما ساق الزوج إليها فضلا عن الزائد لأن- في مِمَّا
آتَيْتُمُوهُنَّ تبعيضية فيكون مفاد الاستثناء حل أخذ شيء مما
آتيتموهن حين الخوف، وأما كلمة ما في قوله سبحانه: فِيمَا
افْتَدَتْ فليست ظاهرة في العموم حتى ينافي ظهور الآية في
(1/534)
الحكم المذكور بل فاء التفسير في فَإِنْ
خِفْتُمْ يدل ظاهرا على أنه بيان للحكم المفهوم بطريق المخالفة
عن الاستثناء، وفائدته التنصيص على الحكم ونفي الجناح في هذا
العقد فإن ثبوت الحل المستفاد من الاستثناء قد يجامع الجناح
بأن يكون مع الكراهة، نعم تحتمل العموم فلا تكون نصا في عدم
جواز الخلع بجميع ما يساق، ولهذا قال عمر رضي الله تعالى عنه:
اخلعها ولو بقرطها، ويؤيد الأول ما
أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ثوبان
قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أيما امرأة
سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة»
وقال: «المختلعات هن المنافقات»
ويؤيد الثاني ما
روي من بعض الطرق أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لجميلة
«أتردّين عليه حديقته؟ فقالت: أردها وأزيد عليها فقال صلى الله
تعالى عليه وسلم: أما الزائد فلا»
وهذا وإن دل على نفي الزيادة دون جميع المهر إلا أنه يستفاد
منه أن فيما افتدت به ليس على عمومه فيكون المراد به ما يستفاد
من الاستثناء وهو البعض، وأكثر الفقهاء على أن الخلع بلا شقاق
وبجميع ما ساق مكروه لكنه نافذ لأن أركان العقد من الإيجاب
والقبول وأهلية العاقدين مع التراضي متحقق والنهي لأمر مقارن
كالبيع وقت النداء وهو لا ينافي الجواز، وعلى أنه يصح بلفظ
المفادات لأنه تعالى سمي الاختلاع افتداء، واختلف في أنه إذا
جرى بغير لفظ الطلاق فسخ أو طلاق، ومن جعله فسخا احتج بقوله
تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فإن تعقيبه للخلع بعد ذكر الطلقتين
يقتضي أن يكون طلقة رابعة لو كان الخلع طلاقا، والأظهر أنه
طلاق وإليه ذهب أصحابنا وهو قول للشافعية لأنه فرقة باختيار
الزوج فهو كالطلاق بالعوض فحينئذ يكون فَإِنْ طَلَّقَها متعلقا
بقوله سبحانه الطَّلاقُ مَرَّتانِ تفسيرا لقوله تعالى: أَوْ
تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ لا متعلقا بآية الخلع ليلزم المحذور،
ويكون ذكر الخلع اعتراضا لبيان أن الطلاق يقع مجانا تارة وبعوض
أخرى، والمعنى فإن طلقها بعد الثنتين أو بعد الطلاق الموصوف
بما تقدم.
فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ أي من بعد ذلك التطليق حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ أي تتزوّج زوجا غيره، ويجامعها فلا
يكفي مجرد العقد كما ذهب إليه ابن المسيب وخطؤه لأن العقد فهم
من زوجا، والجماع من تنكح، وبتقدير عدم الفهم، وحمل النكاح على
العقد تكون الآية مطلقة إلا أن السنة قيدتها
فقد أخرج الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وجماعة عن عائشة رضي
الله تعالى عنها قالت: «جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني فبت
طلاقي فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير وما معه إلّا مثل هدبة
الثوب فتبسم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أتريدين أن
ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك»
وعن عكرمة أن هذه الآية نزلت في هذه المرأة واسمها عائشة بنت
عبد الرحمن بن عتيك وكان نزل فيها فَإِنْ طَلَّقَها فَلا
تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ
فيجامعها فإن طلقها بعد ما جامعها فلا جناح عليهما أن يتراجعا،
وفي ذلك دلالة على أن الناكح الثاني لا بد أن يكون زوجا فلو
كانت أمة وطلقت البتة ثم وطئها سيدها لا تحل للأول. وعلى أنه
لو اشتراها الزوج من سيدها أو وهبها سيدها له بعد أن بت طلاقها
لم يحل له وطؤها في الصورتين بملك اليمين حَتَّى تَنْكِحَ
زَوْجاً غَيْرَهُ وعلى أنّ الولي ليس شرطا في النكاح لأنه أضاف
العقد إليها، والحكمة في هذا الحكم ردع الزوج عن التسرع إلى
الطلاق لأنه إذا علم أنه إذا بت الطلاق لا تحل له حتى يجامعها
رجل آخر.
ولعله عدوه ارتدع عن أن يطلقها البتة لأنه وإن كان جائزا شرعا
لكن تنفر عنه الطباع وتأباه غيرة الرجال، والنكاح بشرط التحليل
فاسد عند مالك وأحمد والثوري والظاهرية وكثيرين، واستدلوا على
ذلك بما
أخرجه ابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي عن عقبة بن عامر قال:
«قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ألا أخبركم بالتيس
(1/535)
المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: هو
المحلل لعن الله المحلل والمحلل له»
وأخرج عبد الرزاق عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: لا أوتى
بمحلل ولا محلل له إلا رحمتهما، والبيهقي عن سليمان بن يسار أن
عثمان رضي الله تعالى عنه رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحللها
لزوجها ففرق بينهما، وقال: لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير
دلسة، وعندنا هو مكروه. والحديث لا يدل على عدم صحة النكاح لما
أن المنع عن العقد لا يدل على فساده، وفي تسمية ذلك محللا ما
يقتضي الصحة لأنها سبب الحل، وحمل بعضهم الحديث على من اتخذه
تكسبا أو على ما إذا شرط التحليل في صلب العقد لا على من أضمر
ذلك في نفسه فإنه ليس بتلك المرتبة بل قيل: إن فاعل ذلك مأجور
فَإِنْ طَلَّقَها الزوج الثاني فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي على
الزوج الأول والمرأة أَنْ يَتَراجَعا أن يرجع كل منهما إلى
صاحبه بالزواج بعد مضي العدة إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ
اللَّهِ إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية التي حدها
الله تعالى وشرعها وتفسير الظن بالعلم هاهنا قيل: غير صحيح
لفظا ومعنى، أما معنى فلأنه لا يعلم ما في المستقبل يقينا في
الأكثر، وأما لفظا فلأن أن المصدرية للتوقع وهو ينافي العلم،
ورد بأن المستقبل قد يعلم ويتيقين في بعض الأمور وهو يكفي
للصحة، وبأن سيبويه أجاز- وهو شيخ العربية- ما علمت إلا أن
يقوم زيد والمخالف له فيه أبو علي الفارسي، ولا يخفى أن
الاعتراض الأول فيما نحن فيه مما لا يجدي نفعا لأن المستقبل
وإن كان قد يعلم في بعض الأمور إلا أن ما هنا ليس كذلك وليس
المراجعة مربوطة بالعلم بل الظن يكفي فيها وَتِلْكَ إشارة إلى
الأحكام المذكورة إلى هنا حُدُودَ اللَّهِ أي أحكامه المعينة
المحمية من التعرض لها بالتغيير والمخالفة يُبَيِّنُها بهذا
البيان اللائق، أو سيُبَيِّنُها بناء على أن بعضها يلحقه زيادة
كشف في الكتاب والسنة، والجملة خبر على رأي من يجوّزه في مثل
ذلك، أو حال من حُدُودَ اللَّهِ والعامل معنى الإشارة، وقرىء
«نبينها» بالنون على الالتفات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي يفهمون
ويعملون بمقتضى العلم فهو للتحريض على العمل- كما قيل- أو
لأنهم المنتفعون بالبيان، أو لأن ما سيلحق بعض الحدود منه لا
يعقله إلا الراسخون، أو ليخرج غير المكلفين وَإِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي آخر عدتهم فهو مجاز من
قبيل استعمال الكل في الجزء إن قلنا: إن الأجل حقيقة في جميع
المدة- كما يفهمه كلام الصحاح- وهو الدائر في كلام الفقهاء،
ونقل الأزهري عن الليث يدل على أنه حقيقة في الجزء الأخير،
وكلا الاستعمالين ثابت في الكتاب الكريم، فإن كان من باب
الاشتراك فذاك وإلا فالتجوّز من الكل إلى الجزء الأخير أقوى من
العكس- والبلوغ- في الأصل الوصول وقد يقال لدنو منه- وهو
المراد في الآية- وهو إمّا من مجاز المشارفة أو الاستعارة
تشبيها للمتقارب الوقوع بالواقع ليصح أن يرتب عليه.
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
إذ لا إمساك بعد انقضاء الأجل لأنها حينئذ غير زوجة له ولا في
عدّته فلا سبيل له عليها- والإمساك- مجاز عن المراجعة لأنها
سببه- والتسريح- بمعنى الإطلاق وهو مجاز عن الترك، والمعنى
فراجعوهن من غير «ضرار» أو خلوهن حتى تنقضي عدّتهن من غير
تطويل، وهذا إعادة للحكم في صورة بلوغهنّ أجلهنّ اعتناء لشأنه
ومبالغة في إيحاب المحافظة عليه، ومن الناس من حمل- الإمساك
بالمعروف- على عقد النكاح وتجديده مع حسن المعاشرة- والتسريح
بالمعروف- على ترك العضل عن التزوّج بآخر، وحينئذ لا حاجة إلى
القول بالمجاز في «بلغن» ولا يخفى بعده عن سبب النزول، فقد
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي أنّ رجلا من الأنصار يدعى
ثابت بن يسار طلق زوجته حتى إذا انقضت عدّتها إلا يومين أو
ثلاثة راجعها ثم طلقها ففعل ذلك بها حتى مضت لها تسعة أشهر
يضارها فأنزل الله تعالى هذه الآية وَلا تُمْسِكُوهُنَّ
ضِراراً تأكيد للأمر- بالإمساك بالمعروف- وتوضيح لمعناه وهو
أدل منه على الدوام والثبات وأصرح في الزجر عما كانوا
يتعاطونه، وضِراراً
(1/536)
نصب على العلية أو الحالية أي لا ترجعوهن
للمضارة أو مضارين، ومتعلق النهي القيد- واللام- في قوله
تعالى:
لِتَعْتَدُوا متعلق ب ضِراراً أي لتظلموهن بالإلجاء إلى
الافتداء، واعترض بأن- الضرار- ظلم- والاعتداء- مثله فيؤول إلى
وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ظلما لتظلموا وهو كما ترى، وأجيب بأنّ
المراد- بالضرار- تطويل المدة- وباعتداء- الإلجاء، فكأنه قيل:
لا تمسكوهنّ بالتطويل لتلجئوهنّ إلى الاختلاع والظلم قد يقصد
ليؤدّي إلى ظلم آخر، والمشهور أن هذا الوجه متعين على الوجه
الأول في ضِراراً ولا يجوز عليه أن يكون هذا علة لما كان هو له
إذ المفعول له لا يتعدّد إلا بالعطف، أو على البدل- وهو غير
ممكن لاختلاف الإعراب- ويجوز أن يكون كذلك على الوجه الثاني،
وجوّز تعلقه بالفعل مطلقا إذا جعلت- اللام- للعاقبة، ولا ضرر
في تعدّي الفعل إلى علة وعاقبة لاختلافهما وإن كانت- اللام-
حقيقة فيهما على رأي- وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ المذكور وما فيه
من البعد للإيذان ببعد منزلته في الشر والفساد فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَهُ بتعريضها للعذاب، أو بأن فوت على نفسه منافع الدين من
الثواب الحاصل على حسن المعاشرة، ومنافع الدنيا من عدم رغبة
النساء به بعد لاشتهاره بهذا الفعل القبيح وَلا تَتَّخِذُوا
آياتِ اللَّهِ المنطوية على الأحكام المذكورة في أمر النساء أو
جميع آياته وهذه داخلة فيها هُزُواً مهزوءا بها بأن تعرضوا
عنها، وتتهاونوا في المحافظة عليها لقلة اكتراثكم بالنساء وعدم
مبالاتكم بهن، وهذا نهي أريد به الأمر بضده، أي جدّوا في الأخذ
بها والعمل بما فيها وارعوها حق رعايتها. وأخرج ابن أبي عمرة
وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: كان الرجل يطلق ثم يقول: لعبت
ويعتق، ثم يقول: لعبت، فنزلت،
وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه عن أبي
هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم: «ثلاث هزلهنّ جد: النكاح والطلاق والرجعة»
وعن أبي الدرداء «ثلاث اللاعب فيها كالجاد، النكاح، والطلاق
والعتاق» وعن عمر رضي الله تعالى عنه «أربع مقفلات. النذر
والطلاق والعتق والنكاح» وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ أي قابلوها بالشكر والقيام بحقوقها- والنعمة- إما
عامة فعطف.
وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ عليها من عطف الخاص على العام، وإمّا
أن تخص بالإسلام ونبوّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وخصا
بالذكر ليناسب ما سبقه، وليدل على أن ما كانوا عليه من الإمساك
إضرارا من سنن الجاهلية المخالفة، كأنه لما قيل: جدّوا في
العمل بالآيات على طريق الكناية أكد ذلك بأنه شكر النعمة
فقوموا بحقه، ويكون العطف تأكيدا على تأكيد لأن الإسلام ونبوّة
محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يشملان إنزال الكتاب والسنة-
وهو قريب من عطف التفسير- ولا بأس أن يسمى عطف التقرير، قيل:
ولو عمم النعمة لم يحسن موقعه هذا الحسن، ولا يخفى أنه في حيز
المنع، والظرف الأوّل متعلق بمحذوف وقع حالا من نعمة أو صفة
لها على رأي من يجوّز حذف الموصول مع بعض الصلة، ويجوز أن
يتعلق بنفسها إن أريد بها الإنعام لأنها اسم مصدر كنبات من
أنبت ولا يقدح في عمله- تاء التأنيث- لأنه مبني عليها كما في
قوله:
فلولا رجاء النصر منك وهيبة ... عقابك قد كانوا لنا كالموارد
والظرف الثاني متعلق بما عنده وأتى به تنبيها للمأمورين
وتشريفا لهم، وما موصولة حذف عائدها من الصلة، ومَنْ في قوله
تعالى: مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ بيانية، والمراد بهما
القرآن الجامع للعنوانين، أو القرآن والسنة، والإفراد بالذكر
بعد الاندراج في المذكور إظهارا للفضل وإيماء إلى أن الشرف وصل
إلى غاية لا يمكن معها الاندراج، وذاك من قبيل:
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال
يَعِظُكُمْ بِهِ أي بما أنزل حال من فاعل أَنْزَلَ أو من
مفعوله، أو منهما معا، وجوّز أن يكون ما
(1/537)
مبتدأ وهذه الجملة خبره ومِنَ الْكِتابِ
حال من العائد المحذوف، وقيل: الجملة معترضة للترغيب والتعليل.
وَاتَّقُوا اللَّهَ في أوامره والقيام بحقوقه وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فلا يخفى عليه شيء مما
تأتون وما تذرون فليحذر من جزائه وعقابه، أو أن عَلِيمٌ بكل
شيء فلا يأمر إلا بما فيه الحكمة والمصلحة فلا تخالفوه، وفي
هذا العطف ما يؤكد الأوامر والأحكام السابقة، وليس هذا من
التأكيد المقتضي للفصل، لأنه ليس إعادة لمفهوم المؤكد ولا
متحدا معه.
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي انقضت
عدتهن كما يدل عليه السياق. فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ
يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ أي لا تمنعوهن ذلك، وأصل العضل الحبس
والتضييق، ومنه عضلت الدجاجة بالتشديد إذا نشبت بيضتها ولم
تخرج، والفعل مثلث العين، واختلف في الخطاب فقيل- واختاره
الإمام- إنه للأزواج المطلقين حيث كانوا يعضلون مطلقاتهم بعد
مضي العدة ولا يدعونهن يتزوجن ظلما وقسرا لحمية الجاهلية، وقد
يكون ذلك بأن يدس إلى من يخبطهن ما يخيفه أو ينسب إليهن ما
ينفر الرجل من الرغبة فيهن، وعليه يحمل الأزواج على من يردن أن
يتزوجنه، والعرب كثيرا ما تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه، وقيل-
واختاره القاضي- إنه للأولياء، فقد أخرج البخاري والترمذي
والنسائي وابن ماجه وأبو داود وخلق كثير من طرق شتى عن معقل بن
يسار قال: كانت لي أخت فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه فكانت
عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة، ولم يراجعها حتى انقضت العدة
فهويها وهوته ثم خطبها مع الخطاب فقلت له: يا لكع أكرمتك بها
وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها، والله لا ترجع إليك أبدا وكان
رجلا لا بأس به وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فعلم الله
تعالى حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله تعالى هذه
الآية، قال: ففي نزلت فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه، وفي لفظ
فلما سمعها معقل قال: سمعا لربي وطاعة ثم دعاه فقال: أزوجك
وأكرمك، وعليه يحمل الأزواج على الذين كانوا أزواجا وخطاب
التطليق حينئذ إما أن يتوجه لما توجه له هذا الخطاب ويكون نسبة
التطليق للأولياء باعتبار التسبب كما ينبئ عنه التصدي للعضل،
وإما أن يبقى على ظاهره للأزواج المطلقين ويتحمل تشتيت الضمائر
اتكالا على ظهور المعنى، وقيل- واختاره الزمخشري- إنه لجميع
الناس فيتناول عضل الأزواج والأولياء جميعا، ويسلم من انتشار
ضميري الخطاب والتفريق بين الاسنادين مع المطابقة لسبب النزول،
وفيه تهويل أمر العضل بأن من حق الأولياء أن لا يحوموا حوله
وحق الناس كافة أن ينصروا المظلوم، وجعل بعضهم الخطابات
السابقة كذلك، وذكر أن المباشرة لتوقفها على الشروط العقلية
والشرعية توزعت بحسبها كما إذا قيل لجماعة معدودة أو غير
محصورة. أدوا الزكاة وزوجوا الأكفاء وامنعوا الظلمة كان الكل
مخاطبين والتوزع على ما مر، هذا وليس في الآية على أي وجه حملت
دليل على أنه ليس للمرأة أن تزوج نفسها كما وهم ونهي الأولياء
عن العضل ليس لتوقف صحة النكاح على رضاهم بل لدفع الضرر عنهن
لأنهن وإن قدرن على تزويج أنفسهن شرعا لكنهن يحترزن عن ذلك
مخافة اللوم والقطيعة أو مخافة البطش بهن، وفي إسناد النكاح
إليهن إيماء إلى عدم التوقف وإلا لزم المجاز وهو خلاف الظاهر،
وجوز في أن ينكحن وجهان: الأول أنه بدل اشتمال من الضمير
المنصوب قبله. والثاني أن يكون على إسقاط الخافض والمحل إما
نصب أو جر على اختلاف الرأيين إِذا تَراضَوْا ظرف- لا تعضلوا-
والتذكير باعتبار التغليب والتقييد به لأن المعتاد لا لتجويز
المنع قبل تمام التراضي، وقيل ظرف لأن ينكحن. وقوله تعالى:
بَيْنَهُمْ ظرف للتراضي مفيد لرسوخه واستحكامه بِالْمَعْرُوفِ
أي بما لا يكون مستنكرا شرعا ومروءة، والباء إما متعلقة بمحذوف
وقع حالا من فاعل تَراضَوْا أو نعتا لمصدر محذوف أي تراضيا
كائنا بِالْمَعْرُوفِ وإما بتراضوا أو بينكحن، وفي التقييد
بذلك إشعار بأن المنع من التزوج بغير كفء أو بما دون مهر
(1/538)
المثل ليس من باب العضل ذلِكَ إشارة إلى ما
فصل والخطاب للجمع على تأويل القبيل أو لكل واحد واحد أو أن
الكاف تدل على خطاب قطع فيه النظر عن المخاطب وحدة وتذكيرا
وغيرهما.
والمقصود الدلالة على حضور المشار إليه عند من خوطب للفرق بين
الحاضر والمنقضي الغائب أو للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم
ليطابق ما في سورة الطلاق، وفيه إيذان بأن المشار إليه أمر لا
يكاد يتصوره كل أحد بل لا بد لتصور ذلك من مؤيد من عند الله
تعالى: يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ خصه بالذكر لأنه المسارع إلى الامتثال
إجلالا لله تعالى وخوفا من عقابه، ومِنْكُمْ إما متعلق- بكان-
على رأي من يرى ذلك وإما بمحذوف وقع حالا من فاعل يُؤْمِنُ
ذلِكُمْ أي الاتعاظ به والعمل بمقتضاه أَزْكى لَكُمْ أي أعظم
بركة ونفعا وَأَطْهَرُ أي أكثر تطهيرا من دنس الآثام، وحذف لكم
اكتفاء بما في سابقه، وقيل: إن المراد أطهر لكم ولهم لما يخشى
على الزوجين من الريبة بسبب العلاقة بينهما وَاللَّهُ يَعْلَمُ
ما فيه من المصلحة وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك فلا رأي إلا
الاتباع، ويحتمل تعميم المفعول في الموضعين، ويدخل فيه المذكور
دخولا أوليا وفائدة الجملة الحث على الامتثال.
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ أمر أخرج مخرج الخبر
مبالغة ومعناه الندب أو الوجوب إن خص بما إذا لم يرتضع الصبي
إلا من أمه أو لم يوجد له ظئر أو عجز الوالد عن الاستئجار
والتعبير عنهن بالعنوان المذكور لاستعطافهن نحو أولادهن والحكم
عام للمطلقات وغيرهن كما يقتضيه الظاهر، وخصه بعضهم بالوالدات
المطلقات وهو المروي عن مجاهد وابن جبير وزيد بن أسلم، واحتج
عليه بأمرين: الأول أن الله تعالى ذكر هذه الآية عقيب آيات
الطلاق فكانت من تتمتها وإنما أتمها بذلك لأنه إذا حصلت الفرقة
ربما يحصل التعادي والتباغض وهو يحمل المرأة غالبا على إيذاء
الولد نكاية بالمطلق وإيذاء له وربما رغبت في التزوج بآخر وهو
كثيرا ما يستدعي إهمال أمر الطفل وعدم مراعاته فلا جرم أمرهن
على أبلغ وجه برعاية جانبه والاهتمام بشأنه، والثاني أن إيجاب
الرزق والكسوة فيما بعد للمرضعات يقتضي التخصيص إذ لو كانت
الزوجية باقية لوجب على الزوج ذلك بسبب الزوجية لا الرضاع،
وقال الواحدي:
الأولى أن يخص بالوالدات حال بقاء النكاح لأن المطلقة لا تستحق
الكسوة وإنما تستحق الأجرة ولا يخفى أن الحمل على العموم أولى
ولا يفوت الغرض من التعقيب وإيجاب الرزق والكسوة للمرضعات لا
يقتضي التخصيص لأنه باعتبار البعض على أن على ما قيل: ليس في
الآية ما يدل على أنه للرضاع ومن قال: إنه له جعل ذلك أجرة لهن
إلا أنه لم يعبر بها وعبر بمصرفها الغالب حثا على إعطائها
نفسها لذلك أو إعطاء ما تصرف لأجله فتدبر حَوْلَيْنِ أي عامين
والتركيب يدور على الانقلاب وهو منصوب على الظرفية وكامِلَيْنِ
صفته، ووصف بذلك تأكيدا لبيان أن التقدير تحقيقي لا تقريبي
مبني على المسامحة المعتادة لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضاعَةَ بيان للمتوجه عليه الحكم، والجار في مثله خبر
لمحذوف أي ذلك لمن أراد إتمام الرضاعة وجوز أن يكون متعلقا-
بيرضعن- فإن الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة للأم والأم ترضع له
وكون الرضاع واجبا على الأب لا ينافي أمرهن لأنه للندب أو لأنه
يجب عليهن أيضا في الصور السابقة. واستدل بالآية على أن أقصى
مدة الإرضاع حولان ولا يعتد به بعدهما فلا يعطى حكمه وأنه يجوز
أن ينقص عنهما، وقرىء «أن يتم» بالرفع واختلف في توجيهه فقيل:
حملت أن المصدرية على ما أختها في الإهمال كما حملت أختها
عليها في الإعمال في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كما تكونوا يولى عليكم»
على رأي، وقيل: ان يتموا بضمير الجمع باعتبار معنى من وسقطت
الواو في اللفظ لالتقاء الساكنين فتبعها الرسم وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ أي الوالد فإن الولد يولد له وينسب إليه ولم
يعبر به مع أنه أخصر وأظهر للدلالة على علة الوجوب بما فيه من
معنى الانتساب
(1/539)
المشيرة إليه اللام وتسمى هذه الإشارة
إدماجا عند أهل البديع وإشارة النص عندنا، وقيل: عبر بذلك لأن
الوالد قد لا تلزمه النفقة وإنما تلزم المولود له كما إذا كانت
تحته أمة فأتت بولد فإن نفقته على مالك الأم لأنه المولود له
دون الوالد، وفيه بعد لأن المولود له لا يتناول الوالد والسيد
تناولا واحدا وحكم العبيد دخيل في البين رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ أي إيصال ذلك إليهن أي الوالدات أجرة لهن،
واستئجار الأم جائز عند الشافعي وعندنا لا يجوز ما دامت في
النكاح أو العدة بِالْمَعْرُوفِ أي بلا إسراف ولا تقتير أو حسب
ما يراه الحاكم ويفي به وسعه. لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا
وُسْعَها تعليل لإيجاب المؤن بالمعروف أو تفسير للمعروف ولهذا
فصل وهو نص على أنه تعالى لا يكلف العبد بما لا يطيقه ولا ينفي
الجواز والإمكان الذاتي فلا ينتهض حجة للمعتزلة، ونصب وُسْعَها
على أنه مفعول ثان- لتكلف- وقرىء ولا تكلف بفتح- التاء- ولا
نكلف- بالنون.
لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ
بِوَلَدِهِ تفصيل لما يفهم من سابقه وتقريب له إلى الفهم وهو
الداعي للفصل، والمضارة مفاعلة من الضرر، والمفاعلة إما مقصودة
والمفعول محذوف أي تضار والدة زوجها بسبب ولدها وهو أن تعنف به
وتطلب ما ليس بعدل من الرزق والكسوة وأن تشغل قلبه بالتفريط في
شأن الولد وأن تقول بعد أن ألفها الصبي أطلب له ظئرا مثلا ولا
يضار مولود له امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئا مما وجب عليه
من رزقها وكسوتها، أو يأخذ الصبي منها وهي تريد إرضاعه أو
يكرهها على الإرضاع وإما غير مقصودة والمعنى لا يضر واحد منهما
الآخر بسبب الولد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب لا تضار
بالرفع فتكون الجملة بمنزلة بدل الاشتمال مما قبلها، وقرأ
الحسن تضار بالكسر وأصله تضارر مكسور الراء مبنيا للفاعل وجوز
فتحها مبنيا للمفعول، ويبين ذلك أنه قرىء- ولا تضارر، ولا
تضارر- بالجزم وفتح الراء الأولى وكسرها، وعلى تقدير البناء
للمفعول يكون المراد لا نهي عن أن يلحق بها الضرار من قبل
الزوج وأن يلحق الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد، والباء على
كل تقدير سببية ولك أن تجعل فاعل بمعنى فعل والباء سيف خطيب،
ويكون المعنى لا تضر والدة ولدها بأن تسيء غذاءه وتعهده وتفرط
فيما ينبغي له وتدفعه إلى الأب بعد ما ألفها ولا يضر الوالد
ولده بأن ينزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حقه، وقرأ
أبو جعفر- لا تضار- بالسكون مع التشديد على نية الوقف، وعن
الأعرج- لا تضار- بالسكون والتخفيف، وهو من ضار يضير ونوى
الوقف كما نواه الأول، وإلا لكان القياس حذف الألف، وعن كاتب
عمر رضي الله تعالى عنه- لا تضرر- والتعبير بالولد في
الموضعين، وإضافته إليها تارة وإليه أخرى للاستعطاف، والإشارة
إلى ما هو كالعلة في النهي ولذا أقام المظهر مقام المضمر، ومن
غريب التفسير ما
رواه الإمامية عن السيدين الصادق والباقر رضي الله تعالى عنهما
أن المعنى- لا تضار- والدة بترك جماعها خوف الحمل لأجل ولدها
الرضيع- ولا يضار- مولود له بمنعه عن الجماع كذلك لأجل ولده،
وحينئذ تتعين الباء للسببية، ويجب أن يكون الفعلان مبنيين
للمفعول ولا يظهر وجه لطيف للتعبير بالولد في الموضعين، وتخرج
الآية عما يقتضيه السياق، وبعيد عن الباقر، والصادق الإقدام
على ما زعمه هذا الراوي الكاذب وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ
عطف على قوله تعالى: «وعلى المولود له» إلخ وما بينهما تعليل
أو تفسير معترض والمراد بالوارث وارث الولد فإنه يجب عليه مثل
ما وجب على الأب من الرزق والكسوة بالمعروف إن لم يكن للولد
مال وهو التفسير المأثور عن عمر وابن عباس وقتادة ومجاهد وعطاء
وإبراهيم والشعبي وعبد الله بن عتبة وخلق كثير، ويؤيده أن أل
كالعوض من المضاف إليه الضمير ورجوع الضمير لأقرب مذكور وهو
الأكثر في الاستعمال، وخص الإمام أبو حنيفة هذا الوارث بمن كان
ذا رحم محرم من الصبي، وبه قال حماد ويؤيده قراءة ابن مسعود،
وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك، وقيل: عصباته وبه قال
أبو زيد، ويروى عن عمر رضي الله تعالى
(1/540)
عنه ما يؤيده، وقال الشافعي: المراد وارث
الأب وهو الصبي أي مؤن الصبي من ماله إذا مات الأب، واعترض أن
هذا الحمل يأباه أن لا يخص كون المئونة في ماله إذا مات الأب
بل إذا كان له مال لم يجب على الأب أجرة الإرضاع بل يجب عليه
النفقة على الصبي وأجرة الإرضاع من مال الصبي بحكم الولاية
وفيه نظر، وقيل: المراد الباقي من الأبوين، وقد جاء الوارث
بمعنى الباقي كما في
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «اللهم متعني بسمعي وبصري
واجعلهما الوارث مني»
قيل: وهذا يوافق مذهب الشافعي إذ لا نفقة عنده فيما عدا الولاد
ولا يخفى ما في ذلك من البحث لأن- من- إن كانت للبيان لزم
التكرار أو الركاكة أو ارتكاب خلاف الظاهر، وإن كانت للابتداء
كان المعنى الباقي غير الأبوين وهو يجوز أن يكون من العصبات أو
ذوي الأرحام الذين ليست قرابتهم قرابة الولاد وكون ذلك موافقا
لمذهب الشافعي إنما يتأتى إذا تعين كون الباقي ذوي قرابة
الولاد وليس في اللفظ ما يفيده كما لا يخفى فَإِنْ أَرادا أي
الوالدان فِصالًا أي فطاما للولد قبل الحولين وهو المروي عن
مجاهد وقتادة وأهل البيت، وقيل: قبلهما أو بعدهما وهو مروي عن
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعلى الأول يكون هذا تفصيلا
لفائدة لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ وبيانا لحكم إرادة عدم
الإتمام، والتنكير للإيذان بأنه- فصال- غير معتاد، وعلى الثاني
توسعة في الزيادة والتقليل في مدة الرضاعة بعد التحديد
والتنكير للتعميم، ويجوز على القولين أن يكون للإشارة إلى عظمه
نظرا للصبي لما فيه من مفارقة المألوف عَنْ تَراضٍ متعلق
بمحذوف ينساق إليه الذهن وإن كان كونا خاصا أي صادرا عَنْ
تَراضٍ وجوز أن يتعلق بأراد مِنْهُما أي الوالدين لا من أحدهما
فقط لاحتمال إقدامه على ما يضر الولد بأن تمل الأم أو يبخل
الأب وَتَشاوُرٍ في شأن الولد وتفحص أحواله وهو مأخوذ من الشور
وهو اجتناء العسل وكذا- المشاورة والمشورة والمشورة- والمراد
من ذلك استخراج الرأي وتنكيره للتفخيم.
فَلا جُناحَ عَلَيْهِما في ذلك وإنما اعتبر رضا المرأة مع أن
ولي الولد هو الأب وصلاحه منوط بنظره مراعاة لصلاح الطفل لأن
الوالدة لكمال شفقتها على الصبي ربما ترى ما فيه المصلحة له
وَإِنْ أَرَدْتُمْ خطاب للآباء هزا لهم للامتثال على تقدير عدم
الاتفاق على عدم الفطام أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ بحذف
المفعول الأول استغناء عنه أي- تسترضعوا المراضع أولادكم- من
أرضعت المرأة طفلا واسترضعتها إياه كقولك أنجح الله تعالى
حاجتي واستنجحتها إياه، وقد صرح الإمام الكرماني بأن الاستفعال
قد جاء لطلب المزيد كالاستنجاء لطلب الانجاء والاستعتاب لطلب
الاعتاب وصرح به غيره أيضا فلا حاجة إلى القول بأنه من رضع
بمعنى أرضع ولم يجعل من الأول أول الأمر لعدم وجوده في كلامهم
فإنه بمعزل عن التحقيق، وقيل: إن استرضع إنما يتعدى إلى الثاني
بحرف الجر يقال استرضعت المرأة للصبي والمراد أن
تَسْتَرْضِعُوا المراضع «لأولادكم» فحذف الجار كما في قوله
تعالى: وَإِذا كالُوهُمْ [المطففين: 3] أي كالوا لهم فَلا
جُناحَ عَلَيْكُمْ أي في ذلك، واستدل بالإطلاق على أن للزوج
أن- يسترضع للولد ويمنع الزوجة من الإرضاع- وهو مذهب الشافعية،
وعندنا أن الام أحق برضاع ولدها وأنه ليس للأب أن يسترضع غيرها
إذا رضيت أن ترضعه لقوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلادَهُنَّ وبه يخصص هذا الإطلاق وإلى ذلك يشير كلام ابن
شهاب إِذا سَلَّمْتُمْ إلى المراضع ما آتَيْتُمْ أي ضمنتم
والتزمتم أو أردتم إتيانه لئلا يلزم تحصيل الحاصل، وقرأ ابن
كثير أتيتم من أتى إليه إحسانا إذا فعله، وشيبان عن عاصم
«أوتيتم» أي ما آتاكم الله تعالى وأقدركم عليه من الأجرة
بِالْمَعْرُوفِ متعلق بسلمتم أي بالوجه المتعارف المستحسن شرعا
وجوز أن يتعلق بآتيتم وأن يكون حالا من فاعله أو فاعل الفعل
الذي قبله، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله وليس التسليم
شرطا لرفع الإثم بل هو الأولى والأصلح للطفل فشبه ما هو من
شرائط الأولية بما هو من شرائط الصحة للاعتناء به فاستعير له
عبارته، وقيل:
(1/541)
لا حاجة إلى هذا لأن نفي الإثم بتسليم
الأجرة مطلقا غير مقيد بتقديمها عليه يعني لا جناح عليكم في
الاسترضاع لو لم تأثموا بالتعدي في الأجرة وتظلموا الأجير،
وفيه تأمل لأن الإثم إذا لم يسلم بعد إنما هو بالتعدي،
والاسترضاع كان قبل خاليا عما يوجب الإثم وَاتَّقُوا اللَّهَ
في شأن مراعاة الأحكام وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لا تخفى عليه أعمالكم فيجازيكم عليها، وفي
إظهار الاسم الجليل تربية للمهابة، وفي الآية من التهديد ما لا
يخفى وَالَّذِينَ مبتدأ.
يُتَوَفَّوْنَ أي تقبض أرواحهم فإن التوفي هو القبض يقال:
توفيت مالي من فلان واستوفيته منه أي قبضته وأخذته. وقرأ علي
كرم الله تعالى وجهه فيما رواه أبو عبد الرحمن السلمي عنه
والمفضل عن عاصم يُتَوَفَّوْنَ بفتح- الياء- أي يستوفون آجالهم
فعلى هذا يقال للميت متوفى بمعنى مستوف لحياته، واستشكل بما
حكي أن أبا الأسود كان خلف جنازة فقال له رجل من المتوفي؟ بكسر
الفاء فقال: الله تعالى وكأن هذا أحد الأسباب لعلي كرم الله
تعالى وجهه على أن أمره بوضع كتاب النحو، وأجاب السكاكي بأن
سبب التخطئة أن السائل كان ممن لم يعرف وجه صحته فلم يصلح
للخطاب به مِنْكُمْ في محل نصب على الحال من مرفوع
يُتَوَفَّوْنَ ومن- تحتمل التبعيض وبيان الجنس والخطاب لكافة
الناس بتلوين الخطاب وَيَذَرُونَ أي يتركون ويستعمل منه الأمر
ولا يستعمل اسم الفاعل ولا اسم المفعول وجاء الماضي على شذوذ
أَزْواجاً أي نساء لهم.
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ خبر عن الذين والرابط محذوف أي
لهم أو بعدهم، ورجح الأول بقلة الإضمار وبما في اللام من
الإيماء إلى أن العدة حق المتوفى، وقيل: خبر لمحذوف أي أزواجهم
يتربصن، والجملة خبر الذين وبعض البصريين قدر مضافا في صدر
الكلام أي أزواج الذين وهن نساؤهم، وفيه أنه لا يبقى- ليذرون
أزواجا- فائدة جديدة يعتد بها، ويروى عن سيبويه- إن الذين-
مبتدأ والخبر محذوف أي فيما يتلى عليكم حكم الذين إلخ، وحينئذ
يكون جملة- يتربصن- بيانا لذلك الحكم وفيه كثرة الحذف، وذهب
بعض المحققين إلى أن الَّذِينَ مبتدأ ويَتَرَبَّصْنَ خبره
والرابط حاصل بمجرد عود الضمير إلى الأزواج لأن المعنى يتربص
الأزواج اللاتي تركوهن، وقد أجاز الأخفش والكسائي مثل ذلك
ولولا أن الجمهور على منعه لكان من الحسن بمكان أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ وَعَشْراً لعل ذلك العدد لسر تفرد الله تعالى بعلمه
أو علمه من شاء من عباده، والقول- بأنه لعل المقتضي لذلك أن
الجنين في غالب الأمر يتحرك لثلاثة أشهر إن كان ذكرا ولأربعة
إن كان أنثى فاعتبر أقصى الأجلين وزيد عليه العشرة استظهارا إذ
ربما تضعف حركته في المبادي فلا يحس بها مع ما فيه من المنافاة
للحديث الصحيح «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما
نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله
تعالى ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد
ثم ينفخ فيه الروح»
لأن ظاهره أن نفخ الروح بعد هذه المدة مطلقا- لا يروي الغليل
ولا يشفي العليل، وتأنيث العشر قيل: لأن التمييز المحذوف هو
الليالي وإلى ذلك ذهب ربيعة ويحيى ابن سعيد، وقيل: بل هو
باعتبار الليالي لأنها غرر الشهور ولذلك لا يستعملون التذكير
في مثله ذهابا إلى الأيام حتى أنهم يقولون- كما حكى الفراء-
صمنا عشرا من شهر رمضان مع أن الصوم إنما يكون في الأيام ويشهد
له قوله تعالى:
إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً [ط: 103] ثم إِنْ لَبِثْتُمْ
إِلَّا يَوْماً [طه: 104] وذكر أبو حيان أن قاعدة تذكير العدد
وتأنيثه إنما هي إذا ذكر المعدود، وأما عند حذفه فيجوز لأمران
مطلقا ولعله أولى مما قيل، واستدل بالآية على وجوب العدة على
المتوفى عنها سواء كان مدخولا بها أو لا، وذهب ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما إلى أنه لا عدة للثانية وهو محجوج بعموم
اللفظ كما ترى، وشملت الآية المسلمة والكتابية وذات الأقراء
والمستحاضة والآيسة والصغيرة والحرة والأمة-
(1/542)
كما قاله الأصم- والحامل وغيرها لكن القياس
اقتضى تنصيف المدة للأمة والإجماع خص الحامل عنه لقوله تعالى:
وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ
[الطلاق: 4]
وعن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس أنها تعتد بأقصى
الأجلين احتياطا
وهو لا ينافي الإجماع بل فيه عمل بمقتضى الآيتين، واستدل بعضهم
بها على أن العدة من الموت حيث علقت عليه فلو لم يبلغها موت
الزوج إلا بعد مضي العدة حكم بانقضائها وهو الذي ذهب إليه
الأكثرون والشافعي في أحد قوليه، ويؤيده أنّ الصغيرة التي لا
علم لها يكفي في انقضاء عدّتها هذه المدّة، وقيل: إنها ما لم
تعلم بوفاة زوجها لا تنقضي عدّتها بهذه الأيام لما روي «امرأته
المفقود امرأته حتى يأتيها تبين موته أو طلاقه» فَإِذا
بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي انقضت عدتهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ
أيها القادرون عليهن، وقيل: الخطاب للأولياء، وقيل: لجميع
المسلمين فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مما حرم عليهنّ في
العدّة، وفي التقييد إشارة إلى علة النهي بِالْمَعْرُوفِ أي
بالوجه الذي يعرفه الشرع ولا ينكره، وقيد به للإيذان بأنه لو
فعلن خلاف ذلك فعليهم أن يكفوهنّ، فإن قصروا أثموا وَاللَّهُ
بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فلا تعملوا خلاف ما أمرتم به
«والظاهر» أنّ المخاطب في سابقه. وجوّز أن يكون خطابا للقادرين
من الأولياء والأزواج فيكون فيه تغليبان- الخطاب على الغيبة-
والذكور على الإناث- وفيه تهديد للطائفتين، ويحتمل أن يكون
وعدا ووعيدا لهما وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الرجال المبتغون
للزواج.
فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ بأن يقول
أحدكم- كما روى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما- إني أريد التزوج، وإني لأحب امرأة من أمرها وأمرها، وإن
من شأني النساء، ولوددت أن الله تعالى كتب لي امرأة صالحة، أو
يذكر للمرأة فضله وشرفه،
فقد روي «أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دخل على أم
سلمة وقد كانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفي عنها فلم يزل يذكر
لها منزلته من الله تعالى وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير
في يده من شدّة تحامله عليها وكان ذلك تعريضا لها»
والتعريض في الأصل إمالة الكلام عن نهجه إلى عرض منه وجانب،
واستعمل في أن تذكر شيئا مقصودا في الجملة بلفظه الحقيقي أو
المجازي أو الكنائي ليدل بذلك الشيء على شيء آخر لم يذكر في
الكلام مثل أن تذكر المجيء للتسليم بلفظه ليدل على التقاضي
وطلب العطاء، وهو غير الكناية لأنها أن تذكر معنى مقصودا بلفظ
آخر يوضع له لكن استعمل في الموضوع- لا على وجه القصد- بل
لينتقل منه إلى الشيء المقصود، فطويل النجاد مستعمل في معناه
لكن لا يكون المقصود بالإثبات بل لينتقل منه إلى طول القامة،
وقرّر بعض المحققين أن بينهما عموما من وجه، فمثل قول المحتاج:
جئتك لأسلم عليك كناية وتعريض، ومثل- زيد طول النجاد- كناية لا
تعريض، ومثل قولك: في عرض من يؤذيك وليس المخاطب- آذيتني
فستعرف- تعريض بتهديد المؤذي لا كناية «والمشهور» تسمية
التعريض تلويحا لأنه يلوح منه ما تريده، وعدوا جعل السكاكي له
اسما للكناية البعيدة لكثرة الوسائط مثل- كثير الرماد- للمضياف
اصطلاحا جديدا «وفي الكشف» وقد يتفق عارض يجعل الكناية في حكم
المصرح به كما في الاستواء على العرش وبسط اليد، ويجعل
الالتفات في التعريض نحو المعرض به كما في قوله تعالى: وَلا
تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ [البقرة: 41] فلا ينتهض نقضا
على الأصل «والخطبة» - بكسر الخاء- قيل: الذكر الذي يستدعى به
إلى عقد النكاح أخذا من الخطاب، وهو توجيه الكلام للإفهام-
وبضمها- الوعظ المتسق على ضرب من التأليف، وقيل: إنهما اسم
الحالة غير أنّ- المضمومة- خصت بالموعظة- والمكسورة- بطلب
المرأة والتماس نكاحها- وأل- في النِّساءِ للعهد، والمعهودات
هي الأزواج المذكورة في قوله تعالى: وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ولا
يمكن حملها على الاستغراق لأنّ من النساء من يحرم التعريض
بخطبتهن في العدّة- كالرجعيات والبائنات- في قول، والأظهر عند
الشافعي رضي الله تعالى عنه جوازه في
(1/543)
لِعِدَّتِهِنَّ قياسا على معتدات الوفاة لا
يقال: كان ينبغي أن تقدم هذه الآية على قوله تعالى: فَإِذا
بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ لأنّ ما فيها من أحكام النساء قبل البلوغ
إلى الأجل لأنا نقول: لا نسلم ذلك، بل هي من أحكام الرجال
بالنسبة إليهن، فكان المناسب أن يذكر بعد الفراغ من أحكامهنّ
قبل البلوغ من الأجل وبعده، واستدل الكيا بالآية على نفي الحدّ
بالتعريض في القذف لأنه تعالى جعل حكمه مخالفا لحكم التصريح،
وأيد بما
روي «من عرض عرضنا، ومن مشي على الكلا ألقيناه في النهر»
واستدل بها على جواز نكاح الحامل من الزنا إذ لا عدة لها، ولا
يخفى ما فيه أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أي أسررتم في
قلوبكم من نكاحهنّ بعد مضي عدتهنّ ولم تصرحوا بذلك لهنّ عَلِمَ
اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ولا تصبرون على السكوت
عنهن وعن إظهار الرغبة فيهنّ، فلهذا رخص لكم ما رخص، وفيه نوع
ما من التوبيخ.
وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا استدراك عن محذوف دل عليه
سَتَذْكُرُونَهُنَّ أي فاذكروهن وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ
نكاحا بل اكتفوا بما رخص لكم، وجواز أن يكون استدراكا عن لا
جُناحَ فإنه في معنى- عرّضوا بخطبتهنّ- أو أكنوا في أنفسكم
وَلكِنْ إلخ، وحمله على الاستدراك على ما عنده- ليس بشيء-
وإرادة النكاح من- السر- بواسطة إرادة الوطء منه إذ قد تعارف
إطلاقه عليه لأنه يسر، ومنه قول امرئ القيس:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ... كبرت وأن لا يحسن- السر-
أمثالي
وإرادة العقد من ذلك لما بينهما من السببية والمسببية، ولم
يجعل من أول الأمر عبارة عن العقد لأنه لا مناسبة بينهما في
الظاهر، والمروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن- السر.
هنا الجماع، وتوهم الرخصة حينئذ في المحظور الذي هو التصريح-
بالنكاح- مما لا يكاد يخطر ببال، وعن سعيد بن جبير ومجاهد وروي
عن الحبر أيضا أنه العهد على الامتناع عن التزوج بالغير- وهو
على هذه الأوجه نصب على المفعولية- وجوّز انتصابه على الظرفية،
أي لا تُواعِدُوهُنَّ في السر، على أن المراد بذلك المواعدة
بما يستهجن.
إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وهو التعريض الذي
عرف تجويزه، والمستثنى منه ما يدل عليه النهي أي لا
تُواعِدُوهُنَّ نكاحا مواعدة ما إِلَّا مواعدة معروفة أو
إِلَّا مواعدة بقول معروف، أو لا تقولوا في وعد الجماع أو طلب
الامتناع عن الغير إِلَّا قولكم قَوْلًا مَعْرُوفاً والاستثناء
في جميع ذلك متصل، وفي الكلام على الوجه الأوّل تصريح بما فهم
من وَلا جُناحَ على وجه يؤكد ذلك الرفع وهو نوع من الطرد-
والعكس حسن- وعلى الأخيرين تأسيس لمعنى ربما يعلم بطريق
المقايسة إذ حملوا التعريض- فيهما على- التعريض- بالوعد لها أو
الطلب منها، وهو غير- التعريض- السابق لأنه بنفس «الخطبة» وإذا
أريد الوجه الرابع وهو الأخير من الأوجه السابقة احتمل
الاستثناء الاتصال والانقطاع، والانقطاع في المعنى أظهر على
معنى لا تُواعِدُوهُنَّ بالمستهجن وَلكِنْ واعدوهن بقول معروف
لا يستحيا منه في المجاهرة من حسن المعاشرة والثبات إن وقع
النكاح، وبعض قال بذلك إلا أنه جعل الاستثناء من سِرًّا وضعف
بأنه يؤدّي إلى كون التعريض موعودا، وجعله من قبيل «إلا من
ظلم» يأبى أن يكون استثناء منه بل من أصل الحكم.
وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ أي لا تقصدوا قصدا جازما
عقد عُقْدَةَ النِّكاحِ وفي النهي عن مقدمة الشيء نهي عن الشيء
على وجه أبلغ، وصح تعلق النهي به لأنه من الأفعال الباطنة
الداخلة تحت الاختيار ولذا يثاب على النية، والمراد به العزم
المقارن لأن من قال: لا تعزم على السفر في صفر مثلا لم يفهم
منه النهي عن عزم فيه متأخر
(1/544)
الفعل إلى ربيع، وذلك لأن القصد الجازم حقه
المقارنة وتقدير المضاف لصحة التعلق لأنه لا يكون إلا على
الفعل، والعقدة- ليست به لأنها موضع العقد وهو ما يعقد عليه
ولم يقدره بعضهم، وجعل الإضافة بيانية فالعقدة حينئذ نفس
النكاح وهو فعل، ويحتمل أن يكون الكلام من باب حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النساء: 23] وعلى كل تقدير هي مفعول
به، وجوز أن تكون مفعولا مطلقا على أن معنى- لا تعزموا- لا
تعقدوا فهو على حد- قعدت جلوسا- وأن الإضافة من إضافة المصدر
إلى مفعوله، وقيل: المعنى لا تقطعوا ولا تبرموا عقدة النكاح
فيكون النهي عن نفس الفعل لا عن قصده كما في الأول، وبهذا ينحط
عنه، ومن الناس من حمل العزم على القطع ضد الوصل وجعل المعنى
لا تقطعوا عقدة نكاح الزوج المتوفى بعقد نكاح آخر ولا حاجة
حينئذ إلى تقدير مضاف أصلا، وفيه بحث أما أولا فلأن مجيء العزم
بمعنى القطع ضد الوصل في اللغة محل تردد، وقول الزمخشري: حقيقة
العزم القطع بدليل
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا صيام لمن لم يعزم الصيام
من الليل» وروي «لم يبيت»
ليس بنص في ذلك بل لا يكاد يصح حمله إذ الدليل لا يساعده إذ لا
خفاء في أن المراد بعزم الصوم ليس قطعه بمعنى الفك بل الجزم
وقطع التردد، وأما ثانيا فلأنه لا معنى للنهي عن قطع عقدة نكاح
الزوج الأول حتى ينهى عنه إذ لا تنقطع عقدة نكاح المتوفى بعقد
نكاح آخر لأن الثاني لغو، ومن هنا قيل: إن المراد لا تفكوا
عقدة نكاحكم ولا تقطعوها، ونفي القطع عبارة عن نفي التحصيل فإن
تحصيل الثمرة من الشجرة بالقطع، وهذا كما ترى مما لا ينبغي أن
يحمل عليه كلام الله تعالى العزيز حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ
أَجَلَهُ أي ينتهي ما كتب وفرض من العدة وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ من العزم على ما لا يجوز
أو من ذوات الصدور التي من جملتها ذلك فَاحْذَرُوهُ ولا تعزموا
عليه أو- احذروه- بالإجتناب عن العزم ابتداء أو إقلاعا عنه بعد
تحققه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر لمن يقلع عن
عزمه أو ذنبه خشية منه حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة فلا يتوهم من
تأخيرها أن ما نهي عنه لا يستتبع المؤاخذة وإعادة العامل
اعتناء بشأن الحكم، ولا يخفى ما في الجملة مما يدل على سعة
رحمته تبارك اسمه لا جُناحَ عَلَيْكُمْ لا تبعة من مهر وهو
الظاهر، وقيل: من وزر لأنه لا بدعة في الطلاق قبل المسيس ولو
كان في الحيض، وقيل: كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كثيرا
ما ينهي عن الطلاق فظن أن فيه جناحا فنفى ذلك إِنْ طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أي غير ماسين لهن أو مدة عدم
المس وهو كناية عن الجماع، وقرأ حمزة والكسائي- «تماسوهن» -
والأعمش من- «قبل أن تمسوهن» - وعبد الله من قبل- «أن
تجامعوهن» - أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً أي حتى
تَفْرِضُوا أو إلا أن تَفْرِضُوا على ما في شروح الكتاب،
وفَرِيضَةً فعيلة بمعنى مفعول نصب على المفعول به، والتاء لنقل
اللفظ من الوصفية إلى الاسمية فصار بمعنى المهر فلا تجوز، وجوز
أن يكون نصبا على المصدرية، وليس بالجيد والمعنى أنه لا تبعة
على المطلق بمطالبة المهر أصلا إذا كان الطلاق قبل المسيس على
كل حال إلا في حال الفرض فإن عليه حينئذ نصف المسمى كما سيصرح
به، وفي حال عدم تسميته عليه المتعة لا نصف مهر المثل، وأما
إذا كان بعد المساس فعليه في صورة التسمية تمام المسمى، وفي
صورة عدمها تمام مهر المثل، هذه أربع صور للمطلقة نفت الآية
بمنطوقها الوجوب في بعضها، واقتضى مفهومها الوجوب في الجملة في
البعض الآخر، قيل: وهاهنا إشكال قوي، وهو أن ما بعد أو التي
بمعنى حتى التي بمعنى إلى نهاية للمعطوف عليه فقولك لألزمنك أن
تقضيني حقي معناه أن اللزوم ينتهي إلى الإعطاء فعلى قياسه يكون
فرض الفريضة نهاية عدم المساس لا عدم الجناح، وليس المعنى
عليه، وأجيب بأن ما بعدها عطف على الفعل وهو مرتبط بما قبله
فهو معنى مقيد به فكأنه قيل: أنتم ما لم تمسوهن بغير جناح
وتبعة إلا إذا- فرضت الفريضة- فيكون الجناح لأن المقيد في
المعنى ينتهي برفع قيده فتأمل، ومن الناس من جعل كلمة- أو-
عاطفة لمدخولها على ما قبلها من الفعل المجزوم، ولم حينئذ لنفي
أحد الأمرين لا بعينه، وهو نكرة في سياق النفي فيفيد العموم أي
ما لم يكن منكم
(1/545)
مسيس، ولا فرض على حد وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ
آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان: 24] واعترضه القطب بأنه يوهم
تقدير حرف النفي فيصير ما لم تمسوهن وما لم تفرضوا فيكون الشرط
حينئذ أحد النفيين لا نفي أحد الأمرين فيلزم أن لا يجب المهر
إذا عدم المسيس ووجد الفرض أو عدم الفرض ووجد المسيس، ولا يخفى
أنه غير وارد، ولا حاجة إلى القول بأن أو بمعنى الواو كما في
قوله تعالى: أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: 147] على رأي
وَمَتِّعُوهُنَّ أي ملكوهن ما يتمتعن به وذلك الشيء يسمى متعة
وهو عطف على ما هو جزاء في المعنى كأنه قيل: إن طلقتم النساء
فلا جناح ومتعوهن، وعطف الطلبي على الخبري على ما في الكشف لأن
الجزاء جامع جعلهما كالمفردين أي الحكم هذا وذاك، أو لأن
المعنى فلا جناح وواجب هذا، أو فلا تعزموا ذلك ومتعوهن، وجوز
أن يكون عطفا على الجملة الخبرية عطف القصة على القصة وأن يكون
اعتراضا بالواو واردا لبيان ما يجب للمطلقات المذكورات على
أزواجهن بعد
التطليق، والعطف على محذوف ينسحب عليه الكلام أي فطلقوهن
ومتعوهن يأباه الذوق السليم إذ لا معنى لقولنا إذا طلقتم
النساء فطلقوهن إلا أن يكون المقصود المعطوف، والحكمة في إعطاء
المتعة جبر إيحاش الطلاق، والظاهر فيها عدم التقدير لقوله
تعالى: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ
قَدَرُهُ أي على كل منهما مقدار ما يطيقه ويليق به كائنا ما
كان، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما متعة
الطلاق أعلاها الخادم ودون ذلك الورق ودون ذلك الكسوة، وعن ابن
عمر أدنى ما يكون من المتعة ثلاثون درهما، وقال الإمام أبو
حنيفة: هي درع وخمار وملحفة على حسب الحال إلا أن يقل مهر
مثلها من ذلك فلها الأقل من نصف مهر المثل، ومن المتعة ولا
ينتقص من خمسة دراهم، والموسع من يكون ذا سعة وغنى من أوسع
الرجل إذا كثر ماله واتسعت حاله، وَعَلَى الْمُقْتِرِ من يكون
ضيق الحال من- أقتر- إذا افتقر وقلّ ما في يده وأصل الباب
الإقلال، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مبينة لمقدار
حال المتعة بالنظر إلى حال المطلق- إيسارا وإقتارا- والجمهور
على أنها في موضع الحال من فاعل مَتِّعُوهُنَّ، والرابط محذوف
أي منكم، ومن جعل الألف واللام عوضا عن المضاف إليه أي على
موسعكم إلخ استغنى عن القول بالحذف.
وقرأ أبو جعفر وأهل الكوفة إلا أبا بكر وابن ذكوان قَدَرُهُ
بفتح الدال، والباقون بإسكانها وهما لغتان فيه، وقيل:- القدر-
بالتسكين الطاقة وبالتحريك المقدار، وقرئ قَدَرُهُ بالنصب ووجه
بأنه مفعول على المعنى لأن معنى مَتِّعُوهُنَّ إلخ ليؤد كل
منكم- قدر- وسعه قال أبو البقاء: وأجود من هذا أن يكون التقدير
فأوجبوا على الموسع قَدَرُهُ مَتاعاً اسم مصدر أجري مجراه أي
تمتيعا بِالْمَعْرُوفِ أي متلبسا بالوجه الذي يستحسن وهو في
محل الصفة- لمتاعا- وحَقًّا أي ثابتا صفة ثانية له يجوز أن
يكون مصدرا مؤكدا أي حق ذلك حقا عَلَى الْمُحْسِنِينَ متعلق
بالناصب للمصدر أو به أو بمحذوف وقع صفة، والمراد بالمحسنين من
شأنهم الإحسان أو الذين يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى
الامتثال أو إلى المطلقات بالتمتيع وإنما سموا بذلك اعتبارا
للمشارفة ترغيبا وتحريضا.
وقال الإمام مالك: المحسنون المتطوعون وبذلك استدل على استحباب
المتعة وجعله قرينة صارفة للأمر إلى الندب وعندنا هي واجبة
للمطلقات في الآية مستحبة لسائر المطلقات، وعند الشافعي رضي
الله تعالى عنه في أحد قوليه هي واجبة لكل زوجة مطلقة إذا كان
الفراق من قبل الزوج إلا التي سمى لها وطلقت قبل الدخول، ولما
لم يساعده مفهوم الآية ولم يعتبر العموم في قوله تعالى:
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ لأنه يحمل المطلق على
المقيد قال بالقياس، وجعله مقدما على المفهوم لأنه من الحجج
القطعية دونه، وأجيب عما قاله مالك بمنع قصر
(1/546)
المحسن على المتطوع بل هو أعم ومنه ومن
القائم بالواجبات فلا ينافي الوجوب فلا يكون صارفا للأمر عنه
مع ما انضم إليه من لفظ حقا وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ
فَرِيضَةً بيان لحكم التي سمي لها مهر وطلقت قبل المسيس، وجملة
وَقَدْ إلخ إما حال من فاعل طَلَّقْتُمُوهُنَّ أو من مفعوله
ونفس الفرض من المبني للفاعل أو للمفعول وإن لم يقارن حالة
التطليق لكن اتصاف المطلق بالفارضية فيما سبق مما لا ريب في
مقارنته لها، وكذا الحال في اتصاف المطلقة بكونها مفروضا فيما
سبق فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ أي فلهن نصف ما قدرتم وسميتم لهن
من المهر، أو فالواجب عليكم ذلك وهذا صريح في أن المنفي في
الصورة السابقة إنما هو تبعة المهر، وقرىء- فنصف- بالنصب على
معنى فأدّوا نصف ولعل تأخير حكم التسمية مع أنها الأصل في
العقد والأكثر في الوقوع من باب التدرج في الأحكام، وذكر الأشق
فالأشق، والقول بأن ذلك لما
أن الآية الكريمة نزلت في أنصاري تزوج امرأة من بني حنيفة
وكانت مفوضة فطلقها قبل الدخول بها فتخاصما إلى رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم فقال له عليه الصلاة والسلام: «أمتعتها؟ قال:
لم يكن عندي شيء قال: متعها بقلنسوتك»
مما لا أراه شيئا على أن في هذا الخبر مقالا حتى قال الحافظ
ولي الدين العراقي: لم أقف عليه إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ استثناء
مفرغ من أعم الأحوال أي فلهن نصف المفروض معينا في كل حال إلا
حال عفوهن أي المطلقات المذكورات فإنه يسقط ذلك حينئذ بعد
وجوبه والصيغة في حذ ذاتها تحتمل التذكير والتأنيث، والفرق
بالاعتبار فإن الواو في الأولى ضمير والنون علامة الرفع وفي
الثانية لام الفعل والنون ضمير والفعل مبني ولذلك لم تؤثر فيه
إِنْ هنا مع أنها ناصبة لا مخففة بدليل عطف المنصوب عليه من
قوله تعالى: «أو يعفو» وقرأ الحسن بسكون الواو فهو على حد.
أبى الله أن أسمو بأم ولا أب الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ
النِّكاحِ
وهو الزوج المالك لعقد النكاح وحله وهو التفسير المأثور عن
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط
والبيهقي بسند حسن عن ابن عمر مرفوعا- وبه قال جمع من الصحابة
رضي الله تعالى عنهم- ومعنى عفوه تركه تكرما ما يعود إليه من
نصف المهر الذي ساقه كملا على ما هو المعتاد أو إعطاؤه تمام
المهر المفروض قبل بعد الطلاق كما فسره بذلك ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما وتسمية ذلك عفوا من باب المشاكلة وقد يفسر
بالزيادة والفضل كما في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا
يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: 219] وقول زهير:
حزما وبرا للإله وشيمة ... تعفو على خلق المسيء المفسد
فمرجع الاستثناء حينئذ إلى منع الزيادة في المستثنى منه كما
أنه في الصورة الأولى إلى منع النقصان فيه أي فلهن هذا المقدار
بلا زيادة ولا نقصان في جميع الأحوال إلا في حال عفوهن فإنه لا
يكون إذ ذاك لهن القدر المذكور بل ينتفي أو ينحط، أو في حال
عفو الزوج فإنه وقتئذ تكون لهن الزيادة هذا على تقدير الأول في
فَنِصْفُ غير ملاحظ فيه الوجوب، وأما على التقدير الثاني فلا
بد من القطع بكون الاستثناء منقطعا لأن في صورة عفو الزوج لا
يتصور الوجوب عليه كذا قيل فليتدبر، وذهب ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما في إحدى الروايات عنه وعائشة وطاوس ومجاهد وعطاء
والحسن وعلقمة والزهري والشافعي رضي الله تعالى عنه في قوله
القديم إلى- أن الذي بيده عقدة النكاح- هو الولي الذي لا تنكح
المرأة إلا بإذنه فإن له العفو عن المهر إذا كانت المنكوحة
صغيرة في رأي البعض ومطلقا في رأي الآخرين وإن أبت، والمعول
عليه هو المأثور وهو الأنسب بقوله تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى فإن إسقاط حق الغير ليس في شيء من التقوى
وهذا خطاب للرجال والنساء جميعا، وغلب المذكر لشرفه وكذا فيما
بعد- واللام- للتعدية، ومن قواعدهم التي قلّ من يضبطها أن أفعل
التفضيل وكذا فعل التعجب يتعدى
(1/547)
بالحرف الذي يتعدى به فعله كأزهد فيه من
كذا وإن كان من متعد في الأصل فإن كان الفعل يفهم علما أو جهلا
تعدى- بالباء- كأعلم بالفقه وأجهل بالنحو، وإن كان لا يفهم ذلك
تعدى باللام كأنت أضرب لعمرو إلا في باب الحب والبغض فإنه
يتعدى إلى المفعول- بفي- كهو أحب في بكر وأبغض في عمرو وإلى
الفاعل المعنوي بإلى زيد أحب إلى خالد من بشر أو أبغض إليه
منه، وقرىء وأن يعفو- بالياء- وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ
بَيْنَكُمْ عطف على الجملة الاسمية المقصود منها الأمر على
أبلغ وجه أي لا تتركوا أن يتفضل بعضكم على بعض كالشيء المنسي،
والظرف إما متعلق بتنسوا أو بمحذوف وقع حالا من الفضل وحمل
الفضل على الزيادة إشارة إلى ما سبق من قوله تعالى:
وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة: 228] في الدرك
الأسفل من الضعف، وقيل: إن الظرف متعلق بمحذوف وقع صفة للفضل
على رأي من يرى حذف الموصول مع بعض صلته والفضل بمعنى الإحسان
أي- لا تنسوا الإحسان- الكائن بينكم من قبل وليكن منكم على ذكر
حتى يرغب كل في العفو مقابلة لإحسان صاحبه عليه، وليس بشيء
لأنه على ما فيه يرد عليه أن لا إحسان في الغالب بين المرأة
وزوجها قبل الدخول،
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه- ولا تناسوا
- وبعضهم- ولا تنسوا- بسكون الواو.
إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا يكاد يضيع ما
عملتم حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ أي داوموا على أدائها
لأوقاتها من غير إخلال كما ينبىء عنه صيغة المفاعلة المفيدة
للمبالغة ولعل الأمر بها عقيب الحض على العفو، والنهي عن ترك
الفضل لأنها تهيئ النفس لفواضل الملكات لكونها الناهية عن
الفحشاء والمنكر، أو ليجمع بين التعظيم لأمر الله تعالى على
خلقه، وقيل: أمر بها في خلال بيان ما تعلق بالأزواج والأولاد
من الأحكام الشرعية المتشابكة إيذانا بأنها حقيقة بكمال
الاعتناء بشأنها والمثابرة عليها من غير اشتغال عنها بشأن
أولئك فكأنه قيل: لا يشغلنكم التعلق بالنساء وأحوالهن وتوجهوا
إلى مولاكم بالمحافظة على ما هو عماد الدين ومعراج المؤمنين
وَالصَّلاةِ الْوُسْطى أي المتوسطة بينها أو الفضلى منها، وعلى
الأول استدل بالآية على أن الصلوات خمس بلا زيادة دون الثاني،
وفي تعيينها أقوال «أحدها» أنها الظهر لأنها تفعل في وسط
النهار، «الثاني»
أنها العصر لأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل وهو المروي عن
علي
والحسن وابن عباس وابن مسعود وخلق كثير وعليه الشافعية
«والثالث» أنها المغرب، وعليه قبيصة بن ذؤيب لأنها وسط في
الطول والقصر «والرابع» أنها صلاة العشاء لأنها بين صلاتين لا
يقصران «والخامس» أنها الفجر لأنها بين صلاتي الليل والنهار
ولأنها صلاة لا تجمع مع غيرها فهي منفردة بين مجتمعين وهو
المروي عن معاذ وجابر وعطاء وعكرمة ومجاهد واختاره الشافعي رضي
الله تعالى عنه نفسه، وقيل: المراد بها صلاة الوتر، وقيل:
الضحى، وقيل: عيد الفطر، وقيل: عيد الأضحى، وقيل: صلاة الليل،
وقيل: صلاة الجمعة، وقيل: الجماعة، وقيل: صلاة الخوف «وقيل،
وقيل..» .
والأكثرون صححوا أنها صلاة العصر لما
أخرج مسلم من حديث عليّ كرم الله تعالى وجهه «أنه صلّى الله
عليه وسلّم قال يوم الأحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة
العصر ملأ الله تعالى بيوتهم نارا»
وخصت بالذكر لأنها تقع في وقت اشتغال الناس لا سيما العرب، قال
بعض المحققين: والذي يقتضيه الدليل من بين هذه الأقوال أنها
الظهر ونسب ذلك إلى الامام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه،
وبيان ذلك أن سائر الأقوال ليس لها مستند يقف له العجلان سوى
القول بأنها صلاة العصر، والأحاديث الواردة بأنها هي قسمان:
مرفوعة وموقوفة، والموقوفة لا يحتج بها لأنها أقوال صحابة
عارضها أقوال صحابة آخرين أنها غيرها، وقول الصحابي لا يحتج به
إذا عارضه قول صحابي آخر قطعا وإنما جرى الخلاف في الاحتجاج به
عند عدم المعارضة، وأما المرفوعة فغالبها لا يخلو إسناده عن
مقال والسالم من المقال
(1/548)
قسمان: مختصر بلفظ الصلاة الوسطى صلاة
العصر، ومطول فيه قصة وقع في ضمنها هذه الجملة، والمختصر مأخوذ
من المطول اختصره بعض الرواة فوهم في اختصاره على ما ستسمع،
والأحاديث المطولة كلها لا تخلو من احتمال فلا يصح الاستدلال
بها
فقوله من حديث مسلم «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر»
فيه احتمالان، أحدهما أن يكون لفظ صلاة العصر ليس مرفوعا بل
مدرج في الحديث أدرجه بعض الرواة تفسيرا منه كما وقع ذلك كثيرا
في أحاديث، ويؤيده ما
أخرجه مسلم من وجه آخر عن علي كرم الله تعالى وجهه بلفظ
«حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس»
يعني العصر، الثاني على تقدير أنه ليس بمدرج يحتمل أن يكون عطف
نسق على حذف العاطف لا بيانا ولا بدلا والتقدير شغلونا عن
الصلاة الوسطى وصلاة العصر، ويؤيد ذلك أنه صلى الله تعالى عليه
وسلم لم يشغل يوم الأحزاب عن صلاة العصر فقط بل شغل عن الظهر
والعصر معا كما ورد من طريق أخرى فكأنه أراد بالصلاة الوسطى
الظهر وعطف عليها العصر، ومع هذين الاحتمالين لا يتأتى
الاستدلال بالحديث والاحتمال الأول أقوى للرواية المشار إليها،
ويؤيده من خارج أنه لو ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم
تفسير أنها العصر لوقف الصحابة عنده ولم يختلفوا، وقد أخرج ابن
جرير عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين أصابعه، ثم
على تقدير عدم الاحتمالين فالحديث معارض بالحديث المرفوع أنها
الظهر، وإذا تعارض الحديثان، ولم يمكن الجمع طلب الترجيح، وقد
ذكر الأصوليون أن من المرجحات أن يذكر السبب، والحديث الوارد
في أنها الظهر مبين فيه سبب النزول ومساق لذكرها بطريق القصد
بخلاف
حديث «شغلونا» إلخ
فوجب الرجوع إليه، وهو ما
أخرجه أحمد وأبو داود بسند جيد عن زيد بن ثابت قال: «كان رسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم تكن
صلاة أشد على الصحابة منها فنزلت حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ
وَالصَّلاةِ الْوُسْطى
»
وأخرج أحمد من وجه آخر عن زيد أيضا «أن رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا
الصف والصفان، والناس في قائلتهم وتجارتهم فأنزل الله تعالى
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ إلخ فقال رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم: «لينتهين رجال أو لأحرقن بيوتهم»
ويؤكد كونها غير العصر ما
أخرجه مسلم وغيره من طرق عن أبي يونس مولى عائشة قال: «أمرتني
عائشة أن أكتب لها مصحفا فأملت عليّ- حافظوا على الصلوات
والصلاة الوسطى وصلاة العصر- وقالت: سمعتها من رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم»
والعطف يقتضي المغايرة، وأخرج مالك وغيره من طرق أيضا عن عمرو
بن رافع قال: «كنت أكتب مصحفا لحفصة زوج النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم فأملت عليّ- حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى
وصلاة العصر- وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن عبد الله بن
رافع أنه كتب لأم سلمة مصحفا فأملت عليه مثل ما أملت عائشة
وحفصة» وأخرج ابن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ
كذلك، وأخرج أيضا عن أبي رافع مولى حفصة قال: «كتبت مصحفا
لحفصة فقالت اكتب- حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة
العصر- فلقيت أبيّ بن كعب فقال: هو كما قالت أو ليس أشغل ما
نكون عند صلاة الظهر في عملنا ونواضحنا» وهذا يدل على أن
الصحابة فهموا من هذه القراءة أنها الظهر هذا، وعن الربيع بن
خيثم وأبي بكر الوراق أنها إحدى الصلوات الخمس ولم يعينها الله
تعالى وأخفاها في جملة «الصلوات» المكتوبة ليحافظوا على جميعها
كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان. واسمه الأعظم في جميع
الأسماء وساعة الإجابة في ساعات الجمعة
وقرأ عبد الله وعلي الصَّلاةِ الْوُسْطى
وروي عن عائشة وَالصَّلاةِ بالنصب على المدح والاختصاص، وقرأ
نافع- الوصطى- بالصاد وَقُومُوا لِلَّهِ أي في الصلاة
قانِتِينَ أي مطيعين كما هو أصل معنى القنوت عند بعض وهو
المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو ذاكرين له تعالى
في القيام بناء على أن القنوت هو الذكر فيه، وقيل: خاشعين،
وقيل: مكملين الطاعة ومتميها على أحسن وجه من غير إخلال بشيء
مما
(1/549)
ينبغي فيها، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن
مجاهد قال: من القنوت طول الركوع وغض البصر والخشوع وأن لا
يلتفت وأن لا يقلب الحصى ولا يعبث بشيء ولا يحدث نفسه بأمر من
أمور الدنيا، وفسره البخاري في صحيحه بساكتين لما أخرج هو
ومسلم وأبو داود وجماعة عن زيد بن أرقم قال «كنا نتكلم على عهد
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الصلاة يكلم الرجل منا
صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت وَقُومُوا لِلَّهِ
قانِتِينَ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، ولا يخفى أنه ليس
بنص في المقصود، ولعل الأوضح منه ما
أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما قال: أتيت
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فلم يرد
عليّ فلما قضى الصلاة قال: «إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام
إلا أنا أمرنا أن نقوم قانِتِينَ لا نتكلم في الصلاة»
وقال ابن المسيب:
المراد به القنوت في الصبح وهو رواية عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما، والجار والمجرور متعلق بما قبله أو بما بعده
فَإِنْ خِفْتُمْ من عدو أو غيره فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً
حالان من الضمير في جواب الشرط أي فصلوا راجلين أو راكبين،
والأول جمع راجل، وهو الماشي على رجليه- ورجل- بفتح فضم أو
بفتح فكسر بمعناه، وقيل: الراجل الكائن على رجليه واقفا أو
ماشيا، واستدل الشافعي رضي الله تعالى عنه بظاهر الآية على
وجوب الصلاة حال المسايفة وإن لم يمكن الوقوف، وذهب إمامنا إلى
أن المشي، وكذا القتال يبطلها، وإذا أدى الأمر إلى ذلك أخرها
ثم صلاها آمنا،
فقد أخرج الشافعي بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله
تعالى عنه قال: حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوي من الليل حتى
كفينا القتال، وذلك قوله تعالى: وَكَفَى اللَّهُ
الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [الأحزاب: 25] فدعا رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم بلالا فأمر فأقام الظهر فصلاها كما كان
يصلي، ثم أقام العصر فصلاها كذلك، ثم أقام المغرب فصلاها كذلك،
ثم أقام العشاء فصلاها كذلك،
وفي لفظ «فصلى كل صلاة ما كان يصليها في وقتها» وقد كانت صلاة
الخوف مشروعة قبل ذلك لأنها نزلت في ذات الرقاع- وهي قبل
الخندق- كما قاله ابن إسحاق وغيره من أهل السير، وأجيب بمنع أن
صلاة الخوف مطلقا ولو شديدا شرعت قبل الخندق ليستدل بما وقع
فيه من التأخير، ويجعل ناسخا لما في الآية- كما قيل- والمشروع
في ذات الرقاع قبل صلاة الخوف الغير الشديد وهي التي نزلت فيها
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [النساء:
102] لا صلاة شدّة الخوف الغير الشديد وهي التي نزلت فيها- وهي
لم تشرع قبل الخندق بل بعده- وفيه كان الخوف شديدا فلا يضر
التأخير، وقد أجاب بعض الحنفية بأنا سلمنا جميع ذلك إلا أن هذه
الآية ليست نصا في جواز الصلاة مع المشي أو المسايفة إذ يحتمل
أن يكون الراحل فيها بمعنى الواقف على رجليه لا سيما وقد قوبل
بالراكب وقد علم من خارج وجوب عدم الإخلال في الصلاة، وهذا
إخلال كلي لا يحتمل فيها لإخراجه لها عن ماهيتها بالكلية، وأنت
تعلم- إذا أنصفت- أن ظاهر الآية صريحة مع الشافعية لسبق
«وقوموا والدين يسر لا عسر» والمقامات مختلفة، والميسور لا
يسقط بالمعسور، وما لا يدرك لا يترك فليفهم.
وقرىء «رجالا» - بضم الراء مع التخفيف، وبضمها مع التشديد-
وقرىء «فرجلا» أيضا فَإِذا أَمِنْتُمْ وزال خوفكم. وعن مجاهد-
إذا خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة- ولعله على سبيل
التمثيل فَاذْكُرُوا اللَّهَ أي فصلوا صلاة الأمن- كما قال ابن
زيد- وعبر عنها بالذكر لأنه معظم أركانها، وقيل: المراد-
اشكروه على الأمن- وبعضهم أوجب الإعادة، وفسر هذا- بأعيدوا
الصلاة- وهو من البعد بمكان كَما عَلَّمَكُمْ أي ذكرا مثل ما
عَلَّمَكُمْ من الشرائع وكيفية الصلاة حالتي- الأمن والخوف- أو
شكرا يوازي ذلك، و «ما» مصدرية وجوّز أن تكون موصولة- وفيه
بعد.
ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مفعول علمكم وزاد تَكُونُوا
ليفيد النظم، ووقع في موضع آخر بدونها كقوله
(1/550)
تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ
يَعْلَمْ [العلق: 5] فقيل: الفائدة في ذكر المفعول فيه وإن كان
الإنسان لا يعلم إلا ما لم يعلم التصريح بذكر حالة الجهل التي
انتقل عنها فإنه أوضح في الامتنان، وفي إيراد الشرطية الأولى
بأن المفيد لمشكوكية وقوع الخوف وندرته، وتصدير الثانية ب
«إذا» المنبئة عن تحقق وقوع الأمن وكثرته مع الإيجاز في جواب
الأولى، والإطناب في جواب الثانية المبنيين على تنزيل مقام
وقوع المأمور به فيهما منزلة مقام وقوع الأمر تنزيلا مستدعيا
لإجراء مقتضى المقام الأوّل في كل منهما مجرى مقتضى المقام
الثاني من الجزالة والاعتبار كما قيل- ما فيه عبرة لذوي
الأبصار وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْواجاً عود إلى بيان بقية الأحكام المفصلة فيما سبق، وفي
يُتَوَفَّوْنَ مجاز المشارفة وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ قرأ أبو
عمرو وابن عامر وحمزة عن عاصم بنصب وَصِيَّةً على المصدرية، أو
على أنها مفعول به، والتقدير ليوصوا أو يوصون وَصِيَّةً أو كتب
الله تعالى عليهم، أو ألزموا وَصِيَّةً ويؤيد ذلك قراءة عبد
الله «كتب عليكم الوصية لأزواجكم متاعا إلى الحول» مكان
وَالَّذِينَ إلخ، وقرأ الباقون- بالرفع- على أنه خبر بتقدير
ليصح الحمل أي ووصية الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أو حكمهم وصية أو
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أهل وصية، وجوّز أن يكون نائب فاعل
فعل محذوف، أو مبتدأ لخبر محذوف مقدّم عليه أي كُتِبَ
عَلَيْهِمُ أو عليهم وَصِيَّةً وقرأ أبيّ متاع لأزواجهم، وروي
عنه فَمَتاعُ بالفاء.
مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ نصب بيوصون إن أضمرته ويكون من باب
الحذف والإيصال، وإلا ف «بالوصية» لأنها بمعنى التوصية، وبمتاع
على قراءة أبيّ لأنه بمعنى التمتع غَيْرَ إِخْراجٍ بدل منه بدل
اشتمال إن اعتبر اللزوم بين التمتع إِلَى الْحَوْلِ وبين- غير
الإخراج- وبدل الكل بحسب الذات فإنهما متحدان بالذات،
ومتغايران بالوصف، وذكر بعضهم أنه على تقدير البدل لا بد من
تقدير مضاف إلى غير تقديره مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ متاع
غَيْرَ إِخْراجٍ وإلا لم يصح لأن مَتاعاً مفسر بالإنفاق،
وغَيْرَ إِخْراجٍ عبارة عن الإسكان وليس مدلوله مدول الأول،
ولا جزأه، ولا ملابسا له، فيكون بدل غلط- وهو لا يصح في الكلام
المجيد- فيتعين التقدير، وحينئذ يكون إبدال الخاص من العام وهو
من قبيل إبدال الكل من الجزء نحو- رأيت القمر فلكه- وهو بدل
الاشتمال- كما صرح به صاحب المفتاح- وأجيب بأنا لا نسلم أن
مَتاعاً مفسر بالإنفاق فقط بل- المتاع- عام شامل للإنفاق
والإسكان جميعا، فيكون غَيْرَ إِخْراجٍ عبارة عن الإسكان الذي
هو بعض من مَتاعاً فيكون بدل البعض من الكل، وجوّز أن يكون
مصدرا مؤكدا لأن- الوصية بأن يمتعن حولا- يدل على أنهن لا
يخرجن، فكأنه قيل: لا يخرجن غَيْرَ إِخْراجٍ ويكون تأكيدا
لنفي- الإخراج- الدال عليه لا يَخْرُجْنَ فيؤول إلى قولك: لا
يخرجن لا يخرجن، وأن يكون حالا من أزواجهم والأكثرون على أنها
حال مؤكدة إذ لا معنى لتقييد- الإيصاء- بمفهوم هذه الحالة
وأنها مقدّرة لأن معنى نفى- الإخراج إلى الحول- ليس مقارنا-
للإيصاء- وفيه تأمل، وأن يكون صفة متاع أو منصوبا بنزع الخافض،
والمعنى يجب على الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أن يوصوا قبل أن
يحتضروا لِأَزْواجِهِمْ لأن يمتعن بعدهم- حولا- بالنفقة
والسكنى، وكان ذلك على الصحيح في أول الإسلام ثم نسخت المدة
بقوله تعالى: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً وهو وإن كان
متقدما في التلاوة فهو متأخر في النزول، وكذا النفقة بتوريثهن
الربع أو الثمن، واختلف في سقوط السكنى وعدمه، والذي عليه
ساداتنا الحنفية الأول، وحجتهم أن مال الزوج صار ميراثا
للوارث، وانقطع ملكه بالموت، وذهب الشافعية إلى الثاني
لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «امكثي في بيتك حتى يبلغ
الكتاب أجله»
واعترض بأنه ليس فيه دلالة على أن لها السكنى في مال الزوج،
والكلام فيه فَإِنْ خَرَجْنَ بعد الحول، ومضيّ العدة، وقيل: في
الأثناء باختيارهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يا أولياء الميت، أو
أيها الأئمة.
(1/551)
فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ
مَعْرُوفٍ لا ينكره الشرع كالتطيب والتزين وترك الحداد والتعرض
للخطاب أو في ترك منعهنّ من الخروج، أو قطع النفقة عنهنّ، فلا
نص في الآية على أنه لم يكن يجب عليهنّ ملازمة مسكن الزوج
والحداد عليه، وإنما كنّ مخيرات بين الملازمة وأخذ النفقة،
وبين الخروج وتركها وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب على أمره ينتقم ممن
خالف أمره في- الإيصاء- وإنفاذ «الوصية» وغير ذلك حَكِيمٌ
يراعي في أحكامه مصالح عباده فينبغي أن يمتثل أمره ونهيه.
وَلِلْمُطَلَّقاتِ سواء كن مدخولا بهن أو لا مَتاعٌ أي مطلق
المتعة الشاملة للواجبة والمستحبة وأوجبها سعيد بن جبير وأبو
العالية والزهري للكل، وقيل: المراد بالمتاع نفقة العدة، ويجوز
أن يكون اللام للعهد أي المطلقات المذكورات في الآية السابقة
وهن غير الممسوسات وغير المفروض لهن، والتكرير للتأكيد
والتصريح بما هو أظهر في الوجوب وهذا هو الأوفق بمذهبنا،
ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد قال: لما نزل قوله تعالى:
مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:
236] قال رجل: إن أحسنت فعلت وإن لم أرد ذلك لم أفعل فأنزل
الله تعالى هذه الآية فلا حاجة حينئذ إلى القول بأن تلك الآية
مخصصة بمفهومها منطوق هذه الآية المعممة على مذهب من يرى ذلك
ولا إلى القول بنسخ هذه كما ذهب إليه ابن المسيب وهو أحد قولي
الإمامية بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ أي من
الكفر والمعاصي كَذلِكَ أي مثل ذلك البيان الواضح للأحكام
السابقة يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ الدالة على ما
تحتاجون إليه معاشا ومعادا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي
تكمل عقولكم أو لكي تصرفوا عقولكم إليها أو لكي تفهموا ما أريد
منها أَلَمْ تَرَ هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون
للتعجب والتقرير والتذكير لمن علم بما يأتي كالأخبار وأهل
التواريخ، وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه،
وقد اشتهرت في ذلك حتى أجريت مجرى المثل في هذا الباب بأن شبه
حال من «لم ير» الشيء بحال من رآه في أنه لا ينبغي أن يخفى
عليه وأنه ينبغي أن يتعجب منه ثم أجري الكلام معه كما يجري مع
من رأى قصدا إلى المبالغة في شهرته وعراقته في التعجب، والرؤية
إما بمعنى الابصار مجازا عن النظر، وفائدة التجوز الحث على
الاعتبار لأن النظر اختياري دون الإدراك الذي بعده وإما بمعنى
الإدراك القلبي متضمنا معنى الوصول والانتهاء ولهذا تعدت بإلى
في قوله تعالى: إِلَى الَّذِينَ كما قاله غير واحد، وقال
الراغب: إن الفعل مما يتعدى بنفسه لكن لما استعير لمعنى- ألم
تنظر- عدي تعديته بإلى وفائدة استفادته أن النظر قد يتعدى عن
الرؤية فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة لها استعيرت له
وقلما استعمل ذلك في غير التقرير فلا يقال رأيت إلى كذا انتهى.
وقد يتعدى اللفظ على هذا المعنى بنفسه وقل من نبه عليه كقول
امرئ القيس:
ألم ترياني كلما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا ولم تتطيب
والمراد بالموصول أهل قرية يقال لها داوردان قرب واسط خَرَجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ فارين من الطاعون أو من الجهاد حيث دعوا إليه
وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ وكانوا فوق عشرة آلاف على ما
استظهره الأكثر بناء على أنه لا يقال- عشرة ألوف لا تسعة ألوف-
وهكذا وإنما يقال آلاف، فقول عطاء الخراساني: إنهم كانوا ثلاثة
آلاف، وابن عباس في إحدى الروايات عنه أنهم أربعة آلاف، ومقاتل
والكلبي أنهم ثمانية آلاف، وأبي صالح أنهم تسعة آلاف، وأبي
رؤوف أنهم عشرة آلاف لا يساعده هذا الاستعمال، والقائلون
بالفوقية اختلفوا فقيل: كانوا بضعة وثلاثين ألفا، وحكي ذلك عن
السدي وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أربعون
ألفا، وقال عطاء بن أبي رباح إنهم سبعون ألفا ولا أرى لهذا
الخلاف ثمرة بعد القول بالكثرة وإلى ذلك يميل كلام الضحاك،
وحكي عن ابن زيد أن المراد
(1/552)
خَرَجُوا مؤتلفي القلوب ولم يخرجوا عن
تباغض فجعله جمع آلف مثل قاعد وقعود وشاهد وشهود وهو خلاف
الظاهر، وليس فيه كثير اعتبار إذ ورود الموت دفعة كما ينبىء
عنه قوله تعالى: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا على جمع عظيم
أبلغ في الاعتبار، وأما وقوعه على قوم بينهم ألفة فهو كوقوعه
على غيرهم، ومثل هذا القول بأن المراد ألفهم وحبهم لديارهم أو
لحياتهم الدنيا، والمراد بقوله تعالى إما ظاهره وإما مجاز عن
تعلق إرادته تعالى بموتهم دفعة، وقيل:
هو تمثيل لإماتته تعالى إياهم ميتة نفس واحدة في أقرب وقت
وأدناه وأسرع زمان وأوحاه بأمر مطاع لمأمور مطيع، وقيل: ناداهم
ملك بذلك، وعن السدي أن المنادي ملكان وإنما أسند إليه تعالى
تخويفا وتهويلا ثُمَّ أَحْياهُمْ عطف على مقدر يستدعيه المقام
أي فماتوا ثُمَّ أَحْياهُمْ قيل: وإنما حذف للدلالة على
الاستغناء عن ذكره لاستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته
الكونية، وجوز أن يكون عطفا على- قال- لما أنه عبارة عن
الإماتة والمشهور أنهم بقوا موتى مدة حتى تفرقت عظامهم فمر بهم
حزقيل الشهير بابن العجوز خليفة كالب بن يوفنا خليفة يوشع بن
نون، وقيل شمعون، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما،
وقال وهب: إنه شمويل وهو ذو الكفل، وقيل: يوشع نفسه فوقف
متعجبا لكثرة ما يرى منهم
«فأوحى الله تعالى إليه أن ناد أيتها العظام إن الله تعالى
يأمرك أن تجتمعي فاجتمعت حتى التزق بعضها ببعض فصارت أجسادا من
عظام لا لحم ولا دم ثم أوحى الله تعالى إليه أن ناد أيتها
الأجسام إن الله تعالى يأمرك أن تكتسي لحما فاكتست لحما ثم
أوحى الله تعالى إليه أن ناد إنّ الله تعالى يأمرك تقومي
فبعثوا أحياء يقولون سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت»
والروايات في هذا الباب كثيرة.
والظاهر أنهم لم يروا في هذا الموت من الأهوال والأحوال ما
يصير بها معارفهم ضرورية، ويمنع من صحة التكليف بعد الإحياء
كما في الآخرة، ويمكن أن يقال إنهم رأوا ما يراه الموتى إلا
أنهم أنسوه بعد العودة، والقادر على الإماتة والإحياء قادر على
الإنساء وسبحان من لا يعجزه شيء، وعلى كلا التقديرين لا يشكل
موت هؤلاء في الدنيا مرتين مع قوله تعالى: لا يَذُوقُونَ
فِيهَا الْمَوْتَ [الدخان: 56] الآية لأن ذلك لم يكن عن
استيفاء آجال- كما قال مجاهد- وإنما هو موت عقوبة فكأنه ليس
بموت، وأيضا هو من خوارق العادات فلا يرد نقضا، ومن الناس من
قال: إن هذا لم يكن موتا كالموت الذي يكون وراءه الحياة
للنشور، وإنما هو نوع انقطاع تعلق الرّوح عن الجسد بحيث يلحقه
التغير والفساد وهو فوق داء السكتة والإغماء الشديد حتى لا يشك
الرائي الحاذق لو رآه بانقطاع التعلق أصلا ولم يعلم أنه قد بقي
تعلق ما لكن لم يصل إلى حد الحياة المعلومة لدينا، ولعل هذا
القول يعود بالآخرة إلى انقسام الموت أو إلى أن إطلاق الموت
على ما ذكر مجاز، وكلا الأمرين في القلب منهما شيء بل أشياء.
وقد ذهب إلى مثله ابن الراوندي في جميع الأموات فقال: إن
الأرواح لا تفارق الأبدان أصلا وإنما يحدث في الأبدان عوارض
وعلل يحدث تفرق الأجزاء منها كما يحدث للمجذومين، والروح كامنة
في الأجزاء المتفرقة أينما كانت لكونها عرية عن الاحساس
والإدراك وهو مذهب تحكم الضرورة برده عافانا الله تعالى
والمسلمين عن اعتقاد مثله إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى
النَّاسِ جميعا، أمّا أولئك فقد أحياهم ليعتبروا فيفوزوا
بالسعادة وأما الذين سمعوا فقد هداهم إلى الاعتبار، وهذا
كالتعليل لما تقدم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ
استدراك مما تضمنه ما قبله والتقدير فيجب عليهم أن يشكروا فضله
وَلكِنَّ إلخ، وجوز أن يراد بالشكر الاستبصار والاعتبار، ولا
يخفى بعده، والإظهار في مقام الإضمار لمزيد التشنيع ومناسبة
هذه لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر جملا من الأحكام التكليفية
مشتملة على ذكر شيء من أحكام الموتى عقب ذلك بهذه القصة
العجيبة تنبيها على عظيم قدرته وأنه القادر على الإحياء والبعث
للمجازاة واستنهاضا للعزائم على العمل للمعاد والوفاء بالحقوق
والصبر على المشاق.
(1/553)
وقيل: وجه المناسبة أنه لما ذكر سبحانه
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ ذكر هذه القصة لأنها من عظيم آياته وبدائع قدرته،
وقيل: جعل الله تعالى هذه القصة لما فيها من تشجيع المسلمين
على الجهاد والتعرض للشهادة، والحث على التوكل والاستسلام
للقضاء تمهيدا لقوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وهو عطف في المعنى على أَلَمْ تَرَ لأنه بمعنى انظروا وتفكروا،
والسورة الكريمة لكونها سنام القرآن ذكر فيها كليات الأحكام
الدينية من الصيام والحج والصلاة والجهاد على نمط عجيب مستطردا
تارة للاهتمام بشأنها يكر عليها كلما وجد مجال، ومقصودا أخرى
دلالة على أن المؤمن المخلص لا ينبغي أن يشغله حال عن حال. وإن
المصالح الدنيوية ذرائع إلى الفراغة للمشاغل الأخروية، والجهاد
لما كان ذروة سنام الدين، وكان من أشق التكاليف حرضهم عليه من
طرق شتى مبتدئا من قوله سبحانه: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ
يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة: 154] منتهيا إلى هذا
المقال الكريم مختتما بذكر الانفاق في سبيله للتتميم- قاله في
الكشف- وجوز في العطف وجوه أخر، الأول أنه عطف على مقدر يعينه
ما قبله كأنه قيل فاشكروا فضله بالاعتبار بما قص عليكم-
وقاتلوا في سبيله- لما علمتم أن الفرار لا ينجي من الحمام وأن
المقدر لا يمحى فإن كان قد حان الأجل فموت في سبيل الله تعالى
خير سبيل وإلا فنصر وثواب، الثاني أنه عطف على ما يفهم من
القصة أي اثبتوا ولا تهربوا كما هرب هؤلاء وقاتلوا، الثالث أنه
عطف على حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ إلى فَإِنْ خِفْتُمْ الآية
لأن فيه إشعارا بلقاء العدوّ وما جاء جاء كالاعتراض، الرابع
أنه عطف على فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ والخطاب لمن أحياهم الله
تعالى وهو كما ترى وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما
يقوله المتخلف عن الجهاد من تنفير الغير عنه وما يقوله السابق
إليه من ترغيب فيه عَلِيمٌ بما يضمره هذا وذلك من الأغراض
والبواعث فيجازي كلّا حسب عمله ونيته مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللَّهَ مَنْ استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء، وذَا
خبره والَّذِي صفة له أو بدل منه، ولا يجوز أن يكون مَنْ ذَا
بمنزلة اسم واحد مثل ما تكون ماذا كذلك كما نص عليه أبو البقاء
لأن ما أشد إبهاما من- من- وإقراض الله تعالى مثل لتقديم العمل
العاجل طائل للثواب الآجل، والمراد هاهنا إمّا الجهاد المشتمل
على بذل النفس والمال، وإما مطلق العمل الصالح ويدخل فيه ذلك
دخولا أوليا، وعلى كلا التقديرين لا يخفى انتظام الجملة بما
قبلها قَرْضاً إمّا مصدر بمعنى- إقراضا- فيكون نصبا على
المصدرية، وإما بمعنى المفعول فيكون نصبا على المفعولية، وقوله
سبحانه: حَسَناً صفة له على الوجهين وجهة الحسن على الأوّل
الخلوص مثلا وعلى الثاني الحل والطيب، وأخرج ابن أبي حاتم عن
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه- القرض الحسن- المجاهدة
والإنفاق في سبيل الله تعالى، وعليه يلتئم النظم أتم التئام
فَيُضاعِفَهُ أي- القرض- لَهُ وجعله- مضاعفا- مجاز لأنه سبب-
المضاعفة- وجوز تقدير مضاف أي- فيضاعف- جزاءه، وصيغة المفاعلة
ليست على بابها إذ لا مشاركة وإنما اختيرت للمبالغة المشيرة
إليها المغالبة.
وقرأ عاصم بالنصب، وفيه وجهان: أحدهما أن يكون- معطوفا- على
مصدر- يقرض- في المعنى أي- من ذا الذي- يكون منه قرض فمضاعفة
من الله تعالى، وثانيهما أن يكون جوابا لاستفهام معنى أيضا لأن
المستفهم عنه وإن كان المقرض في اللفظ إلا أنه في المعنى
الإقراض فكأنه قيل: أيقرض الله تعالى أحد فَيُضاعِفَهُ وهذا ما
اختاره أبو البقاء ولم يجوز أن يكون جواب الاستفهام في اللفظ
لأن المستفهم عنه فيه المقرض لا القرض ولا عطفه على المصدر
الذي هو قرضا كما يعطف الفعل على المصدر بإضمار إن لأمرين- على
ما قيل- الأوّل أن قرضا هنا مصدر مؤكد وهو لا يقدر بأن والفعل،
والثاني أن عطفه عليه يوجب أن يكون معمولا ليقرض، ولا يصح هذا
لأن المضاعفة ليست مقروضة، وإنما هي فعل من الله تعالى وفيه
تأمل، وقرأ ابن كثير: يضعفه بالرفع والتشديد، ويعقوب وابن عامر
(1/554)
يضعفه بالنصب أَضْعافاً جمع ضعف وهو مثل
الشيء في المقدار إذا زيد عليه فليس بمصدر والمصدر الإضعاف أو
المضاعفة فعلى هذا يجوز أن يكون حالا من الهاء في فَيُضاعِفَهُ
وأن يكون مفعولا ثانيا على المعنى بأن تضمن المضاعفة معنى
التصيير، وجوّز أن يعتبر واقعا موقع المصدر فينتصب على
المصدرية حينئذ، وإنما جمع والمصادر لا تثنى ولا تجمع لأنها
موضوعة للحقيقة من حيث هي لقصد الأنواع المختلفة، والمراد به
أيضا إذا ذاك الحقيقة لكنها تقصد من حيث وجودها في ضمن أنواعها
الداخلة تحتها كَثِيرَةً لا يعلم قدرها إلا الله تعالى، وأخرج
الإمام أحمد، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عثمان النهدي
قال: بلغني عن أبي هريرة أنه قال: إن الله تعالى ليكتب لعبده
المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة فحججت ذلك العام ولم أكن
أريد أن أحج إلا للقائه في هذا الحديث فلقيت أبا هريرة فقلت
له: فقال: ليس هذا قلت ولم يحفظ الذي حدثك إنما قلت إن الله
تعالى ليعطي العبد المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة ثم
قال أبو هريرة أو ليس تجدون هذا في كتاب الله تعالى مَنْ ذَا
الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ
أَضْعافاً كَثِيرَةً فالكثير عنده تعالى أكثر من ألفي ألف
وألفي ألف والذي نفسي بيده
لقد سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «إن الله
تعالى يضاعف الحسنة ألفي ألفي حسنة»
وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ أي يقتر على بعض ويوسع على بعض
أو يقتر تارة ويوسع أخرى حسبما تقتضيه الحكمة التي قد دق سرها
وجل قدرها وإذا علمتم أنه هو القابض والباسط وأن ما عندكم إنما
هو من بسطه وعطائه فلا تبخلوا عليه فأقرضوه وأنفقوا مما وسع
عليكم بدل توسعته وإعطائه ولا تعكسوا بأن تبخلوا بدل ذلك
فيعاملكم مثل معاملتكم في التعكيس بأن يقبض ويقتر عليكم من بعد
ما وسع عليكم وأقدركم على الانفاق، وعن قتادة والأصم والزجاج
أن المعنى يقبض الصدقات، ويبسط الجزاء عليها فالكلام كالتأكيد
والتقرير لما قبله ووجه تأخير البسط عليه ظاهر، ووجه تأخيره
على الأوّل الإيماء إلى أنه يعقب القبض في الوجود تسلية
للفقراء، وقرىء «يبصط» .
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على حسب ما قدمتم «ومن باب
الإشارة» إن الصلوات خمس صلاة السر بشهوده مقام الغيب، وصلاة
النفس بخمودها عن دواعي الريب، وصلاة القلب بمراقبته أنوار
الكشف، وصلاة الروح بمشاهدة الوصل، وصلاة البدن بحفظ الحواس
وإقامة الحدود، فالمعنى حافظوا على هذه الصلوات الخمس، والصلاة
الوسطى التي هي صلاة القلب التي شرطها الطهارة عن الميل إلى
السوي وحقيقتها التوجه إلى المولى ولهذا تبطل بالخطرات
والانحراف عن كعبة الذات وَقُومُوا لِلَّهِ بالتوجه إليه
قانِتِينَ أي مطيعين له ظاهرا وباطنا بدفع الخواطر فَإِنْ
خِفْتُمْ صدمات الجلال حال سفركم إلى الله تعالى فصلوا راجلين
في بيداء المسير سائرين على أقدام الصدق أو راكبين على مطايا
العزم ولا يصدنكم الخوف عن ذلك فَإِذا أَمِنْتُمْ بعد الرجوع
عن ذلك السفر إلى الوطن الأصلي بكشف الحجاب فَاذْكُرُوا
اللَّهَ أي فصلوا له بكليتكم حتى تفنوا فيه أو فإذا أمنتم
بالرجوع إلى البقاء بعد الفناء فاذكروا الله تعالى لحصول الفرق
بعد الجمع حينئذ، وأما قبل ذلك فلا ذكر إذ لا امتياز ولا تفضيل
وقد، قيل:
للمجنون أتحب ليلى؟ فقال: ومن ليلى؟! أنا ليلى، وقال بعضهم:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا
أَلَمْ تَرَ إلى الذين خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أي أوطانهم
المألوفة ومقار نفوسهم المعهودة ومقاماتهم ومراتبهم من الدنيا
وما ركنوا إليها بدواعي الهوى وهم قوم ألوف كثيرة أو متحابون
متألفون في الله تعالى حذر موت الجهل والانقطاع عن الحياة
الحقيقية والوقوع في المهاوي الطبيعية فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ
مُوتُوا أي أمرهم بالموت الاختياري أو
(1/555)
أماتهم عن ذواتهم بالتجلي الذاتي حتى فنوا
فيه ثم أحياهم بالحياة الحقيقية العلمية أو به بالوجود
الحقاني- والبقاء بعد الفناء- إن الله لذو فضل على سائر الناس
بتهيئة أسباب إرشادهم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَشْكُرُونَ لمزيد غفلتهم عما يراد بهم وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ النفس والشيطان وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
هواجس نفوس المقاتلين في سبيله عَلِيمٌ بما في قلوبهم مَنْ ذَا
الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ ويبذل نفسه له بذلا خالصا عن الشركة
فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً بظهور نعوت جماله
وجلاله فيه- والله يقبض أرواح الموحدين- بقبضته الجبروتية في
نور الأزلية، ويبسط أسرار العارفين من قبضة الكبرياء وينشرها
في مشاهدة ثناء الأبدية، ويقال: القبض سره والبسط كشفه، وقيل:
القبض للمريدين والبسط للمرادين أو الأول للمشتاقين والثاني
للعارفين، والمشهور أن القبض والبسط حالتان بعد ترقي العبد عن
حالة الخوف الرجاء فالقبض للعارف كالخوف للمستأمن، والفرق
بينهما أن الخوف والرجاء يتعلقان بأمر مستقبل مكروه أو محبوب،
والقبض والبسط بأمر حاضر في الوقت يغلب على قلب العارف من وارد
غيبي وكان الأول من آثار الجلال والثاني من آثار الجمال.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الملأ من
القوم وجوههم وأشرافهم وهو اسم للجماعة لا واحد من لفظه، وأصل
الباب الاجتماع فيما لا يحتمل المزيد وإنما سمي الأشراف بذلك
لأن هيبتهم تملأ الصدور أو لأنهم يتمالؤون أي يتعاونون بما لا
مزيد عليه، ومن للتبعيض والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا
من الملأ مِنْ بَعْدِ مُوسى أي من بعد وفاته عليه السلام، ومن
للابتداء وهي متعلقة بما تعلق به ما قبله ولا يضر اتحاد
الحرفين لفظا لاختلافهما معنى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ
قال أبو عبيدة: هو أشمويل بن حنة بن العاقر- وعليه الأكثر.
وعن السدي أنه شمعون وقال قتادة: هو يوشع بن نون لمكان من بعد
من قبل وهي ظاهرة في الاتصال، ورد بأن يوشع هذا فتى موسى
عليهما السلام وكان بينه وبين داود قرون كثيرة والاتصال غير
لازم، وإِذْ متعلقة بمضمر يستدعيه المقام أي أَلَمْ تَرَ قصة
الملأ أو حديثهم حين قالوا: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً أي أقم لنا
أميرا، وأصل البعث إرسال المبعوث من المكان الذي هو فيه لكن
يختلف باختلاف متعلقه يقال: بعث البعير من مبركه إذا أثاره
وبعثته في السير إذا هيجته، وبعث الله تعالى الميت إذا أحياه،
وضرب البعث على الجند إذا أمروا بالارتحال.
نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مجزوم بالأمر، وقرىء بالرفع على
أنه حال مقدرة أي ابعثه لنا مقدرين القتال أو مستأنف استئنافا
بيانيا كأنه قيل: فماذا تفعلون مع الملك؟ فأجيب نقاتل، وقرىء
يقاتل- بالياء- مجزوما ومرفوعا على الجواب للأمر. والوصف-
لملكا- وسبب طلبهم ذلك على ما في بعض الآثار أنه لما مات موسى
خلفه يوشع ليقيم فيهم أمر الله تعالى ويحكم بالتوراة ثم خلفه
كالب كذلك ثم حزقيل كذلك ثم إلياس كذلك ثم اليسع كذلك، ثم ظهر
لهم عدو وهم العمالقة قوم جالوت- وكانوا سكان بحر الروم- بين
مصر وفلسطين وظهروا عليهم، وغلبوا على كثير من بلادهم وأسروا
من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين، وضربوا عليهم الجزية وأخذوا
توراتهم ولم يكن لهم نبي إذ ذاك يدبر أمرهم وكان سبط النبوة قد
هلكوا إلا امرأة حبلى فولدت غلاما فسمته أشمويل ومعناه
إسماعيل، وقيل:
شمعون فلما كبر سلمته التوراة وتعلمها في بيت المقدس وكفله شيخ
من علمائهم فلما كبر نبأه الله تعالى وأرسله إليهم فقالوا: إن
كنت صادقا- فابعث لنا ملكا- الآية، وكان قوام أمر بني إسرائيل
بالاجتماع على الملوك وطاعة أنبيائهم وكان الملك هو الذي يسير
بالجموع والنبي هو الذي يقيم أمره ويرشده ويشير عليه قالَ هَلْ
عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا
تُقاتِلُوا عسى من النواسخ وخبرها أن لا تقاتلوا وفصل بالشرط
اعتناء به، والمعنى هل قاربتم أن لا تقاتلوا كما أتوقعه منكم،
والمراد تقرير أن المتوقع كائن وتثبيته على ما قيل، واعترض بأن
عسيتم أن لا تقاتلوا
(1/556)
معناه توقع عدم القتال. وهل لا يستفهم بها
إلا عما دخلته فيكون الاستفهام عن التوقع لا المتوقع ولا يلزم
من تقرير الاستفهام أن المتوقع ثابت بل إن التوقع كائن وأين
هذا من ذاك؟! وأجيب بأن الاستفهام دخل على جملة مشتملة على
توقع متوقع ولا سبيل إلى الأول لأن الرجل لا يستفهم عن توقعه
فتعين أن يكون عن المتوقع، ولما كان الاستفهام على سبيل
التقرير كان المراد أن المتوقع كائن، وقيل: لما كانت عسى
لإنشاء التوقع ولا تخرج عنه جعل الاستفهام التقريري متوجها إلى
المتوقع وهو الخبر الذي هو محل الفائدة فقرره وثبته وكون
المستفهم عنه يلي الهمزة ليس أمرا كليا، وقيل: إن عسى ليست من
النواسخ وقد تضمنت معنى قارب وأن وما بعدها مفعول لها وهذا
معنى قول بعضهم:
إنها خبر لا إنشاء، واستدل على ذلك بدخول الاستفهام عليها
ووقوعها خبرا في قوله لا تكسرن إني عسيت صائما ولا يخفى ما
فيه، وإنما ذكر في معرض الشرط كتابة القتال دون ما التمسوه مع
أنه أظهر تعلقا بكلامهم مبالغة في بيان تخلفهم عنه فإنهم إذا
لم يقاتلوا عند فرضية القتال عليهم بإيجاب الله تعالى فلأن لا
يقاتلوا عند عدم فرضيته أولى ولأن ما ذكروه ربما يوهم أن سبب
تخلفهم هو المبعوث لا نفس القتال، ويحتمل أنه أقام هذا مقام
ذلك إيماء إلى أن ذلك البعث المترتب عليه القتال إذا وقع فإنما
يقع على وجه يترتب عليه الفرضية، وقرىء- عسيتم- بكسر السين وهي
لغة قليلة قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أي ما الداعي لنا إلى أن لا نقاتل أي إلى ترك القتال.
والجار والمجرور متعلق بما تعلق به لنا أو به نفسه وهو خبر عن
«ما» ودخلت الواو لتدل على ربط هذا الكلام بما قبله ولو حذفت
لجاز أن يكون منقطعا عنه- قاله أبو البقاء- وجوز أن تكون عاطفة
على محذوف كأنهم قالوا عدم القتال غير متوقع منا- وما لنا أن
لا نقاتل- وإنما لم يصرحوا به تحاشيا عن مشافهة نبيهم بما هو
ظاهر في رد كلامه، والشائع في مثل هذا التركيب ما لنا نفعل أو
لا نفعل على أن الجملة حال، ولما منع من ذلك هنا أن المصدرية
إذ لا توافقه التزم فيه ما التزم، والأخفش ادعى زيادة ان وأن
العمل لا ينافيها، والجملة نصب على الحال كما في الشائع، وقيل:
إنه على حذف الواو ويؤول إلى ما لنا ولأن لا نقاتل كقولك: إياك
وأن تتكلم وقد يقال: إياك أن تتكلم والمعنى على- الواو- وقيل:
إن ما هنا نافية أي ليس لنا ترك القتال وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ
دِيارِنا وَأَبْنائِنا في موضع الحال والعامل نقاتل والغرض
الإخبار بأنهم يقاتلون لا محالة إذ قد عرض لهم ما يوجب
المقاتلة إيجابا قويا وهو الإخراج عن الأوطان والاغتراب من
الأهل والأولاد، وإفراد الأبناء بالذكر لمزيد تقوية أسباب
القتال وهو معطوف على الديار وفيه حذف مضاف عند أبي البقاء أي
ومن بين أبنائنا، وقيل: لا حذف والعطف على حد
علفتها تبنا وماء باردا
وفي الكلام إسناد ما للبعض للكل إذ المخرج بعضهم لا كلهم.
فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ بعد سؤال النبي وبعث
الملك تَوَلَّوْا أعرضوا وضيعوا أمر الله تعالى ولكن لا في
ابتداء الأمر بل بعد مشاهدة كثرة العدو وشوكته كما سيجيء وإنما
ذكر هاهنا مآل أمرهم إجمالا إظهار لما بين قولهم وفعلهم من
التنافي والتباين إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم الذين جاوزوا
النهر وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشرة عدة أهل بدر على ما أخرجه
البخاري عن البراء رضي الله تعالى عنه، والقلة إضافية فلا يرد
وصف هذا العدد أحيانا بأنه جم غفير وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ ومنهم الذين ظلموا بالتولي عن القتال وترك
الجهاد وتنافت أقوالهم وأفعالهم، والجملة تذييل أريد منها
الوعيد على ذلك وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ شروع في التفصيل بعد
الإجمال أي قال بعد أن أوحى لهم ما أوحى إِنَّ اللَّهَ قَدْ
بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً يدير أمركم وتصدرون عن رأيه في
القتال. وطالُوتَ فيه قولان أظهرهما أنه علم أعجمي عبري-
كداود- ولذلك لم ينصرف، وقيل: إنه عربي من الطول وأصله طولوت-
كرهبوت ورحموت- فقلبت- الواو ألفا- لتحركها وانفتاح ما قبلها
ومنع صرفه حينئذ للعلمية وشبه العجمة لكونه ليس من أبنية
(1/557)
العرب، وأما ادعاء العدل عن طويل، والقول
بأنه عبراني وافق العربي فتكلف، ومَلِكاً حال من طالُوتَ أخرج
ابن أبي حاتم عن السدي أن- نبيهم- لما دعا ربه أن يملكهم أتى
بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت. وأخرج ابن
إسحاق وابن جرير عن وهب بن منبه أنه لما دعا الله تعالى قال
له: انظر القرن الذي فيه الدهن في بيتك فإذا دخل عليك رجل فنش
الدهن الذي فيه فهو ملك بني إسرائيل فادهن رأسه منه وملكه
عليهم فأقام ينتظر متى يدخل ذلك الرجل عليه وكان طالوت رجلا
دباغا يعمل الأدم، وقيل: كان سقاء وكان من سبط بنيامين بن
يعقوب عليه السلام ولم يكن فيهم نبوة ولا ملك فخرج طالوت في
ابتغاء دابة له ضلت ومعه غلام فمرا ببيت النبي فقال غلام طالوت
له: لو دخلت بنا على هذا النبي فسألناه عن أمر دابتنا فيرشدنا
ويدعو لنا فيها بخير فقال طالوت: ما بما قلت من بأس فدخلا عليه
فبينما هو عنده يذكر له شأن دابته ويسأله أن يدعو له إذ نش
الدهن الذي في القرن فقام إليه النبي فأخذه ثم قال لطالوت: قرب
رأسك فقربه فدهنه منه ثم قال: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني
الله تعالى أن أملكك عليهم فجلس عنده وقال الناس: ملك طالوت
فأتت عظماء بني إسرائيل نبيهم مستغربين ذلك حيث لم يكن من بيت
النبوة ولا الملك.
قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا أي من أين يكون
أو كيف يكون له ذلك؟ والاستفهام حقيقي أو للتعجب لا لتكذيب
نبيهم والإنكار عليه في رأي، وموضعه نصب على الحال من الملك،
ويكون- يجوز أن تكون الناقصة فيكون الخبر له،- وعلينا- حال من
الملك أو الخبر علينا وله حال، ويجوز أن تكون التامة فيكون له
متعلقا بها.
وعَلَيْنا حال وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ
يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ الواو الأولى حالية، والثانية
عاطفة جامعة للجملتين أي كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق
التملك لوجود من هم أحق منه ولعدم ما يتوقف عليه الملك من
المال، أو لعدم ما يجبر نقصه لو كان ويلحقه بالأشراف عرفا من
ذلك، وأصل- سعة- وسعة بالواو وحذفت لحذفها من يسع وكان حق
الفعل كسر السين فيه ليتأتى الحذف كما في- يعد- وإنما ارتكب
الفتح لحرف الحلق فهو عارض، ولذا أجري عليه حكم الكسرة ولذلك
الفتح فتحت السين في المصدر ولم تكسر كما كسرت عين عدة.
قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً
فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ
يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ رد عليهم بأبلغ وجه وأكمله
كأنه قيل: لا تستبعدوا تملكه عليكم لفقره وانحطاط نسبه عنكم،
أما أولا فلأن ملاك الأمر هو اصطفاء الله تعالى وقد اصطفاه
واختاره وهو سبحانه أعلم بالمصالح لكم، وأما ثانيا فلأن العمدة
وفور العلم ليتمكن به من معرفة الأمور السياسية، وجسامة البدن
ليكون أعظم خطرا في القلوب وأقوى على كفاح الأعداء ومكابدة
الحروب لا ما ذكرتم وقد خصه الله تعالى بحظ وافر منهم، وأما
ثالثا فلأنه تعالى مالك الملك على الإطلاق وللمالك أن يمكن من
شاء من التصرف في ملكه بإذنه، وأما رابعا فلأنه سبحانه واسع
الفضل يوسع على الفقير فيغنيه عَلِيمٌ بما يليق بالملك من
النسيب وغيره، وفي تقديم البسطة في العلم على البسطة في الجسم
إيماء إلى أن الفضائل النفسانية أعلى وأشرف من الفضائل
الجسمانية بل يكاد لا يكون بينهما نسبة لا سيما ضخامة الجسم
ولهذا حمل بعضهم البسطة فيه هنا على الجمال أو القوة لا على
المقدار كطول القامة كما قيل: إن الرجل القائم كان يمد يده حتى
ينال رأسه فإن ذلك لو كان كمالا لكان أحق الخلق به رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم مع أنه عليه الصلاة والسلام كان ربعة من
الرجال، ولعل ذكر ذلك التقدير لأنه صفة تزيد الملك المطلوب
لقتال العمالقة حسنا لأنهم كانوا ضخاما ذوي بسطة في الأجسام
وكان ظل ملكهم جالوت ميلا على ما في بعض الأخبار لا أنها من
الأمور التي هي عمدة في الملوك من حيث هم كما لا يخفى على من
تحقق- أن المرء بأصغريه لا بكبر جسمه وطول برديه.
(1/558)
وفي اختيار واسِعٌ وعَلِيمٌ في الإخبار عنه
تعالى هنا من حسن المناسبة لبسطة الجسم وكثرة العلم ما تهتش له
الخواطر لا سيما على ما يتبادر من بسطة الجسم، وقدم الوصف
الأول مع أن ما يناسبه ظاهرا مؤخر لأن له مناسبة معنى لأول
الإخبار إذ الاصطفاء من سعة الفضل أيضا، ولأن عليم أوفق
بالفواصل وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة.
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ عطف على مثله مما تقدم وكان توسيط
ما تقدم بينهما للإشعار بعدم اتصال أحدهما بالآخر وتخلل كلام
من جهة المخاطبين متفرع على السابق مستتبع للأحق، وروايات
القصاص متظافرة على أنهم قالوا لنبيهم، ما آية ملكه واصطفائه
علينا؟ فقال: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
التَّابُوتُ ولما لم يكن قولهم ذلك مذكورا ليقع هذا جوابا له
صراحة أعاد الفاعل ليغاير ما علم صراحة كونه جوابا، وإنما لم
يجر ذلك المجرى بأن يذكر مقولهم ويكون هذا جوابا له، ويكتفي
بالإضمار كما اكتفى به أولا للإيماء إلى أن ذلك السؤال للنبي
بعد تصديقهم له وبيانه لهم ما استفهموا عنه مما لا ينبغي أن
يكون حتى يجاب لأن له شبها تاما بالتعنت حينئذ وإن عد من باب
السؤال لتقوية العلم، وهذا بناء على أن القوم كانوا مؤمنين،
وفي بعض الروايات ما يقتضي أنهم لم يكونوا آمنوا به حينئذ فعن
السدي أن هذا النبي كان قد كفله شيخ من علماء بني إسرائيل فلما
أراد الله تعالى أن يبعثه نبيا أتاه جبريل وهو غلام نائم إلى
جنب الشيخ، وكان لا يأمن عليه غيره فدعاه بلحن الشيخ فقام فزعا
إلى الشيخ فقال: يا أبتاه دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول لا فيفزع
فقال يا بني ارجع فنم فرجع فنام فدعاه الثانية فأتاه الغلام
أيضا فقال: دعوتني؟ فقال: ارجع فنم فإن دعوتك الثالثة فلا
تجبني، فلما كانت الثالثة ظهر له جبريل فقال له: اذهب إلى قومك
فبلغهم رسالة ربك فإن الله تعالى قد بعثك فيهم نبيا فلما أتاهم
كذبوه، وقالوا: استعجلت بالنبوة ولم يأن لك وقالوا: إن كنت
صادقا فابعث لنا ملكا ثم جرى ما جرى فقال: إن الله قد بعث لكم
طالُوتَ مَلِكاً فقالوا: ما كنت قط أكذب منك الساعة واعترضوا
وأجيبوا ثم- قالوا إن كنت صادقا فأتنا بآية- إن هذا ملك فقال:
ما قص الله تعالى، وحينئذ لا يبعد أن يكون الاستفهام المصرح به
في الآية وكذا الطلب المرموز إليه فيها صادرا عن إنكار وعدم
إيقان، ووجه ترك ذكر سؤالهم حينئذ إن كان الإشارة إلى أن من
شأن الأنبياء الإتيان بالآيات وإن لم تطلب منهم جلبا للشارد
وتقيدا للوارد «وليزداد الذين آمنوا هدي» والتابوت الصندوق وهو
فعلوت من التوب وهو الرجوع لما أنه لا يزال يرجع إليه ما يخرج
منه وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاجه من مودعاته فتاؤه مزيدة كتاء
ملكوت، وأصله توبوت فقلبت الواو ألفا وليس بفاعول من التبت
لقلة ما كان فاؤه ولامه من جنس واحد كسلس وقلق، وقرىء تابوه
بالهاء، وهي لغة الأنصار والأولى لغة قريش، وهي التي أمر عثمان
رضي الله تعالى عنه بكتابتها في الإمام حين ترافع لديه في ذلك
زيد وأبان رضي الله تعالى عنهما ووزنه حينئذ- على ما اختاره
الزمخشري- فاعول لأن شبهة الاشتقاق لا تعارض زيادة الهاء وعدم
النظير، وأما جعل الهاء بدلا من التاء لاجتماعهما في الهمس-
وأنهما من حروف الزيادة- ضعيف لأن الإبدال في غير تاء التأنيث
ليس بثبت، وذهب الجوهري إلى أن التاء فيه للتأنيث وأصله عنده
تابوة مثل ترقوة فلما سكنت الواو انقلبت هاء التأنيث تاء،
والمراد به صندوق كان يتبرك به بنو إسرائيل فذهب منهم، واختلف
في تحقيق ذلك فقال: أرباب الأخبار: هو صندوق أنزله الله تعالى
على آدم عليه السلام فيه تماثيل الأنبياء جميعهم. وكان من عود
الشمشاذ نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين، ولم يزل ينتقل من كريم
إلى كريم حتى وصل إلى يعقوب ثم إلى بنيه- ثم، وثم- إلى أن فسد
بنو إسرائيل وعصوا بعد موسى عليه السلام فسلط الله تعالى عليهم
العمالقة فأخذوه منهم فجعلوه في موضع البول والغائط فلما أراد
الله تعالى أن يملك طالوت سلط عليهم البلاء حتى أن كل من أحدث
عنده ابتلي بالبواسير وهلكت من بلادهم خمس مدائن
(1/559)
فعلموا أن ذلك بسبب استهانتهم به فأخرجوه
وجعلوه على ثورين فأقبلا يسيران وقد وكل الله تعالى بهما أربعة
من الملائكة يسوقونهما حتى أتوا منزل طالوت.
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صندوق التوراة وكان
قد رفعه الله تعالى إلى السماء سخطا على بني إسرائيل لما عصوا
بعد وفاة موسى عليه السلام فلما طلبت الآية أتى من السماء
والملائكة يحفظونه وبنو إسرائيل يشاهدون ذلك حتى أنزلوه في بيت
طالوت.
وعن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أنه التابوت الذي أنزل على أم
موسى فوضعته فيه وألقته في البحر وكان عند بني إسرائيل يتبركون
به إلى أن فسدوا فجعلوا يستخفون به فرفعه الله تعالى إلى أن
كان ما كان،
وروي غير ذلك مما يطول، وأقرب الأقوال التي رأيتها أنه صندوق
التوراة تغلبت عليه العمالقة حتى رده الله تعالى، وأبعدها أنه
صندوق نزل من السماء على آدم عليه السلام وكان يتحاكم الناس
إليه بعد موسى عليه السلام إذا اختلفوا فيحكم بينهم ويتكلم
معهم إلى أن فسدوا فأخذه العمالقة، ولم أر حديثا صحيحا مرفوعا
يعول عليه يفتح قفل هذا الصندوق ولا فكرا كذلك فِيهِ سَكِينَةٌ
مِنْ رَبِّكُمْ أي في إتيانه سكون لكم وطمأنينة، فالسكينة مصدر
حينئذ أو فيه نفسه ما تسكنون إليه وهو التوراة، وقيل: وليس
بالصحيح- كما قاله الراغب- صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت
لها رأس وذنب كرأس الهرة وذنبها وجناحان فتئن فيزف التابوت نحو
العدو وهم يمضون معه فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر.
والجملة في موضع الحال. ومِنْ لابتداء الغاية أو للتبعيض أي من
سكينات ربكم.
وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ هي رضاض
الألواح وثياب موسى وعمامة هارون وطست من ذهب كانت تغسل به
قلوب الأنبياء. وكلمة الفرج لا إله إلا الله الحليم الكريم
وسبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، والحمد لله
رب العالمين، وآلهما أتباعهما أو أنفسهما، أو أنبياء بني
إسرائيل، لأنهم أبناء عمهما تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ حال من
التابوت، والحمل إما حقيقة أو مجاز على حد. حمل زيد متاعي إلى
مكة.
إِنَّ فِي ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من إتيان التابوت فهو من
كلام النبي لقومه أو إلى نقل القصة وحكايتها فهو ابتداء خطاب
منه تعالى للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين
جيء به قبل تمام القصة إظهارا لكمال العناية، وإفراد حرف
الخطاب مع تعدد المخاطبين على التقديرين بتأويل الفريق ونحوه
لَآيَةً عظيمة كائنة لَكُمْ دالة على جعل طالوت ملكا عليكم أو
على نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم حيث أخبر بما أخبر من
غير سماع من البشر ولا أخذ من كتاب إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
أي مصدقين بتمليكه عليكم أو بشيء من الآيات، وإِنَّ شرطية
والجواب محذوف اعتمادا على ما قبله وليس المقصود حقيقة الشرطية
إذا كان المخاطب من تحقق إيمانه، وقيل: هي بمعنى إذ فَلَمَّا
فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ أي انفصل عن بيت المقدس مصاحبا
لهم لقتال العمالقة، وأصله فصل نفسه عنه، ولما اتحد فاعله
ومفعوله شاع استعماله محذوف المفعول حتى نزل منزلة القاصر-
كانفصل- وقيل: فصل فصولا وجوز كونه أصلا برأسه ممتازا من
المتعدي بمصدره كوقف وقوفا ووقفه وقفا وصد عنه صدودا وصده صدا
وهو باب مشهور، والجنود الأعوان والأنصار جمع جند، وفيه معنى
الجمع، وروي أنه قال لقومه: لا يخرج معي رجل بنى بناء لم يفرغ
منه ولا تاجر مشتغل بالتجارة، ولا متزوج بامرأة لم يبن عليها
ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ فاجتمع إليه ممن اختاره
ثمانون ألفا، وقيل: سبعون ألفا، وكان الوقت قيظا فسلكوا مفازة
فسألوا نهرا قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ أي معاملكم
معاملة من يريد أن يختبركم ليظهر للعيان الصادق منكم والكاذب
بِنَهَرٍ بفتح الهاء، وقرىء بسكونها، وهي لغة فيه وكان ذلك
«نهر» فلسطين كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعن
قتادة والربيع أنه «نهر» بين فلسطين والأردن فَمَنْ شَرِبَ
مِنْهُ أي ابتدأ شربه لمزيد عطشه من نفس النهر بأن كرع لأنه
الشرب منه حقيقة،
(1/560)
وهذا كثيرا ما يفعله العطشان المشرف على
الهلاك، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي فَمَنْ شَرِبَ من مائة
مطلقا فَلَيْسَ مِنِّي أي من أشياعي، أو ليس بمتصل بي ومتحد
معي فَمَنْ اتصالية وهي غير التبعيضية عند بعض وكأنها بيانية
عنده وعينها عند آخرين. وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ
مِنِّي أي من لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه مأكولا كان أو
مشروبا حكاه الأزهري عن الليث، وذكره الجوهري أن الطعم ما
يؤديه الذوق وليس هو نفس الذوق فمن فسره به على هذا فقد توسع
وعلى التقديرين استعمال طعم الماء بمعنى ذاق طعمه مستفيض لا
يعاب استعماله لدى العرب العرباء ويشهد له قوله:
وإن شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم- أطعم- نقاخا ولا
بردا
وأما استعماله بمعنى شربه واتخذه طعاما فقبيح إلا أن يقتضيه
المقام كما في حديث زمزم «طعام طعم وشفاء سقم» فإنه تنبيه على
أنها تغذي بخلاف سائر المياه، ولا يخدش هذا ما حكي أن خالد بن
عبد الله القسري قال على منبر الكوفة وقد خرج عليه المغيرة بن
سعيد: أطعموني ماء فعابت عليه العرب ذلك وهجوه به وحملوه على
شدة جزعه، وقيل فيه:
بل المنابر من خوف ومن وهل ... واستطعم- الماء- لما جد في
الهرب
وألحن الناس كل الناس قاطبة ... وكان يولع بالتشديق بالخطب
لأن ذلك إنما عيب عليه لأنه صدر عن جزع فكان مظنة الوهم وعدم
قصد المعنى الصحيح، وإلا فوقوع مثله في كلامهم مما لا ينبغي أن
يشك فيه، وإنما علم طالوت أن من شرب عصاه ومن لم يطعم أطاعه
بواسطة الوحي إلى نبي بني إسرائيل وإنما لم يخبرهم النبي نفسه
بذلك ألقاه إلى طالوت فأخبر به كأنه من تلقاء نفسه ليكون له
وقع في قلوبهم، وجوز أن يكون ذلك بواسطة وحي إليه بناء على أنه
نبىء بعد أن ملك وهو قول لا ثبت له، والقول بأنه يحتمل أن يكون
بالفراسة والإلهام بعيد إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً
بِيَدِهِ استثناء من الموصول الأول أو ضميره في الخبر فإن فسر
الشرب بالكروع كان الاستثناء منقطعا وإلا كان متصلا، وفائدة
تقديم الجملة الثانية الإيذان بأنها من تتمة الأولى وأن الغرض
منها تأكيدها وتتميمها نهيا عن الكروع من كل وجه، وإفادة أن
المعترف ليس بذائق حكما فيؤكد ترخيص الاغتراف ولو أخرت لم تفد
هذه الفوائد ولا ختل النظم لدلالة الاستثناء إذ ذاك على أن
المغترف متحد معه، ودلالة الجملة الثانية بمفهومها على أنه غير
متحد معه ولا يصح في الاستثناء أن يكون من أحد الضميرين
الراجعين إلى الموصولين في الصلة للفصل بين أجزاء الصلة حينئذ
بالخبر وأداء المعنى في الأول إلى أن المجتزئ في الشرب بغرفة
واحدة ليس متصلا به متحدا معه لأن التقدير- والذين شربوا كلهم
إلا المغترف ليس مني- ولا يصح أيضا أن يكون من الموصول الثاني
أو الضمير الراجع إليه في الخبر خلافا للبعض إذ لا فرق لأدائه
إلى أن المجتزئ المذكور مخرج من حكم الاتحاد معه لأن التقدير-
والذين لم يذوقوه فإنّهم كلهم إلا المغترف منهم متصلون بي
متحدون معي- وليس بالمراد أصلا، والغرفة ما يغرف، وقرأ ابن
كثير وأبو عمرو وأهل المدينة- غرفة- بفتح الغين على أنها مصدر،
وقيل: الغرفة والغرفة مصدران والضم والفتح لغتان، والباء
متعلقة باغترف أو بغرفة في قول، أو بمحذوف وقع صفة لها
فَشَرِبُوا مِنْهُ عطف على مقدر يقتضيه المقام أي فابتلوا به
فشربوا، والمراد إما كرعوا- وهو المتبادر- وروي عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما، أو أفرطوا في الشرب إِلَّا قَلِيلًا
مِنْهُمْ لم يكرعوا أو لم يفرطوا في الشرب بل اقتصروا على
الغرفة باليد وكانت تكفيهم لشربهم وإداوتهم كما أخرجه ابن أبي
حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرج عنه أيضا أن من شرب لم
يزدد إلا عطشا،
وفي رواية إن الذين شربوا اسودت شفاههم وغلبهم العطش
وكان ذلك من قبيل المعجزة
(1/561)
لذلك النبي، وقرأ أبي، والأعمش- إلا قليل-
بالرفع وجعلوه من الميل إلى جانب المعنى فإن قوله تعالى:
فَشَرِبُوا مِنْهُ في قوة أن يقال: فلم يطيعوه فحق أن يرد
المستثنى مرفوعا كما في قول الفرزدق:
وعض زمان يا ابن مروان- لم يدع- ... من المال إلا مسحت أو مجلف
فإن قوله: لم يدع في حكم لم يبق. وذهب أبو حيان إلى أنه لا
حاجة إلى التأويل، وجوز في الموجب وجهين النصب وهو الأفصح
والإتباع لما قبله على أنه نعت أو عطف بيان وأورد له قوله:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
ولا يخفى ما فيه فَلَمَّا جاوَزَهُ أي النهر وتخطاه هُوَ أي
طالوت وَالَّذِينَ آمَنُوا عطف على الضمير المتصل المؤكد
بالمنفصل، والمراد بهم القليلون والتعبير عنهم بذلك تنويها
بشأنهم وإيماء إلى أن من عداهم بمعزل عن الإيمان مَعَهُ متعلق-
يجاوز- لا- بآمنوا- وجوز أن يكون خبرا عن الَّذِينَ بناء على
أن الواو للحال كأنه قيل:
فَلَمَّا جاوَزَهُ والحال إن الذين آمنوا كائنون مَعَهُ.
قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ أي لا
قدرة لنا بمحاربتهم ومقاومتهم فضلا عن الغلبة عليهم، وجالوت
كطالوت، والقائل بعض المؤمنين لبعض وهو إظهار ضعف لا نكوص لما
شاهدوا من الأعداء ما شاهدوا من الكثرة والشدة، قيل: كانوا
مائة ألف مقاتل شاكي السلاح، وقيل: ثلاثمائة ألف قالَ على سبيل
التشجيع لذلك البعض وهو استئناف بياني الَّذِينَ يَظُنُّونَ أي
يتيقنون أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ بالبعث والرجوع إلى ما
عنده وهم الخلص من أولئك والأعلون إيمانا فلا ينافي وصفهم بذلك
إيمان الباقين فإن درجات المؤمنين في ذلك متفاوتة ويحتمل إبقاء
الظن على معناه، والمراد يظنون أنهم يستشهدون عما قريب ويلقون
الله تعالى، وقيل: الموصول عبارة عن المؤمنين كافة، وضمير
قالُوا للمنخزلين عنهم كأنهم قالوا ذلك اعتذارا عن التخلف
والنهر بينهما ولا يخفى بعده لأن الظاهر أنهم قالوا هذه
المقالة عند لقاء العدو ولم يكن المنخزلون إذ ذاك معهم، وأيضا
أي حاجة إلى إبداء العذر عن التخلف مع ما سبق من طالوت أن
الكارعين ليسوا منه في شيء فلو لم ينخزلوا لمنعوا من الذهاب
مَعَهُ كَمْ مِنْ فِئَةٍ أي قطعة من الناس وجماعة- من فأوت
رأسه- إذا شققته أو من فاء إليه إذا رجع وأصلها على الأول فيوة
فحذفت لامها فوزنها فعة، وأصلها على الثاني فيئة فحذفت عينها
فوزنها فله. وكَمْ هنا خبرية ومعناها كثير، ومَنْ زائدة،
وفِئَةٍ تمييز، وجوز أبو البقاء أن يكون مِنْ فِئَةٍ في موضع
رفع صفة ل- كم- كما تقول عندي مائة من درهم ودينار، وجوز بعضهم
أن تكون كَمْ استفهامية ولعله ليس على حقيقته، ونقل عن الرضي
أن مَنْ لا تدخل بعد كَمْ الاستفهامية، فالقول بالخبرية أولى
قَلِيلَةٍ نعت- لفئة- على لفظها غَلَبَتْ أي قهرت عند المحاربة
فِئَةً كَثِيرَةً بالنسبة إليها.
بِإِذْنِ اللَّهِ أي بحكمه وتيسيره ولم يقولوا أطاقت حسبما وقع
في كلام أصحابهم مبالغة في تشجيعهم وتسكين قلوبهم، وإذا حمل
التنوين في فِئَةٍ الأولى للتحقير، وفي- فئة- الثانية للتعظيم
كان أبلغ في التشجيع وأكمل في التسكين وقد ورد مثل ذلك في
قوله:
له حاجب عن كل أمر يشينه ... وليس له عن طالب العرف حاجب
وهذا كما ترى ناشىء من كمال- إيمانهم بالله واليوم الآخر-
وتصديقهم بأنه سبحانه لا يعجزه إحياء الموتى كما لا يعجزه
إماتة الاحياء فضلا عن نصرة الضعفاء فلا ريب في أن ما في حيز
الصلة مما له كمال ملاءمة للحكم الوارد على الموصول لا سيما
وقد أخذ فيه إذن الله تعالى وحكمه، ومن لا يؤمن بلقاء الله
تعالى لا يكاد يقرب من هذا
(1/562)
القيد قيد شبر فاندفع بهذا ما قاله- مولانا
مفتي الديار الرومية- من أن هذا الجواب كما ترى ناشىء من كمال
ثقتهم بنصر الله تعالى وتوفيقه ولا دخل في ذلك لظن لقاء الله
تعالى بالبعث ولا لتوقع ثوابه عز شأنه، ولا ريب في أن ما ذكر
في حيز الصلة ينبغي أن يكون مدارا للحكم الوارد على الموصول
ولا أقل من أن يكون وصفا ملائما له فإن الملاءمة على ما جاد به
هذا الذهن الكليل حصلت على أتم وجه وأكمله فلا حاجة في تحصيلها
إلى ما ذكره رحمه الله تعالى بعد من إخراج اللفظ عن ظاهره
الشائع استعماله فيه إلى يوم ملاقاته تعالى وحمل ملاقاته
سبحانه على ملاقاة نصره تعالى وتأييده وجعل التعبير بذلك عنه
مبالغة فإنه بمعزل عن استعمال ذلك في جميع الكتاب المجيد وليس
هو من قبيل قوله تعالى: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ المراد
منه المعية بالنصر والإحسان لأنه في سائر القرآن مألوف
استعماله في مثل ذلك كما لا يخفى، وهو يحتمل أن يكون من كلام
الأعلين أتى به تكميلا للتشجيع وترغيبا بالصبر بالإشارة إلى ما
فيه، ويحتمل أن يكون ابتداء كلام من جهته تعالى جيء به تقريرا
لكلامهم ودعاء للسامعين إلى مثل حال هؤلاء المشير إليها مقالهم
وَلَمَّا بَرَزُوا أي ظهر طالوت ومن معه وصاروا في براز من
الأرض وهو ما انكشف منها واستوى لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ أي
لمحاربتهم وقتالهم قالُوا جميعا بعد أن قويت قلوب الضعفاء
متضرعين إلى الله تعالى متبرئين من الحول والقوة.
رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي صب ذلك علينا ووفقنا له،
والمراد به حبس النفس للقتال وَثَبِّتْ أَقْدامَنا أي هب لنا
كمال القوة والرسوخ عند المقارعة بحيث لا تتزلزل، وليس المراد
بتثبيت الاقدام مجرد تقررها في حين واحد إذ ليس في ذلك كثير
جدوى وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي أعنّا عليهم
بقهرهم وهزمهم، ووضع الْكافِرِينَ موضع الضمير العائد إلى-
جالوت وجنوده- للإشعار بعلة النصر عليهم، وفي هذا الدعاء من
اللطافة وحسن الأسلوب والنكات ما لا يخفى، أما أولا فلأن فيه
التوسل بوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال، وأما
ثانيا فلأن فيه الإفراغ، وهو يؤذن بالكثرة، وفيه جعل الصبر
بمنزلة الماء المنصب عليهم لثلج صدورهم وإغنائهم عن الماء الذي
منعوا عنه، وأما ثالثا فلأن فيه التعبير- بعلى- المشعر بجعل
ذلك كالظرف وجعلهم كالمظروفين، وأما رابعا فلأن فيه تنكير صبرا
المفصح عن التفخيم، وأما خامسا فلأن في الطلب الثاني وهو تثبيت
الأقدام ما يرشح جعل الصبر بمنزلة الماء في الطلب الأول إذ
مصاب الماء مزالق فيحتاج فيها إلى التثبيت وأما سادسا فلأن فيه
حسن الترتيب حيث طلبوا أولا إفراغ الصبر على قلوبهم عند اللقاء
وثانيا ثبات القدم والقوة على مقاومة العدوّ حيث إن الصبر قد
يحصل لمن لا مقاومة له، وثالثا العمدة والمقصود من المحاربة
وهو النصرة على الخصم حيث إن الشجاعة بدون النصرة طريق عتبته
عن النفع خارجة، وقيل: إنما طلبوا أولا إفراغ الصبر لأنه ملاك
الأمر، وثانيا التثبيت لأنه متفرع عليه، وثالثا النظر لأنه
الغاية القصوى، واعترض هذا بأنه يقتضي حينئذ التعبير بالفاء
لأنها التي تفيد الترتيب، وأجيب بأن الواو أبلغ لأنه عول في
الترتيب على الذهن الذي هو أعدل شاهد كما ذكر السكاكي
فَهَزَمُوهُمْ أي كسروهم وغلبوهم، والفاء فيه فصيحة أي استجاب
الله تعالى دعاءهم فصبروا وثبتوا ونصروا فهزموهم بِإِذْنِ
اللَّهِ أي بإرادته انهزامهم ويؤول إلى نصره وتأييده، والباء
إما للاستعانة والسببية وإما للمصاحبة وَقَتَلَ داوُدُ هو ابن
إيشا جالُوتَ
أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن وهب
بن منبه قال: لما برز طالوت لجالوت قال جالوت: أبرزوا إليّ من
يقاتلني فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم فأتي بداود
إلى طالوت فقاضاه إن قتله أن ينكحه ابنته وأن يحكمه في ماله
فألبسه طالوت سلاحا فكره داود أن يقاتله بسلاح وقال: إن الله
تعالى إن لم ينصرني عليه لم يغن السلاح شيئا فخرج إليه
بالمقلاع ومخلاة فيها أحجار ثم برز له فقال له جالوت: أنت
تقاتلني؟ قال داود: نعم قال: ويلك ما خرجت إلا
(1/563)
كما تخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة
لأبددن لحمك ولأطعمنه اليوم للطير والسباع فقال له داود: بل
أنت عدوّ الله تعالى شر من الكلب فأخذ داود حجرا فرماه
بالمقلاع فأصابت بين عينيه حتى قعدت في دماغه فصرخ جالوت
وانهزم من معه واحتز رأسه وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ في بني
إسرائيل بعد ما قتل جالوت وهلك طالوت، وذلك أن طالوت- كما روي
في بعض الأخبار- لما رجع وفى بالشرط فأنكح داود ابنته وأجرى
خاتمه في ملكه فمال الناس إلى داود وأحبوه فلما رأى ذلك طالوت
وجد في نفسه وحسده فأراد قتله فعلم به داود فسجى له زق خمر في
مضجعه فدخل طالوت إلى منام داود وقد هرب داود فضرب الزق ضربة
فخرقه فسال الخمر منه فقال: يرحم الله تعالى داود ما كان أكثر
شربه للخمر ثم إن داود أتاه من القابلة في بيته وهو نائم فوضع
سهمين عند رأسه وعند رجليه وعن يمينه وعن شماله سهمين فلما
استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها فقال: يرحم الله تعالى داود
هو خير مني ظفرت به فقتلته وظفر بي فكف عني ثم إنه ركب يوما
فوجده يمشي في البرية وطالوت على فرس فقال: اليوم أقتل داود
وكان داود إذا فزع لا يدرك فركض على أثره طالوت ففزع داود
فاشتد فدخل غارا وأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فضربت عليه
بيتا فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت قال:
لو كان دخل هاهنا لخرق بيت العنكبوت فرجع،
وجعل العلماء والعباد يطعنون عليه بما فعل مع داود وجعل هو
يقتل العلماء وسائر من ينهاه عن قتل داود حتى قتل كثيرا من
الناس ثم إنه ندم بعد ذلك وخلى الملك وكان له عشرة بنين فأخذهم
وخرج يقاتل في سبيل الله تعالى كفارة لما فعل حتى قتل هو وبنوه
في سبيل الله تعالى فاجتمعت بنو إسرائيل على داود وملكوه أمرهم
فهذا إيتاء الملك وَالْحِكْمَةَ المراد بها النبوة ولم يجتمع
الملك والنبوة لأحد قبله بل كانت النبوة في سبط، والملك في
سبط، وهذا بعد موت ذلك النبي وكان موته قبل طالوت، وذكر الحكمة
بعد الملك لأنها كانت بعده وقوعا أو للترقي من ذكر الأدنى إلى
ذكر الأعلى وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ كصنعة اللبوس ومنطق
الطير وكلام الدواب، والضمير المستتر راجع إلى الله تعالى،
وعوده إلى داود كما قال- السمين ضعيف- لأن معظم ما علمه تعالى
له مما لا يكاد يخطر ببال، ولا يقع في أمنية بشر ليتمكن من
طلبه ومشيئته وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ وهم
أهل الشرور في الدنيا أو في الدين أو في مجموعهما بِبَعْضٍ آخر
منهم يردهم عما هم عليه بما قدره الله تعالى من القتل كما في
القصة المحكية أو غيره، وقرأ نافع هنا وفي الحج- دفاع- على أن
صيغة المغالبة للمبالغة لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وبطلت منافعها
وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يصلح الأرض ويعمرها،
وقيل: هو كناية عن فساد أهلها وعموم الشر فيهم، وفي هذا تنبيه
على فضيلة الملك وأنه لولاه ما استتب أمر العالم، ولهذا قيل:
الدين والملك توأمان ففي ارتفاع أحدهما ارتفاع الآخر لأن الدين
أس والملك حارس وما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع.
وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ لا يقدر قدره عَلَى الْعالَمِينَ
كافة وهذا إشارة إلى قياس استثنائي مؤلف من وضع «نقيض» المقدم
منتج- لنقيض- التالي خلا أنه قد وضع موضعه ما يستتبعه ويستوجبه
أعني كونه تعالى ذا فضل على العالمين إيذانا بأنه تعالى يتفضل
في ذلك الدفع من غير أن يجب عليه ذلك وأن فضله تعالى غير منحصر
فيه بل هو فرد من أفراد فضله العظيم كأنه قيل: ولكنه تعالى
يدفع فساد بعضهم ببعض فلا تفسد الأرض وينتظم به مصالح العالم
وينصلح أحوال الأمم، قاله مولانا مفتي الديار الرومية قدس سره.
واعترض بأنه مخالف لقول المنطقيين إن المتصلة ينتج استثناء عين
مقدمها عين تاليها لاستلزام وجود الملزوم وجود اللازم واستثناء
نقيض تاليها نقيض المقدم لاستلزام عدم اللازم عدم الملزوم ولا
ينعكس فلا ينتج استثناء عين
(1/564)
التالي عين المقدم ولا نقيض المقدم نقيض
التالي لجواز أن يكون التالي أعم من المقدم فلا يلزم من وجود
اللازم وجود الملزوم ولا من عدم الملزوم عدم اللازم، وأجيب بأن
ذلك إنما هو باعتبار الهيئة. وقد يستلزمه بواسطة خصوصية مادة
المساواة، وقد صرح ابن سينا في الفصول بأن الملازمة إذا كانت
من الطرفين كما بين العلة والمعول ينتج استثناء كل من المقدم
والتالي عين الآخر ونقيضه نقيض الآخر، وفي تعليل القوم أيضا
إشارة إليه حيث قالوا: لجواز أن يكون اللازم أعم وكأن في عبارة
المولى إشارة إلى أن الملازمة في الشرطية من الطرفين حيث قال:
منتج ولم يقل ينتج اهـ.
وأجاب بعضهم بأن قولهم ذلك ليس على سبيل الاطراد بل إذا كان
نقيض المقدم أعم من نقيض التالي، وأما إذا كان نقيضه بعكس هذا
كما في هذه الآية الكريمة وأمثالها فإنه ينتج التالي، وذلك أن
الدفع المذكور لما كان ملزوما لعدم فساد الأرض كانت الملازمة
ثابتة بينهما لأن وجود الملزوم يستلزم وجود اللازم كما بين في
موضعه وادعاء أن الملازمة من الطرفين هنا كما زعمه المجيب
الأول ليس بشيء بل اللازم هاهنا أعم من الملزوم كما لا يخفى
على ذي روية، وكون عبارة المولى مشيرة إلى أن الملازمة من
الطرفين في حيز المنع وما ذكره لا يدل عليه كما لا يخفى فافهم
وتدبر فإن نظر المولى دقيق تِلْكَ آياتُ اللَّهِ إشارة إلى ما
سلف من حديث الألوف وموتهم وإحيائهم وتمليك طالوت وإظهاره
بالآية وإهلاك الجبابرة على يد صبي وما فيه البعد للإيذان بعلو
شأن المشار إليه، وقيل: إشارة إلى ما مر من أول السورة إلى هنا
وفيه بعد، والجملة على التقديرين مستأنفة، وقوله تعالى:
نَتْلُوها عَلَيْكَ أي بواسطة جبريل عليه السلام إما حال من
الآيات والعامل معنى الإشارة، وإما جملة مستأنفة لا محل لها من
الإعراب بِالْحَقِّ في موضع النصب على أنه حال من مفعول نتلوها
أي متلبسة باليقين الذي لا يرتاب فيه أحد من أهل الكتاب وأرباب
التواريخ لما يجدونها موافقة لما عندهم أو لا ينبغي أن يرتاب
فيه أو من فاعله أي نتلوها عليك متلبسين بالحق والصواب وهو
معنا أو من الضمير المجرور أي متلبسا بالحق وهو معك.
وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ حيث تخبر بتلك الآيات وقصص
القرون الماضية وأخبارها على ما هي عليه من غير مطالعة كتاب
ولا اجتماع بأحد يخبر بذلك. ووجه مناسبة هذه القصة لما قبلها
ظاهرة وذلك لأنّه تعالى لما أمر المؤمنين بالقتال في سبيله
وكان قد قدم قبل ذلك قصة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت إما
بالطاعون أو القتال على سبيل التشجيع والتثبيت للمؤمنين
والاعلام أنه لا ينجي حذر من قدر. أردف ذلك بأن القتال كان
مطلوبا مشروعا في الأمم السابقة فليس من الأحكام التي خصصتم
بها لأن ما وقع فيه الاشتراك كانت النفس أميل لقبوله من
التكليف الذي يقع به الانفراد هذا «ومن باب الاشارة» في هذه
الآيات أَلَمْ تَرَ إِلَى ملأ القوى مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ
البدن مِنْ بَعْدِ مُوسى القلب إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ عقولهم
ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وطريق
الوصول إليه بواسطة أمره وإرشاده قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا أي إني أتوقع
منكم عدم المقاتلة لانغماسكم في أوحال الطبيعة قالُوا وَما
لَنا أَلَّا نُقاتِلَ في طريق السير إلى الله تعالى، وقد
أخرجنا من ديار استعداداتنا الأصلية التي لم نزل بالحنين إليها
واغتربنا عن أبناء كمالاتنا اللاتي لم نبرح عن مزيد البكاء
عليها فلما كتب عليهم القتال لعدوهم الذي تسبب لهم الاغتراب،
وأحل بهم العجب العجاب تولوا وأعرضوا عن مقاتلته وانتظموا في
سلك شيعته إلا قليلا منهم وهم القوى المستعدة وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ الذين نقصوا حظوظهم وَقالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ الروح
الإنساني ملكا متوجا بتاج الأنوار الإلهية جالسا على كسرى
التدبيرات الصمدانية قالوا لاحتجابهم بحجاب الانانية وغفلتهم
عن العلوم الحقانية كيف يكون له الملك علينا مع انحطاط مرتبته
بتنزله إلى عالم الكثافة من عالمه الأصلي وليس فيه مشابهة لنا
وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ لاشتراكنا في
(1/565)
عالمنا ومشابهة بعضنا بعضا وشبيه الشيء
ميال إليه قريب اتباعه له ولكل شيء آفة من جنسه وَلَمْ يُؤْتَ
سَعَةً من مال التصرف إذ لا يتصرف إلا بالواسطة قال: إن الله
تعالى اختاره عليكم لبساطته وتركبكم وزاده سعة في العلم الإلهي
وقوة في الذات النوراني، والله يؤتي ملكه من يشاء فيدبره
بإذنه، والله واسع لسعة الإطلاق، عليم بالحكم التي تقتضي
الظهور والتجلي بمظاهر الأسماء، وقال لهم نبيهم إن آية ملكه
عليكم وخلافته من قبل الرب فيكم أن يأتيكم تابوت الصدر فيه
سكينة أي طمأنينة من ربكم وهي الطمأنينة بالإيمان والأنس بالله
تعالى، وبقية مما ترك آل موسى القلب وآل هارون السر، وهي من
التوحيد وعصا لا إله إلا الله التي تلقف عظيم سحر صفات النفس
وطست تجلي الأنوار الذي يغسل به قلوب الأنبياء وشيء من توراة
الإلهامات تحمله ملائكة الاستعدادات لدى طالوت الروح فعند ذلك
تسلم له الخلافة وينقاد له جميع أسباط صفات الإنسان، فلما فصل
طالوت وجنوده من وزير العقل ومشير القلب ومدبر الافهام ونظام
الحواس قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ الطبيعة
الجسمانية المترع بمياه الشهوات فمن شرب منه وكرع مفرطا في
الري فليس من أشياعي الذين هم من عالم الروحانيات وأهل مكاشفات
الصفات ومن لم يطعمه ويذقه فإنه من سكان حظائر القدس وحضار
جلوة عرائس منصة الأنس إلا من اغترف غرفة بيده وقنع من ذلك
بقدر الضرورة ولاحتياج من غير حرض وانهماك فشربوا منه وكرعوا
وانهمكوا فيه إلا قليلا منهم وهم المتنزهون عن الأقذار
الطبيعية المتقدسون عن ملابسها المتجردون عن غواشيها وقليل ما
هم فلما جاوز طالوت الروح نهر الطبيعة وعبره هو والذين آمنوا
من القلب والعقل والملك وغيرهم من أتباع الروح معه، قال بعضهم
وهم الضعفاء الذين لم يصلوا إلى مقام التمكين لا طاقة لنا
اليوم بمحاربة جالوت النفس وأعوانه لعراقتهم بالخدع والدسائس
قال الذين يتيقنون أنهم ملاقو الله بالرجوع إليه: كم من فئة
قليلة غلبت فئة كثيرة وقهرتها حتى أذهبت كثرتها بإذن الله
وتيسيره، والله مع الصابرين بالتجلي الخاص لهم، فلما برزوا
لحرب جالوت وجنوده تبرؤوا من الحول والقوة وقالوا: ربنا أفرغ
علينا صبرا واستقامة، وثبت أقدامنا في ميادين الجهاد حتى لا
نرجع القهقرى من بعد وانصرنا على أعدائنا الذين ستروا الحق،
وهم النفس الأمارة وصفاتها فهزموهم وكسروهم بإذن الله
وقتل داود القلب جالوت النفس، ووصلوا كلهم إلى مقام التمكين
فلا يخشون الرجعة والردة، وكان قد رماه بحجر التسليم في مقلاع
الرضا بيد ترك الالتفات إلى السوي فأصاب ذلك دماغ هواه فخر
صريعا فآتى الله تعالى داود ملك الخلافة وحكمة الإلهامات وعلمه
مما يشاء من صنعة لبوس الحروب ومنطق طيور الواردات وتسبيح جبال
الأبدان، ولولا دفع الله الناس بعضهم كأرباب الطلب ببعض
كالمشايخ الواصلين لفسدت أرض استعداداتهم المخلوقة في أحسن
تقويم عند استيلاء جالوت النفس، ولكن الله ذو فضل على
العالمين، ومن فضله تحريك سلسلة طلب الطالبين وإلهام أسرارهم
إرادة المشايخ الكاملين وتوفيقهم للتمسك بذيل تربيتهم والتشبث
بأهداب سيرتهم فسبحانه من جواد لا يبخل ومتفضل على من سأل ومن
لم يسأل.
تم طبع الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث أوله تِلْكَ الرُّسُلُ
(1/566)
تِلْكَ الرُّسُلُ
فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ
اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ
الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ
بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ
وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ
كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ
اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا
شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللَّهُ
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ
سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا
بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ
وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ
حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لَا إِكْرَاهَ
فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ
يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ
اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ
آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ
يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ
اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ
الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي
كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى
عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ
مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ
قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ
يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى
طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى
حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى
الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ
أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ
قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ
أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ
عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ
يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
(260)
بسم الله الرحمن الرحيم
(2/3)
تِلْكَ الرُّسُلُ استئناف مشعر بالترقي
كأنه قيل: إنك لمن المرسلين وأفضلهم فضلا، والإشارة لجماعة
الرسل الذين منهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وما فيه
من معنى البعد- كما قيل- للإيذان بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم،
واللام للاستغراق، ويجوز أن تكون للجماعة المعلومة له صلّى
الله عليه وسلم أو المذكورة قصصها في السورة، واللام للعهد،
واختيار جمع التكسير لقرب جمع التصحيح فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ
عَلى بَعْضٍ بأن خصصنا بعضهم بمنقبة ليست تلك المنقبة للبعض
الآخر، وقيل: المراد التفضيل بالشرائع فمنهم من شرع، ومنهم من
لم يشرع، وقيل: هو تفضيل بالدرجات الأخروية ولا يخفى ما في كل،
ويؤيد الأول قوله تعالى: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ فإنه
تفصيل للتفضيل المذكور إجمالا، والجملة لا محل لها من الإعراب،
وقيل: بل من فَضَّلْنا والمراد بالموصول إما موسى عليه السلام
فالتعريف عهدي، أو كل من كلمه الله تعالى عن رضا بلا واسطة،
وهم آدم- كما ثبت في الأحاديث الصحيحة- وموسى وهو الشهير بذلك،
ونبينا صلّى الله عليه وسلم وهو المخصوص بمقام قاب والفائز
بعرائس خطاب ما تعرض بالتعريض لها الخطاب، وقرىء كَلَّمَ
اللَّهُ بالنصب وقرأ اليماني- كالم الله- من المكالمة قيل: وفي
إيراد الاسم الجليل بطريق الالتفات تربية للمهابة ورمز إلى ما
بين التكلم والرفع وبين ما سبق من مطلق التفضيل وما لحق من
إيتاء البينات والتأييد بروح القدس من التفاوت وَرَفَعَ
بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ أي ومنهم من رفعه الله تعالى على غيره من
الرسل بمراتب متباعدة ومن وجوه متعددة، وتغيير الأسلوب لتربية
ما بينهم من اختلاف الحال في درجات الشرف، والمراد ببعضهم هنا
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما ينبئ عنه الأخبار بكونه
صلّى الله عليه وسلم منهم فإنه قد خص بمزايا تقف دونها الأماني
حسرى.
وامتاز بخواص علمية وعملية لا يستطيع لسان الدهر لها حصرا.
ورقي أعلام فضل رفعت له على كواهله الأعلام.
وطأطأت له رؤوس شرفات الشرف فقبلت منه الأقدام فهو المبعوث
رحمة للعالمين. والمنعوت بالخلق العظيم بين المرسلين، والمنزل
عليه قرآن مجيد لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:
42] والمؤيد دينه المؤيد بالمعجزات المستمرة الباهرة. والفائز
بالمقام المحمود والشفاعة العظمى في الآخرة، والإبهام لتفخيم
شأنه وللإشعار بأنه العلم الفرد الغني عن التعيين، وقيل:
المراد به إبراهيم حيث خصه الله تعالى بمقام الخلة التي هي
أعلى المراتب ولا يخفى ما فيه، وقيل: إدريس لقوله تعالى:
وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم: 57] ، وقيل:
أولو العزم من الرسل، وفيه- كما في الكشف- أنه لا يلائم ذوق
المقام الذي فيه الكلام البتة، وكذا الكلام عندي في سابقه إذ
الرفعة عليه حقيقة والمقام يقتضي المجاز كما لا يخفى، ودرجات-
قيل: حال من بعضهم على معنى ذا درجات، وقيل: انتصابه على
المصدر لأن الدرجة بمعنى الرفعة فكأنه قيل: ورفعنا بعضهم
رفعات، وقيل: التقدير- على- أو- إلى- أو- في- درجات فلما حذف
حرف الجر وصل الفعل بنفسه، وقيل: إنه مفعول ثان لرفع على أنه
ضمن معنى بلغ، وقيل: إنه بدل اشتمال وليس بشيء وَآتَيْنا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ أي الآيات الباهرات
والمعجزات الواضحات كإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى.
والاخبار بما يأكلون ويدخرون، أو الإنجيل، أو كلما يدل على
نبوته، وفي ذكر ذلك في مقام التفضيل إشارة إلى أنه السبب فيه،
وهذا يقتضي أفضلية نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم على سائر
الأنبياء إذ له من قداح ذلك المعلى والرقيب. وَأَيَّدْناهُ
بِرُوحِ الْقُدُسِ قد تقدم تفسيره، وإفراده عليه السلام بما
ذكر لرد ما بين أهل الكتابين في شأنه من التفريط والإفراط،
والآية ناطقة بأن الأنبياء عليهم السلام متفاوتة الأقدار
(2/4)
فيجوز تفضيل بعضهم على بعض ولكن بقاطع لأن
الظن في الاعتقاديات لا يغني من الحق شيئا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ
مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي جاؤوا من بعد كل
رسول كما يقتضيه المعنى لا جميع الرسل كما هو ظاهر اللفظ من
الأمم المختلفة أي لو شاء الله تعالى عدم اقتتالهم ما اقتتلوا
بأن جعلهم متفقين على الحق وإتباع الرسل الذين جاؤوا به فمفعول
المشيئة محذوف لكونه مضمون الجزاء على القاعدة المعروفة، ومن
قدر- ولو شاء الله هدى الناس جميعا ما اقتتل- إلخ وعدل عما
تقتضيه القاعدة ظنا بأن هذا العدم لا يحتاج إلى مشيئة وإرادة
بل يكفي فيه عدم تعلق الإرادة بالوجود لم يأت شيء مِنْ بَعْدِ
ما جاءَتْهُمُ من جهة أولئك الرسل، وقيل: الضمير عائد إلى
الذين من قبلهم وهم الرسل، المجرور متعلق- باقتتل- وقيل: بدل
من نظيره مما قبله الْبَيِّناتِ أي المعجزات الباهرة والآيات
الظاهرة الدالة على حقية الحق الموجبة للاتباع الزاجرة عن
الاعراض المؤدي إلى الاقتال وَلكِنِ اخْتَلَفُوا استدراك إن
الشرطية أشير به إلى قياس استثنائي مؤلف من وضع نقيض مقدمها
منتج لنقيض تاليها إلا أنه قد وضع فيه الاختلاف موضع نقيض
المقدم المترتب عليه للإيذان بأن الاقتتال ناشىء من قبلهم وسوء
اختيارهم لا من جهته تعالى ابتداء كأنه قيل: ولكن لم يشأ عدم
اقتتالهم لأنهم اختلفوا اختلافا فاحشا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ
أي بما جاءت به أولئك الرسل وثبت على إيمانه وعمل بموجبه، وهذا
بيان للاختلاف فلا محل للجملة من الإعراب وَمِنْهُمْ مَنْ
كَفَرَ بذلك كفرا لا ارعواء له عنه فاقتضت الحكمة عدم مشيئته
لعدم اقتتالهم فاقتتلوا بموجب ما اقتضته أحوالهم وَلَوْ شاءَ
اللَّهُ عدم اقتتالهم بعد هذه المرتبة أيضا من الاختلاف
المستتبع للقتال عادة مَا اقْتَتَلُوا وما رفعوا رأس التطاول
والتعادي لما أن الكل بيد قهره فالتكرير ليس للتأكيد كما ظن بل
للتنبيه على أن اختلافهم ذلك ليس موجبا لعدم مشيئته تعالى لعدم
اقتتالهم كما يفهم ذلك من وضعه في الاستدراك بقوله عز وجل:
وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ حسبما يريد من غير أن
يوجبه عليه موجب أو يمنعه عنه مانع كذا قرره المولى أبو السعود
قدس سره وهو من الحسن بمكان إلا أنه قد اعترضه العلامة عبد
الباقي البغدادي في تفسيره بنحو ما تقدم آنفا في نظير هذا
القياس، وذكر أنه خلاف استعمال لَوْ عند أرباب العربية وأرباب
الاستدلال ولعل الجواب عن هذا هو الجواب عن ذلك مع أدنى تغيير
فلا تغفل، وما ذكره من توجيه التكرير مما تفرد به فما أعلم،
والأكثرون على أنه للتأكيد إلا أن وراءه سرا خص منه- كما ذكره
صاحب الانتصاف- وهو أن العرب متى بنت أول كلامها على مقصد ثم
اعترضها مقصد آخر وأرادت الرجوع إلى الأول طرت ذكره إما بتلك
العبارة أو بقريب منها، وذلك عندهم مهيع من الفصاحة مسلوك
وطريق معبد، وفي كتاب الله تعالى مواضع من ذلك منها قوله
تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا
مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ
مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً [النحل:
106] وهذه الآية من هذا النمط فإنه لما صدر الكلام بأن
اقتتالهم كان على وفق المشيئة ثم لما طال الكلام وأريد بيان أن
مشيئة الله تعالى كما نفذت في هذا الأمر الخاص وهو اقتتال
هؤلاء فهي نافذة في كل فعل واقع وهو المعبر عنه في قوله تعالى:
وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ طرأ ذكر تعلق المشيئة
بالاقتتال ليتلوه عموم تعلق المشيئة ليتناسب الكلام ويقرن كل
بشكله وهذا سر ينشرح لبيانه الصدر ويرتاح له السر ولعله أحسن
من القول بأن الأول بلا واسطة والثاني بواسطة المؤمنين أو
بالعكس، هذا وفي الآية دليل على أن الحوادث تابعة لمشيئة الله
تعالى خيرا كانت أو شرا إيمانا أو كفرا.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ
قيل: أراد به الفرض كالزكاة دون النفل لأن الأمر حقيقة في
الوجوب ولاقتران الوعيد به وهو المروي عن الحسن، وقيل: يدخل
فيه الفرض والنفل وهو المروي عن ابن جريج
(2/5)
واختاره البلخي، وجعل الأمر لمطلق الطلب
وليس فيما بعد سوى الأخبار بأهوال يوم القيامة وشدائدها ترغيبا
في الإنفاق وليس فيه وعيد على تركه ليتعين الوجوب، وقال الأصم:
المراد به الإنفاق في الجهاد، والدليل عليه أنه مذكور بعد
الأمر بالجهاد معنى، وبذلك ترتبط الآية بما قبلها ولا يخفى أن
هذا الدليل مما لا ينبغي أن يسمع لأن الارتباط على تقدير
العموم حاصل أيضا بدخول الإنفاق المذكور فيه دخولا أوليا، وكذا
على تقدير إرادة الفرض لأن الإنفاق في الجهاد قد يكون فرضا إذا
توقف الفرض عليه، ومَا موصولة حذف عائدها والتعرض لوصوله منه
تعالى للحث على الإنفاق والترغيب فيه.
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا
خُلَّةٌ أي لا مودة ولا صداقة وَلا شَفاعَةٌ أي لأحد إلا من
بعد أن يأذن الرحمن لمن يشاء ويرضى وأراد بذلك يوم القيامة،
والمراد- من وصفه بما ذكر- الإشارة إلى أنه لا قدرة لأحد فيه
على تحصيل ما ينتفع به بوجه من الوجوه لأن من في ذمته حق مثلا
إما أن يأخذ بالبيع ما يؤديه به. وإما أن يعينه أصدقاؤه. وإما
أن يلتجئ إلى من يشفع له في حطه والكل منتف ولا مستعان إلا
بالله عز وجل ومِنْ متعلقة بما تعلقت به أختها ولا ضير لاختلاف
معنييهما إذ الأولى تبعيضية وهذه لابتداء الغاية وإنما رفعت
هذه المنفيات الثلاثة مع أن المقام يقتضي التعميم والمناسب له
الفتح لأن الكلام على تقدير- هل بيع فيه أو خلة أو شفاعة-
والبيع وأخواه فيه مرفوعة فناسب رفعها في الجواب مع حصول
العموم في الجملة وإن لم يكن بمثابة العموم الحاصل على تقدير
الفتح، وقد فتحها ابن كثير. وأبو عمرو. ويعقوب على الأصل في
ذكر ما هو نص في العموم كذا قالوا، ولعل الأوجه القول بأن
الرفع لضعف العموم في غالبها وهو الخلة والشفاعة للاستثناء
الواقع في بعض الآيات، والمغلوب منقاد لحكم الغالب، وأما ما
قالوه فيرد عليه أن ما بعد يَوْمٌ جملة وقعت بعد نكرة فهي صفة
غير مقطوعة، ولا يقدر بين الصفة والموصوف إذا لم يكن قطع سؤال
قطعا، واعتبار كون النكرة موصوفة بما يفهمه التنوين من التعظيم
فتقدر الجملة صفة مقطوعة تحقيقا لذلك وتقريرا له فيصح تقدير
السؤال حينئذ مما لا يكاد يقبله الذهن السليم وَالْكافِرُونَ
هُمُ الظَّالِمُونَ أي المستحقون لإطلاق هذا الوصف عليهم
لتناهي ظلمهم، والجملة معطوفة على محذوف- أي فالمؤمنون المتقون
موفون والكافرون- إلخ والمراد بهم تاركو الإنفاق رأسا، وعبر عن
التارك بالكافر تغليظا حيث شبه فعله وهو ترك الإنفاق بالكفر،
أو جعل مشارفة عليه، أو عبر بالملزوم عن اللازم فهو إما
استعارة تبعية أو مجاز مشارفة أو مجاز مرسل أو كناية ومثل ذلك
وضع من كفر موضع من لم يحج آخر آية الحج، وبعضهم لم يتجوز
بالكفر وقال: أن عبارة عن الكفر بالله تعالى حقيقة، وفائدة
الإخبار حينئذ الإشارة إلى أن نفى تلك الأشياء بالنسبة إليهم
وأن ذلك لا يعد منا ظلما لهم لأنهم هم الظالمون لأنفسهم
المتسببون لذلك.
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مبتدأ وخبر، والمراد هو المستحق
للعبودية لا غير، قيل: وللناس- في رفع الضمير المنفصل وكذا في
الاسم الكريم إذا حل محله- أقوال خمسة: قولان معتبران، وثلاثة
لا معول عليها، فالقولان المعتبران: أحدهما أن يكون رفعه على
البدلية، وثانيهما أن يكون على الخبرية- والأول هو الجاري على
ألسنة المعربين- وهو رأي ابن مالك، وعليه إما أن يقدر للأخير
أولا، والقائلون بالتقدير اختلفوا فمن مقدر أمرا عاما كالوجود
والإمكان ومن مقدر أمرا خاصا كلنا وللخلق، واعترض تقدير العام
بأنه يلزم منه أحد المحذورين إما عدم إثبات الوجود بالفعل لله
تعالى شأنه وإما عدم تنزهه سبحانه عن إمكان الشركة، وكذا تقدير
الخاص يرد عليه أنه لا دليل عليه أو فيه خفاء، ويمكن الجواب
باختيار تقديره عاما، ولا محذور أما على تقدير الوجود فلأن نفي
الوجود يستلزم نفي
(2/6)
الإمكان إذ لو اتصف فرد آخر بوجوب الوجود
لوجد ضرورة فحيث لم يوجد علم عدم اتصافه به وما لم يتصف بوجوب
الوجود لم يمكن أن يتصف به لاستحالة الانقلاب، وأما على تقدير
الإمكان فلأنّا نقول قد ظهر أن إمكان اتصاف شيء بوجوب الوجود
يستلزم اتصافه بالفعل بالضرورة فإذا استفيد إمكانه يستفاد
وجوده أيضا إذ كل ما لم يوجد يستحيل أن يكون واجب الوجود على
أنه قد ذكر غير واحد أن نفي وجود إله غيره تعالى يجوز أن يكون
مرتبة من التوحيد يناط بها الإسلام ويكتفى بها من أكثر العوام،
وإن لم يعلموا نفي إمكانه سيما مع الغفلة وعدم الشعور به فلا
يضر عدم دلالة الكلمة عليه بل قال بعضهم: إن إيجاب النفي جاء
والآلهة غير الله تعالى موجودة، وقد قامت عبادتها على ساق،
وعكف عليها المشركون في سائر الآفاق، فأمر الناس بنفي وجودها
من حيث إنها آلهة حقة ولو كان إذ ذاك قوم يقولون بإمكان وجود
إله حق غيره تعالى لكنه غير موجود أصلا لأمروا بنفي ذلك
الإمكان ولا يخفى أن هذا ليس من المتانة بمكان، ويمكن الجواب
باختيار تقديره خاصا بأن يكون ذلك الخاص مستحقا للعبادة
والمقام قرينة واضحة عليه، واعترض بأنه لا يدل على نفي التعدد
لا بالإمكان ولا بالفعل لجواز وجود إله غيره سبحانه لا يستحق
العبادة وبأنه يمكن أن يقال: إن المراد إما نفي المستحق غيره
تعالى بالفعل أو الإمكان، والأول لا ينفي الإمكان، والثاني لا
يدل على استحقاقه تعالى بالفعل، وأجيب بأن من المعلوم بأن وجوب
الوجود مبدأ جميع الكمالات فلا ريب أنه يوجب استحقاق التعظيم
والتبجيل ولا معنى لاستحقاق العبادة سواه فإذا لم يستحق غيره
تعالى للعبادة لم يوجد غيره تعالى وإلا لاستحق العبادة قطعا
وإذا لم يوجد لم يكن ممكنا أيضا على ما أشير إليه فثبت أن نفي
الاستحقاق يستلزم نفي التعدد مطلقا، والقائلون بعدم تقدير
الخبر ذهب الأكثر منهم إلى أن لا هذه لا خبر لها، واعترض بأنه
يلزم حينئذ انتفاء الحكم والعقد وهو باطل قطعا ضرورة اقتضاء
التوحيد ذلك، وأجيب بأن القول بعدم الاحتياج لا يخرج المركب من
لا واسمها عن العقد لأن معناه انتفى هذا الجنس من غير هذا
الفرد وإلا عند هؤلاء بمعنى غير تابعة لمحل اسم لا وظهر
إعرابها فيما بعدها ولا مجال لجعلها للاستثناء إذ لو كانت له
لما أفاد الكلام التوحيد لأن حاصله حينئذ أن هذا الجنس على
تقدير عدم دخول هذا الفرد فيه منتف فيفهم منه عدم انتفاء أفراد
غير خارج عنها ذلك وهو بمعزل عن التوحيد كما لا يخفى، واستشكل
الإبدال من جهتين، الأول أنه بدل بعض ولا ضمير للمبدل منه وهو
شرط فيه، الثاني أن بينهما مخالفة فإن البدل موجب والمبدل منه
منفي، وأجيب عن الأول بأن إِلَّا تغني عن الضمير لإفهامها
البعضية، وعن الثاني بأنه بدل عن الأول في عمل العامل،
وتخالفهما في الإيجاب والنفي لا يمنع البدلية على أنه لو قيل
إن البدل في الاستثناء على حدة لم يبعد.
والثاني من القولين الأولين وهو القول بخبرية ما بعد إِلَّا
ذهب إليه جماعة وضعف بأنه يلزم عمل لا في المعارف وهي لا تعمل
فيها وبأن اسمها عام وما بعد إلا خاص فكيف يكون خبرا، وقد
قالوا: بامتناع الحيوان إنسان، وأجيب عن الأول بأن لا لا عمل
لها في الخبر على رأي سيبويه وأنه حين دخولها مرفوع بما كان
مرفوعا به قبل فلم يلزم عملها في المعرفة وهو كما ترى، وعن
الثاني بأنا لا نسلم أن في التركيب قد أخبر بالخاص عن العام إذ
العموم منفي والكلام مسوق العموم، والتخصيص بواحد من أفراد ما
دل عليه العام وفيه ما فيه.
وأما الأقوال الثلاثة التي لا يعول عليها فأولها أن إلا ليست
أداة استثناء وإنما هي بمعنى غير وهي مع اسمه تعالى شأنه صفة
لا اسم لا باعتبار المحل، والتقدير لا إله غير الله تعالى في
الوجود، وثانيها- وقد نسب للزمخشري- أن لا إله في موضع الخبر،
وإِلَّا وما بعدها في موضع المبتدأ، والأصل هو، أو الله إله
فلما أريد قصر الصفة على
(2/7)
الموصوف قدم الخبر وقرن المبدأ- بإلا- وجب
تقديم الخبر عليه كما قرر في موضعه، وثالثها أن ما بعد إِلَّا
والمقصور هو الواقع في سياق النفي، والمبتدأ إذا اقترن- بإلا-
وجب تقديم الخبر عليه كما قرر في موضعه، وثالثها أن ما بعد
إِلَّا مرفوع- بإله- كما هو حال المبتدأ إذا كان وصفا لأن إلها
بمعنى مألوه فيكون قائما مقام الفاعل وسادّا مسد الخبر كما في
ما مضروب العمران، ويرد على الأول أن فيه خللا من جهة المعنى
لأن المقصود من الكلمة أمران نفي الإلهية عن غيره تعالى
وإثباتها له سبحانه وهذا إنما يتم إذا كان إِلَّا فيها
للاستثناء إذ يستفاد النفي والإثبات حينئذ بالمنطوق، وأما إذا
كانت بمعنى غير فلا يفيد الكلام بمنطوقه إلا نفي الإلهية عن
غيره تعالى، وأما إثباتها له عز اسمه فلا يستفاد من التركيب
واستفادته من المفهوم لا تكاد تقبل لأنه إن كان مفهوم لقب فلا
عبرة به ولو عند القائلين بالمفهوم إذ لم يقل به إلا الدقاق
وبعض الحنابلة، وإن كان مفهوم صفة فمن البين أنه غير مجمع
عليه، ويرد على الثاني أنه مع ما فيه من التمحل يلزم منه أن
يكون الخبر مبنيا مع لا وهي لا يبنى معها إلا المبتدأ، وأيضا
لو كان الأمر كما ذكر لم يكن لنصب الاسم الواقع بعد إِلَّا في
مثل هذا التركيب وجه، وقد جوزه فيه جماعة، وعلى الثالث أنا لا
نسلم أن إلها وصف وإلا لوجب إعرابه وتنوينه ولا قائل به.
هذا ولي إن شاء الله تعالى عودة بعد عودة إلى ما في هذه الكلمة
الطيبة من الكلام، وفي قوله تعالى:
الْحَيُّ سبعة أوجه من وجوه الإعراب: الأول أن يكون خبرا ثانيا
للفظ الجلالة، الثاني أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف أي هو الحي،
الثالث أن يكون بدلا من قوله سبحانه: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ،
الرابع أن يكون بدلا من هُوَ وحده، الخامس أن يكون مبتدأ خبره
لا تَأْخُذُهُ، السادس أنه بدل من الله، السابع أنه صفة له
ويعضده القراءة بالنصب على المدح لاختصاصه بالنعت، وفي أصله
قولان: الأول أن أصله- حيي- بياءين من حيي يحيي، والثاني أنه
حيو فقلبت الواو المتطرفة المنكسر ما قبلها ياء، ولذلك كتبوا
الحياة بواو في رسم المصحف تنبيها على هذا الأصل، ويؤيده
الحيوان لظهور هذا الأصل فيه، ووزنه قيل: فعل، وقيل: فيعل فخفف
كميت في ميت، والحياة عند الطبيعي القوة التابعة للاعتدال
النوعي التي تفيض عنها سائر القوى الحيوانية. أو قوة التغذية،
أو قوة الحس، أو قوة تقتضي الحس والحركة. والكل مما يمتنع
اتصاف الله تعالى به لأنه من صفات الجسمانيات فهي فيه سبحانه
صفة موجودة حقيقية قائمة بذاته لا يكتنه كنهيها ولا تعلم
حقيقتها كسائر صفاته جل شأنه زائدة على مجموع العلم والقدرة
وليست نفس الذات حقيقة ولا ثابتة لا موجودة ولا معدومة- كما
قيل بكل- فالحي ذات قامت به تلك الصفة، وفسره بعض المتكلمين
بأنه الذي يصح أن يعلم ويقدر، واعترضه الإمام بأن هذا القدر
حاصل لجميع الحيوانات فكيف يحسن أن يمدح الله تعالى نفسه بصفة
يشاركه بها أخس الحيوانات. ثم قال والذي عندي في هذا الباب أن
الحي في أصل اللغة ليس عبارة عن نفس هذه الصحة بل كل شيء كان
كاملا في جنسه يسمى حيا ألا يرى أن عمارة الأرض الخربة تسمى
إحياء الموات، والصفة المسماة في عرف المتكلمين حياة إنما سميت
بها لأنها كمال الجسم أن يكون موصوفا بتلك الصفة فلا جرم سميت
تلك الصفة حياة، وكمال حال الأشجار أن تكون مورقة خضرة فلا جرم
سميت هذه الحال حياة فالمفهوم الأصلي من الحي كونه واقعا على
أكمل أحواله وصفاته وإذا كان كذلك زال الإشكال لأن المفهوم من
الحي هو الكامل ولما لم يكن ذلك مقيدا دل على أنه كامل على
الإطلاق والكامل كذلك من لا يكون قابلا للعدم لا في ذاته ولا
في صفاته الحقيقية ولا في صفاته السلبية والإضافية انتهى، ولا
يخفى أنه صرح ممرد من قوارير أما أولا فلأن قوله: إن الحي-
بمعنى الذي يصح أن يعلم ويقدر مما يشترك به سائر الحيوانات فلا
يحسن أن
(2/8)
يمدح الله تعالى به نفسه- في غاية السقوط
لأنه إن أراد الاشتراك في إطلاق اللفظ فليس الحي وحده كذلك بل
السميع، والبصير أيضا مثله في الإطلاق على أخس الحيوانات، وقد
مدح الله تعالى بهما نفسه ولم يستشكل ذلك أهل السنة، وإن أراد
الاشتراك في الحقيقة فمعاذ الله تعالى من ذلك إذ الاشتراك فيها
مستحيل بين التراب ورب الأرباب، وبين الأزلي والزائل، ومتى قلت
إن الاشتراك في إطلاق اللفظ يوجب ذلك الاشتراك حقيقة ولا مناص
عنه إلا بالحمل على المجاز لزمك مثل ذلك في سائر الصفات ولا
قائل به من أهل السنة، وأما ثانيا فلأن كون الحياة في اللغة
بمعنى الكمال مما لم يثبت في شيء من كتب اللغة أصلا وإنما
الثابت فيها غير ذلك ووصف الجمادات بها إنما هو على سبيل
المجاز دون الحقيقة كما وهم فإن قال: إنها مجاز في الله تعالى
أيضا بذلك المعنى عاد الأشكال بحصول الاشتراك في الكمال مع
الجمادات فضلا عن الحيوان، فإن قال: كمال كل شيء بالنسبة إلى
ما يليق به قلنا: فحياة كل حي حقيقة بالنسبة إلى ما يليق به،
وليس كمثل الله تعالى شيء، وكأني بك تفهم من كلامي الميل إلى
مذهب السلف في مثل هذه المواطن فليكن ذلك فهم القوم كل القوم
ويا حبذا هند وأرض بها هند والزمخشري فسر الحي بالباقي الذي لا
سبيل عليه للموت والفناء وجعلوا ذلك منه تفسيرا بما هو
المتعارف من كلام العرب وأرى أن في القلب منه شيء، ولعلي من
وراء المنع لذلك، نعم روي عن قتادة أنه الذي لا يموت وهو ليس
بنص في المدعى الْقَيُّومُ صيغة مبالغة للقيام وأصله قيووم على
فيعول فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو
ياء وأدغمت ولا يجوز أن يكون فعولا وإلا لكان قووما لأنه واوي،
ويجوز فيه قيام
وقيم وبهما قرىء، وروى أولهما عن عمر رضي الله تعالى عنه،
وقرىء القائم والقيوم بالنصب ومعناه كما قال الضحاك. وابن
جبير: الدائم الوجود، وقيل: القائم بذاته، وقيل:
القائم بتدبير خلقه من إنشائهم ابتداء، وإيصال أرزاقهم إليهم-
وهو المروي عن قتادة- وقيل: هو العالم بالأمور من قولهم فلان
يقوم بالكتاب أي يعلم ما فيه، وقال بعضهم: هو الدائم القيام
بتدبير الخلق وحفظه، وذكر الراغب أنه يقال:
قام كذا أي دام وقام بكذا أي حفظه، والقيوم القائم الحافظ لكل
شيء والمعطى له ما به قوامه، والظاهر منه أن القيام بمعنى
الدوام ثم يصير بالتعدية بمعنى الادامة وهو الحفظ فأورد عليه
أن المبالغة ليست من أسباب التعدية فإذا عرى القيوم عن أداتها
بمعنى اللازم فلا يصح تفسيره بالحافظ ثم إن المبالغة في الحفظ
كيف تفيد إعطاء ما به القوام، ولعله من حيث إن الاستقلال
بالحفظ إنما يتحقق بذلك كما لا يخفى، وأورد على تفسيره بنحو
القائم بذاته أن يكون معنى قيوم السموات والأرض الوارد في
الأدعية المأثورة واجب السموات والأرض وهو كما ترى، فالظاهر
أنه فيه بمعنى آخر مما يليق إذ لا يصح ذلك إلا بنوع تمحل، وذهب
جمع إلى أن القيوم هو اسم الله تعالى الأعظم، وفسره هؤلاء بأنه
القائم بذاته والمقوم لغيره، وفسروا القيام بالذات بوجوب
الوجود المستلزم لجميع الكمالات والتنزه عن سائر وجوه النقص
وجعلوا التقويم للغير متضمنا جميع الصفات الفعلية فصح لهم
القول بذلك، وأغرب الأقوال أنه لفظ سرياني ومعناه بالسريانية
الذي لا ينام، ولا يخفى بعده لأنه يتكرر حينئذ في قوله تعالى:
لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ السنة- بكسر أوله- فتور
يتقدم النوم وليس بنوم لقول عدي بن الرقاع:
وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه (سنة) وليس بنائم
والنوم بديهي التصور يعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من
رطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس
رأسا، وزعم السيوطي في بعض رسائله أن سببه شم هواء يهب من تحت
العرش، ولعله أراد تصاعد الأبخرة من المعدة تحت القلب الذي هو
عرش الروح وإلا فلا أعقله، وتقديم- السنة- عليه وقياس المبالغة
(2/9)
يقتضي التأخير مراعاة للترتيب الوجودي
فلتقدمها على النوم في الخارج قدمت عليه في اللفظ، وقيل: إنه
على طريق التتميم وهو أبلغ لما فيه من التأكيد إذ نفي- السنة-
يقتضي نفي النوم ضمنا فإذا نفى ثانيا كان أبلغ، ورد بأنه إنما
هو على أسلوب الإحاطة والإحصاء وهو متعين فيه مراعاة الترتيب
الوجودي والابتداء من الأخف فالأخف كما في قوله تعالى: لا
يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً [الكهف: 49] ولهذا توسطت
كلمة لا تنصيصا على الإحاطة وشمول النفي لكل منهما، وقيل: إن
تأخير النوم رعاية للفواصل ولا يخفى أنه من ضيق العطن، وقال
بعض المحققين: هذا كله إنما يحتاج إليه إذا أخذ الأخذ بمعنى
العروض والاعتراء، وأما لو أخذ بمعنى القهر والغلبة- كما ذكره
الراغب، وغيره من أئمة اللغة- ومنه قوله تعالى: أَخْذَ عَزِيزٍ
مُقْتَدِرٍ [القمر: 42] فالترتيب على مقتضى الظاهر إذ يكون
المعنى لا تغلبه- السنة، ولا النوم- الذي هو أكثر غلبة منها،
والجملة نفي للتشبيه وتنزيه له تعالى أن يكون له مثل من
الأحياء لأنها لا تخلو من ذلك فكيف تشابهه، وفيها تأكيد لكونه
تعالى حيا قيوما لأن النوم آفة تنافي دوام الحياة وبقاءها
وصفاته تعالى قديمة لا زوال لها ولأن من يعتريه النوم والغلبة
لا يكون واجب الوجود دائمه ولا عالما مستمر العلم ولا حافظا
قوي الحفظ،
وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
«أن بني إسرائيل قالوا: يا موسى هل ينام ربك؟ قال: اتقوا الله
تعالى فناداه ربه يا موسى سألوك هل ينام ربك فخذ زجاجتين في
يديك فقم الليل ففعل موسى فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع
لركبتيه ثم انتعش فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت
الزجاجتان فانكسرتا فقال: يا موسى لو كنت أنام لسقطت السموات
والأرض فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك»
ولما فيها من التأكيد كالذي بعدها ترك العاطف فيها وهي إما
استئنافية لا محل لها من الإعراب وإما حال مؤكدة من الضمير
المستكن في القيوم، وجوز أن تكون خبرا عن الحي أو عن الاسم
الجليل لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ- تقريرا-
لقيوميته تعالى- واحتجاج على تفرده في الإلهية، والمراد بما
فيهما ما هو أعم من أجزائهما الداخلة فيهما ومن الأمور الخارجة
عنهما المتمكنة فيهما من العقلاء وغيرهم فيعلم من الآية نفي
كون الشمس والقمر. وسائر النجوم.
والملائكة. والأصنام. والطواغيت آلهة مستحقة للعبادة مَنْ ذَا
الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ استفهام إنكاري
ولذا دخلت إِلَّا والمقصود منه بيان كبرياء شأنه تعالى وأنه لا
أحد يساويه أو يدانيه بحيث يستقل أن يدفع ما يريده دفعا على
وجه الشفاعة والاستكانة والخضوع فضلا عن أن يستقل بدفعه عنادا
أو مناصبة وعداوة وفي ذلك تأييس للكافر حيث زعموا أن آلهتهم
شفعاء لهم عند الله تعالى يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي
أمر الدنيا وَما خَلْفَهُمْ أي أمر الآخرة قاله مجاهد، وابن
جريج، وغيرهما، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة،
عكس ذلك، وقيل: يعلم ما كان قبلهم وما كان بعدهم، وقيل: ما بين
أيديهم من خير أو شر وما خلفهم مما فعلوه كذلك، وقيل: ما
يدركونه وما لا يدركونه أو ما يحسونه ويعقلونه والكل محتمل،
ووجه الإطلاق فيه ظاهر، وضمير الجمع يعود على ما في ما فِي
السَّماواتِ إلخ إلا أنه غلب من يعقل على غيره، وقيل: للعقلاء
في ضمنه فلا تغليب، وجوز أن يعود على ما دل عليه مَنْ ذَا من
الملائكة والأنبياء، وقيل: الأنبياء خاصة، والعلم- بما بين
أيديهم وما خلفهم- كناية عن إحاطة علمه سبحانه، والجملة إما
استئناف أو خبر عما قبل أو حال من ضمير يشفع أو من المجرور في-
بإذنه- وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ أي معلومه
كقولهم: اللهم اغفر لنا علمك فينا، والإحاطة بالشيء علما علمه
كما هو على الحقيقة، والمعنى لا يعلم أحد من هؤلاء كنه شيء ما
من معلوماته تعالى: إِلَّا بِما شاءَ أن يعلم، وجوز أن يراد من
علمه معلومه الخاص وهو كل ما في الغيب فَلا يُظْهِرُ عَلى
غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن: 26،
27] وعطفت هذه الجملة على ما قبلها لمغايرتها له لأن ذلك يشعر
بأنه سبحانه يعلم كل شيء وهذه تفيد أنه لا يعلمه غيره
(2/10)
ومجموعهما دال على تفرده تعالى بالعلم
الذاتي الذي هو من أصول صفات الكمال التي يجب أن يتصف الإله
تعالى شأنه بها بالفعل وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ الكرسي جسم بين يدي العرش محيط السماوات السبع،
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما قال: لو أن السماوات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن
بعضهن إلى بعض ما كن في سعته- أي الكرسي- إلا بمنزلة الحلقة في
المفازة وهو غير العرش كما يدل عليه ما
أخرجه ابن جرير. وأبو الشيخ. وابن مردويه عن أبي ذر أنه سأل
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن الكرسي فقال: «يا أبا ذر ما
السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة
بأرض فلاة وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك
الحلقة» وفي رواية الدارقطني. والخطيب عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما قال: سئل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن قوله
تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ إلخ «قال: كرسيه موضع قدميه والعرش
لا يقدر قدره»
وقيل: هو العرش نفسه، ونسب ذلك إلى الحسن، وقيل: قدرة الله
تعالى، وقيل: تدبيره، وقيل: ملك من ملائكته، وقيل: مجاز عن
العلم من تسمية الشيء بمكانه لأن الكرسي مكان العالم الذي فيه
العلم فيكون مكانا للعلم بتبعيته لأن العرض يتبع المحل في
التحيز حتى ذهبوا إلى أنه معنى قيام العرض بالمحل، وحكى ذلك عن
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: عن الملك أخذا من كرسي
الملك، وقيل: أصل الكرسي ما يجلس عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد
والكلام مساق على سبيل التمثيل لعظمته تعالى شأنه وسعة سلطانه
وإحاطة علمه بالأشياء قاطبة، ففي الكلام استعارة تمثيلية وليس
ثمة كرسي ولا قاعد ولا قعود وهذا الذي اختاره الجم الغفير من
الخلف- فرارا من توهم التجسيم، وحملوا الأحاديث التي ظاهرها
حمل الكرسي على الجسم المحيط على مثل ذلك لا سيما الأحاديث
التي فيها ذكر القدم كما قدمنا، وكالحديث الذي أخرجه البيهقي
وغيره عن أبي موسى الأشعري- الكرسي- موضع القدمين وله أطيط
كأطيط الرحل
وفي رواية عن عمر مرفوعا «له أطيط كأطيط الرحل الجديد إذا ركب
عليه من يثقله ما يفضل منه أربع أصابع»
وأنت تعلم أن ذلك وأمثاله ليس بالداعي القوي لنفي الكرسي
بالكلية فالحق أنه ثابت كما نطقت به الأخبار الصحيحة وتوهم
التجسيم لا يعبأ به وإلا للزم نفي الكثير من الصفات وهو بمعزل
عن اتباع الشارع والتسليم له.
وأكثر السلف الصالح جعلوا ذلك من المتشابه الذي لا يحيطون به
علما وفوضوا علمه إلى الله تعالى مع القول بغاية التنزيه
والتقديس له تعالى شأنه والقائلون بالمظاهر من ساداتنا الصوفية
قدس الله تعالى أسرارهم لم يشكل عليهم شيء من أمثال ذلك، وقد
ذكر بعض العارفين منهم أن الكرسي عبارة عن تجلي جملة الصفات
الفعلية فهو مظهر إلهي ومحل نفوذ الأمر والنهي والإيجاد
والإعدام المعبر عنهما بالقدمين، وقد وسع السماوات والأرض وسع
وجود عيني ووسع حكمي لأن وجودهما المقيد من آثار الصفات
الفعلية التي هو مظهر لها وليست القدمان في الأحاديث عبارة عن
قدمي الرجلين ومحل النعلين تعالى الله سبحانه عن ذلك علوا
كبيرا، ولا «الأطيط» عبارة عما تسمعه وتفهمه في الشاهد بل هو
إن لم تفوض علمه إلى العليم الخبير إشارة إلى بروز الأشياء
المتضادة أو اجتماعها في ذلك المظهر الذي هو منشأ التفصيل
والإبهام ومحل الإيجاد والإعدام ومركز الضر والنفع والتفريق
والجمع، ومعنى ما يفضل منه إلا أربع أصابع إن كان الضمير راجعا
إلى الرحل ظاهر وإن كان راجعا إلى الكرسي فهو إشارة إلى وجود
حضرات هي مظاهر لبعض الأسماء لم تبرز إلى عالم الحس ولا يمكن
أن يراها إلا من ولد مرتين، وليس المراد من الأصابع الأربع ما
تعرفه من نفسك، وللعارفين في هذا المقام كلام غير هذا، ولعلنا
نشير إلى بعض منه إن شاء الله تعالى، ثم المشهور أن الياء في
الكرسي لغير النسب، واشتقاقه من الكرس- وهو الجمع- ومنه
الكراسة للصحائف الجامعة للعلم، وقيل: كأنه
(2/11)
منسوب إلى- الكرس- بالكسر وهو الملبد وجمعه
كراسي- كبختي وبخاتي- وفيه لغتان ضم كافة- وهي المشهورة-
وكسرها للاتباع والجمهور على فتح الواو والعين، وكسر السين في
وَسِعَ على أنه فعل والكرسي فاعله، وقرىء بسكون السين مع كسر
الواو- كعلم- في علم، ويفتح الواو وسكون السين ورفع العين مع
جر- كرسيه- ورفع السماوات فهو حينئذ مبتدأ مضاف إلى ما بعده
والسَّماواتِ وَالْأَرْضَ خبره وَلا يَؤُدُهُ- أي لا يثقله-
كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وهو مأخوذ من الأود
بمعنى الاعوجاج لأن الثقيل يميل له ما تحته، وماضيه آد،
والضمير لله تعالى وقيل: الكرسي حِفْظُهُما أي السماوات والأرض
وإنما لم يتعرض لذكر ما فيهما لما أن حفظهما مستتبع لحفظه،
وخصهما بالذكر دون الكرسي لأن حفظهما هو المشاهد المحسوس،
والقول بالاستخدام ليدخل هو والعرش وغيرها مما لا يعلمه إلا
الله تعالى بعيد وَهُوَ الْعَلِيُّ أي المتعالي عن الأشباه،
والأنداد، والأمثال، والأضداد، وعن امارات النقص، ودلالات
الحدوث، وقيل: هو من العلو الذي هو بمعنى القدرة والسلطان
والملك وعلو الشأن والقهر والاعتلاء والجلال والكبرياء
الْعَظِيمُ ذو العظمة وكل شيء بالإضافة إليه حقير ولما جليت
على منصة هذه الآية الكريمة عرائس المسائل الإلهية وأشرقت على
صفحاتها أنوار الصفات العلية حيث جمعت أصول الصفات من
الألوهية، والوحدانية، والحياة، والعلم، والملك، والقدرة،
والإرادة، واشتملت على سبعة عشر موضعا فيها اسم الله تعالى
ظاهرا في بعضها ومستترا في البعض ونطقت بأنه سبحانه موجود
منفرد في ألوهيته حي واجب الوجود لذاته موجد لغيره منزه عن
التحيز والحلول مبرأ عن التغير والفتور لا مناسبة بينه وبين
الأشباح ولا يحل بساحة جلاله ما يعرض النفوس والأرواح مالك
الملك والملكوت ومبدع الأصول والفروع ذو البطش الشديد العالم
وحده يجلي الأشياء وخفيها وكليها وجزئيها واسع الملك والقدرة
لكل ما من شأنه أن يملك ويقدر عليه لا يشق عليه شاق ولا يثقل
شيء لديه متعال عن كل ما لا يليق بجنابه عظيم لا يستطيع طير
الفكر أن يحوم في بيداء صفات قامت به تفردت بقلائد فضل خلت
عنها أجياد أخواتها الجياد وجواهر خواص تتهادى بها بين أترابها
ولا كما تتهادى لبنى وسعاد.
أخرج مسلم، وأحمد، وغيرهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم
أنه قال: «إن أعظم آية في القرآن آية الكرسي»
وأخرج البيهقي من حديث أنس مرفوعا «من قرأ آية الكرسي في دبر
كل صلاة مكتوبة حفظ إلى الصلاة لأخرى ولا يحافظ عليها إلا نبي
أو صديق أو شهيد»
وأخرج الديلمي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: «لو تعلمون
ما فيها لما تركتموها على حال أن رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم قال: أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش لم يؤتها
نبي قبلي»
والأخبار في فضلها كثيرة شهيرة إلا أن بعضها مما لا أصل له
كخبر من قرأها بعث لله تعالى ملكا يكتب من حسناته ويمحو من
سيئاته إلى الغد من تلك الساعة،
وبعضها منكر جدا
كخبر «إن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام أن اقرأ آية
الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة فإنه من يقرؤها في دبر كل صلاة
مكتوبة أجعل له قلب الشاكرين ولسان الذاكرين وثواب المنيبين
وأعمال الصديقين» .
ولا يخفى أن أكثر الأحاديث في هذا الباب حجة لمن قال: إن بعض
القرآن قد يفضل على غيره وفيه خلاف فمنعه بعضهم كالأشعري.
والباقلاني وغيرهما لاقتضائه نقص المفضول وكلام الله تعالى لا
نقص فيه، وأوّلوا أعظم بعظيم وأفضل بفاضل، وأجازه إسحق بن
راهويه، وكثير من العلماء، والمتكلمين- وهو المختار- ويرجع إلى
عظم أجر قارئه ولله تعالى إن يخص ما شاء بما شاء لما شاء،
ومناسبة هذه الآية الكريمة لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر أن
الكافرين هم الظالمون ناسب ن ينبههم جل شأنه على العقيدة
الصحيحة التي هي محض التوحيد الذي درج عليه المرسلون
(2/12)
على اختلاف درجاتهم وتفاوت مراتبهم بما
أينعت من ذلك رياضه وتدفقت حياضه وصدح عندليبه وصدع على منابر
البيان خطيبه فلله الحمد على ما أوضح الحجة وأزال الغبار عن
وجه المحجة.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات تلك آيات الله أي أسراره
وأنواره ورموزه وإشاراته نتلوها بلسان الوحي عليك ملابسة للحق
الثابت الذي لا يعتريه تغيير وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
[يس: 3] الذين عبروا هذه المقامات وصح لهم صفاء الأوقات تِلْكَ
الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ بمقتضى استعلاء
أنوار استعداداتهم مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ عند تجليه
على طور قلبه وفي وادي سره وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ
بفنائه عن ظلمة الوجود بالكلية وبقائه في حضرة الأنوار الإلهية
وبلوغه مقام قاب قوسين وظفره بكنز فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما
أَوْحى
[النجم: 10] من أسرارهم النشأتين حتى عاد وهو نور الأنوار
والمظهر الأعظم عند ذوي الأبصار وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ والآيات الباهرات من إحياء أموات القلوب
والأخبار عما يدخر في خزائن الأسرار من الغيوب وَأَيَّدْناهُ
بِرُوحِ الْقُدُسِ الذي هو روح الأرواح المنزه عن النقائص
الكونية والمقدس عن الصفات الطبيعية وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا
اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ (1) بسيوف الهوى ونبال
الضلال مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ من أنوار الفطرة وإرشاد
الرسل الآيات الواضحات وَلكِنِ اخْتَلَفُوا حسبما اقتضاه
استعدادهم الأزلي فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بما جاء به الوحي
وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا
عن اختلاف بأن يتحد استعدادهم وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما
يُرِيدُ ولا يريد إلا ما في العلم وما كان فيه سوى هذا
الإختلاف يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا
رَزَقْناكُمْ ببذل الأرواح وإرشاد العباد من قبل أن يأتي يوم
القيامة الكبرى لا بيع فيه ولا تبدل صفة بصفة فلا يحصل تكميل
النشأة ولا خلة لظهور الحقائق ولا شفاعة للتجلي الجلالي،
والكافرون هم الذين ظلموا أنفسهم بنقص حظوظها وَما
ظَلَمْناهُمْ [هود: 101، النحل: 118، الزخرف: 43] إذ لم نقض
عليهم سوى ما اقتضاه استعدادهم الغير المجعول اللَّهُ لا إِلهَ
في الوجود العلمي إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الذي حياته عين ذاته
وكل ما هو حي لم يحي إلا بحياته الْقَيُّومُ الذي يقوم بنفسه
ويقوم كل ما يقوم به، وقيل: الحي الذي ألبس حياته أسرار
الموحدين فوحدوا به، والقيوم الذي ربي يتجلى الصفات وكشف الذات
أرواح العارفين ففنوا في ذاته واحترقوا بنور كبريائه.
ولا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ بيان لقيوميته وإشارة إلى
أن حياته عين ذاته له ما في سماوات الأرواح وأرض الأشباح فلا
يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن ولا يخطر خاطر في بر أو بحر وسر أو
جهر إلا بقدرته وإرادته وعلمه ومشيئته مَنْ ذَا الَّذِي
يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ إذ كلهم له ومنه وإليه
وبه يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من الخطرات وَما
خَلْفَهُمْ من العثرات، أو ما بين أيديهم من المقامات. وما
خلفهم من الحالات، أو يعلم منهم ما قبل إيجادهم من كمية
استعدادهم وما بعد إنشائهم من العمل بمقتضى ذلك وَلا
يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ معلوماته التي هي مظاهر أسمائه
إِلَّا بِما شاءَ كما يحصل لأهل القلوب من معاينات أسرار
الغيوب وإذا تقاصرت الفهوم عن الإحاطة بشيء من معلوماته فأي
طمع لها في الإحاطة بذاته هيهات هيهات أنى لخفاش الفهم أن يفتح
عينه في شمس هاتيك الذات؟
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ الذي هي قلب العارف السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ لأنه معدن العلوم الإلهية والعلم اللدني الذي لا
نهاية له ولا حد، ومن هنا قال أبو يزيد البسطامي: لو وقع
العالم ومقدار ما فيه ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب
العارف ما أحس به، وقيل: كرسيه عالم الملكوت وهو مطاف أرواح
العارفين لجلال الجبروت وَلا يَؤُدُهُ ولا يثقله
__________
(1) كذا في الأصل، ولفظة «جاؤوا» ليست من ضمن الآية.
(2/13)
حِفْظُهُما في ذلك الكرسي لأنهما غير
موجودين بدونه وَهُوَ الْعَلِيُّ الشأن الذي لا تقيده الأكوان
الْعَظِيمُ الذي لا منتهى لعظمته ولا يتصور كنه ذاته لاطلاقه
حتى عن قيد الإطلاق.
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قيل: إن هذه إلى قوله سبحانه:
خالِدُونَ من بقية آية الكرسي، والحق أنها ليست منها بل هي
جملة مستأنفة جيء بها إثر بيان دلائل التوحيد للإيذان بأنه لا
يتصور الإكراه في الدين لأنه في الحقيقة إلزام الغير فعلا لا
يرى فيه خيرا يحمله عليه والدين خير كله، والجملة على هذا خبر
باعتبار الحقيقة ونفس الأمر وأما ما يظهر بخلافه فليس إكراها
حقيقيا، وجوز أن تكون إخبارا في معنى النهي أي لا تكرهوا في
الدين وتجبروا عليه وهو حينئذ إما عام منسوخ بقوله تعالى:
جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة: 73، التحريم: 9]
وهو المحكي عن ابن مسعود. وابن زيد. وسليمان بن موسى، أو مخصوص
بأهل الكتاب الذين قبلوا الجزية- وهو المحكي عن الحسن، وقتادة.
والضحاك- وفي سبب النزول ما يؤيده
فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن رجلا
من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين كان له ابنان
نصرانيان وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي صلى الله تعالى عليه
وسلم: ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله
تعالى فيه ذلك» .
وأل في الدِّينِ للعهد، وقيل: بدل من الإضافة أي دين الله وهو
ملة الإسلام، وفاعل الإكراه على كل تقدير غيره تعالى، من الناس
من قال: إن المراد ليس في الدين إكراه من الله تعالى وقسر بل
مبني الأمر على التمكين والاختيار ولولا ذلك لما حصل الابتلاء
ولبطل الامتحان فالآية نظير قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ
فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29] وإلى ذلك
ذهب القفال قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ تعليل صدر
بكلمة التحقيق لزيادة تقرير مضمونه أي قد تميز بما ذكر من
نعوته تعالى التي يمتنع توهم اشتراك الغير في شيء منها الإيمان
من الكفر والصواب من الخطأ والرشد- بضم الراء وسكون الشين على
المشهور مصدر- رشد- بفتح الشين يرشد بضمها: ويقرأ بفتح الراء
والشين، وفعله رشد يرشد مثل علم يعلم وهو نقيض- الغي- وأصله
سلوك طريق الهلاك، وقال الراغب، هو كالجهل إلا أن الجهل يقال
اعتبارا بالاعتقاد، والغيّ اعتبارا بالأفعال، ولهذا قيل: زوال
الجهل بالعلم، وزوال الغيّ بالرشد، ويقال لمن أصاب: رشد، ولمن
أخطأ غوى، ويقال لمن خاب: غوى أيضا، ومنه قوله:
ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لم يعدم على الغي
(لائما)
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ أي
الشيطان وهو المروي عن عمر بن الخطاب، والحسين بن علي رضي الله
تعالى عنهم
- وبه قال مجاهد، وقتادة- وعن سيعد بن جبير، وعكرمة أنه
الكاهن، وعن أبي العالية أنه الساحر، وعن مالك بن أنس كل ما
عبد من دون الله تعالى، وعن بعضهم الأصنام، والأولى أن يقال
بعمومه سائر ما يطغى، ويجعل الاقتصار على بعض في تلك الأقوال
من باب التمثيل وهو بناء مبالغة كالجبروت والملكوت، واختلف فيه
فقيل: هو مصدر في الأصل ولذلك يوحد ويذكر كسائر المصادر
الواقعة على الأعيان- وإلى ذلك ذهب الفارسي- وقيل: هو اسم جنس
مفرد فلذلك لزم الإفراد والتذكير- وإليه ذهب سيبويه- وقيل: هو
جمع- وهو مذهب المبرد. وقد يؤنث ضميره كما في قوله تعالى:
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها [الزمر:
17] وهو تأنيث اعتباري واشتقاقه من طغى يطغى أو طغى يطغو ومصدر
الأول الطغيان. والثاني الطغوان، وأصله على الأول طغيوت، وعلى
الثاني طغووت فقدمت اللام وأخرت العين فتحرك حرف العلة وانفتح
ما قبله فقلب ألفا فوزنه من قبل فعلوت والآن فلعوت، وقدم ذكر
الكفر بالطاغوت على ذكر الإيمان بالله تعالى اهتماما بوجوب
التخلية أو مراعاة للترتيب الواقعي أو للاتصال بلفظ الغي
(2/14)
وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ أي يصدق به طبق ما
جاءت به رسله عليهم الصلاة والسلام فَقَدِ اسْتَمْسَكَ أي بالغ
في التمسك حتى كأنه وهو متلبس به يطلب من نفسه الزيادة فيه
والثبات عليه بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وهي الإيمان- قاله
مجاهد- أو القرآن- قاله أنس بن مالك- أو كلمة الإخلاص- قاله
ابن عباس- أو الاعتقاد الحق أو السبب الموصل إلى رضا الله
تعالى أو العهد، وعلى كل تقدير يجوز أن يكون في العروة استعارة
تصريحية واستمسك ترشيح لها أو استعارة أخرى تبعية، ويجوز أن
يجعل الكلام تمثيلا مبنيا على تشبيه الهيئة العقلية المنتزعة
من ملازمة الحق الذي لا يحتمل النقيض بوجه أصلا لثبوته
بالبراهين النيرة القطعية بالهيئة الحسية المنتزعة من التمسك
بالحبل المحكم المأمون انقطاعه من غير تعرض للمفردات، واختار
ذلك بعض المحققين ولا يخلو عن حسن، وجعل العروة مستعارة للنظر
الصحيح المؤدي للاعتقاد الحق- كما قيل- ليس بالحسن لأن ذلك غير
مذكور في حيز الشرط أصلا لَا انْفِصامَ لَها أي لا انقطاع لها
والانفصام والانقصام لغتان وبالفاء أفصح- كما قال الفراء- وفرق
بعضهم بينهما بأن الأول انكسار بغير بينونة، والثاني انكسار
بها وحينئذ يكون انتفاء الثاني معلوما من نفي الأول بالأولوية،
والجملة إما مستأنفة لتقرير ما قبلها من وثاقة العروة وإما حال
من العروة، والعامل اسْتَمْسَكَ أو من الضمير المستكن في
الْوُثْقى لأنها للتفضيل تأنيث الأوثق، ولَها في موضع الخبر
وَاللَّهُ سَمِيعٌ بالأقوال عَلِيمٌ بالعزائم والعقائد،
والجملة تذييل حامل على الإيمان رادع عن الكفر والنفاق لما
فيها من الوعد والوعيد، قيل: وفيها أيضا إشارة إلى أنه لا بد
من الإيمان من الاعتقاد والإقرار.
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا أي معينهم أو محبهم أو
متولي أمورهم والمراد بهم من أراد الإيمان أو ثبت في علمه
تعالى إيمانه أو آمن بالفعل يُخْرِجُهُمْ بهدايته وتوفيقه وهو
تفسير للولاية أو خبر ثان عند من يجوز كونه جملة أو حال من
الضمير في وَلِيُّ مِنَ الظُّلُماتِ التابعة للكفر أو ظلمات
المعاصي أو الشبه كيف كانت. إِلَى النُّورِ أي نور الإيمان أو
نور الطاعات أو نور الإيقان بمراتبه، وعن الحسن أنه فسر
الإخراج هنا بالمنع فالمعنى يمنعهم عن أن يدخلوا في شيء من
الظلمات، واقتصر الواقدي في تفسير الظلمات، والنور- على ذكر
الكفر والإيمان وحمل كل ما في القرآن على ذلك سوى ما في
الأنعام من قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ
[الأنعام: 1] فإن المراد بهما هناك الليل والنهار، والأولى أن
يحمل الظلمات على المعنى الذي يعم سائر أنواعها ويحمل النور
أيضا على ما يعم سائر أنواعه، ويجعل في مقابلة كل ظلمة مخرج
منها نور مخرج إليه حتى إنه سبحانه ليخرج من شاء من ظلمة
الدليل إلى نور العيان، ومن ظلمة الوحشة إلى نور الوصلة، ومن
ظلمة عالم الأشباح إلى نور عالم الأرواح إلى غير ذلك «مما لا،
ولا» وأفرد النور لوحدة الحق كما أن جمع الظلمات لتعدد فنون
الضلال، أو أن الأول إيماء إلى القلة والثاني إلى الكثرة
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي أرادوا الكفر أو ثبت كفرهم في علمه
سبحانه أو كفروا بالفعل أَوْلِياؤُهُمُ حقيقة أو فيما عندهم
الطَّاغُوتُ أي الشياطين أو الأصنام أو سائر المضلين عن طرق
الحق، والموصول مبتدأ أول، وأَوْلِياؤُهُمُ مبتدأ ثان،
والطَّاغُوتُ خبره، والجملة خبر الأول والجملة الحاصلة معطوفة
على ما قبلها، قيل:
ولعل تغيير السبك للاحتراز عن وضع الطَّاغُوتُ في مقابلة الاسم
الجليل ولقصد المبالغة بتكرير الاسناد مع الإيماء إلى التباين
بين الفريقين من كل وجه حتى من جهة التعبير أيضا، وقرء
«الطواغيت» على الجمع وصح جمعه على القول بأنه مصدر لأنه صار
اسما لما يعبد من دون الله تعالى يُخْرِجُونَهُمْ بالوساوس
وإلقاء الشبه أو بكونهم بحالة بحالة جرت اعتقادهم فيهم النفع
والضر وأنهم يقربونهم إلى الله تعالى زلفى، والتعبير عنهم
بضمير العقلاء إما لأنهم منهم حقيقة أو ادعاء ونسبة الإخراج
إليهم مجاز من باب النسبة إلى السبب فلا يأبى تعلق قدرته
وإرادته تعالى بذلك مِنَ النُّورِ أي
(2/15)
الفطري الذي جبل عليه الناس كافة، أو نور
البينات المتتابعة التي يشاهدونها بتنزيل تمكنهم من الاستضاءة
بها منزلة نفسها فلا يرد أنهم متى كانوا في نور ليخرجوا منه،
وقيل: التعبير بذلك للمقابلة، وقيل: إن الإخراج قد يكون بمعنى
المنع وهو لا يقتضي سابقية الدخول، وعن مجاهد إن الآية نزلت في
قوم ارتدوا فلا شك في أنهم حينئذ أخرجوا من النور الذي كانوا
فيه وهو نور الإيمان إِلَى الظُّلُماتِ وهي ظلمات الكفر
والانهماك في الغي وعدم الارعواء والاهتداء بما يترى من الآيات
ويتلى، والجملة تفسير لولاية الطاغوت فالانفصال لكمال الاتصال،
ويجوز أن تكون خبرا ثانيا كما مر أُولئِكَ إشارة إلى الموصول
باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما يتبع ذلك من القبائح،
وجوز أن تكون إشارة إلى الكفار وأوليائهم، وفيه بعد أَصْحابُ
النَّارِ أي ملابسوها وملازموها لعظم ما هم عليه هُمْ فِيها
خالِدُونَ ماكثون أبدا، وفي هذا وعد وتحذير للكافرين، ولعل عدم
مقابلته بوعد المؤمنين كما قيل: للإشعار بتعظيمهم وأن أمرهم
غير محتاج إلى البيان وأن شأنهم أعلى من مقابلة هؤلاء، أو أن
ما أعد لهم لا تفي ببيانه العبارة، وقيل: إن قوله سبحانه
وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 68] دل على الوعد وكفى به.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ
بيان لتسديد المؤمنين إذ كان وليهم وخذلان غيرهم ولذا لم يعطف،
واهتم ببيانه لأن منكري ولايته تعالى للمؤمنين كثيرون، وقيل:
استشهاد على ما ذكر من أن الكفرة أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ
وتقرير لهم كما أن ما بعده استشهاد على ولايته تعالى للمؤمنين
وتقرير لها، وبدأ به لرعاية الاقتران بينه وبين مدلوله
ولاستقلاله بأمر عجيب حقيق بأن يصدر به المقال وهو اجتراؤه على
المحاجة في الله عز وجل، وما أتى به في أثنائها من العظمة
المنادية بكمال حماقته، ولأن فيما بعده تعدادا وتفصيلا يورث
تقديمه انتشار النظم على أنه قد أشير في تضاعيفه إلى هدايته
تعالى أيضا بواسطة إبراهيم عليه الصلاة والسلام فإن ما يحكى
عنه من الدعوة إلى الحق وادحاض حجة الكافرين من آثار ولايته
تعالى ولا يخفى ما فيه. وهمزة الاستفهام لإنكار النفي وتقرير
المنفي، والجمهور على أن في الكلام معنى التعجيب أي- ألم تنظر،
أو ألم ينته علمك- إلى قصة هذا الكافر الذي لست بوليّ له كيف
تصدى لمحاجة من تكفلت بنصرته وأخبرت بأني ولي له ولمن كان من
شيعته أي قد تحققت رؤية هذه القصة العجيبة وتقررت بناء على أن
الأمر من الظهور بحيث لا يكاد يخفي على أحد ممن له حظ من
الخطاب فلتكن في الغاية القصوى من تحقق ما ذكرته لك من ولايتي
للمؤمنين وعدمها للكافرين ولتطب نفسك أيها الحبيب وأبشر بالنصر
فقد نصرت الخليل، وأين مقام الخليل من الحبيب، وخذلت رأس
الطاغين فكيف بالأذناب الأرذلين، والمراد بالموصول نمروذ بن
كنعان بن سنجاريب- وهو أول من تجبر وادعى الربوبية، كما قاله
مجاهد وغيره- وإنما أطلق على ما وقع لفظ المحاجة وإن كانت
مجادلة بالباطل لإيرادها موردها، واختلف في وقتها فقيل: عند
كسر الأصنام وقيل إلقائه في النار- وهو المروي عن مقاتل-
وقيل: بعد إلقائه في النار وجعلها عليه بردا وسلاما- وهو
المروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه-
وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة
والسلام تشريف له وإيذان من أول الأمر بتأييد وليه له في
المحاجة فإن التربية نوع من الولاية أَنْ آتاهُ اللَّهُ
الْمُلْكَ أي لئن آتاه الله تعالى ذلك فالكلام على حذف اللام
وهو مطرد في- أن، وإن- وليس هناك مفعولا لأجله منصوب لعدم
اتحاد الفاعل، والتعليل فيه على وجهين: إما أن إيتاء الملك
حمله على ذلك لأنه أورثه الكبر والبطر فنشأت المحاجة عنهما،
وإما أنه من باب العكس في الكلام بمعنى أنه وضع المحاجة وضع
الشكر إذ كان من حقه أن يشكر على ذلك فعلى الأول العلة
تحقيقية، وعلى الثاني تهكمية- كما تقول عاداني فلان لأني أحسنت
إليه- وجوز أن يكون آتاهُ إلخ واقعا موقع الظرف بدون تقدير أو
بتقدير مضاف أي حاج وقت أن آتاه الله وأورد عليه
(2/16)
أن المحاجة لم تقع وقت إيتاء الملك بل
الإيتاء سابق عليها، وبأن النحاة نصوا على أنه لا يقوم مقام
الظرف الزماني إلا المصدر الصريح بلفظه- كجئت خفوق النجم،
وصياح الديك- ولا يجوز إن خفق وإن صاح.
وأجيب باعتبار الوقت ممتدا، وبأن النص معارض بأنهم نصوا على أن
«ما» المصدرية تنوب عن الزمان وليست بمصدر صريح، والذي جوز ذلك
ابن جني والصفار في شرح الكتاب، والحق أن التعليل لما أمكن-
وهو متفق عليه- خال عما يقال لا ينبغي أن يعدل عنه لا سيما
وتقدير المضاف مع القول بالامتداد والتزام- قول ابن جني
والصفار مع مخالفته لكلام الجمهور- في غاية من التعسف، والآية
حجة على من منع إيتاء الله الملك لكافر وحملها على إيتاء الله
تعالى ما غلب به وتسلط من المال والخدام والأتباع، أو على أن
الله تعالى ملكه امتحانا لعباده كما فعل المانع القائل بوجوب
رعاية الأصلح- ليس بشيء إذ من له مسكة من الإنصاف يعلم أنه لا
معنى لإيتاء الملك والتسليط إلا إيتاء الأسباب ولو سلم ففي
إيتاء الأسباب يتوجه السؤال ولو سلم فما من قبيح إلا ويمكن أن
يعتبر فيه غرض صحيح كالامتحان، ولقوة هذا الاعتراض التزم بعضهم
جعل ضمير آتاهُ لإبراهيم عليه السلام لأنه تعالى قال: لا
يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] وقال سبحانه:
فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النساء: 54] وهو المحكي عن
أبي قاسم البلخي- ولا يخفى أنه خلاف المنساق إلى الذهن وخلاف
التفسير المأثور عن السلف الصالح، والواقع مع هذا يكذبه إذ ليس
لإبراهيم عليه السلام إذ ذاك ملك ولا تصرف ولا نفوذ أمر.
وذهب بعض الإمامية إلى أن الملك الذي لا يؤتيه الله للكافر هو
ما كان بتمليك الأمر والنهي، وإيجاب الطاعة على الخلق، وأما ما
كان بالغلبة وسعة المال ونفوذ الكلمة قهرا كملك نمروذ فهو مما
لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان أو تكون فيه كلمتان، والقول: بأن
هذا المارد أعطى الملك بالاعتبار الأول خارج عن الإنصاف بل
الذي أوتي ذلك في الحقيقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا أنه
قد عورض في ملكه وغولب على ما منّ الله تعالى به عليه إلى أن
قضى الله تعالى ما قضى ومضى من مضى وللباطل جولة ثم يزول، وهو
كلام أقرب ما يكون إلى الصواب لكني أشم منه ريح الضلال، ويلوح
لي أنه تعريض بالأصحاب- والله تعالى يعلم خائنة الأعين وما
تخفي الصدور- وفي العدول عن الإضمار إلى الإظهار في هذا المقام
ما لا يخفى إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ ظرف لحاج، وجوّز أن يكون
بدلا من آتاه بناء على القول الذي علمت، واعترضه أبو حيان بأن
الظرفين مختلفان إذ وقت إيتائه الملك ليس وقت إبراهيم عليه
السلام رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فإنه على ما روي
قاله بعد أن سجن لكسره الأصنام وإثر قول نمروذ له- وقد كان
أوتي قبل الملك من ربك الذي تدعو إليه؟ وأجاب السفاقسي بالتجوز
في آتاهُ وعدم إرادة ابتداء الإتيان منه بل زمان الملك وهو
ممتد يسع قولين بل أقوالا، واعترض أبو البقاء أيضا بأن المصدر
غير الظرف فلو كان بدلا لكان غلطا إلا أن يجعل إذ بمعنى أن
المصدرية، وقد جاء ذلك، وقال الحلبي:- وهذا بناء- منه على أن
إنّ مفعول من أجله وليست واقعة موقع الظرف أما إذا كانت واقعة
موقعه فلا يكون بدل- غلط بل بدل كل من كل، وفيه ما تقدم من
الكلام، وقيل: يجوز أن يكون بدلا من آتاهُ بدل اشتمال، واستشكل
بعضهم على جميع ذلك موقع قوله تعالى: قالَ أَنَا أُحْيِي
وَأُمِيتُ إلا أن يجعل استئنافا جواب سؤال، وجعله بمنزلة
المرئي يأبى ذلك، ومن هنا قيل: إن الظرف متعلق بقوله سبحانه:
قالَ أَنَا إلخ، ويقدر السؤال قبل إذ قال كأنه قيل: كيف حاج
إبراهيم؟ فأجيب بما أجيب، ولا يخفى أن الإباء هو الإباء،
فالأولى القول من أول الأمر بأن هذا القول بيان لقوله سبحانه:
حَاجَّ، ورَبِّيَ بفتح الياء، وقرىء بحذفها، وأراد عليه
السلام- بيحيي ويميت- يخلق الحياة والموت في الأجساد، وأراد
اللعين غير ذلك فقد روي عنه أنه أتى برجلين فقتل أحدهما وترك
الآخر وقال ما قال: ولما كان هذا بمعزل عن المقصود وكان بطلانه
من الجلاء والظهور بحيث لا م 2- روح المعاني مجلد 2
(2/17)
يخفى على أحد والتعرض لإبطال مثل ذلك من
قبيل السعي في تحصيل الحاصل أعرض الخليل عليه الصلاة والسلام
عن إبطاله وأتى بدليل آخر أظهر من الشمس.
قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ
الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ وفيه دليل على جواز
انتقال المجادل من حجة إلى أخرى أوضح منها، وهي مسألة متنازع
فيها، وحمل ذلك على هذا أحد طريقين مشهورين في الآية، وثانيهما
أن الانتقال إنما في هو المثال كأنه قال: ربي الذي يوجد
الممكنات ويعدمها وأتى بالإحياء والإماتة مثالا فلما اعترض جاء
بمثال أجلى دفعا للمشاغبة، قال الإمام: والإشكال عليهما من
وجوه.
الأول أن صاحب الشبهة إذا ذكر الشبهة ووقعت تلك الشبهة في
الأسماع وجب على المحق القادر على ذكر الجواب، وذكر الجواب في
الحال إزالة للتلبيس والجهل عن العقول، فلما طعن المارد في
الدليل أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالتها
واجبا مضيقا فكيف يليق بالمعصوم تركه والانتقال إلى شيء آخر،
والثاني أنه لما أورد المبطل ذلك السؤال كان ترك المحق الكلام
عليه والتنبيه على ضعفه مما يوجب سقوط وقع الرسول وحقارة شأنه
وأنه غير جائز، والثالث أنه وإن كان الانتقال من دليل إلى آخر
أو من مثال إلى غيره لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح،
وأقرب وهاهنا ليس كذلك لأن جنس الحياة لا قدرة للخلق عليه،
وأما جنس تحريك الأجسام فللخلق قدرة عليه فلا يبعد وجود ملك
عظيم الجثة يكون محركا للسماوات فعلى هذا الاستدلال بالإماتة
والإحياء أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس فكيف يليق
بالنبي المعصوم أن ينتقل من الدليل الأوضح إلى الدليل الخفي،
والرابع أن المارد لما لم يستح من معارضة الاحياء والاماتة
الصادرين من الله تعالى بالقتل والتخلية فكيف يؤمن منه عند
الانتقال إلى طلوع الشمس أن يقول بل طلوع الشمس من المشرق مني
فإن كان لك إله فقل له حتى يطلعها من المغرب وعند ذلك التزم
المحققون أنه لو أورد هذا السؤال لكان الواجب أن يطلعها من
المغرب، ومن المعلوم طلوع الشمس من المغرب يكون الدليل على
وجود الصانع هو هذا الطلوع لا الطلوع الأول، وحينئذ يصير ذلك
ضائعا كما صار الأول كذلك، وأيضا فما الذي حمل الخليل عليه
السلام على ترك الجواب عن ذلك السؤال الركيك وتمسك بدليل لا
يمكن تمشيته إلا بالتزام اطلاع الشمس من المغرب وبتقدير ذلك
يضيع الدليل الثاني كما ضاع الأوّل، ومن المعلوم أن التزام هذه
المحذورات لا تليق بأقل الناس علما فضلا عن أفضل العلماء وأعلم
الفضلاء.
فالحق أن هذا ليس دليلا آخر ولا مثالا بل هو من تتمة الدليل
الأول، وذلك أنه لما احتج إبراهيم عليه السلام بالإماتة
والإحياء أورد الخصم عليه سؤالا وهو أنك إن ادعيت الاحياء
والإماتة بلا واسطة فذلك لا تجد إلى إثباته سبيلا وإن ادعيت
حصولهما بواسطة حركات الأفلاك فنظيره أو ما يقرب منه حاصل
للبشر فأجاب الخليل عليه السلام بأن الإحياء والإماتة وإن حصلا
بواسطة حركات الافلاك لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى وذلك
لا يقدح في كون الاحياء والاماتة منه بخلاف الخلق فإنهم لا
قدرة لهم على تحريك الافلاك فلا جرم لا يكون الاحياء والإماتة
صادرين منهم، ومتى حملت الآية على هذا الوجه لم يلزم شيء من
المحذورات عليه انتهى.
ولا يخفى ما فيه، أما أولا فلأن الشبهة إذا كانت في غاية
السقوط ونهاية البطلان بحيث لا يكاد يخفى حالها ولا يغر أحدا
من الناس أنها لم يمتنع الاعراض عنها إلى ما هو بعيد عن
التمويه دفعا للشغب وتحصيلا لما هو المقصود من غير كثير تعب،
ولا يوجب ذلك سقوط وقع ولا حقارة شأن وأي تلبيس يحصل من هذه
الشبهة للعقول حتى يكون الاشتغال بإزالتها واجبا مضيقا فيخل
تركه بالمعصوم على أنه روي أنه ما انتقل حتى بين للمارد فساد
قوله حيث قال له: إنك أحييت الحي ولم تحي الميت، وعن الصادق
رضي الله تعالى عنه أنه قال له: أحي من قتلته إن كنت صادقا
(2/18)
لكن لم يقص الله تعالى ذلك الإلزام علينا
في الكتاب اكتفاء بظهور الفساد جدا، وأما ثانيا فلأنه من
الواضح أن المنتقل إليه أوضح في المقصود من المنتقل عنه ويكاد
القول بعكسه يكون مكابرة، وما ذكره في معرض الاستدلال لا يخفى
ما فيه، وأما ثالثا فلأن ما ذكره رابعا يرد أيضا على الوجه
الذي اختاره إذ لا يؤمن المارد من أن يقول لو كانت حركات
الأفلاك من ربك فقل له حتى يطلعها من المغرب- فما هو الجواب
هنا هو الجواب- وقد أجابوا عن عدم قول اللعين ذلك بأن المحاجة
كانت بعد خلاصه من النار فعلم أن من قدر على ذلك قدر على
الإتيان بالشمس من مغربها فسكت، أو بأن الله تعالى أنساه ذلك
نصرة لنبيه عليه السلام- وهو ضعيف- بل الجواب أنه عليه السلام
استدل بأنه لا بد للحركة المخصوصة والمتحرك بها من محرك لأن
حاجة المتحرك في الحركة إلى المحرك بديهية، وبديهي أنه ليس
بنمروذ فقال: هو ذا ربي فإن ادعيت أنك الذي تفعل فَأْتِ بِها
مِنَ الْمَغْرِبِ وهذا لا يتوجه عليه السؤال بوجه إذ لو ادعى
أن الحركة بنفسها- مع أنها مسبوقة بالغير ولو بآحاد الحركات-
كان منع البديهي ولو ادعى أنه الفاعل مع ظهور استحالته ألزم
بالتغيير عن تلك الحالة فلا بد من الاعتراف بفاعل يأتي بها من
المشرق، والمدعى أن ذلك الفاعل هو الرب، وأما رابعا فلأن ما
اختاره لا تدل عليه الآية الكريمة بوجه، وليس في كلام الكافر
سوى دعواه الإحياء والإماتة ولم يستشعر منها بحث توسط حركات
الأفلاك ولم يوقف له على أثر ليجاب بأن تلك الحركات أيضا من
الله تعالى فلا يقدح توسطها في كون الإحياء والإماتة منه تعالى
شأنه- ولا أظنك في مرية من هذا- ولعل الأظهر مما ذهب إليه
الإمام ما ذكره بعض المحققين من أن المارد لما كان مجوزا لتعدد
الآلهة لم يكن مدعيا أنه إله العالم ولو ادعاه لجنن على نحو من
مذهب الصابئة أن الله تعالى فوض إلى الكواكب التدبير والأفعال
من الإيجاد وغيره منسوبة إليهن، فجوز أن يكون في الأرض أيضا من
يفوض إليه إما قولا بالحلول أو لاكتساء خواص فلكية أو غير ذلك
أراد إبراهيم عليه السلام أن ينبه على قصوره عن هذه الرتبة
وفساد رأيه من جهة علمه الضروري بأنه مولودا حدث بعد أن لم يكن
وأن من لا وجود له في نفسه لا يمكنه الإيجاد الذي هو إفاضة
الوجود البتة ضرورة احتياجه إلى الموجد ابتداء ودواما وهذا كاف
في إبطال دعوى اللعين فلم يعمم الدعوى في تفرده تعالى بالإلهية
على إنه لوح إليه من حيث إنه لا فرق بين الإيجاد والإعدام
نوعين هما الاحياء والاماتة والقادر على إيجاد كل ممكن وإعدامه
يلزمه أن يكون خارجا عن الممكنات واحدا من كل الوجوه لأن
التعدد يوجب الإمكان والافتقار كما برهن عليه في محله، فعارضه
اللعين بما أوهم أنه يجوز أن يكون الممكن لاستغنائه عن الفاعل
في البقاء- كما عند بعض القاصرين من المتكلمين- مفوضا إليه بعد
إيجاده ما يستقل بإيجاد الغير وتدبير الغير، وهذا قد خفي على
الأذكياء فضلا عن الأغبياء، وقال:- أنا أحيي وأميت وأبدي-
فعليه مشيرا إلى أن للدوام حكم الابتداء في طرف الاحياء وهو في
ذلك مناقض نفسه من حيث لا يشعر إذ لو كان كذلك لم يكن التدبير
مفوضا إلى غير الباري ولم يكن مستغنيا عن الموجد طرفة عين وإلا
فليس العفو إحياء إن سلم أن القتل إماتة فألزمه الخليل عليه
السلام بأن القادر لا يفترق بالنسبة إليه الدوام والابتداء-
فإن الله تعالى يأتي بالشمس من المشرق فأت بها أنت من المغرب-
منبها على المناقضة المذكورة مصرحا بأنه
غالط في إسناد الفعل دواما إلى غير ما أسند إله ابتداء مظهرا
لدى السامعين ما كان عسى أن يغبي على البعض فهذا كلام وارد على
الخطابة، والبرهان يتلقاه المواجه به طوعا أو كرها بالإذعان
ليس فيه مجال للاعتراض سليم عن العراض، وعليه يكون المجموع
دليلا واحدا وليس من الانتقال إلى دليل آخر لما فيه من القيل
والقال، ولا من العدول إلى مثال أوضح حتى يقال كأنه قيل: ربي
الذي يوجد الممكنات وأتي بالإحياء والإماتة مثالا، فلما اعترض
جاء بآخر أجلي دفعا للمشاغة لأنه مع أن فيه ما في الأول يرد
عليه أن الكلام لم يسق هذا المساق- كما لا يخفى- هذا والله
تعالى أعلم بحقائق كتابه المجيد فتدبر.
(2/19)
وإنما أتي في الجملة الثانية بالاسم الكريم
ولم يؤت بعنوان الربوبية كما أتي بها في الجملة الأولى بأن
يقال: إن ربي ليكون في مقابلة أنا في ذلك القول مع ما فيه من
الدلالة على ربوبيته تعالى له عليه السلام ولذلك المارد عليه
اللعنة ففيه ترق عما في تلك الجملة كالترقي من الأرض إلى
السماء وهو في هذا المقام حسن حسن التأكيد بأن والأمر للتعجيز
والفاء الأولى للايذان بتعلق ما بعدها بما قبلها، والمعنى إذا
ادعيت الإحياء والإماتة لله تعالى وأخطأت أنت في الفهم أو
غالطت فمريح البال ومزيح الالتباس والاشكال فَإِنَّ اللَّهَ
يَأْتِي بِالشَّمْسِ إلخ. والباء للتعدية، ومِنَ في الموضعين
لابتداء الغاية متعلقة بما تقدمها من الفعل، وقيل: متعلقة
بمحذوف وقع حالا أي مسخّرة أو منقادة فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ
أي غلب وصار مبهوتا منقطعا عن الكلام متحيرا لاستيلاء الحجة
عليه، وقرئ- بهت- بفتح الباء وضم الهاء- وبهت- بفتح الأولى
وكسر الثانية وهما لغتان والفعل فيهما لازم- وبهت- بفتحهما
فيجوز أن يكون لازما أيضا، والَّذِي فاعله وأن يكون متعديا
وفاعله ضمير إبراهيم، والَّذِي مفعوله- أي فغلب إبراهيم عليه
السلام الكافر وأسكته- وإيراد الكفر في حيز الصلة للإشعار بعلة
الحكم، قال الكيا: وفي الآية دليل على جواز المحاجة في الدين
وإن كانت محاجة هذا الكافر كفرا وَاللَّهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي إلى مناهج الحق كما هدى أولياءه،
وقيل: لا يهديهم إلى طريق الجنة يوم القيامة أَوْ كَالَّذِي
مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ عطف على سابقه والكاف إما اسمية بمعنى مثل
معمولة- لأرأيت- محذوفا أي- أو أرأيت. مثل الذي مر وإلى ذلك
ذهب الكسائي والفراء وأبو علي وأكثر النحويين وحذف لدلالة- ألم
تر- عليه على أنه قد قيل: إن مثال هذا النظم كثيرا ما يحذف منه
فعل الرؤية كقوله:
قال لها كلابها أسرعي ... كاليوم (مطلوبا، ولا طالبا)
وجيء بهذه الكاف للتنبيه على تعدد الشواهد وعدم انحصارها فيما
ذكر كما في قولك- الفعل الماضي- مثل:
نصر، وتخصيص هذا بذلك على ما قيل: لأن منكر الأحياء كثير،
والجاهل بكيفيته أكثر من أن يحصى بخلاف مدعي الربوبية، وقيل:
إنها زائدة- وإلى ذلك ذهب الأخفش- أي أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ أو كَالَّذِي مَرَّ إلخ، وقيل. إنه
عطف محمول على المعنى كأنه قيل: أَلَمْ تَرَ كالذي حاج، أو
كَالَّذِي مَرَّ وقيل: إنه من كلام إبراهيم عليه السلام ذكره
جوابا لمعارضة ذلك الكافر، وتقديره وإن كنت تحيي فأحي كإحياء
الذي مرّ، ولا يخفى ضعفه للفصل وكثرة التقدير، وإنما لم تجعل
الكاف أصلية والعطف على الَّذِي نفسه في الآية السابقة
لاستلزامه دخول إلى على الكاف، وفيه إشكال لأنها إلى كانت
حرفية فظاهر وإن كانت اسمية فلأنها مشبهة بالحرف في عدم التصرف
لا يدخل عليها من الحروف إلا ما ثبت في كلامهم، وهو عن- وذلك
على قلة أيضا، وقال بعضهم: إن كلا من لفظ أَلَمْ تَرَ وأَ
رَأَيْتَ [الكهف: 63، الفرقان: 43، العلق: 9 و 11 و 13،
الماعون: 1] مستعمل لقصد التعجب إلا أن الأول تعلق بالمتعجب
منه فيقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي صنع كذا بمعنى انظر إليه
فتعجب من حاله، والثاني بمثل المتعجب منه فيقال: أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِي صنع كذا بمعنى انظر إليه فتعجب من حاله، والثاني
بمثل المتعجب منه فيقال- أرأيت مثل الذي صنع كذا بمعنى إنه من
الغرابة بحيث لا يرى له مثل ولا يصح أَلَمْ تَرَ إِلَى مثله إذ
يكون المعنى أنظر إلى المثل وتعجب من الذي صنع، ولذا لم يستقم
عطفك كَالَّذِي مَرَّ على الَّذِي حَاجَّ ويحتاج إلى التأويل
في المعطوف بجعله متعلقا بمحذوف- أي أرأيت كالذي مر- فيكون من
عطف الجملة أو في المعطوف عليه نظرا إلى أنه في معنى- أرأيت
كالذي حاج- فيصح العطف عليه ومن هذا يعلم أن عدم الاستقامة ليس
لمجرد امتناع دخول إلى على الكاف بل لو قلت أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِي حَاجَّ أو مثل كَالَّذِي مَرَّ فعدم
(2/20)
الاستقامة بحاله عند من له معرفة بأساليب
الكلام، وإن هذا ليس من زيادة الكاف في شيء بل لا بد في التعجب
بكلمة أَرَأَيْتَ من إثبات كاف، أو ما في معناه- ولا يخفى أن
هذا من الغرابة بمكان- فإن أَلَمْ تَرَ يستعمل للتعجب مع
التشبيه في كلام العرب كما يشير إليه كلام سيبويه، أَرَأَيْتَ
كثيرا ما يستعمل بدون الكاف أو ما في معناه، وهو في القرآن
كثير وكيف يفرق بينهما بأن الأول تعلق بالمتعجب منه، وفي
الثاني بمثله، والمثلية إنما جاءت من ذكر الكاف ولو ذكرت في
الأول لكان مثله بلا فرق فهذا مصادرة على المطلوب فليس إلا ما
ذكر أولا سوى أن تقدير أَرَأَيْتَ مع الكاف أولى لأن استعماله
معها أكثر فتدبر.
وأَوْ للتخيير أو للتفصيل-
والمار- هو عزيز بن شرخيا- كما أخرجه الحاكم عن علي كرم الله
تعالى وجهه.
وإسحق بن بشر عن ابن عباس، وعبد الله بن سلام، واليه ذهب
قتادة، وعكرمة، والربيع، والضحاك، والسدي، وخلق كثير-
وقيل: هو أرميا بن خلقيا من سبط هرون عليه السلام- وهو المروي
عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه-
وإليه ذهب وهب، وقيل: هو الخضر عليه السلام- وحكي ذلك عن ابن
إسحق- وزعم بعضهم أن هذين القولين واحد، وأن أرميا هو الخضر
بعينه، وقيل: شعيا، وقيل: غلام لوط عليه السلام، وقال مجاهد:
كان المار رجلا كافرا بالبعث وأيد بنظمه مع نمروذ في سلك واحد
حيث سيق الكلام للتعجيب من حالهما، وبأن كلمة الاستبعاد في هذا
المقام تشعر بالإنكار ظاهرا وليست هي فيه مثلها في أَنَّى
يَكُونُ لِي غُلامٌ [آل عمران: 40، مريم: 8 و 20] وأَنَّى
يَكُونُ لِي وَلَدٌ [آل عمران: 47] وعورض بما بين قصته وقصة
إبراهيم الآتية بعد من التناسب المعنوي فإن كليهما طلبا معاينة
الإحياء مع أن ما جرى له في القصة مما يبعد أن يجري مع كافر-
وإذا انضم إلى ذلك تحريه الظاهر في الاحتراز عن الكذب في القول
الصادر قبل التبيين الموجب لإيمانه على زعم من يدعي كفره- قوى
المعارض جدا، وإن قلنا:
بأن دلالة الانتظام في سلك نمروذ على الإيمان أحق لينطبق على
التفصيل المقدم في اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ حسب
ما أشرنا إليه في القيل قبل لم يكد يتوهم القول بالكفر كما لا
يخفى،- والقرية- قال ابن زيد: هي التي خرج منها الألوف، وقال
الكلبي: دير سابراباد، وقال السدي: دير سلماباذ، وقيل: دير
هرقل، وقيل: المؤتفكة، وقيل: قرية العنب على فرسخين من بيت
المقدس، وقال عكرمة، والربيع، ووهب: هي بيت المقدس وكان قد
خربها بختنصر وهذا هو الأشهر، واشتقاقها من القرى وهو الجمع
وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي ساقطة على سقوفها بأن سقط
السقف أولا ثم تهدمت الجدران عليه، وقيل: المعنى خالية عن
أهلها ثابتة على عروشها أي إن بيوتها قائمة والجار والمجرور
على الأول متعلق- بخاوية- وعلى الثاني بمحذوف وقع خبرا بعد
خبر- لهي- والجملة قيل: في موضع الحال من الضمير المستتر في
مَرَّ وقيل: من قَرْيَةٍ ويجيء الحال من النكرة على القلة،
وقيل: في موضع الصفة لها ويبعده توسط الواو، ومن الناس من جوز
كون عَلى عُرُوشِها بدلا من قَرْيَةٍ بإعادة الجار وكونه صفة
لها، وجملة وَهِيَ خاوِيَةٌ إما حال من- العروش- أو من-
القرية- أو من- ها- والعامل معنى الاضافة والكل مما لا ينبغي
حمل التنزيل عليه قالَ في نفسه أو بلسانه أَنَّى يُحْيِي هذِهِ
اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها المشار إليه إما نفس القرية بدون
تقدير كما هو الظاهر، فالاحياء والاماتة مجازان عن العمارة
والخراب، أو بتقدير مضاف- أي أصحاب هذه القرية- فالإحياء
والإماتة على حقيقتها، وإما عظام القرية البالية وجثثهم
المتفرقة، والسياق دال على ذلك، والاحياء والاماتة على حالهما
أيضا، فعلى القول بالمجاز يكون هذا القول على سبيل التلهف
والتشوق إلى عمارة تلك القرية لكن مع استشعار اليأس عنها على
أبلغ وجه وأوكده ولذا أراه الله تعالى أبعد الأمرين في نفسه،
ثم في غيره، ثم أراه ما استبعده صريحا مبالغة في إزاحة ما عسى
يختلج في خلده، وعلى القول الثاني يكون اعترافا بالعجز عن
معرفة طريق الاحياء واستعظاما لقدرة
(2/21)
المحيي إذا قلنا: إن القائل كان مؤمنا
وإنكارا للقدرة على ذلك إن كان كافرا، ورجح أول الاحتمالات
الثلاثة في المشار إليه بأن إرادة إحياء- لأهل، أو عظامهم-
يأباه التعرض لحال القرية دون حال من ذكر، والاقتصار على ذكر
موتهم دون كونهم ترابا أو عظاما نخرة مع كونه أدخل في
الاستبعاد لشدة مباينته للحياة وغاية بعده عن قبولها على أنه
لم تتعلق إرادته تعالى بإحيائهم كما تعلقت إرادته تعالى
بعمارتها ومعاينة المار لها كما ستسمعه، وتقديم المفعول على
الفاعل للاعتناء به من حيث إن الاستبعاد ناشئ من جهته لا من
جهة الفاعل، وأَنَّى نصب على الظرفية إن كانت بمعنى متى، وعلى
الحالية من هذه إن كانت بمعنى كيف، والعامل فيه على أي حال
يُحْيِي.
فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ أي فألبثه ميتا مائة عام ولا
بد من اعتبار هذا التضمين لأن الإماتة بمعنى إخراج الروح وسلب
الحياة مما لا تمتد- والعام- السنة من العوم وهو السباحة،
وسميت بذلك لأن الشمس تعوم في جميع بروجها ثُمَّ بَعَثَهُ أي
أحياه من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها، ولعل إيثاره على
أحياه للدلالة على سرعته وسهولة تأتيه على الباري عز اسمه،
وللإيذان بأنه قام كهيئته يوم مات عاقلا فاهما مستعدا للنظر
والاستدلال وكان ذلك بعد عمارة القرية، ففي البحر أنه لما مر
له سبعون سنة من موته وقد منعه الله تعالى من السباع والطير
ومنع العيون أن تراه أرسل ملكا إلى ملك عظيم من ملوك فارس يقال
له: كوسك فقال: إن الله تعالى يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت
المقدس وإيليا وأرضها حتى تعود أحسن مما كانت فانتدب الملك في
ثلاثة آلاف قهرمان مع كل قهرمان ألف عامل وجعلوا يعمرونها
وأهلك الله تعالى بختنصر ببعوضة دخلت دماغه ونجى الله تعالى من
بقي من بني إسرائيل وردهم إلى بيت المقدس فعمروها ثلاثين سنة
وكثروا حتى كانوا كأحسن ما كانوا عليه فعند ذلك أحياه الله
تعالى قالَ استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قال له؟
فقيل قال: كَمْ لَبِثْتَ ليظهر له العجز عن الإحاطة بشؤون الله
تعالى على أتم وجه وتنحسم مادة استبعاده بالمرة و «كم» نصب على
الظرفية ومميزها محذوف تقديره كَمْ وقتا والناصب له لَبِثْتَ
والظاهر أن القائل هو الله تعالى، وقيل: هاتف من السماء، وقيل:
جبريل، وقيل: نبي، وقيل: رجل مؤمن شاهده يوم مات وعمر إلى حين
إحيائه فيكون الإسناد إليه تعالى مجازا قالَ لَبِثْتُ يَوْماً
أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قاله بناء على التقريب والتخمين أو
استقصارا لمدة لبثه، وقيل: إنه مات ضحى وبعث بعد المائة قبل
الغروب فقال قبل النظر إلى الشمس: يَوْماً ثم التفت فرأى بقية
منها فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ على الإضراب، واعترض بأنه لا
وجه للجزم بتمام اليوم ولو بناء على حسبان الغروب لتحقق
النقصان من أوله قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ عطف على مقدر
أي ما لبثت ذلك القدر بل هذا المقدار فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ
وَشَرابِكَ قيل: كان طعامه عنبا أو تينا وشرابه عصيرا أو لبنا
لَمْ يَتَسَنَّهْ أي لم يتغير في هذه المدة المتطاولة،
واشتقاقه من- السنة- وفي لامها اختلاف فقيل: هاء بدليل سانهت
فلانا فهو مجزوم بسكون الهاء، وقيل: واو بدليل الجمع على سنوات
فهو مجزوم بحذف الآخر والهاء هاء سكت ثبتت في الوقف وفي الوصل
لإجرائه مجراه، ويجوز أن يكون التسنه عبارة عن مضي السنين كما
هو الأصل ويكون عدم التسنه كناية عن بقائه على حاله غضا طريا
غير متكرج، وقيل: أصله لم يتسنن. ومنه- الحمأ المسنون- أي
الطين المتغير ومتى اجتمع ثلاث حروف متجانسة يقلب أحدها حرف
علة كما قالوا في تظننت: تظنيت، وفي تقضضت: تقضيت، وقد أبدلت
هنا النون الأخيرة في رأي ياء، ثم أبدلت الياء ألفا، ثم حذفت
للجازم والجملة المنفية حال، وقد جاء مثلها بغير واو خلافا لمن
تردد فيه كقوله تعالى: لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [الأنعام: 19،
93] وأُوحِيَ إِلَيَّ [هود: 36] وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ
[الأنعام: 93] وصاحبها إما الطعام والشراب، وإفراد الضمير
لاجرائهما مجرى الواحد كالغذاء وإما الأخير واكتفى بدلالة حاله
على حال الأول ويؤيده قراءة عبد الله، وهذا شريك- لم يتسنه-
وقرأ أبي- لم يسنه- بإدغام
(2/22)
التاء في السين واستشكل تفرع فَانْظُرْ
على- لبث المائة- بالفاء وهو يقتضي التغير، وأجيب بأن المفرع
عليه ليس- البث الماء بل لبث المائة من غير تغير في جسمه حتى
ظنه زمانا قليلا ففرع عليه ما هو أظهر منه وهو عدم تغير الطعام
والشراب وبقاء الحيوان حيا من غير غذاء، وقيل: إن التقدير- إن
حصل لك عدم طمأنينة في أمر البعث- فانظر إلى طعامك وشرابك
السريع التغير حتى تعرف أن من لم يغيره يقدر على البعث. وفيه
نظر لأنه مع كونه خلاف الظاهر يعكر عليه قوله تعالى: وَانْظُرْ
إِلى حِمارِكَ كيف نخرت عظامه وتفرقت أوصاله وهذا هو الظاهر
لأنه أدل على الحال وأوفق بما بعده، وكون المراد- انظر إليه
سالما في مكانه كما ربطته حفظناه بلا ماء وعلف كما حفظنا
الطعام والشراب- ليس بشيء
ولا يساعده المأثور وَلِنَجْعَلَكَ متعلق بمقدر أي وفعلنا ذلك
لنجعلك، ومنهم من قدره متأخرا، وقيل: إنه متعلق بما قبله
والواو زائدة وعلى تقديره فهو معطوف على لَبِثْتَ أو على مقدر
بطريق الاستئناف أي فعلنا ذلك لتعاين ما استبعدت أو لتهدى
ولنجعلك، وقيل: إنه عطف على قالَ ففيه التفات آيَةً أي عبرة أو
مرشدا لِلنَّاسِ أي جنسهم أو من بقي من قومه أو للموجودين في
هذا القرن بأن يشاهدوك وأنت من أهل القرون الخالية ويأخذوا عنك
ما انطوى عنهم منذ أحقاب من علم التوراة، وفيه دليل على ما ذكر
من اللبث المديد ولذلك قرن بينه وبين الأمر بالنظر إلى حماره
وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ أي عظام الحمار- كما قاله السدي-
وكرر الأمر لما أن المأمور به أولا هو النظر إليها من حيث
الدلالة على المكث المديد، وثانيا هو النظر إليها من حيث
تعتريها الحياة ومباديها، وقيل: عظام أموات أهل القرية، وعن
قتادة، والضحاك، والربيع عظام نفسه قالوا: أول ما أحيا الله
تعالى منه عيناه وسائر جسده ميت وعظامه نخرة فأمر بالنظر
إليها، وقيل: عظامه وعظام حماره والكل لا يعول عليه. كَيْفَ
نُنْشِزُها بالزاي المعجمة من الإنشاز وهو الرفع أي كيف نرفعها
من الأرض فنردها إلى أماكنها من الجسد، وقال الكسائي: نلينها
ونعظمها، وقرأ أبي ننشيها، وابن كثير، ونافع، وأبو عمرو،
ويعقوب- ننشرها- من أنشر الله تعالى الموتى أحياها ولعل المراد
بالاحياء ما تقدم لا معناه الحقيقي لقوله تعالى: ثُمَّ
نَكْسُوها لَحْماً أي نسترها به كما نستر الجسد باللباس، وقرأ
أبان عن عاصم- ننشرها- بفتح النون وضم الشين والراء وهو حينئذ
من النشر ضد الطي- كما قال الفراء- فالمعنى كيف نبسطها،
والجملة قيل: إما حال من العظام أي وانظر إليها مركبة مكسوة
لحما أو بدل اشتمال أي وانظر إلى العظام كيفية انشازها وبسط
اللحم عليها، واعترضت الحالية بأن الجملة استفهامية وهي لا تقع
حالا، وأجيب بأن الاستفهام ليس على حقيقته فما المانع من
الحالية، ولعل عدم التعرض لكيفية نفخ الروح- كما قيل- لما أنها
مما لا تقتضي الحكمة بيانها، وفي بعض الآثار إن ملكا نادى
العظام فأجابت وأقبلت من كل ناحية ثم ألبسها العروق والعصب ثم
كساها اللحم ثم أنبت عليها الجلد والشعر ثم نفخ فيه الروح فقام
الحمار رافعا رأسه وأذنيه إلى السماء ناهقا فَلَمَّا تَبَيَّنَ
لَهُ أي اتضح اتضاحا تاما له ما دل عليه الأمر من كيفية
الإحياء بمباديه، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الأمر المذكور
وإنما حذف للإيذان بظهور تحققه واستغنائه عن الذكر وللإشعار
بسرعة وقوعه كأنه قيل:
فأنشرها الله تعالى وكساها لحما فنظر إليها فتبين له كيفيته
فلما تبين ذلك قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
ومن جملته ما شوهد قَدِيرٌ.
وقيل: فاعل تبين مضمر يفسره مفعول أعلم فالكلام من باب التنازع
على مذهب البصريين، وأورد عليه أن شرط التنازع كما نص عليه
النحاة اشتراك العاملين بعطف ونحوه بحيث يرتبطان فلا يجوز
ضربني أهنت زيدا قيل: وليس بشيء لأنه لم يشترطه إلا ابن عصفور،
وقد صرح بازات الفن بخلافه- كأبي علي وغيره- مع أنه لم يخص
بالعطف إذ هو جار في قوله تعالى: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ
[الحاقة: 19] ولما- رابطة للجملتين فيكفي مثله في الربط وإن لم
(2/23)
يصرحوا به، ومن الناس من استحسن أن يجعل من
باب ما يكون المراد بالفعل نفس وقوعه لا التلبس بالفاعل فكان
معناه فلما حصل له التبين قالَ أَعْلَمُ إلخ، ويساعده قراءة
ابن عباس رضي الله عنهما فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ على البناء
للمفعول، وإيثار صيغة المضارع للدلالة على أن علمه بذلك مستمر
نظرا إلى أن أصله لم يتغير بل إنما تبدل بالعيان وصفه، وفيه
إشعار بأنه إنما قال ما قال بناء على الاستبعاد العادي
واستعظاما للأمر، وقرأ ابن مسعود- قيل أعلم- على وجه الأمر،
وأخرج سعيد بن منصور. وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان يقرأ
قالَ أَعْلَمُ ويقول: لم يكن بأفضل من إبراهيم عليه السلام قال
الله تعالى له: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ [البقرة: 26] وبذلك قرأ
حمزة، والكسائي، والآمر هو الله تعالى، أو النبي، أو الملك،
ويحتمل أن يكون المخاطب هو نفسه على سبيل التجريد مبكتا لها
موبخا على ما اعتراها من ذلك الاستبعاد،
يروى أنه بعد هذا القول قام فركب حماره حتى أتى محلته فأنكره
الناس وأنكرهم وأنكر منازلهم فانطلق على وهم منهم حتى أتى فإذا
هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت أمة
له وكان قد خرج عزير وهي بنت عشرين سنة فقال لها: يا هذه أهذا
منزل عزيز؟ قالت: نعم وبكت وقالت: ما رأيت أحدا منذ كذا وكذا
سنة يذكر عزيزا وقد نسيه الناس قال: فإني أنا عزيز قالت: سبحان
الله فإن عزيز قد فقدناه منذ مائة سنة فلم يسمع له بذكر قال:
فإني عزيز كان الله تعالى أماتني مائة سنة ثم بعثني قالت: فإن
عزيزا كان رجلا مستجاب الدعوة يدعو للمريض ولصاحب البلاء
بالعافية والشفاء فادع الله تعالى أن يرد علي بصري حتى أراك
فإن كنت عزيرا عرفتك فدعا ربه ومسح يده على عينيها فصّحتا وأخذ
بيدها فقال: قومي بإذن الله تعالى فأطلق الله تعالى رجليها
فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال فنظرت فقالت: أشهد أنك عزير
فانطلقت إلى محلة بني إسرائيل وأنديتهم ومجالسهم، وابن العزير
شيخ ابن مائة سنة وثمان عشرة سنة وبنو بنيه شيوخ في المجلس
فنادتهم فقالت: هذا عزير قد جاءكم فكذبوها فقالت: أنا فلانة
مولاتكم دعا إلى ربه فرد عليّ بصري وأطلق رجلي، وزعم أن الله
تعالى كان أماته مائة سنة ثم بعثه فنهض الناس فأقبلوا عليه
فنظروا إليه فقال ابنه: كانت لأبي شامة سوداء بين كتفيه فكشف
عن كتفيه فإذا هو عزيز فقالت بنو إسرائيل: فإنه لم يكن فينا
أحد حفظ التوراة فيما حدثنا غير عزير وقد حرق بختنصر التوراة
ولم يبق منها شيء إلا ما حفظت الرجال فاكتبها لنا وكان أبوه قد
دفن التوراة أيام بختنصر في موضع لم يعرفه غير عزير فانطلق بهم
إلى ذلك الموضع فحفره فاستخرج التوراة وكان قد عفن الورق ودرس
الكتاب فجلس في ظل شجرة وبنو إسرائيل حوله فنزل من السماء
شهابان حتى دخلا جوفه فتذكر التوراة فجددها لبني إسرائيل، وفي
رواية أنه قرأها عليهم حين طلبوا منه ذلك عن ظهر قلب من غير أن
يخرم منها حرفا فقال رجل من أولاد المسبيين مما ورد بيت المقدس
بعد مهلك بختنصر: حدثني أبي عن جدي أنه دفن التوراة يوم سبينا
في خابية في كرم فإن أريتموني كرم جدي أخرجتها لكم فذهبوا إلى
كرم جده ففتشوها فوجدوها فعارضوها بما أملى عليهم عزيز عن ظهر
قلب فما اختلفا في حرف واحد- فعند ذلك قالوا: عزيز ابن الله
تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
ومن باب الإشارة والتأويل في الآيات لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ
لأنه في الحقيقة هو الهدى المستفاد من النور القلبي اللازم
للفطرة وهو لا مدخل للإكراه فيه قَدْ تَبَيَّنَ ووضح الرُّشْدُ
الذي هو طريق الوحدة وتميز مِنَ الْغَيِّ الذي هو النظر إلى
الأغيار فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وهو ما سوى الله تعالى
وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ إيمانا حقيقيا شهوديا فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى التي هي الوحدة الذاتية لَا انْفِصامَ
لَها في نفسها لأنها الموافقة لما في نفس الأمر والممكنات
والشؤون داخلة في دائرتها غير منقطعة عنها وَاللَّهُ سَمِيعٌ
يسمع قول كل ذي دين عَلِيمٌ بنيته اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ
آمَنُوا وليس وليّ سواه ولا ناصر ولا معين لهم غيره
يُخْرِجُهُمْ مِنَ ظلمات- النفس وشبه
(2/24)
الخيال والوهم إلى نور اليقين والهداية
وفضاء عالم الأرواح وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالميل إلى الأغيار
أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ الذي حال بينهم وبين الله تعالى
فلم يلتفتوا إليه يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ نور الاستعداد والهداية
الفطرية إلى ظلمات صفات النفس والشكوك والشبهات أُولئِكَ
المبعدون عن الحضرة أَصْحابُ النَّارِ الطبيعية هُمْ فِيها
خالِدُونَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي
رَبِّهِ وهو نمروذ النفس الأمارة المجادلة لإبراهيم الروح
القدسية التي ألقيت في نار الطبيعة فعادت عليها بردا وسلاما،
أو نمروذ الجبار وإبراهيم الخليل عليه السلام أَنْ آتاهُ
اللَّهُ الْمُلْكَ الذي هو عالم القوى البدنية وملك هذه الدنيا
الدنية إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ الروح أو إبراهيم الخليل رَبِّيَ
أني من غذيت ببيان أنواره أو إيجاده وهدايته الَّذِي يُحْيِي
من توجه إليه وَيُمِيتُ من أعرض عنه، أو يحيي ويميت الإحياء
والإماتة المعهودتين قالَ نمروذ النفس الأمارة، أو الجبار
أَنَا أُحْيِي بعض القوى بصرفها في ميادين اللذات واستنشاق ريح
الشهوات وَأُمِيتُ بعضها بتعطيله عن ذلك برهة، أو أحي بالعفو
وأميت بالقتل قالَ إِبْراهِيمُ الروح، أو الخليل فَإِنَّ
اللَّهَ يَأْتِي بشمس العرفان من مشرقها وهو جانب المبدأ
الفياض فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ أي أظهرها عد غروبها
وحيلولة أرض الوجود بينك وبينها، أو أن الله- يأتي بشمس الروح
من مشرقها- وهو مبدأها الأصلي فتشرق أنوارها على صفحات البدن-
فأت بها بعد ما غربت- أي فأرجعها إلى من قتله وأمته، وعلى هذا
يكون من تتمة الأول فَبُهِتَ وغلب الَّذِي كَفَرَ وهو النفس
الأمارة المدعية للربوبية على عرش البدن أو نمروذ اللعين أَوْ
كَالَّذِي مَرَّ وهو العقل الإنساني عَلى قَرْيَةٍ القلب الذي
هو البيت المقدس، أو هو عزيز النبي وكان قدم على بيت المقدس
قبل التجلي باسمه تعالى المحيي وَهِيَ خاوِيَةٌ خالية من
التجليات النافعة ثابتة عَلى عُرُوشِها صورها أو ساقطة منهدمة
لضعف أس الاستعداد على عروش العزائم قالَ لذهوله عن النظر إلى
الحقائق أَنَّى متى، أو كيف يُحْيِي هذِهِ القرية الله الجامع
لصفات الجمال والجلال بَعْدَ مَوْتِها بداء الجهل والالتفات
إلى السوي فَأَماتَهُ اللَّهُ أبقاه جاهلا مائة عام أي مدة
طويلة، وقيل: هي عبارة في الأصل عن ثمانية أعوام وأربعة أشهر
أو خمسة وعشرين سنة ثم بعثه بالحياة الحقيقية وطلب منه الوقوف
على مدة اللبث فما ظنها- إلا يوما أو بعض يوم- استصغارا لمدة
اللبث في موت الجهل المنقضية بالنسبة إلى الحياة الأبدية، أو
أماته بالموت الإرادي في إحدى المدد المذكورة فتكون المدة زمان
رياضته وسلوكه ومجاهدته في سبيل الله تعالى، أو أماته حتنف
أنفه بالموت الطبيعي ثم بعثه بالإحياء قال: بل لبثت في الحقيقة
مائة عام فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وكان التين أو العنب، والأول
إشارة إلى المدركات الكلية لكونه لبا كله وكون الجزئيات فيه
بالقوة كالحبات التي في التين، والثاني إشارة إلى الجزئيات
لبقاء اللواحق المادية معها في الإدراك كالقشر والعجم
وَشَرابِكَ وكان عصير العنب واللبن، والأوّل إشارة إلى العشق
والإرادة وعلوم المعارف والحقائق، والثاني إشارة إلى العلم
النافع كالشرائع لَمْ يَتَسَنَّهْ أي لم يتغير عما كان في
الأول بحسب الفطر مودعا فيك فإن العلوم مخزونة في كل نفس بحسب
استعداده الناس معادن كمعادن الذهب والفضة وإن حجبت بالمواد
وخفيت مدة بالتقلب في البرازخ وظلماتها لم تبطل لم تتغير عن
حالها حتى إذا رفع الحجاب ظهرت كما كانت وَانْظُرْ إِلى
حِمارِكَ وهو القالب الحامل للقلب أو المعنى الظاهر
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً أي دليلا للناس بعثناك وَانْظُرْ إِلَى
الْعِظامِ من القوى كَيْفَ نُنْشِزُها ونرفعها عن أرض الطبيعة
ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً
وهو العرفان الذي يكون لباسا لها، وعبر عنه باللحم لنموه
وريادته كلما تغذت الروح بأطعمة الشهود وأشربة الوصال، والمعنى
الظاهر ظاهر فلما تبين ووضح له ذلك قالَ أَعْلَمُ علما مستمرا
أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ ومن جملته ما كان قَدِيرٌ لا
يستعصى عليه ولا يعجزه وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ بيان لتسديد
المؤمنين إثر بيان ولمغايرته لما تقدم كما سنشير إليه إن شاء
الله تعالى غير الأسلوب والظرف منتصب إما بمضمر صرح بمثله في
قوله تعالى: وَاذْكُرُوا
(2/25)
إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ [الأعراف: 69،
74] وإيجاب ذكر الوقت إيجاب لذكر ما فيه بطريق برهاني وإما-
يقال- الآتي وقد تقدم تحقيق ذلك رَبِّ كلمة استعطاف شرع ذكرها
قبل الدعاء مبالغة في استعداد الإجابة أَرِنِي من الرؤية
البصرية المتعدية بهمزة النقل إلى مفعولين فالباء مفعوله
الأوّل وقوله تعالى: كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى في محل مفعوله
الثاني المعلق عنه، وإلى ذلك ذهب أكثر المعربين، واعترض بأن
البصرية لا تعلق، وأجيب بأن ذلك إنما ذكره بعض النحاة، ورده
ابن هشام بأنه سمع تعليقها، وفي شرح التوضيح يجوز كونها علمية،
ومن الناس من لم يجعل «ما» هنا من التعليق في شيء وجعل كلمة
كَيْفَ إلخ في تأويل مصدر هو المفعول كما قاله ابن مالك في
قوله تعالى: وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ
[إبراهيم: 45] ثم الاستفهام- بكيف- إنما هو سؤال عن شيء متقرر
الوجود عند السائل والمسئول، فالاستفهام هنا عن هيئة الإحياء
المتقرر عند السائل أي- بصرني كيفية إحيائك للموتى- وإنما سأله
عليه السلام لينتقل من مرتبة علم اليقين إلى عين اليقين،
وفي الخبر «ليس الخبر كالمعاينة»
وكان ذلك حين رأى جيفة تمزقها سباع البر والبحر والهواء قاله
الحسن، والضحاك، وقتادة، وهو المروي عن أهل البيت، وروى عن ابن
عباس، والسدي، وسعيد بن جبير أن الملك بشره عليه السلام بأن
الله تعالى قد اتخذه خليلا وأنه يجيب دعوته ويحيي الموتى
بدعائه فسأل لذلك، وروى عن محمد بن إسحق بن يسار أن سبب السؤال
منازعة النمروذ إياه في الأحياء حيث رد عليه لما زعم أن العفو
إحياء وتوعده بالقتل إن لم يحي الله تعالى الميت بحيث يشاهده
فدعا حينئذ قالَ استئناف مبني على السؤال والضمير للرب
أَوَلَمْ تُؤْمِنْ عطف على مقدر- أي ألم تعلم ولم تؤمن بأني
قادر على الإحياء كيف أشاء حتى تسألني عنه- أو بأني قد اتخذتك
خليلا، أو بأن الجبار لا يقتلك قالَ أي إبراهيم بَلى آمنت بذلك
وَلكِنْ سألت لِيَطْمَئِنَّ أي يسكن قَلْبِي بمضامة الأعيان
إلى الإيمان والإيقان بأنك قادر على ذلك، أو لِيَطْمَئِنَّ
قَلْبِي بالخلة أو بأن الجبار لا يقتلني، وعلى كل تقدير لا
يعود نقص على إبراهيم من هذا السؤال ولا ينافي منصب النبوة
أصلا، وللناس ولوع بالسؤال عن هذه الآية- وما ذكر هو المشهور
فيها- ويعجبني ما حرره بعض المحققين في هذا المقام وبسطه في
الذب عن الخليل عليه السلام من الكلام، وهو أن السؤال لم يكن
عن شك في أمر دينيّ والعياذ بالله ولكنه سؤال عن كيفية الإحياء
ليحيط علما بها وكيفية الإحياء لا يشترط في الإيمان الإحاطة
بصورتها، فالخليل عليه السلام طلب علم ما لا يتوقف الإيمان على
علمه، ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة كَيْفَ وموضوعها السؤال
عن الحال، ونظير هذا أن يقول القائل: كيف يحكم زيد في الناس
فهو لا يشك أنه يحكم فيهم ولكنه سأل عن كيفية حكمه المعلوم
ثبوته ولو كان سائلا عن ثبوت ذلك لقال- أيحكم زيد في الناس-
ولما كان الوهم قد يتلاعب ببعض الخواطر فتنسب إلى إبراهيم
وحاشاه شكا من هذه الآية قطع النبي صلى الله عليه وسلم دابر
هذا الوهم
بقوله على سبيل التواضع: «نحن أحق بالشك من إبراهيم»
أي ونحن لم نشك فلأن لا يشك إبراهيم أحرى، وقيل: إن الكلام مع
أفعل جاء هنا لنفي المعنى عن الحبيب والخليل عليهما الصلاة
والسلام أي لا شك عندنا جميعا، ومن هذا الباب أَهُمْ خَيْرٌ
أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ [الدخان: 37] أي لا خير في الفريقين،
وإنما جاء التقرير بعد لأن تلك الصيغة وإن كانت تستعمل ظاهرا
في السؤال عن الكيفية كما علمت إلا أنها قد تستعمل أيضا في
الاستعجاز كما إذا ادعى مدع أنه يحمل ثقلا من الأثقال وأنت
جازم بعجزه عن حمله فتقول له: أرني كيف تحمل هذا وتريد أنك
عاجز عن حمله فأراد سبحانه لما علم براءة الخليل عن الحوم حول
حمى هذا المعنى أن ينطقه في الجواب بما يدفع عنه ذلك الاحتمال
اللفظي في العبارة الأولى ليكون إيمانه مخلصا بعبارة تنص عليه
يفهمها كل من يسمعها فهما لا يتخالجه فيه شك، ومعنى الطمأنينة
حينئذ سكون القلب عن الجولان في كيفيات الإحياء المحتملة بظهور
التصوير المشاهد، وعدم حصول هذه الطمأنينة قبل لا ينافي حصول
الإيمان بالقدرة على الإحياء على أكمل الوجوه، ولا أرى
(2/26)
رؤية الكيفية زادت في إيمانه المطلوب منه
عليه السلام شيئا وإنما أفادت أمرا لا يجب الإيمان به، ومن هنا
تعلم أن عليا كرم الله تعالى وجهه لم يثبت لنفسه مرتبة في
الإيمان أعلى من مرتبة الخليل فيه
بقوله: لو كشفت لي الغطاء ما ازددت يقينا
كما ظنه جهلة الشيعة وكثير من أصحابنا لما لم يقف على ما حررنا
تجشم لدفع ما عسى أن يتوهم من كلامي الخليل والأمير من أفضلية
الثاني على الأول فبعض دفعه بأن اليقين يتصور أن يطرأ عليه
الجحود لقوله تعالى:
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: 14]
والطمأنينة لا يتصور طروّ ذلك عليها- ونسب هذا لحجة الإسلام
الغزالي- وفي القلب منه شيء، وبعض قرر في دفعه أن مقام النبوة
مغاير لمقام الصديقية، فلمقام النبوة طمأنينة وعدم طمأنينته
بحسبه، ولمقام الصديقية طمأنينة وعدم طمأنينته بحسبه أيضا،
وطمأنينة مقام النبوة كانت لخاتم النبيين صلى الله تعالى عليه
وسلم كما كشف عنها بقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ
كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ [الفرقان: 45] على ما يعرفه أهل الذوق
من الآية وكان الاستعداد من إبراهيم وكذا من موسى عليهما
السلام متوجها إلى ابتغاء تلك الطمأنية كما أبانا عن أنفسهما-
برب أرني كيف تحيي الموتى، ورب أرني أنظر إليك- وطمأنينة مقام
الصديقية كانت للصديقين من أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم
كما أبدى عن نفسه إمام الصديقين كرم الله تعالى وجهه
بقوله: «لو كشف» إلخ،
وكان الاستعداد في صديقي سائر الأنبياء متوجها إلى ابتغاء تلك
الطمأنينة فثبتت الفضيلة لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم على
سائر إخوانه من الأنبياء والصديقية على سائر الصديقين من أممهم
ولم يثبت لصديقيه لوجدانهم طمأنينتهم الفضيلة على الأنبياء عند
فقدانهم طمأنينتهم لأن ما فقدوه من الطمأنينة غير ما وجده
الصديقون منها لأنهم إنما يفقدون الطمأنينة اللائقة بمقام
النبوة والصديقون لم يجدوا مثل تلك الطمأنينة وإنما وجدوا
طمأنينة لائقة بمقام الصديقين ولو رضي النبيون بمثله لكان
حاصلا لهم، وأجل من ذلك بعدة مراتب ولقد اعترف الصديق الأكبر
رضي الله تعالى عنه بهذا التخلف حين بلغه عن رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم
أنه قال: إني لأسهو
فقال: يا ليتني كنت سهو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إذ علم
أن ما يعده رسول الله صلّى الله عليه وسلم من نفسه الكريمة
سهوا فوق أعلى يقظان الصديق إذ حسنات الأبرار سيئات المقربين
وحسنات المقربين سيئات النبيين، وهذا أولى مما سبق، وبعض من
المتصوفة كجهلة الشيعة التزموا ظاهر كل من الكلامين وزعموا أن
أولياء هذه الأمة وصديقيهم أعلى كعبا من الأنبياء ولو نالوا
مقام الصديقية محتجبين بما روى عن الإمام الرباني سيدي وسندي
عبد القادر الكيلاني قدس سره أنه قال: يا معاشر الأنبياء الفرق
بيننا وبينكم بالألقاب وأوتينا ما لم تؤتوه، وببعض عبارات
للشيخ الأكبر قدس سره ينطق بذلك، وأنت تعلم أن التزام ذلك
والقول به خرق لإجماع المسلمين ومصادم للأدلة القطعية على
أفضلية الأنبياء على سائر الخلق أجمعين، ويوشك أن يكون القول
به كفرا بل قد قيل به، وما روي عن الشيخ عبد القادر قدس سره
فمما لم يثبت نقله عنه في كتاب يعول عليه، وما يعزى إلى الشيخ
الأكبر قدس سره فتعارضه عبارات له أخر مثل قوله قدس سره- وهو
الذي تعلم ترجمته لنفسه وعده إياها من أكبر الصديقين بل خاتم
الولاية الخاصة- والمقام المحمدي فتح لي قدر خرم إبرة من مقام
النبوة تجليا لا دخولا فكدت أحترق، وبتقدير تسليم ما نقل عمن
نقل والقول بعدم قوة المعارض لنا أن نقول: إن ذلك القول صدر عن
القائل عند فنائه في الحقيقة المحمدية والذات الأحمدية فاللسان
حينئذ لسانها والقول قولها ولم يصدر ذلك منه حين رؤية نفسه،
والوقوف عند رتبته- وهذا غير ما ذهب إليه الشيعة- وبعيد عنه
بمراحل، ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه بأتم من هذا إن شاء الله
تعالى، فخزائن الفكر ولله الحمد مملوءة، ولكل مقام مقال، هذا
وذكر الزمخشري أن المراد بالطمأنينة هنا العلم الذي لا مجال
للتشكيك فيه وهو علم الضرورة المخالف لعلم الاستدلال حيث يجوز
معنى ذلك، واعترض بأن العلم الموقوف على سبب لا يتصور فيه
تشكيك ما دام سببه مذكورا في نفس العالم وإنما الذي قبل
التشكيك قبولا مطلقا هو الاعتقاد وإن كان صحيحا وسببه باق في
الذكر وبهذا
(2/27)
ينحط الاعتقاد الصحيح عن العلم، وأجيب بأن
هذا مبني على تفسير العلم بأنه صفة توجب تمييزا لا يحتمل
النقيض بوجه- على ما ذكره ابن الحاجب في مختصره- وقد قيل عليه
ما قيل فتدبر، واللام في لِيَطْمَئِنَّ لام كي والفعل منصوب
بعدها بإضمار أن، وليس بمبني كما- زلق السمين- ومتعلق اللام
محذوف كما أشرنا حذف- ما- منه الاستدراك وقيل المتعلق أَرِنِي
ولا أراه شيئا، والماضي للفعل- اطمأن على وزن اقشعر، واختلف هل
هو مقلوب أم لا؟ فمذهب سيبويه أنه مقلوب من- اطأمن- فالطاء فاء
الكلمة. والهمزة عينها. والميم لامها فقدمت اللام التي هي
الميم على العين وهي الهمزة فوزنه افلعل، ومذهب الجرمي أنه غير
مقلوب وكأنه يقول- اطأمن واطمأن- مادتان مستقلتان ومصدره
الطمأنينة بسكون الميم وفتح الهمزة، وقيل: طمأنينة بتخفيف
الهمزة وهو قياس مطرف عند الكوفيين وهو على غير قياس المصادر
عند الجميع إذ قياس اطمأن أن يكون مصدره على الاطمئنان، وقرئ-
أرني- بسكون الراء قالَ أي الرب فَخُذْ الفاء لجواب شرط محذوف
أي إن أردت ذلك فخذ.
أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ المشهور أنه اسم جمع كركب وسفر،
وقيل: بل هو جمع طائر كتاجر وتجر- وإليه ذهب أبو الحسن- وقيل:
بل هو مخفف من طير بالتشديد، وقال أبو البقاء: هو في الأصل
مصدر طار يطير ثم سمي به هذا الجنس وألحقت التاء في عدده
لاعتباره مذكرا واسم الجنس لما لا يعقل يذكر ويؤنث والجار
متعلق بمحذوف وقع صفة لما قبله أو متعلق- بخذ- والمروي عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما أنها الغرنوق، والطاوس، والديك،
والحمامة، وعن مجاهد بدل الغرنوق الغراب، وفي رواية بدل
الحمامة بطة، وفي رواية نسر، وتخصيص الطير بذلك لأنه أقرب إلى
الإنسان باعتبار طلبه المعاش والمسكن ولذلك وقع
في الحديث «لو توكلتم على الله تعالى حق توكله لرزقكم كما ترزق
الطير تغدو خماصا وتروح بطانا»
ولأنه أجمع لخواص الحيوان ولسهولة تأتي ما يفعل به من التجزئة
والتفرقة ولما فيه من مزيد أجزاء من الريش ففي إحيائها من يد
ظهور القدرة ولأن من صفته الطيران في السماء وكان من همة
إبراهيم عليه الصلاة والسلام الميل إلى جهة العلو والوصول إلى
الملكوت فكانت معجزته مشاكلة لهمته فَصُرْهُنَّ قرأ حمزة
ويعقوب بكسر الصاد، والباقون بضمها مع التخفيف من- صاره يصوره
ويصيره- لغتان بمعنى قطعه أو أماله لأنه مشترك بينهما كما ذكره
أبو علي، وقال الفراء: الضم مشترك بين المعنيين، والكسر بمعنى
القطع فقط، وقيل: الكسر بمعنى القطع، والضم بمعنى الإمالة، وعن
الفراء إن صاره مقلوب صراه عن كذا قطعة، والصحيح أنه عربي، وعن
عكرمة أن نبطي، وعن قتادة أنه حبشي، وعن وهب أنه رومي، فإن كان
المراد- أملهن- فقوله تعالى:
إِلَيْكَ متعلق به وإن كان المراد- فقطعهن- فهو متعلق- بخذ-
باعتبار تضمينه معنى الضم، واختار أبو البقاء أن يكون حالا من
المفعول المضمر أي- فقطعهن مقربة ممالة- إليك- وزعم ابن هشام-
تبعا لغيره- أنه لا يصح تعليق الجار- بصرهن- مطلقا إن لم يقدر
مضاف أي إلى نفسك محتجا بأنه لا يتعدى فعل غير علمي عامل في
ضمير متصل إلى المنفصل، ورد بأنه إنما يمنع إذا كان متعديا
بنفسه أما المتعدي بحرف فهو جائز كما صرح به علماء العربية،
وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:- «فصرّهن» - بتشديد الراء
مع ضم الصاد وكسرها من صره إذا جمعه، والراء إما مضمومة
للاتباع أو مفتوحة للتخفيف، أو مكسورة لالتقاء الساكنين، وعنه
أيضا- «فصرّهن» - من التصرية بفتح الصاد وكسر الراء المشددة
وأصلها تصررة فأبدل أحد أحرف التضعيف ياء وهي في الأصل من صريت
الشاة إذا لم تحلبها أياما حتى يجتمع اللب ژن في ضرعها ثم
استعمل في مجرد معنى الجمع- أي اجمعهن وضمهن إليك لتتأملها
وتعرف شأنها مفصلة حتى تعلم بعد الإحياء أن جزءا من أجزائها لم
ينتقل من موضعه الأول أصلا.
ثُمَّ اجْعَلْ أي ألق، أو صير بعد ذبحهن وخلط لحومهن وريشهن
ودمائهن كما قاله قتادة.
(2/28)
عَلى كُلِّ جَبَلٍ يمكنك الوضع عليه ولم
يعين له ذلك- كما روي عن مجاهد. والضحاك- وروي عن ابن عباس
والحسن، وقتادة أن الجبال كانت أربعة، وعن ابن جريج. والسدي
أنها كانت سبعة، وعن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنها
كانت عشرة مِنْهُنَّ أي من تلك الطير جُزْءاً أي قطعة، وبعضا
ربعا، أو سبعا، أو عشرا، أو غير ذلك، وقرئ «جزوءا» بضمتين
«وجزا» بطرح همزته تخفيفا ثم تشديده عند الوقف ثم إجراء الوصل
مجرى الوقف وهو مفعول- لا جعل- والجاران قبله متعلقان بالفعل،
ويجوز أن يكون على كل مفعولا ثانيا له إن كان بمعنى صير،
ومِنْهُنَّ حال من جُزْءاً لأنه في الأصل صفة للنكرة قدمت
عليها ثُمَّ ادْعُهُنَّ أي نادهنّ،
أخرج ابن المنذر عن الحسن قال: إنه عليه الصلاة والسلام نادى
أيتها العظام المتمزقة واللحوم المتفرقة والعروق المتقطعة
اجتمعي يرد الله تعالى فيكن أرواحكن فوثب العظم إلى العظم
وطارت الريشة إلى الريشة وجرى الدم إلى الدم حتى رجع إلى كل
طائر دمه ولحمه وريشه ثم أوحى الله تعالى إلى إبراهيم إنك
سألتني كيف أحيي الموتى وأني خلقت الأرض وجعلت فيها أربعة
أرواح الشمال. والصبا. والجنوب. والدبور حتى إذا كان يوم
القيامة نفخ نافخ في الصور فيجتمع من في الأرض من القتلى
والموتى كما اجتمعت أربعة أطيار من أربعة جبال ثم قرأ ما
خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان:
28]
وعن مجاهد أنه دعاهن باسم إله إبراهيم تعالين، واستشكل بأن
دعاء الجماد غير معقول، وأجيب بأنه من قبيل دعاء التكوين،
وقيل: في الآية حذف كأنه قيل: فقطعهن ثم اجعل على كل جبل من كل
واحد منهن جزءا فإن الله تعالى يحييهن فإذا أحياهن فادعهن.
يَأْتِينَكَ سَعْياً فالدعاء إنما وقع بعد الإحياء. ولا يخفى
أن الآثار مع ما فيه من التكلف لا تساعده، وأعظم منه فسادا ما
قيل: إنه عليه الصلاة والسلام جعل على كل جبل منهن طيرا حيا ثم
دعاها فجاءت فإن ذلك مما يبطل فائدة الطلب ويعارض الأخبار
الصحيحة فإن أكثرها ناطق بأنه دعاها ميتة متفرقة الأجزاء، وفي
بعضها أن رؤوسهن كانت بيده فلما دعاهن جعل كل جزء منهن يأتي
إلى صاحبه حتى صارت جثثا ثم أقبلن إلى رؤوسهن فانضمت كل جثة
إلى رأسها فعادت كل واحدة منهن إلى ما كانت عليه من الهيئة،
وسعيا حال من فاعل- يأتينك- أي ساعيات مسرعات، أو ذوات سعي
طيرانا أو مشيا، وقيل: إطلاق السعي على الطيران مجاز، وجوز أن
يكون منصوبا على المصدرية كقعدت جلوسا، ومن الغريب ما نقل عن
النضر بن شميل. قال: سألت الخليل بن أحمد عن قوله تعالى:
يَأْتِينَكَ سَعْياً هل يقال الطائر إذا طار سعى؟ فقال: لا
قلت: فما معناه؟ قال: معناه يَأْتِينَكَ وأنت تسعى سعيا- وهو
من التكلف الغير المحتاج إليه بمكان- وإنما اقتصر سبحانه على
حكاية أوامره جل شأنه من غير تعرض لامتثال خليله عليه الصلاة
والسلام، ولا لما ترتب عليه من آثار قدرته التي علمت النزر
منها للايذان بأن ترتب تلك الأمور على الأوامر الجليلة
واستحالة تخلفها عنها من الجلاء والظهور بحيث لا حاجة له إلى
الذكر أصلا، وزعم بعضهم أن الخليل عليه الصلاة والسلام لم يفعل
شيئا مما اقتضاه ظاهر الكلام وأن الأوامر فيه مثلها في قولك
لمن لا يعرف تركيب الحبر مثلا: خذ كذا وكذا وأمكنهما سحقا وألق
عليهما كذا وكذا وضع ذلك في الشمس مدة أيام ثم استعمله تجده
حبرا جيدا فأنا لا يقتضي الامتثال إذا كان الغرض مجرد تعليم،
والرؤية- هنا علمية كما نقل عن شرح التوضيح، وإبراهيم حصل له
العلم التام بمجرد وصف الكيفية واطمأن قلبه وسكن لبه، ولهذا لم
يذكر الله تعالى ما ترتب على هذه الأوامر من هاتيك الأمور ولم
يتعرض للامتثال ولم يعبأ بالإيماء إليه- بقال- أو حال- ومال
إلى هذا القول أبو مسلم فأنكر القصة أيضا، وقال: إن إبراهيم
عليه الصلاة والسلام لما طلب إحياء الموتى من ربه سبحانه وأراه
مثالا محسوسا قرب الأمر عليه، والمراد- بصرهن- أملهن ومرنهنّ
على الإجابة- أي عود الطيور الأربعة بحيث إذا دعوتها أجابتك
حال الحياة-
(2/29)
والغرض منه ذكر مثال محسوس لعود الأرواح
إلى الأجساد على سبيل السهولة ولا يخفى أن هذا خلاف إجماع
المسلمين، وضرب من الهذيان لا يركن إليه أرباب الدين وعدول عما
يقتضيه ظاهر الآية المؤيد بالأخبار الصحيحة والآثار الرجيحة
إلى ما تمجه الاسماع ولا يدعو إليه داع فالحق اتباع الجماعة
ويد الله تعالى معهم، وفي الآية دليل لمن ذهب إلى أن إحياء
الموتى يوم القيامة يجمع الأجزاء المتفرقة وإرسال الروح إليها
بعد تركيبها وليس هو من باب إعادة المعدوم الصرف لأنه سبحانه
بين الكيفية بالتفريق ثم الجمع وإعادة الروح ولم يعدم هناك سوى
الجزء الصوري والهيئة التركيبية دون الأجزاء المادية، واحتج
بها بعضهم أيضا على أن البنية ليست شرطا في الحياة لأنه تعالى
جعل كل واحد من تلك الأجزاء والأبعاض حيا قادرا على السعي
والعدو، وقال القاضي: دلت الآية على أنه لا بد من البنية حيث
أوجب التقطيع بطلان الحياة، وأجيب بأن حصول المقارنة لا يدل
على وجوب المقارنة، والانفكاك في بعض الأحوال يدل على أن
المقارنة حيث حصلت ما كانت واجبة ولما دلت الآية على حصول فهم
النداء لتلك الأجزاء كانت دليلا قاطعا على أن البنية ليست شرطا
للحياة- وفيه تأمل- والمشهور أنها حجة على من ذهب إلى أن
الإيمان لا يزيد ولا ينقص وهي ظاهرة في أنه يزيد في الكيف وإن
كان لا يزيد في الكم لكن المكلف به هو الجزم الحاصل بالنظر
والاستدلال، ويسميه البعض علم اليقين لا الجزم الكائن
بالمشاهدة المسمى بعين اليقين فإن في التكليف به حرجا في
الدين، وأنت تعلم أن في دلالة الآية على زيادة الايمان ونقصه
بناء على الوجه الذي أشرنا إلى اختياره ترددا كما لا يخفى
وفيها أيضا دليل على فضل الخليل عليه الصلاة والسلام ويمن
الضراعة في الدعاء وحسن الأدب في السؤال حيث أراه سبحانه ما
سأله في الحال على أيسر ما
يكون من الوجوه، وأرى عزيزا عليه السلام ما أراه بعد ما أماته
مائة عام. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على أمره
حَكِيمٌ ذو حكمة بالغة في أفعاله فليس بناء أفعاله على الأسباب
العادية لعجزه عن خرق العادات بل لكونه متضمنا للحكم والمصالح،
حكى أن الله سبحانه لما وفى لابراهيم عليه الصلاة والسلام بما
سأل قال له: يا إبراهيم نحن أريناك كيف نحيي الموتى فأرنا أنت
كيف تميت الأحياء
مشيرا إلى ما سيأمره به من ذبح ولده عليه الصلاة والسلام وهو
من باب الانبساط مع الخليل ودائرة الخلة واسعة إلا أن حفاظ
المحدثين لم يذكروا هذا الخبر وليس له رواية في كتب الأحاديث
أصلا.
(ومن باب الاشارة في هذه القصة) البقرة 261- 672 وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى أي موتى
القلوب بداء الجهل قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ أي ألم تعلم ذلك
علما يقينا قالَ بَلى أعلم ذلك:
ولكن للعيان لطيف معنى ... له سأل المشاهدة الخليل
وهو المشار إليه بقوله سبحانه: لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي الذي هو
عرشك قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ إشارة إلى طيور
الباطن التي في قفص الجسم، وهي أربعة من أطيار الغيب: العقل،
والقلب، والنفس، والروح فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ أي ضمهن واذبحهن،
فاذبح طير العقل بسكين المحبة على باب الملكوت، واذبح طير
القلب بسكين الشوق على باب الجبروت، واذبح طير النفس بسكين
العشق في ميادين الفردانية، واذبح طير الروح بسكين العجز في
تيه عزة أسرار الربانية ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ
مِنْهُنَّ جُزْءاً فاجعل العقل على جبل العظمة حتى يتراكم عليه
أنوار سلطنة الربوبية فيصير موصوفا بها ليدركني بي بعد فنائه
في، واجعل القلب على جبل الكبرياء حتى ألبسه سناء قدسي فيتيه
في بيداء التفكير منعوتا بصرف نور المحبة، واجعل النفس على جبل
العزة حتى ألبسها نور العظمة لتصير مطمئنة عند جريان ربوبيتي
عليها فلا تنازعني في العبودية ولا تطلب أوصاف الربوبية، واجعل
الروح على جبل جمال الأزل حتى ألبسها نور النور وعز العز وقدس
القدس لتكون منبسطة في السكر مطمئنة في الصحو عاشقة في
الانبساط راسخة في
(2/30)
مَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ
حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ
مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا
مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ
مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا
أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى
كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ
عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا
يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ
وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ
أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ
يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ
مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ
وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ
نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ
الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ
وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا
الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا
أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ
حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ
وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ
مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ
فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا
أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ
أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا
الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا
الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا
تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا
تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا
تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ
يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ
تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ
إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ
عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ
بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ
أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا
هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا
يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا
إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ
رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى
اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي
الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ
(276)
التجليات ثُمَّ ادْعُهُنَّ ونادهنّ بصوت سر
العشق يَأْتِينَكَ سَعْياً إلى محض العبودية بجمال الأحدية
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ يعزك بعرفانك هذه المعاني
واطلاعك على صفاته القديمة حَكِيمٌ في ظهوره بغرائب التجلي
لأسرار باطنك، وقد يقال: أشار سبحانه بالأربعة من الطير إلى
القوى الأربعة التي تمنع العبد عن مقام العيان وشهود الحياة
الحقيقية، ووقع في أثر أنها كانت طاوسا، وديكا، وغرابا،
وحمامة، ولعل الطاوس إشارة إلى العجب، والديك إلى الشهوة،
والغراب إلى الحرص، والحمامة إلى حب الدنيا لإلفها الوكر
والبرج، وفي أثر بدل الحمامة بطة، وفي آخر نسر، وكأن الأوّل
إشارة إلى الشره الغالب، والثاني إلى طول الأمل، ومعنى
فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ حينئذ ضمهنّ وأملهنّ إليك بضبطها ومنعها
عن الخروج إلى طلب لذاتها والنزوع إلى مألوفاتها،
وفي الأثر أنه عليه الصلاة والسلام أمر بأن يذبحها وينتف ريشها
ويخلط لحومها ودماءها بالدق ويحفظ رؤوسها عنده- أي يمنعها عن
أفعالها ويزيل هيئاتها عن النفس ويقمع دواعيها وطبائعها
وعاداتها بالرياضة ويبقي أصولها فيه- ثم أمر أن يجعل على كل من
الجبال التي بحضرته وهي العناصر الأربعة التي هي أركان بدنه
جزءا منهنّ
وكأنه عليه الصلاة والسلام أمر بقمعها وإماتتها حتى لا يبقى
إلا أصولها المركوزة في الوجود والمواد المعدة في طبائع
العناصر التي هي فيه،
وفي رواية أن الجبال كانت سبعة
فعلى هذا يشير بها إلى الأعضاء السبعة التي هي أجزاء البدن،
وفي أخرى أنها كانت عشرة وعليها ربما تكون إشارة إلى الحواس
الظاهرة والباطنة، وأشار سبحانه بالأمر بالدعاء إلى أنه إذا
كانت هاتيك الصفات حية بحياتها كانت غير منقادة وحشية ممتنعة
عن قبول الأمر فإذا قتلت كانت حية بالحياة الحقيقية الموهومة
بعد الفناء والمحو وهي حياة العبد وعند ذلك تكون مطيعة منقادة
متى دعيت أتت سعيا وامتثلت طوعا وذلك هو الفوز العظيم.
(2/31)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في وجوه الخيرات الشاملة للجهاد وغيره،
وقيل: المراد الإنفاق في الجهاد لأنه الذي يضاعف هذه الأضعاف،
وأما الإنفاق في غيره فلا يضاعف كذلك وإنما تجزى الحسنة بعشر
أمثالها كَمَثَلِ حَبَّةٍ خبر عن المبتدأ قبله ولا بد من تقدير
مضاف في أحد الطرفين أي مثل نفقة الذين كَمَثَلِ حَبَّةٍ أو
مثلهم كمثل باذر حبة ولولا ذلك لم يصح التمثيل، والحبة واحدة
الحب وهو ما يزرع للاقتيات وأكثر إطلاقه على البر وبذر ما لا
يقتات به من البقل حبة بالكسر أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ أي
أخرجت تلك الحبة ساقا تشعب منه سبع شعب لكل واحد منها سنبلة.
فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ كما نرى ذلك في كثير من
الحب في الأراضي المغلة بل أكثر من ذلك، والسنبلة على وزن
فنعلة فالنون زائدة لقولهم أسبل الزرع بمعنى سنبل إذا صار فيه
السنبل، وقيل: وزنه فعلله فالنون أصلية والأول هو المشهور
وإسناد الإنبات إلى الحبة مجاز لأنها سبب للإنبات- والمنبت في
الحقيقة هو الله تعالى- وهذا التمثيل تصوير للإضعاف كأنها
حاضرة بين يدي الناظر فهو من تشبيه المعقول بالمحسوس.
وَاللَّهُ يُضاعِفُ هذه المضاعفة أو فوقها إلى ما شاء الله
تعالى، واقتصر بعض على الأول، وبعض على الثاني، والتعميم أتم
نفعا لِمَنْ يَشاءُ من عبادة المنفقين على حسب حالهم من
الإخلاص والتعب وإيقاع الإنفاق في أحسن مواقعه،
أخرج ابن ماجه، وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه،
وأبي الدرداء، وأبي هريرة، وعمران بن حصين،
(2/32)
وأبي أمامة، وعبد الله بن عمر، وجابر بن
عبد الله رضي الله عنهم كلهم يحدث عن رسول الله صلّى الله عليه
وسلم قال: «من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل
درهم سبعمائة درهم ومن غزا بنفسه في سبيل الله تعالى وأنفق في
وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم» ثم تلا
هذه الآية
وعن معاذ بن جبل «إن غزاة المنفقين قد خبأ الله تعالى لهم من
خزائن رحمته ما ينقطع عنه علم العباد» وَاللَّهُ واسِعٌ لا
يضيق عليه ما يتفضل به من الزيادة عَلِيمٌ بنية المنفق وسائر
أحواله، ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر قصة
المار على القرية، وقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام- وكانا من
أدل دليل على البعث- ذكر ما ينتفع به يوم البعث وما يجد جزاءه
هناك وهو الإنفاق في سبيل الله تعالى كما أعقب قصة الَّذِينَ
خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ
[البقرة: 243] بقوله تعالى عز شأنه: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ
اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة: 245، الحديد: 11] وكما عقب
قتل داود جالوت وقوله تعالى:
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا [البقرة: 253] بقوله
سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا
رَزَقْناكُمْ [البقرة: 254] إلخ.
وفي ذكره الحبة في التمثيل هنا إشارة أيضا إلى البعث وعظيم
القدرة إذ من كان قادرا على أن يخرج من حبة واحدة في الأرض
سبعمائة حبة فهو قادر على أن يخرج الموتى من قبورهم بجامع
اشتركا فيه من التغذية والنمو الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ استئناف جيء به لبيان كيفية
الانفاق الذي بين فضله.
ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا أي انفاقهم أو ما أنفقوه
مَنًّا على المنفق عليه وَلا أَذىً أي له- والمنّ- عبد الإحسان
وهو في الأصل القطع، ومنه قوله: حبل منين- أي ضعيف- وقد يطلق
على النعمة لأن المنعم يقطع من ماله قطعة للمنعم عليه، والأذى-
التطاول والتفاخر على المنفق عليه بسبب إنفاقه، وإنما قدم
المنّ لكثرة وقوعه وتوسيط كلمة لا لشمول النفي لاتباع كل واحدة
منهما، وثُمَّ للتفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى في
الرتبة والبعد بينهما في الدرجة، وقد استعيرت من معناها الأصلي
وهو تباعد الأزمنة لذلك- وهذا هو المشهور في أمثال هذه
المقامات- وذكر في الانتصاف وجها آخر في ذلك وهو الدلالة على
دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء الطول في استصحابه وعلى هذا لا
تخرج عن الأشعار ببعد الزمن ولكن معناها الأصلي تراخي زمن وقوع
الفعل وحدوثه ومعناها المستعارة له دوام وجود الفعل وتراخي زمن
بقائه وعليه يحمل قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: 30،
الأحقاف:
13] أي داوموا على الاستقامة دواما متراخيا ممتد الأمد وتلك
الاستقامة هي المعتبرة لا ما هو منقطع إلى ضده من الحيد إلى
الهوى والشهوات، وكذلك ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ إلخ أي يدومون على
تناسي الإحسان وعلى ترك الاعتداد به والامتنان ليسوا بتاركيه
في أزمنة ثم يثوبون إلى الإيذاء وتقليد المنّ، وبسببه مثله يقع
في السين نحو إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:
99] إذ ليس لتأخر الهداية معنى فيحمل على دوان الهداية الحاصلة
له وتراخي بقائها وتمادي أمدها- وهو كلام حسن- ولعله أولى مما
ذكروه لأنه أبقى للحقيقة وأقرب للوضع على أحسن طريقة.
والآية كما
أخرج الواحدي عن الكلبي- والعهدة عليه- نزلت في عثمان بن عفان.
وعبد الرحمن بن عوف أما عبد الرحمن فإنه جاء إلى رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم بأربعة آلاف درهم صدقة فقال: كان عندي
ثمانية آلاف درهم فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف درهم
وأربعة آلاف أقرضها ربي فقال له رسول الله صلى الله تعالى
وسلم: «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت» وأما عثمان رضي
الله تعالى عنه فقال: عليّ جهاز له في غزوة تبوك فجهز المسلمين
بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وتصدق برومة ركية كانت له على
المسلمين، وقال أبو سعيد الخدري: رأيت رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان ويقول: «يا رب عثمان
بن عفان رضيت عنه فارض عنه فما زال رافعا يديه حتى طلع الفجر»
فأنزل الله تعالى فيه الَّذِينَ يُنْفِقُونَ إلخ
لَهُمْ أَجْرُهُمْ حسبما
(2/33)
وعدهم في ضمير التمثيل وهو جملة من مبتدأ
وخبر وقعت خبرا عن الموصول، وفي تكرير الإسناد وتقييد الأجر
بقوله تعالى لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ من التأكيد والتشريف ما
لا يخفى وكان مقتضى الظاهر أن يدخل الفاء في حيز الموصول
لتضمنه معنى الشرط كما في قولك: الذي يأتيني فله درهم لكنه عدل
عن ذلك إيهاما بأن هؤلاء المنفقين مستحقون للأجر لذواتهم وما
ركز في نفوسهم من نية الخير لا لوصف الإنفاق فإن الاستحقاق به
استحقاق وصفي، وفيه ترغيب دقيق لا يهتدى إليه إلا بتوفيق، وجوز
أن يكون تخلية الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما
بعدها للايذان بأن ترتيب الأجر على ما ذكر من الإنفاق وترك
اتباع المنّ والأذى أمر بين لا يحتاج إلى التصريح بالسببية
وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ المراد بيان
دوام انتفائهما لا بيان انتفاء دوامهما وقد تقدم الكلام على
نظيرها قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أي كلام جميل يرد به السائل مثل يرحمك
الله يرزقك الله إن شاء الله تعالى أعطيك بعد هذا وَمَغْفِرَةٌ
أي ستر لما وقع من السائل من الالحاف في المسألة وغيره مما
يثقل على المسئول وصفح عنه خَيْرٌ للسائل مِنْ صَدَقَةٍ عليه
يَتْبَعُها من المتصدق أَذىً له لكونها مشوبة بضرر ما يتبعها
وخلوص الأوليين من الضرر، وقيل:
يحتمل أن يراد بالمغفرة مغفرة الله تعالى للمسؤول بسبب تحمله
ما يكره من السائل أو مغفرة السائل ما يشق عليه من رد المسئول
خَيْرٌ للمسؤول من تلك الصدقة، وفيه أن الأنسب أن يكون المفضل
والمفضل عليه في هذا المقام كلاهما صفتي شخص واحد- وعلى هذين
الوجهين- ليس كذلك على أن اعتبار الخيرية فيهما يؤدي إلى أن
يكون في القصة الموصوفة بالنسبة إليه خَيْرٌ في الجملة مع
بطلانها بالمرة، وجعل الكلام من باب هو خير من لا شيء ليس
بشيء، والجملة مستأنفة مقررة لاعتبار ترك اتباع المنّ والأذى،
وإنما لم يذكر المنّ لأن الأذى يشمله وغيره، وذكره فيما تقدم
اهتماما به لكثرة وقوعه من المتصدقين وعسر تحفظهم عنه، وصح
الابتداء بالنكرة في الأول لاختصاصها بالوصف وفي الثاني بالعطف
أو بالصفة المقدرة، وقد يقال: إن المعطوف تابع لا يفتقر إلى
مسوغ.
وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن صدقات العباد وإنما أمرهم بها بمصلحة
تعود إليهم أو عن الصدقة بالمنّ والأذى فلا يقبلها، أو غني لا
يحوج الفقراء إلى تحمل مؤونة المنّ والأذى ويرزقهم من جهة أخرى
حَلِيمٌ فلا يعجل بالعقوبة على المنّ والإيذاء لا أنهم لا
يستحقونها بسببهما، والجملة تذييل لما قبلها مشتملة على الوعد
والوعيد مقررة لاعتبار الخيرية بالنسبة إلى السائل قطعا يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أقبل عليهم بالخطاب إثر بيان ما
بين بطريق الغيبة البالغة في إيجاب العمل بموجب النهي ولذلك
ناداهم بوصف الإيمان لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ
وَالْأَذى أي بكل واحد منهما لأن النفي أحق بالعموم وأدل عليه،
والمراد بالمنّ المنّ على الفقير كما تقدم وهو المشهور، وعن
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المراد به المنّ على الله
تعالى، وبالأذى الأذى للفقير، واستشكل ابن عطية هذه الآية بأن
ظاهرها يستدعى أن أجر الصدقة يبطل بأحد هذين الأمرين ولا يمكن
توجه الابطال بذلك إلى نفس الصدقة لأنها قد ثبتت في الواقع فلا
يعقل إبطالها ومن العقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات خلافا
للمعتزلة، والآية أحد متمسكاتهم، وأجيب بأن الصدقة التي يعلم
الله تعالى من صاحبها أنه يمنّ ويؤذي لا تقبل حتى قيل: إنه
سبحانه يجعل للملك علامة فلا يكتبها، والإبطال المتنازع فيه
إنما هو في عمل صحيح وقع عند الله تعالى في حيز القبول وما هنا
ليس كذلك، فمعنى لا تُبْطِلُوا حينئذ لا تأتوا بهذا العمل
باطلا كذا قالوا، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر إلا أن قوله تعالى:
كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ فيه نوع تأييد له
بناء على أن كَالَّذِي في محل نصب إما على أنه نعت لمصدر محذوف
أي لا تبطلوها إبطالا كإبطال الذي إلخ وإما على أنه حال من
فاعل لا تُبْطِلُوا أي لا تبطلوها مشابهين الذي ينفق أي الذي
يبطل إنفاقه بالرياء، ووجه التأييد أن المرائي بالإجماع لم يأت
بالعمل مقبولا صحيحا، وإنما أتي به باطلا مردودا، وقد وقع
التشبيه في البين فتدبر، وانتصاب رِئاءَ إما على أنه علة لينفق
أي لأجل ريائهم أو على أنه حال من فاعله أي
(2/34)
ينفق ماله مرائيا، وجعله نعتا لمصدر محذوف
أي إنفاقا رياء الناس ليس بشيء، وقريب منه جعل الجار حالا من
ضمير المصدر المقدر لأنه لا يتمشى إلا على رأي سيبويه، وأصل
رياء رِئاءَ فالهمزة الأولى عين الكلمة والثانية بدل من ياء هي
لام لأنها وقعت طرفا بعد ألف زائدة، ويجوز تخفيف الهمزة الأولى
بأن تقلب ياء فرارا من ثقل الهمزة بعد الكسرة، وقد قرأ به
الخزاعي، والشموني، وغيرهما، والمفاعلة في فعله عند السمين على
بابها لأن المرائي يري الناس أعماله والناس يرونه الثناء عليه
والتعظيم له والمراد من الموصول ما يشمل المؤمن والكافر- كما
قيل- وغالب المفسرين على أن المراد به المنافق لقوله تعالى:
وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ حتى يرجو ثوابا
أو يخشى عقابا فَمَثَلُهُ أي المرائي في الإنفاق، والفاء لربط
ما بعدها بما قبلها كَمَثَلِ صَفْوانٍ أي حجر كبير أملس وهو
جمع صفوانة (1) أو صفاء، أو اسم جنس. ورجح بعود الضمير إليه
مفردا في قوله تعالى: عَلَيْهِ تُرابٌ أي شيء يسير منه
فَأَصابَهُ وابِلٌ أي مطر شديد الوقع. والضمير للصفوان، وقيل:
للتراب.
فَتَرَكَهُ صَلْداً أي أملس ليس عليه شيء من الغبار أصلا، وهذا
التشبيه يجوز أن يكون مفرقا فالنافق المنافق كالحجر في عدم
الانتفاع ونفقته كالتراب لرجاء النفع منهما بالأجر والإنبات،
ورياؤه كالوابل المذهب له سريعا الضار من حيث يظن النفع ولو
جعل مركبا لصح، وقيل: إنه هو الوجه والأول ليس بشيء.
لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا أي لا يجدون ثواب
شيء مما أنفقوا رياء ولا ينتفعون به قطعا، والجملة مبينة لوجه
الشبه أو استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا يكون حالهم
حينئذ فقيل: لا يقدرون، وجعلها حالا من الذي كما قال: السمين
مهزول من القول كما لا يخفى، والضمير راجع إلى الموصول باعتبار
المعنى ما بعد روعي لفظه إذ هو صفة لمفرد لفظا مجموع معنى
كالجمع والتفريق، أو هو مستعمل للجمع كما في قوله تعالى:
وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التوبة: 69] على رأي، وقوله:
إن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد
(2)
وقيل: إن من والذي يتعاقبان فعومل هنا معاملته، ولا يخفى بعده،
ورجوع الضمير إلى الَّذِينَ آمَنُوا من قبل بالالتفات مما لا
يلتفت إليه. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ إلى
ما ينفعهم، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله، وفيه تعريض بأن
كلّا من الرياء والمنّ والأذى على الإنفاق من صفات الكفار ولا
بد للمؤمنين أن يجتنبوها. وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي لطلب رضاه أو
طالبين له. وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي ولتثبيت أو
مثبتين بعض أنفسهم على الإيمان- فمن تبعيضية- كما في قولهم هزّ
من عطفيه وحرك من نشاطه فإن للنفس قوى بعضها مبدأ بذل المال،
وبعضها مبدأ بذل الروح فمن سخر قوة بذل المال لوجه الله تعالى
فقد ثبت بعض نفسه، ومن سخر قوة بذل المال وقوة بذل الروح فقد
ثبت كل نفس، وقد يجعل مفعول تثبيتا محذوفا أي تثبيتا للإسلام
وتحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم وقلوبهم. فمن ابتدائية كما في
قوله تعالى: حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة: 109]
ويحتمل أن يكون المعنى وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ عند
المؤمنين أنها صادقة الإيمان مخلصة فيه، ويعضده قراءة مجاهد:
«وتبيينا من أنفسهم» وجوز أن تكون مِنْ بمعنى اللام والمعنى
توطينا لأنفسهم على طاعة الله تعالى. وإلى ذلك ذهب أبو علي
__________
(1) قوله: وهو جمع إلخ كذا بخطه رحمه الله.
(2) هو من شعر للأشهب النهشلي وهو شاعر إسلامي من طبقة
الفرزدق، وقيل: للحارث بن مخفض، و «حانت» بمعنى هلكت وذهبت، و
«فلج» بالسكون موضع بقرب البصرة، والمراد بدمائهم نفوسهم اهـ
إدارة الطباعة المنيرية.
(2/35)
الجبائي- وليس بالبعيد- وفيه تنبيه على أن
حكمة الإنفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل وحب المال الذي هو
الداء العضال والرأس لكل خطيئة.
كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أي بستان بنشز من الأرض، والمراد
تشبيه نفقة هؤلاء في الزكاء بهذه الجنة، واعتبر كونها في ربوة
لأن أشجار الربى تكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا للطافة هوائها
وعدم كثافته بركوده.
وقرأ ابن عامر وعاصم بربوة بالفتح، والباقون بالضم، وابن عباس
بالكسر، وقرىء «رباوة» وكلها لغات وقرئ:
«كمثل حبة» بالحاء والباء. أَصابَها وابِلٌ مطر شديد فَآتَتْ
أي أعطت صاحبها أو الناس ونسبة الإيتاء إليها مجاز. أُكُلَها
بالضم الشيء المأكول والمراد ثمرها وأضيف إليها لأنها محله أو
سببه، وقرأ أبو عمرو وابن كثير.
ونافع بسكون الكاف تخفيفا. ضِعْفَيْنِ أي ضعفا بعد ضعف
فالتثنية للتكثير، أو مثلي ما كانت تثمر في سائر الأوقات بسبب
ما أصابها من الوابل، أو أربعة أمثاله بناء على الخلاف في أن
الضعف هل هو المثل أو المثلان، وقيل:
المراد تأتي أكلها مرتين في سنة واحدة كما قيل في قوله تعالى:
تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ [إبراهيم: 25] ونصبه على الحال
من أكلها أي مضاعفا فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ أي
فيصيبها، أو فالذي يصيبها طل أو فطل يكفيها، والمراد أن خيرها
لا يخلف على كل حال لجودتها وكرم منبتها ولطافة هوائها والطل-
الرذاذ من المطر وهو اللين منه.
وحاصل هذا التشبيه أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله تعالى لا
تضيع بحال وإن كانت تتفاوت بحسب تفاوت ما يقارنها من الإخلاص
والتعب وحب المال والإيصال إلى الأحوج التقي وغير ذلك، فهناك
تشبيه حال النفقة النامية لابتغاء مرضاة الله تعالى الزاكية عن
الأدناس لأنها للتثبيت الناشئ عن ينبوع الصدق والإخلاص بحال
جنة نامية زاكية بسبب الربوة وأحد الأمرين الوابل، والطل،
والجامع النمو المقرون بالزكاء على الوجه الأتم، وهذا من
التشبيه المركب العقلي ولك أن تعتبر تشبيه حال أولئك عند الله
تعالى بالجنة على الربوة ونفقتهم القليلة والكثيرة بالوابل
والطل، فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل تلك الجنة فكذلك
نفقتهم جلت أو قلت بعد أن يطلب بها وجه الله تعالى زاكية زائدة
في زلفاهم وحسن حالهم عند ربهم جل شأنه كذا قيل:- وهو محتمل-
لأن يكون التشبيه حينئذ من المفرق- ويحتمل أن يكون من المركب-
والكلام مساق للإرشاد إلى انتزاع وجه الشبه وطريق التركيب،
والفرق إذ ذاك بأن الحال للنفقة في الأول وللمنفق في الثاني.
والحاصل أن حالهم في إنتاج القل والكثر منهم الأضعاف لاجورهم
كحال الجنة في إنتاج الوابل والطل الواصلين إليها الإضعاف
لأثمارها، واختار بعضهم الأول، وأبى آخرون الثاني فافهم
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازي كلّا من المخلص
والمرائي بما هو أعلم به، ففي الجملة ترغيب للأوّل، وترهيب
للثاني مع ما فيها من الإشارة إلى الحط على الأخير حيث قصد
بعمله رؤية من لا تغنى رؤيته من لا تغنى رؤيته شيئا وترك وجه
البصير الحقيقي الذي تغني وتفقر رؤيته عز شأنه.
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أي أيحب أحدكم، وكذلك قرأ عمر رضي الله
عنه في رواية عنه والهمزة فيه للانكار أَنْ تَكُونَ لَهُ
جَنَّةٌ وقرئ جنات مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ أي كائنة من هذين
الجنسين النفيسين على معنى أنهما الركن والأصل فيها لا على أن
لا يكون فيها غيرهما، والنخيل- قيل: اسم جمع، وقيل: جمع نخل
وهو اسم جنس جمعي، وأَعْنابٍ جمع عنبة ويقال عنباء فلا ينصرف
لألف التأنيث الممدودة وحيث جاء في القرآن ذكر هذين الأمرين
فإنما ينص على النخل دون ثمرتها وعلى ثمرة الكرم دون شجرتها
ولعل ذلك- لأن النخلة كلها منافع- ونعمت العمات: هي أصلها ثابت
وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وأعظم منافع
الكرم ثمرته دون سائره، وفي
(2/36)
بعض الآثار- ولم أجده في كتاب يعول عليه-
إن الله تعالى يقول: أتكفرون بي وأنا خالق العنب، والجنة- تطلق
على الأشجار الملتفة المتكاثفة، وعلى الأرض المشتملة عليها،
والأول أنسب بقوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
إذ على الثاني يحتاج إلى تقدير مضاف أي من تحت أشجارها وكذا
يحتاج إلى جعل إسناد الاحتراق إليها فيما سيأتي مجازيا والجملة
في موضع رفع صفة جَنَّةٌ أو في موضع نصب حال منها لوصفها
بالجار والمجرور قبل لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ الظرف
الأول في محل رفع خبر مقدم، والثاني حال من الضمير المستتر في
الخبر، والثالث نعت لمبتدأ محذوف أي رزق، أو ثمر كائن من كل
الثمرات، وجوز زيادة مِنْ على مذهب الأخفش، وحينئذ لا يحتاج
إلى القول بحذف المبتدأ، وعلى التقديرين ليس المراد بالثمرات
العموم بل إنما هو الكثير، ومن الناس من جوز كون المراد من
الثمرات المنافع، وهذا يجعل ذكر ذينك الجنسين لعدم احتواء
الجنة على ما سواهما، ومنهم من قال: إن هذا من ذكر العام بعد
الخاص للتتميم وليس بشيء وَأَصابَهُ الْكِبَرُ أي أثر فيه علو
السن والشيخوخة وهو أبلغ من كبر، والواو للحال، والجملة بتقدير
قد في موضع نصب على الحال من فاعل- يود- أي أيود أحدكم ذلك في
هذه الحال التي هي مظنة شدة الحاجة إلى منافع تلك الجنة ومئنة
العجز عن تدارك أسباب المعاش، وقيل:
الواو للعطف ووضع الماضي موضع المضارع كما قاله الفراء، أو أول
المضارع بالماضي أي لو كانت له جنة وأصابه الكبر، واعترضه أبو
حيان بأن ذلك يقتضي دخول الإصابة في حيز التمني وَأَصابَهُ
الْكِبَرُ لا يتمناها أحد، والجواب بأن ذلك غير وارد لما أن
الاستفهام للانكار فهو ينكر الجمع بينهما لا يخفى ما فيه
وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ في موضع الحال من الضمير في- أصابه
أي أصابه الكبر، والحال أن له صبية ضعفاء لا يقدرون على الكسب
وترتيب معاشه ومعاشهم، والضعفاء- جميع ضعيف كشركاء جمع شريك،
وترك التعبير بصغار مع مقابلة الكبر لأنه أنسب كما لا يخفى،
وقرئ- ضعاف- فَأَصابَها إِعْصارٌ أي ريح تستدير على نفسها
وتكون مثل المنارة وتسمى الزوبعة وهي قد تكون هابطة، وقد تكون
صاعدة خلافا لما يفهمه ظاهر كلام البعض من تخصيصها بالثانية،
وسبب الأولى أنه إذا انفصل ريح من سحابة وقصدت النزول فعارضها
في طريق نزولها قطعة من السحاب وصدمتها من تحتها ودفعها من
فوقها سائر الرياح بقيت ما بين دافعين دافع من العلو ودافع من
السفل فيعرض من الدفعين المتمانعين أن تستدير وربما زادها تعوج
المنافذ تلويا كما يعرض للشعر أن لا يتجعد بسبب التواء مسامه،
وسبب الثانية أن المادة الريحية إذا وصلت إلى الأرض وقرعتها
قرعا عنيفا ثم أثبتت فقلبتها ريح أخرى من جهتها التوت واستدارت
وقد تحدث أيضا من تلاقي ريحين شديدتين، وربما بلغت قوتها إلى
حيث تقلع الأشجار وتخطف المراكب من البحر، وعلامة النازلة أن
تكون لفائفا تصعد وتنزل معا كالراقص، وعلامة الصاعدة أن لا يرى
للفائفها إلا الصعود وقد يكون كل منهما بمحض قدرة الله تعالى
من غير توسط سبب ظاهر وربما اشتمل دور الزوبعة على بخار مشتعل
قوي فيكون نار تدور أيضا، ولتعيين هذا النوع وصف الإعصار بقوله
سبحانه: فِيهِ نارٌ وتذكير الضمير لاعتبار التذكير فيه وإنما
سمي ذلك الهواء إعصارا لأنه يلتف كما يلتف الثوب المعصور وقيل:
لأنه يعصر السحاب أو يعصر الأجسام المار بها والتنوين في النار
للتعظيم وروى عن ابن عباس أن الإعصار الريح الشديدة مطلقا وأن
المراد من النار السموم وذكر سبحانه الإعصار ووصفه بما ذكر،
ولم يقتصر على ذكر النار كأن يقال- فأصابها نار فَاحْتَرَقَتْ
لما في تلك الجملة من البلاغة ما فيها لمن دقق النظر، والفعل
المقرون بالفاء عطف على أَصابَها وقيل: على محذوف معطوف عليه
أي فأحرقها- فاحترقت- وهذا كما روى عن السدي تمثيل حال من ينفق
ويضم إلى إنفاقه ما يحبطه في الحسرة والأسف إذا كان يوم
القيامة واشتدت حاجته إلى ذلك ووجده هباء منثورا بحال من هذا
شأنه.
(2/37)
وأخرج عبد بن حميد عن عطاء أن عمر بن
الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: آية من كتاب الله تعالى ما
وجدت أحدا يشفيني عنها قوله تعالى: أيحب أحدكم أن تكون له (1)
إلخ فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين إني أجد في نفسي منها
فقال له عمر: فلم تحقر نفسك؟ فقال: يا أمير المؤمنين هذا مثل
ضربه الله تعالى فقال. أيحب أحدكم أن يكون عمره يعمل بعمل أهل
الخير وأهل السعادة حتى إذا كبر سنه وقرب أجله ورقّ عظمه وكان
أحوج ما يكون إلى أن يختم عمله بخير عمل يعمل أهل الشقاء فأفسد
عمله فأحرقه قال: فوقعت على قلب عمر وأعجبته.
وفي رواية البخاري، والحاكم، وابن جرير، وجماعة عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما قال: قال عمر يوما لأصحاب النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم: فيم ترون هذه الآية نزلت أَيَوَدُّ
أَحَدُكُمْ إلخ؟ قالوا: الله تعالى أعلم فغضب عمر فقال: قولوا
نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير
المؤمنين فقال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك قال ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما: ضربت لرجل غني عمل بطاعة الله تعالى ثم
بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله، قيل: وهذا
أحسن من أن يكون تمثيلا لمن يبطل صدقته بالمنّ والأذى والرياء،
وفصل عنه لاتصاله بمنا ذكر بعده أيضا لأن ذلك لا عمل له، وأجيب
بأن له عملا يجازى عليه بحسب ظاهر حاله وظنه وهو يكفي للتمثيل
المذكور، وأنت تعلم أن هذا لا يدفع أحسنية ذلك لا سيما وقد
قاله ترجمان القرآن وارتضاه الأمير المحدث رضي الله تعالى عنه
كَذلِكَ أي مثل ذلك البيان الواضح الجاري في الظهور مجرى
الأمور المحسوسة يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ
لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي كي تتفكروا فيها وتعتبروا بما
تضمنته من العبر وتعلموا بموجبها، أو لعلكم تعلمون أفكاركم
فيما يفنى ويضمحل من الدنيا وفيما هو باق لكم في الأخرى
فتزهدون في الدنيا وتنفقون مما أتاكم الله تعالى منها وترغبون
في الآخرة ولا تفعلون ما يحزنكم فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ أي جياد أو حلال ما
كَسَبْتُمْ أي الذي كسبتموه أو كسبكم أي مكسوبكم من النقد
وعروض التجارة والمواشي.
وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في
طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ: من الذهب والفضة وفي قوله تعالى:
وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يعني من الحب
والتمر وكل شيء عليه زكاة،
والجملة لبيان حال ما ينفق منه إثر بيان أصل الإنفاق وكيفيته
وأعاد مِنْ في المعطوف لأن كلا من المتعاطفين نوع مستقل، أو
للتأكيد- ولعله أولى- وترك ذكر- الطيبات- لعلمه مما قبله،
وقيل: لعلمه مما بعد، وبعض جعل ما عبارة عن ذلك وَلا
تَيَمَّمُوا أي تقصدوا وأصله تتيمموا بتاءين فحذفت إحداهما
تخفيفا إما الأولى وإما الثانية على الخلاف، وقرأ عبد الله ولا
تأمموا، وابن عباس تيمموا بضم التاء والكل بمعنى الْخَبِيثَ أي
الرديء وهو كالطيب من الصفات الغالبة التي لا تذكر موصوفاتها
مِنْهُ تُنْفِقُونَ الضمير المجرور للخبيث وهو متعلق- بتنفقون-
والتقديم للتخصيص، والجملة حال مقدرة من فاعل تَيَمَّمُوا أي
لا تقصدوا الخبيث قاصرين الإنفاق عليه، أو من الخبيث أي مختصا
به الإنفاق، وأيا ما كان لا يرد أنه يقتضي أن يكون النهي عن
الخبيث الصرف فقط مع أن المخلوط أيضا كذلك لأن التخصيص
لتوبيخهم بما كانوا يتعاطون من إنفاق الخبيث خاصة.
فعن عبيدة السلماني قال: سألت عليا كرم الله تعالى وجهه عن هذه
الآية فقال: نزلت في الزكاة المفروضة كان الرجل يعمد إلى التمر
فيصرمه فيعزل الجيد ناحية فإذا جاء صاحب الصدقة إعطاء من
الرديء فقال الله تعالى: وَلا
__________
(1) كذا في الأصل، والقراءة في مصاحفنا أَيَوَدُّ.
(2/38)
تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ
وقيل: متعلق بمحذوف وقع حالا من الخبيث، والضمير راجع إلى
المال الذي في ضمن القسمين، أو لما أخرجنا وتخصيصه بذلك لأن
الرداءة فيه أكثروا كذا الحرمة لتفاوت أصنافه ومجالبه،
وتُنْفِقُونَ حال من الفاعل المذكور- أي ولا تقصدوا الخبيث
كائنا من المال- أو مما أخرجنا لكم منفقين إياه وقوله تعالى:
وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ حال على كل حال من ضمير تُنْفِقُونَ أي-
والحال أنكم لستم بآخذيه في وقت من الأوقات- أو بوجه من الوجوه
إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ إلا وقت إغماضكم أو إلا بإغماضكم
فيه والإغماض كالغمض إطباق الجفن لما يعرض من النوم، وقد
استعير هنا- كما قال الراغب- للتغافل والتساهل، وقيل: إنه
كناية عن ذلك ولا يخلو عن تساهل وتغافل، وذكر أبو البقاء أنه
يستعمل متعديا- وهو الأكثر- ولازما مثل أغضى عن كذا، والآية
محتملة للأمرين، وعلى الأول يكون المفعول محذوفا أي أبصاركم،
والجمهور على ضم التاء وإسكان العين وكسر الميم، فقرأ الزهري-
تغمضوا- بتشديد الميم وعنه أيضا- تغمضوا- بضم الميم وكسرها مع
فتح التاء، وقرأ قتادة- تغمضوا- على البناء للمفعول أي تحملوا
على الإغماض أي توجدوا مغمضين وكلا المعنيين مما أثبته الحفاظ
ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، والمنسبك من أَنْ والفعل على كل
تقدير في موضع الجر كما أشرنا إليه، وجوز أبو البقاء أن يكون
في موضع النصب على الحالية، وسيبويه لا يجوز أن تقع أَنْ وما
في حيزها حالا، وزعم الفراء أَنْ هنا شرطية لأن معناه إن
أغمضتم أخذتم، وينبغي أن يغمض طرف القبول عنه، ومن البعيد في
الآية ما قيل: إن الكلام تم عند قوله تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا
الْخَبِيثَ ثم استؤنف فقيل على طريقة التوبيخ والتقريع: مِنْهُ
تُنْفِقُونَ والحال- أنكم لا تأخذونه إلا إن أغمضتم- فيه ومآله
الاستفهام الإنكاري فكأنه قيل: أمنه تنفقون إلخ، وهو على بعده
خلاف التفاسير المأثورة عن السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عن نفقاتكم وإنما أمركم بها
لانتفاعكم، وفي الأمر بأن يعلموا ذلك مع ظهور علمهم به توبيخ
لهم على ما يصنعون من إعطاء الخبيث وإيذان بأن ذلك من آثار
الجهل بشأنه عن شأنه حَمِيدٌ أي مستحق للحمد على نعمه، ومن
جملة الحمد اللائق بجلاله تحري إنفاق الطيب مما أنعم به، وقيل:
حامد بقبول الجيد والإثابة عليه، واحتج بالآية على وجوب زكاة
قليل ما تخرجه الأرض وكثيرة حتى البقل، واستدل بها على أن من
زرع في أرض اكتراها فالزكاة عليه لا على رب الأرض لأن أخرجنا
لكم يقتضي كونه على الزارع وعلى أن صاحب الحق لا يجبر على أخذ
المعيب بل له الرد وأخذ سليم بدله الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ
الْفَقْرَ استئناف لبيان سبب تيمم الخبيث في الإنفاق وتوهين
شأنه والوعد في أصل وضعه لغة شائع في الخير والشر، وأما في
الاستعمال الشائع فالوعد في الخير والإيعاد في الشر حتى يحملوا
خلافه على المجاز والتهكم، وقد استعمل هنا في الشر نظرا إلى
أصل الوضع لأن الفقر مما يراه الإنسان شرا، ولهذا يخوف الشيطان
به المتصدقين فيقول لهم: لا تنفقوا الجيد من أموالكم وأن عاقبة
إنفاقكم أن تفتقروا، وتسمية ذلك وعدا مع أنه اعتبر فيه الأخبار
بما سيكون من جهة المخبر والشيطان لم يضف مجىء الفقر إلى جهته
للإيذان بمبالغة اللعين في الأخبار بتحقق مجيئه كأنه نزله في
تقرر الوقوع منزلة أفعاله الواقعة حسب إرادته، ولوقوعه في
مقابلة وعده تعالى على طريق المشاكلة، ومن الناس من زعم أن
استعمال الوعد هنا في الخير حسب الاستعمال الشائع، والمراد أن
ما يخوفكم به هو وعد الخبر لأن الفقر للإنفاق أجل خير، ولا
يخفى أنه بمراحل عن مذاق التنزيل، وقرئ- الفقر- بالضم والسكون
وبفتحتين وضمتين وكلها لغات في الفقر وأصله كسر فقار الظهر
وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ أي الخصلة الفحشاء وهي البخل
وترك الصدقات والعرب تسمي البخيل فاحشا قال كعب:
(2/39)
أخي يا أخي «لا فاحشا» عند بيته ... ولا
برم عند اللقاء هيوب
والمراد بالأمر بذلك الإغراء والحث عليه ففي الكلام استعارة
مصرحة تبعية، وقيل: المراد بالفحشاء سائر المعاصي وحملها على
الزنا نعوذ بالله منه وجوز أن تكون بمعنى الكلمة السيئة فتكون
هذه الجملة كالتأكيد للأولى وقدم وعد الشيطان على أمره لأنه
بالوعد يحصل الاطمئنان إليه فإذا اطمأن إليه وخاف الفقر تسلط
عليه بالأمر إذ فيه استعلاء على المأمور وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ
في الإنفاق على لسان نبيكم صلى الله تعالى عليه وسلم
مَغْفِرَةً لذنوبكم، وعن قتادة لفحشائكم، والتنوين فيها
للتفخيم وكذا وصفها بقوله تعالى: مِنْهُ فهو مؤكد لفخامتها،
وفيه تصريح بما علم ضمنا من الوعد كما علمت مبالغة في توهين
أمر الشيطان وَفَضْلًا أي رزقا وخلفا- وهو المروي عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما- فتكون المغفرة إشارة إلى منافع الآخرة،
وهذا إشارة إلى منافع الدنيا.
وفي الحديث «ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان يقول
أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر:
اللهم أعط ممسكا تلفا»
وقدم منافع الآخرة لأنها أهم عند المصدق بها، وقيل: المغفرة
والفضل كلاهما في الآخرة وتقديم الأول حينئذ لتقدم التخلية على
التحلية ولكون رفع المفاسد أولى من جلب المصالح. وفي الآية
فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ
فازَ [آل عمران: 185] وحذف صفة الثاني لدلالة المذكور عليها
وَاللَّهُ واسِعٌ بالرحمة والفضل عَلِيمٌ بما تنفقونه فيجازيكم
عليه، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومثلها في قوله
تعالى:
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنها
المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه ومقدمه ومؤخره
وحلاله وحرامه وأمثاله، وفي رواية عنه الفقه في القرآن، ومثله
عن قتادة، والضحاك، وخلق كثير، وما روى ابن المنذر عن ابن عباس
أنها النبوة يمكن أن يحمل على هذا لما
أخرج البيهقي عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم: من قرأ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة ومن قرأ نصف
القرآن أعطي نصف النبوة ومن قرأ ثلثيه أعطي ثلثي النبوة ومن
قرأ القرآن كله أعطي كل النبوة ويقال له يوم القيامة اقرأ وارق
بكل آية درجة حتى ينجز ما معه من القرآن فيقال له اقبض فيقبض
فيقال له هل تدري ما في يديك؟ فإذا في يده اليمنى الخلد وفي
الأخرى النعيم»
وليس المراد من القراءة في هذا الخبر مجردها إذ ذلك مما يشترك
فيه البر والفاجر ولكن المراد قراءة بفقه ويؤيد ذلك ما أخرجه
ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء- الحكمة قراءة القرآن والفكرة
فيه- وعن مجاهد أنها الإصابة في القول والعمل، وفي رواية عنه
أنها القرآن والعلم والفقه، وفي أخرى العلم الذي تعظم منفعته
وتجل فائدته، وعن عطاء أنها المعرفة بالله تعالى، وقال أبو
عثمان: هي نور يفرق به بين الوسواس والإلهام، وقيل: غير ذلك،
وفي البحر أن فيها تسعة وعشرين قولا لأهل العلم قريب بعضها من
بعض، وعد بعضهم الأكثر منها اصطلاحا واقتصارا على ما رآه
القائل فردا مهما من الحكمة وإلا فهي في الأصل مصدر من الأحكام
وهو الإتقان في علم أو عمل أو قول أو فيها كلها، وعن مقاتل
أنها فسرت في القرآن بأربعة أوجه فتارة بمواعظ القرآن وأخرى
بما فيه من عجائب الأسرار ومرة بالعلم والفهم وأخرى بالنبوة.
قيل: ولعل الأنسب بالمقام ما ينتظم الأحكام المبينة في تضاعيف
الآية الكريمة من أحد الوجهين الأولين ومعنى إيتائها تبيينها
والتوفيق للعمل بها أي تبيينها ويوفق للعلم والعمل بها مَنْ
يَشاءُ من عباده أن يؤتيها إياه بموجب سعة فضله وإحاطة علمه
كما آتاكم ما بينه في ضمن الآي من الحكم البالغة التي يدور
عليها فلك منافعكم فاغتنموها وسارعوا إلى العمل بها وَمَنْ
يُؤْتَ الْحِكْمَةَ بناه للمفعول إما لأن المقصود بيان فضيلة
من نال الحكمة بقطع النظر عن الفاعل وإما لتعين الفاعل
والإظهار في مقام الإضمار للاعتناء بشأن هذا المظهر ولهذا قدم
من قبل على
(2/40)
المفعول الأول وللإشعار بعلة الحكم، وقرأ
يعقوب- يؤتى- على البناء للفاعل وجعل مَنْ الشرطية مفعولا
مقدما أو مبتدأ والعائد محذوف، ويؤيد الثاني قراءة الأعمش ومن-
يؤته الحكمة- فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً عظيما كَثِيراً إذ قد جمع
له خير الدارين.
أخرج الطبراني عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم: إن لقمان قال لابنه: يا بني عليك بمجالسة
العلماء واسمع كلام الحكماء فإن الله تعالى يحيي القلب الميت
بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر»
وأخرج البخاري، ومسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا حسد إلا في اثنتين رجل
آتاه الله تعالى مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله
تعالى الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها»
وأخرج الطبراني عن أبي موسى قال: «قال رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم: يبعث الله تعالى العباد يوم القيامة ثم يميز
العلماء فيقول: يا معشر العلماء إني لم أضع فيكم علمي لأعذبكم
اذهبوا فقد غفرت لكم» وفي رواية عن ثعلبة بن الحكم أنه سبحانه
يقول: «إني لم أجعل علمي وحكمي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم
على ما كان منكم ولا أبالي»
وهذا بالنسبة إلى حملة العلم الشرعي الذي جاء به حكيم الأنبياء
ونبي الحكماء حضرة خاتم الرسالة ومحدد جهات العدالة والبسالة
صلى الله تعالى عليه وسلم لا ما ذهب إليه جالينوس، وديمقراطيس،
وأفلاطون، وأرسطاليس ومن مشى على آثارهم واعتكف في رواق
أفكارهم فإن الجهل أولى بكثير مما ذهبوا إليه وأسلم بمراتب مما
عولوا عليه حتى إن كثيرا من العلماء نهوا عن النظر في كتبهم
واستدلوا على ذلك بما
أخرجه الإمام أحمد. وأبو يعلى من حديث جابر «أن عمر رضي الله
تعالى عنه استأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في جوامع
كتبها من التوراة ليقرأها ويزداد بها علما إلى علمه فغضب ولم
يأذن له وقال: لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي» وفي رواية
«يكفيكم كتاب الله تعالى»
ووجه الاستدلال أنه صلّى الله عليه وسلم لم يبح استعمال الكتاب
الذي جاء به موسى هدى ونورا في وقت كانت فيه أنوار النبوة
ساطعة وسحائب الشبه والشكوك بالرجوع إليه منقشعة فكيف يباح
الاشتغال بما وضعه المتخبطون من فلاسفة اليونان إفكا وزورا في
وقت كثرت فيه الظنون وعظمت فيه الأوهام وعاد الإسلام فيه
غريبا، وفي كتاب الله تعالى غنى عما سواه كما لا يخفى على من
ميز القشر من اللباب والخطأ من الصواب وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا
أُولُوا الْأَلْبابِ أي ما يتعظ أو ما يتفكر في الآيات إلا ذوو
العقول الخالصة عن شوائب الوهم وظلم اتباع الهوى وهؤلاء هم
الذين أوتوا الحكمة ولإظهار الاعتناء بمدحهم بهذه الصفة أقيم
الظاهر مقام المضمر، والجملة إما حال أو اعتراض تذييلي.
ومن باب الإشارة في الآيات أنها اشتملت على ثلاثة إنفاقات
متفاضلة، الأول الانفاق في سبيل الله تعالى وهو إنفاق في عالم
الملك عن مقام تجلي الأفعال، وإلى هذا أشار بقوله سبحانه:
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
كَمَثَلِ حَبَّةٍ [البقرة: 261] إلخ، والثاني الإنفاق عن مقام
مشاهدة الصفات وهو الانفاق لطلب رضا الله تعالى، وإليه أشار
بقوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ
مَرْضاتِ اللَّهِ ومن تمثيله بجنة يعلم مقدار فضله على الأول
الممثل بحبة، ولعل فضل أحدهما على الآخر كفضل الجنة على الحبة،
ومما يزيد في الفرق أن الجنة مع إيتاء أكلها تبقى بحالها بخلاف
الحبة، ولتأكيد الإشارة إلى ارتفاع رتبة هذا الإنفاق على الأول
أتى بالربوة وهي المرتفع من الأرض، والثالث الانفاق بالله
تعالى وهو عن مقام شهود الذات وهو إنفاق النفس بعد تزكيها
وإليه الإشارة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ والنفس مكتسبة بهذا
الاعتبار وجزاء الانفاق الأول الأضعاف إلى سبعمائة وتزيد لأن
يد الطول طويلة، وجزاء الثاني الجنة الصفاتية المثمرة للإضعاف
وجزاء الثالث الحكمة اللازمة للوجود الموهوب بعد البذل وهي
الخير العظيم الكثير لأنها أخص صفاته تعالى، وصاحب هذا الإنفاق
لا يزال ينفق من الحكم
(2/41)
الإلهية والعلوم اللدنية لارتفاع البين
وشهود العين وقد نبه سبحانه في أثناء ذلك على أن الإنفاق يبطله
المنّ والأذى لأنه إنما يكون محمودا لثلاثة أوجه كونه موافقا
للأمر- وهو حال له بالنسبة إليه تعالى- وكونه مزيلا لرذائل
البخل- وهو حال له بالنسبة إلى المنفق نفسه- وكونه نافعا
مريحا- وهو حال له بالنسبة إلى المستحق- فإذا منّ صاحبه وآذى
فقد خالف أمر الله تعالى وأتى بما ينافي راحة المستحق ونفعه
وظهرت نفسه بالاستطالة والاعتداد والعجب والاحتجاب بفعلها
ورؤية النعمة منها لا من الله تعالى وكلها رذائل أردأ من البخل
ولهذا كان القول الجميل خيرا من الصدقة المتبوعة بالأذى بل لا
نسبة وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ قليلة أو كثيرة سرا أو
علانية في حق أو باطل، فالآية بيان لحكم كلي شامل لجميع أفراد
النفقات أو ما في حكمها إثر بيان حكم ما كان منها في سبيل الله
تعالى أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ متعلق بالمال أو بالأفعال
بشرط أو بغير شرط في طاعة أو معصية، والنذر عقد القلب على شيء
والتزامه على وجه مخصوص قيل: وأصله الخوف لأن الشخص يعقد ذلك
على نفسه خوف التقصير أو خوف وقوع أمر خطير ومنه نذر الدم وهو
العقد على سفكه للخوف من مضرة صاحبه قال عمرو بن معدي كرب:
هم (ينذرون دمي) وأن ... ذر إن لقيت بأن أشدا
وفعله كضرب ونصر، وعن يونس فيما حكاه الأخفش تقول العرب: نذر
على نفسه نذرا ونذرت مالي فأنا أنذره نذرا فَإِنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُهُ كناية عن مجازاته سبحانه عليه وإلا فهو معلوم،
والفاء داخلة في الجواب إن كانت ما شرطية وصلة في الخبر إن
كانت موصولة وتوحيد الضمير مع أن متعلق العلم متعدد لاتحاد
المرجع بناء على كون العطف بكلمة أو وهي لأحد الشيئين، وقال
ابن عطية: إن التوحيد باعتبار المذكور وكأنه لم يعتبر المذكور
لاعتبار المرجع النفقة والنذر المذكورين دون المصدرين
المفهومين من فعليهما وهما المتعاطفان- بأو دونهما، وعلى تسليم
أن عطف الفعلين مستلزم لعطفهما لا ينبغي اعتبارهما أيضا لأن
الضمير مذكر قطعا وهما مذكر ومؤنث، واعتبار أحدهما دون الآخر
ترجيح بلا مرجح ولا يخفى ما فيه فإن مثل هذا الضمير قد يعتبر
فيه حال المقدم مراعاة للأولية كما في قوله تعالى: وَإِذا
رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة:
11] وقد يعتبر فيه حال المؤخر مراعاة للقرب كما في قوله تعالى:
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ
بَرِيئاً
[النساء: 112] وكل منهما سائغ شائع في الفصيح وما نحن فيه من
الثاني إن اعتبر المذكور صريحا والتزام التأويل في جميع ما ورد
تعسف مستغنى عنه كما لا يخفى، نعم جوز إرجاع الضمير إلى ما لكن
على تقدير كونها موصولة كما قاله غير واحد.
وَما لِلظَّالِمِينَ أي الواضعين للأشياء في غير مواضعها التي
يحق أن توضع فيها فيشمل المنفقين بالرياء والمنّ والأذى،
والمتحرين للخبيث في الإنفاق، والمنفقين في باطل والناذرين في
معصية والممتنعين عن أداء ما نذروا في حق، والباخلين بالصدقة
مما آتاهم الله تعالى من فضله، وخصهم أبو سليمان الدمشقي
بالمنفقين بالمنّ والأذى والرياء والمبذرين في المعصية ومقاتل
بالمشركين ولعل التعميم أولى مِنْ أَنْصارٍ أي أعوان ينصرونه
من بأس الله تعالى لا شفاعة ولا مدافعة وهو جمع نصير- كحبيب،
وأحباب- أو ناصر- كشاهد وأشهاد- والإتيان به جمعا على طريق
المقابلة فلا يرد أن نفي الأنصار لا يفيد نفي الناصر وهو
المراد.
والقول- بأن هذا إنما يحتاج إليه إذا جعلت مِنْ زائدة ولك أن
تجعلها تبعيضية أي شيء من الأنصار ليس بشيء كما يخفى والجملة
استئناف مقرر للوعيد المشتمل عليه مضمون ما قبله، ونفي أن يكون
للظالم على رأي مقاتل ناصر مطلقا ظاهر، وأما على تقدير أخذ
المظالم عاما أو خاصا بما قاله أبو سليمان فيحتاج إلى القول
بأن الآية خارجة مخرج الترهيب لما أن العاصي غير المشرك كيف ما
كانت معصيته يجوز أن يكون له ناصر يشفع له عند ربه،
(2/42)
واستدل بالآية على مشروعية النذر والوفاء
به ما لم يكن معصية وإلا فلا وفاء،
فقد أخرج النسائي عن عمران بن الحصين قال: «قال رسول الله صلّى
الله عليه وسلم: النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله
تعالى فذلك لله تعالى وفيه الوفاء وما كان من نذر في معصية
الله تعالى فذلك للشيطان ولا وفاء فيه، ويكره ما يكفر اليمين»
وتفصيل الكلام في النذر يأتي بعد إن شاء الله تعالى.
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ أي تظهروا إعطاءها، قال الكلبي: لما
نزلت وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ الآية قالوا: يا رسول
الله أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت، فالجملة نوع
تفصيل لبعض ما أجمل في الشرطية وبيان له ولذلك ترك العطف
بينهما، والمراد من الصدقات على ما ذهب إليه جمهور المفسرين
صدقات التطوع، وقيل:
الصدقات المفروضة، وقيل: العموم فَنِعِمَّا هِيَ- الفاء- جواب
للشرط،- ونعم- فعل ماض، وما كما قال ابن جني: نكرة تامة منصوبة
على أنها تمييز وهي مبتدأ عائد للصدقات على حذف مضاف أي
إبداؤها أو لا حذف، والجملة خبر عن هي، والرابط العموم، وقرأ
ابن كثير، وورش، وحفص بكسر النون والعين للاتباع وهي لغة هذيل
قيل:
ويحتمل أنه سكن ثم كسر لالتقاء الساكنين، وقرأ ابن عامر،
وحمزة، والكسائي بفتح النون وكسر العين على الأصل كعلم، وقرأ
أبو عمرو، وقالون: وأبو بكر بكسر النون وإخفاء حركة العين،
وروي عنهم الإسكان أيضا- واختاره أبو عبيدة- وحكاه لغة،
والجمهور على اختيار الاختلاس على الإسكان حتى جعله بعضهم من
وهم الرواة، وممن أنكره المبرد، والزجاج، والفارسي لأن فيه
جمعا بين ساكنين على غير حدة وَإِنْ تُخْفُوها أي تسروها
والضمير المنصوب إما للصدقات مطلقا وإما إليها لفظا لا معنى
بناء على أن المراد بالصدقات المبدأة المفروضة وبالمخفاة
المتطوع بها فيكون من باب- عندي درهم ونصفه- أي نصف درهم آخر،
وفي جمع الإبداء والإخفاء من أنواع البديع الطباق اللفظي كما
أن في قوله تعالى: وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ الطباق المعنوي
لأنه لا يؤتي الصدقات إلا الأغنياء قيل: ولعل التصريح بإيتائها
الفقراء مع أنه لا بد منه في الإبداء أيضا لما أن الإخفاء مظنة
الالتباس والاشتباه فإن الغني ربما يدّعي الفقر ويقدم على قبول
الصدقة سرا ولا يفعل ذلك عند الناس، وتخصيص الفقراء بالذكر
اهتماما بشأنهم، وقيل: إن المبداة لما كانت الزكاة لم يذكر
فيها الفقراء لأن مصرفها غير مخصوص بهم، والمخفاة لما كانت
التطوع بين أن مصارفها الفقراء فقط وليس بشيء لأنه بعد تسليم
أن المبداة زكاة والمخفاة تطوع لا نسلم أن مصارف الثانية
الفقراء فقط- ودون إثبات ذلك الموت الأحمر- وكأنه لهذا فسر
بعضهم الفقراء بالمصارف فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي فالإخفاء
خَيْرٌ لَكُمْ من الإبداء، وخَيْرٌ لَكُمْ من جملة الخيور،
والأول هو الذي دلت عليه الآثار والأحاديث في أفضلية الإخفاء
أكثر من أن تحصى.
أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة أن أبا ذر قال: يا رسول الله
أيّ الصدقة أفضل؟ قال: «صدقة سر إلى فقير أو جهد من مقل ثم قرأ
الآية» ،
وأخرج الطبراني مرفوعا «إن صدقة السر تطفئ غضب الرب» .
وأخرج البخاري «سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا
ظله- إلى أن قال- ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله
ما تنفق يمينه»
والأكثرون على أن هذه الأفضلية فيما إذا كان كل من صدقتي السر
والعلانية تطوعا ممن لم يعرف بمال وإلا فإبداء الفرض لغيره
أفضل لنفي التهمة وكذا الإظهار أفضل لمن يقتدي به وأمن نفسه،
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «صدقة السر في التطوع تفضل
على علانيتها سبعين ضعفا وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها
بخمس وعشرين ضعفا» وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء
كلها وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ أي والله يكفر
أو الإخفاء، والإسناد مجازي، ومِنْ تبعيضية لأن الصدقات لا
يكفر بها جميع السيئات،
(2/43)
وقيل: مزيدة على رأي الأخفش، وقرأ ابن
كثير، وأبو عمرو، وعاصم في رواية ابن عياش، ويعقوب- «نكفّر» -
بالنون مرفوعا على أنه جملة مبتدأة أو اسمية معطوفة على ما بعد
الفاء أي ونحن نكفر، وقيل: لا حاجة إلى تقدير المبتدأ، والفعل
نفسه معطوف على محل ما بعد الفاء لأنه وحده مرفوع لأن الفاء
الرابطة مانعة من جزمه لئلا يتعدد الرابط، وقرأ حمزة.
والكسائي- نكفر- بالنون مجزوما بالعطف على محل الفاء مع ما
بعدها لأنه جواب الشرط قاله غير واحد، واستشكله البدر
الدماميني بأنه صريح في أن الفاء، وما دخلت عليه في محل جزم،
وقد تقرر أن الجملة لا تكون ذات محل من الإعراب إلا إذا كانت
واقعة موقع المفرد وليس هذا من محال المفرد حتى تكون الجملة
واقعة موقع ذات محل من الإعراب وذلك لأن جواب الشرط إنما يكون
جملة ولا يصح أن يكون مفردا فالموضع للجملة بالأصالة وادعى أن
جزم الفعل ليس بالعطف على محل الجملة وإنما هو لكونه مضارعا
وقع صدر جملة معطوفة على جملة جواب الشرط الجازم وهي لو صدرت
بمضارع كان مجزوما فأعطيت الجملة المعطوفة حكم الجملة المعطوف
عليها وهو جزم صدرها إذا كان فعلا مضارعا ويمكن دفعه بالعناية
فتدبر، وقرئ- وتكفر- بالتاء مرفوعا ومجزوما على حسب ما علمت
والفعل للصدقات وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ في صدقاتكم من
الإبداء والإخفاء خَبِيرٌ عالم لا يخفى عليه شيء فيجازيكم على
ذلك كله، ففي الجملة ترغيب في الإعلان والإسرار وإن اختلفا في
الأفضلية، ويجوز أن يكون الكلام مساقا للترغيب في الثاني لقربه
ولكون الخبرة بالإبداء ليس فيها كثير مدح.
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ أي لا يجب عليك أيها الرسول أن تجعل
هؤلاء المأمورين بتلك المحاسن المنهيين عن هاتيك الرذائل
مهديين إلى الائتمار والانتهاء- إن أنت إلا بشير ونذير، وما
عليه إلا البلاغ المبين- وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي بهدايته
الخاصة الموصلة إلى المطلوب قطعا مَنْ يَشاءُ هدايته منهم،
والجملة معترضة جيء بها على طريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى سيد
المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم مع الالتفات إلى الغيبة
فيما بين الخطابات المتعلقة بأولئك المكلفين مبالغة في حملهم
على الامتثال، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن. وأبو علي الجبائي،
وهو مبني على رجوع ضمير هُداهُمْ إلى المخاطبين في تلك الآيات
السابقة، والذي يستدعيه سبب النزول رجوعه إلى الكفار،
فقد أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
«أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يأمرنا أن لا نتصدق
إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية»
وأخرج ابن جرير عنه قال: كان أناس من الأنصار لهم أنسباء
وقرابة وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم ويريدونهم أن يسلموا
فنزلت.
وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير قال: «قال رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم: لا تصدقوا إلا على أهل دينكم» فأنزل
الله تعالى لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ
أي ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل دخولهم في
الإسلام وحينئذ لا التفات، وإنما هناك تلوين الخطاب فقط،
والآية حث على الصدقة أيضا ولكن بوجه آخر والارتباط على
التقديرين ظاهر، وجعلها مرتبطة- بقوله سبحانه: يُؤْتِي
الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ [البقرة: 269] إشارة إلى قسم آخر من
الناس لم يؤتها- ليس بشيء وَما تُنْفِقُوا في وجوه البر مِنْ
خَيْرٍ أي مال فَلِأَنْفُسِكُمْ أي فهو لأنفسكم لا ينتفع به في
الآخرة غيركم «فلا تيمموا الخبيث» ولا تبطلوه بالمنّ والأذى
ورئاء الناس، أو فلا تمنعوه عن الفقراء كيف كانوا فإن نفعكم به
دينيّ ونفع الكافر منهم دنيوي، وما شرطية جازمة لتنفقوا منتصبة
به على المفعولية، مَنْ تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع صفة لاسم
الشرط مبينة ومخصصة له وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ
وَجْهِ اللَّهِ استثناء من أعم العلل وأعم الأحوال أي ما
تنفقون بسبب من الأسباب إلا لهذا السبب، أو في حال من الأحوال
إلا في هذه الحال، والجملة إما حال أو معطوفة على ما قبلها على
معنى وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فإنما يكون لكم لا عليكم
(2/44)
إذا كان حالكم أن لا تنفقوا إلا لأجل طلب
وجه الله تعالى، أو الا طالبين وجهه سبحانه لا مؤذين ولا مانين
ولا مرائين ولا متيممين الخبيث، أو على معنى ليست نفقتكم إلا
لكذا أو حال كذا فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث أو
تمنعونها فقراء المشركين من أهل الكتاب وغيرهم، وقيل: إنه نفي
بمعنى النهي أي لا تنفقوا إلا كذا وإقحام الوجه للتعظيم ودفع
الشركة لأنك إذا قلت فعلته لوجه زيد كان أجلّ من قولك: فعلته
له لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ثم كثر حتى عبر به عن الشرف
مطلقا، وأيضا قول القائل: فعلت هذا الفعل لفلان يحتمل الشركة
وأنه قد فعله له ولغيره ومتى قال: فعلته لوجهه انقطع عرق
الشركة عرفا، وجعله كثير من الخلق بمعنى الذات وبعضهم حمله هنا
على الرضا وجعل الآية على حد إلا ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ
[البقرة: 207، 265، النساء: 114] تعالى والسلف بعد أن نزهوا
فوضوا كعادتهم في المتشابه وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ
يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي تعطون جزاءه وافرا وافيا كما تشعر به
صيغة التفعيل في الآخرة حسبما تضمنته الآيات من قبل- وهو
المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- والمراد نفي أن يكون
لهم عذر في مخالفة الأمر المشار إليه في الإنفاق، فالجملة
تأكيد للشرطية السابقة وليس بتأكيد صرف وإلا لفصلت ولكنها
تضمنت ذلك من كون سياقها للاستدلال على قبح ترك ذلك الأمر
فكأنه قيل: كيف يمنّ أو يقصر فيما يرجع إليه نفعه أو كيف يفعل
ذلك فيما لو عوض وزيادة، وهي بهذا الاعتبار أمر مستقل، وقيل:
إن المعنى يوفر عليكم خلفه في الدنيا ولا ينقص به من مالكم شيء
استجابة
لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «اللهم اجعل لمنفق خلفا
ولممسك تلفا»
والتوفية إكمال الشيء وإنما حسن معها إليكم لتضمنها معنى
التأدية وإسنادها إلى ما مجازي وحقيقته ما سمعت، والآية بناء
على سبب النزول دليل على جواز دفع الصدقة للكافر وهو في غير
الواجبة أمر مقرر، وأما الواجبة التي للإمام أخذها كالزكاة فلا
يجوز، وأما غيرها كصدقة الفطر والنذر والكفارة ففيه اختلاف،
والإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يجوزه، وظاهر قوله
تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً
وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الإنسان:
8] يؤيده إذ الأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا.
وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ أي لا تنقصون شيئا مما وعدتم،
والجملة حال من ضمير إِلَيْكُمْ والعامل يوف لِلْفُقَراءِ
متعلق بمحذوف ينساق إليه الكلام ولهذا حذف أي اعمدوا للفقراء
أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء أو صدقاتكم للفقراء، والجملة
استئناف مبني على السؤال، وجوز أن يكون الجار متعلقا بقوله
تعالى: وَما تُنْفِقُوا، وقوله سبحانه: وَأَنْتُمْ لا
تُظْلَمُونَ اعتراض أي وما ننفقوا للفقراء الَّذِينَ
أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي حبسهم الجهاد أو العمل في
مرضاة الله تعالى يوف إليكم ولا يخفى بعده لا يَسْتَطِيعُونَ
لاشتغالهم بذلك ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أي مشيا فيها وذهابا
للتكسب والتجارة وهم أهل الصفة رضي الله تعالى عنهم، قاله ابن
عباس. ومحمد بن كعب القرظي- وكانوا نحوا من ثلاثمائة ويزيدون
وينقصون من فقراء المهاجرين يسكنون سقيفة المسجد يستغرقون
أوقاتهم بالتعلم والجهاد وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول
الله صلّى الله عليه وسلم، وعن سعيد بن جبير هم قوم أصابتهم
الجراحات في سبيل الله تعالى فصاروا زمنى فجعل لهم في أموال
المسلمين حقا ولعل المقصود في الروايتين بيان بعض أفراد هذا
المفهوم ودخوله فيه إذ ذاك دخولا أوليا لا الحصر إذ هذا الحكم
باق إلى يوم الدين يَحْسَبُهُمُ أي يظنهم الْجاهِلُ الذي لا
خبرة له بحالهم.
أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ أي من أجل تعففهم على المسألة-
فمن- للتعليل وأتى بها لفقد شرط من شروط النصب وهو اتحاد
الفاعل، وقيل: لابتداء الغاية والمعنى إن حسبان الجاهل غناهم
نشأ من تعففهم، والتعفف ترك الشيء وهو اتحاد الفاعل، وقيل:
لابتداء الغاية والمعنى إن حسبان الجاهل غناهم نشأ من تعففهم،
والتعفف ترك الشيء
(2/45)
والإعراض عنه مع القدرة على تعاطيه،
ومفعوله محذوف اختصارا كما أشرنا إليه، وحال هذه الجملة كحال
سابقتها تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ أي تعرف فقرهم واضطرارهم
بالعلامة الظاهرة عليهم كالتخشع والجهد ورثاثة الحال.
أخرج أبو نعيم عن فضالة بن عبيد قال: «كان رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم إذا صلى بالناس تخر رجال من قيامهم في صلاتهم
لما بهم من الخصاصة وهم أهل الصفة حتى يقول الأعراب إن هؤلاء
مجانين» .
وأخرج هو أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «كان من
أهل الصفة سبعون رجلا ليس لواحد منهم رداء» والخطاب للرسول صلى
الله تعالى عليه وسلم أو لكل من له حظ من الخطاب مبالغة في
بيان وضوح فقرهم، ووزن- سيما- عفلا لأنها من الوسم بمعنى السمة
نقلت الفاء إلى موضع العين وقلبت ياء لوقوعها بعد كسرة لا
يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً أي إلحاحا وهو أن يلازم
المسئول حتى يعطيه من قولهم لحفني من فضل لحافه أي أعطاني من
فضل ما عنده، وقيل: سمي الإلحاح بذلك لأنه يغطي القلب كما يغطي
اللحاف من تحته. ونصبه على المصدر فإنه كنوع من السؤال أو على
الحال أي ملحفين، والمعنى أنهم لا يسألون أصلا- وهو المروي عن
ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وإليه ذهب الفراء، والزجاج،
وأكثر أرباب المعاني- وعليه يكون النفي متوجها لأمرين على حد
قول الأعشى:
لا يغمز الساق من- أين ومن وصب- ... ولا يغص على- شرسوفه الصغر
واعترض بأن هذا إنما يحسن إذا كان القيد لازما للمقيد أو
كاللازم حتى يلزم من نفيه نفيه بطريق برهاني وما هنا ليس كذلك
إذ الإلحاف ليس لازما للسؤال ولا كلازمه، وأجيب بأن هذا مسلم
إن لم يكن في الكلام ما يقتضيه وهو كذلك هنا لأن التعفف حتى
يظنوا أغنياء يقتضي عدم السؤال رأسا، وأيضا تَعْرِفُهُمْ
بِسِيماهُمْ مؤيد لذلك إذ لو سألوا لعرفوا بالسؤال واستغنى عن
العرفان- بالسيما- وقيل: المراد إنهم لا يسألون وإن سألوا عن
ضرورة لم يلحوا، ومن الناس من جعل المنصوب مفعولا مطلقا للنفي
أي يتركون السؤال إلحاحا أي ملحين في الترك وهو كما ترى وَما
تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازيكم
به وهو ترغيب في الإنفاق لا سيما على هؤلاء،
أخرج البخاري، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
«قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ليس المسكين الذي
ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين الذي
يتعفف،
واقرؤوا إن شئتم لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً، وتقديم
الظرف مراعاة للفواصل أو إيماء للمبالغة.
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ
سِرًّا وَعَلانِيَةً أي يعممون الأوقات والأحوال بالخير
والصدقة، فالمراد بالليل والنهار جميع الأوقات كما أن المراد
بما بعده جميع الأحوال، وقدم الليل على النهار والسر على
العلانية للإيذان بمزية الإخفاء على الإظهار، وانتصاب سِرًّا
وَعَلانِيَةً على أنهما مصدران في موضع الحال أي مسرّين
ومعلنين، أو على أنهما حالان من ضمير الإنفاق على مذهب سيبويه،
أو نعتان لمصدر محذوف أي إنفاقا سرا، والباء بمعنى في، واختلف
فيمن نزلت،
فأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما أنها نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه كانت له أربعة
دراهم فأنفق بالليل درهما وبالنهار درهما، وسرا درهما وعلانية
درهما،
وفي رواية الكلبي، فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم: «ما حملك على هذا؟ قال: حملني أن استوجب على الله تعالى
الذي وعدني فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ألا
إن ذلك لك» .
وأخرج ابن المنذر عن ابن المسيب أن الآية كلها في عثمان بن
عفان. وعبد الرحمن بن عوف في نفقتهم في جيش العسرة، وأخرج عبد
بن حميد، وابن أبي حاتم، والواحدي من طريق حسن بن عبد الله
الصنعاني أنه سمع ابن
(2/46)
عباس رضي الله تعالى عنهما يقول في هذه
الآية: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ إلخ هم الذين يعلفون الخيل في
سبيل الله تعالى- وهو قول أبي أمامة، وأبي الدرداء، ومكحول،
والأوزاعي، ورباح بن يزيد- ولا يأبى ذلك ذكر السر والعلانية
كما لا يخفى، وقال بعضهم: إنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي
الله تعالى عنه تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل وعشرة
بالنهار وعشرة بالسر وعشرة بالعلانية، وتعقبه الإمام السيوطي-
بأن حديث تصدقه بأربعين ألف دينار رواه ابن عساكر في تاريخه عن
عائشة رضي الله تعالى عنها، وخبر أنّ الآية نزلت فيه- لم أقف
عليه وكان من ادعى ذلك فهمه مما أخرجه ابن المنذر عن ابن إسحق
قال: لما قبض أبو بكر رضي الله تعالى عنه واستخلف عمر خطب
الناس فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أيها
الناس إن بعض الطمع فقر وإن بعض اليأس غنى وإنكم تجمعون مالا
تأكلون وتؤملون ما لا تدركون واعلموا أن بعضا من الشح شعبة من
النفاق فأنفقوا خيرا لأنفسكم فأين أصحاب هذه الآية وقرأ الآية
الكريمة، وأنت تعلم أنها لا دلالة فيها على المدعى فَلَهُمْ
أَجْرُهُمْ المخبوء لهم في خزائن الفضل عِنْدَ رَبِّهِمْ
والفاء داخلة في حيز الموصول للدلالة على سببية ما قبلها،
وقيل: للعطف والخبر محذوف أي- ومنهم الذين- إلخ، ولذلك جوز
الوقف على علانية وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ تقدم تفسيره والإشارة في الآيات ظاهرة.
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا أي يأخذونه فيعم سائر أنواع
الانتفاع والتعبير عنه بالأكل لأنه معظم ما قصد به، والربا في
الأصل الزيادة من قولهم: ربا الشيء يربو إذا زاد، وفي الشرع
عبارة عن فضل مال لا يقابله عوض في معاوضة مال بمال وإنما يكتب
بالواو كالصلاة للتفخيم على لغة من يفخم وزيدت الألف بعدها
تشبيها بواو الجمع فصار اللفظ به على طبق المعنى في كون كل
منهما مشتملا على زيادة غير مستحقة فأخذ لفظ الربا الحرف
الزائد وهو الألف بسبب اللفظ الذي يشابهه وهو واو الجمع حيث
زيدت فيه الألف كما يأخذ معنى لفظ الربا بمشابهته معنى لفظ
البيع لاشتمال المعنيين على معاوضة المال بالمال بالرضا- وإن
كان أحد العوضين أزيد- وقيل: الكتابة بالواو والألف لأن للفظ
نصيبا منهما، وإنما لم تكتب الصلاة والزكاة بهما لئلا يكون في
مظنة الالتباس بالجمع، وقال الفراء: إنهم تعلموا الخط من أهل
الحيرة وهم نبط لغتهم- ربوا- بواو ساكنة فكتب كذلك وهذا مذهب
البصريين، وأجاز الكوفيون كتابته وكذا تثنيته بالياء لأجل
الكسرة التي في أوله، قال أبو البقاء: وهو خطأ عندنا لا
يَقُومُونَ أي يوم القيامة- وبه قرئ كما في الدر المنثور.
إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ أي إلا
قياما كقيام المتخبط المصروع في الدنيا- والتخبط- تفعل بمعنى
فعل وأصله ضرب متوال على أنحاء مختلفة، ثم تجوز به عن كل ضرب
غير محمود، وقيام المرابي يوم القيامة كذلك مما نطقت به
الآثار،
فقد أخرج الطبراني عن عوف بن مالك قال: «قال رسول الله صلّى
الله عليه وسلم: إياك الذنوب التي لا تغفر: الغلول فمن غل شيئا
أتي به يوم القيامة. وأكل الربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة
مجنونا يتخبط» ثم قرأ الآية،
وهو مما لا يحيله العقل ولا يمنعه، ولعل الله تعالى جعل ذلك
علامة له يعرف بها يوم الجمع الأعظم عقوبة له كما جعل لبعض
المطيعين أمارة تليق به يعرف بها كرامة له، ويشهد لذلك- أن هذه
الأمة- يبعثون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء- وإلى
هذا ذهب ابن عباس، وابن مسعود، وقتادة- واختاره الزجاج- وقال
ابن عطية: المراد تشبيه المرابي في حرصه وتحركه في اكتسابه في
الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يسرع بحركات مختلفة: قد
جن، ولا يخفى أنه مصادمة لما عليه سلف الأمة، وروي عن رسول
الله صلّى الله عليه وسلم من غير داع سوى الاستبعاد الذي لا
يعتبر في مثل هذه المقامات مِنَ الْمَسِّ أي الجنون يقال: مس
الرجل فهو ممسوس إذا جن وأصله اللمس باليد وسمي به لأن
(2/47)
الشيطان قد يمس الرجل وأخلاطه مستعدة
للفساد فتفسد ويحدث الجنون، وهذا لا ينافي ما ذكره الأطباء من
أن ذلك من غلبة مرة السوداء وما ذكروه سبب قريب- وما تشير إليه
الآية سبب بعيد- وليس بمطرد أيضا بل ولا منعكس فقد يحصل مس ولا
يحصل جنون كما إذا كان المزاج قويا وقد يحصل جنون ولم يحصل مس
كما إذا فسد المزاج من دون عروض أجنبي، والجنون الحاصل بالمس
قد يقع أحيانا، وله عند أهله الحاذقين أمارات يعرفونه بها، وقد
يدخل في بعض الأجساد على بعض الكيفيات ريح متعفن تعلقت به روح
خبيثة تناسبه فيحدث الجنون أيضا على أتم وجه وربما استولى ذلك
البخار على الحواس وعطلها، واستقلت تلك الروح الخبيثة بالتصرف
فتتكلم وتبطش وتسعى بآلات ذلك الشخص الذي قامت به من غير شعور
للشخص بشيء من ذلك أصلا، وهذا كالمشاهد المحسوس الذي يكاد يعد
منكره مكابرا منكرا للمشاهدات.
وقال المعتزلة. والقفال من الشافعية: إن كون الصرع والجنون من
الشيطان- باطل لأنه لا يقدر على ذلك كما قال تعالى حكاية عنه:
وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ [إبراهيم: 22] الآية
وما هنا وارد على ما يزعمه العرب ويعتقدونه من أن الشيطان يخبط
الإنسان فيصرع وأن الجني يمسه فيختلط عقله وليس لذلك حقيقة-
وليس بشيء بل هو من تخبط الشيطان بقائله ومن زعماته المردودة
بقواطع الشرع
فقد ورد «ما من مولود يولد إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا» وفي
بعض الطرق «إلا طعن الشيطان في خاصرته»
ومن ذلك يستهل صارخا إلا مريم وابنها لقول أمها وَإِنِّي
أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ
[آل عمران: 36]
وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «كفوا صبيانكم أول العشاء
فإنه وقت انتشار الشياطين»
وقد ورد في حديث المفقود الذي اختطفته الشياطين وردته في زمنه
عليه الصلاة والسلام أنه حدث من شأنه معهم قال: «فجاءني طائر
كأنه جمل قبعثري فاحتملني على خافية من خوافيه»
إلى غير ذلك من الآثار، وفي لقط المرجان في أحكام الجان كثير
منها، واعتقاد السلف وأهل السنة أن ما دلت عليه أمور حقيقية
واقعة كما أخبر الشرع عنها والتزام تأويلها كلها يستلزم خبطا
طويلا لا يميل إليه إلا المعتزلة ومن حذا حذوهم وبذلك ونحوه
خرجوا عن قواعد الشرع القويم فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون،
والآية التي ذكروها في معرض الاستدلال على مدعاهم لا تدل عليه
إذ السلطان المنفي فيها إنما هو القهر والإلجاء إلى متابعته لا
التعرض للإيذاء والتصدي لما يحصل بسببه الهلاك، ومن تتبع
الأخبار النبوية وجد الكثير منها قاطعا بجواز وقوع ذلك من
الشيطان بل وقوعه بالفعل،
وخبر «الطاعون من وخز أعدائكم الجن»
صريح في ذلك، وقد حمله بعض مشايخنا المتأخرين على نحو ما حملنا
عليه مسألة التخبط والمس حيث قال: إن الهواء إذا تعفن تعفنا
مخصوصا مستعدا للخلط والتكوين تنفرز منه وتنحاز أجزاء سمية
باقية على هوائيتها أو منقلبة بأجزاء نارية محرقة فيتعلق بها
روح خبيثة تناسبها في الشرارة وذلك نوع من الجن فإنها على ما
عرف في الكلام أجسام حية لا ترى اما الغالب عليها الهوائية أو
النارية ولها أنواع عقلاء وغير عقلاء تتوالد وتتكون فإذا نزل
واحد منها طبعا، أو إرادة على شخص أو نفذ في منافذه، أو ضرب
وطعن نفسه به يحصل فيه بحسب ما في ذلك الشر من القوة السمية
وما في الشخص من الاستعداد للتأثر منه كما هو مقتضى الأسباب
العادية في المسببات- ألم شديد مهلك غالبا مظهر للدماميل
والبثرات في الأكثر بسبب إفساده للمزاج المستعد، وبهذا يحصل
الجمع بين الأقوال في هذا الباب- وهو تحقيق حسن لم نجده لغيره
كما لم نجد ما حققناه في شأن المس- لأحد سوانا فليحفظ.
والجار والمجرور متعلق بما قبله من الفعل المنفي بناء- على أن
ما قبل إِلَّا يعمل فيما بعدها إذا كان ظرفا كما في الدر
المصون أي لا يقومون من جهة المس الذي بهم بسبب- أكلهم الربا-
أو- بيقوم- أو- يتخبطه-
(2/48)
ذلِكَ إشارة إلى الأكل أو إلى ما نزل بهم
من العذاب بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ
الرِّبا أرادوا نظمهما في سلك واحد لإفضائهما إلى الربح فحيث
حل بيع ما قيمته درهم بدرهمين حل بيع درهم بدرهمين إلا أنهم
جعلوا الربا أصلا في الحل وشبهوا البيع به روما للمبالغة كما
في قوله:
ومهمه مغبرة أرجاؤه ... كأن (لون أرضه سماؤه)
وقيل: يجوز أن يكون التشبيه غير مقلوب بناء على ما فهموه أن
البيع إنما حل لأجل الكسب والفائدة وذلك في الربا متحقق وفي
غيره موهوم وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا
جملة مستأنفة من الله تعالى ردا عليهم وإنكارا لتسويتهم،
وحاصله أن ما ذكرتم قياس فاسد الوضع لأنه معارض للنص فهو من
عمل الشيطان على أن بين البابين فرقا، وهو أن من باع ثوبا
يساوي درهما بدرهمين فقد جعل الثوب مقابلا لدرهمين فلا شيء
منهما إلا وهو في مقابله شيء من الثوب، وأما إذا باع درهما
بدرهمين فقد أخذ الدرهم الزائد بغير عوض ولا يمكن جعل الإمهال
عوضا إذ الإمهال ليس بمال حتى يكون في مقابله المال، وقيل:
الفرق بينهما أن أحد الدرهمين في الثاني ضائع حتما وفي الأول
منجبر بمساس الحاجة إلى السلعة أو بتوقع رواجها، وجوز أن تكون
الجملة من تتمة كلام الكفار إنكارا للشريعة وردا لها أي مثل
هذا من الفرق بين المتماثلات لا يكون عند الله تعالى فهي حينئذ
حالية، وفيها- قد- مقدرة ولا يخفى أنه من البعد بمكان، والظاهر
عموم البيع والربا في كل بيع وفي كل ربا إلا ما خصه الدليل من
تحريم بعض البيوع وإحلال بعض الربا، وقيل: هما مجملان فلا يقدم
على تحليل بيع ولا تحريم ربا إلا ببيان، ويؤيده ما أخرجه
الإمام أحمد، وابن ماجه، وابن جرير عن عمر بن الخطاب رضي الله
تعالى عنه أنه قال: من آخر ما أنزل آية الربا وأن رسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا فدعوا الربا
والريبة فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ أي فمن بلغه وعظ وزجر كالنهي
عن الربا واستحلاله، و «من» شرطية أو موصولة، مَوْعِظَةٌ فاعل
جاء وسقطت التاء للفصل وكون التأنيث مجازيا مع ما في الموعظة
معنى من التذكير، وقرأ أبيّ، والحسن: جاءته بإلحاق التاء مِنْ
رَبِّهِ متعلق بجاءه أو بمحذوف وقع صفة لموعظة وعلى التقديرين
فيه تعظيم لشأنها وفي ذكر الرب تأنيس لقبول الموعظة إذ فيه
إشعار بإصلاح عبده ومِنَ لابتداء الغاية أو للتبعيض وحذف
المضاف فَانْتَهى عطف على جاءه أي فاتعظ بلا تراخ وتبع النهي
فَلَهُ ما سَلَفَ أي
ما تقدم أخذه قبل التحريم لا يسترد منه، وهذا هو المروي عن
الباقر،
وسعيد بن جبير، وقيل: المراد لا مؤاخذة عليه في الدنيا ولا في
الآخرة فيما تقدم له أخذه من الربا قبل، والفاء إما للجواب أو
صلة في الخبر، وما في موضع الرفع بالظرف إن جعلت مِنَ موصولة،
وبالابتداء إن جعلت شرطية على رأي من يشترط الاعتماد، وكون
المرفوع اسم حدث، ومن لا يشترطهما يجوز كونه فاعل الظرف
وَأَمْرُهُ أي المنتهى بعد التحريم إِلَى اللَّهِ إن شاء عصمه
من الربا فلم يفعل وإن شاء لم يفعل، وقيل: المراد أنه يجازيه
على انتهائه إن كان عن قبول الموعظة وصدق النية أو يحكم في
شأنه يوم القيامة بما شاء لا اعتراض لكم عليه.
ومن الناس من جعل الضمير المجرور لما سَلَفَ أو للربا وكلاهما
خلاف الظاهر وَمَنْ عادَ أي رجع إلى ما سلف ذكره من فعل الربا
واعتقاد جوازه والاحتجاج عليه بقياسه على البيع فَأُولئِكَ
إشارة إلى- من عاد- والجمع باعتبار المعنى أَصْحابُ النَّارِ
أي ملازموها هُمْ فِيها خالِدُونَ أي ماكثون أبدا لكفرهم،
والجملة مقررة لما قبلها وجعل الزمخشري متعلق- عاد- الربا
فاستدل بالآية على تخليد مرتكب الكبيرة وعلى ما ذكرنا- وهو
التفسير المأثور- لا يبقى للاستدلال بها مساغ، واعترض بأن
الخلود لو جعل جزاء للاستحلال بقي جزاء مرتكب الفعل من غير
استحلال غير مذكور في الكلام أصلا لا عبارة ولا إشارة مع أنه
المقصود الأهم بخلاف ما لو جعل ذلك
(2/49)
إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ
الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا
تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا
يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ
نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ
إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ
كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا
عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ
شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ
ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ
وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ
تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى
وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا
أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ
ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ
وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً
حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ
وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا
فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ
اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ
كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ
مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ
الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ
وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ
آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ
تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ
بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ
الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ
وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ
رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ
رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا
اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا
حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا
تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا
وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا
عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
جزاء الفعل فإن المقصود يكون مذكورا صريحا
مع إفادته جزاء الاستحلال وأنه أمر فوق الخلود، وأجيب بأن ما
يكفر مستحلّه لا يكون إلا من كبائر المحرمات وجزاؤها معلوم
ولذا لم ينبه عليه لظهوره، وقال بعض المحققين في الجواب: إن
جعل ذلك إشارة إلى الأكل كان الجزاء القيام المذكور من القبور
إلى الموقف وكفى به نكالا، ثم أخبر أن حاملهم على الأكل كان
هذا القول فأشعر الوصف أولا أن الوعيد به ثم ذكر موجب اجترائهم
فدل على أنه وعيد كل آكل سواء كان حامله عليه ذلك القول أو لا.
وأما قوله سبحانه: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ
فَانْتَهى وقوله تعالى: وَمَنْ عادَ فهو في القائل المعتقد وإن
جعل إشارة إلى القيام المذكور فالجزاء ما يفهم من ضم الفعل إلى
القول فإنه لو لم يكن له مدخل في التعذيب لم يحسن في معرض
الوعيد، والقول بأن المتعلق الربا والآية محمولة على التغليظ
خلاف الظاهر فتدبر.
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أي يذهب بركته ويهلك المال الذي يدخل
فيه،
أخرج أحمد، وابن ماجه، وابن جريج، والحاكم وصححه عن ابن مسعود
عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «إن الربا وإن كثر
فعاقبته تصير إلى قلّ» .
وأخرج عبد الرزاق عن معمر قال: سمعنا أنه لا يأتي على صاحب
الربا أربعون سنة حتى يمحق، ولعل هذا مخرج الغالب، وعن الضحاك
أن هذا المحق في الآخرة بأن يبطل ما يكون منه مما يتوقع نفعه
فلا يبقى لأهله منه شيء وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ يزيدها ويضاعف
ثوابها ويكثر المال الذي أخرجت منه الصدقة.
أخرج البخاري. ومسلم عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم: من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب- ولا يقبل
الله تعالى إلا طيبا- فإن الله تعالى يقبلها بيمينه ثم يربيها
لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل» وأخرج
الشافعي، وأحمد مثل ذلك.
والنكتة في الآية أن المربي إنما يطلب في الربا زيادة في المال
ومانع الصدقة إنما يمنعها لطلب زيادة المال، فبين سبحانه أن
الربا سبب النقصان دون النماء وأن الصدقة سبب النماء دون
النقصان- كذا قيل- وجعلوه وجها لتعقيب آيات الإنفاق بآية
الربا.
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ لا يرتضي كُلَّ كَفَّارٍ متمسك بالكفر
مقيم عليه معتاد له أَثِيمٍ منهمك في ارتكابه والآية لعموم
السلب لا لسلب العموم إذ لا فرق بين واحد وواحد، واختيار صيغة
المبالغة للتنبيه على فظاعة آكل الربا ومستحله، وقد ورد في شأن
الربا وحده ما ورد فكيف حاله مع الاستحلال؟ أعاذنا الله تعالى
من ذلك.
فقد أخرج الطبراني، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: «درهم ربا أشد
على الله تعالى من ست وثلاثين زنية» وقال: «من نبت لحمه من سحت
فالنار أولى به»
وأخرج ابن ماجه وغيره عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم: إن الربا سبعون بابا أدناها مثل أن يقع
الرجل على أمه وإنّ أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه» .
وأخرج جميل بن دراج عن الإمامية عن أبي عبد الله الحسين رضي
الله تعالى عنه قال: «درهم ربا أعظم عند الله تعالى من سبعين
زنية كلها بذات محرم في بيت الله الحرام» .
وأخرج عبد الرزاق. وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال:
«لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الربا خمسة آكله
وموكله وشاهديه وكاتبه» .
(2/50)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بما وجب الإيمان
به وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ على الوجه الذي أمروا به
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ تخصيصهما بالذكر مع
اندارجهما في الأعمال للتنبيه على عظم فضلهما، فإن الأولى أعظم
الأعمال البدنية. والثانية أفضل الأعمال المالية لَهُمْ
أَجْرُهُمْ الموعود لهم حال كونه عِنْدَ رَبِّهِمْ وفي التعبير
بذلك مزيد لطف وتشريف وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ لوفور حظهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في
الظاهر اتَّقُوا اللَّهَ أي قوا أنفسكم عقابه وَذَرُوا أي
اتركوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا لكم عند الناس إِنْ كُنْتُمْ
(2/51)
مُؤْمِنِينَ
عن صميم القلب فإن دليله امتثال ما أمرتم به وهو شرط حذف جوابه
ثقة بما قبله، ومِنَ تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل
بقي، وقيل: متعلقة- يبقي وقرأ الحسن بقي بقلب الياء ألفا على
لغة طيء، والآية كما قال السدي: نزلت في العباس رضي الله تعالى
عنه ابن عبد المطلب، ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في
الجاهلية يسلفان في الربا إلى ناس من ثقيف من بني عمرة وهم بنو
عمرو بن عمير فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة من الربا فتركوها
حين نزلت.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: نزلت هذه الآية في بني عمرو
بن عمير بن عوف الثقفي، ومسعود بن عمرو بن عبد ياليل بن عمرو،
وربيعة بن عمرو، وحبيب بن عمير وكلهم إخوة وهم الطالبون،
والمطلوبون بنو المغيرة من بني مخزوم وكانوا يداينون بني
المغيرة في الجاهلية بالربا وكان النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم صالح ثقيفا فطلبوا رباهم إلى بني المغيرة وكان مالا عظيما
فقال بنو المغيرة: والله لا نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه
الله تعالى ورسوله عن المسلمين فعرفوا شأنهم معاذ بن جبل-
ويقال- عتاب بن أسيد فكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم
أن بني عمرو بن عمير يطلبون رباهم عند بني المغيرة فأنزل الله
تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ، فكتب رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم إلى معاذ بن جبل أن أعرض عليهم هذه الآية
فإن فعلوا فلهم رؤوس أموالهم وإن أبوا فآذنهم بحرب من الله
تعالى ورسوله
وذلك قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أي ما أمرتم به من
الاتقاء وترك البقايا إما مع إنكار حرمته وإما مع الاعتراف
فَأْذَنُوا أي فأيقنوا- وبذلك قرأ الحسن- وهو التفسير المأثور
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وهو كحرب المرتدين على الأول وكحرب البغاة على
الثاني، وقيل: لا حرب حقيقة وإنما هو تهديد وتخويف- وجمهور
المفسرين على الأول- وقرأ حمزة. وعاصم في رواية ابن عياش
فآذنوا بالمد أي فأعلموا بها أنفسكم أو بعضكم بعضا أو غيركم،
وهذا مستلزم لعلمهم بالحرب على أتم وجه وتنكير- حرب- للتعظيم،
ولذا لم يقل بحرب الله تعالى بالإضافة، أخرج أبو يعلى عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما أنها لما نزلت قالت ثقيف: لا يدي
لنا بحرب الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم. وَإِنْ
تُبْتُمْ عما يوجب الحرب فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ
تأخذونها لا غير لا تَظْلِمُونَ غرماءكم بأخذ الزيادة وَلا
تُظْلَمُونَ أنتم من قبلهم بالنقص من رأس المال أو به وبنحو
المطل، وقرأ المفضل عن عاصم- لا تظلمون- الأول بالبناء للمفعول
والثاني بالبناء للفاعل على عكس القراءة الأولى، والجملة إما
مستأنفة- وهو الظاهر- وإما في محل نصب على الحال من الضمير في
لكم والعامل ما تضمنه الجار من الاستقرار لوقوعه خبرا- وهو رأي
الأخفش- ومن ضرورة تعليق هذا الحكم بتوبتهم عدم ثبوته عند
عدمها لأن عدمها إن كان مع إنكار الحرمة فهم المرتدون ومالهم
المكسوب في حال الردة فيء للمسلمين عند الإمام أبي حنيفة رضي
الله تعالى عنه، وكذا سائر أموالهم عند الشافعي رضي الله تعالى
عنه، وعندنا هو لورثتهم ولا شيء لهم على كل حال وإن كان مع
الاعتراف فإن كان لهم شوكة فهم على شرف القتل لم يكد تسلم لهم
رؤوسهم فكيف برؤوس أموالهم وإلا فكذلك عند ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما،
فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال: من كان مقيما على الربا لا
ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب
عنقه، ومثله عن الصادق رضي الله تعالى عنه،
وأما عند غيرهما فهم محبوسون إلى أن تظهر توبتهم ولا يمكنون من
التصرفات رأسا فما لم يتوبوا لم يسلم لهم شيء من أموالهم بل
إنما يسلم بموتهم لورثتهم، قال المولى أبو السعود. وغيره:
واستدل بالآية على أن الممتنع عن أداء الدين مع القدرة ظالم
يعاقب بالحبس وغيره وقد فصل ذلك الفقهاء أتم تفصيل وَإِنْ كانَ
ذُو عُسْرَةٍ أي إن وقع المطلوب- ذا إعسار لضيق حال من جهة عدم
المال على- إن- كان تامة، وجوز بعض الكوفيين- إن- تكون ناقصة،
(2/52)
وذُو اسمها والخبر محذوف أي- وإن كان ذو
عسرة لكم عليه حق أو غريما أو من غرمائكم.
وقرأ عثمان رضي الله تعالى عنه ذا عسرة. وقرئ- ومن كان ذا
عسرة- وعلى القراءتين كانَ ناقصة واسمها ضمير مستكن فيها يعود
للغريم، وإن لم يذكر، والآية نزلت- كما قال الكلبي: حين قالت
بنو المغيرة لبني عمرو بن عمير: نحن اليوم أهل عسرة فأخّرونا
إلى أن تدرك الثمرة فأبوا أن يؤخروهم فَنَظِرَةٌ الفاء جواب
الشرط- ونظرة- مبتدأ خبره محذوف أي فعليكم نظرة أو فاعل بفعل
مضمر أي فتجب نظرة، وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي- فالأمر، أو
فالواجب نظرة، والنظرة كالنظرة- بسكون الظاء الانتظار، والمراد
به الإمهال والتأخير، وقرأ عطاء فناظره بإضافة ناظر إلى ضمير
ذُو عُسْرَةٍ أي فالمستحق ناظره أي منتظره وممهله وصاحب نظرته
على طريق- لابن، وتامر- وعنه أيضا- فناظره- أمر من المفاعلة أي
فسامحه بالنظرة إِلى مَيْسَرَةٍ أي إلى وقت أو وجود يسار، وقرأ
حمزة، ونافع- ميسرة- بضم السين وهما لغتان كمشرقة ومشرقة، وقرئ
بهما مضافين بحذف التاء وإقامة الإضافة مقامها فاندفع ما أورد
على هذه القراءة بأن مفعلا بالضم معدوم أو شاذ وحاصله أنها
مفعلة لا مفعل، وأجيب أيضا بأنه معدوم في الآحاد وهذا جمع
ميسرة- كما قيل في مكرم- جمع مكرمة، وقيل: أصله ميسورة فخففت
بحذف الواو بدلالة الضمة عليها وَأَنْ تَصَدَّقُوا بحذف إحدى
التاءين، وقرئ بتشديد الصاد على أن أصله تتصدقوا فقلبت التاء
الثانية صادا وأدغمت أي وتصدقكم على معسري غرمائكم برؤوس
أموالكم كلا أو بعضا خَيْرٌ لَكُمْ أي أكثر ثوابا من الإنظار،
أو خير مما تأخذونه لنفاد ذلك وبقاء هذا.
أخرج ابن المنذر عن الضحاك قال: النظرة واجبة وخير الله تعالى
الصدقة على النظرة، وقيل: المراد بالتصدق الإنظار لما
أخرج أحمد عن عمران بن الحصين قال: «قال رسول الله صلّى الله
عليه وسلم: من كان له على رجل حق فأخره كان له بكل يوم صدقة»
وضعفه الإمام مع مخالفته للمأثور بأن وجوب الإنظار ثبت بالآية
الأولى فلا بد من حمل هذه الآية على فائدة زائدة وبأن قوله
سبحانه: خَيْرٌ لَكُمْ لا يليق بالواجب بل بالمندوب، واستدل
بإطلاق الآية من قال بوجوب إنظار المعسر مطلقا سواء كان الدين
دين ربا أم لا. وهو الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله تعالى
عنه، والحسن، والضحاك، وأئمة أهل البيت، وذهب شريح، وإبراهيم
النخعي، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية عنه إلى أنه
لا يجب إلا في دين الربا خاصة وتأولوا الآية على ذلك. إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ جواب «إن» محذوف- أي إن كنتم تعلمون أنه
خير لكم عملتموه- وفيه تحريض على الفعل وَاتَّقُوا يَوْماً.
وهو يوم القيامة أو يوم الموت وتنكيره للتفخيم كما أن تعليق
الاتقاء به للمبالغة في التحذير عما فيه من الشدائد التي تجعل
الولدان شيبا تُرْجَعُونَ فِيهِ على البناء للمفعول من الرجع،
وقرئ على البناء للفاعل من الرجوع والأول أدخل كما قيل: في
التهويل، وقرئ- يرجعون- على طريق الالتفات، وقرأ أبيّ- تصيرون-
وعبد الله- تردون. إِلَى اللَّهِ أي حكمه وفصله ثُمَّ تُوَفَّى
أي تعطى كملا كُلُّ نَفْسٍ كسبت خيرا أو شرا ما كَسَبَتْ أي
جزاء ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر، والكسب العمل كيف كان كما
نطقت به اللغة ودلت عليه الآثار، وكسب الأشعري لا يشعر به سوى
الأشاعرة وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ جملة حالية من كل نفس وجمع
باعتبار المعنى، وأعاد الضمير أولا مفردا اعتبارا باللفظ، وقدم
اعتبار اللفظ لأنه الأصل ولأن اعتبار المعنى وقع رأس فاصلة
فكان تأخيره أحسن، ولك أن تقول: إن الجمع أنسب بما يكون في
يومه كما أن الإفراد أولى فيما إذا كان قبله.
أخرج غير واحد من غير طريق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
أن آية وَاتَّقُوا يَوْماً إلخ آخر ما نزل من القرآن، واختلف
في مدة بقائه بعدها عليه الصلاة والسلام فقيل: تسع ليال، وقيل:
سبعة أيام، وقيل: ثلاث ساعات،
(2/53)
وقيل: أحدا وعشرين يوما، وقيل: أحدا
وثمانين يوما ثم مات- بنفسي هو- حيا وميتا صلّى الله عليه
وسلم.
روي أنه قال: اجعلوها بين آية الربا وآية الدين، وفي رواية
أخرى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «جاءني جبرائيل فقال:
اجعلوها على رأس مائتين وثمانين آية من البقرة»
ولا يعارض الرواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في أن هذه
آخر آية نزلت ما أخرجه البخاري. وأبو عبيد. وابن جرير.
والبيهقي من طريق الشعبي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: آخر
آية أنزلها الله تعالى على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم آية
الربا، ومثله ما أخرجه البيهقي من طريق ابن المسيب عن عمر بن
الخطاب- كما قاله محمد بن سلمة فيما نقله عنه علي بن أحمد
الكرباسي- أن المراد من هذا أن آخر ما نزل من الآيات في البيوع
آية الربا، أو أن المراد إن ذلك من آخر ما نزل كما يصرح به ما
أخرجه الإمام أحمد، ولما أمر سبحانه بإنظار المعسر وتأجيله
عقبه ببيان أحكام الحقوق المؤاجلة وعقود المداينة فقال عز من
قائل:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله تعالى وبما جاء منه إِذا
تَدايَنْتُمْ أي تعاملتم وداين بعضكم بعضا بِدَيْنٍ فائدة ذكره
تخليص المشترك ودفع الإيهام نصا لأن تَدايَنْتُمْ يجيء بمعنى
تعاملتم بدين، وبمعنى تجازيتم، ولا يرد عليه أن السياق يرفعه
لأن الكلام في النصوصية على أن السياق قد لا يتنبه له إلا
الفطن، وقيل: ذكر ليرجع إليه الضمير إذ لولاه لقيل: فاكتبوا
الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن عند ذي الذوق العارف بأساليب
الكلام، واعترض بأن التداين يدل عليه فيكون من باب اعْدِلُوا
هُوَ أَقْرَبُ [المائدة: 8] وأجيب بأن الدين لا يراد به المصدر
بل هو أحد العوضين ولا دلالة للتداين عليه إلا من حيث السياق
ولا يكتفى به في معرض البيان لا سيما وهو ملبس، وقيل: ذكر لأنه
أبين لتنويع الدين إلى مؤجل، وحال لما في التنكير من الشيوع
والتبعيض لما خص بالغاية ولو لم يذكر لاحتمل أن الدين لا يكون
إلا كذلك إِلى أَجَلٍ أي وقت وهو متعلق بتداينتم، ويجوز أن
يكون صفة للدين أي مؤخر أو مؤجل إلى أجل مُسَمًّى بالأيام أو
الأشهر، أو نظائرهما مما يفيد العلم ويرفع الجهالة لا بنحو
الحصاد لئلا يعود على موضوعه بالنقض فَاكْتُبُوهُ أي الدين
بأجله لأنه أرفق وأوثق والجمهور على استحبابه لقوله سبحانه:
فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [البقرة: 283] والآية عند
بعض ظاهرة في أن كل دين حكمه ذلك، وابن عباس يخص الدين بالسلم
فقد أخرج البخاري عنه أنه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل
مسمى أن الله تعالى أجله وأذن فيه- ثم قرأ الآية- واستدل
الإمام مالك بها على جواز تأجيل القرض وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ
كاتِبٌ بِالْعَدْلِ بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين من
يتولاها إثر الأمر بها إجمالا، ومفعول- يكتب- محذوف ثقة
بانفهامه أو للقصد إلى إيقاع نفس الفعل والتقييد بالظرف
للايذان بأنه ينبغي للكاتب أن لا ينفرد به أحد المتعاملين دفعا
للتهمة، والجار متعلق بمحذوف وقع صفة للكاتب- أي ليكن الكاتب
من شأنه التسوية وعدم الميل إلى أحد الجانبين بزيادة أو نقص-
ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا- بكاتب- أو بفعله، والمراد أمر
المتداينين على طريق الكناية بكتابة عدل فقيه دين حتى يكون ما
يكتبه موثوقا به متفقا عليه بين أهل العلم، فالكلام- كما قال
الطيبي- مسوق لمعنى، ومدمج فيه آخر بإشارة النص- وهو اشتراط
الفقاهة في الكاتب لأنه لا يقدر على التسوية في الأمور الخطرة
إلا من كان فقيها- ولهذا استدل بعضهم بالآية على أنه لا يكتب
الوثائق إلا عارف بها عدل مأمون، ومن لم يكن كذلك يجب على
الإمام أو نائبه منعه لئلا يقع الفساد ويكثر النزاع والله لا
يحب المفسدين.
وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أي لا يمتنع أحد من الكتاب الموصوفين بما
ذكر أَنْ يَكْتُبَ بين المتداينين كتاب الدين كَما عَلَّمَهُ
اللَّهُ أي لأجل ما علمه الله تعالى من كتابة الوثائق وتفضل به
عليه وهو متعلق- بيكتب- والكلام على حد- وأحسن كما أحسن الله
تعالى إليك- أي- لا يأب أن يتفضل على الناس بكتابته لأجل أن
الله تعالى تفضل عليه
(2/54)
وميزه- ويجوز أن يتعلق الكاف- بأن يكتب-
على أنه نعت لمصدر محذوف أو حال من ضمير المصدر على رأي
سيبويه، والتقدير أن يكتب كتابة مثل ما علمه الله تعالى أو أن
يكتبه أي الكتب مثل ما علمه الله تعالى وبينه له بقوله سبحانه:
بِالْعَدْلِ وجوز أن يتعلق بقوله تعالى: فَلْيَكْتُبْ والفاء
غير مانعة كما في وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 3] لأنها صلة
في المعنى، والأمر بالكتابة بعد النهي عن الأداء منها على
الأول للتأكيد، واحتيج إليه لأن النهي عن الشيء ليس أمرا بضده
صريحا على الأصح فأكده بذكره صريحا اعتناء بشأن الكتابة، ومن
هذا ذهب بعضهم إلى أن الأمر للوجوب ومن فروض الكفاية ولكن
الأمر لما كان لنا لا علينا صرف عن ذلك لئلا يعود ما تقدم في
مسألة جهالة الأجل، وأما على الوجه الثاني فلا تأكيد وإنما هو
أمر بالكتابة المقيدة بعد النهي عن الامتناع من المطلقة وهذا
لا يفيد التأكيد لأن النهي عن الامتناع عن المطلق لا يدل على
الأمر بالمقيد ليكون ذكره بعده تأكيدا، وادعاه بعضهم لأنه إذا
كان الامتناع عن مطلق الكتابة منهيا فلأن يكون الامتناع عن
الكتابة الشرعية منهيا بطريق الأولى، والنهي عن الامتناع عن
الكتابة الشرعية أمر بها فيكون الأمر بالكتابة الشرعية صريحا
للتوكيد، وأيضا إذا ورد مطلق ومقيد الحادثة واحدة يحمل المطلق
على المقيد سواء تقدم المطلق أو تأخر فكما حمل الأمر بمطلق
الكتابة في الوجه الأول على الكتابة المقيدة ليفيد التأكيد فلم
لم يحمل النهي عن الامتناع عن مطلق الكتابة على الكتابة
المقيدة للتأكيد، وهل التفرقة بين الأمرين إلا تحكم بحت كما لا
يخفى؟! و «ما» قيل: إما مصدرية أو كافة- وجوز أن تكون موصولة
أو موصوفة- وعليهما فالضمير لها، وعلى الأولين للكاتب، وقدر
بعضهم على كل تقدير المفعول الثاني لعلم كتابة الوثائق فافهم
وَلْيُمْلِلِ من الإملال بمعنى الإلقاء على الكاتب ما يكتبه
وفعله أمللت، وقد يبدل أحد المضاعفين ياء ويتبعه المصدر فيه
وتبدل همزة لتطرفها بعد ألف زائدة فيقال: إملاء فهو والإملال
بمعنى أي، وليكن الملقى على الكاتب ما يكتبه من الدين الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ وهو المطلوب لأنه المشهود عليه فلا بد أن
يكون هو المقر لا غيره وانفهام الحصر من تعليق الحكم بالوصف
فإن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية والأصل عدم علة أخرى
وَلْيَتَّقِ أي الذي عليه الحق اللَّهَ رَبَّهُ جمع بين الاسم
الجليل والوصف الجميل مبالغة في الحث على التقوى بذكر ما يشعر
بالجلال والجمال وَلا يَبْخَسْ أي لا ينقص مِنْهُ أي من الحق
الذي يمليه على الكاتب شَيْئاً وإن كان حقيرا، وقرئ «شيا» بطرح
الهمزة و «شيّا» بالتشديد. وهذا هو التفسير المأثور عن سعيد بن
جبير، وقيل: يجوز أن يرجع ضمير- يتق- للكاتب وليس بشيء لأن
ضمير يبخس لمن عليه الحق إذ هو الذي يتوقع منه البخس خاصة،
وأما الكاتب فيتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص فلو أريد
نهيه لنهي عن كليهما، وقد فعل ذلك حيث أمر بالعدل، وإرجاع كل
منهما تفكيك لا يدل عليه دليل، وإنما شدد في تكليف المملي حيث
جمع فيه بين الأمر بالاتقاء والنهي عن البخس لما فيه من
الدواعي إلى المنهي عنه فإن الإنسان مجبول على دفع الضرر عنه
ما أمكن، وفي مِنْهُ وجهان: أحدهما أن يكون متعلقا ببخس ومن-
لابتداء الغاية، وثانيهما أن يكون متعلقا بمحذوف لأنه في الأصل
صفة للنكرة فلما قدمت عليه نصب حالا. وشَيْئاً إما مفعول به
وإما مصدر فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ صرح بذلك في
موضع الإضمار لزيادة الكشف لا لأن الأمر والنهي لغيره، وعليه
متعلق بمحذوف أي وجب والحق فاعل، وجوز أن يكون عَلَيْهِ خبرا
مقدما، الْحَقُّ مبتدأ مؤخرا فتكون الجملة اسمية، وعلى
التقديرين لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول سَفِيهاً
أي عاجزا أحمق قاله ابن زيد، أو جاهلا بالإملال قاله مجاهد، أو
مبذرا لماله ومفسدا لدينه قاله الشافعي أَوْ ضَعِيفاً أي
صبيا، أو شيخا خرفا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ
جملة معطوفة على مفرد هو خبر كان لتأويلها بالمفرد أي- أو غير
مستطيع
(2/55)
للاملاء بنفسه لخرس- كما روي عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما أو لما هو أعم منه ومن الجهل باللغة
وسائر العوارض المانعة، والضمير البارز توكيد للضمير المستتر
في- أن يمل- وفائدة التوكيد به رفع المجاز الذي كان يحتمله
إسناد الفعل إلى الضمير والتنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه،
وقيل: إن الضمير فاعل- ليمل- وتغيير الأسلوب اعتناء بشأن
النفي، ولا يخفى حسن الإدغام هنا والفك فيما تقدم، ومثله الفك
في قوله تعالى: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ أي متولي أمره وإن لم
يكن خصوص الولي الشرعي فيشمل القيّم والوكيل والمترجم،
والإقرار عن الغير في مثل هذه الصورة مقبول وفرق بينه وبين
الإقرار على الغير فاعرفه بِالْعَدْلِ بين صاحب الحق والمولى
عليه فلا يزيد ولا ينقص ولم يكلف بعين ما كلف به من غير الحق
لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه البخس، واستدل بعضهم-
بالآية على أنه لا يجوز أن يكون الوصي ذميا ولا فاسقا وأنه
يجوز أن يكون عبدا أو امرأة لأنه لم يشترط في الأولياء إلا
العدالة ذكره ابن الفرس- وليس بشيء كما لا يخفى.
ومن الناس من استدل بقوله سبحانه: فَلْيَكْتُبْ وَلا يَأْبَ
على وجوب الكتابة وإلى ذلك ذهب الشعبي، والجبائي، والرماني إلا
أنهم قالوا: إنها واجبة على الكفاية- وإليه يميل كلام الحسن-
وقال مجاهد، والضحاك: واجب عليه أن يكتب إذا أمر، وقيل: هي
مندوبة، وروي عن الضحاك أنها كانت واجبة ثم نسخ ذلك.
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ أي اطلبوهما ليتحملا الشهادة على
ما جرى بينكما، وجوز أن تكون السين والتاء زائدتين أي اشهدوا،
وفي اختيار صيغة المبالغة إيماء إلى طلب من تكررت منه الشهادة
فهو عالم بموقعها مقتدر على أدائها وكأن فيه رمزا إلى العدالة
لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلا وهو مقبول عندهم
ولعله لم يقل رجلين لذلك، والأمر للندب أو للوجوب على الخلاف
في ذلك مِنْ رِجالِكُمْ متعلق باستشهدوا- ومِنْ لابتداء الغاية
أو بمحذوف على أنه صفة لشهيدين، ومِنْ تبعيضية والخطاب
للمؤمنين المصدر بهم الآية، وفي ذكر الرجال مضافا إلى ضمير
المخاطبين دلالة على اشتراط الإسلام والبلوغ والذكورة في
الشاهدين، والحرية لأن المتبادر من الرجال الكاملون والأرقاء
بمنزلة البهائم، وأيضا خطابات الشرع لا تنتظم العبيد بطريق
العبارة كما بين في محله، وذهب الإمامية إلى عدم اشتراط الحرية
في قبول الشهادة وإنما الشرط فيه عندهم الإسلام والعدالة، وإلى
ذلك ذهب شريح، وابن سيرين، وأبو ثور، وعثمان البتي وهو خلاف
المروي عن علي كرم الله تعالى وجهه- فإنه لم يجوز شهادة العبد
في شيء ولم تتعرض الآية لشهادة الكفار بعضهم على بعض، وأجاز
ذلك قياسا الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وإن اختلفت
مللهم.
فَإِنْ لَمْ يَكُونا أي الشهيدان رَجُلَيْنِ أي لم يقصد
إشهادهما ولو كانا موجودين والحكم من قبيل نفي العموم لا عموم
النفي وإلا لم يصح قوله تعالى: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ أي فان
لم يكونا رجلين مجتمعين فليشهد رجل وامرأتان، أو فرجل وامرأتان
يشهدون. أو يكفون، أو فالشاهد رجل وامرأتان أو فليستشهد رجل
وامرأتان، أو فليكن رجل وامرأتان شهودا، وإن جعلت- يكن- تامة
استغنى عن تقدير شهود، وكفاية الرجل والمرأتين في الشهادة فيما
عدا الحدود والقصاص عندنا، وعند الشافعي في الأموال خاصة لا في
غيرها كعقد النكاح، وقال مالك: لا تجوز شهادة أولئك في الحدود
ولا القصاص، ولا الولاء ولا الإحصان، وتجوز في الوكالة والوصية
إذا لم يكن فيها عتق، وأما قبول شهادة النساء مفردات فقد قالوا
به في الولادة والبكارة والاستهلال وما يجري مجرى ذلك ما بين
في الكتب الفقهية، وقرئ- «وامرأتان» - بهمزة ساكنة، ولعل ذلك
لاجتماع المتحركات مِمَّنْ تَرْضَوْنَ متعلق بمحذوف وقع صفة
لرجل وامرأتان أي كائنون ممن ترضونهم والتصريح بذلك هنا مع
تحقق اعتباره في كل شهيد لقلة اتصاف النساء به
(2/56)
فلا يرد ما في البحر من أن جعله صفة
للمذكور يشعر بانتفاء هذا الوصف عن شهيدين، وقيل: هو صفة
لشهيدين- وضعف بالفصل الواقع بينهما، وقيل: بدل من- رجالكم-
بتكرير العامل وضعف بالفصل أيضا، واختار أبو حيان تعلقه-
باستشهدوا- ليكون قيدا في الجميع ويلزمه الفصل بين اشتراط
المرأتين وتعليله- وهو كما ترى- والخطاب للمؤمنين وقيل: للحكام
ولم يقل من المرضيين لافهامه اشتراط كونهم كذلك في نفس الأمر
ولا طريق لنا إلى معرفته فإن لنا الظاهر والله تعالى يتولى
السرائر مِنَ الشُّهَداءِ متعلق بمحذوف على أنه حال من العائد
المحذوف أي ممن ترضونهم حال كونهم كائنين بعض الشهداء لعلمكم
بعدالتهم وإدراج النساء في الجمع بطريق التغليب.
أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى
بيان لحكمة مشروعية الحكم واشتراط العدد في النساء أي شرع ذلك
إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت إحداهما لما أن النسيان
غالب على طبع النساء لكثرة الرطوبة في أمزجتهن، وقدرت الإرادة
لما أن قيد الطلب يجب أن يكون فعلا للآمر وباعثا عليه وليس هو
هنا إلا إرادة الله تعالى للقطع بأن الضلال والتذكير بعده ليس
هو الباعث على الأمر بل إرادة ذلك، واعترض بأن النسيان وعدم
الاهتداء للشهادة لا ينبغي أن يكون مراد الله تعالى بالإرادة
الشرعية سيما وقد أمر بالاستشهاد، وأجيب بأن الإرادة لم تتعلق
بالضلال نفسه أعني عدم الاهتداء للشهادة بل بالضلال المرتب
عليه الإذكار، ومن قواعدهم أن القيد هو مصب الغرض فصار كأنه
علق الإرادة بالإذكار المسبب عن الضلال والمرتب عليه فيؤول
التعليل إلى ما ذكرنا، وهذا أولى مما ذهب إليه البعض في الجواب
من أن المراد من الضلال الإذكار لأن الضلال سبب للإذكار فأطلق
السبب وأريد المسبب لظهور أنه لا يبقى على ظاهره معنى لقوله
تعالى: فَتُذَكِّرَ قيل: والنكتة في إيثار أَنْ تَضِلَّ إلخ
على- أن تذكر إن ضلت- الإيماء إلى شدة الاهتمام بشأن الإذكار
بحيث صار ما هو مكروه كأنه مطلوب لأجله من حيث كونه مفضيا
إليه، وإِحْداهُما الثانية يجوز أن تكون فاعل- تذكر- وليس من
وضع المظهر موضع المضمر إذ ليست المذكرة هي الناسية، ويجوز أن
تكون مفعولا لتذكر- والأخرى- فاعل وليس من قبيل ضرب موسى عيسى-
كما وهم- حتى يتعين الأول بل من قبيل- أرضعت الصغرى الكبرى-
لأن سبق إحداهما بعنوان نسبة الضلال رافع للضلال والسبب في
تقديم المفعول على الفاعل التنبيه على الاهتمام بتذكير الضال
ولهذا- كما قيل- عدل عن الضمير إلى الظاهر لأن التقديم حينئذ
لا ينبه على الاهتمام كما ينبه عليه تقديم المفعول الظاهر الذي
لو أخر لم يلزم شيء سوى وضعه موضعه الأصلي، وذكر غير واحد أن
العدول عن- فتذكرها- الأخرى- وهي قراءة ابن مسعود كما رواه
الأعمش- إلى ما في النظم الكريم لتأكيد الإبهام والمبالغة في
الاحتراز عن توهم اختصاص الضلال- بإحداهما- بعينها والتذكير
بالأخرى، وأبعد الحسين بن علي المغربي في هذا المقام فجعل ضمير
إِحْداهُما الأولى راجعا إلى الشهادتين، وضمير إِحْداهُما
الأخرى إلى المرأتين فالمعنى- أن تضل إحدى الشهادتين أي تضيع
بالنسيان فتذكر إحدى المرأتين الأخرى منهما- وأيده الطبرسي
بأنه لا يسمى ناسي الشهادة ضالا وإنما يقال: ضلت الشهادة إذا
ضاعت كما قال سبحانه: ضَلُّوا عَنَّا [الأعراف: 37] أي ضاعوا
منا، وعليه يكون الكلام عاريا عن شائبة توهم الإضمار في مقام
الإظهار رأسا وليس بشيء إذ لا يكون لاحداهما أخرى في الكلام مع
حصول التفكيك وعدم الانتظام، وما ذكر في التأييد ينبىء عن قلة
الاطلاع على اللغة.
ففي نهاية ابن الأثير وغيرها إطلاق الضال على الناسي، وقد روي
ذلك في الآية عن سعيد بن جبير، والضحاك، والربيع، والسدي،
وغيرهم، ويقرب هذا في الغرابة مما قيل: إنه من بدع التفسير وهو
ما حكي عن ابن عيينة أن معنى فَتُذَكِّرَ إلخ فتجعل إحداهما
اخرى ذكرا يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر فإن فيه
قصورا من جهة المعنى
(2/57)
واللفظ لأن التذكير في مقابلة النسيان معنى
مكشوف وغرض بيّن، ورعاية العدد لأن النسوة محل النسيان كذلك
ولأن جعلها ذكرا مجاز عن إقامتها مقام الذكر ثم تجوز ثانيا
لأنهما القائمتان مقامه فلم تجعل إحداهما الأخرى قائمة مقامه-
وبعد التجوز ليس على ظاهره- لأن الاحتياج إلى اقتران ذكر البتة
معهما، وقوله سبحانه: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ ينبئان
عن قصورهما عن ذلك أيضا- والتزام توجيه مثل ذلك، وعرضه في سوق
القبول- لا يعد فضلا بل هو عند أرباب الذوق عين الفضول، ولقد
رأيت في طراز المجالس أن الخفاجي سأل قاضي القضاة شهاب الدين
الغزنوي عن سر تكرار- إحدى- معرضا بما ذكره المغربي فقال:
يا رأس أهل العلوم السادة البرره ... ومن نداه على كل الورى
نشره
ما سر تكرار- إحدى- دون تذكرها ... في آية لذوي الاشهاد في
البقرة
وظاهر الحال إيجاز الضمير على ... تكرار إِحْداهُما لو أنه
ذكره
وحمل الاحدى على نفس الشهادة في ... أولاهما ليس مرضيا لدى
المهرة
فغص بفكرك لاستخراج جوهره ... من بحر علمك ثم ابعث لنا درره
«فأجاب القاضي» :
يا من فوائده بالعلم منتشره ... ومن فضائله في الكون مشتهره
يا من تفرد في كشف العلوم لقد ... وافى سؤالك والأسرار مستتره
(تضل إحداهما) فالقول محتمل ... كليهما فهي للاظهار مفتقره
ولو أتى بضمير كان مقتضيا ... تعيين واحدة للحكم معتبره
ومن رددتم عليه الحل فهو كما ... أشرتم ليس مرضيا لمن سبره
هذا الذي سمح الذهن الكليل به ... والله أعلم في الفحوى بما
ذكره
وقرئ «أن تضّل» بالبناء للمفعول والتأنيث، وقرئ- «فتذاكر» -
وقرأ ابن كثير، ويعقوب، وأبو عمرو، والحسن- «فتذكر» - بسكون
الذال وكسر الكاف، وحمزة أَنْ تَضِلَّ على الشرط فتذكر بالرفع
وعلى ذلك فالفعل مجزوم والفتح لالتقاء الساكنين، والفاء في
الجزاء قيل: لتقدير المبتدأ وهو ضمير القصة أو الشهادة، وقيل:
لا تقدير لأن الجزاء إذا كان مضارعا مثبتا يجوز فيه الفاء
وتركه، وقيل: الأوجه أن يقدر المبتدأ ضمير- الذاكرة-
وإِحْداهُما بدل عنه أو عن الضمير في فَتُذَكِّرَ وقال بعض
المحققين: الأوجه من هذا كله تقدير ضمير التثنية أي فهما- تذكر
إحداهما الأخرى- وعليه كلام كثير من المعربين، والقائلون عن
ذلك تفرقوا أيدي سبأ لما رأوا تنظير الزمخشري قراءة الرفع
بقوله تعالى: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ
[المائدة: 95] ولم يتفطنوا بأن ذلك إنما هو من جهة تقدير ضمير
بعد الفاء بحسب ما يقتضيه المقام لا من جهة خصوص الضمير إفرادا
وتثنية والله تعالى الملهم للرشاد فتدبر وَلا يَأْبَ
الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا لأداء الشهادة أو لتحملها- وهو
المروي عن ابن عباس، والحسن رضي الله تعالى عنهم- وخص ذلك
مجاهد. وابن جبير بالأول وهو الظاهر لعدم احتياجه إلى ارتكاب
المجاز إلا أن المروي عن الربيع أن الآية نزلت حين كان الرجل
يطوف في القوم الكثير فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه أحد منهم
فإن ظاهره يستدعي القول بمجاز المشارفة، وما صلة وهي قاعدة
مطردة بعد إِذا وَلا تَسْئَمُوا أي تملوا أو تضجروا، ومنه قول
زهير:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
(2/58)
أَنْ تَكْتُبُوهُ أي الدين، أو الحق- أو
الكتاب المشعر به الفعل والمنسبك مفعول به- لتسأموا- ويتعدى
بنفسه، وقيل: يتعدى بحرف الجر وحذف للعلم به، وقيل: المراد من-
السأم- الكسل إلا أنه كني به عنه لأنه وقع في القرآن صفة
للمنافقين كقوله تعالى: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا
كُسالى
[النساء: 142] ولذا وقع
في الحديث «لا يقول المؤمن كسلت وإنما يقول ثقلت»
وقرئ- و «لا يسأموا» - «أن يكتبوه» بالياء فيهما صَغِيراً أَوْ
كَبِيراً حالان من الضمير أي على كل حال قليلا أو كثيرا مجملا
أو مفصلا، وقيل: منصوبان على أنهما خبرا كان المضمرة وقدم
الصغير على الكبير اهتماما به وانتقالا من الأدنى إلى الأعلى
إِلى أَجَلِهِ حال من الهاء في- تكتبوه- أي مستقرا في ذمة
المدين إلى وقت حلوله الذي أقر به وليس متعلقا بتكتبوه لعدم
استمرار الكتابة إلى الأجل إذ هي مما ينقضي في زمن يسير
ذلِكُمْ أي الكتب- وهو الأقرب- أو الإشهاد- وهو الأبعد- أو
جميع ما ذكر- وهو الأحسن- والخطاب للمؤمنين أَقْسَطُ أي أعدل
عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه سبحانه. وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ
أثبت لها وأعون على إقامتها وأدائها وهما مبنيان من أقسط وأقام
على رأي سيبويه فإنه يجيز بناء أفعل من الأفعال من غير شذوذ،
وقيل: من قاسط بمعنى ذي قسط وقويم، وقال أبو حيان: قسط يكون
بمعنى جار وعدل، وأقسط بمعنى عدل لا غير حكاه ابن القطاع-
وعليه لا حاجة إلى رأي سيبويه في أقسط- وقيل: هو من قسط بوزن
كرم بمعنى صار ذا قسط أي عدل، وإنما صحت الواو في أقوم ولم يقل
أقام لأنها لم تقلب في فعل التعجب نحو ما أقومه لجموده إذ هو
لا يتصرف وأفعل التفضيل يناسبه معنى فحمل عليه وَأَدْنى أَلَّا
تَرْتابُوا أي أقرب إلى انتفاء ريبكم وشككم في جنس الدين وقدره
وأجله ونحو ذلك، قيل: وهذا حكمة خلق اللوح المحفوظ، والكرام
الكاتبين مع أنه الغني الكامل عن كل شيء تعليما للعباد وإرشادا
للحكام، وحرف الجر مقدر هنا- وهو إلى كما سمعت- وقيل: مع أنه
الغني الكامل عن كل شيء تعليما للعباد وإرشادا للحكام، وحرف
الجر مقدر هنا- وهو إلى كما سمعت- وقيل: اللام، وقيل: من، وقيل
في، ولكل وجهة إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً
تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ استثناء منقطع من الأمر بالكتابة
فقوله تعالى: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ إلى
هنا جملة معترضة بين المستثنى والمستثنى منه أي لكن وقت كون
تداينكم أو تجارتكم تجارة حاضرة بحضور البدلين تديرونها بينكم
بتعاطيها يدا بيد- كذا قيل.
وفي الدر المصون يجوز أن يكون استثناء متصلا من الاستشهاد
فيكون قد أمر بالاستشهاد في كل حال إلا في حال حضور التجارة،
وقيل: إنه استثناء من هذا وذاك وهو منقطع أيضا أي لكن التجارة
الحاضرة يجوز فيها عدم الاستشهاد والكتابة وقيل: غير ذلك- ولعل
الأول أولى- ونصب عاصم تجارة على أنها خبر تكون واسمها مستتر
فيها يعود إلى التجارة- كما قال الفراء- وعود الضمير في مثل
ذلك على متأخر لفظا ورتبة جار في فصيح الكلام، وقال بعضهم:
يعود إلى المداينة والمعاملة المفهومة من الكلام، وعليه
فالتجارة مصدر لئلا يلزم الأخبار عن المعنى بالعين، ورفعها
الباقون على أنها اسم تَكُونَ والخبر جملة تُدِيرُونَها ويجوز
أن تكون تَكُونَ تامة فجملة تُدِيرُونَها صفة فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها أي فلا مضرة عليكم أو لا
إثم في عدم كتابتكم لها لبعد ذلك عن التنازع والنسيان، أو لأن
في تكليفكم الكتابة حينئذ مشقة جدا وإدخال الفاء للإيذان بتعلق
ما بعدها بما قبلها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ أي هذا
التبايع المذكور أو مطلقا وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ
نهي عن المضارة- والفعل يحتمل البناء للفاعل والبناء للمفعول-
والدليل عليه قراءة عمر رضي الله تعالى عنه- ولا يضار- بالفك
والكسر، وقراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالفك والفتح-
والمعنى على الأول- نهي الكاتب والشاهد عن ترك الإجابة إلى ما
يطلب منهما وعن التحريف والزيادة والنقصان، وعلى الثاني النهي
عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم أولا يعطى
(2/59)
الكاتب حقه من الجعل أو يحمل الشاهد مؤونة
المجيء من بلد، ويؤيد هذا المعنى ما أخرجه ابن جرير عن الربيع
قال:
لما نزلت هذه الآية وَلا يَأْبَ كاتِبٌ إلخ كان أحدهم يجيء إلى
الكاتب فيقول: اكتب لي فيقول: إني مشغول أو لي حاجة فانطلق إلى
غيري فيلزمه ويقول: إنك قد أمرت أن تكتب لي فلا يدعه ويضاره
بذلك، وهو يجد غيره فأنزل الله تعالى وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ
وَلا شَهِيدٌ وحمل بعضهم الصيغة على المعنيين وليس بشيء كما لا
يخفى، وقرأ الحسن- ولا يضار- بالكسر وقرئ بالرفع على أنه نفي
بمعنى النهي وَإِنْ تَفْعَلُوا ما نهيتم عنه من الضرار أو منه
ومن غيره وبعيد وقوعه منكم فَإِنَّهُ أي ذلك الفعل فُسُوقٌ
بِكُمْ أي خروج عن طاعة متلبس بكم، وجوز كون الباء للظرفية،
قيل: وهو أبلغ إذ جعلوا محلا للفسق وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما
أمركم به ونهاكم عنه وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ أحكامه المتضمنة
لمصالحكم وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فلا يخفى عليه
حالكم وهو مجازيكم بذلك «فان قيل» كيف كرر سبحانه الاسم الجليل
في الجمل الثلاث وقد استكرهوا مثل قوله: فما للنوى جذ النوى
قطع النوى حتى قيل: سلط الله تعالى عليه شاة تأكل نواه؟ أجيب
بأن التكرير منه المستحسن ومنه المستقبح، فالمستحسن كل تكرير
يقع على طريق التعظيم أو التحقير في جمل متواليات كل جملة منها
مستقلة بنفسها، والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة أو
في جمل بمعنى ولم يكن فيه التعظيم والتحقير، وما في البيت من
القسم الثاني لأن- جذ النوى قطع النوى- فيه بمعنى واحد وما في
الآية درة تاج القسم الأول لأن اتَّقُوا اللَّهَ حث على تقوى
الله تعالى وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وعد بإنعامه سبحانه
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تعظيم لشأنه عز شأنه، ومن
هنا علمت وجه العطف فيها من اختلافها في الظاهر خبرا وإنشاء،
ومن الناس من جوز كون الجملة الوسطى حالا من فاعل اتَّقُوا أي
اتقوا الله مضمونا لكم التعليم، ويجوز أن تكون حالا مقدرة،
والأولى ما قدمنا لقلة اقتران الفعل المضارع المثبت الواقع
حالا بالواو.
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ أي مسافرين ففيه استعارة تبعية
حيث شبه تمكنهم في السفر بتمكن الراكب من مركوبه وَلَمْ
تَجِدُوا كاتِباً يكتب لكم حسبما بين قبل، والجملة عطف على فعل
الشرط أو حال.
وقرأ أبو العالية كتبا، والحسن، وابن عباس- كتابا جمع كاتب
فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ أي فالذي يستوثق به. أو فعليكم، أو
فليؤخذ، أو فالمشروع رهان. وهو جمع رهن وهو في الأصل مصدر ثم
أطلق على المرهون من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول- وليس
هذا التعليق لاشتراط السفر وعدم الكاتب في شرعية الارتهان
لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رهن درعه في المدينة من
يهودي على ثلاثين صاعا من شعير كما في البخاري
- بل لإقامة التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتبة في السفر
الذي هو مظنة إعوازها، وأخذ مجاهد بظاهر الآية فذهب إلى أن
الرهن لا يجوز إلا في السفر. وكذا الضحاك فذهب إلى أنه لا يجوز
في السفر إلا عند فقد الكاتب، وإنما لم يتعرض لحال الشاهد لما
أنه في حكم الكاتب توثقا وإعوازا، والجمهور على وجوب القبض في
تمام الرهن، وذهب مالك إلى أنه يتم بالإيجاب والقبول ويلزم
الراهن بالعقد تسليمه ويشترط عنده بقاؤه في يد المرتهن حتى لو
عاد إلى يد الراهن بأن أودعه المرتهن إياه أو أعاده له إعادة
مطلقة فقد خرج من الرهن فلو قام الغرماء وهو بيد الراهن على
أحد هذين الوجهين مثلا كان أسوة للغرماء فيه وكأنه إنما ذهب
إلى ذلك لما في الرهن من اقتضاء الدوام أنشد أبو علي:
فالخبز واللحم لهن راهن ... وقهوة راووقها ساكب
وفي التعبير- بمقبوضة- دون تقبضونها إيماء إلى الاكتفاء بقبض
الوكيل ولا يتوقف على قبض المرتهن نفسه وقرئ- فرهن- كسقف وهو
جمع رهن أيضا، وقرئ بسكون الهاء تخفيفا فَإِنْ أَمِنَ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي بعض الدائنين بعض المديونين بحسن ظنه
سفرا أو حضرا فلم يتوثق بالكتابة والشهود والرهن، وقرأ أبي-
فإن أو من- أي أمنه
(2/60)
الناس ووصفوا المديون بالأمانة والوفاء
والاستغناء عن التوثق من مثله، وبَعْضاً على هذا منصوب بنزع
الخافض- كما قيل- فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ وهو المديون
وعبر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقا للاعلام ولحمله على الأداء
أَمانَتَهُ أي دينه، والضمير لرب الدين أو للمديون باعتبار أنه
عليه، والأمانة مصدر أطلق على الدين الذي في الذمة وإنما سمي
أمانة وهو مضمون لائتمانه عليه بترك الارتهان به.
وقرئ- «الذيتمن» - بقلب الهمزة ياء، وعن عاصم أنه قرأ-
«الذتمن» - بإدغام الياء في الستار، وقيل هو خطأ لأن المنقلبة
عن الهمزة في حكمها فلا يدغم، ورد بأنه مسموع في كلام العرب،
وقد نقل ابن مالك جوازه لأنه قال: إنه مقصور على السماع، ومنه
قراءة ابن محيصن- «اتمن» - ونقل الصاغاني أن القول بجوازه مذهب
الكوفيين، وورد مثله في كلام أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى
عنها وهي من الفصحاء المشهود لهم،
ففي البخاري عنها كان صلى الله تعالى عليه وسلم يأمرني فأتزر
فالمخطئ مخطئ
وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ في الخيانة وإنكار الحق، وفي
الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التأكيد والتحذير
ما لا يخفى، وقد أمر سبحانه- بالتقوى- عند الوفاء حسبما أمر
بها عند الإقرار تعظيما لحقوق العباد وتحذيرا عما يوجب وقوع
الفساد.
وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ أي لا تخفوها بالامتناع عن أدائها
إذا دعيتم إليها وهو خطاب للشهود المؤمنين كما روي عن سعيد بن
جبير وغيره وجعله خطابا للمديونين على معنى لا تكتموا شهادتكم
على أنفسكم بأن تقروا بالحق عند المعاملة، أو لا تحتالوا
بإبطال شهادة الشهود عليكم بالجرح ونحوه عند المرافعة خلاف
الظاهر المأثور عن السلف الصالح، وقرئ يكتموا على الغيبة
وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ الضمير في أنه
راجع إلى مَنْ وهو الظاهر، وقيل: إنه ضمير الشأن والجملة بعده
مفسرة له، وآثِمٌ خبر إن وقلبه فاعل له لاعتماده ولا يجيء هذا
على القول بإن الضمير للشأن لأنه لا يفسر إلا بالجملة والوصف
مع مرفوعه ليس بجملة عند البصري. والكوفي يجيز ذلك، وقيل: إنه
خبر مقدم وقلبه مبتدأ مؤخر، والجملة خبر إن وعليه يجوز أن يكون
الضمير للشأن وأن يكون- لمن- وقيل: آثِمٌ خبر إن وفيه ضمير
عائد إلى ما عاد إليه ضمير- إنه- وقلبه بدل من ذلك الضمير بدل
بعض من كل، وقيل: آثِمٌ مبتدأ وقلبه فاعل سد مسد الخبر،
والجملة خبر إن، وهذا جائز عند الفراء من الكوفيين، والأخفش من
البصريين وجمهور النحاة لا يجوّزونه وأضاف الآثم إلى القلب مع
أنه لو قيل: فَإِنَّهُ آثِمٌ لتم المعنى مع الاختصار، لأن
الآثم بالكتمان وهو مما يقع بالقلب وإسناد الفعل بالجارحة التي
يعمل بها أبلغ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد هذا مما أبصرته
عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي؟ ولأن الإثم وإن كان
منسوبا إلى جملة الشخص لكنه اعتبر الإسناد إلى هذا الجزء
المخصوص متجوزا به عن الكل لأنه أشرف الأجزاء ورئيسها، وفعله
أعظم من أفعال سائر الجوارح، فيكون في الكلام تنبيه على أن
الكتمان من أعظم الذنوب، وقيل: أسند الإثم إلى القلب لئلا يظن
أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط وليعلم أن
القلب أصل متعلقة ومعدن اقترافه، وقيل: للإشارة إلى أن أثر
الكتمان يظهر في قلبه كما جاء
في الخبر «إذا أذنب العبد يحدث في قلبه نكتة سوداء وكلما أذنب
زاد ذلك حتى يسود ذلك بتمامه» ،
أو للإشارة إلى أنه يفسد قلبه فيفسد بدنه كله،
فقد ورد «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت
فسد الجسد كله ألا وهي القلب»
والكل ليس بشيء كما لا يخفى، وقرئ قلبه بالنصب على التشبيه
بالمفعول به.
وآثِمٌ صفة مشبهة، وجوز أبو حيان كونه بدلا من اسم إن بدل بعض
من كل، وبعضهم كونه تمييزا واستبعده أبو البقاء، وقرأ ابن أبي
عبلة آثِمٌ قَلْبُهُ أي جعله آثما وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ
من كتمان الشهادة وأدائها على وجهها وغير ذلك عَلِيمٌ فيجازيكم
بذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
(2/61)
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ من الأمور الداخلة في حقيقتهما والخارجة عنهما كيف
كانت أي كلها ملك له تعالى ومختصة به فله أن يلزم من شاء من
مملوكاته بما شاء من تكليفاته وليس لأحد أن يقول المال مالي
أتصرف به كيف شئت، ومن الناس من جعل هذه الجملة كالدليل لما
قبلها وَإِنْ تُبْدُوا أي تظهروا للناس ما فِي أَنْفُسِكُمْ أي
ما حصل فيها حصولا أصليا بحيث يوجب اتصافها به كالملكات
الرديئة والأخلاق الذميمة كالحسد والكبر والعجب والكفران
وكتمان الشهادة أَوْ تُخْفُوهُ بأن لا تظهروه.
يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ أي يجازيكم به يوم القيامة، وأما
تصور المعاصي والأخلاق الذميمة فهو لعدم إيجابه اتصاف النفس به
لا يعاقب عليه ما لم يوجد في الأعيان، وإلى هذا الإشارة
بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي ما
حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم»
أي إن الله تعالى لا يعاقب أمتي على تصور المعصية وإنما يعاقب
على عملها، فلا منافاة بين الحديث والآية خلافا لمن توهم ذلك
ووقع في حيص بيص لدفعه. ولا يشكل على هذا أنهم قالوا: إذا وصل
التصور إلى حد التصميم والعزم يؤاخذ به لقوله تعالى: وَلكِنْ
يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: 225] لأنا
نقول: المؤاخذة بالحقيقة على تصميم العزم على إيقاع المعصية في
الأعيان وهو أيضا من الكيفيات النفسانية التي تلحق بالملكات
ولا كذلك سائر ما يحدث في النفس ونظمه بعضهم بقوله:
مراتب القصد خمس هاجس ذكروا ... فخاطر فحديث النفس فاستمعا
يليه هم فعزم كلها رفعت ... سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا
فالآية على ما قررنا محكمة، وادعى بعضهم أنها منسوخة محتجا بما
أخرجه أحمد، ومسلم عن أبي هريرة قال: «لما نزلت على رسول الله
صلّى الله عليه وسلم وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ
الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتوا
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا:
يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصوم والجهاد
والصدقة وقد أنزل الله تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال
أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا
غفرانك ربنا وإليك المصير» فلما اقترأها القوم وزلت بها
ألسنتهم أنزل الله تعالى في إثرها آمَنَ الرَّسُولُ [البقرة:
285] الآية فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل سبحانه لا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] إلخ،
وصح مثل ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس، وابن
مسعود، وعائشة رضي الله تعالى عنهم،
وأخرج البخاري عن مروان الأصغر عن رجل من أصحاب رسول الله صلّى
الله عليه وسلم- أحسبه ابن عمر إِنْ تُبْدُوا ما فِي
أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ قال: نسختها الآية التي بعدها،
وعلى هذا لا يحتاج إلى التوفيق بين الآية وذلك الحديث الصحيح
بوجه، ويكون الحديث إخبارا عما كان بعد النسخ، واستشكل ذلك بأن
النسخ مختص بالإنشاء ولا يجري في الخبر والآية الكريمة من
القسم الثاني.
ومن هنا قال الطبرسي: وأخطأ أن الروايات في النسخ كلها ضعيفة،
وأجيب بأن النسخ لم يتوجه إلى مدلول الخبر نفسه سواء قلنا إنه
مما يتغير كإيمان زيد، وكفر عمرو أم لا كوجود الصانع وحدوث
العالم بل إن النهي المفهوم منه كما يدل عليه قول الصحابة
لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «كلفنا من الأعمال ما
نطيق وقد أنزل الله تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها» فإن ذلك
صريح في أنهم فهموا من الآية تكليفا، والحكم الشرعي المفهوم من
الخبر يجوز نسخه بالاتفاق كما يدل عليه كلام العضد وغيره وبعض
من ادعى أن الآية محكمة وتوقف في قبول هذا الجواب ذهب إلى أن
المراد من النسخ البيان وإيضاح المراد مجازا كما مرت الإشارة
إليه عند قوله تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة: 109]
كأنه قيل: كيف يحمل ما في أنفسكم على ما يعم الوساوس الضرورية
وهو يستلزم
(2/62)
التكليف بما ليس في الوسع والله لا يكلف
نفسا إلا وسعها، واعترض هذا بأنه على بعده يستلزم أنه صلى الله
تعالى عليه وسلم أقر الصحابة على ما فهموه وهو بمعزل عن مراد
الله تعالى ولم يبينه لهم مع ما هم فيه من الاضطراب والوجل
الذي جثوا بسببه على الركب حتى نزلت الآية الأخرى، ويمكن أن
يجاب على بعد بأنه لا محذور في هذا اللازم ويلتزم بأنه من قبيل
إقراره صلى الله تعالى عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله
تعالى عنه حين فسر الرؤيا بين يديه عليه الصلاة والسلام
وقال: «أخطأت أم أصبت يا رسول الله؟ فقال له صلّى الله عليه
وسلم: أصبت بعضها وأخطأت بعضها»
ولم يبين له فيما أصاب وفيما أخطأ لأمر ما، ولعله هنا ابتلاؤهم
وأن يمحص ما في صدورهم وهذا على العلات أولى من حمل النسخ على
التخصيص لاستلزامه مع ما فيه وقوع التكليف بما لا يطاق كما لا
يخفى، وقيل: معنى الآية إن تعلنوا ما في أنفسكم من السوء، أو
لم تعلنوه بأن تأتوا به خفية يعاقبكم الله تعالى عليه، ويؤول
إلى قولنا إن تدخلوا الأعمال السيئة في الوجود ظاهرا أو خفية
يحاسبكم بها الله تعالى أو إن تظهروا ما في أنفسكم من كتمان
الشهادة بأن تقولوا لرب الشهادة عندنا شهادة ولكن نكتمها ولا
نؤديها لك عند الحكام، أو تخفوه بأن تقولوا له ليس في علمنا
خبر ما تريد أن نشهد به وأنتم كاذبون في ذلك- يحاسبكم به الله-
وأيد هذا بما أخرجه سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن أبي حاتم
من طريق مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في الآية
الكريمة قال: نزلت في الشهادة، وقيل: الآية على ظاهرها، و «ما
في أنفسكم» على عمومه الشامل لجميع الخواطر إلا أن معنى
«يحاسبكم» يخبركم به الله تعالى يوم القيامة، وقد عدوا من جملة
معنى الحسيب العليم، وجميع هذه الأقوال لا تخلو عن نظر فتدبر،
وارجع إلى ذهنك فلا إخالك تجد فوق ما ذكرناه أو مثله في كتاب.
وتقديم الجار والمجرور على الفاعل للاعتناء به، وأما تقديم
الإبداء على الإخفاء على عكس ما في قوله تعالى:
قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ
يَعْلَمْهُ اللَّهُ [آل عمران: 29] فلما قيل: إن المعلق- بما
في أنفسهم- هنا المحاسبة والأصل فيها الأعمال البادية، وأما
العلم فتعلقه بها كتعلقه بالأعمال الخافية ولا يختلف الحال
عليه تعالى بين الأشياء البارزة والكامنة بل لا كامن بالنسبة
إليه سبحانه خلا أن مرتبة الإخفاء متقدمة على مرتبة الإبداء ما
من شيء يبدو إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر في النفس فتعلق
علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلق علمه بحالته الثانية
فَيَغْفِرُ بالرفع على الاستئناف أي فهو يغفر بفضله لِمَنْ
يَشاءُ أن يغفر له من عباده وَيُعَذِّبُ بعدله. مَنْ يَشاءُ أن
يعذبه من عباده، وتقديم المغفرة على التعذيب لتقدم رحمته على
غضبه، وقرأ غير ابن عامر، وعاصم، ويعقوب بجزم الفعلين عطفا على
جواب الشرط، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بنصبهما
بإضمار- أن- وتكون هي وما في حيزها بتأويل مصدر معطوف على
المصدر المتوهم من الفعل السابق، والتقدير تكن محاسبة فغفران
وعذاب، ومن القواعد المطردة أنه إذا وقع بعد جزاء الشرط فعل
بعد واو أو فاء جاء فيه الأوجه الثلاثة وقد أشار لها ابن مالك:
والفعل من بعد الجزا إن يقترن ... بالفاء أو الواو بتثليث قمن
وقرأ ابن مسعود- «يغفر» ، و «يعذب» - بالجزم بغير فاء- ووجهه
عند القائل بجواز تعدد الجزاء كالخبر ظاهر- وأما عند غيره
فالجزم على أنهما بدل من يُحاسِبْكُمْ بدل البعض من الكل أو
الاشتمال، فإن كلا من المغفرة والتعذيب بعض من الحساب المدلول
عليه- بيحاسبكم- ومطلق الحساب جامع لهما فان اعتبر جمعه لهما
على طريق اشتمال الكل على الأجزاء يكون بدل البعض من الكل وإن
اعتبر على طريق الشمول كشمول الكلي لأفراده يكون بدل اشتمال
كذا قيل، وقيل: إن أريد بيحاسبكم معناه الحقيقي فالبدل بدل
اشتمال- كأحب زيدا علمه- وإن
(2/63)
أريد به المجازاة فالبدل بدل بعض- كضربت
زيدا رأسه- وقيل: غير ذلك، وذهب أبو حيان إلى تعين الاشتمال
قال:
ووقوعه في الأفعال صحيح لأن الفعل يدل على جنس تحته أنواع
يشتمل عليها ولذلك إذا وقع عليه النفي انتفت جميع أنواع ذلك
الجنس، وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن في الفعل إذ الفعل لا
يقبل التجزي فلا يقال فيه له كل وبعض إلا بمجاز بعيد، واعترضه
الحلبي بأنه ليس بظاهر لأن الكلية والبعضية صادقتان على الجنس
ونوعه فإن الجنس كل والنوع بعض فالصحيح وقوع النوعين في الفعل
وقد قيل بهما في قوله:
متى تأتنا- تلمم- بنا في ديارنا ... تجد خير نار عندها خير
موقد
فإنهم جعلوا الإلمام بدلا من الإتيان إما بدل بعض لأنه إتيان
لا توقف فيه فهو بعضه أو اشتمال لأنه نزول خفيف، وروي عن أبي
عمرو إدغام الراء في اللام، وطعن الزمخشري- على عادته في
الطعن- في القراءات السبع إذا لم تكن على قواعد العربية ومن
قواعدهم أن الراء لا تدغم إلا في الراء لما فيها من التكرار
الفائت بالإدغام في اللام وقد يجاب بأن القراءات السبع متواترة
والنقل بالمتواتر إثبات علمي، وقول النحاة نفي ظني ولو سلم عدم
التواتر فأقل الأمر أن تثبت لغة بنقل العدول وترجع بكونه
إثباتا ونقل إدغام الراء في اللام عن أبي عمرو من الشهرة
والوضوح بحيث لا مدفع له- وممن روي ذلك عنه- أبو محمد اليزيدي
وهو إمام في النحو إمام في القراءات إمام في اللغات، ووجهه من
حيث التعليل ما بينهما من شدة التقارب حتى كأنهما مثلان بدليل
لزوم إدغام اللام في الراء في اللغة الفصيحة إلا أنه لمح تكرار
الراء فلم يجعل إدغامه في اللام لازما على أن منع إدغام الراء
في اللام مذهب البصريين، وقد أجازه الكوفيون وحكوه سماعا، منهم
الكسائي، والفراء، وأبو جعفر الرواسي، ولسان العرب ليس محصورا
فيما نقله البصريون فقط، والقراء من الكوفيين ليسوا بمنحطين عن
قراء البصرة وقد أجازوه عن العرب فوجب قبوله والرجوع فيه إلى
علمهم ونقلهم إذ من علم حجة على من لم يعلم.
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مقرر لمضمون ما
قبله فإن كمال قدرته تعالى على جميع الأشياء موجب لقدرته على
ما ذكر من المحاسبة وما فرع عليه من المغفرة والتعذيب، وفي
الآية دليل لأهل السنة في نفي وجوب التعذيب حيث علق بالمشيئة
واحتمال أن تلك المشيئة واجبة كمن يشاء صلاة الفرض فإنه لا
يقتضي عدم الوجوب خلاف الظاهر آمَنَ الرَّسُولُ قال الزجاج:
لما ذكر الله تعالى عز وجل في هذه السورة الجليلة الشأن
الواضحة البرهان فرض الصلاة، الزكاة، والطلاق، والحيض
والإيلاء، والجهاد، وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام،
والدين، والربا، ختمها بهذا تعظيما لنبيه صلى الله تعالى عليه
وسلم وأتباعه، وتأكيدا وفذلكة لجميع ذلك المذكور من قبل، وقد
شهد سبحانه وتعالى هنا لمن تقدم في صدر السورة بكمال الإيمان
وحسن الطاعة واتصافهم بالفعل وذكره صلى الله تعالى عليه وسلم
بطريق الغيبة مع ذكره هناك بطريق الخطاب لما أن حق الشهادة
الباقية على مر الدهور أن لا يخاطب بها المشهود له ولم يتعرض
سبحانه هاهنا لبيان فوزهم بمطالبهم التي من جملتها ما حكي عنهم
من الدعوات الآتية إيذانا بأنه أمر محقق غني عن التصريح لا
سيما بعد ما نص عليه فيما سلف وإيراده صلى الله تعالى عليه
وسلم بعنوان الرسالة دون تعرض لاسمه الشريف تعظيم له وتمهيد
لما يذكر بعده.
أخرج الحاكم. والبيهقي عن أنس قال: «لما نزلت هذه الآية على
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم آمَنَ الرَّسُولُ قال عليه
الصلاة والسلام: وحق له أن يؤمن» وفي رواية عبد بن حميد عن
قتادة- وهي شاهد لحديث أنس- «فينجبر انقطاعه ويحق له أن يؤمن»
بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ من الأحكام المذكورة في
هذه السورة وغيرها والمراد إيمانه بذلك إيمانا تفصيليا، وأجمله
إجلالا لمحله صلى الله تعالى عليه وسلم وإشعارا بأن تعلق
إيمانه عليه الصلاة
(2/64)
والسلام بتفاصيل ما أنزل إليه وإحاطته
بجميع ما انطوى عليه مما لا يكتنه كنهه ولا تصل الأفكار وإن
حلقت إليه قد بلغ من الظهور إلى حيث استغنى عن ذكره واكتفى عن
بيانه، وفي تقديم الانتهاء على الابتداء مع التعرض لعنوان
الربوبية والإضافة إلى ضميره صلّى الله عليه وسلم ما لا يخفى
من التعظيم لقدره الشريف والتنويه برفعة محله المنيف
وَالْمُؤْمِنُونَ يجوز أن يكون معطوفا على الرسول مرفوعا
بالفاعلية فيوقف عليه، ويدل عليه ما
أخرجه أبو داود في المصاحف عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه
قرأ- وآمن المؤمنون-
وعليه يكون قوله تعالى: كُلٌّ آمَنَ جملة مستأنفة من مبتدأ
وخبر، وسوغ الابتداء بالنكرة كونها في تقدير الإضافة ويجوز أن
يكون مبتدأ، وكُلٌّ مبتدأ ثان، وآمَنَ خبره، والجملة خبر الأول
والرابط مقدر ولا يجوز كون كُلٌّ تأكيدا لأنهم صرحوا بأنه لا
يكون تأكيدا للمعرفة إلا إذا أضيف لفظا إلى ضميرها- ورجح الوجه
الأول- بأنه أقضى لحق البلاغة وأولى في التلقي بالقبول لأن
الرسول صلّى الله عليه وسلم حينئذ يكون أصلا في حكم الإيمان
بما أنزل الله والمؤمنون تابعون له ويا فخرهم بذلك، ويلزم على
الوجه في الثاني أن حكم المؤمنين أقوى من حكم الرسول صلى الله
تعالى عليه وسلم لكون جملتهم اسمية ومؤكدة، وعورض بأن في
الثاني إيذانا بتعظيم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتأكيدا
للإشعار بما بين إيمانه صلى الله تعالى عليه وسلم المبني على
المشاهدة والعيان وبين إيمان سائر المؤمنين الناشئ عن الحجة
والبرهان من التفاوت البين والفرق الواضح كأنهما مختلفان من كل
وجه حتى في هيئة التركيب ويلزم على الأول أنه إن حمل كل من
الإيمانين على ما يليق بشأنه صلّى الله عليه وسلم من حيث الذات
ومن حيث التعلق استحال إسنادهما إلى غيره عليه الصلاة والسلام
وضاع التكرير، وإن حمل على ما يليق بشأن آحاد الأمة كان ذلك
حطا لرتبته العلية وإذا حملا على ما يليق بكل واحد مما نسبا
إليه ذاتا وتعلقا بأن يحملا بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه
وسلم على الإيمان العياني المتعلق بجميع التفاصيل وبالنسبة إلى
آحاد الأمة على الإيمان المكتسب من مشكاته صلى الله تعالى عليه
وسلم اللائق بحالهم من الإجمال والتفصيل كان اعتسافا بينا ينزه
عنه التنزيل والشبهة التي ظنت معارضة مدفوعة بأن الإتيان
بالجملة الاسمية مع تكرار الاسناد المقوي للحكم لما في الحكم
بإيمان كل واحد منهم على الوجه الآتي من نوع خفاء محوج لذلك،
وتوحيد الضمير في آمَنَ مع رجوعه إلى كل المؤمنين لما أن
المراد بيان إيمان كل فرد فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع كما
اعتبر في قوله تعالى:
وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [النمل: 87] وهو أبعد عن التقليد
الذي هو إن لم يجرح خدش أي كل واحد منهم على حياله- آمن-
بِاللَّهِ أي صدق به وبصفاته ونفي التشبيه عنه وتنزيهه عما لا
يليق بكبريائه من نحو الشريك في الألوهية والربوبية وغير ذلك
وَمَلائِكَتِهِ من حيث إنهم معصومون مطهرون لا يعصون الله ما
أمرهم ويفعلون ما يؤمرون من شأنهم التوسط بينه تعالى وبين
الرسل بإنزال الكتب وإلقاء الوحي ولهذا ذكروا في النظم قبل
قوله تعالى: وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ أي من حيث مجيئهما منه
تعالى على وجه يليق بشأن كل منهما ويلزم الإيمان التفصيلي فيما
علم تفصيلا من كل من ذلك والإجمالي فيما علم إجمالا وإنما لم
يذكر هاهنا الإيمان باليوم الآخر كما ذكر في قوله تعالى:
وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ [البقرة: 177] إلخ لاندراجه في
الإيمان بكتبه والثواني كثيرا ما يختصر فيها، وقرأ ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما- وكتابه- بالإفراد فيحتمل أن يراد به
القرآن بحمل الإضافة على العهد أو يراد الجنس فلا يختص به
والفرق بينه وبين الجمع- على ما ذهب إليه إمام الحرمين
والزمخشري- وروي عن الإمام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- أن
استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع لأن المفرد يتناول جميع
الآحاد ابتداء فلا يخرج عنه شيء منه قليلا أو كثيرا بخلاف
الجمع فإنه يستغرق الجموع أولا وبالذات ثم يسري إلى الآحاد-
وهذا المبحث من معضلات علم المعاني- وقد فرغ من تحقيقه هناك.
(2/65)
لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ
في حيز النصب بقول مقدر مسند إلى ضمير كُلٌّ مراعى فيه اللفظ
فيفرد أو المعنى فيجمع- ولعله أولى- والجملة منصوبة المحل على
أنها حال من ضمير آمَنَ أو مرفوعة على أنها خبر آخر- لكل- أي
يقولون، أو يقول: لا نفرق بين رسل الله تعالى بأن نؤمن ببعض
ونكفر ببعض كما فعل أهل الكتابين بل نؤمن بهم جميعا ونصدق بصحة
رسالة كل واحد منهم وقيدوا إيمانهم بذلك تحقيقا للحق وتنصيصا
على مخالفة أولئك المفرقين من الفريقين بإظهار الإيمان بما
كفروا به فلعنة الله على الكافرين.
ومن هنا يعلم أن القائلين هم آحاد المؤمنين خاصة إذ يبعد أن
يسند إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقول لا أفرق بين أحد
من رسله وهو يريد إظهار إيمانه برسالة نفسه وتصديقه في دعواها،
ومن اعتبر إدراج الرسول في كُلٌّ واستبعد هذا قال: بالتغليب
هاهنا، ومن لم يستعبد إذ كان صلى الله تعالى عليه وسلم يأتي
بكلمة الشهادة كما يأتي بها سائر الناس أو يبدل العلم فيها
بضمير المتكلم لم يحتج إلى القول بالتغليب، وعدم التعرض لنفي
التفريق بين الكتب لاستلزام المذكور إياه وإنما لم يعكس مع
تحقق التلازم لما أن الأصل في تفريق المفرقين هو الرسل وكفرهم
بالكتب متفرع على كفرهم بهم وإيثار إظهار الرسل على الإضمار
الواقع مثله في قوله تعالى: وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ
رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [البقرة: 136]
إما للاحتراز عن توهم اندراج الملائكة ولو على بعد في الحكم
وهو وإن لم يكن فيه بأس إلا أنه ليس في التعرض له كثير جدوى إذ
لا مزاحم في الظاهر، وإن كان فقليل أو للإشعار بعلة عدم
التفريق أو للإيماء إلى عنوانه لأن المعتبر عدم التفريق من حيث
الرسالة دون سائر الحيثيات، وقرأ يعقوب. وأبو عمرو في رواية
عنه- لا يفرق- بالياء على لفظ كُلٌّ وقرئ لا يفرقون حملا على
معناه، والجملة نفسها حينئذ حال أو خبر على نحو ما تقدم في
القول المقدر ولا حاجة إليه هنا، والكلام على أَحَدٍ وإدخال
بَيْنَ عليه قد سبق في تفسير قوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْهُمْ وَقالُوا عطف على آمَنَ والجمع باعتبار المعنى
وهو حكاية لامتثالهم الأوامر والنواهي إثر حكاية إيمانهم
سَمِعْنا أي أجبنا وهو المعنى العرفي للسمع وَأَطَعْنا وقبلنا
عن طوع ما دعوتنا إليه في الأمر والنواهي، وقيل: سَمِعْنا ما
جاءنا من الحق وتيقّنا بصحته، وأَطَعْنا ما فيه من الأمر
والنهي غُفْرانَكَ رَبَّنا أي اغفر غفرانك ما ينقص حظوظنا
لديك، أو نسألك غفرانك ذلك، فغفران مصدر إما مفعول مطلق أو
مفعول به- ولعل الأول أولى- لما في الثاني من تقدير الفعل
الخاص المحوج إلى اعتبار القرينة وتقديم ذكر السمع على الطاعة
لتقدم العام على الخاص، أو لأن التكليف طريقه السمع والطاعة
بعده وتقديم ذكرهما على طلب الغفران لما أن تقدم الوسيلة على
المسئول أقرب إلى الإجابة والقبول، والتعرض لعنوان الربوبية قد
تقدم سره غير مرة وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أي الرجوع بالموت
والبعث وهو مصدر ميمي، والجملة قيل: معطوفة على مقدر أي فمنك
المبتدأ وإليك المصير وهي تذييل لما قبله مقرر للحاجة إلى
المغفرة وفيها إقرار بالمعاد الذي لم يصرح به قبل.
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها جملة مستأنفة
سيقت إخبارا منه تعالى بعد تلقيهم لتكاليفه سبحانه بالطاعة
والقبول بماله عليهم في ضمن التكليف من محاسن آثار الفضل
والرحمة ابتداء لا بعد السؤال كما سيجيء- والتكليف- إلزام ما
فيه كلفة ومشقة، والوسع- ما تسعه قدرة الإنسان أو ما يسهل عليه
من المقدور وهو ما دون مدى طاقته أي سنته تعالى أنه- لا يكلف
نفسا- من النفوس إلا ما تطيق وإلا ما هو دون ذلك كما في سائر
ما كلفنا به من الصلاة والصيام مثلا فإنه كلفنا خمس صلوات
والطاقة تسع ستا وزيادة. وكلفنا صوم رمضان والطاقة تسع شعبان
معه وفعل ذلك فضلا منه ورحمة بالعباد أو كرامة ومنّة على هذه
الأمة خاصة.
(2/66)
وقرأ ابن أبي عبلة «وسعها» - بفتح السين
(1) والآية على التفسيرين تدل على عدم وقوع التكليف بالمحال لا
على امتناعه، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فبطريق
الأولى، وقيل: إنها على التفسير الثاني لا تدل على ذلك لأن
الخطاب حينئذ مخصوص بهذه الأمة وعلى كل تقدير لا دليل فيها على
امتناع التكليف بالمحال كما وهم وقد تقدم لك بعض ما يتعلق بهذا
المبحث وربما يأتيك ما ينفعك فيه إن شاء الله تعالى.
لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ جملة أخرى
مستأنفة سيقت للترغيب والمحافظة على مواجب التكليف والتحذير عن
الإخلال بها ببيان أن تكليف كل نفس مع مقارنته لنعمة التخفيف
والتيسير يتضمن مراعاته منفعة زائدة وأنها تعود إليها لا إلى
غيرها ويستتبع الإخلال بها مضرة تحيق بها لا بغيرها فإن اختصاص
منفعة الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله واقتصار مضرته
عليه من أشد الزواجر عن مباشرته- قاله المولى مفتي الديار
الرومية قدس سره- وهو الذي ذهب إليه الكثير، وقيل: يجوز أن
تجعل الجملتان في حيز القول ويكون ذلك حكاية للأقوال المتفرقة
الغير المعطوفة بعضها على بعض للمؤمنين ويكون مدحا لهم بأنهم
شكروا الله تعالى في تكليفه حيث يرونه بأنه لم يخرج عن وسعهم
وبأنهم يرون أن الله تعالى لا ينتفع بعملهم الخير بل هو لهم
ولا يتضرر بعملهم الشر بل هو عليهم- ولا يخفى أنه بعيد- من
جهة- قريب من أخرى- والضمير في لَها للنفس العامة والكلام على
حذف مضاف هو ثواب في الأول وعقاب في الآخر، ومبين ما الأولى
الخير لدلالة اللام الدالة على النفع عليه، ومبين ما الثانية
الشر لدلالة- على- الدالة على الضر عليه: وإيراد الاكتساب في
جانب الأخير لما فيه من زيادة المعنى وهو الاعتمال، والشر
تشتهيه النفس وتنجذب إليه فكانت أجد في تحصيله ففيه إشارة إلى
ما جبلت عليه النفوس ولما لم يكن مثل ذلك في الخير استعمل
الصيغة المجردة عن الاعتمال.
رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا شروع في
حكاية بقية دعواتهم إثر بيان سر التكليف، وقيل: استيفاء لحكاية
الأقوال، وفي البحر- وهو المروي عن الحسن- أن ذلك على تقدير
الأمر أي قولوا في دعائكم ذلك فهو تعليم منه تعالى لعباده
كيفية الدعاء والطلب منه وهذا من غاية الكرم ونهاية الإحسان
يعلمهم الطلب ليعطيهم ويرشدهم للسؤال ليثيبهم، ولذلك قيل وقد
تقدم:
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه ... من فيض جودك ما علمتني
الطلبا
والمؤاخذة: المعاقبة، وفاعل هنا بمعنى فعل، وقيل: المفاعلة على
بابها لأن الله تعالى يؤاخذ المذنب بالعقوبة والمذنب كأنه
يؤاخذ ربه بالمطالبة بالعفو إذ لا يجد من يخلصه من عذابه سواه
فلذلك يتمسك العبد عند الخوف منه به فعبر عن كل واحد بلفظ
المؤاخذة ولا يخفى فساد هذا إلا بتكلف، واختلفوا في المراد من
النسيان والخطأ على وجوه، الأول أن المراد من الأول الترك ومنه
قوله:
ولم أك عند الجود للجود قاليا ... ولا كنت يوم الروع للطعن
ناسيا
والمراد من الثاني العصيان لأن المعاصي توصف بالخطأ الذي هو ضد
الصواب وإن كان فاعلها متعمدا كأنه قيل: ربنا لا تعاقبنا على
ترك الواجبات وفعل المنهيات، الثاني أن المراد منهما ما هما
مسببان عنه من التفريط والإغفال
__________
(1) قوله: بفتح السين كذا بالأصل ولعله محرف عن فتح الواو لأن
الواو مثلث كما في القاموس اهـ مصححه.
(2/67)
إذ قلما يتفقان إلا عن تقصير سابق فالمعنى
لا تؤاخذنا بذلك التقصير، الثالث أن المراد بهما أنفسهما من
حيث ترتبهما على ما ذكر، أو مطلقا إذ لا امتناع في المؤاخذة
بهما عقلا فإن المعاصي كالسموم فكما أن تناولها ولو سهوا أو
خطأ مؤد إلى الهلاك فتعاطي المعاصي أيضا لا يبعد أن يفضي إلى
العقاب وإن لم يكن عن عزيمة ولكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمة
منه وفضلا فيجوز أن يدعو الإنسان به استدامة واعتدادا بالنعمة
فيه.
ويؤيد ذلك مفهوم
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما أخرجه الطبراني، وقال
النووي حديث حسن: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا
عليه»
وأورد على هذا بأنه لا يتم على مذهب المحققين من أهل السنة
والمعتزلة من أن التكليف بغير المقدور غير جائز عقلا منه تعالى
إذ لا يكون ترك المؤاخذة على الخطأ والنسيان حينئذ فضلا يستدام
ونعمة يعتد بها رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً أي
عبثا ثقيلا يأسر صاحبه أي يحبسه مكانه.
والمراد به التكاليف الشاقة، وقيل: الإصر الذنب الذي لا توبة
له فالمعنى اعصمنا من اقترافه، وقرئ آصارا على الجمع، وقرأ
أبيّ- ولا تحمّل- بالتشديد للمبالغة كَما حَمَلْتَهُ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا
في حيز النصب على أنه صفة لمصدر محذوف أي حملا مثل حملك إياه
على من قبلنا، أو على أنه صفة لإصرا أي إصرا مثل الإصر الذي
حملته على من قبلنا- وهو ما كلفه بنو إسرائيل- من قتل النفس في
التوبة أو في القصاص لأنه كان لا يجوز غيره في شريعتهم. وقطع
موضع النجاسة من الثياب ونحوها، وقيل: من البدن وصرف ربع المال
في الزكاة.
رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ استعفاء عن
العقوبات التي لا تطاق بعد الاستعفاء عما يؤدي إليها والتعبير
عن إنزال ذلك بالتحميل مجاز باعتبار ما يؤدي إليه، وجوز أن
يكون طلبا لما هو أعم من الأول لتخصيصه بالتشبيه إلا أنه صور
فيه الإصر بصورة ما لا يستطاع مبالغة، وقيل: هو استعفاء عن
التكليف بما لا تفي به القدر البشرية حقيقة فتكون الآية دليلا
على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سئل التخلص عنه وليس
بالقوي، والتشديد هاهنا لمجرد تعدية الفعل لمفعول ثان دون
التكثير وَاعْفُ عَنَّا أي امح آثار دنوبنا بترك العقوبة.
وَاغْفِرْ لَنا بستر القبيح وإظهار الجميل وَارْحَمْنا وتعطف
علينا بما يوجب المزيد، وقيل: اعْفُ عَنَّا من الأفعال
وَاغْفِرْ لَنا من الأقوال وَارْحَمْنا بثقل الميزان، وقيل:
وَاعْفُ عَنَّا في سكرات الموت وَاغْفِرْ لَنا في ظلمة القبور
وَارْحَمْنا في أهوال يوم النشور، قال أبو حيان: ولم يأت في
هذه الجمل الثلاث بلفظ رَبَّنا لأنها نتائج ما تقدم من الجمل
التي افتتحت بذلك فجاء- فاعف عنا- مقابلا لقوله تعالى: لا
تُؤاخِذْنا وَاغْفِرْ لَنا لقوله سبحانه: وَلا تَحْمِلْ
عَلَيْنا إِصْراً وَارْحَمْنا لقوله عز شأنه: وَلا تُحَمِّلْنا
ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان
والخطأ والعفو، ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة ومن آثار
عدم تحميل ما لا يطاق الرحمة ولا يخفى حسن الترتيب أَنْتَ
مَوْلانا أي مالكنا وسيدنا، وجوز أن يكون بمعنى متولي الأمر
وأصله مصدر أريد به الفاعل وإذا ذكر المولى والسيد وجب في
الاستعمال تقديم المولى فيقال: مولانا وسيدنا كما في قول
الخنساء:
وإن صخرا- لمولانا وسيدنا- ... وإن صخرا إذا اشتوا لمنحار
وخطؤوا من قال: سيدنا ومولانا بتقديم السيد على المولى- كما
قاله ابن أبيك- ولي فيه تردد قيل: والجملة على معنى القول أي
قولوا أنت مولانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي
الأعداء في الدين المحاربين لنا أو مطلق
(2/68)
الكفرة وأتى بالفاء إيذانا بالسببية لأن
الله تعالى لما كان مولاهم ومالكهم ومدبر أمورهم تسبب عنه أن
دعوه بأن ينصرهم على أعدائهم فهو كقولك أنت الجواد فتكرم علي
وأنت البطل فاحم الجار.
(ومن باب الاشارة في هذه الآيات) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
أي العوالم الروحانية كلها وما استتر في أستار غيوبه وخزائن
علمه وَما فِي الْأَرْضِ أي العالم الجسماني والظواهر المشاهدة
التي هي مظاهر الأسماء والأفعال وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي
أَنْفُسِكُمْ يشهده بأسمائه وظواهره يُحاسِبْكُمْ بِهِ وإن
تخفوه يشهده بصفاته وبواطنه ويحاسبكم به فَيَغْفِرُ لِمَنْ
يَشاءُ لتوحيده وقوة يقينه وعروض سيئاته وعدم رسوخها في ذاته
وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ لفساد اعتقاده ووجود شكه، أو رسوخ
سيئاته في نفسه وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لأن به
ظهور كل ظاهر وبطون كل باطن فيقدر على المغفرة والتعذيب آمَنَ
الرَّسُولُ الكامل الأكمل بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ
أي صدقه بقبوله والتخلق به فقد كان خلقه صلى الله تعالى عليه
وسلم القرآن والترقي بمعانيه والتحقق به وَالْمُؤْمِنُونَ
كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وحده مشاهدة حين لم يروا في الوجود سواه
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ حين رجوعهم إلى مشاهدتهم
تلك الكثرة مظاهر للوحدة يقولون لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْ رُسُلِهِ يرد بعض وقبول بعض لمشاهدة الحق فيهم بالحق
وَقالُوا سَمِعْنا أجبنا ربنا في كتبه ورسله ونزول ملائكته
واستقمنا في سيرنا غُفْرانَكَ رَبَّنا أي اغفر وجوداتنا
وصفاتنا واستر ذلك بوجودك وصفاتك فمنك المبدأ وَإِلَيْكَ
الْمَصِيرُ بالفناء فيك لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا
وُسْعَها إلا ما يسعها ولا يضيق به طوقها واستعدادها من
التجليات لَها ما كَسَبَتْ من الخير والكمالات والكشوف سواء
كان ذلك باعتمال أو بغير اعتمال وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ
وتوجهت إليه بالقصد من السوء رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ
نَسِينا عهدك بميلنا إلى ظلمة الطبيعة أَوْ أَخْطَأْنا بالعمل
على غير الوجه اللائق لحضرتك رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا
إِصْراً وهو عبء الصفات والأفعال الحابسة للقلوب من معاينة
الغيوب كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا من
المحتجبين بظواهر الأفعال أو بواطن الصفات رَبَّنا وَلا
تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ من ثقل الهجران والحرمان
عن وصالك ومشاهدة جمالك بحجب جلالك وَاعْفُ عَنَّا سيئات
أفعالنا وصفاتنا فإنها سيئات حجبتنا عنك وحرمتنا برد وصالك
ولذة رضوانك وَاغْفِرْ لَنا ذنوب وجودنا فإنه أكبر الكبائر
وَارْحَمْنا بالوجود الموهوب بعد الفناء أَنْتَ مَوْلانا أي
سيدنا ومتولي أمورنا لأنا مظاهرك وآثار قدرتك فَانْصُرْنا
عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ من قوى نفوسنا الأمارة وصفاتها
وجنود شياطين أوهامنا المحجوبين عنك الحاجبين إيانا لكفرهم
وظلمتهم، هذا
وقد أخرج مسلم، والترمذي من حديث ابن عباس لما نزلت هذه الآية
فقرأها صلى الله تعالى عليه وسلم قيل له عقيب كل كلمة قد فعلت،
واخرج أبو سعيد، والبيهقي عن الضحاك أن جبريل لما جاء بهذه
الآية ومعه ما شاء الله تعالى من الملائكة وقرأها رسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم قال له بعد كل كلمة لك ذلك حتى فرغ
منها،
وأخرج أبو عبيد عن أبي ميسرة أن جبريل لقن رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم عند خاتمة البقرة آمين،
وأخرج الأئمة الستة في كتبهم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في
ليلة كفتاه»
وأخرج الطبراني بسند جيد عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله تعالى كتب كتابا قبل أن
يخلق السماوات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة
البقرة ولا يقرءان في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان»
وأخرج ابن عدي عن ابن مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم قال: «أنزل الله تعالى آيتين من كنوز الجنة
كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي عام من قرأهما بعد
العشاء الآخرة اجزأتاه عن قيام الليل»
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن أبي ذر أن رسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «إن
(2/69)
الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من
كنزه الذي تحت العرش فتعلموهما وعلموهما نساءكم وأبناءكم
فإنهما صلاة وقرآن ودعاء»
وفي رواية أبي عبيد عن محمد بن المنكدر أنهن قرآن وأنهن دعاء
وأنهن يدخلن الجنة وأنهن يرضين الرحمن، وأخرج مسدد عن عمر رضي
الله تعالى عنه،
والدارمي عن علي كرم الله تعالى وجهه كلاهما قال: ما كنت أرى
أحدا يعقل ينام حتى يقرأ هؤلاء الآيات من سورة البقرة.
والآثار في فضلها كثيرة وفيما ذكرنا كفاية لمن وفقه الله
تعالى. اللهم اجعل لنا من إجابة هذه الدعوات أوفر نصيب، ووفقنا
للعمل الصالح والقول المصيب، واجعل القرآن ربيع قلوبنا وجلاء
أسماعنا ونزهة أرواحنا ويسر لنا إتمام ما قصدناه ولا تجعل لنا
مانعا عما بتوفيقك أردناه، وصلّ وسلم على خليفتك الأعظم، وكنزك
المطلسم، وعلى آله الواقفين على أسرار كتابك، وأصحابه الفائزين
بحكم خطابك ما ارتاحت روح وحصل لقارع باب جودك فتوح.
(2/70)
|