روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني سورة آل عمران
«وهي مائتا آية» أخرج ابن الضريس، والنحاس، والبيهقي من طرق عن
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت بالمدينة، واسمها في
التوراة- كما روى سعيد بن منصور- طيبة، وفي صحيح مسلم تسميتها
والبقرة الزهراوين- وتسمى الأمان، والكنز، والمعنية،
والمجادلة، وسورة الاستغفار، ووجه مناسبتها لتلك السورة أن
كثيرا من مجملاتها تشرح بما في هذه السورة وأن سورة البقرة
بمنزلة إقامة الحجة وهذه بمنزلة إزالة الشبهة ولهذا تكرر فيها
ما يتعلق بالمقصود الذي هو بيان حقيقة الكتاب من إنزال الكتاب
وتصديقه للكتب قبله والهدى إلى الصراط المستقيم، وتكررت آية
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ [البقرة: 136]
بكمالها ولذلك ذكر في هذه ما هو تال لما ذكر في تلك أو لازم
له، فذكر هناك خلق الناس، وذكر هنا تصويرهم في الأرحام، وذكر
هناك مبدأ خلق آدم، وذكر هنا مبدأ خلق أولاده وألطف من ذلك أنه
افتتح البقرة بقصة آدم وخلقه من تراب ولا أم، وذكر في هذه
نظيره في الخلق من غير أب وهو عيسى، ولذلك ضرب له المثل بآدم،
واختصت البقرة بآدم لأنها أول السور وهو أول في الوجود وسابق،
ولأنها الأصل وهذه كالفرع والتتمة لها فاختصت بالأغرب، ولأنها
خطاب لليهود الذين قالوا في مريم ما قالوا وأنكروا وجود ولد
بلا أب ففوتحوا بقصة آدم لتثبت في أذهانهم فلا تأتي قصة عيسى
إلا وقد ذكر عندهم ما يشهد لها من جنسها، ولأن قصة عيسى قيست
على قصة آدم والمقيس عليه لا بد وأن يكون معلوما لتتم الحجة
بالقياس فكانت قصة آدم- والسورة التي هي فيها- جديرة بالتقديم.
وقد ذكر بعض المحققين من وجوه التلازم بين الصورتين أنه قال في
البقرة في صفة النار: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [البقرة: 24] مع
افتتاحها بذكر المتقين والكافرين معا، وقال في آخر هذه:
وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133] فكأن السورتين بمنزلة سورة
واحدة، مما يقوي المناسبة والتلازم بينهما أن خاتمة هذه مناسبة
لفاتحة تلك لأن الأولى افتتحت بذكر المتقين وأنهم المفلحون
وختمت هذه بقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ [آل عمران: 130، 220] وافتتحت الأولى بقوله
سبحانه: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما
أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة: 4] وختمت آل عمران بقوله
تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ
[آل عمران: 199] وقد ورد أن اليهود قالوا لما نزل مَنْ ذَا
الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ [البقرة: 245، الحديد: 11] الآية: يا
محمد افتقر ربك يسأل عباده القرض فنزل لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ
قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ
أَغْنِياءُ [آل عمران: 181] وهذا مما يقوي التلازم أيضا، ومثله
أنه وقع في البقرة حكاية قول إبراهيم: رَبَّنا وَابْعَثْ
فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة: 129] الآية وهنا لَقَدْ
مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ
رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران: 164] الآية إلى غير
ذلك.
(2/71)
الم (1) اللَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى
لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ
فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي
يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ
عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ
الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ
ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا
يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا
وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا
تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ
لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا
إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ
اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا
أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ
النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ
بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى
جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ
فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ
الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ قرأ أبو
جعفر، والأعشى والبرجمي عن أبي بكر عن عاصم بسكون الميم وقطع
الهمزة ولا إشكال فيها لأن طريق التلفظ فيما لا تكون من هذه
الفواتح مفردة- كص- ولا موازنة المفرد- كحم- حسبما ذكر في
الكتاب الحكاية فقط ساكنة الاعجاز على الوقف سواء جعلت أسماء،
أو مسرودة على نمط التعديد وإن لزمها التقاء الساكنين لما أنه
مغتفر في باب الوقف قطعا، ولذا ضعفت قراءة عمرو بن عبيد بكسر
الميم، والجمهور يفتحون الميم ويطرحون الهمزة من الاسم الكريم
قيل: وإنما فتحت لإلقاء حركة الهمزة عليها ليدل على أنها في
حكم الثابت لأنها أسقطت للتخفيف لا للدرج فإن الميم في حكم
الوقف كقوله:
واحد، اثنان لا لالتقاء الساكنين- كما قال سيبويه- فإنه غير
محذور في باب الوقف ولذلك لم تحرك في لام- وإلى ذلك ذهب
الفراء- وفي البحر إنه ضعيف لإجماعهم على أن الألف الموصولة في
التعريف تسقط في الوصل وما يسقط لا تلقى حركته- كما قاله أبو
علي وقولهم: إن الميم في حكم الوقف وحركتها حركة الإلقاء مخالف
لإجماع العرب، والنحاة أنه لا يوقف على متحرك البتة سواء في
ذلك حركة الإعراب والبناء والنقل والتقاء الساكنين والحكاية
والاتباع فلا يجوز في قَدْ أَفْلَحَ [المؤمنون: 1، الأعلى: 14،
الشمس: 9] إذا حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى الدال أن تقف على
دال «قد» بالفتحة بل تسكنها قولا واحدا، وأما تنظيرهم بواحد
اثنان بإلقاء حركة الهمزة على الدال فإن سيبويه ذكر أنهم يشمون
آخر واحد لتمكنه- ولم يحك الكسر- لغة فإن صح الكسر فليس واحد
موقوفا عليه كما
(2/72)
زعموا، ولا حركته حركة نقل من همزة الوصل
ولكنه موصول بقولهم: اثنان فالتقى ساكنان دال واحد، وثاء اثنين
فكسرت الدال لالتقائهما وحذفت الهمزة لأنها لا تثبت في الوصل،
وأما قولهم: إنه غير محذور في باب الوقف ولذلك لم يحرك في لام،
فجوابه إن الذي قال: إن الحركة لالتقاء الساكنين لم يرد بهما
التقاء الياء والميم من- ألم- في الوقف بل أراد الميم الأخير
من- ألم- ولام التعريف فهو كالتقاء نون من، ولام الرجل- إذا
قلت من الرجل؟ على أن في قولهم تدافعا فإن سكون آخر الميم إنما
هو على نية الوقف عليها وإلقاء حركة الهمزة عليها إنما هو على
نية الوصل، ونية الوصل توجب حذف الهمزة، ونية الوقف على ما
قبلها توجب ثباتها وقطعها، وهذا متناقض، ولذا قال الجاربردي:
الوجه ما قاله سيبويه، والكثير من النحاة أن تحريك الميم
لالتقاء الساكنين واختيار الفتح لخفته وللمحافظة على تفخيم
الاسم الجليل، واختار ذلك ابن الحاجب- وادعى أن في مذهب الفراء
حملا على الضعيف لأن إجراء الوصل مجرى الوقف ليس بقوي في
اللغة.
وقال غير واحد: لا بد من القول بإجراء الوصل مجرى الوقف،
والقول: بأنه ضعيف غير مسلم ولئن سلم فغير ناهض لأنه قوي فيما
المطلوب منه الخفة- كثلاثة أربعة- وهاهنا الاحتياج إلى التخفيف
أمس ولهذا جعلوه من موجبات الفتح، وإنما قيل ذلك لأن هذه
الأسماء من قبيل المعربات وسكونها سكون وقف لا بناء وحقها أن
يوقف عليها، والم رأس آية ثم إن جعلت اسم السورة فالوقف عليها
لأنها كلام تام وإن جعلت على نمط التعديد لأسماء الحروف إما
قرعا للعصا أو مقدمة لدلائل الإعجاز فالواجب أيضا القطع
والابتداء بما بعدها تفرقة بينها وبين الكلام المستقل المفيد
بنفسه فإذن القول بنقل الحركة هو المقبول لأن فيه إشعارا
بإبقاء أثر الهمزة المحذوفة للتخفيف المؤذن بالابتداء والوقف
ولا كذلك القول بأن الحركة لالتقاء الساكنين وحيث كانت حركة
الميم لغيرها كانت في حكم الوقف على السكون دون الحركة كما
توهم لئلا يلزم المحذر- وكلام الزمخشري في هذا المقام مضطرب
ففي الكشاف اختار مذهب الفراء، وفي المفصل اختار مذهب سيبويه،
ولعل الأول مبني على الاجتهاد، والثاني على التقليد والنقل لما
في الكتاب- لأن المفصل مختصره فتدبر.
وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بالفواتح من حيث الإعراب وغيره،
وفيه كفاية لمن أخذت العناية بيده، والاسم الجليل مبتدأ وما
بعده خبره، والجملة مستأنفة أي هو المستحق للعبودية لا غير،
والْحَيُّ الْقَيُّومُ خبر بعد خبر له أو خبر لمبتدأ محذوف أي
هو الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا غير، وقيل: هو صفة للمبتدأ أو بدل
منه أو من الخبر الأول أو هو الخبر وما قبله اعتراض بين
المبتدأ والخبر مقرر لما يفيده الاسم الكريم، أو حال منه على
رأي من يرى صحة ذلك وأيّا ما كان فهو كالدليل على اختصاص
استحقاق المعبودية به سبحانه،
وقد أخرج الطبراني، وابن مردويه من حديث أبي أمامة مرفوعا أن
اسم الله الأعظم في ثلاث سور: سورة البقرة، وآل عمران، وطه.
وقال أبو أمامة: فالتمستها فوجدت في البقرة اللَّهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255] وفي آل عمران
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وفي طه
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه: 111] .
وقرأ عمر، وابن مسعود، وأبيّ، وعلقمة- «الحي القيام» وهذا رد
على النصارى الزاعمين أن عيسى عليه السلام كان ربا،
فقد أخرج ابن إسحق، وابن جرير، وابن المنذر عن محمد بن جعفر بن
الزبير قال: «قدم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفد
نجران وكانوا ستين راكبا فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم فكلم
رسول لله صلى الله تعالى عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة،
والعاقب، وعبد المسيح، والأيهم السيد وهو من النصرانية على دين
الملك مع اختلاف أمرهم يقولون: هو الله تعالى، ويقولون: هو ولد
الله تعالى، ويقولون: هو ثالث ثلاثة كذلك قول النصرانية.
(2/73)
وهم يحتجون لقولهم يقولون: هو الله تعالى
فإنه كان يحيي الموتى ويبرئ الأسقام ويخبر بالغيوب ويخلق من
الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا، ويحتجون في قولهم إنه
ولد الله تعالى: بأنه لم يكن له أب يعلم وقد تكلم في المهد
وصنع ما لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله، ويحتجون في قولهم إنه
ثالث ثلاثة: إن الله تعالى يقول فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا
فلو كان واحدا ما قال إلا فعلت وأمرت وخلقت وقضيت ولكنه هو
وعيسى ومريم، ففي كل ذلك من قولهم نزل القرآن وذكر الله تعالى
لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم فيه قولهم فلما كلمه الحبران
وهما- العاقب، والسيد- كما في رواية الكلبي، والربيع عن أنس
قال لهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أسلما قالا: قد
أسلمنا قبلك قال: كذبتما منكما من الإسلام دعاؤكما لله تعالى
ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير؟ قالا: فمن أبوه يا
محمد؟ وصمت فلم يجب شيئا
فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم، واختلاف أمرهم كله صدر سورة
آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها فافتتح السورة بتنزيه نفسه
مما قالوا وتوحيده إياها بالخلق والأمر لا شريك له فيه، ورد
عليهم ما ابتدعوا من الكفر وجعلوا معه من الأنداد، واحتج عليهم
بقولهم في صاحبهم ليعرفهم بذلك ضلالتهم فقال:
الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ أي ليس
معك غيره شريك في أمره الحي الذي لا يموت وقد مات عيسى عليه
السلام في قولهم: الْقَيُّومُ القائم على سلطانه لا يزول وقد
زال عيسى،
وفي رواية ابن جرير عن الربيع قال: «إن النصارى أتوا رسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم فخاصموه في عيسى ابن مريم وقالوا له:
من أبوه؟ وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان فقال لهم النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا
وهو يشبه أباه؟
قالوا بلى قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي
عليه الفناء؟ قالوا: بلى قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيّم على
كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى قال: فهل يملك عيسى من
ذلك شيئا؟ قالوا: لا قال: ألستم تعلمون أن الله تعالى لا يخفى
عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ قالوا: بلى. قال: فهل يعلم
عيسى من ذلك شيئا إلا ما علم؟ قالوا: لا قال: ألستم تعلمون أن
ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا
يشرب الشراب ولا يحدث الحدث؟ قالوا: بلى قال ألستم تعلمون أن
عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها
ثم غذي كما يغذي الصبي ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث
الحدث؟ قالوا: بلى قال:
فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا فأنزل الم
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن الجامع للأصول والفروع
ولما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وفي التعبير عنه باسم
الجنس إيذان بتفوقه على بقية الأفراد في الانطواء على كمالات
الجنس كأنه هو الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب دون ما عداه
كما يلوح إليه التصريح باسم التوراة والإنجيل، وفي الإتيان
بالظرف وتقديمه على المفعول الصريح واختيار ضمير الخطاب،
وإيثار- على- على إلى ما لا يخفى من تعظيمه صلى الله تعالى
عليه وسلم والتنويه برفعة شأنه عليه الصلاة والسلام والجملة
إما مستأنفة أو خبر آخر للاسم الجليل أو هي الخبر، وما قبل كله
اعتراض أو حال، الْحَيُّ الْقَيُّومُ صفة أو بدل، وقرأ الأعمش
نَزَّلَ بالتخفيف، ورفع الكتاب والجملة حينئذ منقطعة عما
قبلها، وقيل:
متعلقة به بتقدير من عنده بِالْحَقِّ أي بالصدق في أخباره أو
بالعدل- كما نص عليه الراغب- أو بما يحقق أنه من عند الله
تعالى من الحجج القطعية وهو في موضع الحال أي متلبسا بالحق أو
محقا، وفي البحر يحتمل أن يكون الباء للسببية أي بسبب إثبات
الحق مُصَدِّقاً حال من الكتاب إثر حال أو بدل من موضع الحال
الأول أو حال من الضمير في المجرور وعلى كل حال فهي حال مؤكدة
لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي الكتب السالفة والظرف مفعول مصدقا
واللام لتقوية العمل وكيفية تصديقه لما تقدم تقدمت وَأَنْزَلَ
التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ذكرهما تعيينا لما بين يديه
وتبيينا لرفعة محله بذلك تأكيد لما قبل وتمهيد لما بعد ولم
يذكر المنزل عليه فيهما لأن الكلام في الكتابين لا فيمن نزلا
(2/74)
عليه والتعبير- بأنزل- فيهما للإشارة إلى
أنه لم يكن لهما إلا نزول واحد وهذا بخلاف القرآن فإن له
نزولين، نزول من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من سماء الدنيا
جملة واحدة، ونزول من ذلك إليه صلى الله تعالى عليه وسلم منجما
في ثلاث وعشرين سنة على المشهور، ولهذا يقال فيه: نزل وأنزل
وهذا أولى مما قيل: إن- نزل- يقتضي التدريج وأنزل يقتضي
الإنزال الدفعي إذ يشكل عليه لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ
الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان: 32] حيث قرن- نزل-
بكونه جملة، وقوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتابِ [النساء: 140] وذكر بعض المحققين لهذا المقام أن
التدريج ليس هو التكثير بل الفعل شيئا فشيئا كما في تسلسل،
والألفاظ لا بد فيها من ذلك فصيغة- نزل- تدل عليه، والإنزال
مطلق لكنه إذا قامت القرينة يراد بالتدريج التنجيم، وبالإنزال
الذي قد قوبل به خلافه، أو المطلق بحسب ما يقتضيه المقام.
واختلف في اشتقاق التوراة والإنجيل فقيل: اشتقاق الأول من ورى
الزناد إذ قدح فظهر منه النار لأنها ضياء ونور بالنسبة لما عدا
القرآن تجلو ظلمة الضلال وقيل: من ورى في كلام إذا عرض لأن
فيها رموزا كثيرة وتلويحات جليلة، ووزنها عند الخليل. وسيبويه
فوعلة كصومعة، وأصله وورية بواوين فأبدلت الأولى تاء وتحركت
الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا فصارت- توراة- وكتبت بالياء
تنبيها على الأصل ولذلك أميلت، وقال الفراء: وزنها تفعلة بكسر
العين فأبدلت الكسرة فتحة وقلبت الياء ألفا وفعل ذلك تخفيفا
كما قالوا في توصية توصاة، واعترضه البصريون بأن هذا البناء
قليل وبأنه يلزم منه زيادة التاء أولا وهي لا تزاد كذلك إلا في
مواضع ليس هذا منها، وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنها تفعلة
بفتح العين فقلبت الياء ألفا، وقيل: اشتقاق الثاني من- النجل-
بفتح فسكون وهو الماء الذي ينز من الأرض، ومنه النجيل لما ينبت
فيه ويطلق على الوالد والولد وهو أعرف فهو ضد- كما قاله
الزجاج- وهو من نجل بمعنى ظهر سمي به لأنه مستخرج من اللوح
المحفوظ وظاهر منه أو من التوراة، وقيل: من النجل وهو التوسعة،
ومنه عين نجلاء لسعتها لأن فيه توسعة ما لم تكن في التوراة إذ
حلل فيه بعض ما حرم فيها، وقيل: مشتق من التناجل وهو التنازع
يقال تناجل الناس إذا تنازعوا وسمي به لكثرة التنازع فيه- كذا
قيل- ولا يخفى أن أمر الاشتقاق والوزن على تقدير عربية اللفظين
ظاهر، وأما على تقدير- أنهما أعجميان أولهما عبراني والآخر
سرياني وهو الظاهر- فلا معنى له على الحقيقة لأن الاشتقاق من
ألفاظ أخر أعجمية مما لا مجال لإثباته، ومن ألفاظ عربية كما
سمعت استنتاج للضب من الحوت فلم يبق إلا أنه بعد التعريب أجروه
مجرى أبنيتهم في الزيادة والأصالة وفرضوا له أصلا ليتعرف ذلك
كما أشرنا إليه فيما قبل. والاستدلال- على عربيتهما بدخول
اللام لأن دخولها في الإعلام العجمية محل نظر- محل نظر لأنهم
ألزموا بعض الأعلام الأعجمية الألف واللام علامة للتعريف- كما
في الإسكندرية- فإن أبا زكريا التبريزي قال: إنه لا يستعمل
بدونها مع الاتفاق على أعجميته. ومما يؤيد أعجمية الإنجيل ما
روي عن الحسن أنه قرأه بفتح الهمزة، وأفعيل ليس من أبنية العرب
مِنْ قَبْلُ متعلق- بأنزل- أي أنزلهما من قبل تنزيل الكتاب،
وقيل: من قبلك والتصريح به مع ظهور الأمر للمبالغة في البيان
كذا قالوا برمتهم، وأنا أقول التصريح به للرمز إلى أن إنزالهما
متضمن للإرهاص لبعثته صلّى الله عليه وسلم: حيث قيد الإنزال
المقيد بمن قبل بقوله سبحانه: هُدىً لِلنَّاسِ أي أنزلهما كذلك
لأجل هداية الناس الذين أنزلا عليهم إلى الحق الذي من جملته
الإيمان به صلّى الله عليه وسلم واتباعه حين يبعث لما اشتملتا
عليه من البشارة به والحث على طاعته عليه الصلاة والسلام
والهداية بهما بعد نسخ أحكامهما بالقرآن إنما هي من هذا الوجه
لا غير، والقول بأنه يهتدي بهما أيضا فيما عدا الشرائع
المنسوخة من الأمور التي يصدقها القرآن- ليس بشيء لأن الهداية
إذ ذاك بالقرآن المصدق لا بهما كما لا يخفى على المنصف، ويجوز
أن ينتصب هدى على أنه حال منهما والإفراد لما أنه مصدر جعلا
نفس
(2/75)
الهدى مبالغة أو حذف منه المضاف أي ذوي
هدى، وجعله حالا من الكتاب مما لا ينبغي أن يرتكب فيه
وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ أخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه القرآن
فرق به بين الحق والباطل فأحل فيه حلاله وحرم حرامه وشرع
شرائعه وحد حدوده وفرائضه وبين بيانه وأمر بطاعته ونهى عن
معصيته، وذكر بهذا العنوان بعد ذكره باسم الجنس تعظيما لشأنه
ورفعا لمكانه، وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير أنه
الفاصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى
عليه السلام وغيره، وأيد هذا بأن صدر السورة كما قدمنا نزلت في
محاجة النصارى للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم في أمر أخيه
عيسى عليه السلام وعليه يكون المراد- بالفرقان- بعض القرآن ولم
يكتف باندراجه في ضمن الكل اعتناء به، ومثل هذا القول ما
روي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أن المراد به كل آية
محكمة،
وقيل: المراد به جنس الكتب الإلهية عبر عنها بوصف شامل لما ذكر
منها وما لم يذكر على طريق التتميم بالتعميم إثر تخصيص بعض
مشاهيرها بالذكر، وقيل: نفس الكتب المذكورة أعيد ذكرها بوصف
خاص لم يذكر فيما سبق على طريق العطف بتكرير لفظ الإنزال
تنزيلا للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي، وقيل: المراد به
الزبور وتقديم الإنجيل عليه مع تأخره عنه نزولا لقوة مناسبته
للتوراة في الاشتمال على الأحكام وشيوع اقترانهما في الذكر،
واعترض بأن الزبور مواعظ فليس فيه ما يفرق بين الحق والباطل من
الأحكام، وأجيب بأن المواعظ لما فيها من الزجر والترغيب فارقة
أيضا ولخفاء الفرق فيها خصت بالتوصيف به، وأورد عليه بأن ذكر
الوصف دون الموصوف يقتضي شهرته به حتى يغني عن ذكر موصوفه
والخفاء إنما يقتضي إثبات الوصف دون التعبير به، وقيل: المراد
به المعجزات المقرونة بإنزال الكتب المذكورة الفارقة بين المحق
والمبطل، وعلى أي تقدير كان فهو مصدر في الأصل كالغفران أن
أطلق الفاعل مبالغة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ
يحتمل أن تكون الإضافة للعهد إشارة إلى ما تقدم من آيات الكتب
المنزلة، ويحتمل أن تكون للجنس فتصدق الآيات على ما يتحقق في
ضمن ما تقدم وعلى غيره كالمعجزات وأضافها إلى الاسم الجليل
تعيينا لحيثية كفرهم وتهويلا لأمرهم وتأكيدا لاستحقاقهم
العذاب، والمراد بالموصول إما من تقدم في سبب النزول أو أهل
الكتابين أو جنس الكفرة وعلى التقديرين يدخل أولئك فيه دخولا
أوليا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ابتداء وخبر في موضع خبر إن ويجوز
أن يرتفع العذاب بالظرف والتنكير للتفخيم ففيه إشارة إلى أنه
لا يقدر قدره وهو مناط الحصر المستفاد من تقديم الظرف والتعليق
بالموصول الذي هو في حكم المشتق يشعر بالعلية وهو معنى تضمنه
الشرط وترك فيه الفاء لظهوره فهو أبلغ إذا اقتضاه المقام
وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي غالب على أمره يفعل ما يشاء ويحكم ما
يريد ذُو انْتِقامٍ افتعال من النقمة وهي السطوة والتسلط يقال:
انتقم منه إذا عاقبه بجنايته، ومجرده- نقم- بالفتح والكسر
وجعله بعضهم بمعنى كره لا غير والتنوين للتفخيم، واختار هذا
التركيب على منتقم مع اختصاره لأنه أبلغ منه إذ لا يقال صاحب
سيف إلا لمن يكثر القتل لا لمن معه السيف مطلقا، والجملة
اعتراض تذييلي مقرر للوعيد مؤكد له.
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا
فِي السَّماءِ استئناف لبيان سعة علمه سبحانه وإحاطته بجميع ما
في العالم الذي من جملته إيمان من آمن وكفر من كفر إثر بيان
كمال قدرته وعظيم عزته وفي بيان ذلك تربية للوعيد وإشارة إلى
دليل كونه حيا وتنبيه على أن الوقوف على بعض المغيبات كما وقع
لعيسى عليه السلام بمعزل من بلوغ رتبة الصفات الإلهية، والمراد
من الأرض والسماء العالم بأسره، وجعله الكثير مجاز من إطلاق
الجزء وإرادة الكل، ومن قال: إنه لا يصح في «كل» كل وجزء بناء
على اشتراط التركيب الحقيقي وزوال ذلك الكل بزوال ذلك الجزء
جعل المذكور كناية لا مجازا، وتقديم الأرض على السماء إظهارا
للاعتناء بشأن أحوال أهلها واهتماما بما يشير إلى وعيد ذوي
الضلالة منهم وليكون ذكر السماء بعد من باب العروج قيل: ولذا
وسط حرف النفي بينهما، والجملة
(2/76)
المنفية خبر لأن، وتكرير الإسناد لتقوية
الحكم وكلمة- في- متعلقة بمحذوف وقع صفة لشيء مؤكدة لعمومه
المستفاد من وقوعه في سياق النفي أي لا يخفى عليه شيء ما كائن
في العالم بأسره كيفما كانت الظرفية، والتعبير بعدم الخفاء
أبلغ من التعبير بالعلم، وجوز أبو البقاء تعلق الظرف- بيخفى..
وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ
كَيْفَ يَشاءُ جملة مستأنفة على الصحيح ناطقة ببعض أحكام
قيوميته تعالى مشيرة إلى تقرير علمه مع زيادة بيان لتعلقه
بالأشياء قبل وجودها، والتصوير- جعل الشيء على صورة لم يكن
عليها، والصورة هيئة يكون عليها الشيء بالتأليف، والْأَرْحامِ
جمع رحم وهي معلومة وكأنها أخذت من الرحمة لأنها مما يتراحم
بها ويتعاطف، وكلمة فِي متعلقة- بيصور- وجوز أن يكون حالا من
المفعول أي يصوركم وأنتم في الأرحام مضغ، وكَيْفَ في موضع نصب-
بيشاء- وهو حال، والمفعول محذوف تقديره يشاء تصويركم، وقيل:
كَيْفَ ظرف- ليشاء- والجملة في موضع الحال أي يُصَوِّرُكُمْ
على مشيئته أي مريدا إن كان الحال من الفاعل أو يصوركم متقلبين
على مشيئته تابعين لها في قبول الأحوال المتغايرة من كونكم
نطفا ثم علقا ثم مضغا- ثم، وثم- وفي الاتصاف بالصفات المختلفة
من الذكورة والأنوثة والحسن والقبح وغير ذلك، وفيه من الدلالة
على بطلان زعم من زعم ربوبية عيسى عليه السلام مع تقلبه في
الأطوار ودوره في فلك هذه الأدوار حسبما شاءه الملك القهار
وركاكة عقولهم ما لا يخفى، وقرأ طاوس- تصوركم- على صيغة الماضي
من التفعل أي اتخذ صوركم لنفسه وعبادته فهو من باب توسد التراب
أي اتخذه وسادة فما قيل: كانه من تصورت الشيء بمعنى توهمت
صورته فالتصديق أنه توهم محض لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ كرر الجملة الدالة على نفي الإلهية عن غيره تعالى
وانحصارها فيه توكيدا لما قبلها ومبالغة في الرد على من ادعى
إلهية عيسى عليه السلام وناسب مجيئها بعد الوصفين السابقين من
العلم والقدرة إذ من هذان الوصفان له هو المتصف بالألوهية لا
غيره ثم أتى بوصف العزة الدالة على عدم النظير أو التناهي في
القدرة والحكمة لأن خلقهم على ما ذكر من النمط البديع أثر من
آثار ذلك هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ استئناف
لإبطال شبه الوفد وإخوانهم الناشئة عما نطق به القرآن في نعت
المسيح عليه السلام إثر بيان اختصاص الربوبية ومناطها به
سبحانه.
قيل: إن الوفد قالوا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:
ألست تزعم أن عيسى كلمة الله تعالى وروح منه؟
قال: بلى قالوا: فحسبنا ذلك
فنفى سبحانه عليهم زيفهم وفتنتهم وبين أن الكتاب مؤسس على أصول
رصينة وفروع مبنية عليها ناطقة بالحق قاضية ببطلان ما هم عليه-
كذا قيل- ومنه يعلم وجه مناسبة الآية لما قبلها، واعترض بأن
هذا الأثر لم يوجد له أثر في الصحاح ولا سند يعول عليه في
غيرها، وقصارى ما وجد عن الربيع أن المراد بالموصول الآتي
الوفد، وفيه أن الأثر بعينه
أخرجه في الدر المنثور عن أبي حاتم، وابن جرير عن الربيع، وعن
بعضهم أن الآية نزلت في اليهود، وذلك حين «مر أبو ياسر بن أخطب
في رجال من يهود برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يتلو
فاتحة سورة البقرة الم ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة: 1، 2] فأتى
أخاه حي بن أخطب في رجال من يهود فقال: أتعلمون والله لقد سمعت
محمدا يتلو فيما أنزل عليه الم ذلِكَ الْكِتابُ فقال: أنت
سمعته؟ قال: نعم فمشى حي في أولئك النفر إلى رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم فقال: ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك
الم ذلِكَ الْكِتابُ؟ فقال:
بلى فقال: لقد بعث الله تعالى قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي
منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك: الألف واحدة، واللام
ثلاثون، والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة هل مع هذا غيره؟
قال: نعم المص [الأعراف: 1] قال:
هذه أثقل وأطول: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون
والصاد تسعون فهذه مائة وإحدى وستون سنة هل مع
(2/77)
هذا غيره؟ قال: نعم الر [يونس: 1] قال: هذه
أثقل وأطول هل مع هذا غيره؟ قال: بلى المر [الرعد: 1] قال:
هذه أثقل وأطول ثم قال: لقد لبس علينا أمرك حتى ما ندري أقليلا
أعطيت أم كثيرا ثم قال: قوموا ثم قال أبو ياسر لأخيه ومن معه:
وما يدريكم لعله لقد جمع هذا كله لمحمد؟ فقالوا: لقد تشابه
علينا أمره» .
وقد أخرج ذلك البخاري في التاريخ، وابن جرير، وغيرهما عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما إلا أن فيه فيزعمون أن هذه الآيات
نزلت فيهم وهو مؤذن بعدم الجزم بذلك ومع هذا يبعده ما تقدم
من رواية «إن الله تعالى أنزل في شأن أولئك الوفد من مصدر آل
عمران إلى بضع وثمانين آية»
وعلى تقدير الإغماض عن هذا يحتمل أن يكون وجه اتصال الآية بما
قبلها أن في المتشابه خفاء كما أن تصوير ما في الأرحام كذلك أو
أن في هذه تصوير الروح بالعلم وتكميله به وفيما قبلها تصوير
الجسد وتسويته فلما أن في كل منهما تصويرا وتكميلا في الجملة
ناسب ذكره معه ولما أن بين التصوير الحقيقي الجسماني والذي ليس
هو كذلك من الروحاني من التفاوت والتباين ترك العطف، وقوله
سبحانه: مِنْهُ آياتٌ الظرف فيه خبر مقدم، وآياتٌ مبتدأ مؤخر
أو بالعكس، ورجح الأول بأنه الأوفق بقواعد الصناعة، والثاني
بأنه أدخل في جزالة المعنى إذ المقصود الأصلي انقسام الكتاب
إلى القسمين المعهودين لا كونهما من الكتاب، والجملة إما
مستأنفة أو في حيز النصب على الحالية من الكتاب أي هو الذي
أنزل عليك الكتاب كائنا على هذه الحالة أي منقسما إلى محكم
وغيره أو الظرف وحده حال آياتٌ مرتفع به على الفاعلية
مُحْكَماتٌ صفة آيات أي واضحة المعنى ظاهرة الدلالة محكمة
العبارة محفوظة من الاحتمال والاشتباه هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ
أي أصله والعمدة فيه يرد إليها غيرها والعرب تسمي كل جامع يكون
مرجعا- أمّا- والجملة إما صفة لما قبلها أو مستأنفة وإنما
أفرد- الأم- مع أن الآيات متعددة لما أن المراد بيان أصلية كل
واحدة منها أو بيان أن الكل بمنزلة آية واحدة وَأُخَرُ نعت
لمحذوف معطوف على آياتٌ أي- وآيات أخر- وهي كما قال الرضى جمع
أخرى التي هي مؤنث آخر ومعناه في الأصل أشد تأخرا فمعنى- جاءني
زيد، ورجل آخر- جاءني زيد، ورجل أشد تأخرا منه في معنى من
المعاني، ثم نقل إلى معنى غيره فمعنى رجل آخر رجل غير زيد ولا
يستعمل إلا فيما هو من جنس المذكور أو لا فلا يقال جاءني زيد
وحمار آخر ولا امرأة أخرى، ولما خرج عن معنى التفضيل استعمل من
دون لوازم أفعل التفضيل أعني- من- والإضافة واللام وطوبق
بالمجرد عن اللام والإضافة ما هو له نحو رجلان آخران، ورجال
آخرون، وامرأة أخرى، وامرأتان أخريان، ونسوة أخر، وذهب أكثر
النحويين إلى أنه غير منصرف لأنه وصف معدول عن الآخر قالوا:
لأن الأصل في أفعل التفضيل أن لا يجمع إلا مقرونا بالألف
واللام- كالكبر والصغر- فعدل عن أصله وأعطى من الجمعية مجردا
ما لا يعطي غيره إلا مقرونا، وقيل: الدليل على عدل أُخَرُ أنه
لو كان مع من المقدرة كما في- الله أكبر- للزم أن يقال بنسوة
أخر على وزن أفعل لأن أفعل التفضيل ما دام بمن ظاهرة أو مقدرة
لا يجوز مطابقته لمن هو له بل يجب إفراده، ولا يجوز أن يكون
بتقدير الإضافة لأن المضاف إليه لا يحذف إلا مع بناء المضاف،
أو مع سادّ مسد المضاف إليه، أو مع دلالة ما أضيف اليه تابع
المضاف أخذا من استقراء كلامهم فلم يبق إلا أن يكون أصله
اللام، واعترض عليه أبو علي بأنه لو كان كذلك وجب أن يكون
معرفة كسحر وأجيب بأنه لا يلزم في المعدول عن شيء أن يكون
بمعناه من كل وجه وإنما يلزم أن يكون قد أخرج عما يستحقه وما
هو القياس فيه إلى صيغة أخرى، نعم قد تقصد إرادة تعريفه بعد
النقل إما بألف ولام يضمن معناها فيبني، أو إما بعلمية كما في
سحر فيمنع من الصرف، ولما لم يقصد في أُخَرُ إرادة الألف
واللام أعرب، ولا يصح إرادة العلمية لأنها تضاد الوصفية
المقصودة منه.
وقال ابن جني: إنه معدول عن آخر من، وزعم ابن مالك أنه التحقيق
وظاهر كلام أبي حيان اختياره- واستدلوا
(2/78)
عليه بما لا يخلو عن نظر- ووصف آخر بقوله
سبحانه مُتَشابِهاتٌ وهي في الحقيقة صفة لمحذوف أي محتملات
لمعان متشابهات لا يمتاز بعضها عن بعض في استحقاق الإرادة ولا
يتضح الأمر إلا بالنظر الدقيق، وعدم الاتضاح قد يكون للاشتراك
أو للإجمال، أو لأن ظاهره التشبيه فالمتشابه في الحقيقة وصف
لتلك المعاني وصف به الآيات على طريقة وصف الدال بما هو وصف
للمدلول فسقط ما قيل: إن واحد مُتَشابِهاتٌ متشابهة، وواحد
أُخَرُ أخرى، والواحد هنا لا يصح أن يوصف بهذا الواحد فلا
يقال: أخرى متشابهة إلا أن يكون بعض الواحدة يشبه بعضا- وليس
المعنى على ذلك- وإنما المعنى أن كل آية تشبه آية أخرى فكيف صح
وصف الجمع بهذا الجمع ولم يصح وصف مفرده بمفرده؟! ولا حاجة إلى
ما تكلف في الجواب عنه بأنه ليس من شرط صحة وصف المثنى
والمجموع صحة بسط مفردات الأوصاف على أفراد الموصوفات كما أنه
لا يلزم من الإسناد إليهما صحة إسناده إلى كل واحد كما في
فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ [القصص: 15] إذ الرجل
لا يقتتل، وقيل: إنه لما كان من شأن الأمور المتشابهة أن يعجز
العقل عن التمييز بها سمي كل ما لا يهتدي العقل إليه متشابها
وإن لم يكن ذلك بسبب التشابه كما أن المشكل في الأصل ما دخل في
إشكاله وأمثاله ولم يعلم بعينه ثم أطلق على كل غامض وإن لم يكن
غموضه من تلك الجهة عليه يكون المتشابه مجازا أو كناية عما لا
يتضح معناه مثلا فيكون السؤال مغالطة غير واردة رأسا وهذا الذي
ذكره في تفسير المحكم والمتشابه هو مذهب كثير من الناس- وعليه
الشافعية..
وتقسيم الكتاب إليهما من تقسيم الكل إلى أجزائه بناء على أن
المراد من الكتاب ما بين الدفتين ولامه لتعريف العهد، وحينئذ
إما أن يراد بالكتاب الثاني المضاف إليه أم الأول الواقع مقسما
كما يشعر به حديث إعادة الشيء معرفة ويكون وضع المظهر موضع
المضمر اعتناء بشأن المظهر وتفخيما له والإضافة على معنى في-
كما في واحد العشرة- فلا يلزم كون الشيء أصلا لنفسه لأن المعنى
على أن الآيات المحكمات التي هي جزء مما بين الدفتين أصل فيما
بين الدفتين يرجع إليه المتشابه منه، واعتبار ظرفية الكل للجزء
يدفع توهم لزوم ظرفية الشيء لنفسه- وهذا أولى من القول بتقدير
مضاف بين المتضايفين- بأن يقال التقدير أم بعض الكتاب فإنه وإن
بقي فيه الكتاب على حاله إلا أنه لا يخلو عن تكلف، وإما أن
يراد به الجنس فإنه كالقرآن يطلق على القدر المشترك بين
المجموع وبين كل بعض منه له به نوع اختصاص كما بين في الأصول،
ويراد من هذا الجنس ما هو في ضمن الآيات المتشابهات فاللام
حينئذ للجنس والإضافة على معنى اللام ولا يعارضه حديث الإعادة
إذ هو أصل كثيرا ما يعدل عنه ولا يتوهم منه كون الشيء- أما-
لنفسه أصلا ولا أن المقام مقام الإضمار ليحتاج إلى الجواب عن
ذلك، وبعض فضلاء العصر- المعاصرين حميا العلم من كرم أذهانهم
الكريمة أحسن عصر- جوز كون الإضافية- لامية- والْكِتابَ المضاف
إليه هو الكتاب الأول بعينه وليس في الكلام مضاف محذوف وما
يلزم على ذلك من كون الشيء- أما- لنفسه وأصلا لها لا يضر
لاختلاف الاعتبار فإن- أمومته- لغيره من المتشابه باعتبار رده
إليه وإرجاعه له- وأمومته- لنفسه باعتبار عدم احتياجه لظهور
معناه إلى شيء سوى نفسه، ولا يخفى عليك أن- الأم- إن كانت في
كلا الاعتبارين حقيقة لزم استعمال المشترك في معنييه وإن كانت
في كليهما مجازا لزم الجمع بين معنيين مجازيين، وإن كانت حقيقة
في الأصل باعتبار ما يرجع إليه غيره كما يفهم من بعض عباراتهم
مجازا في الأصل بمعنى المستغني عن غيره لزم الجمع بين الحقيقة
والمجاز ولا مخلص عن ذلك إلا بارتكاب عموم المجاز، هذا وجوز أن
يكون التقسيم إلى القسمين المحكم والمتشابه من تقسيم الكلي إلى
جزئياته فأل في- الكتاب- للجنس أولا وآخرا إلا أن المراد من
الكتاب في الأول الماهية من حيث هي كما هو الأمر المعروف في
مثل هذا التقسيم، وفي الثاني الماهية باعتبار تحققها في ضمن
بعض
(2/79)
الأفراد وهو المتشابه، ويجوز أن يراد من
الثاني أيضا مجموع ما بين الدفتين والكلام فيه حينئذ على نحو
ما سبق، قيل:
وقصارى ما يلزم من هذا التقسيم بعد تحمل القول بأنه خلاف
الظاهر صدق الكتاب على الأبعاض وهو مما لا يتحاشى منه بل هو
غرض من فسر الكتاب بالقدر المشترك، وأنت تعلم أن فيه غير ذلك
إلا أنه يمكن دفعه بالعناية فتدبر.
وذهب ساداتنا الحنفية إلى أن المحكم الواضح الدلالة الظاهر
الذي لا يحتمل النسخ، والمتشابه الخفي الذي لا يدرك معناه عقلا
ولا نقلا وهو ما استأثر الله تعالى بعلمه كقيام الساعة والحروف
المقطعة في أوائل السور وقيل:
المحكم الفرائض والوعد والوعيد، والمتشابه القصص والأمثال،
أخرج ابن أبي حاتم من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال-
المحكمات- ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه، والمتشابهات-
ما يؤمن به ولا يعمل به، وأخرج الفريابي عن مجاهد قال-
المحكمات- ما فيه الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه، وأخرج
عبيد بن عمير عن الضحاك قال- المحكمات- ما لم ينسخ-
والمتشابهات- ما قد نسخ، وقال الماوردي: المحكم ما كان معقول
المعنى، والمتشابه بخلافه كأعداد الصلوات، واختصاص الصيام
برمضان دون شعبان، وقيل: المحكم ما لم يتكرر ألفاظه، المتشابه
ما يقابله، وقيل: غير ذلك، وهذا الخلاف في- المحكم، والمتشابه-
هنا وإلا فقد يطلق المحكم بمعنى المتقن النظم، والمتشابه على
ما يشبه بعضه بعضا في البلاغة، وهما بهذا المعنى يطلقان على
جميع القرآن وعلى ذلك خرج قوله تعالى: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ
آياتُهُ [هود: 1] وقوله سبحانه: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ
[الزمر: 23] فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أي
عدول عن الحق وميل عنه إلى الأهواء.
وقال الراغب: الزيغ الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين-
وزاغ. وزال. ومال- متقاربة لكن زاغ لا يقال: إلا فيما كان عن
حق إلى باطل ومصدره زيغا وزيغوغة وزيغانا وزيوغا، والمراد
بالموصول نصارى نجران أو اليهود- وإليه ذهب ابن عباس- وقيل:
منكر والبعث، وقيل: المنافقون،
وأخرج الإمام أحمد. وغيره عن أبي أمامة عن النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم أنهم الخوارج
وظاهر اللفظ العموم لسائر من زاغ عن الحق فليحمل ما ذكر على
بيان بعض ما صدق عليه العام دون التخصيص، وفي جعل قلوبهم مقرا
للزيغ مبالغة في عدولهم عن سنن الرشاد وإصرارهم على الشر
والفساد. وزيغ مبتدأ أو فاعل فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ
مِنْهُ أي يتعلقون بذلك وحده بأن لا ينظروا إلى ما يطابقه من
المحكم ويردوه إليه وهو إما بأخذ ظاهره الغير المراد له تعالى
أو أخذ أحد بطونه الباطلة وحينئذ يضربون القرآن بعضه ببعض
ويظهرون التناقض بين معانيه إلحادا منهم وكفرا ويحملون لفظه
على أحد محتملاته التي توافق أغراضهم الفاسدة في ذلك وهذا هو
المراد بقوله سبحانه: ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ
تَأْوِيلِهِ أي طلب أن يفتنوا المؤمنين والمؤمنات عن دينهم
بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه- كما نقل عن
الواقدي- وطلب أن يؤولوه حسبما يشتهونه، فالإضافة في
تَأْوِيلِهِ للعهد أي بتأويل مخصوص وهو ما لم يوافق المحكم بل
ما كان موافقا للتشهي، والتأويل التفسير- كما قاله غير واحد-
وقال الراغب: إنه من الأول وهو الرجوع إلى الأصل- ومنه الموئل-
للموضع الذي يرجع إليه وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة
منه علما كان أو فعلا، ومن الأول ما ذكر هنا، ومن الثاني قوله:
وللنوى قبل يوم البين تأويل وقوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي
تَأْوِيلُهُ [الأعراف: 53] أي بيانه الذي هو غايته المقصودة
منه وقوله سبحانه: ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا
[النساء: 59] قيل: أحسن ترجمة ومعنى، وقيل: أحسن ثوابا في
الآخرة انتهى.
وجوز في هاتين الطلبتين أن تكونا على سبيل التوزيع بأن يكون
ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ طلبة بعض وابتغاء التأويل حسب التشهي
طلبة آخرين، ويجوز أن يكون الاتباع لمجموع الطلبتين وهو الخليق
بالمعاند لأنه لقوة عناده ومزيد
(2/80)
فساده يتشبث بهما معا وأن يكون ذلك لكل
واحدة منهما على التعاقب وهو المناسب بحال الجاهل لأنه متحير
تارة يتبع ظاهره وتارة يؤوله بما يشتهيه لكونه في قبضة هواه
يتبعه كلما ادعاه، ومن الناس من حمل الفتنة على المال فإن الله
سبحانه قد سماه فتنة في مواضع من كلامه ولا يخفى أنه ليس بشيء
مدعى- ودليلا، وفي تعليل الاتباع- بابتغاء تأويله- دون نفس
تَأْوِيلِهِ وتجريد- التأويل- عن الوصف بالصحة والحقية إيذان
بأنهم ليسوا من التأويل- في عير ولا نفير، ولا قبيل ولا دبير-
وأن ما يتبعونه ليس بتأويل أصلا لا أنه تأويل غير صحيح قد يعذر
صاحبه وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ في موضع الحال من ضمير- يتبعون-
باعتبار العلة الأخيرة أي يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله،
والحال أن التأويل المطابق للواقع كما يشعر به التعبير بالعلم
والإضافة إلى الله تعالى مخصوص به سبحانه وبمن وفقه عز شأنه من
عباده الراسخين في العلم أي الذين ثبتوا وتمكنوا فيه ولم
يتزلزلوا في مزال الأقدام ومداحض الإفهام دونهم حيث إنهم بمعزل
عن تلك الرتبة هذا ما يقتضيه الظاهر في تفسير الراسخين،
وأخرج ابن عساكر من طريق عبد الله بن يزيد الأزدي قال: «سمعت
أنس بن مالك يقول: سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن
الراسخين في العلم فقال: من صدق حديثه وبر في يمينه وعف بطنه
وفرجه فذلك الراسخون في العلم ولعل ذلك بيان علامتهم وما ينبغي
أن يكونوا عليه، والمراد بالعلم العلم الشرعي المتقبس من مشكاة
النبوة فإن أهله هم الممدوحون.»
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ استئناف موضح لحال الراسخين ولهذا
فصل، والنحاة يقدرون له مبتدأ دائما- أي هم يقولون- وقد قيل:
إنه لا حاجة إليه ولم يعرف وجه التزامهم لذلك فلينظر، وجوز أن
يكون حالا من الراسخين- والضمير المجرور راجع إلى المتشابه
وعدم التعرض لإيمانهم بالمحكم لظهوره وإن رجع إلى الكتاب فله
وجه أيضا لأن ماله كل من أجزاء الكتاب أو جزئياته وذلك لا يخلو
عن الأمرين، ثم هذا القول وإن لم يخص- الراسخين- لكن فيه تعريض
بأن مقتضى الإيمان به أن لا يسلك فيه طريق لا يليق من تأويله
على ما مر فكأن غيرهم ليس بمؤمن كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا من
تمام مقولهم مؤكد لما قبله ومقرر له أي كل واحد منه ومن
المحكم- أو كل واحد من متشابهه ومحكمه منزل من عنده تعالى لا
مخالفة بينهما، وفي التعبير بالرب إشارة إلى سر إنزال
المتشابه، والحكمة فيه لما أنه متضمن معنى التربية والنظر في
المصلحة والإيصال إلى معارج الكمال أولا فأولا، وقد قالوا:
إنما أنزل المتشابه لذلك ليظهر فضل العلماء ويزداد حرصهم على
الاجتهاد في تدبره وتحصيل العلوم التي نيط بها استنباط ما أريد
به من الأحكام الحقيقية فينالوا بذلك وبإتعاب القرائح واستخراج
المقاصد الرائقة والمعاني اللائقة المدارج العالية ويعرجوا
بالتوفيق بينه وبين المحكم إلى رفرف الإيقان وعرش الاطمئنان
ويفوزوا بالمشاهد السامية وحينئذ ينكشف لهم الحجاب ويطيب لهم
المقام في رياض الصواب، وذلك من التربية والإرشاد أقصى غاية
ونهاية في رعاية المصلحة ليس وراءها نهاية.
وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ عطف على جملة
يَقُولُونَ سيق من جهته تعالى مدحا للراسخين بجودة الذهن وحسن
النظر ما أنهم قد تجردت عقولهم عما يغشاها من الركون إلى
الأهواء الزائغة المكدرة لها واستعدوا إلى الاهتداء إلى معالم
الحق والعروج إلى معارج الصدق، وللإشارة إلى ذلك وضع الظاهر
موضع الضمير هذا على تقدير أن يكون الوقف على الرَّاسِخُونَ
وهو الذي ذهب إليه الشافعية، وسائر من فسر المتشابه بما لم
يتضح معناه، وأما على تقدير أن يكون الوقف على إِلَّا اللَّهُ
وهو الذي ذهب إليه الحنفية القائلون بأن المتشابه ما استأثر
الله تعالى بعلمه فالراسخون مبتدأ وجملة يَقُولُونَ خبر عنه،
ورجح الأول بوجوه: أما أولا فلأنه لو أريد بيان حظ الراسخين
مقابلا لبيان حظ الزائغين لكان المناسب أن يقال وأما الراسخون
فيقولون، وأما ثانيا فلأنه لا فائدة حينئذ في قيد الرسوخ بل
هذا حكم العالمين كلهم، وأما ثالثا فلأنه لا ينحصر حينئذ
الكتاب في المحكم والمتشابه على ما هو مقتضى ظاهر
(2/81)
العبارة حيث لم يقل- ومنه متشابهات- لأن ما
لا يكون متضح المعنى ويهتدي العلماء إلى تأويله ورده إلى
المحكم لا يكون محكما ولا متشهابا بالمعنى المذكور وهو كثير
جدا، وأما رابعا فلأن المحكم حينئذ لا يكون- أم الكتاب- بمعنى
رجوع المتشابه إليه إذ لا رجوع إليه فيما استأثر الله تعالى
بعلمه كعدد الزبانية مثلا، وأما خامسا فلأنه قد ثبت
في الصحيح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم دعا لابن عباس فقال:
«اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»
ولو كان التأويل مما لا يعلمه إلا الله تعالى لما كان للدعاء
معنى، وأما سادسا فلأن ابن عباس رضي الله تعالى عنه كان يقول:
أنا ممن يعلم تأويله، وأما سابعا فلأنه سبحانه وتعالى مدح
الراسخين بالتذكر في هذا المقام وهو يشعر بأن لهم الحظ الأوفر
من معرفة ذلك، وأما ثامنا فلأنه يبعد أن يخاطب الله تعالى
عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته، والقول: بأن-
أما- للتفصيل فلا بد في مقابلة الحكم على الزائغين من حكم على
الراسخين ليتحقق التفصيل. غاية الأمر أنه حذفت- أما- والفاء،
وبأن الآية من قبيل الجمع والتقسيم والتفريق فالجمع في قوله
سبحانه: أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ والتقسيم في قوله تعالى:
مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ
مُتَشابِهاتٌ والتفريق في قوله عز شأنه: فَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ إلخ فلا بد في مقابلة ذلك من حكم يتعلق
بالمحكم وهو أن الراسخين يتبعونه ويرجعون المتشابه إليه على ما
هو مضمون قوله سبحانه: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ إلخ مجاب
عنه بأن كون- أما- للتفصيل أكثري لا كلي ولو سلم فليس ذكر
المقابل في اللفظ بلازم.
ثم لو سلم بأن الآية من قبيل الجمع والتقسيم والتفريق فذكر
المقابل على سبيل الاستئناف أو الحال أعني يَقُولُونَ إلخ كاف
في ذلك، ورجح الثاني بأنه مذهب الأكثرين من أصحاب رسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم، والتابعين وأتباعهم خصوصا أهل
السنة، وهو أصح الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، ولم
يذهب إلى القول الأول إلا شرذمة قليلة بالنسبة إلى الأكثرين
كما نص عليه ابن السمعاني وغيره- ويد الله تعالى مع الجماعة-
ويدل على صحة مذهبهم أخبار كثيرة، الأول ما أخرجه عبد الرزاق
في تفسيره، والحاكم في مستدركه عن ابن عباس أنه كان يقرأ- وما
يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به- فهذا
يدل على أن الواو للاستئناف لأن هذه الرواية وإن لم تثبت بها
القراءة فأقل درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان
القرآن فيقدم كلامه على من دونه، وحكى الفراء أن في قراءة أبيّ
بن كعب أيضا- ويقول الراسخون في العلم.
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف من طريق الأعمش قال في قراءة
ابن مسعود- وإن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون
آمنا به- الثاني ما
أخرج الطبراني في الكبير عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «لا أخاف على أمتي إلا
ثلاث خلال: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا وأن يفتح لهم
الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله وما يبتغي تأويله إلا الله
تعالى» .
«الحديث الثالث» ما
أخرج ابن مردويه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «إن القرآن لم ينزل
ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا
به» .
الرابع ما
أخرج الحاكم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
قال: «الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن
من سبعة أبواب على سبعة: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم،
ومتشابه، وأمثال فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم
به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه
وآمنوا بمتشابهه وقولوا: آمنا به كل من عند ربنا» .
وأخرج البيهقي في الشعب نحوه عن أبي هريرة،
الخامس ما
أخرجه ابن جرير عن ابن عباس مرفوعا «أنزل
(2/82)
القرآن على أربعة أحرف حلال وحرام لا يعذر
أحد بجهالته وتفسير تفسره العلماء ومتشابه لا يعلمه إلا الله
تعالى ومن ادعى علمه سوى الله تعالى فهو كاذب»
إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على أن المتشابه مما لا يعلم
تأويله إلا الله تعالى، وذهب بعض المحققين إلى أن كلا من الوقف
والوصل جائز- ولكل منهما وجه وجيه- وبين ذلك الراغب بأن القرآن
عند اعتبار بعضه ببعض ثلاثة أضرب محكم على الإطلاق، ومتشابه
على الإطلاق ومحكم من وجه متشابه من وجه، فالمتشابه في الجملة
ثلاثة أضرب: متشابه من جهة اللفظ فقط، ومن جهة المعنى، ومن
جهتهما معا. فالأول ضربان: أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة
أما من جهة الغرابة نحو الأب ويزفون، أو الاشتراك كاليد
والعين. وثانيهما يرجع إلى جملة الكلام المركب وذلك ثلاثة
أضرب: ضرب لاختصار الكلام نحو وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا
تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ [النساء:
3] وضرب لبسطه نحو لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] لأنه
لو قيل:
ليس مثله شيء كان أظهر للسامع. وضرب لنظم الكلام نحو أَنْزَلَ
عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً
قَيِّماً [الكهف: 1] إذ تقديره- أنزل على عبده الكتاب قيما ولم
يجعل له عوجا- والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى
وأوصاف يوم القيامة فإن تلك الصفات لا تتصور لنا إذ لا يحصل في
نفوسنا صورة ما لم نحسه أو ليس من جنسه، والمتشابه من جهتهما
خمسة أضرب. الأول من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5] والثاني من جهة
الكيفية كالوجوب والندب في نحو فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ
مِنَ النِّساءِ. والثالث من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو
اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] . والرابع من
جهة المكان والأمور التي نزلت فيها الآية نحو وَلَيْسَ
الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها [البقرة:
189] إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة: 37]
فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه تفسير هذه،
والخامس من جهة الشروط التي يصح بها الفعل ويفسد كشرط الصلاة
والنكاح، ثم قال: وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره
المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم ثم جميع
المتشابه على ثلاثة أضرب: ضرب لا سبيل للوقوف عليه كوقت الساعة
وخروج الدابة وغير ذلك، وقسم للانسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ
الغريبة والأحكام الغلقة، وضرب متردد بين الأمرين يختص بمعرفته
بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم. وهو المشار إليه
بقوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله تعالى عنه:
«اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» .
وإذا عرفت هذا ظهر جواز الأمرين الوقف على إِلَّا اللَّهُ
والوقف على الرَّاسِخُونَ وقال بعض أئمة التحقيق: الحق أنه إن
أريد بالمتشابه ما لا سبيل إليه للمخلوق فالحق الوقف على
إِلَّا اللَّهُ وإن أريد ما لا يتضح بحيث يتناول المجمل ونحوه
فالحق العطف، ويجوز الوقف أيضا لأنه لا يعلم جميعه أو لا يعلمه
بالكنه إلا الله تعالى، وأما إذا فسر بما دل القاطع أي النص
النقلي أو الدليل الجازم العقلي على أن ظاهره غير مراد ولم يقم
دليل على ما هو المراد ففيه مذهبان: فمنهم من يجوز الخوض فيه
وتأويله بما يرجع إلى الجادة في مثله فيجوز عنده الوقف وعدمه،
ومنهم من يمنع الخوض فيه فيمتنع تأويله ويجب الوقف عنده.
والذاهبون إلى الوقف من السادة الحنفية أجابوا عما ذكره غيرهم
في ترجيح ما ذهبوا إليه من الوجوه، فعن الأول بأنه أريد ببيان
حظ الراسخين مقابلا لبيان حظ الزائغين إلا أنه لم يقل- وأما
الراسخون- مبالغة في الاعتناء بشأن الراسخين حيث لم يسلك بهم
سبيل المعادلة اللفظية لهؤلاء الزائغين وصينوا عن أن يذكروا
معهم كما يذكر المتقابلان في الأغلب في مثل هذه المقامات وقريب
من هذا قوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا
يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ
كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [البقرة: 257] حيث لم
يقل- والطاغوت أولياء الذين كفروا، ولا الذين آمنوا وليهم
الله- تعظيما لشأنه تعالى ورعاية للاعتناء بشأن المؤمنين،
(2/83)
وعن الثاني بأن فائدة قيد الرسوخ المبالغة
في قصر علم تأويل المتشابه عليه تعالى لأنه إذا لم يعلموه هم
كما يشعر به الحكم عليهم بأنهم يقولون آمنا به فغيرهم أولى
بعدم العلم فلم يبق عالم به إلا الله تعالى.
وعن الثالث بأنه يلتزم القول بعدم الحصر، وفي الإتقان أن بعضا
قال: إن الآية لا تدل على الحصر في الشيئين إذ ليس فيها شيء من
طرقه ولولا ذلك لأشكل قوله تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما
نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] لأن المحكم لا تتوقف معرفته
على البيان والمتشابه لا يرجى بيانه فما هذا الذي يبينه النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم؟ وعن الرابع بالتزام أن إضافة- أم-
إلى الْكِتابَ على معنى في، والمحكم- أم- في الْكِتابَ ولكن لا
للمتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه بل هو- أم- وأصل في فهم
العبادات الشرعية كوجوب معرفته وتصديق رسله وامتثال أوامره
واجتناب نواهيه، وعلى تقدير القول بأن الإضافة لامية يلتزم
الأمومة للكتاب باعتبار بعضه وهو الواسطة بين القسمين لأن متضح
الدلالة كثيرا ما يرجع إليه في خفيها مما لم يصل إلى حد
الاستئثار، وعن الخامس بأن التأويل الذي دعا به رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم لابن عباس لا يتعين حمله على تأويل ما
اختص علمه به تعالى بل يجوز حمله على تفسير ما يخفى تفسيره من
القسم المتردد بين الأمرين اللذين ذكرهما الراغب كما ذكره.
وعن السادس بأن الرواية عن ابن عباس أنه قال: أنا ممن يعلم
تأويله معارضة بما هو أصح منها بدرجات فتسقط عن درجة الاعتبار،
وعلى تقدير تسليم اعتبارها يمكن أن يقال: مراده رضي الله تعالى
عنه- أنا ممن يعلم تأويله- أي المتشابه في الجملة حسبما دعا لي
به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهذا وإن قيل: إنه
متشابه لكنه في الحقيقة واسطة بين المحكم والمتشابه بالمعنى
المراد، وعن السابع بأن مدح الراسخين بالتذكر ليس لأن لهم حظا
في معرفته بل لأنهم اتعظوا فخالفوا هواهم ووقفوا عند ما حدّ
لهم مولاهم ولم يسلكوا مسلك الزائغين ولم يخوضوا مع الخائضين
ويمكن على بعد أن يراد بالتذكر الانتفاع مجازا أي إن الراسخين
هم الذين ينتفعون به حيث يؤمنون به لخلوص عقولهم عن غشاوة
الهوى كما أنهم آمنوا بالغيب وهذا بخلاف الزائغين حيث صار
المتشابه ضررا عليهم ووبالا لهم إذ ضلوا فيه كثيرا وأضلوا عن
سواء السبيل، وقد قال سبحانه من قبل فيما ضربه من المثل:
يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ
بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [البقرة: 26] وعن الثامن بأنه لا بعد
في أن يخاطب الله تعالى عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى
معرفته ويكون ذلك من باب الابتلاء كما ابتلى سبحانه عباده
بتكاليف كثيرة وعبادات وفيرة لم يعرف أحد حقيقة السر فيها،
والسر في هذا الابتلاء قص جناح العقل، وكسر سورة الفكر، وإذهاب
عجب طاوس النفس ليتوجه القلب بشراشره تجاه كعبة العبودية ويخضع
تحت سرادقات الربوبية ويعترف بالقصور ويقر بالعجز عن الوصول
إلى ما في هاتيك القصور وفي ذلك غاية التربية ونهاية المصلحة
هذا إذا أريد بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته ما لا سبيل
لأحد منهم إلى معرفته من طريق الفكر، وأما إذا أريد ما لا سبيل
إلى معرفته مطلقا سواء كانت على الإجمال أو التفصيل بالوحي أو
بالإلهام لنبي أو لوليّ فوجود مثل هذا المخاطب به في القرآن في
حيز المنع، ولعل القائل يكون المتشابه مما استأثر الله تعالى
بعلمه لا يمنع تعليمه للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم بواسطة
الوحي مثلا ولا إلقاءه في روع الوليّ الكامل مفصلا لكن لا يصل
إلى درجة الإحاطة- كعلم الله تعالى- وإن لم يكن مفصلا فلا أقل
من أن يكون مجملا ومنع هذا وذاك مما لا يكاد يقول به من يعرف
رتبة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ورتبة أولياء أمته
الكاملين وإنما المنع من الإحاطة ومن معرفته على سبيل النظر
والفكر وهو الطريق المعتاد والسبيل المسلوك في معرفة المشكلات
واستحصال النظريات ولتبادر هذا المعنى من يعلم إذا أسند إلى
الراسخين منع إسناده إليهم ومتى أريد منه العلم لا من طريق
الفكر صح الإسناد وجاز العطف ولكن دون توهم هذه الإرادة من
ظاهر
(2/84)
الكلام خرط القتاد، فلهذا شاع القول بعدم
العطف وكان القول به أسلم.
ويؤيد ما قلنا ما ذكره الإمام الشعراني قال: أخبرني شيخنا علي
الخواص قدس سره إن الله تعالى أطلعه على معاني سورة الفاتحة
فخرج منها مائتي ألف علم وأربعين ألف علم وتسعمائة وتسعين علما
وكان يقول: لا يسمى عالما أي عند أهل الله تعالى إلا من عرف كل
لفظ جاءت به الشريعة، وقال في الكشف في نحو ق [ق: 1] ، ص [ص:
1] حم [غافر: 1، فصلت: 1، الشورى: 1، الزخرف: 1، الدخان: 1،
الجاثية: 1، الأحقاف: 1] طس [النمل: 1] : لعل إدراك ما تحته
عند أهله كإدراكنا للأوليات ولا يستبعد، ففيض الباري عم نواله
غير محصور، واستعداد الإنسان الكامل عن القبول غير محسور، ومن
لم يصدق إجمالا- بأن وراء مدركات الفكرة ومباديها طورا أو
أطوارا حظ العقل منها حظ الحسّ من المعقولات- فهو غير متخلص عن
مضيق التعطيل أو التشبيه وإن لم يتدارك حاله بقي بعد كشف الغطا
في هذا التيه، ولتتحقق من هذا أن المراتب مختلفة وأن الإحاطة
على الحقائق الإلهية كما هي مستحيلة إلا للباري جل ذكره وأنه
لا بد للعارف وإن وصل إلى أعلى المراتب أن يبقى له ما يجب
الإيمان به غيبا وهو من المتشابه الذي يقول الراسخون فيه:
آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا فهذا ما يجب أن يعتقد
كي لا يلحد.
ثم اعلم أن كثيرا من الناس جعل الصفات النقلية من الاستواء
واليد والقدم والنزول إلى السماء الدنيا والضحك والتعجب
وأمثالها من المتشابه، ومذهب السلف والأشعري رحمه الله تعالى
من أعيانهم- كما أبانت عن حاله الإبانة (1) - أنها صفات ثابتة
وراء العقل ما كلفنا إلا اعتقاد ثبوتها مع اعتقاد عدم التجسيم
والتشبيه لئلا يضاد النقل العقل، وذهب الخلف إلى تأويلها
وتعيين مراد الله تعالى منها فيقولون: الاستواء مثلا بمعنى
الاستيلاء والغلبة، وذلك أثر من آثار بعض الصفات الثمانية التي
ليس لله تعالى عندهم وراءها صفة حتى ادعى السكوتي- وليته سكت-
أن ما وراء ذلك ممتنع إذ لا يلزم من نفيه محال وكل ما لا يلزم
من نفيه محال لا يكون واجبا، والله تعالى لا يتصف إلا بواجب،
وذكر الشعراني في الدرر المنثورة أن مذهب السلف أسلم وأحكم إذ
المؤول انتقل عن شرح الاستواء الجسماني على العرش المكاني
بالتنزيه عنه إلى التشبيه السلطاني الحادث وهو الاستيلاء على
المكان فهو انتقال عن التشبيه بمحدث ما إلى التشبيه بمحدث آخر
فما بلغ عقله في التنزيه مبلغ الشرع فيه في قوله تعالى: لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:
11] ألا ترى أنه استشهد في التنزيه العقلي في الاستواء بقول
شاعر:
قد- استوى- بشر على العراق ... من غير حرب ودم مهراق
وأين استواء- بشر على العراق- من استواء الرحمن على العرش،
ونهاية الأمر يحتاج إلى القول بأن المراد استيلاء يليق بشأن
الرحمن جل شأنه فليقل من أول الأمر قبل تحمل مؤنة هذا التأويل
استواء يليق بشأن من عز شأنه وتعالى عن إدراك العقول سلطانه،
وهذا أليق بالأدب وأوفق بكمال العبودية وعليه درج صدر الأمة
وساداتها- وإياها اختار أئمة الفقهاء وقاداتها- وإليها دعا
أئمة الحديث في القديم والحديث حتى قال محمد بن الحسن كما
أخرجه عنه اللالكائي: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب
على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه، وورد عن سليمان
بن يسار أن رجلا يقال له ضبيع: قدم المدينة فجعل يسأل عن
متشابه القرآن فأرسل إليه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه
وقد أعد له عراجين النخل فقال: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله
ضبيع فأخذ عمر عرجونا من تلك
__________
(1) الإبانة اسم كتاب للإمام الأشعري ألفه في آخر عمره فجنح
فيه لمذهب السلف ومذهب السلف هو الأعلم والأسلم فعليك به اهـ
إدارة. [.....]
(2/85)
العراجين فضربه حتى أدمى رأسه- وفي رواية-
فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دبرة ثم تركه حتى برئ فدعا به
ليعود فقال: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا فأذن له إلى
أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين
«لا يقال» إن تركت أمثال هذه المتشابهات على ظواهرها دلت على
التجسيم وإن لم ترد ظواهرها فقد أولت لأن التأويل على ما
قالوا: إخراج الكلام عن ظاهره لأنا نقول: نختار الشق الثاني
ولا نسلم أن التأويل إخراج الكلام عن ظاهره مطلقا بل إخراجه
إلى معنى معين معلوم كما يقال الاستواء مثلا بمعنى الاستيلاء
على أن للتأويل معنيين مشهورين لا يصدق شيء منهما على نفس
الظاهر من غير تعيين للمراد، أحدهما ترجمة الشيء وتفسيره
الموضح له، وثانيهما بيان حقيقته وإبرازها إما بالعلم أو
بالعقل فإن من قال: بعد التنزيه لا أدري من هذه المتشابهات سوى
أن الله تعالى وصف بها نفسه وأراد منها معنى لائقا بجلاله جل
جلاله، ولا أعرف ذلك المعنى لم يقل في حقه أنه ترجم وأوضح ولا
بيّن الحقيقة وأبرز المراد حتى يقال إنه أول، ومن أمعن النظر
في مأخذ التأويل لم يشك في صحة ما قلنا. نعم ذهبت شرذمة قليلة
من السلف إلى إبقاء نحو المذكورات على ظواهرها إلا أنهم ينفون
لوازمها المنقدحة للذهن الموجبة لنسبة النقص إليه عز شأنه
ويقولون: إنما هي لوازم لا يصح انفكاكها عن ملزوماتها في
صفاتنا الحادثة، وأما في صفات من ليس كمثله شيء فليست بلوازم
في الحقيقة ليكون القول بانفكاكها سفسطة- وأين التراب من رب
الأرباب- وكأنهم إنما قالوا ذلك ظنا منهم أن قول الآخرين من
السلف تأويل، والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لا يذهبون إليه أو
أنهم وجدوا بعض الآثار يشعر بذلك مثل ما حكى مقاتل. والكلبي عن
ابن عباس في «استوى» أنه بمعنى استقر، وما أخرجه أبو القاسم من
طريق قرة بن خالد عن الحسن عن أمه عن أم سلمة في قوله تعالى:
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] إنها قالت: الكيف
غير معقول والاستواء غير مجهول والإقرار به من الإيمان والجحود
به كفر.
وقريب من هذا القول ما يصرح به كلام كثير من ساداتنا الصوفية
فإنهم قالوا: إن هذه المتشابهات تجري على ظواهرها مع القول
بالتنزيه الدال عليه قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
[الشورى: 11] حيث إن وجود الحق تعالى شأنه لا تقيده الأكوان
وإن تجلى فيما شاء منها إذ له كمال الإطلاق حتى عن قيد
الإطلاق، ولا يخفى أن إجراء المتشابهات على ظاهرها مع التنزيه
اللائق بجلال ذاته سبحانه طور ما وراء طور العقل وبحر لا يسبح
فيه إلا من فاز بقرب النوافل.
وذكر بعض أئمة التدقيق أن العقل سبيله في العلم بالصفات
الثمانية المشهورة كعلمه بتلك الصفات التي يدعي الخلف رجوعها
إليها إذا أحد النظر، فقد قام البرهان وشاهد العيان على عدم
المماثلة ذاتا وصفات أيضا لكن صفاته المتعالية وأسماؤه الحسنى
قسمان: قسم يناسب ما عندنا من الصفات نوع مناسبة وإن كانت
بعيدة، ولا يقال: فلا بد فيه في أفهامنا معاشر الناقصين من أن
يسمى بتلك الأسماء المشتهرة عندنا فيسمى علما مثلا- لا دواة
ولا قلما- وقسم ليس كذلك وهو المشار إليه بقوله صلى الله تعالى
عليه وسلم، أو استأثرت به في علم الغيب عندك فقد يذكر له أسماء
مشوقة لأن منه ما للانسان الكامل منه نصيب بطريق التخلق
والتحقق فيذكر تارة اليد والنزول والقدم ونحو ذلك من المخيلات
مع العلم البرهاني والشهود الوجداني بتنزهه تعالى عن كل كمال
يتصوره الإنسان ويحيط به فضلا عن النقصان، فيعلم أنه أشار إلى
ذلك القسم الذي علم بالإجمال ويتوجه إذ ذاك بكليته شطر كعبة
الجلال والجمال فيفاض عليه من ينبوع الكمال ما يستأنس عنده
وينكشف له جليلة الحال، وإذ ليس له مناسبة بما عندنا لا توجد
عبارة يترجم عنها إلا على سبيل الخيال، وإليه الإشارة
بقوله عليه الصلاة والسلام: «من عرف الله تعالى كل لسانه»
وأخرى بين مقصد الكل ومن أحبه سبحانه ما يصان عن تهمة إدراك
الأغيار من نحو تلك الفواتح، ولعل إدراكها عند أهلها
(2/86)
كإدراك الأوليات إلا أنه لا إحاطة بل لا بد
من بقاء شيء كما أشير إليه، وعلى هذا أيضا الأليق أن يوقف لأنه
شعار من لنا فيهم الأسوة الحسنة مع ظهور وجهه لكن لا تجعل
الآية حجة على من تأول نحو وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ [الزمر: 67] مثلا إذ لا يسلم أنه داخل في
ذلك المتشابه والحمل على المجاز الشائع في كلام العرب والكناية
البالغة في الشهرة مبلغ الحقيقة أظهر من الحمل على معنى مجهول.
نعم لو قيل: إن تصوير العظمة على هذا الوجه دال على أن العقل
غير مستقل بإدراكها وأنها أجل من أن تحيط بها العقول فالكنه من
المتشابه الذي دلت الآية عليه ويجب الإيمان به كان حسنا، وجمعا
بين ما عليه السلف ومشى عليه الخلف وهو الذي يجب أن يعتقد كيلا
يلزم ازدراء بأحد الفريقين كما فعل ابن القيم حتى قال: لام
الأشعرية كنون اليهودية أعاذنا الله تعالى من ذلك، وعلى هذا
يجب أن يفسر المتشابه في الآية بما يعم القسمين، والمحكم أُمُّ
يرجع إليه في تمييز القسمين أحدهما فرعه الإيماني. والثاني
فرعه الإيقاني، وابن دقيق العيد توسط في مسألة التأويل، ويحتمل
أنه لم يخرج ما قاله هذا المدقق أخيرا من المتشابه فقال: إذا
كان التأويل قريبا من لسان العرب لم ينكر أو بعيدا توقفنا عنه
وآمنا بمعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه وما كان معناه
من هذه الألفاظ ظاهرا معهودا من تخاطب العرب قلنا به من غير
توقف كما في قوله تعالى: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي
جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: 56] فنحمله على حق الله تعالى وما يجب
له فليفهم هذا المقام فكم زلت فيه أقوام بعد أقوام رَبَّنا لا
تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا يحتمل أن يكون من
تمام مقالة الراسخين، ويحتمل أن يكون على معنى التعليم- أي
قولوا رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا عن نهج الحق إلى اتباع
المتشابه بتأويل لا ترتضيه بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا إلى معالم
الحق من التفويض في المتشابه أو الإيمان بالقسمين، أو التأويل
الصحيح، ويؤول المعنى إلى لا تضلنا بعد الهداية لأن زيغ القلوب
في مقابلة الهداية ومقابلة الهداية الإضلال، وصحة نسبة ذلك إلى
الله تعالى- على مذهب أهل السنة في أفعال العباد- ظاهرة،
والمعتزلة يؤولون ذلك بنحو لا تبلنا ببلايا تزيغ بسببها قلوبنا
ولا تمنعنا ألطافك بعد أن لطفت بنا، وإنما دعوا بذلك أو أمروا
بالدعاء به لأن القلوب لا تتقلب،
ففي الصحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم كثيرا ما يدعو «يا مقلب القلوب ثبت
قلبي على دينك قلت: يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء؟
فقال: ليس من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء
أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه» .
وأخرج الحكيم الترمذي من طريق عتبة بن عبد الله بن خالد بن
معدان عن أبيه عن جده قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم
إنما الإيمان بمنزلة القميص مرة تقمصه ومرة تنزعه»
والروايات بمعنى ذلك كثيرة وهي تدل على جواز عروض الكفر بعد
الإيمان بطرو الشك مثلا والعياذ بالله تعالى، وفي كلام الصحابة
رضي الله تعالى عنهم أيضا ما يدل على ذلك فقد أخرج ابن سعد عن
أبي عطاف أن أبا هريرة كان يقول: أي رب لا أزنين أي رب لا
أسرقن أي رب لا أكفرن قيل له:
أو تخاف؟ قال: آمنت بمحرف القلوب ثلاثا، وأخرج الحكيم الترمذي
عن أبي الدرداء قال: كان عبد الله بن رواحة إذا لقيني قال:
اجلس يا عويمر فلنؤمن ساعة فنجلس فنذكر الله تعالى على ما يشاء
ثم قال: يا عويمر هذه مجالس الإيمان إن مثل الإيمان ومثلك كمثل
قميصك بينا أنت قد نزعته إذ لبسته وبينا أنت قد لبسته إذ نزعته
يا عويمر للقلب أسرع تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا. وعن
أبي أيوب الأنصاري: ليأتين على الرجل أحايين وما في جلده موضع
إبرة من النفاق وليأتين عليه أحايين وما في جلده موضع إبرة من
إيمان.
وادعى بعضهم أن هذا بالنسبة إلى الإيمان الغير الكامل وما رجع
من رجع إلا من الطريق، وأما بعد حصول الإيمان الكامل والتصديق
الجازم والعلم الثابت المطابق فلا يتصور رجعة وكفر أصلا لئلا
يلزم انقلاب العلم جهلا وهو محال
(2/87)
والتزم تأويل جميع ما يدل على ذلك، ولا
يخفى أن هذا القول مما يكاد يجر إلى الأمن من مكر الله تعالى
والتزام تأويل النصوص لشبهة اختلجت في الصدر هي أوهن من بيت
العنكبوت في التحقيق مما لا يقدم عليه من له أدنى مسكة كما لا
يخفى فتدبر، وبَعْدَ منصوب على الظرفية والعامل فيه تُزِغْ،
وإِذْ مضاف إليه وهي متصرفة كما ذكره أجلة النحويين، وأما
القول بأنها بمعنى أن المصدرية المفتوحة الهمزة، والمعنى- بعد
هدايتنا فمما ذكره الحوفي في إعراب القرآن ولم ير لغيره،
والمذكور في النحو أنها تكون حرف تعليل فتؤول مع ما بعدها
بالمصدر نحو وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ
[الزخرف: 39] أي لظلمكم فإن كان أخذ من هذا فهو كما ترى، وقرئ-
«لا تزغ» - بالياء والتاء ورفع القلوب وَهَبْ لَنا مِنْ
لَدُنْكَ كلا الجارين متعلق- بهب- وتقديم الأول اعتناء به
وتشويقا إلى الثاني، ويجوز تعلق الثاني بمحذوف هو حال من
المفعول أي كائنة من لدنك، ومِنْ لابتداء الغاية المجازية،
ولدن- ظرف، وهي لأول غاية زمان، أو مكان، أو غيرهما من الذوات
نحو- من لدن زيد- وليست مرادفة لعند بل قد تكون بمعناها،
وبعضهم يقيدها بظرف المكان وهي ملازمة للإضافة فلا تنفك عنها
بحال، فتارة تضاف إلى المفرد، وتارة إلى الجملة الاسمية أو
الفعلية وقلما تخلو عن مِنْ، وفيها لغتان، الإعراب- وهي لغة
قيس- والبناء وهي اللغة المشهورة- وسببه شبهها بالحرف في لزوم
استعمال واحد وامتناع الإخبار بها بخلاف- عند، ولديّ- فانهما
لا يلزمان استعمالا واحدا إذ يكونان فضلة، وعمدة، وغاية، وغير
غاية، قيل: ولقوة هذا الشبه لا تعرب إذا أضيفت في المشهور
واللغتان المذكورتان من الإعراب والبناء مختصان- بلدن-
المفتوحة اللام المضمومة الدال الواقع آخرها نون، وأما بقية
لغاتها فإنها فيها مبنية عند جميع العرب وفيها لغات المشهورة
منها ما تقدم- ولدن ولدن- بفتح الدال وكسرها- ولدن، ولدن- بفتح
اللام وضمها مع سكون الدال- ولدن- بفتح اللام وضم الدال
وبإبدال الدال تاء ساكنة ومتى أضيفت المحذوفة النون إلى ضمير
وجب رد النون رَحْمَةً مفعول- لهب- وتنوينه للتفخيم، والمراد
بالرحمة الإحسان والإنعام مطلقا، وقيل: الإنعام المخصوص وهو
التوفيق للثبات على الحق، وفي سؤال ذلك بلفظ لأنه إشارة إلى أن
ذلك منه تعالى تفضل محض من غير شائبة وجوب عليه عز شأنه وتأخير
المفعول الصريح للتشويق إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ تعليل
للسؤال أو لاعطاء المسئول، وأَنْتَ إما مبتدأ أو فصل أو تأكيد
لاسم- إن- وحذف المعمول لإفادة العموم كما في قولهم: فلان يعطي
واختيار صيغة المبالغة على فعال قيل: لمناسبة رؤوس الآي
رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ المكلفين وغيرهم لِيَوْمٍ أي
لحساب يوم، أو لجزاء يوم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه
تهويلا لما يقع فيه، وقيل: اللام بمعنى إلى أي جامعهم في
القبور إلى يوم لا رَيْبَ فِيهِ أي لا ينبغي أن يرتاب في وقوعه
ووقوع ما فيه من الحشر والحساب والجزاء. وقيل: الضمير المجرور
للحكم أي لا ريب في هذا الحكم، فالجملة على الأول صفة ليوم،
وعلى الثاني لتأكيد الحكم ومقصودهم من هذا- كما قال غير واحد-
عرض كمال افتقارهم إلى الرحمة وأنها المقصد الأسنى عندهم،
والتأكيد لإظهار ما هم عليه من كمال الطمأنينة وقوة اليقين
بأحوال الآخرة لمزيد الرغبة في استنزال طائر الإجابة. وقرئ
جامِعُ النَّاسِ بالتنوين إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ
الْمِيعادَ تعليل لمضمون الجملة المؤكدة أو لانتفاء الريب،
وقيل: تأكيد بعد تأكيد للحكم السابق وإظهار الاسم الجليل مع
الالتفات للاشارة إلى تعظيم الموعود والإجلال الناشئ من ذكر
اليوم المهيب الهائل، وللإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية منافية
للإخلاف وهذا بخلاف ما في آخر السورة حيث أتى بلفظ الخطاب فيه
لما أن مقامه مقام طلب الانعام، وقال الكرخي: الفرق بينهما أن
ما هنا متصل بما قبله اتصالا لفظيا فقط وما في الآخر متصل
اتصالا معنويا ولفظيا لتقدم لفظ الوعد، وجوز أن تكون
هذه الجملة من كلامه تعالى لتقرير قول الراسخين لا من كلام
الراسخين فلا التفات حينئذ، قال السفاقسي: وهو الظاهر،
والْمِيعادَ مصدر ميمي بمعنى الحدث لا بمعنى الزمان والمكان
وهو اللائق بمفعولية-
(2/88)
يخلف- وياؤه منقلبة عن واو لانكسار ما
قبلها، واستدل بها الوعيدية على وجوب العقاب للعاصي عليه تعالى
وإلا يلزم الخلف، وأجيب عنه بأن وعيد الفساق مشروط بعدم العفو
بدلائل منفصلة كما هو مشروط بعدم التوبة وفاقا، وقيل: هو إنشاء
فلا يلزم محذور في تخلفه، وقيل: ما في الآية ليس محلا للنزاع
لأن الميعاد فيه مصدر بمعنى الوعد ولا يلزم من عدم خلف الوعد
عدم خلف الوعيد لأن الأول مقتضى الكرم كما قال:
وإني إذا أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
واعترض بأن الوعيد الذي هو محل النزاع داخل تحت الوعد بدليل
قوله تعالى: قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ
وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [الأعراف: 44] وأجيب
بأنا لا نسلم الدخول والآية من باب التهكم فهي على حد
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21] واعترض أيضا
بأن كون- الخلف في الإيعاد- مقتضى الكرم لا يجوز الخلف على
الله تعالى لأنه يلزم حينئذ صحة أن يسمى الله تعالى مكذب نفسه
وهو مما لا يقدم عليه أحد من المسلمين، وأجيب عنه بما تركه
أصوب من ذكره فالحق الرجوع إلى الجواب الأول.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» الم تقدم الكلام عليه، وذكر
بعض ساداتنا فيه أنه أشير به إلى كل الوجود من حيث هو كل لأن
أإشارة إلى الذات الذي هو أول الوجود وهو مرتبة الإطلاق، ول
إلى العقل المسمى بجبريل الذي هو وسط الوجود الذي يستفيض من
المبدأ ويفيض إلى المنتهى، وم إلى محمد صلى الله تعالى عليه
وسلم الذي هو آخر الوجود، وبه تتم دائرته ولهذا كان الختم.
وقال بعضهم: إن ل ركبت من ألفين أي وضعت بإزاء الذات مع صفة
العلم اللذين هما عالمان من العوالم الثلاثة الإلهية التي
أشرنا إليها فهو اسم من أسمائه تعالى، وأما م فهي إشارة إلى
الذات مع جميع الصفات والأفعال التي احتجبت بها في الصورة
المحمدية التي هي اسم الله تعالى الأعظم بحيث لا يعرفها إلا من
يعرفها ألا ترى أن أالتي هي لصورة الذات كيف احتجبت فيها فإن
الميم فيها الياء وفي الياء ألف ولتضمن الم الإشارة إلى مراتب
الوجود والحقيقة المحمدية ناسب أن تفتتح بها هذه الآيات
المتضمنة للرد على النصارى الذين أخطؤوا في التوحيد ولم يعرفوه
على وجهه، ولهذا أردفه سبحانه بقوله:
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا موجود في سائر العوالم
حقيقة إلا هو إذ لا أحد أغير من الله تعالى جل جلاله الْحَيُّ
أي المتصف بالحياة الكاملة على وجه يليق بذاته الْقَيُّومُ
القائم بتدبير الأعيان الثابتة بظهوره فيها حسب استعدادها
الأزلي الغير المجعول نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ وهو العلم
المفيد لمقام الجمع وهو التوحيد الذي تفنى فيه الكثرة ولا
يشاهد فيه التعدد متلبسا بالحق وهو الثابت الذي لا يعتريه تغير
في ذاته مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من التوحيد الأول
الأزلي السابق المعلوم في العهد الأول المخزون في غيب
الاستعداد وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ
هُدىً لِلنَّاسِ إلى معالم التوحيد وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ وهو
التوحيد التفصيلي الذي هو الحق باعتبار الفرق وهو منشأ
الاستقامة ومبدأ الدعوة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي احتجبوا
عن هذين التوحيدين بالمظاهر والأكوان ورؤية الأغيار ولم يؤمنوا
بآيات الله تعالى الدالة على أن له سبحانه رتبة الإطلاق وله
الظهور والتجلي بما شاء لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في البعد
والحرمان عن حظائر العرفان وَاللَّهُ عَزِيزٌ قاهر ذُو
انْتِقامٍ شديد بمقتضى صفاته الجلالية هُوَ الَّذِي
يُصَوِّرُكُمْ في أرحام الوجود كَيْفَ يَشاءُ لأنكم المظاهر
لأسمائه والمجلى لذاته لا إِلهَ في الوجود إِلَّا هُوَ
الْعَزِيزُ القاهر للأعيان الثابتة فلا تشم رائحة الوجود
بنفسها أبدا الْحَكِيمُ الذي يظهرها بوجوده الحق ويتجلى بها
حسبما تقتضيه الحكمة هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ
متنوعا في الظهور مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ أحكمت من أن يتطرق
إليها الاحتمال والاشتباه فلا تحتمل إلا معنى واحدا هُنَّ
أُمُّ الْكِتابِ والأصل وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ تحتمل معنيين
(2/89)
فأكثر ويقع فيها الاشتباه وذلك أن الحق
تعالى له وجه واحد وهو المطلق الباقي بعد فناء خلقه لا يحتمل
التكثر من ذلك الوجه وله وجوه متكثرة بحسب المرايا والمظاهر
بها يقع الاشتباه فورد التنزيل كذلك فَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أي ميل عن الحق فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ
لاحتجابهم بالكثرة عن الوحدة وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ الذي
يرجع إليه إلا الله ويعلمه الراسخون في العلم- الذين لم
يحتجبوا بأحد الأمرين عن الآخر بعلمه الذي منحوه بواسطة قرب
النوافل لا بالعلم الفكري الحاصل بواسطة الأقيسة المنطقية،
وبهذا يحصل الجمع بين الوقف على إِلَّا اللَّهُ والوقف على
الرَّاسِخُونَ وَما يَذَّكَّرُ بذلك العلم الواحد المفصل في
التفاصيل المتشابهة المتكثرة إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ الذين
صفت عقولهم بنور الهداية وتجردت عن قشر الهوى والعادة رَبَّنا
لا تُزِغْ قُلُوبَنا بالنظر إلى الأكوان والاحتجاب بها عن
مكونها بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا بنورك إلى صراطك المستقيم
ومشاهدتك في مراتب الوجود والمرايا المتعددة وَهَبْ لَنا مِنْ
لَدُنْكَ رَحْمَةً خاصة تمحو صفاتنا بصفاتك وظلماتنا بأنوارك
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ المعطي للقوابل حسب القابليات
رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ على اختلاف مراتبهم لِيَوْمٍ
لا رَيْبَ فِيهِ وهو يوم الجمع الذي هو الوصول إلى مقام الوحدة
عند كشف الغطا وطلوع شمس العيان إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ
الْمِيعادَ لتظهر صفاته الجمالية والجلالية ولذلك خلق الخلق
وتجلى للأعيان فأظهرها كيف شاء، هذا ثم لما بين سبحانه الدين
الحق والتوحيد وذكر أحوال الكتب الناطقة به وشرح حال القرآن
العظيم وكيفية إيمان الراسخين به أردف ذلك ببيان حال من كفر به
بقوله جل شأنه:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الظاهر أن المراد بهم جنس الكفرة
الشامل لجميع الأصناف، وقيل: وفد نجران، أو اليهود من قريظة
والنضير، وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أو مشركو
العرب لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أي لن تنفعهم، وقرئ بالتذكير
وسكون الياء وهو من الجد في استثقال الحركة على حروف اللين
أَمْوالُهُمْ التي أعدوها لدفع المضار وجلب المصالح وَلا
أَوْلادُهُمْ الذين يتناصرون بهم في الأمور المهمة ويعولون
عليهم في الملمات المدلهمة وتأخيرهم عن الأموال مع توسيط حرف
النفي- كما قال الشيخ الإسلام إما لعراقتهم في كشف الكروب أو
لأن الأموال أول عدة يفزع إليها عند نزول الخطوب مِنَ اللَّهِ
أي من عذابه تعالى- فمن- لابتداء الغاية كما قال المبرد، وقوله
تعالى: شَيْئاً نصب على المصدرية أي شيئا من الإغناء، وجوز أن
يكون مفعولا به لما في «أغنى» من معنى الدفع ومِنَ للتبعيض وهي
متعلقة بمحذوف وقع صفة له إلا أنها قدمت عليه فصارت حالا، وأن
يكون مفعولا ثانيا بناء على أن معنى أغنى عنه كفاه ولا يخفى ما
فيه، وقال أبو عبيدة: مِنَ هنا بمعنى عند وهو ضعيف، وقال غير
واحد: هي بدلية مثلها في قوله:
فليت لنا «من» ماء زمزم شربة ... مبردة باتت على طهيان
ومن ذلك
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ولا ينفع ذا الجد منك الجد»
وقوله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً
فِي الْأَرْضِ [الزخرف: 60] والمعنى لن تغني عنهم بدل رحمة
الله تعالى، أو بدل طاعته سبحانه أموالهم ولا أولادهم ونفى ذلك
سبحانه مع أن احتمال سد أموالهم وأولادهم مسد رحمة الله تعالى
وطاعته عز شأنه مما يبعد بل لا يكاد يخطر ببال حتى يتصدى لنفيه
إشارة إلى أن هؤلاء الكفار قد ألهتهم أموالهم وأولادهم عن الله
تعالى والنظر فيما ينبغي له إلى حيث يخيل للرائي أنهم ممن
يعتقد أنها تسد مسد رحمة الله تعالى وطاعته.
وقريب من ذلك قوله تعالى: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ
بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى [سبأ: 37] واعترض بأن
أكثر النحاة- كما في البحر- ينكرون إثبات البدلية- لمن- مع أن
الأول هو الأليق في الظاهر بتهويل أمر الكفرة والأنسب بقوله
تعالى: وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ وكذا بما بعد،
والوقود- بفتح الواو- وهي قراءة الجمهور-
(2/90)
الحطب- أي أولئك المتصفون بالكفر المبعدون
عن عز الحضور- حطب النار التي تسعر به لكفرهم، وقيل: الوقود
بالفتح لغة في الوقود بالضم- وبه قرأ الحسن- مصدر بمعنى
الإيقاد فيقدر حينئذ مضاف أي أهل وقودها- والأول هو الصحيح-
وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على تحقق الأمر وتقرره، أو
للإيذان بأن حقيقة حالهم ذلك وأنهم في حال كونهم في الدنيا
وقود النار بأعيانهم، وهي إما مستأنفة مقررة لعدم الإغناء أو
معطوفة على الجملة الأولى الواقعة خبرا لأن، وهُمْ يحتمل أن
يكون مبتدأ ويحتمل أن يكون فصلا.
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ الدأب العادة والشأن، وأصله من دأب في
الشيء دأبا ودؤوبا إذا اجتهد فيه وبالغ- أي حال هؤلاء في الكفر
واستحقاق العذاب كحال آل فرعون فالجار والمجرور خبر لمبتدأ
محذوف والجملة منفصلة عما قبلها مستأنفة استئنافا بيانيا
بتقدير- ما سبب هذا- على ما قاله بعض المحققين.
ومن الناس من جوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع صفة لمصدر-
تغنى- أي إغناء كائنا كعدم إغناء أو بوقود أي توقد بهم كما
توقد بأولئك- ولا يخفى ما في الوجهين- أما الأول فقد قال فيه
أبو حيان: إنه ضعيف للفصل بين العامل والمعمول بالجملة التي
هي، وأُولئِكَ إلخ إذا قدرت معطوفة فإن قدرت استئنافية وهو
بعيد جاز.
وأما الثاني فقد اعترضه الحلبي بأن الوقود على المشهور الأظهر
فيه اسم لما يوقد به وإذا كان اسما فلا عمل له «فإن قيل» إنه
مصدر كما في قراءة الحسن صح لكنه لم يصح وأورد عليهما معا
أنهما خلاف الظاهر لأن المذكور في تفسير الدأب إنما هو التكذيب
والأخذ من غير تعرض لعدم الإغناء لا سيما على تقدير كون مِنْ
بدلية- ولا- لإيقاد النار (1) فليفهم وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ وهم كفار الأمم الماضية فالضمير لآل فرعون، وقيل:
للذين كفروا، والمراد بالموصول معاصر ورسول الله صلّى الله
عليه وسلم كَذَّبُوا بِآياتِنا تفسير لدأبهم الذي فعلوا على
سبيل الاستئناف البياني، والمراد «بالآيات» إما المتلوة في كتب
الله تعالى أو العلامات الدالة على توحيد الله تعالى وصدق
أنبيائه عليهم الصلاة والسلام فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ تفسير-
لدأبهم- الذي فعل بهم أي فعاقبهم الله تعالى ولم يجدوا من بأس
الله تعالى محيصا، وقيل:
إن جملة كَذَّبُوا إلخ في حيز النصب على الحال من آلِ
فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بإضمار قد، ويجوز على
بعد أن تكون في حيز الرفع على أنها خبر عن الذين والالتفات
للتكلم أولا في آياتنا للجري على سنن الكبرياء، وإلى الغيبة
ثانيا بإظهار الجلالة لتربية المهابة وإدخال الروعة.
بِذُنُوبِهِمْ أي بسببها أو متلبسين بها غير تائبين، والمراد
من الذنوب- على الأول- التكذيب بالآيات المتعددة، وجيء
بالسببية تأكيدا لما تفيده الفاء، وعلى الثاني سائر الذنوب،
وفي ذلك إشارة إلى أن لهم ذنوبا أخر، وأصل الذنب التلو
والتابع، ثم أطلق على الجريمة لأنها يتلو- أي يتبع- عقابها
فاعلها وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن كفر بآياته، والجملة
تذييل مقررة لمضمون ما قبلها من الأخذ قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ روى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما أن يهود أهل المدينة قالوا لما هزم الله تعالى
المشركين يوم بدر: هذا والله النبي الأمي الذي بشرنا به موسى
عليه الصلاة والسلام ونجده في كتابنا بنعته وصفته وأنه لا يرد
له راية وأرادوا تصديقه واتباعه ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا
حتى تنظروا إلى وقعة له أخرى فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول
الله صلّى الله عليه وسلم شكوا وقالوا: لا والله ما هو به وغلب
عليهم الشقاء فلم يسلموا وكان بينهم وبين رسول الله صلّى الله
عليه وسلم عهد إلى مدة فنقضوا ذلك العهد وانطلق كعب بن الأشرف
إلى ستين راكبا إلى أهل مكة أبي سفيان وأصحابه فوافقوهم
وأجمعوا أمرهم وقالوا:
__________
(1) هكذا الأصل تدبر اهـ ادارة.
(2/91)
لتكونن كلمتنا واحدة ثم رجعوا إلى المدينة
فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن إسحاق، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما أيضا «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما
أصاب ما أصاب من بدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني
قينقاع وقال: يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله تعالى
بما أصاب قريشا فقالوا: يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا
من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال إنك والله لو قاتلتنا
لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تكن مثلنا» فأنزل الله تعالى:
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إلى قوله سبحانه: لِأُولِي
الْأَبْصارِ [آل عمران: 13]
فالمراد من الموصول اليهود، والسين لقرب الوقوع أي تغلبون عن
قريب وأريد منه في الدنيا، وقد صدق الله تعالى وعده رسوله صلى
الله تعالى عليه وسلم فقتل- كما قيل- من بني قريظة في يوم واحد
ستمائة جمعهم في سوق بني قينقاع وأمر السياف بضرب أعناقهم وأمر
بحفر حفيرة ورميهم فيها وأجلى بني النضير وفتح خيبر وضرب
الجزية عليهم- وهذا من أوضح شواهد النبوة- وَتُحْشَرُونَ عطف
على سَتُغْلَبُونَ والمراد في الآخرة إِلى جَهَنَّمَ وهي غاية
حشرهم ومنتهاه- فإلى- على معناها المتبادر، وقيل: بمعنى- في-
والمعنى أنهم يجمعون فيها، والآية كالتوكيد لما قبلها فإن
الغلبة تحصل بعدم الانتفاع بالأموال والأولاد، والحشر إلى جهنم
مبدأ كونهم وقودا لها، وقرأ أهل الكوفة غير عاصم- سيغلبون
ويحشرون- بالياء، والباقون بالتاء، وفرق بين القراءتين بأن
المعنى على تقدير تاء الخطاب أمر النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم أن يخبرهم من عند نفسه بمضمون الكلام حتى لو كذبوا كان
التكذيب راجعا إليه، وعلى تقدير ياء الغيبة أمره بأن يؤدي ما
أخبر الله تعالى به من الحكم بأنهم- سيغلبون- بحيث لو كذبوا
كان التكذيب راجعا إلى الله تعالى، وقوله سبحانه:
وَبِئْسَ الْمِهادُ إما من تمام ما يقال لهم أو استئناف لتهويل
جهنم وتفظيع حال أهلها، ومهاد- كفراش لفظا ومعنى، والمخصوص
بالذام مقدر وهو جهنم، أو ما مهدوه لأنفسهم.
قَدْ كانَ لَكُمْ من تتمة القول المأمور به جيء به لتقرير
مضمون ما قبله وتحقيقه والخطاب لليهود أيضا- واختاره شيخ
الإسلام- وذهب إليه البلخي أي قد كان لكم أيها اليهود المغترون
بعددهم وعددهم آيَةٌ أي علامة عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم
إنكم- ستغلبون- فِي فِئَتَيْنِ أي فرقتين أو جماعتين من الناس
كانت المغلوبة منهما مدلة بكثرتها معجبة بعزتها فأصابها ما
أصابها الْتَقَتا يوم بدر فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فهي في أعلى درجات الإيمان ولم يقل مؤمنة مدحا لهم بما يليق
بالمقام ورمزا إلى الاعتداد بقتالهم، وقرئ- يقاتل- على تأويل
الفئة بالقوم أو الفريق وَأُخْرى كافِرَةٌ بالله تعالى فهي
أبعد من أن تقاتل في سبيله وإنما لم توصف بما يقابل صفة الفئة
الأولى إسقاطا لقتالهم عن درجة الاعتبار وإيذانا بأنه لم
يتصدوا له لما عراهم من الهيبة والوجل، وكانَ ناقصة- وعليه
جمهور المعربين وآيَةٌ اسمها وترك التأنيث في الفعل لأن
المرفوع غير حقيقي التأنيث ولأنه مفصول ولأن الآية والدليل
بمعنى، وفي الخبر وجهان: أحدهما لَكُمْ وفِي فِئَتَيْنِ نعت-
لآية- والثاني أن الخبر هو هذا النعت ولَكُمْ متعلق ب كانَ على
رأي من يرى ذلك، وجوز أن يكون لَكُمْ في موضع نصب على الحال-
وقد تقدم مرارا أن وصف النكرة إذا قدم عليها كان حالا
والْتَقَتا في حيز الجر نعت- لفئتين- وفئة خبر لمحذوف أي
إحداهما فئة وأخرى نعت لمقدر أي- وفئة أخرى- والجملة مستأنفة
لتقرير ما في الفئتين من الآية، وقيل: فئة وما عطف عليها بدل
من الضمير في الْتَقَتا وما بعدهما صفة فلا بد من ضمير محذوف
عائد إلى المبدل منه مسوغ لوصف البدل بالجملة العارية عن ضمير
أي فئة منهما تقاتل إلخ، وجوز أن يكون كل من المتعاطفين مبتدأ
وما بعدهما خبر أي فئة منهما تقاتل إلخ، وفئة أخرى كافرة،
وقيل: كل منهما مبتدأ محذوف الخبر أي منهما فئة إلخ، وقرئ- فئة
(2/92)
وأخرى كافرة- بالنصب فيهما وهو على المدح
في الأولى والذم في الثانية، وقيل: على الاختصاص، واعترضه أبو
حيان بأن المنصوب عليه لا يكون نكرة، وأجيب بأن القائل لم يعن
الاختصاص المبوب له في النحو كما في
«نحن معاشر الأنبياء لا نورث»
وإنما عنى النصب بإضمار فعل لائق وأهل البيان يسمون هذا النحو
اختصاصا- كما قاله الحلبي- وجوز أن يكونا حالين كأنه قيل:
الْتَقَتا مؤمنة وكافرة، وفئة وأخرى على هذا توطئة للحال، وقرئ
بالجر فيهما على البدلية من فِئَتَيْنِ بدل بعض من كل والضمير
العائد إلى المبدل منه مقدر على نحو ما مر ويسمى بدلا تفصيليا
كما في قوله:
وكنت كذي رجلين- رجل صحيحة ... ورجل رماها صائب الحدثان
وقوله سبحانه: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ في حيز الرفع صفة
للفئة الأخيرة أو مستأنفة مبينة لكيفية الآية.
والمراد كما قال السدي: ترى الفئة الأخيرة الكافرة الفئة
الأولى المؤمنة مثلي عدد الرائين وقد كانوا تسعمائة وخمسين
مقاتلا كلهم شاكو السلاح،
وعن علي كرم الله تعالى وجهه، وابن مسعود كانوا ألفا
وسقف بيت حلهم وربطهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وفيهم من
صناديد قريش ورؤساء الضلال أبو جهل، وأبو سفيان، وغيرهما، ومن
الإبل والخيل سبعمائة بعير ومائة فرس، روى محمد بن الفرات عن
سعيد بن أوس أنه قال: أسر المشركون رجلا من المسلمين فسألوه كم
كنتم؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر قالوا: ما كنا نراكم إلا تضعفون
علينا وأرادوا ألفا وتسعمائة- وهو المراد من يَرَوْنَهُمْ
مِثْلَيْهِمْ وزعم الفراء أنه يحتمل إرادة ثلاثة أمثالهم لأنك
إذا قلت: عندي ألف وأحتاج إلى مثليها فإنما تريد إلى ألفين
مضافين إليها لا بدلا منها فهم كانوا يرونهم ثلاثة أمثالهم،
وأنكر هذا الوجه الزجاج لمخالفته لظاهر الكلام، أو مثلي عدد
المرئيين أي ستمائة ونيفا وعشرين حيث كانوا عدة المرسلين سبعة
وسبعون رجلا من المهاجرين ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار
وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمهاجرين
علي الكرار كرم الله تعالى وجهه، وصاحب راية الأنصار سعد بن
عبادة وكان معهم من الإبل سبعون بعيرا، ومن الخيل فرسان فرس
للمقداد بن عمرو، وفرس لمرثد بن أبي مرثد، ومن السلاح ست أدرع
وثمانية سيوف وكان أكثرهم رجالة، واستشهد منهم يومئذ أربعة عشر
رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار- وقد مرت إليه
الإشارة- وإنما أراهم الله تعالى كذلك مع أنهم ليسوا كذلك
ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم وهو نوع من التأييد والمدد المعنوي
وكان ذلك عند تداني الفئتين بعد أن قللهم الله تعالى في أعينهم
عند الترائي ليجترئوا عليهم ولا يرهبوا فيهربوا حيث ينفع
الهرب، وذهب جماعة من العلماء إلى أن المراد ترى الفئة المؤمنة
الفئة الكافرة مثلي أنفسهم مع كونهم ثلاثة أمثالهم ليثبتوا
ويطمئنوا بالنصر الموعود في قوله تعالى: فَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال:
66] قال شيخ الإسلام مولانا مفتي الديار الرومية: والأول هو
أولى لأن رؤية المثلين غير معينة من جانب المؤمنين بل وقد وقعت
رؤية المثل بل أقل منه أيضا فإنه روي أن ابن مسعود رضي الله
تعالى عنه قال: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ثم
نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا ثم قللهم
الله تعالى أيضا في أعينهم حتى رأوهم عددا يسيرا أقل من أنفسهم
قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: لقد قللوا في أعيننا يوم
بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة
فأسرنا منهم رجلا فقلنا كم كنتم؟ قال: ألفا فلو أريد رؤية
المؤمنين المشركين أقل من عددهم في نفس الأمر- كما في الأنفال-
لكانت رؤيتهم إياهم أقل من أنفسهم أحق بالذكر في كونها آية من
رؤيتهم مثليهم على أن إبانة آثار قدرة الله تعالى وحكمته
للكفرة بإراءتهم القليل كثيرا والضعيف قويا وإلقاء الرعب في
قلوبهم بسبب ذلك أدخل في كونها آية لهم وحجة عليهم وأقرب إلى
اعتراف المخاطبين بذلك لكثرة مخالطتهم للكفرة المشاهدين للحال
وكذا تعلق الفعل
(2/93)
بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول فجعل أقرب
المذكورين السابقين فاعلا وأبعدهما مفعولا سواء جعل الجملة صفة
أو مستأنفة أولى من العكس انتهى.
ويمكن أن يقال من طرف الجمهور الذاهبين إلى أن المراد رؤية
المؤمنين المشركين مثلي أنفسهم بأنه التفسير المأثور عن ابن
مسعود رضي الله تعالى عنه، ولا نسلم أن رؤيتهم إياهم أقل من
أنفسهم أحق بالذكر في كونها آية من رؤيتهم مثليهم لجواز أن
تكون الآية والعلامة لليهود على أنهم سيغلبون قتال المؤمنين
لهؤلاء المشركين وغلبتهم عليهم مع وجود السبب العادي للجبن وهو
رؤية المؤمنين إياهم أكثر من أنفسهم وأوفر من عددهم فكأنه قيل:
يا معشر اليهود تحققوا قتال المسلمين لكم وغلبتهم عليكم ولا
تغتروا بعلمهم بقلتهم وكثرتكم فإنهم يقدمون على قتال من يرونه
أكثر منهم عددا ولا يجبنون ولا يهابون وينتصرون فما ذاك إلا
لأن الله تعالى قد ملأ قلوبهم إيمانا وشدة على من خالفهم
وأحاطهم بتأييده ونصره ووعدهم الوعد الجميل.
«لا يقال» : إن الأوفق لهذا الغرض أن يرى المؤمنون المشركين
على ما هم عليه من كون المشركين ثلاثة أمثالهم أو يرونهم أكثر
من ذلك لأن إقدامهم حينئذ على قتالهم أدل على سبب الغلبة على
اليهود لأنا نقول: نعم الأمر كما ذكر إلا أن هذه الرؤية
لوفائها بالمقصود مع تضمنها مدح المؤمنين بالثبات الناشئ من
قوة الإيمان بالنصر الموعود آخرا بقوله تعالى: فَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال:
66] اختيرت على ما ليس فيها إلا أمر واحد غير متضمن لذلك المدح
المخصوص وعلى هذا لا يحتاج إلى التزام كون التثنية مجازا عن
التكثير كما في قوله تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ
كَرَّتَيْنِ [الملك: 4] ولا إلى القول بأن ضمير مِثْلَيْهِمْ
راجع إلى- الفئة- الأخيرة أي ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة
مثلي عدد الفئة الكافرة أعني قريبا من ألفين- وإن ذهب إلى ذلك
البعض- ويرد أيضا على قوله: على أن إبانة إلخ بعد تسليم أن
الإراءة نفسها كانت هي الآية أن إراءة القليل كثيرا لم تقع
لليهود المخاطبين بصدر الآية لتكون إبانة آثار قدرته تعالى
بذلك أدخل في كونها آية لهم وحجة عليهم وكون ذلك أقرب
لاعترافهم لكثرة مخالطتهم الكفرة الرائين يتوقف على أن الرائين
قد أخبروهم بذلك وأنهم صدقوا به ولم يحملوه على أنه خيل لهم
لخوفهم بسبب عدم علمهم بالحرب والخائف- يخيل إليه أن أشجار
البيداء شجعان شاكية، وأسد ضارية- وإثبات كل من هذه الأمور صعب
على أن فيما روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما- من أن اليهود قالوا له صلى الله تعالى عليه وسلم
بعد تلك الواقعة: لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم
بالحرب فأصبت منهم فرصة ولئن قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس- ما
يشعر في الجملة بأنهم لو أخبروهم بذلك وصدّقوا لحملوه على نحو
ما ذكرنا، وما ذكر من أن تعلق الفعل بالفاعل أشد إلخ، فمسلم
إلا أنا لا نسلم أنه يستدعي أولوية جعل أول المذكورين السابقين
فعلا وأبعدهما مفعولا من العكس مطلقا بل ذلك إذا لم يكن في
العكس معنى لطيف تحسن مراعاته نظرا للمقام- وهنا قد كان ذلك-
لا سيما وقد سبق مدح الفئة الأولى بالمقاتلة في سبيل الله
تعالى وعدل عن مدحهم بالإيمان الذي هو الأساس إليه ولا شك أن
مقاتلتهم للمشركين مع رؤيتهم إياهم أكثر من أنفسهم ومثليهم
أمدح وأمدح كما لا يخفى، وقرأ نافع، ويعقوب ترونهم بالتاء-
واستشكلت- على تقدير كون الخطاب لليهود بأنهم لم يروا المؤمنين
مثلي أنفسهم ولا مثلي الكافرين ولم يروا الكافرين أيضا مثلي
أنفسهم ولا مثلي المؤمنين، وأجيب بأنه يصح أن يقال: إنهم رأوا
المؤمنين مثلي أنفسهم أو مثلي الكافرين على سبيل المجاز حيث
نزلت رؤية المشركين منزلة رؤيتهم لما بينهم من الاتحاد في
الكفر والاتفاق في الكلمة لا سيما بعد ما وقع بينهم بواسطة كعب
بن الأشرف من العهد والميثاق فأسندت الرؤية إليهم مبالغة في
البيان وتحقيقا لعروض مثل تلك الحالة لهم، وكذا يصح أن يقال:
إنهم
(2/94)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ
حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ
مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ
الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ
لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ
مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ
بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا
آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
(16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ
وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ
اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ
حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ
اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ
اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ
بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ
بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
(21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ
يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ
يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا
رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ
لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ
تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ
بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
رأوا حقيقة الكافرين مثلي المؤمنين، وتحمل
الرؤية على العلم والاعتقاد الناشئ عن الشهرة والتواتر ويلتزم
كون الآية لهم قتال المؤمنين الكافرين وغلبة الأولين الآخرين
مع كونهم أكثر منهم إلا أنه اقتصر على أقل اللازم ويعلم منه
كون قتال المؤمنين وغلبتهم على الفئة الكافرة مع كونها ثلاثة
أمثالهم في نفس الأمر المعلوم لهم أيضا آية من باب أولى.
ولما في هذين الجوابين- كيفما كان- التزم بعضهم كون الخطاب من
أول الأمر للمشركين ليتضح أمر هذه القراءة وأوجب عليه أن يكون
قوله سبحانه: قَدْ كانَ لَكُمْ خطابا لهم بعد ذلك ولا يكون
داخلا تحت الأمر بناء على أن الوعيد كان بوقعة بدر ولا معنى
للاستدلال بها قبل وقوعها، وجعل ذلك داخلا في مفعول الأمر إلا
أنه عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لتحقق وقوعه لا يخلو عن شيء،
وجعل بعضهم الخطاب في قراءة نافع للمؤمنين والتزم كون الخطاب
السابق لهم أيضا على أنه ابتداء خطاب في معرض الامتنان عليهم
بما سبق الوعد به، وقيل: إنه لجميع الكفرة، وقال بعض أئمة
التحقيق: القول بأن الخطاب عام للمؤمنين واليهود ومشركي مكة هو
الذي يقتضيه المقام لئلا يقتطع الكلام ويقع التذييل بقوله
سبحانه: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ إلخ موقع المسك في الختام، ثم إن
من عد التعبير عن جماعة بطريق من الطرق الثلاثة مع التعبير بعد
عن البعض بطريق آخر يخالفه منها من الالتفات قال بوجوده في
الآية على بعض احتمالاتها، ومن لم يعد ذلك منه كما هو الظاهر
أنكر الالتفات فيها وبهذا يجمع بين أقوال الناظرين في الآية من
هذه الحيثية واختلافهم في وجود الالتفات وعدمه فيها فأمعن
النظر فإنه لمثل هذا المبحث كله يدخر.
وقرأ ابن مصرف- يرونهم- على البناء للمفعول بالياء والتاء أي
يريهم الله تعالى ذلك بقدرته رَأْيَ الْعَيْنِ مصدر مؤكد-
ليرونهم- على تقدير جعلها بصرية- فمثليهم- حينئذ حال، ويجوز أن
يكون مصدرا تشبيهيا على تقدير جعلها علمية اعتقادية- أي رأيا
مثل رأي العين- فمثليهم حينئذ مفعول ثان، وقيل: إن- رأى- منصوب
على الظرفية أي في رأي العين وَاللَّهُ المتصف بصفات الجمال
والجلال يُؤَيِّدُ أي يقوي بِنَصْرِهِ أي بعونه، وقيل: بحجته
وليس بالقوى مَنْ يَشاءُ أن يؤيده من غير توسط الأسباب
المعتادة كما أيد الفئة المقاتلة في سبيله وهو من تمام القول
المأمور به إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من النصر، وقيل: من تلك
الرؤية لَعِبْرَةً أي اتعاظا ودلالة، وهي فعلة من العبور
كالركبة والجلسة وهو التجاوز، ومنه عبرت النهر وسمي الاتعاظ
عبرة لأن المتعظ يعبر من الجهل إلى العلم ومن الهلاك إلى
النجاة، والتنوين للتعظيم أي عبرة عظيمة كائنة لِأُولِي
الْأَبْصارِ جمع بصر بمعنى بصيرة مجازا أو بمعناه المعروف أي
لذوي العقول والبصائر أو لمن أبصرهم ورآهم بعيني رأسه، وهذه
الجملة إما من تمام الكلام الداخل تحت القول مقررة لما قبلها
بطريق التذييل وإما واردة من جهته تعالى تصديقا لمقالة رسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
(2/95)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ كلام مستأنف سيق للتنفير
عن الحظوظ النفسانية التي كثيرا ما يقع القتال بسببها إثر بيان
حال الكفرة والتنصيص على عدم نفع أموالهم وأولادهم لهم وقد
كانوا يتعززون بذلك، والمراد من الناس الجنس حُبُّ الشَّهَواتِ
أي المشهيات وجعلها نفس الشهوات إشارة إلى ما ركز في الطباع من
محبتها والحرص عليها حتى كأنهم يشتهون اشتهاءها كما قيل لمريض:
ما تشتهي؟ فقال: أشتهي أن أشتهي، أو تنبيها على خستها لأن
الشهوات خسيسة عند الحكماء والعقلاء ففي ذلك تنفير عنها وترغيب
فيما عند الله تعالى، والمزين هو الله تعالى كما أخرجه ابن أبي
حاتم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وروي عن الحسن-
الشيطان- والله زينها لهم لأنا لا نعلم أحدا أذم لها من
خالقها. وفي الانتصاف التزيين للشهوات يطلق ويراد به خلق حبها
في القلوب وهو بهذا المعنى مضاف إليه تعالى حقيقة لأنه لا خالق
إلا هو، ويطلق ويراد به الحض على تعاطي الشهوات المحظورة
فتزيينها بالمعنى الثاني مضاف إلى الشيطان تنزيلا لوسوسته
وتحسينه منزلة الأمر بها والحض على تعاطيها، وكلام الحسن رحمه
الله تعالى محمول على التزين بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأول
فإنه يتحاشى أن ينسب خلق الله تعالى إلى غيره والاسناد في كل
حقيقة كما أشرنا إليه فيما تقدم، ومن قال: الظاهر أنه من قبيل-
أقدمني بلدك حق لي عليك- إذ لا إقدام هنا بل قدوم محض أثبت له
مقدم للمبالغة، والمراد أن الشهوات زينت في أعينهم لنقصانهم
ولا زينة لها في الحقيقة من غير أن يكون هناك مزين إلا أنه
أثبت مزين مبالغة في الزينة وتنزيلا لسبب الزينة منزلة الفاعل
فقد تعسف وتصلف، ومن قال: المزين في الحقيقة هو الشيطان لأن
التزيين صفة تقوم به.
والقائل: بأنه هو الله تعالى لأنه الخالق للأفعال والدواعي
مخطئ في الدعوى وغير مصيب في الدليل فالمخطئ ابن أخت خالته،
وقرأ مجاهد- زين- بالبناء للفاعل ونصب حُبُّ مِنَ النِّساءِ
وَالْبَنِينَ في محل النصب على الحال من الشهوات وهي مفسرة لها
في المعنى، وقيل: مِنَ لبيان الجنس وقدم النساء لعراقتهن في
(2/96)
معنى الشهوة وهن حبائل الشيطان،
وقد روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «ما تركت بعدي
فتنة أضر على الرجال من النساء»
ويقال: فيهن، فتنتان قطع الرحم وجمع المال من الحلال والحرام،
وثنى بالبنين لأنهم من ثمرات النساء في الفتن،
وقد روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «الولد مبخلة
مجبنة»
ويقال فيهم فتنة واحدة وهي جمع المال، ولم يتعرض لذكر البنات
لعدم الاطراد في حبهن، وقيل: إن البنين تشملهن على سبيل
التغليب وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ جمع قنطار وهو المال
الكثير كما أخرجه ابن جرير عن الضحاك.
وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم: «القنطار إثنا عشر ألف أوقية»
وأخرج الحاكم عن أنس قال: سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم عن ذلك فقال: «القنطار ألف أوقية» .
وفي رواية ابن أبي حاتم عنه القنطار ألف دينار،
وأخرج ابن جرير عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله
عليه وسلم: «القنطار ألف أوقية ومائتا دينار»
وعن معاذ ألف ومائتا أوقية، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
اثنا عشر ألف درهم وألف دينار، وفي رواية أخرى عنه ألف ومائتا
دينار، ومن الفضة ألف ومائتا مثقال. وعن أبي سعيد الخدري ملء
جلد الثور ذهبا، وعن مجاهد سبعون ألف دينار، وعن ابن المسيب
ثمانون ألفا، وعن أبي صالح مائة رطل، وعن قتادة قال:
كنا نحدث أن القنطار مائة رطل من الذهب أو ثمانون ألفا من
الورق، وعن أبي جعفر خمسة عشر ألف مثقال والمثقال أربعة وعشرون
قيراطا، وقيل: القنطار عند العرب وزن لا يحد، وقيل: ما بين
السماء والأرض من مال وغير ذلك، ولعل الأولى كما قيل: ما روي
عن الضحاك ويحمل التنصيص على المقدار المعين في هذه الأقوال
على التمثيل لا التخصيص، والكثرة تختلف بحسب الاعتبارات
والإضافات، واختلف في وزنه فقيل: فعلال، وقيل: فعنلان فالنون
على الأول أصلية وعلى الثاني زائدة، ولفظ الْمُقَنْطَرَةِ
مأخوذ منه، ومن عادة العرب أن يصفوا الشيء بما يشتق منه
للمبالغة- كظل ظليل- وهو كثير في وزن فاعل ويرد في المفعول ك
حِجْراً مَحْجُوراً [الفرقان: 22 و 53] ونَسْياً مَنْسِيًّا
[مريم: 23] وقيل: المقنطرة المضعفة، وخصها بعضهم بتسعة قناطير،
وقيل: المقنطرة المحكمة المحصنة من قنطرت الشيء إذا عقدته
وأحكمته، وقيل: المضروبة دنانير أو دراهم، وقيل: المنضدة التي
بعضها فوق بعض، وقيل: المدفونة المكنوزة مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ بيان للقناطير وهو في موضع الحال منها، والذهب
مؤنث يقال: هي الذهب الحمراء ولذلك يصغر على ذهيبة، وقال
الفراء: وربما ذكر، ويقال في جمعه: أذهاب وذهوب وذهبان، وقيل:
إنه جمع في المعنى لذهبة واشتقاقه من الذهاب، والفضة تجمع على
فضض واشتقاقه من انفض الشيء إذا تفرق وَالْخَيْلِ عطف على
النِّساءِ أو الْقَناطِيرِ لا على الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
لأنها لا تسمى قنطارا وواحدة خائل وهو مشتق من الخيلاء مثل
طائر وطير، وقال قوم: لا واحد له من لفظه بل هو اسم جمع واحده
فرس ولفظه لفظ المصدر وجوز أن يكون مخففا من خيل
الْمُسَوَّمَةِ أي الراعية قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
في إحدى الروايات عنه فهي من سوم ماشيته إذا أرسلها في المرعى،
أو المطهمة الحسان- قاله مجاهد- فهي من السما بمعنى الحسن أو
المعلمة ذات الغرة والتحجيل- قاله عكرمة- فهي من السمة أو
السومة بمعنى العلامة وَالْأَنْعامِ أي الإبل والبقر والغنم
وسميت بذلك لنعومة مشيها ولينه، والنعم مختصة بالإبل
وَالْحَرْثِ مصدر بمعنى المفعول أي المزروع سواء كان حبوبا أم
بقلا أم ثمرا ذلِكَ أي ما زين لهم من المذكور- ولهذا ذكر-
وأفرد اسم الاشارة ويصح أن يكون ذلك لتذكير الخبر وإفراده وهو
مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي ما يتمتع به أياما قلائل ثم
يزول عن صاحبه وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أي المرجع
الحسن فالمآب مفعل من آب يؤوب أي رجع وأصله مأوب فنقلت حركة
الواو إلى الهمزة الساكنة قبلها ثم قلبت ألفا وهو اسم مصدر
ويقع اسم مكان وزمان والمصدر أوب وإياب.
(2/97)
أخرج ابن جرير عن السدي أنه قال: حُسْنُ
الْمَآبِ حسن المنقلب وهي الجنة، وفي تكرير الإسناد إلى الاسم
الجليل زيادة تأكيد وتفخيم ومزيد اعتناء بالترغيب فيما عند
الله تعالى من النعيم المقيم والتزهيد في ملاذّ الدنيا السريعة
الزوال، ومن غريب ما استنبط من الآية- كما قال أبو حيان- وجوب
الزكاة في الخيل السائمة لذكرها مع ما تجب فيه الصدقة أو
النفقة، والثاني النساء والبنون ولا يخفى ما فيه.
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ تقرير وتثبيت لما
فهم مما قبل من أن ثواب الله تعالى خير من مستلذات الدنيا،
والمراد من الإنباء الإخبار ذلِكُمْ إشارة إلى المذكور من
النساء وما معه، والقراء فيما إذا اجتمع همزتان أولاهما مفتوحة
والثاني مضمومة كما هنا وكما في سورة ص أَأُنْزِلَ [ص: 8]
وسورة القمر أَأُلْقِيَ [القمر: 25] على خمس مراتب: إحداها
مرتبة قالون وهي تسهيل الثانية بين بين وإدخال ألف بين
الهمزتين. الثانية مرتبة ورش، وابن كثير وهي تسهيل الثانية
أيضا بين بين من غير إدخال ألف بينهما. الثالثة مرتبة
الكوفيين. وابن ذكوان عن ابن عامر وهي تحقيق الثانية من غير
إدخال ألف. الرابعة مرتبة هشام وهي أنه روي عنه ثلاثة أوجه:
الأول التحقيق وعدم إدخال ألف بين الهمزتين. الوجه الثاني
التحقيق وإدخال ألف بينهما في السور الثلاث. الوجه الثالث
التفرقة بين السور فيحقق ويقصر هنا ويمد في الأخيرتين. الخامسة
مرتبة أبي عمرو وهي تسهيل الثانية مع إدخال الألف وعدمه والظرف
الأول متعلق بالفعل قبله. والثاني متعلق بأفعل التفضيل ولا
يجوز أن يكون صفة- كما قال أبو البقاء- لأنه يوجب أن تكون
الجنة وما فيها مما رغبوا فيه بعضا لما زهدوا عنه من الأموال
ونحوها، وقوله تعالى: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ
جَنَّاتٌ استئناف مبين لذلك الخير المبهم على أن الذين خبر
مقدم، وجَنَّاتٌ مبتدأ مؤخر، وعِنْدَ رَبِّهِمْ يحتمل وجهين
كونه ظرفا للاستقرار وكونه صفة للجنات في الأصل قدم فانتصب
حالا منها، وفي ذكر ذلك إشارة إلى علو رتبة الجنات ورفعة
شأنها، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير
المتقين إيذان بمزيد اللطف بهم، والمراد منهم المتبتلون إليه
تعالى المعرضون عمن سواه- كما ينبئ عن ذلك الأوصاف الآتية-
وتعليق حصول الجنات وما يأتي بعد بهذا العنوان للترغيب في
تحصيله والثبات عليه. وجوز أن تكون اللام متعلقة- بخبر- أيضا
أو بمحذوف صفة له، وجنات- حينئذ خبر لمحذوف- أي- هي جنات-
والجملة مبينة- لخير- وعند ربهم- حينئذ إما أن يتعلق بالفعل
على معنى ثبت تقواهم عنده شهادة لهم بالإخلاص، وجاز أن يجعل
خبرا مقدما فلا يحتاج إلى حذف المبتدأ، واعترض بأنه يقال: عند
الله تعالى الثواب ولا يقال عند الله تعالى الجنة، وبذلك يصرح
كلام السعد وغيره- وفي النفس منه شيء- وقرئ- جنات- بكسر التاء
وفيه وجهان: أحدهما أنه مجرور على البدلية من لفظ- خير-
وثانيهما أنه منصوب على إضمار أعني مثلا أو البدلية من محل-
بخير- تَجْرِي في محل الرفع أو النصب أو الجر صفة- لجنات- على
القراءتين مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ تقدم ما فيه خالِدِينَ
فِيها حال مقدرة من المستكن في- للذين- والعامل ما فيه من معنى
الاستقرار، وجوز أبو البقاء كونه حالا من الهاء في- تحتها- أو
من الضمير في- اتقوا- ولا يخفى ما فيه وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ
أي منزهة مما يستقذر من النساء خلقا وخلقا، والعطف على- جنات-
على قراءة الرفع وأما على قراءة النصب فلا بدّ من تقدير- لهم-
في الكلام وَرِضْوانٌ أي رضا عظيم على ما يشعر به التنوين،
وقرأه عاصم- بضم الراء- وهما لغتان وقراءتان سبعيتان في جميع
القرآن إلا في قوله تعالى: مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ
السَّلامِ [المائدة: 16] فإنه بالكسر بالاتفاق، وقيل: المكسور
اسم والمضموم مصدر وهو قول لا ثبت له مِنَ اللَّهِ صفة لرضوان
مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة وَاللَّهُ بَصِيرٌ
بِالْعِبادِ أي خبير بهم وبأحوالهم وأفعالهم فيثيب المحسن فضلا
ويعاقب المسيء عدلا، أو خبير بأحوال الذين اتقوا فلذلك أعدّ
لهم ما أعدّ، فالعباد على الأول عام
(2/98)
وعلى الثاني خاص، وقد بدأ سبحانه في هذه
الآية أولا بذكر- المقرّ- وهو الجنات، ثمّ ثنّى بذكر ما يحصل
به الأنس التام وهو الأزواج المطهرة، ثم ثلث بذكر ما هو
الإكسير الأعظم والروح لفؤاد الواله المغرم وهو رضا الله عز
وجل.
«و
في الحديث» أنه سبحانه «يسأل أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون ما
لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول
جل شأنه ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون يا رب وأي شيء أفضل
من ذلك قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا» .
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا يجوز أن يكون في
محل الرفع على أنه خبر لمحذوف كأنه قيل: من أولئك المتقون؟
فقيل: هم الذين إلخ، وأن يكون في موضع نصب على المدح، وأن يكون
في حيز الجر على أنه تابع- للذين اتقوا- نعتا أو بدلا، أو
العباد كذلك، واعترض كونه نعتا للعباد بأن فيه تخصيص الإبصار
ببعض العباد، وفيه أن ذلك التخصيص لا يوهم الاختصاص لظهور
الأمر بل يفيد الاهتمام بشأنهم ورفعة مكانهم، واعترض أيضا كونه
تابعا للمتقين بأنه بعيد جدا لا سيما إذا جعل اللام متعلقا-
بخير- لكثرة الفواصل بين التابع والمتبوع، وأجيب بأنه لا بأس
بهذا الفصل كما لا بأس بالفصل بين الممدوح والمدح إذ الصفة
المادحة المقطوعة تابعة في المعنى ولهذا يلزم حذف الناصب أو
المبتدأ لئلا يخرج الكلام عن صورة التبعية فالفرق بين هذه
وسائر التوابع في قبح الفصل وعدمه خفي لا بد له من دليل نبيل،
وفيه أن قياس التبعية لفظا ومعنى على التبعية معنى فقط مما لا
ينبغي من جاهل فضلا عن عالم فاضل، والتزام حذف الناصب أو
المبتدأ في صورة القطع للمدح أو للذم قد يقال: إنه لدفع توهم
الأخبار، والمقصود الإنشاء لا لئلا يخرج الكلام عن صورة
التبعية، وتأكيد الجملة لإظهار أن إيمانهم ناشئ من وفور الرغبة
وكمال النشاط، وفي ترتيب طلب المغفرة في قوله تعالى:
فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ على مجرد
الإيمان دليل على كفايته في استحقاق المغفرة والوقاية من النار
من غير توقف على الطاعات، والمراد من الذنوب الكبائر والصغائر
الصَّابِرِينَ يجوز أن يكون مجرورا وأن يكون منصوبا صفة-
للذين- إن جعلته في موضع جر أو نصب وإذا جعلته في محل رفع كان
هذا منصوبا على المدح.
والمراد بالصبر- الصبر على طاعة الله تعالى، والصبر عن محارمه-
قاله قتادة، وحذف المتعلق يشعر بالعموم فيشمل الصبر على
البأساء والضراء وحين البأس وَالصَّادِقِينَ في نياتهم
وأقوالهم سرا- وعلانية وهو المروي عن قتادة أيضا
وَالْقانِتِينَ أي المطيعين- قاله ابن جبير- أو المداومين على
الطاعة والعبادة- قاله الزجاج- أو القائمين بالواجبات- قاله
القاضي- وَالْمُنْفِقِينَ من أموالهم في حق الله تعالى- قاله
ابن جبير- أيضا وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ قال مجاهد
والكلبي. وغيرهما: أي المصلين بالإسحار.
وأخرج ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم قال: هم الذين يشهدون صلاة
الصبح، وأخرج ابن جرير عن ابن عمر أنه كان يحيي الليل صلاة ثم
يقول: يا نافع أسحرنا؟ فيقول: لا فيعاود الصلاة فإذا قال: نعم
قد يستغفر الله تعالى ويدعو حتى يصبح،
وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: «أمرنا رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفارة»
وروى الرضا عن أبيه عن أبي عبد الله «أن من استغفر الله تعالى
في وقت السحر سبعين مرة فهو من أهل هذه الآية»
والباء في- بالأسحار- بمعنى في، وهي جمع- سحر- بفتح الحاء
المهملة وسكونها سميت أواخر الليالي بذلك لما فيها من الخفاء-
كالسحر- للشيء الخفي. وقال بعضهم: السحر من ثلث الليل الأخير
إلى طلوع الفجر.
وتخصيص الأسحار بالاستغفار لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة
إذا العبادة حينئذ أشق والنفس أصفى والروع
(2/99)
أجمع،
وفي الصحيح «أنه تعالى وتنزه عن سمات الحدوث ينزل إلى سماء
الدنيا في ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له من
يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له فلا يزال كذلك حتى يطلع
الفجر» .
وأخرج ابن جرير. وأحمد عن سعيد الجريري قال: «بلغنا أن داود
عليه الصلاة والسلام سأل جبريل عليه السلام فقال: يا جبريل أيّ
الليل أفضل قال: يا داود ما أدري سوى أن العرش يهتز في السحر»
وتوسيط الواو بين هذه الصفات المذكورة إما لأن الموصوف بها
متعدد وإما للدلالة على استقلال كل منها وكمالهم فيها، وقول
أبي حيان: لا نعلم أن العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال
رده الحلبي بأن علماء البيان علموه وهم هم.
هذا «ومن باب الاشارة في الآيات» قَدْ كانَ لَكُمْ يا معشر
السالكين إلى مقصد الكل آيَةٌ دالة على كمالكم وبلوغكم إلى
ذروة التوحيد فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا للحرب فِئَةٌ منهما وهي
فئة القوى الروحانية التي هي جند الله تعالى تُقاتِلُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وطريق الوصول إليه وَأُخْرى منهما وهي جنود
النفس وأعوان الشيطان كافِرَةٌ ساترة للحق محجوبة عن حظائر
الصدق ترى الفئة الأخيرة الفئة الأولى لحول عين بصيرتها
مِثْلَيْهِمْ عند الالتقاء في معركة البدن رؤية مكشوفة ظاهرة
لا خفاء فيها مثل رؤية العين، وذلك لتأييد الفئة المؤمنة
بالأنوار الإلهية والإشراقات الجبروتية، وخذلان الفئة الكافرة
بما استولى عليها من تراكم ظلمات الطبيعة وذل البعد عن الحضرة
وَاللَّهُ تعالى يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ تأييده
لقبول استعداده لذلك إِنَّ فِي ذلِكَ التأييد لعبرة أي اعتبارا
أو أمرا يعتبر به في الوصول إلى حيث المأمول للمستبصرين
الفاتحين أعين بصائرهم لمشاهدة الأنوار الأزلية في آفاق
المظاهر الإلهية زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ بسبب ما
فيهم من العالم السفلي والغشاوة الطبيعية والغواشي البدنية
مِنَ النِّساءِ وهي النفوس وَالْبَنِينَ وهي الخيالات المتولدة
منها الناشئة عنها وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وهي العلوم المتداولة وغير المتداولة،
أو الأصول والفروع وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وهي مراكب الهوى
وأفراس اللهو وَالْأَنْعامِ وهي رواحل جمع الحطام وأسباب جلب
المنافع الدنيوية وَالْحَرْثِ وهو زرع الحرص وطول الأمل ذلِكَ
مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا الزائل عما قليل بالرجوع إلى
المبدأ الأصلي والموطن القديم.
ولك أن تبقي هذه المذكورات على ظواهرها فإن النفوس المنغمسة في
أوحال الطبيعة لها ميل كلي إلى ذلك أيضا قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ
بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ المذكور للذين اتقوا النظر إلى الأغيار
جَنَّاتٌ جنة يقين. وجنة مكاشفة. وجنة مشاهدة. وجنة رضا. وجنة
لا أقولها- وهي التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر
على قلب بشر- وليس في تلك الجنة عند العارفين إلا الله عز وجل
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أنهار التجليات المترعة بماء الغيوب
خالِدِينَ فِيها ببقائهم بعد فنائهم وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ
وهي الأرواح المقدسة عن أدناس الطبيعة المقصورة في خيام الصفات
الإلهية وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ لا يقدر قدره وَاللَّهُ
بَصِيرٌ بِالْعِبادِ في تقلب أرواحهم في عالم الملكوت محترقات
من سطوات أنوار الجبروت حبا لجواره وشوقا إلى لقائه يجازيها
بقدر همومها في طلب وجهه الأزلي وجماله الأبدي الَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا بأنوار أفعالك وصفاتك
فَاغْفِرْ لَنا ذنوب وجوداتنا بذاتك وَقِنا عَذابَ نار الحرمان
ووجود البقية الصَّابِرِينَ على مضض المجاهدة والرياضة
وَالصَّادِقِينَ في المحبة والإرادة وَالْقانِتِينَ في السلوك
إليه وَالْمُنْفِقِينَ ما عداه فيه وَالْمُسْتَغْفِرِينَ من
ذنوب تلوناتهم وتعيناتهم في أسحار التجليات، ويقال:
الصَّابِرِينَ الذين صبروا على الطلب ولم يحتشموا من التعب
وهجروا كل راحة وطرب فصبروا على البلوى ورفضوا الشكوى حتى
وصلوا إلى المولى ولم يقطعهم شيء من الدنيا والعقبى
وَالصَّادِقِينَ الذين صدقوا في الطلب فوردوا، ثم صدقوا
فشهدوا، ثم صدقوا فوجدوا، ثم صدقوا ففقدوا فحالهم قصد. ثم
ورود. ثم شهود. ثم وجود.
(2/100)
ثم خمود وَالْقانِتِينَ الذين لازموا الباب
وداوموا على تجرع الاكتئاب وترك المحاب إلى أن تحققوا
بالاقتراب وَالْمُنْفِقِينَ الذين جادوا بنفوسهم من حيث
الأعمال، ثم جادوا بميسورهم من الأموال، ثم جادوا بقلوبهم لصدق
الأحوال، ثم جادوا بكل حظ لهم في العاجل والآجل استهلاكا في
أنوار الوصال وَالْمُسْتَغْفِرِينَ هم الذين يستغفرون عن جميع
ذلك إذا رجعوا إلى الصحو وقت نزول الرب إلى السماء الدنيا
وإشراق أنوار جماله على آفاق النفس وندائه
«هل من سائل. هل من مستغفر. هل من كذا. هل من كذا»
ثم لما مدح سبحانه أحبابه أرباب الدين وذم أعداءه الكافرين عقب
ذلك ببيان الدين الحق والعروة الوثقى على أتم وجه وآكده فقال
سبحانه:
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ
قال الكلبي: لما «ظهر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام فلما أبصرا
المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الذي يخرج في آخر الزمان فلما
دخلا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عرفاه بالصفة
والنعت فقالا له: أنت محمد؟ قال: نعم قالا: أنت أحمد؟ قال: نعم
قالا: إنا نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك
فقال لهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: سلاني فقالا
له: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله تعالى؟ فأنزل الله
تعالى الآية وأسلما.
وقيل: نزلت في نصارى نجران لما حاجّوا في أمر عيسى عليه السلام
وهو الذي يشعر به ما أشرنا إليه قبل من الآثار- ويميل إليه
كلام محمد ابن جعفر بن الزبير- وقيل: نزلت في اليهود والنصارى
لما تركوا اسم الإسلام وتسموا باليهودية والنصرانية، وقيل:
إنهم قالوا ديننا أفضل من دينك فنزلت.
والجمهور على قراءة شَهِدَ بلفظ الماضي وفتح همزة أَنَّهُ على
معنى بأنه أو على أنه، وقرئ «إنه» بكسر الهمزة إما بإجزاء
شَهِدَ مجرى قال، وإما يجعل الجملة اعتراضا وإيقاع الفعل على
إِنَّ الدِّينَ إلخ على قراءة من يفتح الهمزة كما ستراه
والضمير راجع اليه تعالى، ويحتمل أن يكون ضمير الشأن وقرئ-
شهداء لله- بالنصب والرفع على أنه جمع شهيد- كظرفاء- في جمع
ظريف، أو جمع شاهد- كشعراء- في جمع شاعر، والنصب إما على
الحالية من المذكورين، وإما على المدح، والرفع على أنه خبر
لمبتدأ محذوف ومآله المدح أي هم شهداء، والاسم الجليل في
الوجهين مجرور باللام متعلق بما عنده، وقرئ- شهداء الله-
بالرفع والإضافة. وفي شَهِدَ مسندا إلى الله تعالى استعارة
تصريحية تبعية لأن المراد أنه سبحانه دل على وحدانيته بل وسائر
كمالاته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره وما نصبه من
الدلائل التكوينية في الآفاق والأنفس وبما أوحى من آياته
الناطقة بذلك- كسورة الإخلاص، وآية الكرسي- وغيرهما فشبه
سبحانه تلك الدلالة الواضحة بشهادة الشاهد في البيان والكشف ثم
استعير لفظ المشبه به للمشبه ثم سرت الاستعارة من المصدر إلى
الفعل، وجوز أن يكون هناك مجاز مرسل تبعي لما أن البيان لازم
للشهادة، وقد ذكر اللفظ الدال عن الملزوم وأريد به اللازم،
وهذا الحمل ضروري على قراءة الجمهور دون القراءة الشاذة
وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ عطف على الاسم الجليل ولا
بد حينئذ من حمل الشهادة على معنى مجازي شامل لما يسند إلى
هذين الجمعين بطريق عموم المجاز أي أقر الملائكة بذلك وآمن
العلماء به واحتجوا عليه، وبعضهم قدر في كل من المعطوفين لفظ
شَهِدَ مرادا منه ما يصح نسبته إلى ما أسند إليه، ولعل القول
بعموم المجاز أولى منه، وقيل: والمراد- بأولو العلم- الأنبياء
عليهم السلام، وقيل: المهاجرون والأنصار، وقيل: علماء مؤمني
الكتاب، وقيل:
جميع علماء المؤمنين الذين عرفوا وحدانيته تعالى بالدلائل
القاطعة والحجج الباهرة، وقدم- الملائكة- لأن فيهم من هو واسطة
لإفادة العلم لذويه، وقيل: لأن علمهم كله ضروري بخلاف البشر
فإن علمهم ضروري واكتسابي، ثم إن ارتفاع هذين المرفوعين على ما
شذ من القراءة على الابتدائية والخبر محذوف لدلالة الكلام عليه
أي وَالْمَلائِكَةُ
(2/101)
وَأُولُوا الْعِلْمِ شهداء بذلك، وقيل:
بالعطف على الضمير في شهداء وصح ذلك للفصل، واعترض بأن ذلك على
قراءة النصب على الحالية يؤدي إلى تقييد حال المذكورين بشهادة
الملائكة وأولو العلم- وليس فيه كثير فائدة كما لا يخفى.
وقوله تعالى: قائِماً بِالْقِسْطِ بيان لكماله تعالى في أفعاله
إثر بيان كماله في ذاته، والقسط- العدل، والباء للتعدية أي
مقيما بالعدل، وفي انتصاب قائِماً وجوه: الأول أن يكون حالا
لازمة من فاعل شَهِدَ ويجوز إفراد المعطوف عليه بالحال دون
المعطوف إذ قامت قرينة تعينه معنوية أو لفظية، ومنه وَوَهَبْنا
لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً [الأنبياء: 72] وأخرت
الحال عن المعطوفين للدلالة على علو مرتبتهما وقرب منزلتهما،
والمسارعة إلى إقامة شهود التوحيد اعتناء بشأنه ولعله السر في
تقديمه على المعطوفين مع الإيذان بأصالته تعالى في الشهادة به،
والثاني أن يكون منصوبا على المدح وهو وإن كان معروفا في
المعرفة لكنه ثابت في غيرها أيضا، والثالث أن يكون وصفا لاسم-
لا- المبني، واستبعد بأنهم إنما يتسعون بالفصل بين الموصوف
والصفة بفاصل ليس أجنبيا من كل وجه، والمعطوف على فاعل شَهِدَ
أجنبي مما هو في صلة- أن- لفظا ومعنى، وبأنه متلبس بالحال
فينبغي على هذا أن يرفع حملا على محل اسم- لا- رفعا للالتباس.
والرابع أن يكون مفعول العلم أي وَأُولُوا المعرفة قائِماً
بِالْقِسْطِ ولا يخفى بعده، الخامس- ولعله الأوجه- أن يكون
حالا من الضمير والعامل فيها معنى الجملة أي تفرد أو أحقه
لأنها حال مؤكدة ولا يضر تخلل المعطوفين هنا بخلافه في الصفة
لأن الحال المؤكدة في هذا القسم جارية مجرى جملة مفسرة نوع
تفسير فناسب أن يقدم المعطوفان لأن المشهود به واحد فهو نوع من
تأكيده تمم بالحال المفسرة وعلى تقدير الحالية من الفاعل
والمفعولية للعلم لا يندرج في المشهود به وعلى تقدير النصب على
المدح يحتمل الاندراج وعدمه، وعلى التقديرين الأخيرين يندرج لا
محالة.
وقرأ عبد الله- القائم بالقسط- على أنه خبر لمبتدأ محذوف وكونه
بدلا من هُوَ لا يخلو عن شيء، وقرأ أبو حنيفة: «قيما بالقسط»
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ تكرير للمشهود به للتأكيد، وفيه إشارة
إلى مزيد الاعتناء بمعرفة أدلته لأن تثبيت المدعى إنما يكون
بالدليل، والاعتناء به يقتضي الاعتناء بأدلته ولينبني عليه
قوله تعالى: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فيعلم أنه المنعوت بهما،
وقيل: لا تكرار لأن الأول شهادة الله تعالى وحده، والثاني
شهادة الملائكة، وأولي العلم، وهو ظاهر عند من يرفع- الملائكة-
بفعل مضمر، ووجه الترتيب تقدم العلم بقدرته التي يفهمها
الْعَزِيزُ على العلم بحكمته تعالى التي يؤذن بها الْحَكِيمُ،
وجعل بعضهم الْعَزِيزُ ناظرا إلى قوله سبحانه: لا إِلهَ إِلَّا
هُوَ والْحَكِيمُ ناظرا إلى قوله تعالى: قائِماً بِالْقِسْطِ
ورفعهما على الخبرية لمبتدأ محذوف أو البدلية من هُوَ أو
الوصفية له بناء على ما ذهب إليه السكاكي من جواز وصف ضمير
الغائب، وجعلهما نعتا لفاعل شَهِدَ بعيد، وقد روى في فضل الآية
أخبار.
أخرج الديلمي عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعا «لما نزلت الحمد لله
رب العالمين. وآية الكرسي. وشهد الله وقل اللهم مالك الملك-
إلى بغير حساب- تعلقن بالعرش وقلن: أتنزلنا على قوم يعملون
بمعاصيك؟ فقال: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا يتلوكن عبد عند
دبر كل صلاة مكتوبة إلا غفرت له ما كان فيه وأسكنته جنة
الفردوس ونظرت له كل يوم سبعين مرة وقضيت له سبعين حاجة أدناها
المغفرة» .
وأخرج ابن عدي، والطبراني، والبيهقي- وضعفه- والخطيب، وابن
النجار عن غالب القطان قال «أتيت الكوفة
(2/102)
فنزلت قريبا من الأعمس فلما كان ليلة أردت
أن أنحدر قام بتهجد من الليل فمر بهذه الآية شَهِدَ اللَّهُ
إلخ فقال: وأنا أشهد بما شهد الله تعالى به واستودع الله تعالى
هذه الشهادة وهي لي وديعة عند الله تعالى قالها مرارا فقلت:
لقد سمع فيها شيئا فسألته فقال: حدثني أبو وائل بن عبد الله
قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يجاء بصاحبها يوم
القيامة فيقول الله تعالى: عبدي عهد إلي عهدا وأنا أحق من وفى
بالعهد أدخلوا عبدي الجنة» وروي عن سعيد بن جبير «أنه كان حول
المدينة ثلاثمائة وستون صنما فلما نزلت هذه الآية الكريمة خررن
سجدا للكعبة» .
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ جملة مبتدأة وقعت
تأكيدا للأولى، وتعريف الجزئين للحصر- أي لا دين مرضي عند الله
تعالى سوى الإسلام- وهو على ما أخرج ابن جرير عن قتادة «شهادة
أن لا إله إلا الله تعالى والإقرار بما جاء من عند الله تعالى
وهو دين الله تعالى الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ودل عليه
أولياءه لا يقبل غيره ولا يجزى إلا به» .
وروى علي بن إبراهيم عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه
قال في خطبة له: لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي،
الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق،
والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل ثم
قال: إن المؤمن أخذ دينه عن ربه ولم يأخذه عن رأيه إن المؤمن
من يعرف إيمانه في عمله وإن الكافر يعرف كفره بإنكاره أيها
الناس دينكم دينكم فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره إن
السيئة فيه تغفر وإن الحسنة في غيره لا تقبل،
وقرأ أبيّ- إن الدين عند الله للإسلام- والكسائي- أن الدين-
بفتح الهمزة على أنه بدل الشيء من الشيء إن فسر الإسلام
بالإيمان وأريد به الإقرار بوحدانية الله تعالى والتصديق بها
الذي هو الجزء الأعظم وكذا إن فسر بالتصديق بما جاء به النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم مما علم من الدين بالضرورة لأن ذلك
عين الشهادة بما ذكر باعتبار ما يلزمها فهي عينه مآلا، وأما
إذا فسر بالشريعة فالبدل بدل اشتمال لأن الشريعة شاملة للايمان
والإقرار بالوحدانية، وفسرها بعضهم بعلم الأحكام وادعى أولوية
هذا الشق نظرا لسياق الكلام مستدلا بأنه لم يقيد علم الأصول
بالعندية لأنها أمور بحسب نفس الأمر لا تدور على الاعتبار
ولهذا تتحد فيها الأديان الحقة كلها، وقيد كون الدين الإسلام
بالعندية لأن الشرائع دائرة على اعتبار الشارع ولهذا تغير
وتبدل بحسب المصالح والأوقات، ولا يخفى ما فيه، أو على أن
شَهِدَ واقع عليه على تقدير قراءة- إنه- بالكسر كما أشير إليه،
وعِنْدَ على كل تقدير ظرف العامل فيه الثبوت الذي يشير إليه
الجملة، وقيل: متعلق بكون خاص ينساق إليه الذهن يقدر معرفة وقع
صفة للدين أي- إن الدين المرضي عند الله الإسلام- وقيل: متعلق
بمحذوف وقع حالا من الدين، وقيل: متعلق به، وقيل: متعلق بمحذوف
وقع خبرا عن مبتدأ محذوف، والجملة معترضة أي هذا الحكم ثابت
عند الله، وأرى الكل ليس بشيء «أما الأول» فلأنه خلاف القاعدة
المعروفة في الظروف إذا وقعت بعد النكرات، وأما الثاني فلأن
المشهور أن إِنَّ لا تعمل في الحال، وأما الثالث فلأنه لا وجه
للتعلق بلفظ الدِّينَ إلا أن يكتفى بأنه في الأضل بمعنى
الجزاء، وأما الرابع فلأن التكلف فيه المستغني عنه أظهر من أن
يخفى، هذا وقد اختلف في إطلاق الإسلام على غير ما جاء به نبينا
صلّى الله عليه وسلم، والأكثرون على الإطلاق وأظن أنه بعد
تحرير النزاع لا ينبغي أن يقع اختلاف وَمَا اخْتَلَفَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قيل: المراد بهم اليهود واختلفوا
فيما عهد إليهم موسى عليه الصلاة والسلام،
أخرج ابن جرير عن الربيع قال: «إن موسى عليه الصلاة والسلام
لما حضره الموت دعا سبعين حبرا من أحبار بني إسرائيل فاستودعهم
التوراة وجعلهم أمناء عليها واستخلف يوشع بن نون فلما مضى
القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم وهم الذين
أوتوا العلم من أبناء السبعين حتى أهراقوا بينهم الدماء ووقع
الشر طلبا لسلطان الدنيا وملكها وخزائنها وزخرفها فسلط الله
تعالى عليهم جبابرتهم» ،
وقيل:
النصارى، واختلفوا في التوحيد. وقيل: المراد بالموصول اليهود
والنصارى، وبالكتاب- الجنس، واختلفوا في
(2/103)
التوحيد، وقيل: في نبوته صلّى الله عليه
وسلم، وقيل: في الإيمان بالأنبياء، والظاهر أن المراد من
الموصول ما يعم الفريقين، والذي اختلفوا فيه الإسلام كما يشعر
به السياق والتعبير عنهم بهذا العنوان زيادة تقبيح لهم فإن
الاختلاف بعد إتيان الكتاب أقبح، وقوله تعالى: إِلَّا مِنْ
بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ زيادة أخرى فإن الاختلاف بعد
مجيء العلم أزيد في القباحة والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أو
أعم الأوقات، والمراد من مجيء العلم التمكن منه لسطوع براهينه،
أو المراد منه حصول العلم بحقيقة الأمر لهم بالفعل ولم يقل
علموا مع أنه أخصر إشارة إلى أنه علم بسبب الوحي، وقوله
سبحانه:
بَغْياً بَيْنَهُمْ زيادة تشنيع، والاسم المنصوب مفعول له لما
دل عليه مَا وإِلَّا من ثبوت الاختلاف بعد مجيء العلم كما تقول
ما ضربت إلا ابني تأديبا، فلا دلالة للكلام على حصر الباعث،
وادعاه بعضهم أي إن الباعث لهم على الاختلاف هو البغي والحسد
لا الشبهة وخفاء الأمر، ولعل انفهام ذلك من المقام أو من
الكلام بناء على جواز تعدد الاستثناء المفرغ أي ما اختلفوا في
وقت لغرض إلا بعد العلم لغرض البغي كما تقول: ما ضرب إلا زيد
عمرا- أي ما ضرب أحد أحدا إلا زيد عمرا وَمَنْ يَكْفُرْ
بِآياتِ اللَّهِ قيل: المراد بها حججه، وقيل: التوراة، وقيل:
هي والإنجيل، وقيل: القرآن، وقيل: آياته الناطقة بأن الدين عند
الله الإسلام، والظاهر العموم أي أية آية كانت، والمراد- بمن-
أيضا أعم من المختلفين المذكورين وغيرهم ولك أن تخصه بهم
فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ قائم مقام جواب الشرط علة
له- أي ومن يكفر يعاقبه الله تعالى ويجازه عن قريب- فإنه سريع
الحساب- أي يأتي حسابه عن قريب. أو يتم ذلك بسرعة، وقيل: إن
سرعة الحساب تقتضي إحاطة العلم والقدرة فتفيد الجملة الوعيد،
وباعتباره ينتظم الشرط والجزاء من غير حاجة إلى تقدير، ولعله
أولى وأدق نظرا.
وفي إظهار الاسم الجليل تربية للمهابة وإدخال الروعة، وفي
ترتيب العقاب على مطلق الكفر إثر بيان حال أولئك المذكورين
إيذان بشدّة عقابهم فَإِنْ حَاجُّوكَ أي جادلوك في الدين بعد
أن أقمت الحجج، والضمير- للذين أوتوا الكتاب- من اليهود
والنصارى- قاله الحسن- وقال أبو مسلم: لجميع الناس، وقيل: وفد
نصارى نجران وإلى هذا يشير كلام محمد بن جعفر بن الزبير فَقُلْ
أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ أي أخلصت وخضعت بقلبي وقالبي
لِلَّهِ لا أشرك به غيره، وفيه إشارة إلى أن الجدال معهم ليس
في موقعه لأنه إنما يكون في أمر خفي والذي خالدوا به أمر
مكشوف، وحكم حاله معروف وهو الدين القويم فلا تكون المحاجة
والمجادلة إلا مكابرة، وحينئذ يكون هذا القول إعراضا عن
مجادلتهم، وقيل: إنه محاجة وبيانه أن القوم كانوا مقرين بوجود
الصانع وكونه مستحقا للعبادة فكأنه قال:
هذا القول متفق عليه بين الكل فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق
عليه، وداعي الخلق إليه، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك
فاليهود يدعون التشبيه والجسمية. والنصارى يدعون إلهية عيسى
عليه السلام، والمشركون يدعون وجوب عبادة الأوثان فهؤلاء هم
المدعون فعليهم الإثبات، ونظير ذلك قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ
تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا
نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً [آل
عمران: 64] وعن أبي مسلم أن الآية في هذا الموضع كقول إبراهيم
عليه السلام:
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ [الأنعام: 79] فكأنه قيل: فإن نازعوك يا محمد في
هذه التفاصيل فقل: أنا متمسك بطريق إبراهيم عليه السلام وأنتم
معترفون بأنه كان محقا في قوله صادقا في دينه فيكون من باب
التمسك بالإلزامات وداخلا تحت قوله تعالى: وَجادِلْهُمْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] ولعل القول بالإعراض
أولى لما فيه من الإشارة إلى سوء حالهم وحظ مقدارهم، وعبر عن
الجملة- بالوجه- لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة ومظهر القوى
والمشاعر ومجمع معظم ما يقع به العبادة وبه يحصل التوجه إلى كل
شيء، وفتح الياء نافع.
وابن عامر، وحفص، وسكنها الباقون وَمَنِ اتَّبَعَنِ عطف على
الضمير المتصل في أَسْلَمْتُ وحسن للفصل. أو
(2/104)
مفعول معه وأورد عليهما أنهما يقتضيان
اشتراكهم معه صلى الله تعالى عليه وسلم في إسلام وجهه وليس
المعنى أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ وهم أسلموا وجوههم إذ لا يصح- أكلت
رغيفا وزيدا وو زيدا، وقد أكل كل منهما رغيفا، فالواجب أن
يكون- من- متبدأ والخبر محذوف أي وَمَنِ اتَّبَعَنِ كذلك، أو
يكون معطوفا على الجلالة وإسلامه صلّى الله عليه وسلم لمن
اتبعه بالحفظ والنصيحة، وأجيب بأن فهم المعنى وعدم الإلباس
يسوغ كلا الأمرين ويستغني بذلك عن مؤونة الحذف وتكلف خلاف
الظاهر جدا، وأثبت الياء في- اتبعني- على الأصل أبو عمرو،
ونافع، وحذفها الباقون- وحذفها أحسن- لموافقة خط المصحف، وقد
جاء الحذف في مثل ذلك كثيرا كقول الأعشى:
فهل يمنعني ارتيادي البلا ... د من حذر الموت أن (يأتين)
وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ عطف على
الجملة الشرطية، والمعنى فإن حاجّك أهل الكتاب فقابلهم بذلك
فإن أجدى فعمم الدعوة وقل للأسود والأحمر أَسْلَمْتُمْ متبعين
لي كما فعل المؤمنون فإنه قد جاءكم من الآيات ما يوجبه ويقتضيه
أم أنتم على كفركم بآيات الله تعالى وإصراركم على العناد- وهذا
كما تقول إذا لخصت لسائل مسألة ولم تدع من طرق البيان مسلكا
إلا سلكته- فهل فهمتها على طرز فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ
[المائدة: 91] إثر تفصيل الصوارف عن تعاطي ما حرم تعاطيه، وفي
ذلك تعيير لهم بالمعاندة وقلة الانصاف وتوبيخ بالبلادة وجمود
القريحة، والكثيرون على أن الاستفهام للتقرير وفي ضمنه الأمر
ووضع الموصول موضع الضمير لرعاية التقابل بين المتعاطفين،
والمراد من الأميين الذين لا يكتبون من مشركي العرب قاله ابن
عباس وغيره.
فَإِنْ أَسْلَمُوا أي اتصفوا بالإسلام والدين الحق فَقَدِ
اهْتَدَوْا على تضمين معنى الخروج أي اهتدوا خارجين من الضلال
كذا قيل، وبعض يفسر الاهتداء باللازم وهو النفع أي فقد نفعوا
أنفسهم قالوا: وسبب إخراجه عن ظاهره أن الإسلام عين الاهتداء
فإن فسر على الأصل اتحد الشرط والجزاء، وفيه منع ظاهر.
وَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الإسلام ولم يقبلوا فَإِنَّما
عَلَيْكَ الْبَلاغُ قائم مقام الجواب أي لا يضرك شيئا إذ ما
عليك إلا البلاغ وقد أديته على أكمل وجه وأبلغه، وهذا قبل
الأمر بالقتال فهو منسوخ بآية السيف وَاللَّهُ بَصِيرٌ
بِالْعِبادِ تذييل فيه وعد على الإسلام ووعيد على التولي عنه.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أية آية كانت،
ويدخل فيهم الكافرون بالآيات الناطقة بحقيقة الإسلام دخولا
أوليا وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ هم أهل
الكتاب الذين كانوا في عصره صلى الله تعالى عليه وسلم إذ لا
معنى لإنذار الماضين قال القطب: وإسناد القتل إليهم ولم يصدر
منهم قتل لوجهين: أحدهما أن هذه الطريقة لما كانت طريقة
أسلافهم صحت إضافتها إليهم إذ صنع الأب قد يضاف إلى الابن لا
سيما إذا كان راضيا به، الثاني أن المراد من شأنهم القتل إن لم
يوجد مانع، والتقييد بغير حق لما تقدم وتركت- أل- هنا دون ما
سبق لتفاوت مخرج الجملتين وقد مر ما ينفعك في هذه الآية فتذكر.
وقرأ الحسن «يقتلون النبيين» وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ
يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ أي بالعدل، ولعل تكرير
الفعل للاشعار بما بين القتلين من التفاوت أو باختلافهما في
الوقت،
أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة بن الجراح «قال:
قلت: يا رسول الله: أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: رجل
قتل نبيا أو رجلا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر- ثم قرأ الآية-
ثم قال صلّى الله عليه وسلم: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل
ثلاثة وأربعين نبيا أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل
وسبعون رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف
ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار من
(2/105)
ذلك اليوم فهم الذين ذكر الله تعالى»
وقرأ حمزة- «ويقاتلون الذين» - وقرأ عبد الله- «وقاتلوا» -
وقرأ أبيّ- «ويقتلون النبيين» و «الذين يأمرون» -
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ خبر إِنَّ ودخلت الفاء فيه
لتضمن الاسم معنى الشرط ولا يمنع الناسخ الذي لم يغير معنى
الابتداء من الدخول ومتى غير- كليت، ولعل- امتنع ذلك إجماعا-
وسيبويه، والأخفش يمنعانه عند النسخ مطلقا فالخبر عندهما قوله
تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وجملة فبشرهم معترضة بالفاء كما في
قولك زيد- فافهم- رجل صالح، وقد صرح به النحاة في قوله:
فاعلم- فعلم المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كل ما قدرا
ومن لم يفهم هذا قال: إن الفاء جزائية وجوابها مقدم من تأخير
والتقدير زيد رجل صالح وإذا قلنا لك ذلك- فافهم- وعلى الأول هو
استئناف، وأُولئِكَ مبتدأ، وما فيه من البعد على المشهور
للايذان ببعد منزلتهم في فظاعة الحال، والموصول خبره- أي أولئك
المتصفون بتلك الصفات الشنيعة الذين بطلت أعمالهم وسقطت عن حيز
الاعتبار وخلت عن الثمرة في الدنيا حيث لم تحقن دماؤهم
وأموالهم ولم يستحقوا بها مدحا وثناء وفي الآخرة حيث لم تدفع
عنهم العذاب ولم ينالوا بسببها الثواب- وهذا شامل للأعمال
المتوقفة على النية ولغيرها.
ومن الناس من ذهب إلى أن العمل الغير المتوقف على النية
كالصدقة وصلة الرحم ينتفع به الكافر في الآخرة ولا يحبط
بالكفر، فالمراد بالأعمال هنا ما كان من القسم الأول، وإن أريد
ما يشمل القسمين التزم كون هذا الحكم مخصوصا بطائفة من الكفار
وهم الموصوفون بما تقدم من الصفات وفيه تأمل وَما لَهُمْ مِنْ
ناصِرِينَ ينصرونهم من بأس الله تعالى وعذابه في أحد الدارين،
وجمع- الناصر- لرعاية ما وقع في مقابلته لا لنفي تعدد الأنصار
لكل واحد منهم وقد يدعي أن مجيء الجمع هنا أحسن من مجيء المفرد
لأنه رأس آية، والمراد من انتفاء- الناصرين- انتفاء ما يترتب
على النصر من المنافع والفوائد وإذا انتفت من جمع فانتفاؤها من
واحد أولى، ثم إن هذا الحكم وإن كان عاما لسائر الكفار كما
يؤذن به قوله تعالى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ
[البقرة: 270، آل عمران: 192، المائدة: 72] إلا أن له هنا
موقعا حيث إن هؤلاء الكفرة وصفوا بأنهم يقتلون الذين يأمرون
بالقسط وهم ناصرو الحق- على ما أشار إليه الحديث- ولا يوجد
فيهم ناصر يحول بينهم وبين قتل أولئك الكرام فقوبلوا لذلك
بعذاب لا ناصر لهم منه ولا معين لهم فيه.
ومن الناس من زعم أن في الآية مقابلة ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء
الكفر بالعذاب، وقتل الأنبياء بحبط الأعمال. وقتل الآمرين
بانتفاء الناصر وهو كما ترى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ تعجب للنبي صلّى الله عليه
وسلم ولكل من يتأتى منه الرؤية من حال أهل الكتاب وأنهم إذا
عضتهم الحجة فروا إلى الضجة وأعرضوا عن المحجة، وفيه تقرير لما
سبق من أن الاختلاف إنما كان بعد مجيء العلم. وقيل: إنه تنوير
لنفي الناصر لهم حيث يصيرون مغلوبين عند تحكيم كتابهم، والمراد
بالموصول اليهود- وبالنصيب- الحظ، ومِنَ إما للتبعيض وإما
للبيان على معنى نَصِيباً هو الكتاب، أو نصيب منه لأن الوصول
إلى كنه كلامه تعالى متعذر فإن جعل بيانا كان المراد إنزال
الكتاب عليهم وإن جعل تبعيضا كان المراد هدايتهم إلى فهم ما
فيه، وعلى التقديرين اللام في الْكِتابِ للعهد، والمراد به
التوراة- وهو المروي عن كثير من السلف- والتنوين للتكثير، وجوز
أن يكون اللام في الْكِتابِ للعهد والمراد به اللوح، وأن يكون
للجنس وعليه- النصيب- التوراة، ومِنَ للابتداء في الأول
ويحتملها، والتبعيض في الثاني والتنوين للتعظيم، ولك أن تجعله
على الوجه السابق أيضا كذلك، وجوز على تقدير أن يراد- بالنصيب-
ما حصل لهم من العلم أن يكون المقصود تعييرهم بتمردهم
واستكبارهم بالنصيب الحقير عن متابعة من له علم لا يوازنه علوم
المرسلين كلهم، والتعبير عما أوتوه
(2/106)
بالنصيب للاشعار بكمال اختصاصه بهم وكونه
حق من حقوقهم التي يجب مراعاتها والعمل بموجبها، وقوله تعالى:
يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ إما جملة مستأنفة مبينة لمحل
التعجب، وإما حال من الموصول. والمراد بكتاب الله التوراة
والإظهار في مقام الإضمار لإيجاب الإجابة، والإضافة للتشريف
وتأكيد وجوب المراجعة، وإلى ذلك ذهب ابن عباس رضي الله تعالى
عنه وغيره.
وقد أخرج ابن إسحق وجماعة عنه قال: «دخل رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من يهود فدعاهم إلى
الله تعالى فقال النعمان بن عمرو، الحرث بن زيد: على أي دين
أنت يا محمد؟ قال:
على ملة إبراهيم ودينه قالا: فإن إبراهيم كان يهوديا فقال لهما
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فهلما إلى التوراة فهي
بيننا وبينكم فأبيا عليه فأنزل الله تعالى الآية» وفي البحر
«زنى رجل من اليهود بامرأة ولم يكن بعد في ديننا الرجم
فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تخفيفا على
الزانيين لشرفهما فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنما
أحكم بكتابكم فأنكروا الرجم فجيء بالتوراة فوضع حبرهم ابن
صوريا يده على آية الرجم فقال عبد الله بن سلام: جاوزها يا
رسول الله فأظهرها فرجما فغضبت اليهود فنزلت» وهو المروي عن
ابن جريج- وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا
- وذهب الحسن. وقتادة إلى أن المراد بكتاب الله تعالى القرآن
دعوا إليه لأن ما فيه موافق لما في التوراة من أصول الديانة
وأركان الشريعة والصفة التي تقدمت البشارة بها أو لأنهم لا
يشكون في أنه كتاب الله تعالى المنزل على خاتم رسله لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ قيل: أي ليفصل الحق من الباطل بين الذين أوتوا- وهم
اليهود- وبين الداعي لهم- وهو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
في أمر إبراهيم عليه السلام. أو في حكم الرجم. أو في شأن
الإسلام. أو بين من أسلم منهم ومن لم يسلم حيث وقع بينهم
اختلاف في الدين الحق، وعلى هذا- وهو المرضي عند البعض وإن لم
يوافق سبب النزول- وربما أحوج إلى ارتكاب مجاز في مرجع الضمير
لا يتعين أن يكون الداعي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم،
وقرئ «ليحكم» على البناء للمفعول ونسب ذلك إلى أبي حنيفة ثُمَّ
يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ عطف على يدعون، وثُمَّ للتراخي
الرتبي، وفيه استبعاد توليهم بعد علمهم بوجوب الرجوع إليه،
ومِنْهُمْ صفة لفريق، ولعل المراد بهذا الفريق أكثرهم علما
ليعلم تولي سائرهم من باب الأولى قيل: وهذا سبب العدول عن- ثم
يتولون- وقيل:
الذين لم يسلموا، ووجه العدول عليه ظاهر فتدبر وَهُمْ
مُعْرِضُونَ جوز أن يكون صفة معطوفة على الصفة قبلها فالواو
للعطف، وأن تكون في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في
مِنْهُمْ أو من فَرِيقٌ لتخصيصه بالصفة فالواو حينئذ للحال وهي
إما مؤكدة لأن التولي والاعراض بمعنى، وإما مبينة لاختلاف
متعلقيهما بناء على ما قيل: إن التولي عن الداعي والاعراض عن
المدعو إليه أو التولي بالبدن والأعراض بالقلب. أو الأول كان
من العلماء.
والثاني من أتباعهم، وجوز أن لا يكون لها محل من الإعراب بأن
تكون تذييلا أو معترضة، والمراد وهم قوم ديدنهم الاعراض،
وبعضهم فسر الجملة بهذا مع اعتبار الحالية ولعله رأى أنه لا
يمنع عنها ذلِكَ أي المذكور من التولي والإعراض وهو مبتدأ خبره
قوله تعالى: بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ
إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي حاصل لهم بسبب هذا القول الذي
رسخ اعتقادهم له وهونوا به الخطوب ولم يبالوا معه بارتكاب
المعاصي والذنوب، والمراد- بالأيام المعدودات- أيام عبادتهم
العجل، وجاء هنا مَعْدُوداتٍ بصيغة الجمع دون ما في البقرة
فإنه مَعْدُودَةً [البقرة:
80] بصيغة المفرد تفننا في التعبير، وذلك لأن جمع التكسير لغير
العاقل يجوز أن يعامل معاملة الواحدة المؤنثة تارة ومعاملة جمع
الإناث أخرى فيقال: هذه جبال راسية، وإن شئت قلت راسيات، وجمال
ماشية وإن شئت ماشيات، وخص الجمع هنا لما فيه من الدلالة على
القلة كموصوفة وذلك أليق بمقام التعجيب والتشنيع وَغَرَّهُمْ
فِي دِينِهِمْ
(2/107)
أي أطمعهم في غير مطمع وخدعهم ما كانُوا
يَفْتَرُونَ أي افتراؤهم وكذبهم أو الذي كانوا يفترونه من
قولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلخ- قاله مجاهد- أو من
قولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ
[المائدة: 18]- قاله قتادة- أو مما يشمل ذلك ونحوه من قولهم:
«إن آباءنا الأنبياء يشفعون لنا وإن الله تعالى وعد يعقوب أن
لا يعذب أبناءه إلا تحلة القسم» والظرف متعلق- بما عنده- أو-
بيفترون- واعترضه الخطيب بأن ما بعد الموصول لا يعمل فيما قبله
وأجيب بالتوسع فَكَيْفَ استعظام وتهويل وهدم لما استندوا إليه،
وكلمة الاستفهام في موضع نصب على الحال والعامل فيه محذوف- أي
كيف تكون حالهم- أو كيف يصنعون أو كيف يكونون، وجوز أن تكون
خبرا لمبتدأ محذوف أي كيف حالهم، وقوله تعالى: إِذا
جَمَعْناهُمْ ظرف محض من غير تضمين شرط والعامل فيه العامل في
كيف إن قدر أنها منصوبة بفعل مقدر، وإن قلنا: إنها خبر لمبتدأ
مضمر كان العامل في إِذا ذلك المقدر أي كيف حالهم في وقت جمعهم
لِيَوْمٍ أي في يوم أو لجزاء يوم. لا رَيْبَ فِيهِ أي في وقوعه
ووقوع ما فيه، روي أنه أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات
الكفار راية اليهود فيفضحهم الله تعالى على رؤوس الأشهاد ثم
يأمر بهم إلى النار وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي
ما عملت من خير أو شر، والمراد جزاء ذلك إلا أنه أقيم المكسوب
مقام جزائه إيذانا بكمال الاتصال والتلازم بينهما حتى كأنهما
شيء واحد وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ شيئا فلا ينقصون من ثوابهم ولا
يزادون في عذابهم بل يعطى كل منهم مقدار ما كسبه، والضمير راجع
إلى كل إنسان المشعر به كل نفس، وكل يجوز مراعاة معناه فيجمع
ضميره ووجه التذكير ظاهر قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ
تأكيد لما تشعر به الآية السابقة من مزيد عظمته تعالى وعظيم
قدرته، وفيه أيضا إفحام لمن كذب النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم ورد عليه لا سيما المنافقين الذين هم أسوأ حالا من اليهود
والنصارى، وبشارة له صلى الله تعالى عليه وسلم بالغلبة الحسية
على من خالفه كغلبته بالحجة على من جادله، وبهذا تنظيم هذه
الآية الكريمة بما قبلها.
روى الواحدي عن ابن عباس، وأنس بن مالك أنه لما افتتح رسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة وعد أمته ملك فارس والروم
قالت المنافقون واليهود: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس
والروم هم أعز وأمنع من ذلك ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى
يطمع في ملك فارس والروم؟!! فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى أبو الحسن الثعالبي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف
قال: حدثني أبي عن أبيه قال: خط رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم الخندق عام الأحزاب ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعا قال
عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان الفارسي، وحذيفة، والنعمان بن
مقرن المزني، وستة من الأنصار في أربعين ذراعا فحفرنا فأخرج
الله تعالى من بطن الخندق صخرة مدورة كسرت حديدنا وشقت علينا
فقلنا: يا سليمان إرق إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
وأخبره خبر هذه الصخرة فإما أن تعدل عنها أو يأمرنا فيها بأمره
فإنا لا نحب أن نجاوز خطه قال: فرقي سلمان إلى رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية فقال: يا رسول
الله خرجت صخرة بيضاء مدورة من بطن الخندق وكسرت حديدنا وشقت
علينا حتى ما يحتك فيها قليل ولا كثير فمرنا فيها بأمر فإنا لا
نحب أن نجاوز خطك فهبط رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم مع
سلمان الخندق والتسعة على شفير الخندق فأخذ رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها وبرق منها
برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم وكبر
رسول الله صلّى الله عليه وسلم تكبير فتح فكبر المسلمون ثم
ضربها صلّى الله عليه وسلم الثانية فبرق منها برق أضاء ما بين
لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم وكبر صلّى الله عليه
وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون ثم ضربها عليه الصلاة والسلام
الثالثة فكسرها وبرق منها برق كذلك فكبر صلّى الله عليه وسلم
تكبير فتح وكبر المسلمون وأخذ بيد سلمان ورقي
(2/108)
فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله
لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط فالتفت رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم إلى القوم فقال: رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا:
نعم يا رسول الله قال: ضربت ضربتي الأولى فبرق لي الذي رأيتم
أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب
فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت الثانية فبرق لي
الذي رأيتم أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم كأنها
أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت ضربتي
الثالثة فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها
أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا
فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد
الحفر فقال المنافقون: ألا تعجبون ويعدكم الباطل ويخبركم أنه
يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم
إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا للقتال
فأنزل الله تعالى القرآن وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ
وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ
وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب: 12] وأنزل هذه الآية
قُلِ اللَّهُمَّ إلخ،
وأصل اللَّهُمَّ- يا الله- فحذفت «يا» وعوض عنها- الميم-
وأوثرت لقربها من الواو التي هي حرف علة، وشددت لكونها عوضا عن
حرفين وجمعها مع- يا- كما في قوله:
إني إذا ما حدث ألمّا ... أقول- (يا اللهم) - يا اللهما
شاذ، وهذا من خصائص الاسم الجليل كعدم حذف حرف النداء منه من
غير ميم ودخوله عليه مع حرف التعريف وقطع همزته ودخول تاء
القسم عليه واللام في القسم التعجبي نحو- لله لا يؤخر الأجل-
ودخول أيمن ويمين عليه في القسم أيضا، وميم في- م الله- ووقوع
همزة الاستفهام خلفا عن حرف القسم نحو الله وحرف التنبيه في
نحو- لاها الله ذا- وغير ذلك فسبحانه من إله كل شأنه غريب،
وزعم الكوفيون أن أصله- يا الله آمنا بخير- أي اقصدنا به فخفف
بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته، ويجوز الجمع عندهم بين
يا- والميم بلا بأس- ولا يخفى ما فيه- ويقتضي أن لا يلي هذه
الكلمة أمر دعائي آخر إلا بتكلف الإبدال من ذلك الفعل أو العطف
عليه بإسقاط حرف العطف- وأل- في الملك للجنس أو الاستغراق،
والْمُلْكِ بالضم على ما ذكره بعض أئمة التحقيق- نسبة بين من
قام به ومن تعلق، وإن شئت قلت: صفة قائمة بذاته متعلقة بالغير
تعلق التصرف التام المقتضي استغناء المتصرف وافتقار المتصرف
فيه ولهذا لم يصح على الإطلاق إلا لله تعالى جده وهو أخص من
الملك بالكسر لأنه تعلق باستيلاء مع ضبط وتمكن من التصرف في
الموضوع اللغوي وبزيادة كونه حقا في الشرع من غير نظر إلى
استغناء وافتقار- فمالك الملك- هو الملك الحقيقي المتصرف بما
شاء كيف شاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة وتعذيبا وإثابة من
غير مشارك ولا مانع، ولهذا لا يقال «ملك الملك» إلا على ضرب من
التجوز، وحمل الْمُلْكِ على هذا المعنى أوفق بمقام المدح،
وقيل: المراد منه النبوة وإليه ذهب مجاهد- وقيل: المال
والعبيد، وقيل: الدنيا والآخرة، وانتصاب مالِكَ على الوصفية
عند المبرد. والزجاج، وسيبويه يوجب كونه نداء ثانيا، ولا يجوز
أن يكون صفة- لأللهم- لأنه لاتصال الميم به أشبه أسماء الأصوات
وهي لا توصف، ونقض دليل سيبويه بسيبويه فإنه مع كونه فيه اسم
صوت يوصف، وأجيب بأن اسم الصوت تركب معه وصار كبعض حروف الكلمة
بخلاف ما نحن فيه، ومن هنا قال أبو علي: قول سيبويه عندي أصح
لأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد- اللهم- ولذلك خالف
سائر الأسماء ودخل في حيز ما لا يوصف نحو حيهل فإنهما صارا
بمنزلة صوت مضموم إلى اسم فلم يوصف- والعلامة التفتازاني على
هذا- وأيد أيضا بأن وقوع خلف حرف النداء بين الموصوف والصفة
كوقوع حرف النداء بينهما فلو جاز الوصف لكان مكان الخلف بعده
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ جملة مستأنفة مبينة لبعض وجوه
التصرف الذي يستدعيه مالكية
(2/109)
الْمُلْكِ وجوز جعلها حالا من المنادى وفي
انتصاب الحال عنه خلاف، وصحح الجواز لأنه مفعول به، والحال
تأتي منه كما تأتي من الفاعل، وجعل الجملة خبرا لمبتدأ محذوف
أي أنت تؤتي- وإن اختاره أبو البقاء- ليس فيه كثير نفع
وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ عطف على تُؤْتِي وحكمة
حكمه، ومفعول تَشاءُ في الموضعين محذوف أي من تشاء إيتاءه إياه
ممن تشاء نزعه منه، والْمُلْكِ الثالث هو الثاني واللام فيهما
للجنس. أو العهد وليسا هما عين الأول لأن الأول عند المحققين
حقيقي عام ومملوكيته حقيقية والآخران مجازيان خاصان ونسبتهما
إلى صاحبهما مجازية، واعتبر بعضهم في التفرقة كون المراد من
الأول الجميع ومن الآخرين البعض ضرورة أن المؤتي لا يمكن أن
يكون الجميع والمنزع هو ذاك لأنه معرفة معادة، ويراد بها إن لم
يمنع مانع عن الأول ولأنه إذا لم يمكن إيتاء الكل لم يمكن نزع
الكل لأن الثاني مسبوق بالأول.
ومن الناس من حمل الْمُلْكِ هنا على النبوة ومعنى نزعها هنا
نقلها من قوم إلى قوم أي تؤتي النبوة بني إسرائيل وتنقلها منهم
إلى العرب، وقيل: المعنى تعطي أسباب الدنيا محمدا صلّى الله
عليه وسلم وأمته وتسلبها من الروم وفارس فلا تقوم الساعة حتى
تفتح بلادهم ويملك ما في أيديهم المسلمون، وروي ذلك عن الكبي،
وقيل: تنزعه من صناديد قريش وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ أن تعزه في
الدنيا والآخرة. أو فيهما بالنصر والتوفيق وَتُذِلُّ مَنْ
تَشاءُ أن تذله في إحداهما أو فيهما من غير ممانعة الغير،
وقيل: المراد تعز محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه بأن
تدخلهم مكة ظاهرين وَتُذِلُّ أبا جهل وأضغاث الشرك بالقتل
والإلقاء في القليب، وقال عطاء: تُعِزُّ المهاجرين والأنصار
وَتُذِلُّ فارس والروم، وقيل: تُعِزُّ المؤمنين بالظفر
والغنيمة وَتُذِلُّ اليهود بالقتل والجزية، وقيل: تُعِزُّ
بالإخلاص وَتُذِلُّ بالرياء، وقيل: تُعِزُّ الأحباب بالجنة
والرؤية وَتُذِلُّ الأعداء بالنار والحجاب وقيل:
تُعِزُّ بالقناعة والرضا وَتُذِلُّ بالحرص والطمع «وقيل:
وقيل:» وينبغي حمل سائر الأقوال على التمثيل لأنه لا مخصص في
الآية، وتُعِزُّ مضارع أعز ضد أذل، والمجرد من الهمزة منه- عز-
ومضارعه يعز بكسر العين، ومنه ما في دعاء قنوت الشافعية، وله
استعمالان آخران الضم والفتح، وقد نظم ذلك الإمام السيوطي
بقوله:
يا قارئا كتب الآداب كن يقظا ... وحرر الفرق في الأفعال نحريرا
«عز» المضاعف يأتي في مضارعه ... تثليث عين بفرق جاء مشهورا
فما كقل وضد «الذل» مع عظم ... كذا كرمت علينا جاء مكسورا
وما- كعز- علينا الحال أي صعبت ... فافتح مضارعه إن كنت نحريرا
وهذه الخمسة الأفعال لازمة ... واضمم مضارع فعل ليس مقصورا
«عززت» زيدا بمعنى قد غلبت كذا ... أعنته فكلا ذا جاء مأثورا
وقيل: إذا كنت في ذكر القنوت ولا ... «يعز» يا رب من عاديت
مكسورا
واشكر لأهل علوم الشرع إذ شرحوا ... لك الصواب وأبدوا فيه
تذكيرا
بِيَدِكَ الْخَيْرُ جملة مستأنفة، وأجراها بعضهم على طرز ما
قبلها، وتعريف الخير للتعميم وتقديم الخبر للتخصيص أي بِيَدِكَ
التي لا يكتنه كنهها، وبقدرتك التي لا يقدر قدرها الخير كله
تتصرف به أنت وحدك حسب مشيئتك لا يتصرف به أحد غيرك ولا يملكه
أحد سواك، وإنما خص الخير بالذكر تعليما لمراعاة الأدب وإلا
فذكر الإعزاز والإذلال يدل على أن الخير والشر كلاهما بيده
سبحانه، وكذا قوله تعالى المسوق لتعليل ما سبق، وتحقيقه
إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فلا يبعد أن تكون الآية من
باب الاكتفاء، وقيل: إنما اقتصر عليه لما أن سبب نزول الآية
(2/110)
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي
النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ
الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ
وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ
الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ
فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ
(28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ
يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا
فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ
مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ
بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ
اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ
إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ
اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ
وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً
بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ
قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا
فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ
رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي
سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ
وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا
نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ
عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا
قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ
حِسَابٍ (37)
ما آتى الله تعالى نبيه صلى الله تعالى
عليه وسلم من البشارة بالفتوح وترادف الخيرات، وقيل: لما أن
الأشياء باعتبار الشر وعدمه تنقسم إلى خمسة أقسام: الأول ما لا
شر فيه أصلا، والثاني ما يغلب خيره على شره، والثالث ما يكون
شرا محضا، والرابع ما يكون شره غالب على خيره، والخامس ما
يتساوى الخير والشر فيه. والموجود من هذه الأقسام في العالم-
القسم الأول، والثاني- والشر الذي فيه غير مقصود بالذات بل
إنما قضاه الله تعالى لحكمة بالغة وهو وسيلة إلى خير أعظم وأعم
نفعا والشر اليسير متى كان وسيلة إلى الخير الكثير كان ارتكابه
مصلحة تقتضيها الحكمة ولا يأباها الكرم المطلق، ألا ترى أن
الفصد والحجامة وشرب الدواء الكريه وقطع السلعة ونحوها من
الأمور المؤلمة لكونه وسيلة إلى حصول الصحة يحسن ارتكابه في
مقتضى الحكمة ويعد خيرا لا شرا وصحة لا مرضا وكل قضاء الله
تعالى بما نراه شرا من هذا القبيل، ولهذا
ورد في الحديث «لا تتهم الله تعالى على نفسك»
وورد «ولا تكرهوا الفتن فإن فيها حصاد المنافقين» .
وجاء «لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب»
ومن هنا قيل: يا من إفساده صلاح فما قدر من المفاسد لتضمنه
المصالح العظيمة اغتفر ذلك القدر اليسير في جنبها لكونه وسيلة
إليها وما أدى إلى الخير فهو خير فكل شر قدره الله تعالى لكونه
لم يقصد بالذات لأن أحكام القضاء والقدر كما قالوا: جارية على
سنن ما اتفقت عليه الشرائع كلها من النظر إلى جلب المصالح ودبّ
المفاسد بل بالعرض لما يستلزمه من الخير الأعظم والنفع الأتم
يصدق عليه بهذا الاعتبار أنه خير فدخل في قوله سبحانه:
بِيَدِكَ الْخَيْرُ فلذا اقتصر على الخير على وجه أنه شامل لما
قصد أصلا ولما وقع استلزاما، وهذا من باب- ليس في الإمكان أبدع
مما كان- وقد درج حكماء الإسلام عليه ولا يعبأ بمن وجه سهام
الطعن إليه، وفي شرح الهياكل أن الشر مقضي بالعرض وصادر بالتبع
لما أن بعض ما يتضمن الخيرات الكثيرة قد يستلزم الشر القليل
فكان ترك الخيرات الكثيرة لأجل ذلك الشر القليل شرا كثيرا فصدر
عنك ذلك الخير فلزمه حصول ذلك الشر وهو من حيث صدوره عنك خير
إذ عدم صدوره شر لتضمنه فوات ذلك الخير فأنت المنزه عن الفحشاء
مع أنه لا يجري في ملكك إلا ما تشاء وليس هذا من القول بوجوب
الأصلح، ولا ينافيه لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء:
23] إذ لا يفعل ما يسأل عنه كرما وحكمة وجودا ومنة «ولو اطلعتم
على الغيب لاخترتم الواقع» .
(2/111)
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ
النَّهارَ فِي اللَّيْلِ الولوج في الأصل الدخول والإيلاج
الإدخال واستعير لزيادة زمان النهار في الليل وعكسه بحسب
المطالع والمغارب في أكثر البلدان- وروي ذلك عن ابن عباس،
والحسن، ومجاهد- ولا يضر تساوي الليل والنهار دائما عند خط
الاستواء لأنه يكفي الزيادة والنقصان فيهما في الأغلب، وقال
الجبائي: المراد بإيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما
عقيب الآخر والأول أقرب إلى اللفظ، وعلى التقديرين الظاهر من
الليل والنهار ليل التكوير ونهاره وهما المشهوران عند العامة
الذين يفهمون ظاهر القول: ووراء ذلك أيام السلخ التي يعرفها
العارفون وأيام الإيلاج الشانية التي يعقلها العلماء الحكماء.
وبيان ذلك على وجه الاختصار أن اليوم على ما ذكره القوم
الإلهيون عبارة عن دورة واحدة من دورات فلك الكواكب وهو من
النطح إلى النطح ومن الشرطين إلى الشرطين ومن البطين إلى
البطين وهكذا إلى آخر المنازل، ومن درجة المنزلة ودقيقتها إلى
درجة المنزلة ودقيقتها، وأخفى من ذلك إلى أقصى ما يمكن الوقوف
عنده وما من يوم من الأيام المعروفة عند العامة وهي من طلوع
الشمس إلى طلوع الشمس أو من غروبها إلى غروبها أو من استوائها
إلى استوائها أو ما بين ذلك إلى ما بين ذلك إلا وفيه نهاية
ثلاثمائة وستين يوما فاليوم طوله ثلاثمائة وستون درجة لأنه
يظهر فيه الفلك كله وتعمه الحركة وهذا هو اليوم الجسماني، وفيه
اليوم الروحاني فيه تأخذ العقول معارفها والبصائر مشاهدها
والأرواح أسرارها كما تأخذ الأجسام في هذا اليوم الجسماني
أغذيتها، وزيادتها، ونموها، وصحتها، وسقمها، وحياتها، وموتها،
فالأيام من جهة أحكامها الظاهرة في العالم المنبعثة من القوة
الفعالة للنفس الكلية سبعة من يوم الأحد إلى آخره ولهذه الأيام
أيام روحانية لها أحكام في الأرواح والعقول تنبعث من القوة
العلامة للحق الذي قامت به السموات والأرض وهو الكلمة الإلهية،
وعلى هذه السبعة الدوارة يدور فلك البحث فنقول قال الله تعالى
في المشهود من الأيام المحسوسة: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى
النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ [الزمر: 5]
وأبان عن حقيقتين من طريق الحكم بعد هذا فقال في آية: وَآيَةٌ
لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37] فهذه
أنبأت أن الليل أصل والنهار كان غيبا فيه ثم سلخ، وليس معنى
السلخ معنى التكوير فلا بد أن يعرف ليل كل نهار من غيره حتى
ينسب كل ثوب إلى لابسه، ويرد كل فرع إلى أصله، ويلحق كل ابن
بأبيه، وقال في الآية الكريمة كاشفا عن حقيقة أخرى: يُولِجُ
اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ
[الحج: 61، لقمان: 29، فاطر: 13، الحديد: 6] فجعل بين الليل
والنهار نكاحا معنويا لما كانت الأشياء تتولد منهما معا وأكد
هذا المعنى بقوله عز قائلا: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ
[الأعراف: 54، الرعد: 3] ولهذا كان كل منهما مولجا ومولجا فيه
فكل واحد منهما لصاحبه أصل وبعل فكلما تولد في النهار فأمه
النهار وأبوه الليل وكلما تولد في الليل فأمه الليل وأبوه
النهار فليس إذا حكم الإيلاج حكم السلخ فإن السلخ إنما هو في
وقت أن يرجع النهار من كونه مولجا ومولجا فيه والليل كذلك إلا
أنه ذكر السلخ الواحد ولم يذكر السلخ الآخر من
(2/112)
أجل الظاهر، والباطن، والغيب، والشهادة،
والروح والجسم، والحرف، والمعنى- وشبه ذلك- فالإيلاج روح كله
والتكوير جسم هذا الروح الإيلاجي ولهذا كرر الليل والنهار في
الإيلاج كما كررهما في التكوير هذا في عالم الجسم وهذا في عالم
الروح، فتكوير النهار لإيلاج الليل وتكوير الليل لإيلاج
النهار، وجاء السلخ واحدا للظاهر لأربابه، وقد اختلف العجم
والعرب في أصالة أي المكورين على الآخر، فالعجم يقدمون النهار
على الليل وزمانهم شمسي فليلة السبت عندهم مثلا الليلة التي
تكون صبيحتها يوم الأحد وهكذا، والعرب يقدمون الليل على النهار
وزمانهم قمري أولئك كتب في قلوبهم الإيمان فليلة الجمعة عندهم
مثلا هي الليلة التي يكون صبيحتها يوم الجمعة وهم أقرب من
العجم إلى العلم فإنه يعضدهم السلخ في هذا النظر غير أنهم لم
يعرفوا الحكم فنسبوا الليلة إلى غير يومها كما فعل أصحاب الشمس
وذلك لأن عوامّهم لا يعرفون إلا أيام التكوير والعارفون من أهل
هذه الدولة، وورثة الأنبياء يعلمون ما وراء ذلك من أيام السلخ
وأيام الإيلاج الشاني، ولما كانت الأيام شيئا وكل شيء عندهم
ظاهر، وباطن، وغيب، وشهادة، وروح، وجسم، وملك، وملكوت، ولطيف،
وكثيف قالوا: إن اليوم نهار وليل في مقابلة باطن وظاهر،
والأيام سبعة ولكل يوم نهار وليل من جنسه، والنهار ظل ذلك
الليل وعلى صورته لأنه أصله المدرج هو فيه المنسلخ هو منه
بالنفخة الإلهية، وقد أطلق سبحانه في آية السلخ ولم يبين أي
نهار سلخ من أية ليلة ولم يقل ليلة كذا سلخ منها نهار كذا
ليعقلها من ألهمه الله تعالى رشده فينال فصل الخطاب، فعلى
المفهوم من اللسان العربي بالحساب القمري أن ليلة
الأحد سلخ الله تعالى منها نهار الأربعاء وسلخ من ليلة الاثنين
نهار الخميس، ومن ليلة الثلاثاء نهار الجمعة، ومن ليلة
الأربعاء نهار السبت، ومن ليلة الخميس نهار الأحد، ومن ليلة
الجمعة نهار الاثنين ومن ليلة السبت نهار الثلاثاء فجعل سبحانه
بين كل ليلة ونهارها المسلوخ منها ثلاث ليال وثلاثة نهارات
فكانت ستة وهي نشأتك ذات الجهات، فالليالي منها للتحت والشمال
والخلف، والنهارات منها للفوق واليمين والأمام فلا يكون
الإنسان نهارا ونورا تشرق شمسه وتشرق به أرضه حتى ينسلخ من ليل
شهوته ولا يقبل على من لا يقبل الجهات حتى يبعد عن جهات هيكله،
وإنما نسبوا هذه النسبة من جهة الاشتراك في الشأن الظاهر لستر
الحكمة الإلهية على يد الموكلين بالساعات، وفي اليوم الإيلاجي
الشاني يعتبرون ليلا ونهارا أيضا وهو عندهم أربع وعشرون ساعة
قد اتحد فيها الشأن فلم ينبعث فيها إلا معنى واحد ويتنوع في
الموجودات بحسب استعدادتها ولهذا قال سبحانه: كُلَّ يَوْمٍ
هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:
29] ولم يقل- في شؤون- وتنوينه للتعظيم الظاهر باختلاف القوابل
وتكثر الأشخاص فإذا ساعات ذلك اليوم تحت حكم واحد ونظر وال
واحد قد ولاه من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء وتولاه وخصه بتلك
الحركة وجعله أميرا في ذلك، والمتصرف الحقيقي هو الله تعالى لا
هو من حيث هو، فاليوم الشاني ما كانت ساعاته كلها سواء ومتى
اختلفت فليس بيوم واحد ولا يوجد هذا في أيام التكوير وكذا في
أيام السلخ إلا قليلا فطلبنا ذلك في الأيام الإيلاجية فوجدناه
مستوفى فيه، وقد أرسل سبحانه آية الإيلاج ولم يقل: يُولِجُ
اللَّيْلَ [الحج: 61، لقمان: 29، فاطر: 13، الحديد: 6] الذي
صبيحته الأحد في الأحد ولا النهار الذي مساؤه ليلة الاثنين في
الاثنين فإذا لا يلتزم أن ليلة الأحد هي ليلة الكور ولا ليلة
السلخ وإنما يطلب وحدانية اليوم من أجل أحدية الشأن فلا ينظر
إلا إلى اتحاد الساعات، والحاكم المولى من قبل المولى فليلة
الأحد الإيلاجي مركبة من الساعة الأولى من ليلة الخميس،
والثانية منها، والثالثة من يوم الخميس، والعاشرة منها،
والخامسة من ليلة الجمعة، والثانية عشرة منها، والسابعة من يوم
الجمعة، والثامنة من ليلة السبت، والتاسعة منها، والرابعة من
يوم السبت، والحادية عشرة منه، والسادسة من ليلة الأحد فهذه
ساعات ليله.
وأما ساعات نهاره من أيام التكوير فالأولى من يوم الأحد.
والثامنة. والثالثة من يوم الاثنين. والعاشرة منه،
(2/113)
والخامسة من يوم الاثنين. والثانية عشرة
منه. والسابعة من ليلة الثلاثاء. والثانية من يوم الثلاثاء.
والتاسعة منه، والرابعة من ليلة الأربعاء. والحادية عشرة منها.
والسادسة من يوم الأربعاء فهذه أربعة وعشرون ساعة ظاهرة كالشمس
ليوم الأحد الإيلاجي الشاني كلها كنفس واحدة لأنها من معدن
واحد، وهكذا تقول في سائر الأيام حتى تكمل سبعة أيام متميزة
بعضها من بعض مولجة بعضها في بعض نهارها في ليلها وليلها في
نهارها لحكمة التوالد والتناسل وذلك كسريان الحكم الواحد في
الأيام، ويظهر ذلك من أيام التكوير.
وقد ذكر مولانا الشيخ الأكبر قدس سره الشأن في كل يوم في
رسالته المسماة بالشأن الإلهي، ولعلي إن شاء الله تعالى أذكر
ذلك عند قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:
29] وهذه الأيام أيضا غير يوم المثل وهو عمر الدنيا، ويوم
الرب، ويوم المعارج، ويوم القمر، ويوم الشمس، ويوم زحل، ويوم
الحمل. ولكل كوكب من السيارات والبروج يوم- وقد ذكر كل ذلك في
الفتوحات- وإنما تعرضنا لهذا المقدار وإن كان الاستقصاء في
بيان مشرب القوم ليس بدعا في هذا الكتاب تعليما لبعض طلبة
العلم ما الليل والنهار إذ قد ظنوا لجهلهم بسبب بحث جرى بنا
الظنون، وفي هذا كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد فحمدا لك اللهم
على ما علمت ولك الشكر على ما أنعمت وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ
الْمَيِّتِ أي تكون الحيوانات من موادها أو من النطفة، وعليه
ابن عباس، وابن مسعود، وقتادة ومجاهد، والسدي، وخلق كثير
وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ أي النطفة من الحيوانات
كما قال عامة السلف.
وأخرج ابن مردويه من طريق أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي
قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لما خلق الله تعالى
آدم عليه السلام أخرج ذريته فقبض قبضة بيمينه فقال: هؤلاء أهل
الجنة ولا أبالي وقبض بالأخرى قبضة فجاء فيها كل رديء فقال
هؤلاء أهل النار ولا أبالي فخلط بعضهم ببعض فيخرج الكافر من
المؤمن والمؤمن من الكافر»
فذلك قوله تعالى: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ الآية-
وإلى هذا ذهب الحسن- وروي عن أئمة أهل البيت، فالحي والميت
مجازيان، ولطف هذه الجملة بعد الأولى لا يخفى والقائلون بعموم
المجاز قالوا: المراد تخرج الحيوانات من النطف والنطف من
الحيوانات، والنخلة من النواة والنواة من النخلة، والطيب من
الخبيث والخبيث من الطيب، والعالم من الجاهل والجاهل من
العالم، والذكي من البليد والبليد من الذكي إلى غير ذلك. ولا
يلزم من الآية أن يكون إخراج كل حي من ميت وكل ميت من حي ليلزم
التسلسل في جانب المبدئ إذ غاية ما تفهمه الآية أن الله تعالى
هذه الصفة وأما أنه لا يخلق شيئا إلا من شيء فلا كما لا يخفى،
وقرأ الْمَيِّتِ بالتخفيف في الموضعين وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ
بِغَيْرِ حِسابٍ الظرف في محل الحال من المفعول أي ترزق من
تشاء غير محاسب له، أو من الفاعل أي ترزقه غير محاسب له، أو
غير مضيق عليه، وجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف، أو مفعول محذوف
أي رزقا غير قليل، وفي ذكر هذه الأفعال العظيمة التي تحير
العقول ونسبتها إليه تعالى دلالة على أن من يقدر على ذلك لا
يعجزه أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم بل
هو أهون عليه من كل هين.
هذا وقد تقدم ما يشير إلى فضل هذه الآية،
وقد أخرج ابن أبي الدنيا عن معاذ بن جبل قال: شكوت إلى النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم دينا كان عليّ فقال: «يا معاذ أتحب
أن يقضى دينك؟ قلت: نعم قال: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ
تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ
الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ رحمن الدنيا
والآخرة ورحيمهما تعطي منهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء اقض
عن ديني فلو كان عليك ملء الأرض ذهبا أدي عنك»
وفي رواية للطبراني الآية بتمامها.
(2/114)
«ومن باب الاشارة في الآيات» شَهِدَ
اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي أبان بدلائل الآفاق
والأنفس أنه لا إله في الوجود سواه، أو شهد بذاته في مقام
الجمع على وحدانيته حيث لا شاهد ولا مشهود غيره، وشهد-
الملائكة وأولو العلم- بذلك وهي شهادة مظاهره سبحانه في مقام
التفصيل، ومن القوم من فرق بين الشهادتين بأن شهادة الملائكة
من حيث اليقين وشهادة أولي العلم من حيث المشاهدة، وأيضا
قالوا: شهادة الملائكة من رؤية الأفعال وشهادة أولي العلم من
رؤية الصفات، وقيل: شهادة الملائكة من رؤية العظمة ولذا يغلب
عليهم الخوف، وشهادة العلماء من رؤية الجمال ولذا يغلب عليهم
الرجاء. وشهادة العلماء متفاوتة فشهادة بعض من الحالات، وشهادة
آخرين من المقامات، وشهادة طائفة من المكاشفات، وشهادة فرقة من
المشاهدات وخواص أهل العلم يشهدون به له بنعت إدراك القدم
وبروز نور التوحيد من جمال الوحدانية، فشهادتهم مستغرقة في
شهادة الحق لأنهم في محل المحو قائِماً بِالْقِسْطِ أي مقيما
للعدل بإعطاء كل من الظهور ما هو له بحسب الاستعداد فيتجلى
عليه على قدر دعائه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ فلا يصل
أحد إلى معرفة كنهه وكنه معرفته الْحَكِيمُ الذي يدبر كل شيء
فيعطيه من مراتب التوحيد ما يطيق إِنَّ الدِّينَ المرضي عِنْدَ
اللَّهِ الْإِسْلامُ وهو المقام الإبراهيمي المشار إليه بقوله:
أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ أي نفسي وجملتي وانخلعت عن آنيتي لله
تعالى ففنيت فيه إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ
وهم المحجوبون عن الدين والساترون للحق بالميل مع الشهوات
وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ الداعين إلى التوحيد وهم العباد
الواصلون الكاملون وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ
بِالْقِسْطِ وهو نفي الأغيار وقصر الوجود الحق على الله تعالى
من الناس، ويحتمل أن يشار- بالذين كفروا- إلى قوى النفس
الأمارة- وبالنبيين- إلى أنبياء القلوب المشرفة بوحي إلهام
الغيوب، وبالآمرين بالقسط القوى الروحانية التي هي من جنود
أولئك الأنبياء وأتباعهم، فبشر أولئك الكافرين بعذاب أليم وهو
عذاب الحجاب والبعد عن حضرة رب الأرباب أُولئِكَ الَّذِينَ
حَبِطَتْ أي بطلت وانحطت عن حيز الاعتبار أَعْمالُهُمْ لعدم
شرطها وهو التوحيد في الدنيا وهي عالم الشهادة والآخرة وهي
عالم الغيب وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ لسوء حظهم وقلة
استعدادهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ
الْكِتابِ كعلماء السوء وأحبار الضلال يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ
اللَّهِ الناطق بمقام الجمع والفرق لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وبين
الموحدين ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ
مُعْرِضُونَ عن قبول الحق لفرط حجابهم واغترارهم بما أوتوا
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ نار البعد
إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي قليلة يسيرة وَغَرَّهُمْ فِي
دِينِهِمْ الذي هم عليه ما كانُوا يَفْتَرُونَ من القضايا
والأقيسة التي جاءت بها عقولهم المشوبة بظلمات الوهم والخيال
فَكَيْفَ يكون حالهم إِذا جَمَعْناهُمْ بعد تفرقهم في صحراء
الشكوك وتمزيق سباع الأوهام لهم لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وهو
يوم القيامة الكبرى الذي يظهر فيه الحق لمنكره، ووفيت كل نفس
صالحة طالحة ما كسبت بواسطة استعدادها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ
جزاء ذلك قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ أي الملك المتصرف
في مظاهرك من غير معارض ولا مدافع حسبما تقتضيه الحكمة تُؤْتِي
الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وهو من اخترته للرياسة الباطنة وجعلته
متصرفا بإرادتك وقدرتك وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ
بأن تنقله إلى غيره باستيفاء مدة إقامته في عالم الأجسام
وتكميل النشأة، أو تحرم من تشاء عن إيتاء ذلك الملك لظلمه
المانع له من أن ينال عهدك أو يمنح رفدك وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ
بإلقاء نور من أنوار عزتك عليه فإن العزة لله جميعا وَتُذِلُّ
مَنْ تَشاءُ بسلب لباس عزتك عنه فيبقى ذليلا بِيَدِكَ
الْخَيْرُ كله «وأنت» القادر مطلقا تعطي على حسب مشيئتك وتتجلى
طبق إرادتك وتمنح بقدر قابلية مظاهرك تُولِجُ اللَّيْلَ فِي
النَّهارِ تدخل ظلمة النفس فتستنير وتخلطهما معا مع بعد
المناسبة بينهما وتخرج حي القلب من ميت النفس وميت النفس من حي
القلب، أو تخرج حي العلم من ميت الجهل وميت الجهل من حي العلم
وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ من النعم الظاهرة والباطنة، أو من
إحداهما فقط بِغَيْرِ حِسابٍ إذ لا حجر عليك.
(2/115)
هذا ولما بين سبحانه أن إعطاء الملك
والإعزاز من الله تعالى وأنه عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ نبه
المؤمنين على أنه لا ينبغي أن يوالوا أعداء الله تعالى لقرابة
أو صداقة جاهلية أو نحوهما أو أن لا يستظهروا بهم لأنه تعالى
هو المعز والقادر المطلق بقوله عز قائلا: لا يَتَّخِذِ
الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ قال ابن عباس: كان
الحجاج بن عمرو، وكهمس بن أبي الحقيق، وقيس بن زيد- والكل من
اليهود- يباطنون نفرا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة
ابن المنذر، وعبد الله بن جبير، وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر:
اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن
دينكم فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم فأنزل الله هذه
الآية، وقال الكلبي: نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي
وأصحابه كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار
ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم فأنزل الله تعالى الآية ونهى المؤمنين عن فعلهم.
وروى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبادة بن الصامت
الأنصاري وكان بدريا نقيبا وكان له حلفاء من اليهود فلما خرج
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم الأحزاب قال عبادة: يا
نبي الله إن معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي
فاستظهر بهم على العدو فأنزل الله تعالى لا يَتَّخِذِ إلخ،
والفعل مجزوم بلا الناهية، وأجاز الكسائي فيه الرفع على الخبر
والمعنى على النهي أيضا وهو متعد لمفعولين، وجوز أن يكون
متعديا لواحد- فأولياء- مفعول ثان، أو حال وهو جمع ولي بمعنى
الموالي من الولي وهو القرب، والمراد لا يراعوا أمورا كانت
بينهم في الجاهلية بل ينبغي أن يراعوا ما هم عليه الآن مما
يقتضيه الإسلام من بغض وحب شرعيين يصح التكليف بهما وإنما
قيدنا بذلك لما قالوا: إن المحبة لقرابة أو صداقة قديمة أو
جديدة خارجة عن الاختيار معفوة ساقطة عن درجة الاعتبار، وحمل
الموالاة على ما يعم الاستعانة بهم في الغزو مما ذهب إليه
البعض ومذهبنا- وعليه الجمهور- أنه يجوز ويرضخ لهم لكن إنما
يستعان بهم على قتال المشركين لا البغاة على ما صرحوا به، وما
روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: خرج رسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم لبدر فتبعه رجل مشرك كان ذا جراءة
ونجدة ففرح أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين رأوه
فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: «ارجع فلن أستعين
بمشرك»
فمنسوخ بأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم استعان بيهود بني
قينقاع ورضخ لهم واستعان بصفوان بن أمية في هوازن، وذكر بعضهم
جواز الاستعانة بشرط الحاجة والوثوق أما بدونهما فلا تجوز وعلى
ذلك يحمل خبر عائشة، وكذا ما رواه الضحاك عن ابن عباس في سبب
النزول- وبه يحصل الجمع بين أدلة المنع وأدلة الجواز- على أن
بعض المحققين ذكر أن الاستعانة المنهي عنها إنما هي استعانة
الذليل بالعزيز وأما إذا كانت من باب استعانة العزيز بالذليل
فقد أذن لنا بها، ومن ذلك اتخاذ الكفار عبيدا وخدما ونكاح
الكتابيات منهم وهو كلام حسن كما لا يخفى.
ومن الناس من استدل بالآية على أنه لا يجوز جعلهم عمالا ولا
استخدامهم في أمور الديوان وغيره وكذا أدخلوا في الموالاة
المنهي عنها السلام والتعظيم والدعاء بالكنية والتوقير
بالمجالس، وفي فتاوى العلامة ابن حجر جواز القيام في المجلس
لأهل الذمة وعد ذلك من باب البر والإحسان المأذون به في قوله
تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ
يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ
دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة: 8] ولعل الصحيح أن
كل ما عده العرف تعظيما وحسبه المسلمون موالاة فهو منهي عنه
ولو مع أهل الذمة لا سيما إذا أوقع شيئا في قلوب ضعفاء
المؤمنين ولا أرى القيام لأهل الذمة في المجلس إلا من الأمور
المحظورة لأن دلالته على التعظيم قوية وجعله من الإحسان لا
أراه من الإحسان كما لا يخفى مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ حال من
الفاعل أي متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالا أو اشتراكا
ولا مفهوم لهذا الظرف إما لأنه ورد في قوم بأعيانهم والوا
الكفار
(2/116)
دون المؤمنين فهو لبيان الواقع أو لأن ذكره
للاشارة إلى أن الحقيق بالموالاة هم المؤمنون وفي موالاتهم
مندوحة عن موالاة الكفار وكون هذه النكتة تقتضي أن يقال مع
وجود المؤمنين دون من دون المؤمنين في حيز المنع، وكونه إشارة
إلى أن ولايتهم لا تجامع ولاية المؤمنين في غاية الخفاء.
وقيل: الظرف في حيز الصفة لأولياء، وقيل: متعلق بفعل الاتخاذ،
ومِنْ لابتداء الغاية أي لا تجعلوا ابتداء الولاية من مكان دون
مكان المؤمنين وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي الاتخاذ، والتعبير عنه
بالفعل- كما قال شيخ الإسلام- للاختصار أو لإيهام الاستهجان
بذكره ومِنْ شرطية، ويَفْعَلْ فعل الشرط، وجوابه. فَلَيْسَ
مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ والكلام على حذف مضاف أي من ولايته،
أو من دينه، والظرف الأول حال من شَيْءٍ والثاني خبر- ليس-
وتنوين شَيْءٍ للتحقير أي ليس في شيء يصح أن يطلق عليه اسم
الولاية أو الدين لأن موالاة المتضادين مما لا تكاد تدخل خيمة
الوقوع ولهذا قيل:
تودّ عدوي ثم تزعم أنني ... صديقك ليس النوك عنك بعازب
وقيل أيضا:
إذا والى صديقك من تعادي ... فقد عاداك وانقطع الكلام
والجملة معترضة، وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا على صيغة
الخطاب بطريق الغيبة استثناء مفرغ من أعم الأحوال والعامل فيه
فعل النهي معتبرا فيه الخطاب أي لا تتخذوهم أولياء في حال من
الأحوال إلا حال اتقائكم، وقيل: استثناء مفرغ من المفعول لأجله
أي لا يتخذ المؤمن الكافر وليا لشيء من الأشياء إلا للتقية
مِنْهُمْ أي من جهتهم ومن- للابتداء متعلق بمحذوف وقع حالا من
قوله تعالى: تُقاةً لأنه نعت النكرة وقد تقدم عليها، والمراد-
بالتقاة- ما يتقى منه وتكون بمعنى اتقاء وهو الشائع فعلى الأول
يكون مفعولا به لتتقوا، وعلى الثاني مفعولا مطلقا له،
ومِنْهُمْ متعلق به، وتعدى- بمن- لأنه بمعنى خاف، وخاف يتعدى
بها نحو وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً
[النساء: 128] فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً [البقرة: 182]
والمجرور في موضع أحد المفعولين وترك المفعول الآخر للعم به أي
ضررا ونحوه، وأصل تقاة وقية بواو مضمومة وياء متحركة بعد القاف
المفتوحة فأبدلت الواو المضمومة تاء كتجاه وأبدلت الياء
المتحركة ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ووزنه فعلة- كتخمة،
وتؤدة- وهو في المصادر غير مقيس وإنما المقيس اتقاء- كاقتداء-
وقرأ أبو الرجاء، وقتادة «تقيّة» - بالياء المشددة ووزنها
فعلية والتاء بدل من الواو أيضا «وفي الآية دليل» على مشروعية
التقية وعرفوها بمحافظة النفس، أو العرض، أو المال من شر
الأعداء، والعدو قسمان: الأول من كانت عداوته مبنية على اختلاف
الدين كالكافر والمسلم، والثاني من كانت عداوته مبنية على
أغراض دنيوية كالمال والمتاع والملك والإمارة، ومن هنا صارت
التقية قسمين: أما القسم الأول فالحكم الشرعي فيه أن كل مؤمن
وقع في محل لا يمكن له أن يظهر دينه لتعرض المخالفين وجب عليه
الهجرة إلى محل يقدر فيه على إظهار دينه ولا يجوز له أصلا أن
يبقى هناك ويخفي دينه ويتشبث بعذر الاستضعاف فإن أرض الله
تعالى واسعة نعم إن كان ممن لهم عذر شرعي في ترك الهجرة
كالصبيان والنساء والعميان والمحبوسين والذين يخوفهم المخالفون
بالقتل، أو قتل الأولاد، أو الآباء، أو الأمهات تخويفا يظن معه
إيقاع ما خوفوا به غالبا سواء كان هذا القتل بضرب العنق، أو
بحبس القوت، أو بنحو ذلك فإنه يجوز له المكث مع المخالف
والموافقة بقدر الضرورة ويجب عليه أن يسعى في الحيلة للخروج
والفرار بدينه ولو كان التخويف بفوات المنفعة أو بلحوق المشقة
التي يمكنه تحملها كالحبس مع القوت والضرب القليل الغير المهلك
لا يجوز له موافقتهم، وفي صورة الجواز أيضا موافقتهم رخصة
وإظهار مذهبه عزيمة فلو تلفت نفسه
(2/117)
لذلك فإنه شهيد قطعا، ومما يدل على أنها
رخصة- ما
روي عن الحسن- أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول
الله؟ قال: نعم فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم ثم دعا
بالآخر فقال له: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم فقال:
أتشهد أني رسول الله؟
قال: إني أصم قالها ثلاثا، وفي كل يجيبه بأني أصم فضرب عنقه
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: أما هذا
المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضله فهنيئا له. وأما
الآخر فقد رخصه الله تعالى فلا تبعة عليه
«وأما القسم الثاني» فقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه
فيه فقال بعضهم: تجب لقوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ
إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] وبدليل النهي عن إضاعة
المال، وقال قوم: لا تجب إذ الهجرة عن ذلك المقام مصلحة من
المصالح الدنيوية ولا يعود من تركها نقصان في الدين لاتحاد
الملة وعدوه القوي المؤمن لا يتعرض له بالسوء من حيث هو مؤمن،
وقال بعضهم: الحق أن الهجرة هنا قد تجب أيضا إذا خاف هلاك نفسه
أو أقاربه أو هتك حرمته بالإفراط ولكن ليست عبادة وقربة حتى
يترتب عليها الثواب فإن وجوبها لمحض مصلحة دنيوية لذلك المهاجر
لا لاصلاح الدين ليترتب عليها الثواب وليس كل واجب يثاب عليه
لأن التحقيق أن كل واجب لا يكون عبادة بل كثير من الواجبات ما
لا يترتب عليه ثواب كالأكل عند شدة المجاعة، والاحتراز عن
المضرات المعلومة أو المظنونة في المرض، وعن تناول السموم في
حال الصحة وغير ذلك، وهذه الهجرة أيضا من هذا القبيل وليست هي
كالهجرة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم لتكون
مستوجبة بفضل الله تعالى لثواب الآخرة، وعد قوم من باب التقية
مداراة الكفار والفسقة والظلمة وإلانة الكلام لهم التبسم في
وجوههم والانبساط معهم وإعطائهم لكف أذاهم وقطع لسانهم وصيانة
العرض منهم ولا يعد ذلك من باب الموالاة المنهي عنها بل هي سنة
وأمر مشروع.
فقد روى الديلمي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال:
«إن الله تعالى أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض»
وفي رواية «بعثت بالمداراة» وفي الجامع «سيأتيكم ركب مبغضون
فإذا جاؤوكم فرحبوا بهم» وروى ابن أبي الدنيا «رأس العقل بعد
الإيمان بالله تعالى مداراة الناس» وفي رواية البيهقي «رأس
العقل المداراة» وأخرج الطبراني «مداراة الناس صدقة» وفي رواية
له «ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة» .
وأخرج ابن عدي، وابن عساكر «من عاش مداريا مات شهيدا قوا
بأموالكم أعراضكم وليصانع أحدكم بلسانه عن دينه»
وعن بردة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «استأذن رجل على
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم: «بئس ابن الشعيرة- أو أخو العشيرة-
ثم أذن له فألان له القول فلما خرج قلت: يا رسول الله قلت ما
قلت ثم ألنت له القول؟ فقال: يا عائشة إن من أشر الناس من
يتركه الناس أو يدعه الناس اتقاء فحشه»
وفي البخاري عن أبي الدرداء «إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن
قلوبنا لتلعنهم» وفي رواية الكشميهني «وإن قلوبنا لتقليهم» وفي
رواية ابن أبي الدنيا، وإبراهيم الحرمي بزيادة، «ونضحك إليهم»
إلى غير ذلك من الأحاديث لكن لا تنبغي المداراة إلى حيث يخدش
الدين ويرتكب المنكر وتسيء الظنون.
ووراء هذا التحقيق قولان لفئتين متباينتين من الناس، وهم
الخوارج، والشيعة: أما الخوارج فذهبوا إلى أنه لا تجوز التقية
بحال ولا يراعى المال وحفظ النفس والعرض في مقابلة الدين أصلا
ولهم تشديدات في هذا الباب عجيبة، منها أن أحدا لو كان يصلي
وجاء سارق أو غاصب ليسرق أو يغصب ماله الخطير لا يقطع الصلاة
بل يحرم عليه قطعها وطعنوا على بريدة الأسلمي صحابي رسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم بسبب أنه كان يحافظ فرسه في صلاته كي
لا يهرب، ولا يخفى أن هذا المذهب من التفريط بمكان، وأما
الشيعة فكلامهم مضطرب في هذا المقام فقال بعضهم:
(2/118)
إنها جائزة في الأقوال كلها عند الضرورة
وربما وجبت فيها الضرب من اللطف والاستصلاح ولا تجوز في
الأفعال كقتل المؤمن ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن أنه إفساد
في الدين وقال المفيد: إنها قد تجب أحيانا وقد يكون فعلها في
وقت أفضل من تركها وقد يكون تركها أفضل من فعلها، وقال أبو
جعفر الطوسي: إن ظاهر الروايات يدل على أنها واجبة عند الخوف
على النفس، وقال غيره: إنها واجبة عند الخوف على المال أيضا
ومستحبة لصيانة العرض حتى يسن لمن اجتمع مع أهل السنة أن
يوافقهم في صلاتهم وصيامهم وسائر ما يدينون به، ورووا عن بعض
أئمة أهل البيت من صلى وراء سني تقية فكأنما صلى وراء نبي، وفي
وجوب قضاء تلك الصلاة عندهم خلاف، وكذا في وجوب قضاء الصوم على
من أفطر تقية حيث لا يحل الإفطار قولان أيضا، وفي أفضلية
التقية من سني واحد- صيانة لمذهب الشيعة عن الطعن- خلاف أيضا،
وأفتى كثير منهم بالأفضلية. ومنهم من ذهب إلى جواز- بل وجوب-
إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع، وأفتى كثير منهم بالأفضلية.
ومنهم من ذهب إلى جواز- بل وجوب- إظهار الكفر لأدنى مخافة أو
طمع، ولا يخفى أنه من الإفراط بمكان، وحملوا أكثر أفعال الأئمة
مما يوافق مذهب أهل السنة ويقوم به الدليل على رد مذهب الشيعة
على التقية وجعلوا هذا أصلا أصيلا عندهم وأسسوا عليه دينهم-
وهو الشائع الآن فيما بينهم- حتى نسبوا ذلك للأنبياء عليهم
السلام وجل غرضهم من ذلك إبطال خلافة الخلفاء الراشدين رضي
الله تعالى عنهم ويأبى الله تعالى ذلك.
ففي كتبهم ما يبطل كون أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه
وبنيه رضي الله تعالى عنهم ذوي تقية بل ويبطل أيضا فضلها الذي
زعموه
ففي كتاب نهج البلاغة الذي هو أصح الكتب- بعد كتاب الله تعالى-
في زعمهم أن الأمير كرم الله تعالى وجهه قال: علامة الإيمان
إيثارك الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك،
وأين هذا من تفسيرهم قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] بأكثركم تقية؟
وفيه أيضا أنه كرم الله تعالى وجهه قال: إني والله لو لقيتهم
واحدا وهم طلاع الأرض كلها ما باليت ولا استوحشت وإني من
ضلالتهم التي هم فيها والهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي
ويقين من ربي وإلى لقاء الله تعالى وحسن ثوابه لمنتظر راج.
وفي هذا دلالة على أن الأمير لم يخف وهو منفرد من حرب الأعداء
وهم جموع، ومثله لا يتصور أن يتأتى فيما فيه هدم الدين،
وروى العياشي عن زرارة بن أعين عن أبي بكر بن حزم أنه قال:
توضأ رجل ومسح على خفيه فدخل المسجد فجاء علي كرم الله تعالى
وجهه فوجأ على رقبته فقال: ويلك تصلي وأنت على غير وضوء فقال:
أمرني عمر فأخذ بيده فانتهى إليه ثم قال: انظر ما يقول هذا عنك
ورفع صوته على عمر رضي الله تعالى عنه فقال عمر: أنا أمرته
بذلك فانظر كيف رفع الصوت وأنكر ولم يتأق.
وروى الراوندي شارح نهج البلاغة ومعتقد الشيعة عن سلمان
الفارسي أن عليا بلغه عن عمر أنه ذكر شيعته فاستقبله في بعض
طرقات بساتين المدينة وفي يد عليّ قوس فقال: يا عمر بلغني عنك
ذكرك لشيعتي فقال: أربع على صلعتك فقال عليّ: إنك هاهنا ثم رمى
بالقوس على الأرض فإذا هي ثعبان كالبعير فاغرا فاه وقد أقبل
نحو عمر ليبتلعه فقال عمر: الله الله تعالى يا أبا الحسن لا
عدت بعدها في شيء فجعل يتضرع فضرب بيده على الثعبان فعادت
القوس كما كانت فمضى عمر إلى بيته قال سلمان: فلما كان الليل
دعاني عليّ فقال: سر إلى عمر فإنه حمل إليه مال من ناحية
المشرق وقد عزم أن يخبئه فقل له يقول لك علي: أخرج ما حمل إليك
من المشرق ففرقه على من هو لهم ولا تخبه فأفضحك. قال سلمان:
فمضيت إليه وأديت الرسالة فقال: أخبرني عن أمر صاحبك من أين
علم به؟ فقلت وهل يخفى عليه مثل هذا؟ فقال: يا سلمان أقبل عني
ما أقول لك ما عليّ إلا ساحر وإني لمستقين بك والصواب أن
تفارقه
(2/119)
وتصير من جملتنا قلت: ليس كما قلت لكنه ورث
من أسرار النبوة ما قد رأيت منه وعنده أكثر من هذا، قال: ارجع
إليه فقل: السمع والطاعة لأمرك فرجعت إلى عليّ فقال: أحدثك عما
جرى بينكما فقلت: أنت أعلم مني فتكلم بما جرى بيننا ثم قال: إن
رعب الثعبان في قلبه إلى أن يموت،
وفي هذه الرواية ضرب عنق التقية أيضا إذ صاحب هذه القوس تغنيه
قوسه عنها ولا تحوجه أن يزوج ابنته أم كلثوم من عمر خوفا منه
وتقية.
وروى الكليني عن معاذ بن كثير عن أبي عبد الله أنه قال: إن
الله عز وجل أنزل على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم كتابا
فقال جبريل: يا محمد هذه وصيتك إلى النجباء فقال: ومن النجباء
يا جبريل؟ فقال: عليّ بن أبي طالب وولده وكان على الكتاب خواتم
من ذهب فدفعه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى علي
وأمره أن يفك خاتما منه فيعمل بما فيه، ثم دفعه إلى الحسن ففك
منه خاتما فعمل بما فيه ثم دفعه إلى الحسين ففك خاتما فوجد فيه
أن اخرج بقومك إلى الشهادة فلا شهادة لهم إلا معك واشتر نفسك
لله تعالى ففعل، ثم دفعه إلى على بن الحسين ففك خاتما فوجد فيه
أن اطرق واصمت والزم منزلك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ففعل،
ثم دفعه إلى ابنه محمد بن علي ففك خاتما فوجد فيه حدث الناس
وأفتهم وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين ولا تخافن
أحدا إلا الله تعالى فإنه لا سبيل لأحد عليك، ثم دفعه إلى جعفر
الصادق ففك خاتما فوجد فيه حدث الناس وأفتهم ولا تخافن إلا
الله تعالى وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين فإنك في
حرز وأمان ففعل، ثم دفعه إلى موسى- وهكذا إلى المهدي ...
ورواه من طريق آخر عن معاذ أيضا عن أبي عبد الله، وفي الخاتم
الخامس- وقل الحق في الأمن والخوف ولا تخش إلا الله تعالى
وهذه الرواية أيضا صريحة بأن أولئك الكرام ليس دينهم التقية
كما تزعمه الشيعة،
وروى سليم بن قيس الهلالي الشيعي من خبر طويل أن أمير المؤمنين
قال: لما قبض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومال الناس
إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فبايعوه حملت فاطمة وأخذت بيد
الحسن والحسين ولم تدع أحدا من أهل بدر وأهل السابقة من
المهاجرين والأنصار إلا ناشدتهم الله تعالى حقي ودعوتهم إلى
نصرتي فلم يستجب لي من جميع الناس إلى أربعة: الزبير، وسلمان،
وأبو ذر، والمقداد.
وهذه تدل على أن التقية لم تكن واجبة على الإمام لأن هذا الفعل
عند من بايع أبا بكر رضي الله تعالى عنه فيه ما فيه.
وفي كتاب أبان بن عياش أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه بعث إلى
علي قنفذا حين بايعه الناس ولم يبايعه علي وقال: انطلق إلى علي
وقل له أجب خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فانطلق
فبلغه فقال له: ما أسرع ما كذبتم على رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم وارتددتم والله ما استخلف رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم غيري، وفيه أيضا أنه لما يجب على غضب عمر وأضرم
النار بباب علي وأحرقه ودخل فاستقبلته فاطمة وصاحت يا أبتاه
ويا رسول الله فرفع عمر السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها
المبارك ورفع السوط فضرب به ضرعها فاصحت يا أبتاه فأخذ علي
بتلابيب عمر وهزه ووجأ أنفه ورقبته، وفيه أيضا أن عمر قال
لعلي: بايع أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال: إن لم أفعل ذلك؟
قال: إذا والله تعالى لأضربن عنقك قال: كذبت والله يا ابن صهاك
لا تقدر على ذلك أنت ألام وأضعف من ذلك.
فهذه الروايات تدل صريحا أن التقية بمراحل عن ذلك الإمام إذ لا
معنى لهذه المناقشة والمسابة مع وجوب التقية،
وروى محمد بن سنان أن أمير المؤمنين قال لعمر: يا مغرور إني
أراك في الدنيا قتيلا بجراحة من عند أم معمر تحكم عليه جورا
فيقتلك ويدخل بذلك الجنان على رغم منك.
وروي أيضا أنه قال لعمر مرة إن لك ولصاحبك الذي قمت مقامه هتكا
وصلبا تخرجان من جوار رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتصلبان
على شجرة يابسة فتورق فيفتتن بذلك من والاكما ثم يؤتى بالنار
التي أضرمت لإبراهيم ويأتي جرجيس
(2/120)
ودانيال وكل نبي وصديق فتصلبان فيها
فتحرقان وتصيران رمادا ثم تأتي ريح فتنسفكما في اليمّ نسفا
فانظر بالله تعالى عليك
من يروي هذه الأكاذيب عن الإمام كرم الله تعالى وجهه هل ينبغي
له أن يقول بنسبة التقية إليه سبحان الله تعالى هذا العجب
العجاب والداء العضال، ومما يرد قولهم أيضا: إن التقية لا تكون
إلا لخوف، والخوف قسمان:
الأول الخوف على النفس وهو منتف في حق حضرات الأئمة بوجهين:
أحدهما أن موتهم الطبيعي باختيارهم كما أثبت هذه المسألة
الكليني في الكافي، وعقد لها بابا وأجمع عليها سائر الإمامية،
وثانيهما أن الأئمة يكون لهم علم بما كان وما يكون فهم يعلمون
آجالهم وكيفيات موتهم وأوقاته بالتفصيل والتخصيص فقبل وقته لا
يخافون على أنفسهم ويتأقون في دينهم ويغرون عوام المؤمنين،
القسم الثاني خوف المشقة والإيذاء البدني والسب والشتم وهتك
الحرمة ولا شك أن تحمل هذه الأمور والصبر عليها وظيفة الصلحاء
فقد كانوا يتحملون البلاء دائما في امتثال أوامر الله تعالى
وربما قابلوا السلاطين الجبابرة وأهل البيت النبوي أولى بتحمل
الشدائد في نصرة دين جدهم صلى الله تعالى عليه وسلم.
وأيضا لو كانت التقية واجبة لم يتوقف إمام الأئمة عن بيعة
خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ستة أشهر وماذا منعه
من أداء الواجب أول وهلة، ومما يرد قولهم في نسبة التقية إلى
الأنبياء عليهم السلام بالمعنى الذي أراده قوله تعالى في حقهم:
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا
يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً
[الأحزاب: 39] وقوله سبحانه لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم:
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] إلى غير ذلك
من الآيات، نعم لو أرادوا بالتقية المداراة التي أشرنا إليها
لكان لنسبتها إلى الأنبياء والأئمة وجه، وهذا أحد محملين لما
أخرجه عبد بن حميد عن الحسن أنه قال: التقية جائزة إلى يوم
القيامة، والثاني حمل التقية على ظاهرها وكونها جائزة إنما هو
التفصيل الذي ذكرناه.
ومن الناس من أوجب نوعا من التقية خاصا بخواص المؤمنين وهو حفظ
الأسرار الإلهية عن الإفشاء للأغيار الموجب لمفاسد كلية فتراهم
متى سئلوا عن سر أبهموه وتكلموا بكلام لو عرض على العامة بل
وعلى علمائهم ما فهموه، وأفرغوه بقوالب لا يفهم المراد منها
إلا من حسى من كأسهم أو تعطرت أرجاء فؤاده من عبير عنبر
أنفاسهم، وهذا وإن ترتب عليه ضلال كثير من الناس وانجر إلى
الطعن بأولئك السادة الأكياس حتى رمي الكثير منهم بالزندقة
وأفتى بقتلهم من سمع كلامهم وما حققه إلا أنهم رأوا هذا دون ما
يترتب على الإفشاء من المفاسد التي تعم الأرض.
وحنانيك بعض الشر أهون من بعض. وكتم الأسرار عن أهلها فيه فوات
خير عظيم وموجب لعذاب أليم «وقد يقال» ليس هذا من باب التقية
في شيء إلا أن القوم تكلموا بما طفح على ألسنتهم وظهر على
علانيتهم وكانت المعاني المرادة لهم بحيث تضيق عنها العبارة
ولا يحوم حول حماها سوى الإشارة، ومن حذا حذوهم واقتفى في
التجرد إثرهم فهم ما قالوا وتحقق ما إليه مالوا، ويؤيد هذا ما
ذكره الشعراني قدس سره في الدرر المنثورة في بيان زبدة العلوم
المشهورة مما نصه: وأما زبدة علم التصوف الذي وضع القوم فيه
رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة فمن عمل بما علم تكلم
كما تكلموا وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده لأنه كلما ترقى
العبد في باب الأدب مع الله تعالى دق كلامه على الإفهام حتى
قال بعضهم لشيخه: إن كلام أخي فلان يدق علي فهمه فقال: لأن لك
قميصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك- وهذا هو الذي دعا
الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بعلم
الباطن، وليس ذلك بباطن إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى وأما
جميع ما علمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من علم الظاهر لأنه
ظهر للخلق فاعلم ذلك انتهى.
(2/121)
فعلى هذا الإنكار على القوم ليس في محله
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي عقاب نفسه- قاله ابن عباس
رضي الله تعالى عنه- وفيه تهديد عظيم مشعر بتناهي المنهي عنه
في القبح حيث علق التحذير بنفسه، وإطلاق النفس عليه تعالى
بالمعنى الذي أراده جائز من غير مشاكلة على الصحيح، وقيل:
النفس بمعنى الذات وجواز إطلاقه حينئذ بلا مشاكلة مما لا كلام
فيه عند المتقدمين، وقد صرح بعض المتأخرين بعدم الجواز وإن
أريد به الذات إلا مشاكلة وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي
المرجع، والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة وإدخال
الروعة قيل: والكلام على حذف مضاف أي إلى حكمه أو جزائه وليس
باللازم، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومحقق لوقوعه حتما
قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أي تسروا ما في قلوبكم
من الضمائر التي من جملتها ولاية الكفار، وإنما ذكر الصدر لأنه
محل القلب أَوْ تُبْدُوهُ أي تظهروه فيما بينكم.
يَعْلَمْهُ اللَّهُ فيؤاخذكم به عند مصيركم إليه ولا ينفعكم
إخفاؤه، وتقديم الإخفاء على الإبداء قد مرت الإشارة إلى سره
وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من إيراد
العام بعد الخاص تأكيدا له وتقريرا، والجملة مستأنفة غير
معطوفة على جواب الشرط.
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إثبات لصفة القدرة بعد
إثبات صفة العلم وبذلك يكمل وجه التحذير، فكأنه سبحانه قال:-
ويحذركم الله نفسه لأنه متصف بعلم ذاتي محيط بالمعلومات كلها
وقدرة ذاتية شاملة للمقدورات بأسرها فلا تجسروا على عصيانه
وموالاة أعدائه إذ ما من معصية خفية كانت أو ظاهرة إلا وهو
مطلع عليها وقادر على العقاب بها- والإظهار في مقام الإضمار
لما علمت يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ من النفوس المكلفة.
ما عَمِلَتْ في الدنيا مِنْ خَيْرٍ وإن كان مثقال ذرة
مُحْضَراً لديها مشاهدا في الصحف، وقيل:
ظاهرا في صور، وقيل: تجد جزاء أعمالها محضرا بأمر الله تعالى،
وفيه من التهويل ما ليس في- حاضرا- وهو مفعول ثان لتجد وَما
عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ عطف على ما عَمِلَتْ ومُحْضَراً محضر فيه
معنى إلا أنه خص بالذكر في- الخير- للإشعار بكون الخير مرادا
بالذات وكون إحضار الشر من مقتضيات الحكمة التشريعية- كما قال
شيخ الإسلام- وتقدير مُحْضَراً في النظم وحذفه للاقتصار بقرينة
ذكره في الأول مما قاله الأكثرون ويكون من العطف على المفعولين
وهو جائز- كما في الدر المصون- ولم يجعلوه من قبيل- علمت زيدا
فاضلا وعمرا- وهو ليس من باب الاقتصار على المفعول الأول من
قبيل- زيد قائم. وعمرو- وهو مما حذف فيه الخبر كما صرحوا به
فيلزم الاقتصار ضرورة، والفرق بين المبتدأ والمفعول في هذا
الباب وهم، ولك أن تجعل تَجِدُ بمعنى تصيب فيتعدى لواحد،
ومُحْضَراً حال تَوَدُّ أي تتمنى وهو عامل في الظرف أي تتمنى
يوم ذلك.
لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أي بين ذلك اليوم أَمَداً
بَعِيداً وقيل: الضمير- لما عملت- لقربه ولأن اليوم أحضر فيه
الخير والشر والمتمني بعد الشر لا ما فيه مطلقا فلا يحسن إرجاع
الضمير- اليوم- وإلى ذلك ذهب في البحر، ورد بأنه أبلغ لأنه
يودّ البعد بينه وبين اليوم مع ما فيه من الخير لئلا يرى ما
فيه من السوء، والأمد- غاية الشيء ومنتهاه، والفرق بينه وبين
الأبد أن الأبد مدة من الزمان غير محدودة، والأمد مدة لها حد
مجهول والمراد هنا الغاية الطويلة، وقيل: مقدار العمر، وقيل:
قدر ما يذهب به من المشرق إلى المغرب، وذهب بعضهم إلى أن
المراد بالأمد البعيد المسافة البعيدة- ولعله الأظهر- فالتمني
هنا من قبيل التمني في قوله تعالى: يا لَيْتَ بَيْنِي
وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ [الزخرف: 38] وهذا الذي ذكر
في نظم الآية هو ما ذهب إليه كثير من أئمة التفسير، وقال أبو
حيان: إن الظاهر في بادئ الرأي مبني على أمر اختلف النحاة في
جوازه وهو كون الفاعل ضميرا عائدا على ما اتصل به معمول الفعل
(2/122)
المتقدم نحو غلام هند ضربت هي، والآية من
هذا القبيل على ذلك التخريج لأن الفاعل بيودّ عائد على شيء
اتصل بمعمول- يودّ- وهو يوم لأنه مضاف إلى تجد كل نفس،
والتقدير تودّ كل نفس يوم وجدانها ما عملت من خير وشر
مُحْضَراً لو أن بينها إلخ، وجمهور البصريين على جواز ذلك وهو
الصحيح، ومنه قوله:
أجل المرء يستحث- ولا يد ... ري- إذا يبتغي حصول الأماني
أي المرء في وقت ابتغائه حصول الأماني يستحث أجله ولا يدري،
والفراء. والأخفش. وغيره من البصريين على عدم الجواز لأن هذا
المعمول فضلة فيجوز الاستغناء عنه، وعود الضمير على ما اتصل به
يخرجه عن ذلك لأنه يلزم ذكر المعمول ليعود الضمير الفاعل على
ما اتصل به ولا يخفى وهنه «وفي الآية أوجه أخر» منها أن ناصب
الظرف قدير، ولا يرد عليه تقييد قدرته سبحانه بذلك اليوم لأنه
إذ قدر في مثله علم قدرته في غيره بالطريق الأولى، ومنها أنه
منصوب بالمصير. أو بالذكر. أو بيحذركم مقدرا فيكون مفعولا به.
أو بالعقاب المضاف الذي أشعر به كلام ابن عباس رضي الله تعالى
عنه، وصرحوا بأنه على تقدير تعلقه بنحو- اذكروا- يجوز في ما
عَمِلَتْ أن يكون مبتدأ خبره حملة تَوَدُّ وأن يكون معطوفا على
ما الأولى، وجملة تَوَدُّ إما مستأنفة جوابا لسؤال مقدر كأن
سائلا قال حين أمروا بذكر ذلك اليوم. فماذا يكون إذ ذاك؟ فقيل:
تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها إلخ، أو حال من فاعل تَجِدُ أي-
اذكروا يوم تجد كل نفس ما عملت من خير وشر محضرا وادّت تباعد
ما بينها وبينه- وجوز أن يكون حالا من ضمير عَمِلَتْ لقربه،
واعترض بأن- الوداد- إنما هو وقت وجدان العمل حاضرا في الآخرة
لا وقت العمل في الدنيا، والحالية من ضمير عَمِلَتْ تقتضيه فلا
وجه لها، وأجيب بأنها حال مقدرة على معنى يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ
نَفْسٍ كذا مقدرا وداده- أي حال كونه ثابتا في قدرنا وداده-
فالوداد وإن لم يكن مقارنا للعمل إلا أن كون الوداد ثابتا في
قدر الله تعالى وقضائه مقارن له، وهذا مثل ما قيل في قوله
تعالى وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ
[الصافات: 112] ، واعترض أيضا بأنه على تقدير الحالية من ضمير
عَمِلَتْ يلزم تخصيص العمل والمقام لا يناسب، وأجيب بأنه ليس
القصد التخصيص بل بيان سوء حالهم وحسرتهم ولا بأس به، وجوز
أيضا أبو البقاء أن تكون ما في ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ شرطية-
وإلى ذلك مال السفاقسي- ورفع تَوَدُّ ليس بمانع لأنه إذا كان
الشرط ماضيا والجزاء مضارعا جاز في الجزاء الرفع والجزم من غير
تفرقة بين إن الشرطية وأسماء الشرط، واعترض بأن رفع المضارع في
الجزاء شاد كرفعه في الشرط كما نص عليه المبرد وشهد به
الاستعمال حيث لم يوجد إلا في قول زهير:
«وإن» أتاه خليل يوم مسغبة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم
فلا يستسهل تخريج القراءة المتفق عليها عليه، نعم لا بأس
بتخريج الشواذ كقراءة أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ
الْمَوْتُ [النساء: 78] يرفع يدرك عليه، وأجيب بأنا لا نسلم
الشذوذ، وقد ذكر أبو حيان أن الرفع مسموع كثيرا في لسان العرب
حتى ادعى بعض المغاربة أنه أحسن من الجزم. وبيت زهير مثله قول
أبي صخر:
ولا بالذي إن بان منه حبيبه ... يقول ويخفي الصبر إني لجازع
وقول الآخر:
إن يسألوا الخير يعطوه وإن خبروا ... في الجهد أدرك منهم طيب
إخبار
برفع أدرك وهو مضارع وقع جواب الشرط، وقوله:
وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه ... تشوف أهل الغائب المنتظر
إلى غير ذلك، وفي البحر: إن ضعف تخريج الرفع على ذلك ليس بذلك
لما علمت ولكن يمتنع أن يكون ما في
(2/123)
الآية جزاء لما ذكر سيبويه أن النية في
المرفوع التقديم ويكون إذ ذاك دليلا على الجواب لا نفس الجواب
وحينئذ يؤدي إلى تقديم المضمر على ظاهره في غير الأبواب
المستثناة لأن ضمير- وبينه- عائد على اسم الشرط وهو ما فيصير
التقدير- تودّ كل نفس لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ما عملت من
سوء- وذلك لا يجوز، ورده السفاقسي بأنا لو تنزلنا على مذهب
سيبويه لا يلزم محذور أيضا لأن الجملة لاشتمالها على ضمير
الشرط يلزم تأخيرها وإن كانت متقدمة في النية ألا ترى أن
الفاعل إذا اشتمل على ضمير يعود على المفعول يمتنع تقديمه عليه
عند الأكثر، وإن كان متقدما عليه في النية، وقرأ عبد الله-
ودّت- وعليها يرتفع مانع الارتفاع بالإجماع وتصح الشرطية إلا
أن العلامة الثاني قال: إن في الصحة كلاما لأن الجملة على
تقدير الموصولية حال أو عطف على تَجِدُ والشرطية لا تقع حالا
ولا مضافا إليها الظرف فلم يبق إلا عطفها على اذكر- وهو بتقدير
صحته يخل بالمعنى- وهو كون هذه الحالة والودادة في ذلك اليوم
ولا محيص سوى جعلها حالا بتقدير مبتدأ أي- وهي ما عملت من سوء
ودّت- ولا يخفى ما فيه فإنهم أعربوا أن الوصلية مع جملتها على
الحالية ولم ينص النحاة على منع الإضافة إليها، وقال غير واحد
من الأئمة: إن الموصولية أوفق بقراءة العامة وأجرى على سنن
الاستقامة لأنه كلام- كحكاية الحال الكائنة في ذلك اليوم- فيجب
أن يحمل على ما يفيد الوقوع ولا كذلك الشرطية على أنها تفيد
الاستقبال ولا عمل سوء في استقبال ذلك اليوم وهذا لا ينفي
الصحة لأنها وإن لم تدل على الوقوع لا تنافيه، وحديث الاستقبال
يدفعه تقدير- وما كان عملت كما في نظائر له، فتدبر وافهم فعلك
لا يقطعك عن اختيار الموصولية شيء وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ
نَفْسَهُ قيل: ذكره أولا للمنع عن موالاة الكفار وهنا حثا على
عمل الخير والمنع من عمل السوء مطلقا. وجوز أن يكون معطوفا على
تَوَدُّ أي تهاب من ذلك اليوم ومن العمل السيء وَيُحَذِّرُكُمُ
اللَّهُ نَفْسَهُ بإظهار قهاريته وهو مما لا يكاد ينبغي أن
يخرج الكتاب العزيز عليه، وأهون منه عطفه على تَجِدُ والظرف
معمول- لا ذكروا- أي اذكروا ذلك اليوم واذكروا يوم يحذركم الله
نفسه بإظهار كبريائه وقهاريته. وقد يقال: إنه تكرار لما سبق
وإعادة له لكن لا للتأكيد فقط بل لإفادة ما يفيده، وقوله
تعالى: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ من أن تحذيره تعالى نفسه
من رحمته الواسعة للعباد لأنهم إذا عرفوه وحذروه جرهم ذلك إلى
طلب رضاه واجتناب سخطه وذلك هو الفوز العظيم، أو من أن تحذيره
سبحانه ليس مبنيا على تناسي صفة الرحمة بل هو متحقق مع تحققها
أيضا.
فالجملة على الأول تذييل، وعلى الثاني حال، وإلى الأول يشير
كلام الحسن رضي الله تعالى عنه، وأل- في العباد للاستغراق
وتكرير الاسم الجليل لتربية المهابة وإذهاب الغفلة بتوجه الذهن
إلى هذا الحكم أتم توجه.
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ذهب
عامة المتكلمين إلى أن المحبة نوع من الإرادة وهي لا تتعلق
حقيقة إلا بالمعاني والمنافع فيستحيل تعلقها بذاته تعالى
وصفاته فهي هنا بمعنى إرادة العبد اختصاصه تعالى بالعبادة وذلك
إما من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم أو من باب الاستعارة
التبعية بأن شبه إرادة العبد ذلك ورغبته فيه بميل قلب المحب
إلى المحبوب ميلا لا يلتفت معه إلا إليه أو من باب مجاز النقص
أي- إن كنتم تحبون طاعة الله تعالى أو ثوابه فاتبعوني فيما
آمركم به وأنهاكم عنه- كذا قيل، وهو خلاف مذهب العارفين من أهل
السنة والجماعة فإنهم قالوا المحبة تتعلق حقيقة بذات الله
تعالى وينبغي للكامل أن يحب الله سبحانه لذاته وأما محبة ثوابه
فدرجة نازلة، قال الغزالي عليه الرحمة في الاحياء: الحب عبارة
عن ميل الطبع إلى الشيء الملذ فإن تأكد ذلك الميل وقوي يسمى
عشقا، والبغض عبارة عن نفرة الطبع عن المؤلم المتعب فإذا قوي
سمي مقتا، ولا يظن أن الحب مقصور على مدركات الحواس الخمس حتى
يقال: إنه سبحانه لا يدرك بالحواس ولا يتمثل بالخيال فلا يحب
لأنه صلى الله تعالى
(2/124)
عليه وسلم سمى الصلاة- قرة عين- وجعلها
أبلغ المحبوبات، ومعلوم أنه ليس للحواس الخمس فيها حظ بل حس
سادس مظنته القلب والبصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر
والقلب أشد إدراكا من العين وجمال المعاني المدركة بالعقل أعظم
من جمال الصور الظاهرة للأبصار فتكون لا محالة لذة القلوب بما
تدركه من الأمور الشريفة الإلهية التي تجل أن تدركها الحواس
أتم وأبلغ فيكون ميل الطبع السليم والعقل الصحيح إليه أقوى،
ولا معنى للحب إلا الميل إلى ما في إدراكه لذة فلا ينكر إذا حب
الله تعالى إلا من قعد به القصور في درجة البهائم فلم يجز
إدراكه الحواس أصلا، نعم هذا الحب يستلزم الطاعة كما قال
الوراق:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
والقول: بأن المحبة تقتضي الجنسية بين المحب والمحبوب- فلا
يمكن أن تتعلق بالله تعالى- ساقط من القول لأنها قد تتعلق
بالأعراض بلا شبهة ولا جنسية بين العرض والجوهر يُحْبِبْكُمُ
اللَّهُ جواب الأمر وهو رأي الخليل.
وأكثر المتأخرين على أن مثل ذلك جواب شرط مقدر أي إن تتبعوني
يحببكم أي يقربكم- رواه ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة، وقيل:
يرض عنكم وعبر عن ذلك بالمحبة على طريق المجاز المرسل أو
الاستعارة أو المشاكلة، وجعل بعضهم نسبة المحبة لله تعالى من
المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله تعالى.
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي يتجاوز لكم عنها وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن تحبب اليه بطاعته وتقرب اليه باتباع
نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، والجملة تذييل مقرر لما سبق مع
زيادة وعد الرحمة، ووضع الاسم الجليل مع الإضمار لما مر
للاشعار باستتباع وصف الألوهية للمغفرة والرحمة، وقرئ- تحبوني.
ويحبكم. ويحببكم- من حبه يحبه، ومنه قوله:
أحب- أبا ثروان من- حب- تمره ... وأعلم أن الرفق بالجار أرفق
وو الله لولا تمره- ما حببته ... ولا كان أدنى من عبيد ومشرق
ومناسبة الآية لما قبلها كما قال الطيبي: أنه سبحانه لما عظم
ذاته وبين جلالة سلطانه بقوله جل وعلا: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ
الْمُلْكِ إلخ تعلق قلب العبد المؤمن بمولى عظيم الشأن ذي
الملك والملكوت والجلال والجبروت، ثم لما ثنى بنهي المؤمنين عن
موالاة أعدائه وحذر عن ذلك غاية التحذير بقوله عز قائلا: لا
يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ إلخ ونبه
على استئصال تلك الموالاة بقوله عز شأنه: إِنْ تُخْفُوا ما فِي
صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ الآية وأكد ذلك بالوعيد الشديد زاد
ذلك التعلق أقصى غايته فاستأنف قوله جل جلاله: قُلْ إِنْ
كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ ليشير إلى طريق الوصول إلى هذا
المولى جل وعلا فكأن قائلا يقول: بأي شيء ينال كمال المحبة
وموالاة الرب؟ فقيل: بعد قطع موالاة أعدائنا تنال تلك الدرجة
بالتوجه إلى متابعة حبيبنا إذ كل طريق سوى طريقه مسدود وكل عمل
سوى ما أذن به مردود «واختلف في سبب نزولها»
فقال الحسن، وابن جريج: زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم أنهم يحبون الله تعالى فقالوا يا محمد: إنا
نحب ربنا فأنزل الله تعالى هذه الآية،
وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: «وقف النبي
صلّى الله عليه وسلم على قريش في المسجد الحرام وقد نصبوا
أصنامهم علقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها الشنوف وهم
يسجدون لها فقال: يا معشر قريش لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم
وإسماعيل ولقد كانا على الإسلام فقالت قريش: يا محمد إنما نعبد
هذه حبا لله تعالى لتقربنا إلى الله سبحانه زلفى فأنزل الله
تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ إلخ،
وفي رواية أبي صالح «إن اليهود لما قالوا: نحن أبناء الله
وأحباؤه أنزل هذه الآية فلما نزلت
(2/125)
عرضها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
على اليهود فأبوا أن يقبلوها»
وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: «نزلت في
نصارى نجران وذلك أنهم قالوا: إنما نعظم المسيح ونعبده حبا لله
تعالى وتعظيما له فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم»
يروى أنها لما نزلت قال عبد الله بن أبيّ: إن محمدا يجعل طاعته
كطاعة الله تعالى ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى فنزل
قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
أي في جميع الأوامر والنواهي ويدخل في ذلك الأمر السابق دخولا
أوليا، وإيثار الإظهار على الإضمار بطريق الالتفات لتعيين
حيثية الإطاعة والإشعار بعلتها، وفيه إشارة إلى رد شبهة
المنافق كأنه يقول: إنما أوجب الله تعالى عليكم متابعتي لا لما
يقول النصارى في عيسى بل لكوني رسول الله فَإِنْ تَوَلَّوْا أي
أعرضوا أو تعرضوا على أن تكون إحدى التاءين محذوفة فيكون حينئذ
داخلا في حيز المقول، وفي ترك ذكر احتمال الإطاعة تلويح إلى
أنها غير محتملة منهم فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ
أي لا يقربهم أو لا يرضى عنهم بل يبعدهم عن جوار قدسه وحظائر
عزه ويسخط عليها يوم رضاه عن المؤمنين.
والمراد من الكافرين من تولى ولم يعبر بضميرهم للإيذان بأن
التولي عن الطاعة كفر وبأن محبته عز وجل مخصوصة بالمؤمنين لأن
نفيها- عن هؤلاء الكفار المستلزم لنفيها عن سائرهم لاشتراك
العلة- يقتضي الحصر في ضدهم.
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ
عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ روي عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنه أن اليهود قالوا: نحن أبناء إبراهيم. وإسحق. ويعقوب عليهم
الصلاة والسلام ونحن على دينهم فنزلت: وقيل: إن نصارى نجران
لما غلوا في عيسى عليه الصلاة والسلام وجعلوه ابن الله سبحانه
واتخذوه إلها نزلت ردا عليهم وإعلاما لهم بأنه من ذرية البشر
المنتقلين في الأطوار المستحيلة على الإله وهذا وجه مناسبة
الآية لما قبلها.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في وجه المناسبة: إنه سبحانه
لما بين إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران:
19] وإن اختلاف أهل الكتابين فيه إنما هو للبغي والحسد وأن
الفوز برضوانه ومغفرته ورحمته منوط باتباع الرسول صلى الله
تعالى عليه وسلم شرع في تحقيق رسالته وأنه من أهل بيت النبوة
القديمة فبدأ ببيان جلالة أقدار الرسل عليهم الصلاة والسلام
وأتبعه ذكر مبدأ عيسى وأمه وكيفية دعوته الناس إلى الإيمان
تحقيقا للحق وإبطالا لما عليه أهل الكتابين من الإفراط
والتفريط في شأنهما ثم بين محاجتهم في إبراهيم وادعائهم
الانتماء إلى ملته ونزه ساحته العلية عما هم عليه من اليهودية
والنصرانية ثم نص على أن جميع الرسل دعاة إلى عبادة الله تعالى
وتوحيده وأن أممهم قاطبة مأمورون بالإيمان بمن جاءهم من رسول
مصدق لما معهم تحقيقا لوجوب الايمان بالرسول صلى الله تعالى
عليه وسلم وتحتم الطاعة له حسبما يأتي تفصيله انتهى- وهو وجه
وجيه-.
وبدأ بآدم عليه الصلاة والسلام لأنه أول النوع وثنى بنوح عليه
الصلاة والسلام لأنه آدم الأصغر والأب الثاني وليس أحد على وجه
البسيطة إلا من نسله لقوله سبحانه: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ
هُمُ الْباقِينَ [الصافات: 77] وذكر آل إبراهيم لترغيب
المعترفين باصطفائهم في الإيمان بنبوة واسطة قلادتهم
واستمالتهم نحو الاعتراف باصطفائه بواسطة كونه من زمرتهم وذكر
آل عمران مع اندراجهم في الآله الأول لإظهار مزيد الاعتناء
بأمر عيسى عليه الصلاة والسلام لكمال رسوخ الاختلاف في شأنه
وهذا هو الداعي إلى إضافة الآل في الأخيرين دون الأولين.
وقيل: المراد بالآل في الموضعين بمعنى النفس أي- اصطفى آدم،
ونوحا، وإبراهيم، وعمران. وذكر الآل فيهما اعتناء بشأنهما وليس
بشيء. والمراد بآل إبراهيم كما قال مقاتل: إسماعيل، وإسحق،
ويعقوب، والأسباط. وروي عن
(2/126)
ابن عباس. والحسن رضي الله تعالى عنهم أنهم
من كان على دينه كآل محمد صلّى الله عليه وسلم في أحد
الإطلاقات، والمراد بآل عمران عيسى عليه الصلاة والسلام وأمه
مريم بنت عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود عليهما السلام
قاله الحسن ووهب، وقيل: المراد بهم موسى وهارون عليهما السلام،
فعمران حينئذ هو عمران بن يصهر أبو موسى- قاله مقاتل- وبين
العمرانين ألف وثمانمائة سنة. والظاهر هو القول الأول- لأن
السورة تسمى آل عمران ولم تشرح قصة عيسى ومريم في سورة أبسط من
شرحها في هذه السورة، وأما موسى، وهارون فلم يذكر من قصتهما
فيها طرف فدل ذلك على أن عمران المذكور هو أبو مريم، وأيضا
يرجح كون المراد به أبا مريم أن الله تعالى ذكر اصطفاءها بعد
ونص عليه وأنه قال سبحانه: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ [آل
عمران: 35] إلخ، والظاهر أنه شرح لكيفية الاصطفاء المشار إليه
بقوله تعالى:
وَآلَ عِمْرانَ فيكون من قبيل تكرار الاسم في جملتين فيسبق
الذهن إلى أن الثاني هو الأول نحو أكرم زيدا إن زيدا رجل فاضل،
وإذا كان المراد بالثاني غير الأول كان في ذلك إلباس على
السامع، وترجيح القول الأخير بأن موسى يقرن بإبراهيم في الذكر
ليس في القوة- كمرجح الأول كما لا يخفى، والاصطفاء الاختيار،
وأصله أخذ صفوة الشيء كالاستصفاء، ولتضمينه معنى التفضيل عدي
بعلى، والمراد- بالعالمين- أهل زمان كل واحد منهم أي اصطفى كل
واحد منهم على عالمي زمانه، ويدخل الملك في ذلك، والتأويل خلاف
الأصل.
ومن هنا استدل بعضهم بالآية على أفضلية الأنبياء على الملائكة،
ووجه الاصطفاء في جميع الرسل أنه سبحانه خصهم بالنفوس القدسية
وما يليق بها من الملكات الروحانية والكمالات الجسمانية حتى
إنهم امتازوا كما قيل: على سائر الخلق خلقا وخلقا وجعلوا خزائن
أسرار الله تعالى ومظهر أسمائه وصفاته ومحل تجليه الخاص من
عباده ومهبط وحيه ومبلغ أمره ونهيه، وهذا ظاهر في المصطفين
المذكورين في الآية من الرسل، وأما مريم فلها الحظ الأوفر من
بعض ذلك، وقيل: اصطفى آدم بأن خلقه بيديه وعلمه الأسماء وأسجد
له الملائكة وأسكنه جواره، واصطفى نوحا بأنه أول رسول بعث
بتحريم البنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وسائر ذوي
المحارم وأنه أب الناس بعد آدم وباستجابة دعوته في حق الكفرة
والمؤمنين، واصطفى آل إبراهيم بأن جعل فيهم النبوة والكتاب،
ويكفيهم فخرا أن سيد الأصفياء منهم، واصطفى عيسى وأمه بأن
جعلهما آية للعالمين.
وإن أريد بآل عمران موسى وهارون فوجه اصطفاء موسى عليه الصلاة
والسلام تكليم الله تعالى إياه وكتابة التوراة له بيده، ووجه
اصطفاء هارون جعله وزيرا لأخيه، وأما اصطفاء إبراهيم عليه
الصلاة والسلام فمفهوم بطريق الأولى وعدم التصريح به للايذان
بالغنى عنه لكمال شهرة أمره بالخلة، وكونه شيخ الأنبياء وقدوة
المرسلين، وأما اصطفاء نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فيفهم
من دخوله في آل إبراهيم كما أشرنا إليه وينضم إليه أن سياق هذا
المبحث لأجله كما يدل عليه بيان وجه المناسبة في كلام شيخ
الإسلام، وروي عن أئمة أهل البيت أنهم يقرؤون- وآل محمد على
العالمين- وعلى ذلك لا سؤال، ومن الناس من قال: المراد بآل
إبراهيم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم جعل كأنه كل الآل
مبالغة في مدحه، وفيه أن نبينا وإن كان في نفس الأمر بمنزلة
الأنبياء كلهم فضلا عن آل إبراهيم فقط إلا أن هذه الإرادة هنا
بعيدة، ويشبه ذلك في البعد بل يزيد عليه ما ذكره بعضهم في
الآية أنه لما أمرهم بمتابعته صلى الله تعالى عليه وسلم
وإطاعته، وجعل إطاعته ومتابعته سببا لمحبة الله تعالى إياهم
وعدم إطاعته سببا لسخط الله تعالى عليهم وسلب محبته عنهم أكد
ذلك بتعقيبه بما هو عادة الله تعالى من اصطفاء أنبيائه على
مخالفيهم وقمعهم وتذليلهم وإعدامهم لهم تخويفا لهؤلاء
المتمردين عن متابعته صلى الله تعالى عليه وسلم فذكر اصطفاء آل
إبراهيم على العالم مع أن العالم كانوا كافرين فجعل دينهم
شائعا وذلل مخالفيهم، واصطفاء موسى وهارون على العالم
(2/127)
فجعل السحرة مع كثرتهم مغلوبين لهما وفرعون
مع عظمته وغلبة جنوده مغلوبا وأهلكهم، ولذا خص آدم بالذكر
ونوحا والآلين، ولم يذكر إبراهيم ونبينا صلى الله تعالى عليهما
وسلم إذ إبراهيم لم يغلب، وهذا الكلام لبيان أن نبينا صلى الله
تعالى عليه وسلم سيغلب- وليس المراد الاصطفاء بالنبوة حتى يخفي
وجه التخصيص- وبهذا ظهر ضعف الاستدلال به على فضلهم على
الملائكة انتهى.
وفيه أن المتبادر من الاصطفاء الاجتباء والاختيار لا النصر على
الأعداء على أن المقام بمراحل عن هذا الحمل، وقد أخرج ابن
عساكر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر
الاصطفاء هنا بالاختيار للرسالة- ومثله فيما أخرجه ابن جرير عن
الحسن- وأيضا حمل آل عمران على موسى. وهارون مما لا ينساق إليه
الذهن كما علمت، وكأن القائل لما لم يتيسير له إجراء الاصطفاء
بالمعنى الذي أراده في عيسى عليه الصلاة والسلام وأمه اضطر إلى
الحمل على خلاف الظاهر، وأنت تعلم أن الآية غنية عن الولوج في
مثل هذه المضايق.
ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ نصب على البدلية من الآلين أو
الحالية منهما، وقيل: بدل من «نوح» وما بعده، وجوز أن يكون
بدلا من آدَمَ وما عطف عليه، ورده أبو البقاء بأن آدم ليس
بذرية، وأجيب بأنه مبني على ما صرح به الراغب وغيره من أن
الذرية تطلق على الآباء والأبناء لأنه من الذرء بمعنى الخلق،
والأب ذرئ منه الولد، والولد ذرئ من الأب إلا أن المتبادر من
الذرية النسل- وقد تقدم الكلام عليه.
والمعنى أنهم ذرية واحدة متشعبة البعض من البعض في النسب كما
ينبئ عنه التعرض لكونهم ذرية، وروي عن أبي عبد الله رضي الله
تعالى عنه- واختاره الجبائي- وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال:
بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ في النية والعمل والإخلاص والتوحيد،
ومِنْ على الأول ابتدائية والاستمالة تقريبية وعلى الثاني
اتصالية والاستمالة برهانية، وقيل: هي اتصالية فيهما وَاللَّهُ
سَمِيعٌ لأقوال العباد عَلِيمٌ بأفعالهم وما تكنه صدورهم
فيصطفي من يشاء منهم، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها إِذْ
قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ تقرير للاصطفاء وبيان لكيفيته،
والظرف في حيز النصب على المفعولية بفعل محذوف أي اذكر لهم وقت
قولها، وقيل: هو منصوب على الظرفية لما قبله، وهو سَمِيعٌ
عَلِيمٌ على سبيل التنازع أو- السميع- ولا يضر الفصل بينهما
بالأجنبي لتوسعهم في الظروف، وقيل: هو ظرف لمعنى الاصطفاء
المدلول عليه- باصطفى- المذكور كأنه قيل: واصطفى آل عمران إِذْ
قالَتِ إلخ فكان من عطف الجمل على الجمل لا المفردات على
المفردات ليلزم كون اصطفاء الكل في ذلك الوقت، وامْرَأَتُ
عِمْرانَ هي حنة بنت فاقوذا- كما رواه إسحق بن بشر عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنه والحاكم عن أبي هريرة- وهي جدة عيسى عليه
الصلاة والسلام وكان لها أخت اسمها إيشاع تزوجها زكريا عليه
الصلاة والسلام- هي أم يحيى- فعيسى ابن بنت خالة يحيى- كما ذكر
ذلك غير واحد من الأخباريين- ويشكل عليه ما
أخرجه الشيخان في حديث المعراج من قوله صلى الله تعالى عليه
وسلم: «فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم، ويحي بن زكريا»
وأجاب صاحب التقريب بأن الحديث مخرج على المجاز فإنه كثيرا ما
يطلق الرجل اسم الخالة على بنت خالته لكرامتها عليه، والغرض أن
بينهما عليهم الصلاة والسلام هذه الجهة من القرابة وهي جهة
الخئولة، وقيل: كانت إيشاع أخت حنة من الأم وأخت مريم من الأب
على أن عمران نكح أولا أم حنة فولدت له إيشاع ثم نكح حنة بناء
على حل نكاح الربائب في شريعتهم فولدت مريم فكانت إيشاع أخت
مريم من الأب وخالتها من الأم لأنها أخت حنة من الأم، وفيه أنه
مخالف لما ذكره محيي السنة من أن إيشاع وحنة بنتا فاقوذا على
أنه بعيد لعدم الرواية في الأمرين.
أخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن حنة امرأة
عمران كانت حبست عن الولد والمحيض
(2/128)
فبينا هي ذات يوم في ظل شجرة إذ نظرت إلى
طير يزق فرخا له فتحركت نفسها للولد فدعت الله تعالى أن يهب
لها ذكرا فحاضت من ساعتها فلما ظهرت أتاها زوجها فلما أيقنت
بالولد قالت: لئن نجاني الله تعالى ووضعت ما في بطني لأجعلنه
محررا ولم يكن يحرر في ذلك الزمان إلا الغلمان فقال لها زوجها:
أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى- والأنثى عورة- فكيف تصنعين؟
فاغتمت لذلك فقالت عند ذلك:
رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً
فَتَقَبَّلْ مِنِّي وهذا في الحقيقة استدعاء للولد الذكر لعدم
قبول الأنثى فيكون المعنى- رب إني نذرت لك ما في بطني فاجعله
ذكرا على حد أعتق عبدك عني- وجعله بعض الأئمة تأكيدا لنذرها
إخراجا عن صورة التعليق إلى هيئة التنجيز واللام من لَكَ
للتعليل، والمراد لخدمة بيتك- والمحرر من لا يعمل للدنيا ولا
يتزوج، ويتفرغ لعمل الآخرة ويعبد الله تعالى ويكون في خدمة
الكنيسة- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وقال مجاهد:
المحرر الخادم للبيعة، وفي رواية عنه الخالص الذي لا يخالطه
شيء من أمر الدنيا، وقال محمد بن جعفر بن الزبير: أرادت عتيقا
خالصا لطاعتك لا أصرفه في حوائجي، وعلى كل هو من الحرية- وهي
ضربان- أن لا يجري عليه حكم السبي وأن لا تتملكه الأخلاق
الرديئة والرذائل الدنيوية.
وانتصابه على الحالية من ما والعامل فيه نَذَرْتُ وقيل: من
الضمير الذي في الجار والمجرور والعامل فيه حينئذ الاستقرار-
ولا يخفى رجحان الوجه الأول- والحال إما مقدرة أو مصاحبة، وجوز
أبو حيان أن ينصب على المصدر أي- تحريرا- لأنه بمعنى النذر،
وتأكيد الجملة للإيذان بوفور الرغبة في مضمونها وتقديم الجار
والمجرور لكمال الاعتناء به والتعبير عن الولد بما لإبهام أمره
وقصوره عن درجة العقلاء، والتقبل- أخذ الشيء على وجه الرضا
وأصله المقابلة بالجزاء- وتقبل- هنا بمعنى اقبل إِنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ لسائر المسموعات فتسمع دعائي الْعَلِيمُ بما كان
ويكون فتعلم نيتي وهو تعليل لاستدعاء القبول من حيث إن علمه
تعالى بصحة نيتها وإخلاصها مستدع لذلك تفضلا وإحسانا، وتأكيد
الجملة لغرض قوة يقينها بمضمونها وقصر صفتي السمع والعلم عليه
تعالى لغرض اختصاص دعائها وانقطاع حبل رجائها عما عداه سبحانه
بالكلية مبالغة في الضراعة والابتهال- قاله شيخ الإسلام-
وتقديم صفة السمع لأن متعلقاتها وإن كانت غير متناهية إلا أنها
ليست كتعلقات صفة العلم في الكثرة فَلَمَّا وَضَعَتْها الضمير-
لما- ولما علم المتكلم أن مدلولها مؤنث جاز له تأنيث الضمير
العائد إليه وإن كان اللفظ مذكرا، وأما التأنيث في قوله تعالى:
قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى فليس باعتبار العلم بل
باعتبار أن كل ضمير وقع بين مذكر ومؤنث هما عبارتان عن مدلول
واحد جاز فيه التذكير والتأنيث نحو الكلام يسمى جملة، وأُنْثى
حال بمنزلة الخبر فأنث العائد إلى «ما» نظرا إلى الحال من غير
أن يعتبر فيه معنى الأنوثة ليلزم اللغو أو باعتبار التأويل
بمؤنث لفظي يصلح للمذكر والمؤنث- كالنفس، والحبلة، والنسمة-
فلا يشكل التأنيث ولا يلغو أُنْثى حال مبينة- كذا قيل- ولا
يخلو عن نظر، فالحق أن الضمير لما- في بطني- والتأنيث في الأول
لما أن المقام يستدعي ظهور أنوثته واعتباره في حيز الشرط إذ
عليه بترتب جواب (لما) لا على وضع ولد ما، والتأنيث في الثاني
للمسارعة إلى عرض ما دهمها من خيبة الرجاء وانقطاع حبل الأمل،
وأُنْثى حال مؤكدة من الضمير أو بدل منه، وليس الغرض من هذا
الكلام الإخبار لأنه إما للفائدة أو للازمها، وعلم الله تعالى
محيط بهما بل لمجرد التجسر والتحزن، وقد قال الإمام المرزوقي:
إنه قد يرد الخبر صورة لأغراض سوى الاخبار كما في قوله:
قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت «يصيبني سهمي»
فإن هذا الكلام تحزن وتفجع وليس بإخبار، وحاصل المعنى هنا على
ما قرر- فلما وضعت بنتا تحسرت إلى
(2/129)
مولاها وتفجعت إذ خاب منها رجاها- وعلى هذا
لا إشكال أصلا في التأنيث. ولا في الجزاء نفسه. ولا في ترتبه
على الشرط، وما قيل: إنه يحتمل أن يكون فائدة هذا الكلام-
التحقير للمحرر استجلابا للقبول لأنه من تواضع لله تعالى رفعه
الله سبحانه- فمستحقر من القول بالنسبة إلى ما ذكرنا والتأكيد
هنا قيل: للرد على اعتقادها الباطل وربما أنه يعود إلى
الاعتناء والمبالغة في التحسر الذي قصدته والرمز إلى أنه صادر
عن قلب كسير وفؤاد بقيود الحرمان أسير وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما
وَضَعَتْ ليس المراد الرد عليها في إخبارها بما هو سبحانه أعلم
به كما يتراءى من السياق بل الجملة اعتراضية سيقت لتعظيم
المولود الذي وضعته وتفخيم شأنه والتجهيل لها بقدره- أي والله
أعلم بالشيء الذي وضعته وما علق به من عظائم الأمور ودقائق
الأسرار وواضح الآيات، وهي غافلة عن ذلك كله، و «ما» على هذا
عبارة عن الموضوعة، قيل: والإتيان بها دون- من- يلائم التجهيل
فإنها كثيرا ما يؤتى بها لما يجهل به وجعلها عبارة عن الواضعة-
أي والله تعالى أعلم بشأن أم مريم حين تحسرها وتحزنها من توهم
خيبة رجاها وأنها ليست من الولي إلى الله تعالى في شيء إذ لها
مرتبة عظمى وتحريرها تحرير لا يوجد منه- مما لا وجه له وجزالة
النظم تأباه، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بِما
وَضَعَتْ على خطاب الله تعالى لها، والمراد به تعظيم شأن
الموضوع أيضا أي إنك لا تعلمين قدر ما وضعته وما أودع الله
تعالى فيه.
وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب «بما وضعت» على أنه
من كلامها قالته اعتذارا إلى الله تعالى حيث وضعت مولودا لا
يصلح للغرض، أو تسلية لنفسها أي ولعل لله تعالى في ذلك سرا
وحكمة- ولعلى هذه الأنثى خير من الذكر فالجملة حينئذ لنفي
العلم لا للتجهيل لأن العبد ينظر إلى ظاهر الحال ولا يقف على
ما في خلاله من الأسرار، وحمل قراءة ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما على هذا المعنى بجعل الخطاب منها لنفسها في غاية البعد،
ووضع الظاهر موضع ضمير المخاطب إظهارا لغاية الإجلال وَلَيْسَ
الذَّكَرُ كَالْأُنْثى اعتراض آخر مبين لما اشتمل عليه الأول
من التعظيم وليس بيانا لمنطوقه حتى يلحق بعطف البيان الممتنع
فيه العطف.
واللام في الذكر والأنثى للعهد، أما التي في الأنثى فليسبق
ذكرها صريحا في قوله سبحانه حكاية: إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى
وأما التي في الذكر فلقولها: إِنِّي نَذَرْتُ إلخ إذ هو الذي
طلبته والتحرير لا يكون إلا للذكر وسمي هذا العهد التقديري-
وهو غير الذهني لأن قولها: ما فِي بَطْنِي صالح للصنفين،
وقولها: مُحَرَّراً تمن لأن يكون ذكرا فأشير إلى ما في البطن
حسب رجائها، وجوز أن تكون الجملة من قولها فيكون مرادها نفي
مماثلة الذكر للأنثى، فاللام للجنس- كما هو الظاهر- لأنه لم
يقصد خصوص ذكر وأنثى بل إن المراد أن هذا الجنس ليس كهذا
الجنس، وأورد عليه أن قياس كون ذلك من قولها أن يكون وليست
الأنثى كالذكر فإن مقصودها تنقيص الأنثى بالنسبة إلى الذكر
والعادة في مثله أن ينفي عن الناقص شبهه بالكامل لا العكس،
وأجيب بأنه جار على ما هو العادة في مثله أيضا لأن مراد أم
مريم ليس تفضيل الذكر على الأنثى بل العكس تعظيما لعطية الله
تعالى على مطلوبها أي وليس الذكر الذي هو مطلوبي كالأنثى على
هذا يكون للعهد وهو خلاف الظاهر الذي ذهب إليه أكثر المفسرين،
وأما ثانيا فلأنه ينافي التحسر والتحزن المستفاد من قولها:
رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى فإن تحزنها ذلك إنما هو
لترجيحها الذكر على الأنثى، والمفهوم من هذا الجواب ترجيحها
الأنثى على الذكر اللهم إلا أن يحمل قولها ذلك على تسلية نفسها
بعد ما تحزنت على هبة الأنثى بدل الذكر الذي كانت طلبته إلا
أنه تبقى مخالفة الظاهر على ما هي، فالأولى في الجواب عدم
الخروج عما هو الظاهر والبحث فيما اقتضته العادة فقد قال في
الانتصاف بعد نقل الإيراد وذكر القاعدة:
وقد وجدت الأمر في ذلك مختلفا فلم يثبت لي تعين ما قالوه ألا
ترى إلى قوله تعالى: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ
(2/130)
[الأحزاب: 32] فنفي عن الكامل شبه الناقص
لأن الكمال لأزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ثابت
بالنسبة إلى عموم النساء- وعلى ذلك جاءت عبارة امرأة عمران-
ومنه أيضا أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل: 17]
انتهى.
وتمام الكلام في هذا المقام ما ذكره بعض المحققين أنه إذا دخل
نفي بلا. أو غيرها. أو ما في معناه على تشبيه مصرح بأركانه، أو
ببعضها احتمل معنيين تفضيل لمشبه بأن يكون المعنى أنه لا يشبه
بكذا لأن وجه الشبه فيه أولى وأقوى- كقولك ليس زيد كحاتم في
الجود- ويحتمل عكسه بأن يكون المعنى أنه لا يشبه به لبعد
المسافة بينهما كقول العرب- ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان
وفتى ولا كمالك- وقوله:
طرف الخيال ولا كليلة مدلج ووقع في شروح المقامات وغيرها أن
العرب لم تستعمل النفي بلا على هذا الوجه إلا للمعنى الثاني
وأن استعماله لتفضيل المشبه من كلام المولدين حتى اعترضوا على
قول الحريري في قوله:
غدوت ولا اغتداء الغراب وعيب قول صاحب التلويح في خطبته: نال
حظا من الاشتهار ولا اشتهار الشمس نصف النهار، ومبنى الاعتراض
على هذا، ولعله ليس بلازم كما أشار إليه صاحب الانتصاف، بما
أورد من الآيات، ومما أورده الثعالبي من خلافه أيضا في كتابه
المنتخب- فلان حسن ولا القمر. وجواد ولا المطر- على أنه لو سلم
ما ذكروه فالمعاني لا حجر فيها على أن ما ورد في النفي بلا
المعترضة بين الطرفين لا في كل نفي انتهى.
وهو كما قال: من نفائس المعاني التي ينبغي حفظها- وقوله تعالى:
وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ عطف على إِنِّي وَضَعْتُها
أُنْثى المنصوبة المحل على المفعولية للقول- وما بينهما كما
علمت اعتراض بجملتين غير محكيتين الثانية من تتمة الأولى معنى
على ما بين- ولهذا أجراه البعض مجرى الاعتراض في الاعتراض
فجعله نظير قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ
عَظِيمٌ [الواقعة: 76] .
واعترض بأنه كيف يجوز الاعتراض بين كلامي أم مريم وكلام متكلم
لا يجوز أن يكون معترضا بين كلامي متكلم آخر، وأجيب بأن كلام
أم مريم من كلام الله تعالى نقلا عن أم مريم ولا بعد في أن
يكون كلامه تعالى اعتراضا بين كلاميها اللذين هما من كلام الله
تعالى نقلا عنها، هذا على تقدير أن لا تكون تانك الجملتان من
كلام أم مريم أما إذا كانتا من كلامها بناء على ما سبق من
القراءة والاحتمال فلا اعتراض.
قيل: والغرض من عرض التسمية على عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:
109، 116، التوبة: 78، سبأ: 48] التقرب إليه تعالى واستدعاء
العصمة لها فإن مَرْيَمَ في لغتهم بمعنى العابدة- ولا يخفى
بعده- إذ مجرد ذكر تسميتها بنتها مريم لا يكاد يكون مقربا لها
إليه تعالى لأن التقرب إليه تعالى إنما يكون بسبب العبادة-
ومجرد عرض التسمية ليس بعبادة، فكيف يكون مقربا إليهم إلا أن
يقال: إن التقرب إلى الله تعالى بحبها للعبادة الذي أشعر به
تسميتها بنتها عابدة، أو اعتقاد أن الله تعالى مستعاذ يجير من
يستعيذ به عما يخافه.
واعترض بأن هذا لا يدفع الشبهة بل هي باقية أيضا لأن المقرب
حينئذ ما في القلب من الحب والاعتقاد لا عرض ذلك على من لا
تخفى عليه خافية، والأولى أن يقال: إن الغرض من ذلك إظهار أنها
غير راجعة عن نيتها وإن كان ما وضعته أنثى وأنها وإن لم تكن
خليقة بسدانة بيت المقدس فلتكن من العابدات فيه واستقلالها
بالتسمية لكون أبيها قد مات وأمها حامل بها فتقديم المسند إليه
للتخصيص يعني التسمية مني لا يشاركني فيها أبوها، قيل: وفي ذلك
تعريض بيتمها استعطافا له تعالى وجعلا ليتمها شفيعا لها،
والقول: بأن فائدة عرض تسميتها التحسر والتحزن أيضا أي إني
سميتها لا أبوها لعدم احتفاله بها والتفاته إليها لكراهة
الرجال في الغالب البنات فمع أنه خلاف ما دل عليه أكثر
(2/131)
الآثار ونطق به غالب الأخبار من موت أبيها
وهي حمل يجر إلى ما ينبغي أن تنزه عنه ساحة الرجل الصالح عمران
كما لا يخفى، وقد تقدم الكلام في مَرْيَمَ وزنا ومعنى، وقد
اختار بعض المتأخرين أنها معربة مارية بمعنى- جارية- ويقرب أن
يكون القول المعول عليه، واستدل بالآية على جواز تسمية الأطفال
يوم الولادة لا يوم السابع لأن الظاهر أنها إنما قالت ذلك بإثر
الوضع، واستدل بتغاير المفعولين على تغاير الاسم والمسمى، وقد
تقدم البحث فيه وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ عطف على إِنِّي
سَمَّيْتُها وأتى هنا بخير إن فعلا مضارعا دلالة على طلبها
استمرار الاستعاذة دون انقطاعها وهذا بخلاف وَضَعَتْها
وسَمَّيْتُها حيث أتى بالخبرين ماضيين لانقطاعهما وقدم المعاذ
به على المعطوف الآتي اهتماما به، ومعنى أُعِيذُها بِكَ أمنعها
وأجيرها بحفظك، وأصل العوذ كما قال الراغب: الالتجاء إلى
الالتجاء إلى الغير والتعلق به يقال: عاذ فلان بفلان إذا
استجار به، ومنه أخذت العوذة وهي التميمة والرقية وقرأ أبو
جعفر، ونافع- «إنّي» - بفتح ياء المتكلم وكذا في سائر المواضع
التي بعد الياء ألف مضمومة إلا في موضعين بِعَهْدِي أُوفِ
[البقرة: 40] وآتُونِي أُفْرِغْ [الكهف: 96] وَذُرِّيَّتَها
عطف على الضمير المنصوب، وفي النصيص على إعاذتها وإعاذة ذريتها
رمز إلى طلب بقائها حية حتى تكبر، وطلب للتناسل منها هذا إذا
أريد بالإعاذة مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ أي المطرود، وأصل
الرجم: الرمي بالحجارة الحفظ من إغوائه الموقع في الخطايا لأنه
إنما يكون بعد البلوغ إذ لا تكليف قبله، وأما إذا أريد منها
الحفظ منه مطلقا فيفهم طلب الأمرين من الأمر الأخير، ويؤيد هذا
ما
أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما من مولود يولد إلا
والشيطان يمسه حين يولد فيستهل من مسّه صارخا إلا مريم وابنها»
وفي بعض طرقه أنه ضرب بينه وبينها حجاب وأن الشيطان أراد أن
يطعن بإصبعه فوقعت الطعنة في الحجاب،
وفي رواية إسحاق بن بشر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:
«قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: كل ولد آدم ينال منه
الشيطان يطعنه حين يقع بالأرض بإصبعه ولهذا يستهل إلا ما كان
من مريم وابنها فإنه لم يصل إبليس إليهما»
وطعن القاضي عبد الجبار بإصبع فكره في هذه الأخبار بأژنها خبر
واحد على خلاف الدليل، وذلك أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من
له تمييز ولأنه لو تمكن من هذا الفعل لجاز أن يهلك الصالحين،
وأيضا لم خص عيسى وأمه دون سائر الأنبياء، وأنه لو وجد المس أو
النخس لدام أثره وليس فليس، والزمخشري زعم أن المعنى على تقدير
الصحة أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها
فإنهما كانا معصومين، وكذلك كل من كان في صفتهما كقوله تعالى:
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ [الحجر: 39، 40، ص: 82، 83] واستهلاله صارخا من
مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ونحوه
من التخييل قول ابن الرومي:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... - يكون بكاء الطفل ساعة
يولد-
وأما حقيقة النخس والمس كما يتوهم أهل الحشو فكلا ولو سلط
إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخا وعياطا مما يبلون
به من نخسه انتهى.
ولا يخفى أن الأخبار في هذا الباب كثيرة وأكثرها مدون في
الصحاح والأمر لا امتناع فيه، وقد أخبر به الصادق عليه الصلاة
والسلام فليتق بالقبول، والتخييل الذي ركن إليه الزمخشري ليس
بشيء لأن المس باليد ربما يصلح لذلك أما الاستهلال صارخا فلا
على أن أكثر الروايات لا يجري فيها مثل ذلك، وقوله: لامتلأت
الدنيا عياطا قلنا: هي مليئة فما من مولود إلا يصرخ، ولا يلزم
من تمكنه من تلك النخسة تمكنه منها في جميع الأوقات كيف
وفي الصحيح «لولا أن الملائكة يحفظونكم لاحتوشتكم الشياطين كما
يحتوش الذباب العسل» ؟ وفي رواية «لاختطفتكم الجن»
وفسر قوله
(2/132)
تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ [الرعد: 11] في أحد الوجوه به، وبهذا يندفع أيضا قول
القاضي: من أنه لو تمكن من هذا الفعل لجاز أن يهلك الصالحين
وبقاء الأثر بل وحصوله أيضا ليس أمرا ضروريا للمس ولا للنخس
والحصر باعتبار الأغلب والاقتصار على عيسى عليه السلام وأمه
إيذانا باستجابة دعاء امرأة عمران على أتم وجه ليتوجه أرباب
الحاج إلى الله تعالى بشراشرهم، أو يقدر له ما يخصصه، وعلى
التقديرين يخرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من العموم فلا
يلزم تفضيل عيسى عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى، ويؤيده
خروج المتكلم من عموم كلامه، وقد قال به جمع ويشهد له ما
روى الجلال في البهجة السنية عن عكرمة قال: لما ولد النبي صلى
الله تعالى عليه وسلم أشرقت الأرض نورا فقال إبليس: لقد ولد
الليلة ولد يفسد علينا أمرنا فقالت له جنوده: لو ذهبت إليه
فجاءه فركضه جبريل عليه السلام فوقع بعدن،
وهذا أولى من إبقاء العام على عمومه، والقول بأنه لا يبعد
اختصاص عيسى وأمه بهذه الفضيلة دون الأنبياء عليهم السلام ولا
يلزم منه تفضيله عليهم السلام إذ قد يوجد في الفاضل ما لا يوجد
في الأفضل، وعلى كلا الأمرين الفاضل والمفضول لا إشكال في
الأخبار من تلك الحيثية، نعم قد يشكل على ظاهرها أن إعاذة أم
مريم كانت بعد الوضع فلا يصح حملها على الإعاذة من المس الذي
يكون حين الولادة، وأجيب بأن المس ليس إلا بالانفصال وهو الوضع
ومعه الإعاذة. غايته أنه عبر عنه بالمضارع كما أشرنا إليه لقصد
الاستمرار فليتأمل، والعجب من بعض أهل السنة كيف يتبع المعتزلة
في تأويل مثل هذه الأحاديث الصحيحة لمجرد الميل إلى ترهات
الفلاسفة مع أن إبقاءها على ظاهرها مما لا يرنق لهم شربا ولا
يضيق عليهم سربا، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لمراضيه ويجعل
مستقبل حالنا خيرا من ماضيه فَتَقَبَّلَها أي رضي بمريم في
النذر مكان الذكر ففيه تشبيه النذر بالهدية ورضوان الله تعالى
بالقبول رَبُّها أي رب مريم المبلغ لها إلى كمالها اللائق بها،
وقيل: الضمير لامرأة عمران بدليل أنها التي خاطبت ونادت بقولها
رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها إلخ، والأول أولى بِقَبُولٍ حَسَنٍ
الباء مثلها في- كتبت بالقلم- وما يقبل به الشيء- كالسعوط
واللدود- ما يسعط به ويلد أي تقبلها بوجه حسن تقبل به النذائر
وهو اختصاصه سبحانه إياها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم
يقبل قبلها أنثى، أو تسلمها من أمها عقب الولادة قبل أن تنشأ
وتصلح للسدانة والخدمة.
فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لما وضعتها
خشيت حنة أن لا تقبل الأنثى محررة فلفتها في الخرقة ووضعتها في
بيت المقدس عند القراء فتساهم القراء عليها- لأنها كانت بنت
إمامهم- أيهم يأخذها فقال زكريا وهو رأس الأحبار: أنا آخذها
وأنا أحقهم بها لأن خالتها عندي، فقالت القراء: ولكنا نتساهم
عليها فمن خرج سهمه فهو أحق بها فدعوا بأقلامهم التي يكتبون
بها الوحي وجمعوها في موضع ثم غطوها، وقال زكريا لبعض من
الغلمان الذين لم يبلغوا الحلم ممن في بيت المقدس: أدخل يدك
فأخرج فأدخل يده فأخرج قلم زكريا فقالوا: لا نرضى ولكن نلقي
الأقلام في الماء فمن خرج قلمه في جرية الماء ثم ارتفع فهو
يكفلها فألقوا أقلامهم في نهر الأردن فارتفع قلم زكريا في جري
الماء فقالوا: نقترع الثالثة فمن جرى قلمه مع الماء فهو يكفلها
فألقوا أقلامهم فجرى قلم زكريا مع الماء وارتفعت أقلامهم في
جرية الماء وقبضها عند ذلك زكريا.
ويجوز أن تكون الباء للملابسة، والقبول- مصدر وهو من المصادر
الشاذة وهناك مضاف محذوف، والمعنى رضي بها متلبسة بأمر ذي
قبول، ووجه ذي رضا وهو ما يقيمها مقام الذكور لما اختصت به من
الإكرام، ويجوز أن يكون تفعل بمعنى استفعل- كتعجل بمعنى
استعجل- والمعنى فاستقبلها ربها وتلقاها من أول وهلة من
ولادتها بقبول أحسن وأظهر الكرامة فيها حينئذ- وفي المثل خذ
الأمر بقوابله- وجوز أن تكون الباء زائدة، والقبول- مصدر مؤكد
للفعل السابق بحذف الزوائد أي قبلها قبولا حسنا، وعدل عن
الظاهر للإيذان بمقارنة التقبل لكمال الرضا وموافقته للعناية
الذاتية فان صيغة التفعل مشعرة بحسب أصل الوضع
(2/133)
بالتكلف وكون الفعل على خلاف طبع الفاعل
وإن كان المراد بها في حقه تعالى ما يترتب عليه من كمال قوة
الفعل وكثرته، ويحتمل على بعد بعيد أن تكون الباء للمصاحبة
بمعنى مع- أي تقبل نذرها- مع قبول حسن لدعاء أمها في حقها وحق
ذريتها حيث أعاذهما من الشيطان الرجيم من أول الولادة إلى
خاتمة الحياة وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً أي رباها الرب
تربية حسنة في عبادة وطاعة لربها قاله ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما، وفي رواية عنه أنه سوّى خلقها فكانت تشب في يوم ما يشب
غيرها في عام، وقيل: تعهدها بما يصلحها في سائر أحوالها، ففي
الكلام استعارة تمثيلية أو مجاز مرسل بعلاقة اللزوم فإن الزارع
يتعهد زرعه بسقيه عند الاحتياج وحمايته عن الآفات وقلع ما
يخنقه من النبات.
ونَباتاً هنا مصدر على غير لفظ الفعل المذكور وهو نائب عن
إنبات، وقيل: التقدير فنبتت نباتا، والنبات والنبت بمعنى. وقد
يعبر بهما عن النابت وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا وهو من ولد سليمان
بن داود عليهما الصلاة والسلام- أي ضمها الله تعالى إليه وجعله
كافلا لها وضامنا لمصالحها- على ما ذكر في حديث ابن عباس، وكل
ذلك من آثار قدرته تعالى، ولم يكن هناك وحي إليه بذلك، وقرأ
بتشديد الفاء حمزة، والكسائي، وعاصم وقصروا زَكَرِيَّا غير
عاصم في رواية ابن عياش- وهو مفعول به لكفلها- وقرأ الباقون
بتخفيف الفاء ومدوا زَكَرِيَّا ورفعوه على الفاعلية- وفيه
لغتان أخريان- إحداهما «زكريّ» - بياء مشددة من غير ألف،
وثانيتهما «زكر» بغير ياء ومنعه من الصرف للعلمية والعجمة،
وقيل: لألف التأنيث، وقرأ أبي «وأكفلها» ، وقرأ مجاهد-
«فتقبّلها ربّها» و «أنبتها» و «كفلها» على صيغة الدعاء في
الأفعال الثلاثة ونصب «ربها» على النداء أي فاقبلها يا ربها
وربها، واجعل زكريا كافلا لها، وقد استجاب الله تعالى دعائها
في جميع ذلك، والذي عليه الأكثرون وشهدت له الأخبار أن كفالة
زكريا كانت من أول أمرها، وزعم بعضهم أنه كفلها بعد أن فطمت
ونبتت النبات الحسن وليس بالقوي كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها
زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ بيان لقبولها ولهذا لم يعطف، والمحراب
على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما غرفة بنيت لها في
بيت المقدس وجعل بابها في وسط الحائط وكانت لا يصعد عليها إلا
بسلم مثل باب الكعبة، وقيل: المراد به المسجد إذ قد كانت
مساجدهم تسمى المحاريب وقيل: أشرف مواضعه ومقدمها وهو مقام
الإمام من المسجد في رأي، وأصله مفعال صيغة مبالغة- كمطعان-
فسمي به المكان لأن المحاربين نفوسهم كثيرون فيه، وقيل: إنه
يكون اسم مكان وسمي به لأن محل محاربة الشيطان فيه أو لتنافس
الناس عليه ولبعض المغاربة في المدح:
جمع الشجاعة والخشوع لربه ... ما أحسن المحراب في المحراب
وتقديم الظرف على الفاعل لإظهار كمال العناية بأمرها، ونصب
الْمِحْرابَ على التوسع إذ حق الفعل أن يتعدى بفي أو بإلى
وإظهار الفاعل قيل: لفصل الجملة، وكُلَّما ظرف على أن «ما»
مصدرية، والزمان محذوف أو نكرة موصوفة معناها الوقت، والعائد
محذوف والعامل فيها جوابها بالاتفاق لأن ما في حيز المضاف إليه
لا يعمل في المضاف ولا يجري فيها الخلاف المذكور في أسماء
الشرط، ومن الناس من وهم فقال: إن ناصبه فعل الشرط، وادعى أنه
الأنسب معنى فزاد في الشطرنج جملا والمعنى كل زمان دخل عليها
أو كل وقت دخل عليها فيه وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً أي أصاب ولقي
بحضرتها ذلك أو ذلك كائنا بحضرتها، أخرج ابن جرير عن الربيع
قال: إنه كان لا يدخل عليها غيره وإذا خرج أغلق عليها سبعة
أبواب فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في
الصيف، والتنوين للتعظيم فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن
ذلك من ثمار الجنة والذي عليه الجل أن ذلك عوض لها عن الرضاعة،
فقد روي أنها لم ترضع ثديا قط،
وقيل: إن هذا كان بعد أن ترعرعت،
ففي رواية ابن بشر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن زكريا
عليه الصلاة والسلام استأجر لها ظئرا فلما تم لها حولان فطمت
وتركت في
(2/134)
المحراب وحدها وأغلقت عليها الباب ولم
يتعهد أمرها سواه»
قالَ يا مَرْيَمُ استئناف بياني أَنَّى لَكِ هذا أي من أين لك
هذا الرزق لا يشبه أرزاق الدنيا والأبواب مغلقة دونك، ومجيء
أَنَّى بمعنى من أين، أو كيف تقدم الكلام عليه، واستشهد للأول
بقوله:
تمنى بوادي الرمث زينب ضلة ... فكيف ومن «أنّى» بذي الرمث تطرق
وللثاني بقوله:
أنى ومن أين- أبك الطرب ... من حيث لا صبوة ولا ريب
وحذف حرف الجر من أَنَّى نحو حذف- في- من الظروف اللازمة
للظرفية من نحو- مع، وسحر- لأن الشيء إذا علم في موضع جاز
حذفه، والتحقيق أن الظروف محل التوسع لكثرة استعمالهم إياها
وكل ظرف يستعمل مع حرف صلته التي يكثر معها استعمالها- لأن
اتصالها بمظروفها بتلك الحروف- فجاز حذفها كما جاز حذف- في-
إلا أنها لما كانت الأصل لوضعها للظرفية اطرد حذفها من
المتصرفة وغير المتصرفة، وغيرها من صلات الظروف لا يحذف إلا مع
ما يكثر من غير المتصرفة حطا لرتبتها عن رتبة- في- كما في
الكشف، واستدل بالآية على جواز الكرامة للأولياء لأن مريم لا
نبوة لها على المشهور، وهذا هو الذي ذهب إليه أهل السنة
والشيعة وخالف في ذلك المعتزلة، وأجاب البلخي منهم عن الآية
بأن ذلك كان إرهاصا وتأسيسا لنبوة عيسى عليه الصلاة والسلام،
وأجاب الجبائي بأنه كان معجزة لزكريا عليه الصلاة والسلام، ورد
الأخير بأن اشتباه الأمر عليه يأبى ذلك، ولعله مبني على
الظاهر، وإلا ففي اقتضاء هذه العبارة في نفس الأمر الاشتباه
نظر لأنه يجوز أن يكون لاظهار ما فيها من العجب بتكلمها ونحوه،
والقول- بأن اشتباه زكريا في أنها معجزة لا ينافي كونها معجزة
لاشتباه أنه من الجنة أو من بساتين الدنيا ليس بشيء كما لا
يخفى قالَتْ استئناف كالذي قبله هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قيل:
أرادت من الجنة، وقيل: مما رزقنيه هو لا بواسطة البشر فلا تعجب
ولا تستبعد، وقيل: تكلمت بذلك صغيرة كعيسى عليه الصلاة والسلام
وقد جمع من تكلم كذلك فبلغوا أحد عشر نفسا، وقد نظمهم الجلال
السيوطي فقال:
تكلم في المهد النبي «محمد» ... «ويحيى، وعيسى، والخليل،
ومريم»
ومبري «جريج» ثم «شاهد يوسف» ... «وطفل لذي الأخدود» يرويه
مسلم
«وطفل» عليه مر بالأمة التي ... يقال لها تزني ولا تتكلم
وما شطة في عهد فرعون «طفلها» ... وفي زمن الهادي «المبارك»
يختم
أو بمن اتصف بمقام العبودية وانقطع إليه بالكلية قُلْ إِنْ
كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي لأني سيد المحبين
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وحقيقة المحبة عند العارفين احتراق القلب
بنيران الشوق، وروح الروح بلذة العشق، واستغراق الحواس في بحر
الأنس، وظهارة النفس بمياه القدس، ورؤية الحبيب بعين الكل،
وغمض عين الكل عن الكونين، وطيران السر في غيب الغيب، وتخلق
المحب بخلق المحبوب- وهذا أصل المحبة- وأما فرعها فهو موافقة
المحبوب في جميع ما يرضاه وتقبل بلائه بنعت الرضا والتسليم في
قضائه وقدره بشرط الوفا، ومتابعة سنة المصطفى صلى الله تعالى
عليه وسلم، وأما آدابها فالانقطاع عن الشهوات واللذات المباحة
والسكون في الخلوات، والمراقبات، واستنشاق نفحات الصفات،
والتواضع والذل في الحركات والسكنات:
مساكين أهل العشق حتى قبورهم ... عليها تراب الذل بين المقابر
وهذا لا يكون إلا بعد أن ترى الروح بعين السر مشاهدة الحق بنعت
الجمال وحسن القدم لا بنعت الآلاء والنعم
(2/135)
لأن المحبة متى كانت من تولد رؤية النعماء
كانت معلولة وحقيقة المحبة ما لا علة فيها بين المحب والحبيب
سوى ذات الحبيب، ولذا قالوا: لا تصح المحبة ممن يميز بين النار
والجنة وبين السرور والمحنة وبين الفرض والسنة وبين الاعتواض
والاعتراض ولا تصح إلا ممن نسي الكل واستغرق في مشاهدة المحبوب
وفني فيه:
خليلي لو أحببتما لعلمتما ... محل الهوى من مغرم القلب صبه
تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى ... يتوق ومن يعلق به الحب يصبه
غرام على يأس الهوى ورجائه ... وشوق على بعد المراد وقربه
وقد يقال: المحبة ثلاثة أقسام، القسم الأول محبة العوام وهي
مطالعة المنة من رؤية إحسان المحسن جبلت القلوب على محبة من
أحسن إليها وهو حب يتغير وهو لمتابعي الأعمال الذين يطلبون
أجرا على ما يعملون، وفيه يقول أبو الطيب:
وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف هوى يرجى عليه ثواب
(القسم الثاني) محبة الخواص المتبعين للأخلاق الذين يحبونه
إجلالا وإعظاما ولأنه أهل لذلك، وإلى هذا القسم أشار صلّى الله
عليه وسلم
بقوله: «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» ،
وقالت رابعة رحمها الله تعالى:
أحبك حبين حب الهوى ... وحب لأنك أهل لذاكا
وهذا الحب لا يتغير إلى الأبد لبقاء الجمال والجلال إلى السرمد
(والقسم الثالث) محبة خواص المتبعين للأحوال وهي الناشئة من
الجذبة الإلهية في مكامن
«كنت كنزا مخفيا»
وأهل هذه المحبة هم المستعدون لكمال المعرفة، وحقيقتها أن يفنى
المحب بسطوتها فيبقى بلا هو وربما بقي صاحبها حيران سكران لا
هو حي فيرجى ولا ميت فيبكى، وفي مثل ذلك قيل:
يقولون إن الحب كالنار في الحشا ... ألا كذبوا فالنار تذكو
وتخمد
وما هو إلا جذوة مس عودها ... ندى فهي لا تذكو ولا تتوقد
يكفي في شرح الحب لفظه فإنه- حاء، وباء- والحاء من حروف الحلق،
والباء شفوية، ففيه إشارة إلى أن الهوى ما لم يستول على قلبه
ولسانه وباطنه وظاهره وسره وعلنه لا يقال له: حب، وشرح ذاك
يطول، وهذه محبة العبد لربه، وأما محبة ربه سبحانه له فمختلفة
أيضا، وإن صدرت من محل واحد فتعلقت بالعوام من حيث إِنَّ
اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ من عباده أن يرزقه بِغَيْرِ
حِسابٍ تقدم معناه، والجملة تعليل لكونه من عند الله، والظاهر
أنها من كلام مريم فحينئذ تكون في محل النصب داخلة تحت القول،
وقال الطبري: إنها ليست من كلامها بل هي مستأنفة من كلامه
تعالى إخبارا لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، والأول أولى،
وقد أخرج أبو يعلى عن جابر «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم أقام أياما لم يطعم طعاما حتى شق ذلك عليه فطاف في منازل
أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئا فأتى فاطمة فقال: يا بنية
هل عندك شيء أكله فإني جائع؟ فقالت: لا والله فلما خرج من
عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم فأخذته منها
فوضعته في جفنة لها وقالت: لأوثرن بهذا رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم على نفسي ومن عندي وكانوا جميعا محتاجين إلى
شبعة طعام فبعثت حسنا أو حسينا إلى رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم فرجع إليها فقالت له: بأبي أنت وأمي قد أتى الله
تعالى بشيء قد خبأته لك قال: هلمي يا بنية بالجفنة فكشفت عن
الجفنة فإذا هي مملوءة خبزا ولحما فلما نظرت إليها بهتت وعرفت
أنها بركة من الله تعالى فحمدت الله تعالى وقدمته إلى النبي
صلّى الله عليه وسلم فلما رآه حمد الله تعالى، وقال: من أين لك
هذا يا بنية؟ قالت: يا أبتي هو من عند الله إن
(2/136)
الله يرزق من يشاء بغير حساب فحمد الله
سبحانه ثم قال: الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني
إسرائيل فإنها كانت إذا رزقها الله تعالى رزقا فسئلت عنه قالت:
هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ثم جمع عليا
والحسن والحسين وجمع أهل بيته حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو
فأوسعت فاطمة رضي الله تعالى عنها على جيرانها» .
هذا (ومن باب الاشارة في الآيات) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ
الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ نهي عن
موالاة المؤمنين الكافرين لعدم المناسبة بينهم في الحقيقة
ولفرق بين الظلمة والنور والظل والحرور، والولاية تقتضي
المناسبة ومتى لم تحصل كانت الولاية عن محض رياء أو نفاق والله
تعالى لا يجب المرائين ولا المنافقين، ومن هنا نهى أهل الله
تعالى المريدين عن موالاة المنكرين لأن ظلمة الإنكار- والعياذ
بالله تعالى- تحاكي ظلمة الكفر وربما تراكمت فسدت طريق
الإيمان، ومن يفعل ذلك فليس من ولاية الله تعالى في شيء معتد
به إذ ليس فيه نورية صافية يناسب بها الحضرة الإلهية إِلَّا
أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً فحينئذ تجوز الموالاة ظاهرا،
وهذا بالنسبة للضعفاء وأما من قوي يقينه فلا يخشى إلا الله
تعالى وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي يدعوكم إلى التوحيد
العياني لئلا يكون خوفكم من غيره وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ
فلا تحذروا إلا إياه، والأكثرون على أن هذا خطاب للخواص
العارفين إذ لا يحذر نفسه من لا يعرفه وقد حذر من دونهم بقوله
سبحانه: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ
قال إبراهيم الخواص: وعلامة الخوف في القلب دوام المراقبة
وعلامة المراقبة التفقد للأحوال النازلة قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما
فِي صُدُورِكُمْ من الموالاة أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ
اللَّهُ لأنه مع كل نفس وخطرة وَيَعْلَمُ ما فِي سموات الأرواح
وأرض الأجسام وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فلا يشغله
شأن عن شأن ولا يقيده مظهر عن مظهر يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ
ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ
لأن كل ما يعمله الإنسان أو يقوله ينتقش منه أثر في نفسه ويسطر
في صحائف النفوس السماوية إلا أنه لاشتغاله بالشواغل الحسية
والإدراكات الوهمية والخيالية لا يرى تلك النفوس ولا يبصر
هاتيك السطور فإذا تجرد عن عالم الكثافة بصر ورأى وشاهد ما به
قلم الاستعداد جرى فإذا وجد سوءا تود نفسه وتتمنى لَوْ أَنَّ
بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً لتعذبها به
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ كرره تأكيدا لئلا يعملوا ما
يستحقون به عقابه وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ أي بسائرهم
فلهذا حذرهم، الرحمة فكأنه قيل لهم: اتبعوني بالأعمال الصالحة
يخصكم الله تعالى برحمته، وتعلقت بالخواص من حيث الفضل فكأنه
قيل لهم: اتبعوني بمكارم الأخلاق يخصكم بتجلي صفات الجمال،
وتعلقت بخواص الخواص من حيث الجذبة فكأنه قيل لهم: اتبعوني
ببذل الوجود يخصكم بجذبه لكم إلى نفسه، وهناك يرتفع البون من
البين، ويظهر الصبح لذي عينين والقطرة من هذه المحبة تغني عن
الغدير:
وفي سكرة منها ولو عمر ساعة ... ترى الدهر عبدا طائعا وله
الحكم
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي معاصيكم التي سلفت منكم على
خلاف المتابعة ولا يعاقبكم عليها أو يغفر لكم ذنوبكم بستر ظلمة
صفاتكم بأنوار صفاته أو يغفر لكم ذنوب وجودكم ويثيبكم مكانه
وجودا لا يفنى كما
قال: «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به»
الحديث
وَاللَّهُ غَفُورٌ يكفر خطاياكم ويمحو ذنوب صفاتكم ووجودكم
رَحِيمٌ يهب لكم عوض ذاك حسنات وصفات ووجودا حقانية خيرا من
ذلك قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإن المريد يلزمه
متابعة المراد فَإِنْ تَوَلَّوْا أي فإن أعرضوا فهم كفار
منكرون محجوبون واللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ لقصور
استعدادهم عن ظهور جماله فيهم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ
وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ
الاصطفاء أعم من المحبة والخلة فيشمل الأنبياء كلهم وتتفاضل
فيه مراتبهم كما يشير إليه قوله تعالى:
(2/137)
هُنَالِكَ دَعَا
زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي
الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا
بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا
مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي
غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ
قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ
اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا
وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ
الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ
وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ
الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ
إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ
أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ
الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ
بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
(45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ
الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ
وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ
مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ (47)
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ
عَلى بَعْضٍ فأخص المراتب هو المحبة، وإليه يشير قوله تعالى:
وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ ثم الخلة، وفي لفظها إشارة إلى
ذلك من طريق مخارج الحروف وأعمها الاصطفاء فاصطفى آدم بتعليم
الصفات وجمع اليدين وإسجاد الأكوان له، ونوحا الذي هو الأب
الثاني بتلك الأبوة وبما كان له مع قومه، واصطفى آل إبراهيم
وهم الأنبياء من ذريته بظهور أنوار تجليه الخاص على آفاق
وجودهم، وآل عمران بجعلهم آية للعالمين ذرية بعضها من بعض في
الدين والحقيقة إذ الولادة قسمان: صورية ومعنوية، وكل نبي تبع
نبيا في التوحيد والمعرفة وما يتعلق بالباطن من أصول الدين فهو
ولده كأولاد المشايخ والولد سر أبيه، ويمكن أن يقال: آدم هو
الروح في أول مقامات ظهورها، ونوح هو هي في مقامها الثاني من
مقامات التنزل وإبراهيم هو القلب الذي ألقاه نمرود النفس في
نيران الفتن ورماه فيها بمنجنيق الشهوات، وآله القوى
الروحانية، وعمران هو العقل الإمام في بيت مقدس البدن، وآله
التابعون له في ذلك البيت المقتدون به، وكل ذلك ذرية بعضها من
بعض لوحدة المورد واتفاق المشرب إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ
عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي
مُحَرَّراً عن رق النفس مخلصا في عبادتك عن الميل إلى السوي
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ قال الواسطي: محفوظ عن
إدراك الخلق وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً حيث سقاها من مياه
القدرة وأثمرها شجرة النبوة وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا لطهارة
سره، وشبيه الشيء منجذب إليه كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها
زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً هو ما علمت،
ويجوز أن يراد الرزق الروحاني من المعارف والحقائق والعلوم
والحكم الفائضة عليها من عند الله تعالى إذ الاختصاص بالعندية
يدل على كونه أشرف من الأرزاق البدنية.
وأخرج ابن أبي حاتم من بعض الطرق عن مجاهد أنه قال رزقا أي
علما، وقد يقال على نحو الأول ليتم تطبيق ما في الآفاق على ما
في الأنفس إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ وهي النفس في أول
مراتب طاعتها لعمران العقل إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي
بَطْنِي وهو غلام القلب مُحَرَّراً ليس في رق شيء من المخلوقات
فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى
وهي نفس أيضا إلا أنها أكمل منها في المرتبة، والجنس يلد الجنس
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ لعلمه أنه سيظهر من هذه
الأنثى العجب العجاب، وغيره سبحانه تخفى عليه الأسرار وَإِنِّي
سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وهي العابدة وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ
وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ وهو الشهوات
النفسانية الحاجبة للنفس القدسية عن رياض الملكوت
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وهو اختصاصه إياها
بإفاضة أنواره عليها وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً ورقاها فيما
تكمل به نشأتها ترقيا حسنا غير مشوب بالعوائق والعلائق
وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا الاستعداد كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها
زَكَرِيَّا وتوجه نحوها في محراب تعبدها المبني لها في بيت
مقدس القلب وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً تتغذى به الأرواح في عالم
الملكوت قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا الرزق العظيم قالت:
هو مفاض من عند الله منزه عن الحمل بيد الافكار إِنَّ اللَّهَ
الجامع لصفات الجمال والجلال يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ ويفيض عليهم
من علمه حسب قابليتهم بِغَيْرِ حِسابٍ فسبحانه من إله جواد
كريم وهاب.
(2/138)
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قصة
مستقلة سيقت في أثناء قصة مريم لكمال الارتباط مع ما في
إيرادها من تقرير ما سيقت له، و (هنا) ظرف مكان، واللام-
للبعد، والكاف- للخطاب أي في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم
في المحراب، وهي ظرف ملازم للظرفية وقد تجر بمن وإلى وجوز أن
يراد بها الزمان مجازا فإن (هنا) و (ثم) و (حيث) كثيرا ما
تستعار له وهي متعلقة- بدعا- وتقديم الظرف للإيذان بأنه أقبل
على الدعاء من غير تأخير، وقال الزجاج: إن (هنا) هنا مستعارة
للجهة والحال- أي من تلك الحال دعا زكريا- كما تقول: من هاهنا
قلت كذا، ومن هنالك قلت كذا- أي من ذلك الوجه وتلك الجهة.
أخرج ابن بشر، وابن عساكر عن الحسن قال: لما وجد زكريا عند
مريم ثمر الشتاء في الصيف وثمر الصيف في الشتاء يأتيها به
جبريل قال لها: أنى لك هذا في غير حينه؟ قالت: هو رزق من عند
الله يأتيني به الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب فطمع
زكريا في الولد فقال: إن الذي أتى مريم بهذه الفاكهة في غير
حينها لقادر على أن يصلح لي زوجتي ويهب لي منها ولدا فعند ذلك
دعا ربه وذلك لثلاث ليال بقين من المحرم قام زكريا فاغتسل ثم
ابتهل في الدعاء إلى الله تعالى،
وقيل: أطمعه في الولد فدعا مع أنه كان شيخا فانيا وكانت امرأته
عاقرا لما أن الحال نبهته على جواز ولادة العاقر من الشيخ من
وجوه: الأول ما أشار إليه الأثر من حيث إن الولد بمنزلة الثمر
والعقر بمنزلة غير أوانه، والثاني أنه لما رأى تقبل أنثى مكان
الذكر تنبه لأنه يجوز أن يقوم الشيخ مقام الشاب والعاقر مقام
الناتج، والثالث أنه لما رأى تقبل الطفل مقام الكبير للتحرير
تنبه لذلك.
والرابع أنه لما رأى تكلم مريم في غير أوانه تنبه لجواز أن تلد
امرأته في غير أوانه، والخامس أنه لما سمع من مريم اللَّهَ
يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ تنبه لجواز أن تلد من
غير استعداد ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من الخدش، وعلى
العلات ليس ما رأى فقط علة موجبة للإقبال على الدعاء بل كان
جزءا من العلة التامة التي من جملتها كبر سنه عليه السلام وضعف
قواه وخوف مواليه حسبما فصل في سورة مريم قالَ شرح للدعاء
وبيان لكيفيته رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ الجاران متعلقان
بما قبلهما وجاز لاختلاف المعنى، ومِنْ لابتداء الغاية مجازا
أي أعطني من عندك ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً أي مباركة كما قال
السدي، وقيل: صالحة تقية نقية العمل، ويجوز أن يتعلق الجار
الأخير بمحذوف وقع حالا من ذرية، وجاء الطلب بلفظ الهبة لأن
الهبة إحسان محض ليس في مقابله شيء وهو يناسب ما لا دخل فيه
للوالد لكبر سنه ولا للوالدة لكونها عاقرة لا تلد فكأنه قال:
أعطني ذرية من غير وسط معتاد، والذرية في المشهور النسل تقع
على الواحد والجمع والذكر والأنثى.
(2/139)
والمراد هاهنا ولد واحد قال الفراء: وأنث-
الطيبة- لتأنيث لفظ الذرية والتأنيث والتذكير تارة يجيئان على
اللفظ وأخرى على المعنى وهذا في أسماء الأجناس كما في قوله:
أبوك خليفة ولدته أخرى ... وأنت خليفة ذاك الكمال
بخلاف الأعلام فإنه لا يجوز أن يقال: جاءت طلحة لأن اسم العلم
لا يفيد إلا ذلك الشخص فإذا كان مذكرا لم يجز فيه إلا التذكير
إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ أراد كثير الإجابة لمن يدعوك من
خلقك وهو تعليل لما قبله وتحريك لسلسلة الاجابة، وفي ذلك
اقتداء بجده الأعلى إبراهيم عليه السلام إذ قال: الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ
وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ [إبراهيم: 39]
قيل: قد ذكر الله تعالى في كيفية دعائه ثلاث صيغ، إحداها هذه،
والثانية إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مريم: 4] إلخ،
والثالثة رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً [الأنبياء: 89] إلخ، فدل
على أن الدعاء تكرر منه ثلاث مرات كل مرة بصيغة، ويدل على أن
بين الدعاء والإجابة زمانا، ويصرح به ما نقل في بعض الآثار أن
بينهما أربعين سنة، وفيه منع ظاهر لجواز أن تكون الصيغ الثلاث
حكاية لدعاء واحد مرة على سبيل الإيجاز، وتارة على سبيل
الإسهاب، وأخرى على سبيل التوسط، وهذه الحكاية في هذه الصيغ
إنما هي بالمعنى إذ لم يكن لسانهم عربيا ولهذا
ورد عن الحسن أنه عليه السلام حين دعا قال: يا رازق مريم ثمار
الصيف في الشتاء وثمار الشتاء في الصيف
هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً ولم يذكر في الدعاء- يا رب-
قيل: ويدل على أنه دعاء واحد متعقب بالتبشير العطف بالفاء في
قوله تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وفي قوله سبحانه:
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى [الأنبياء: 90]
وظاهر قوله جل شأنه في مريم: إِنَّا نُبَشِّرُكَ [الحجر: 53،
مريم: 7] اعتقاب التبشير الدعاء لا تأخره عنه، وأثر- إن بين
الدعاء والإجابة أربعين سنة- لم نجد له أثرا في الصحاح، نعم
ربما يشعر بعض الأخبار الموقوفة أن بين الولادة والتبشير مدة
كما سنشير إلى ذلك قريبا إن شاء الله تعالى، والمراد من
الملائكة جبريل عليه السلام فإنه المنادى وحده- كما أخرجه ابن
جرير عن ابن مسعود- وذكر عبد الرحمن بن أبي حماد أنه كان يقرأ
فتناداه جبريل، فالجمع هنا مجاز عن الواحد للتعظيم، أو يكون
هذا من إسناد فعل البعض للكل، وقيل: الجمع فيه مثله في قولك:
فلان يركب الخيل ويلبس الديباج، واعترض بأن هذا إنما يصح إذا
أريد واحد لا بعينه وهاهنا أريد المعين فلعل ما تقدم أولى
بالإرادة، وقيل: الجمع على حاله والمنادى كان جملة من
الملائكة، وقرأ حمزة. والكسائي فناديه بالإمالة والتذكير.
وأخرج ابن المنذر. وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال: ذكروا
الملائكة ثم تلا إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى [النجم: 27]
وكان يقرأها- فناداه الملائكة- ويذكر في جميع القرآن، وأخرج
الخطيب عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ كذلك وَهُوَ
قائِمٌ جملة حالية من مفعول النداء مقررة لما أشارت إليه الفاء
على ما أشرنا إليه، وقوله تعالى: يُصَلِّي حال من المستكن في
قائِمٌ أو حال أخرى من المفعول على القول بجواز تعددها من غير
عطف ولا بدلية، أو خبر ثان للمبتدأ على رأي من يرى مثل ذلك،
وقيل: الجملة صفة- لقائم- والمراد بالصلاة ذات الأقوال
والأفعال كما هو الظاهر- وعليه أكثر المفسرين.
وأخرج ابن المنذر عن ثابت قال: الصلاة خدمة الله تعالى في
الأرض ولو علم الله تعالى شيئا أفضل من الصلاة ما قال:
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي، وقيل:
المراد بها الدعاء والأول يدل على مشروعية الصلاة في شريعتهم
فِي الْمِحْرابِ أي في المسجد، أو في موقف الإمام منه، أو في
غرفة مريم، والظرف متعلق- بيصلي- أو- قائم- على تقدير كون
يُصَلِّي حالا من ضمير قائِمٌ لأن العامل فيه وفي الحال شيء
واحد فلا يلزم الفصل بالأجنبي
(2/140)
كما يلزم على التقادير الباقية كذا قالوا،
والذي يظهر أن المسألة من باب التنازع فإن كلا من قائِمٌ
ويُصَلِّي يصح أن يتسلط على فِي الْمِحْرابِ على أي وجه تقدم
من وجوه الاعراب.
ثم اعلم أن الصلاة في المحاريب المشهورة الموجودة الآن في
مساجد المسلمين قد كرهها جماعة من الأئمة- وإلى ذلك ذهب علي
كرم الله وجهه، وإبراهيم رحمه الله فيما أخرجه عنهما ابن أبي
شيبة- وهي من البدع التي لم تكن في العصر الأول،
فعن أبي موسى الجهني قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم: لا يزال أمتي بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح
النصارى»
وعن عبد الله بن أبي الجعد قال: «كان أصحاب محمد صلى الله
تعالى عليه وسلم يقولون: «إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح
في المساجد»
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
قال: «اتقوا هذه المذابح»
يعني المحاريب، والروايات في ذلك كثيرة، وللإمام السيوطي رسالة
مستقلة فيها أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى أي بأن الله،
وبعد إسقاط حرف الجر المطرد في- أن وإن- يجوز في المنسبك
اعتبار النصب واعتبار الجر، والأول مذهب سيبويه، والثاني مذهب
الخليل، وقرأ نافع وابن عامر بكسر همزة إن وخرج على إضمار
القول، وهو مذهب البصريين، أو على إجراء النداء مجرى القول
لأنه نوع منه- وهو مذهب الكوفيين- وقرأ حمزة، والكسائي «يبشرك»
من الإبشار، وقرأ «يبشرك» من الثلاثي.
أخرج ابن جرير عن معاذ الكوفي قال: من قرأ يبشر مثقلة فإنه من
البشارة، ومن قرأ يبشر مخففة بنصب الياء فإنه من السرور-
ويحيى- اسم أعجمي على الصحيح، وقيل: عربي منقول من الفعل
والمانع له من الصرف على الأول العلمية والعجمة، وعلى الثاني
العلمية ووزن الفعل، والقول- بأنه لا قاطع لمنع صرفه لاحتمال
أن يكون مبنيا يجعل العلم جملة بأن يكون فيه ضمير كما في قوله:
نبئت أخوالي بني يزيد- ليس بشيء لما في ذلك الاحتمال من التكلف
المستغنى عنه ما يكاد يكون دليلا قطعيا للقطع، والقائلون
بعربيته منهم من وجه تسميته بذلك بأن الله تعالى أحيا به عقر
أمه، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومنهم من وجه ذلك
بأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان، وروي عن قتادة، وقيل: سمي
بِيَحْيى لأنه علم الله سبحانه أن يستشهد والشهداء أحياء عند
ربهم يرزقون، وقيل: لأنه يحيا بالعلم والحكمة اللتين يؤتاهما،
وقيل: لأنه الله يحيي به الناس بالهدى، قال القرطبي: كان اسمه
في الكتاب الأول حيا، ورأيت في إنجيل متى أنه عليه السلام كان
يدعى يوحنا المعمداني لما أنه كان يعمد الناس في زمانه على ما
يحكيه كتب النصارى، وجمع- يحيى- يحيون رفعا، ويحيين جرا ونصبا،
وتثنيته كذلك يحييان ويحيين، ويقال في النسب إليه: يحي بحذف
الألف، ويحيوي- بقلبها واوا- ويحياوي بزيادة ألف قبل الواو
المنقلبة عن الألف الأصلية، وفي تصغيره- يحي- بوزن فعيعل قال
مولانا شيخ الإسلام: وينبغي أن يكون هذا الكلام إلى آخره محكيا
بعبارة من الله عز وجل على منهاج قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ
اللَّهِ [الزمر: 53] الآية كما يلوح به مراجعته عليه السلام في
الجواب إليه تعالى بالذات لا بواسطة الملك، والعدول عن إسناد
التبشير بنون العظمة حسبما وقع في- سورة مريم- للجري على سنن
الكبرياء- كما في قول الخلفاء: أمير المؤمنين يرسم لك كذا-
وللإيذان بأن ما حكي هناك من النداء والتبشير وما يترتب عليه
من المحاورة كان كل ذلك بواسطة الملك بطريق الحكاية منه سبحانه
لا بالذات- كما هو المتبادر- وبهذا يتضح اتحاد المعنى في
السورتين الكريمتين فتأمل انتهى، وكان الداعي إلى اعتبار ما
هنا محكيا بعبارة من الله تعالى ظهور عدم صحة كون ما في سورة
مريم من عبارة الملك غير محكي من الله تعالى، وأن الظاهر اتحاد
الدعاءين وإلا فما هنا مما لا يجب حمله على ما ذكر لولا ذلك،
والملوح غير موجب كما لا يخفى- ولا بد في الموضعين من تقدير
مضاف كالولادة إذا التبشير لا يتعلق بالأعيان، ويؤول في المعنى
إلى ما
(2/141)
هناك أي- إن الله يبشرك بولادة علام اسمه
يحيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ نصب على الحال
المقدرة من يحيى:
والمراد بالكلمة عيسى عليه السلام- وهو المروي عن ابن عباس،
ومجاهد، وقتادة- وعليه أجلة المفسرين وإنما سمي عيسى عليه
السلام بذلك لأنه وجد بكلمة- كن- من دون توسط سبب عادي فشابه
البديعيات التي هي عالم الأمر، ومِنَ لابتداء الغاية مجازا
متعلقة بمحذوف وقع صفة لكلمة- أي بكلمة كائنة منه تعالى وأريد
بهذا التصديق الإيمان وهو أول من آمن بعيسى عليه السلام وصدق
أنه كلمة الله تعالى وروح منه في المشهور.
أخرج أحمد عن مجاهد قال: «قالت امرأة زكريا لمريم: إني أجد
الذي في بطني يتحرك للذي في بطنك» .
وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال: «كان يحيى
وعيسى ابني خالة وكانت أم يحيى تقول لمريم إني أجد الذي في
بطني يسجد للذي في بطنك» فلذلك تصديقه له وكان أكبر من عيسى
بستة أشهر كما قال الضحاك وغيره، وقيل: بثلاث سنين، قيل: وعلى
كل تقدير يكون بين ولادة يحيى وبين البشارة بها زمان مديد لأن
مريم ولدت وهي بنت ثلاث عشرة سنة أو بنت عشر سنين، واعترض بأن
هذا إنما يتم لو كان دعاء زكريا عليه السلام زمن طفولية مريم
قبل العشر أو الثلاثة عشرة، وليس في الآية سوى ما يشعر بأن
زكريا عليه السلام لما تكرر منه الدخول على مريم ومشاهدته
الرزق لديها وسؤاله لها وسماعه منها ذلك الجواب اشتاق إلى
الولد فدعا بما دعا، وهذا الدعاء كما يمكن أن يكون في مبادى
الأمر يمكن أن يكون في أواخره قبيل حمل مريم وكونه وفي الأواخر
غير بعيد لما أن الرغبة حينئذ أوفر حيث شاهد عليه السلام دوام
الأمر وثباته زمن الطفولية وبعدها، وهذا قلما يوجد في الأطفال
إذ الكثير منهم قد يلقي الله تعالى على لسانه في صغره ما قد
يكون عنه بمراحل في كبره فليس عندنا ما يدل صريحا على أن بين
الولادة والتبشير مدة مديدة ولا بين الدعاء والتبشير أيضا، نعم
عندنا ما يدل على أن يحيى أكبر من عيسى عليهما السلام وهو مما
اتفق عليه المسلمون وغيرهم، ففي إنجيل متى ما يصرح بأنه ولد
قبله وقتله هيردوس قبل رفعه وأنه عمّد المسيح والله تعالى أعلم
بحقيقة الحال.
وحكي عن أبي عبيدة أن معنى بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ بكتاب منه،
والمراد به الإنجيل وإطلاق الكلمة عليه كإطلاقها على القصيدة
في قولهم- كلمة الحويدرة- للعينية المعروفة بالبلاغة
وَسَيِّداً عطف على مصدقا، وفسره ابن عباس بالكريم، وقتادة
بالحليم، والضحاك بالحسن الخلق، وسالم بالتقى، وابن زيد
بالشريف، وابن المسيب بالفقيه العالم، وأحمد بن عاصم بالراضي
بقضاء الله تعالى، والخليل بالمطاع الفائق أقرانه، وأبو بكر
الوراق بالمتوكل، والترمذي بالعظيم الهمة، والثوري بمن لا
يحسد، وأبو إسحق بمن يفوق بالخير قومه، وبعض أهل اللغة بالمالك
الذي تجب طاعته، إلى غير ذلك من الأقوال وكل ما فيها من
الأوصاف مما يصلح ليحيى عليه السلام لأنها صفات كمال، وأحق
الناس بصفات الكمال النبيون إلا أن التحقيق أن أصل معنى السيد
من يسود قومه ويكون له أتباع ثم أطلق على كل فائق في دين أو
دنيا، ويجوز أن يراد به هنا الفائق في الدين حيث إنه عليه
السلام لم يهم بمعصية أصلا كما ورد ذلك من طرق عديدة.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن عساكر عن أبي هريرة «أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه
عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيى بن زكريا»
وجوز أن يراد ما هو أصل معناه فإنه عليه السلام كان سيد قومه
وله أتباع منهم. غاية الأمر أن تلك رياسة شرعية والإتيان به
إثر قوله تعالى: مُصَدِّقاً للإشارة إلى أنه نبي- كعيسى عليه
السلام- وليس من أمته كما يفهمه ظاهرا قوله سبحانه: مُصَدِّقاً
بِكَلِمَةٍ منه.
وَحَصُوراً عطف على ما قبله ومعناه الذي لا يأتي النساء مع
القدرة على ذلك- قاله ابن عباس في إحدى
(2/142)
الروايات عنه- وفي بعضها إنه العنين الذي
لا ذكر له يتأتى به النكاح ولا ينزل،
وروى الحفاظ عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن ما معه
عليه السلام كان كالأنملة، وفي بعض الروايات كالقذاة، وفي أخرى
كالنواة. وفي بعض كهدبة الثوب،
قيل: والأصح الأول إذ العنة عيب لا يجوز على الأنبياء، وبتسليم
أنها ليست بعيب فلا أقل أنها ليست بصفة مدح، والكلام مخرج مخرج
المدح، وما أخرجه الحفاظ على تقدير صحته يمكن أن يقال: إنه من
باب التمثيل والإشارة إلى عدم انتفاعه عليه السلام بما عنده
لعدم ميله للنكاح لما أنه في شغل شاغل عن ذلك.
ومن هنا قيل: إن التبتل لنوافل العبادات أفضل من الاشتغال
بالنكاح استدلالا بحال يحيى عليه السلام ومن ذهب إلى خلافه
احتج بما
أخرجه الطبراني عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم: أربعة لعنوا في الدنيا والآخرة وأمنت
الملائكة، رجل جعله الله تعالى ذكرا فأنث نفسه وتشبه بالنساء،
وامرأة جعلها الله تعالى أنثى فتذكرت وتشبهت بالرجال، والذي
يضل الأعمى، ورجل حصور ولم يجعل الله تعالى حصورا إلا يحيى بن
زكريا» وفي رواية «لعن الله تعالى والملائكة رجلا تحصر بعد
يحيى بن زكريا»
ويجوز أن يراد بالحصور المبالغ في حصر النفس وحبسها عن الشهوات
مع القدرة وقد كان حاله عليه السلام أيضا كذلك.
أخرج عبد الرزاق عن قتادة موقوفا. وابن عساكر عن معاذ بن جبل
مرفوعا أنه عليه السلام مرّ في صباه بصبيان يلعبون فدعوه إلى
اللعب فقال: ما للعب خلقت
وَنَبِيًّا عطف على ما قبله مترتب على ما عدد من الخصال
الحميدة مِنَ الصَّالِحِينَ أي ناشئا منهم أو معدودا في
عدادهم- فمن- على الأول للابتداء، وعلى الثاني للتبعيض قيل:
ومعناه على الأول ذو نسب، وعلى الثاني معصوم، وعلى التقديرين
لا يلغو ذكره بعد- نبيا- وقد يقال: المراد من الصلاح ما فوق
الصلاح الذي لا بد منه في منصب النبوة البتة من أقاصي مراتبه
وعليه مبنى دعاء سليمان عليه السلام (وأدخلني برحمتك في عبادك
الصالحين) ولعله أولى مما قبل.
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ استئناف مبني على السؤال
كأنه قيل: فماذا قال زكريا عليه السلام حينئذ؟
فقيل: قالَ رَبِّ إلخ، وخاطب عليه السلام ربه سبحانه ولم يخاطب
الملك المنادى طرحا للوسائط مبالغة في التضرع وجدا في التبتل،
وأَنَّى بمعنى كيف، أو من أين، وكان يجوز أن تكون تامة وفاعلها
غُلامٌ وأَنَّى واللام تعلقان بها، ويجوز أن تكون ناقصة، ولِي
متعلق بمحذوف وقع حالا لأنه لو تأخر لكان صفة، وفي الخبر حينئذ
وجهان: أحدهما أَنَّى لأنها بمعنى كيف، أو من أين، والثاني أن
الخبر الجار، وأَنَّى منصوب على الظرفية، وفي التنصيص على ذكر
الغلام دلالة على أنه قد أخبر به عند التبشير كما في قوله
تعالى: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى [مريم: 7]
وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ حال من ياء المتكلم أي أدركني
الكبر وأثر فيّ، وأسند البلوغ إلى الكبر توسعا في الكلام كأن
الكبر طالب له وهو المطلوب.
روي عن ابن عباس أنه كان له عليه السلام- حين بشر بالولد- مائة
وعشرون سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة، وقيل: كان له من
العمر تسع وتسعون سنة، وقيل: اثنتان وتسعون، وقيل خمس وثمانون،
وقيل: خمس وسبعون، وقيل سبعون، وقيل: ستون وَامْرَأَتِي عاقِرٌ
جملة حالية أيضا إما من ياء لِي أو ياء بَلَغَنِيَ والعاقر-
العقيم التي لا تلد من العقر- وهو القطع لأنها ذات عقر من
الأولاد، وصيغة فاعل فيه للنسب وهو في المعنى مفعول أي معقورة،
ولذلك لم تلحق تاء التأنيث- قاله أبو البقاء- وكانت الجملة
الأولى فعلية لأن الكبر يتجدد شيئا فشيئا ولم يكن وصفا لازما
(وكانت) الثانية اسمية لأن كونها عاقرا وصف لازم لها وليس أمرا
طارئا عليها، وإنما قال ذلك عليه السلام مع سبق دعائه بذلك
وقوة يقينه بقدرة الله تعالى عليه لا سيما بعد مشاهدته عليه
السلام الشواهد
(2/143)
السالفة استفسارا عن كيفية حصول الولد
أيعطاه على ما هو عليه من الشيب ونكاح امرأة عاقر أم يتغير
الحال- قاله الحسن- وقيل: اشتبه عليه الأمر أيعطى الولد من
امرأته العجوز أم من امرأة أخرى شابة فقال ما قال، وقيل: قال
ذلك على سبيل الاستعظام لقدرة الله تعالى والتعجب الذي يحصل
للانسان عند ظهور آية عظيمة كمن يقول لغيره: كيف سمحت نفسك
بإخراج ذلك الملك النفيس من يدك؟! تعجب من جوده، وقيل: إن
الملائكة لما بشرته بِيَحْيى لم يعلم أنه يرزق الولد من جهة
التبني أو من صلبه فذكر ذلك الكلام ليزول هذا الاحتمال، وقيل:
إن العبد إذا كان في غاية الاشتياق إلى شيء وطلبه من السيد
ووعده السيد بإعطائه ربما تكلم بما يستدعي إعادة الجواب ليلتذ
بالإعادة وتسكن نفسه بسماع تلك الإجابة مرة أخرى فيحتمل أن
يكون كلام زكريا عليه السلام هذا من هذا الباب، وقيل: قال ذلك
استبعادا من حيث العادة لأنه لما دعا كان شابا ولما أجيب كان
شيخا بناء على ما قيل: إن بين الدعاء والإجابة أربعين سنة أو
ستين سنة- كما حكي عن سفيان بن عيينة- وكان قد نسي دعاءه ولا
يخفى ما في أكثر هذه الأقوال من البعد، وأبعد منها ما
نقل عن السدي- أن زكريا عليه السلام جاءه الشيطان عند سماع
البشارة فقال: إن هذا الصوت من الشيطان وقد سخر منك فاشتبه
الأمر عليه فقال: رب أنى يكون لي ولد
- وكان مقصوده من ذلك أن يريه الله تعالى آية تدل على أن ذلك
الكلام من الوحي لا من الشيطان، ومثله ما
روى ابن جرير عن عكرمة أنه قال: «أتاه الشيطان فأراد أن يكدر
عليه نعمة ربه فقال: هل تدري من ناداك؟ قال: نعم ناداني ملائكة
ربي قال: بل ذلك الشيطان ولو كان هذا من ربك لأخفاه إليك كما
أخفيت نداءك قال: رب أنى يكون لي- إلخ،
واعترضه القاضي وغيره بأنه لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة
بكلام الشيطان عند الوحي على الأنبياء عليهم السلام إذ لو
جوزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع، وأجيب بأنه يمكن أن
يقال: إنه لما قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق
بالدين فلا جرم يحصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله تعالى
بواسطة الملك ولا يدخل الشيطان فيه، وأما فيما يتعلق بمصالح
الدنيا- والولد أشبه شيء بها- فربما لم يتأكد ذلك بالمعجز، فلا
جرم بقي احتمال كون ذلك الكلام من الشيطان ولهذا رجع إلى الله
تعالى في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال، وأنت تعلم أن
الاعتراض- ذكر- والجواب- أنثى- ولعل هذا المبحث يأتيك إن شاء
الله تعالى مستوفى عند تفسير قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى
أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: 52] الآية.
وبالجملة القول باشتباه الأمر على زكريا عليه السلام في غاية
البعد لا سيما وقد أخرج ابن جرير. وابن المنذر عن قتادة أنه
قال: إن الملائكة شافهته عليه السلام بذلك مشافهة فبشرته بيحيى
قالَ أي الرب، والجملة استئناف على طرز ما مر كَذلِكَ اللَّهُ
يَفْعَلُ ما يَشاءُ أي يفعل الله ما يشاء أن يفعله من الأفعال
العجيبة الخارقة للعادة فعلا مثل ذلك الفعل العجيب والصنع
البديع الذي هم خلق الولد مع الحالة التي يستبعد معها الخلق
بحسب العادة، فالكاف في محل نصب على أنها صفة لمصدر محذوف،
والإشارة لذلك المصدر، وقدم الجار لإفادة القصر بالنسبة إلى ما
هو أدنى من المشار إليه واعتبرت الكاف مقحمة لتأكيد الفخامة
المشعر بها اسم الإشارة على ما أشير إليه من قبل في نظيره،
ويحتمل الكلام أوجها أخر: الأول أن يكون الكاف في موضع الحال
من ضمير المصدر المقدر معرفة أي يفعل الفعل كائنا مثل ذلك،
الثاني أن يكون في موضع الرفع على أنه خبر مقدم، واللَّهُ
مبتدأ مؤخر أي كهذا الشأن العجيب شأن الله تعالى، وتكون جملة
يَفْعَلُ ما يَشاءُ بيانا لذلك الشأن المبهم، الثالث أن يكون
كَذلِكَ في موضع الخبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كَذلِكَ وتكون
جملة اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ بيانا أيضا، الرابع أن يكون
ذلك إشارة إلى المذكور من حال زكريا عليه السلام كأنه قال: رب
على أي حال يكون لي الغلام؟ فقيل له: كما أنت
(2/144)
يكون الغلام لك، وتكون الجملة حينئذ تعليلا
لما قبلها كذا قالوا، ولا يخفى ما في بعض الأوجه من البعد،
وعلى كل تقدير التعبير بالاسم الجليل روما للتعظيم.
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي علامة تدلني على العلوق،
وإنما سألها استعجالا للسرور قاله الحسن، وقيل:
ليتلقى تلك النعمة بالشكر حين حصولها ولا يؤخر حتى تظهر ظهورا
معتادا، ولعل هذا هو الأنسب بحال أمثاله عليه السلام، وقول
السدي: إنه سأل الآية- ليتحقق أن تلك البشارة منه تعالى لا من
الشيطان- ليس بشيء كما أشرنا إليه آنفا، والجعل إما بمعنى
التصيير فيتعدى إلى مفعولين أولهما آيَةً، وثانيهما لِي
والتقديم لأنه المسوغ لكون آيَةً مبتدأ عند الانحلال، وإما
بمعنى الخلق والإيجاد فيتعدى إلى مفعول واحد وهو آيَةً ولِي
حينئذ في محل نصب على الحال من آيَةً لأنه لو تأخر عنها كان
صفة لها، وصفة النكرة إذا تقدمت عليها أعربت حالا منها- كما
تقدمت الإشارة إليه غير مرة- ويجوز أن يكون متعلقا بما عنده
وتقديمه للاعتناء به والتشويق لما بعده قالَ آيَتُكَ أَلَّا
تُكَلِّمَ النَّاسَ أي أن لا تقدر على تكليمهم من غير آفة وهو
الأنسب بكونه آية والأوفق لما في سورة مريم، وأخرج ابن جرير،
وابن أبي حاتم عن جبير بن معتمر قال: ربا لسانه في فيه حتى
ملأه فمنعه الكلام، والآية فيه عدم منعه من الذكر والتسبيح،
وعلى كلا التقديرين عدم التكليم اضطراري، وقال أبو مسلم بأنه
اختياري، والمعنى- آيتك أن تصير مأمورا بعدم التكلم إلا بالذكر
والتسبيح- ولا يخفى بعده هنا، وعليه وعلى القولين قبله يحتمل
أن يراد من عدم التكليم ظاهره فقط وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون
كناية عن الصيام لأنهم كانوا إذ ذاك إذا صاموا لم يكلموا أحدا-
وإلى ذلك ذهب عطاء- وهو خلاف الظاهر، ومع هذا يتوقف قبوله على
توقيف، وإنما خص تكليم الناس للإشارة إلى أنه غير ممنوع من
التكلم بذكر الله تعالى ثَلاثَةَ أَيَّامٍ أي متوالية، وقال
بعضهم والمراد ثلاثة أيام ولياليها، وقيل: الكلام على حذف مضاف
أي ليالي ثلاثة أيام لقوله سبحانه في سورة مريم: ثَلاثَ لَيالٍ
[مريم: 10] والحق أن الآية كانت عدم التكليم ستة أفراد إلا أنه
اقتصر تارة على ذكر ثَلاثَةَ أَيَّامٍ منها وأخرى على (ثلاث
ليال) وجعل ما لم يذكر في كل تبعا لما ذكر، قيل: وإنما قدم
التعبير بالأيام لأن يوم كل ليلة قبلها في حساب الناس يومئذ،
وكونه بعدها إنما هو عند العرب خاصة كما تقدمت الإشارة إليه،
واعترض بأن- آية الليالي- متقدمة نزولا لأن السورة التي هي
فيها مكية والسورة التي فيها- آية الأيام- مدنية، وعليه يكون
أول ظهور هذه الآية ليلا ويكون اليوم تبعا لليلة التي قبلها
على ما يقتضيه حساب العرب فتدبر.
فالبحث محتاج إلى تحرير بعد، وإنما جعل عقل اللسان آية العلوق
لتخلص المدة لذكر الله تعالى وشكره قضاء حق النعمة كأنه قيل
له: آية حصول النعمة أن تمنع عن الكلام إلا بشكرها، وأحسن
الجواب على ما قيل ما أخذ من السؤال كما قيل لأبي تمام: لم
تقول ما لا نفهم؟ فقال: لم لا تفهم ما يقال؟ وهذا مبني على أن
سؤال الآية منه عليه السلام إنما كان لتلقي النعمة بالشكر،
ولعل دلالة كلامه على ذلك بواسطة المقام وإلا ففي ذلك خفاء كما
لا يخفى.
وأخرج عبد الرزاق وغيره عن قتادة أن حبس لسانه عليه السلام كان
من باب العقوبة حيث طلب الآية بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة
ولعل الجناية حينئذ من باب- حسنات الأبرار سيئات المقربين- ومع
هذا حسن الظن يميل إلى الأول، ومذهب قتادة- لا آمن على الأقدام
الضعيفة- قتادة إِلَّا رَمْزاً أي إيماء وأصله التحرك يقال:
ارتمز أي تحرك، ومنه قيل للبحر: الراموز، وأخرج الطيبي عن ابن
عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن الرمز فقال: الإشارة باليد
والوحي بالرأس فقال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت
قول الشاعر:
ما في السماء من الرحمن «مرتمز» ... إلا إليه وما في الأرض من
وزر
(2/145)
وعن مجاهد أن الرمز هنا كان تحريك الشفتين،
وقيل: الكتابة على الأرض، وقيل: الإشارة بالمسبحة، وقيل:
الصوت الخفي، وقيل: كل ما أوجب اضطرابا في الفهم كان رمزا وهو
استثناء منقطع بناء على أن الرمز الإشارة والإفهام من دون
كلام- وهو حينئذ ليس من قبيل المستثنى منه- وجوز أن يكون متصلا
بناء على أن المراد بالكلام ما فهم منه المرام ولا ريب في كون
الرمز من ذاك القبيل، ولا يخفى أن هذا التأويل خلاف الظاهر
ويلزم منه أن لا يكون استثناء منقطع في الدنيا أصلا إذ ما من
استثناء إلا ويمكن تأويله بمثل ذلك مما يجعله متصلا ولا قائل
به، وتعقب ابن الشجري النصب على الاستثناء هنا مطلقا وادعى أن
رَمْزاً مفعول به منتصب بتقدير حذف الخافض، والأصل أن لا تكلم
الناس إلا برمز، فالعامل الذي قبل أَلَّا مفرغ في هذا النحو
للعمل فيما بعدها بدليل أنك لو حذفت أَلَّا وحرف النفي استقام
الكلام تقول في نحو- ما لقيت إلا زيدا- لقيت زيدا، وفي- ما خرج
إلا زيد- خرج زيد، وكذا لو قلت- آيتك أن تكلم الناس رمزا-
استقام. وليس كذلك الاستثناء، فلو قلت: ليس القوم في الدار إلا
زيدا أو إلا زيد- ثم حذفت النفي وإلا- فقلت: القوم في الدار
زيدا، أو زيد لم يستقم، فكذا المنقطع نحو- ما خرج القوم إلا
حمارا- لو قلت: خرج القوم حمارا لم يستقم قاله السفاقسي، وقرأ
يحيى بن وثاب «إلا رمزا» بضمتين جمع رموز كرسول ورسل.
وقرئ «ورمزا» بفتحتين جمع رامز- كخادم وخدم- وهو من نادر الجمع
وعلى القراءتين يكون حالا من الفاعل والمفعول معا أي مترامزين.
ومثله قول عنترة:
متى ما تلقني «فردين» ترجف ... روانف إليتيك وتستطارا
وجوز أبو البقاء أن يكون رَمْزاً على قراءة الضم مصدرا، وجعله
مسكن الميم في الأصل والضم عارض للاتباع كاليسر واليسر، وعليه
لا يختلف إعرابه فافهم وَاذْكُرْ رَبَّكَ أي في أيام الحبسة
شكرا لتلك النعمة كما يسشعر به التعرض لعنوان الربوبية، وقيل:
يحتمل أن يكون الأمر بالذكر شكرا للنعمة مطلقا لا في خصوص تلك
الأيام، وأن يكون في جميع أيام الحمل لتعود بركاته إليه،
والمنساق إلى الذهن هو الأول، والجملة مؤكدة لما قبلها مبينة
للغرض منها، واستشكل العطف من وجهين: الأول عطف الإنشاء على
الإخبار، والثاني عطف المؤكد على المؤكد، وأجيب بأنه معطوف على
محذوف أي اشكر واذكر، وقيل: لا يبعد أن يجعل الأمر بمعنى الخبر
عطفا على لا تكلم فيكون في تقدير أَلَّا تُكَلِّمَ وتذكر ربك،
ولا يخفى ما فيه كَثِيراً صفة لمصدر محذوف أو زمان كذلك أي
ذكرا كثيرا وزمانا كثيرا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وهو من الزوال
إلى الغروب- قاله مجاهد- وقيل: من العصر إلى ذهاب صدر الليل
وَالْإِبْكارِ أي وقته وهو من الفجر إلى الضحى، وإنما قدر
المضاف لأن الإبكار بكسر الهمزة مصدر لا وقت فلا تحسن المقابلة
كذا قيل: وهو مبني على أن بِالْعَشِيِّ- جمع عشية- الوقت
المخصوص، وإليه ذهب أبو البقاء، والذي ذهب إليه المعظم أنه
مصدر أيضا على فعيل لا جمع.
وإليه يشير كلام الجوهري فافهم وقرئ وَالْإِبْكارِ بفتح الهمزة
فهو حينئذ جمع بكر كسحر لفظا ومعنى- وهو نادر الاستعمال- قيل:
والمراد بالتسبيح الصلاة بدليل تقييده بالوقت كما في قوله
تعالى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ
تُصْبِحُونَ [الروم: 17] وقبل: الذكر اللساني كما أن المراد
بالذكر الذكر القلبي، وعلى كلا التقديرين لا تكرار في ذكر
التسبيح مع الذكر، وأل- في الوقتين للعموم. وأبعد من جعلها
للعهد أي عشي تلك الأيام الثلاثة وأبكارها، والجار والمجرور
متعلق بما عنده، وليس من باب التنازع في المشهور، وجوزه بعضهم
فيكون الأمر بالذكر مقيدا بهذين الوقتين أيضا، وزعم بعضهم أن
تقييده بالكثرة يدل على أنه لا يفيد التكرار، وفيه بعد تسليم
أنه مقيد به فقط أن الكثرة أخص من التكرار.
(2/146)
وهذا «ومن باب البطون» في الآيات أن زكريا
عليه السلام كان شيخا هما وكان مرشدا للناس فلما رأى ما رأى
تحركت غيرة النبوة فطلب من ربه ولدا حقيقيا يقوم مقامه في
تربية الناس وهدايتهم فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً أي مطهرة من لوث الاشتغال بالسوى منفردة
عن إراداتها مقدسة من شهواتها فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ
قائِمٌ على ساق الخدمة يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ وهو محل
المراقبة ومحاربة النفس أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى
وسمي به لأن من شاهد الحق في جمال نبوته يحيا قلبه من موت
الفترة، أو لأنه هو يحيا بالنبوة والشهادة مُصَدِّقاً
بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وهو ما ينزل به الملك على القلوب
المقدسة وَسَيِّداً وهو الذي غلب عليه نور هيبة عزة الحق،
وقال الصادق: هو المباين للخلق وصفا وحالا وخلقا
وقال الجنيد: هو الذي جاد بالكونين طلبا لربه، وقال ابن عطاء:
هو المتحقق بحقيقة الحق، وقال ابن منصور: هو من خلا عن أوصاف
البشرية وحلي بنعوت الربوبية، وقال محمد بن علي: هو من استوت
أحواله عند المنع والإعطاء والرد والقبول وَحَصُوراً وهو الذي
حصر ومنع عن جميع الشهوات وعصم بالعصمة الأزلية، وقال
الاسكندراني: هو المنزه عن الأكوان وما فيها وَنَبِيًّا أي
مرتفع القدر بهبوط الوحي عليه ومعدودا مِنَ الصَّالِحِينَ وهم
أهل الصف الأول من صفوف الأرواح المجندة المشاهدة للحق في
مرايا الخلق قال استعظاما للنعمة: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ
والحال قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وهو أحد الموانع العادية
وَامْرَأَتِي عاقِرٌ وهو مانع آخر قالَ كَذلِكَ اللَّهُ
يَفْعَلُ ما يَشاءُ حسبما تقتضيه الحكمة قالَ رَبِّ اجْعَلْ
لِي آيَةً على العلوق لأشكرك على هذه النعمة إذ شكر المنعم
واجب وبه تدوم المواهب الإلهية قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ
النَّاسَ بأن يحصر لسانك عن محادثتهم ليتجرد سرك لربك ويكون
ظاهرك وباطنك مشغولا به إِلَّا رَمْزاً تدفع به ضيق القلب عند
الحاجة، وحقيقة الرمز عند العارفين تعريض السر إلى السر وإعلام
الخاطر للخاطر بنعت تحريك سلسلة المواصلة بين المخاطب والمخاطب
وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً بتخليص النية عن الخطرات وجمع
الهموم بنعت تصفية السر في المناجاة وتحير الروح في المشاهدات
وَسَبِّحْ أي نزه ربك عن الشركة في الوجود بِالْعَشِيِّ
وَالْإِبْكارِ بالفناء والبقاء.
وإن أردت تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس فتقول هُنالِكَ
دَعا زَكَرِيَّا الاستعداد رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً وهي النفس الطاهرة المقدسة عن
النقائص إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ ممن صدق في الطلب
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ القوى الروحانية وَهُوَ قائِمٌ منتهض
لتكميل النشأة يُصَلِّي ويدعو في محراب التضرع إلى الله تعالى
المفيض على القوابل بحسب القابليات أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ
بِيَحْيى وهو الروح الحي بروح الحق والصفات الإلهية مُصَدِّقاً
بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وهي ما تلقيها ملائكة الإلهام من قبل
الفياض المطلق وَسَيِّداً لم تملكه الشهوات النفسانية
وَحَصُوراً أي مبالغا في الامتناع عن اللذائذ الدنيوية
وَنَبِيًّا بما يتلقاه من عالم الملكوت ومعدودا مِنَ
الصَّالِحِينَ لهاتيك الحضرة القائمين بحقوق الحق والخلق
لاتصافه بالبقاء بعد الفناء قالَ رب أَنَّى أي كيف يَكُونُ لِي
غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وضعف القوى الطبيعية
وَامْرَأَتِي وهي النفس الحيوانية عاقِرٌ عقيم عن ولادة مثل
هذا الغلام إذ لا تلد الحية إلا حيية قالَ كَذلِكَ اللَّهُ في
غرابة الشأن يَفْعَلُ ما يَشاءُ من العجائب التي يستبعدها من
قيده النظر إلى المألوفات، وبقي أسيرا في سجن العادات قالَ
رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً على ذلك لأشكرك مستمطرا زيادة نعمك
التي لا منتهى لها قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ وهم
ما يأنس به من اللذائذ المباحة ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وهي يوم
الفناء بالأفعال ويوم الفناء بالصفات ويوم الفناء بالذات
إِلَّا رَمْزاً أي قدرا يسيرا تدعو الضرورة إليه وَاذْكُرْ
رَبَّكَ الذي رباك حتى أوصلك إلى هذه الغاية كَثِيراً حيث منّ
عليك بخير كثير وَسَبِّحْ أي نزه
(2/147)
ربك عن نقائص التقيد بالمظاهر بِالْعَشِيِّ
وَالْإِبْكارِ أي وقتي الصحو والمحو.
وبعض الملتزمين لذكر البطون ذكر في تطبيق ما في الآفاق على ما
في الأنفس أن القوى البدنية امرأة عمران الروح نذرت ما في
قوتها من النفس المطمئنة فوضعت أنثى النفس فكفلها زكريا الفكر
فدخل عليها زكريا محراب الدماغ فوجد عندها رزقا من المعاني
الحدسية التي انكشفت لها بصفائها فهنالك دعا زكريا الفكر
بتركيب تلك المعاني واستوهب ولدا مقدسا من لوث الطبيعة فسمع
الله تعالى دعاءه فنادته ملائكة القوى الروحانية وهو قائم في
أمره بتركيب المعلومات يناجي ربه باستنزال الأنوار في محراب
الدماغ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى العقل مصدقا بعيسى
القلب الذي هو كلمة من الله لتقدسه عن عالم الإجرام وَسَيِّداً
لجميع أصناف القوى وَحَصُوراً عن مباشرة الطبيعة وَنَبِيًّا
بالإخبار عن المعارف والحقائق وتعليم الأخلاق ومنتظما في سلك
الصالحين وهم المجردات ومقربو الحضرة قالَ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ ذلك وَقَدْ بَلَغَنِيَ كبر منتهى الطور وَامْرَأَتِي
وهي طبيعة الروح النفسانية عاقِرٌ بالنور المجرد فطلب لذلك
علامة فقيل له: علامة ذلك الإمساك عن مكالمة القوى البدنية في
تحصيل مآربهم من اللذائذ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ كل يوم عقد تام من
أطوار العمر وهو عشر سنين أَلَّا بالإشارة الخفية، وأمر بالذكر
في هذه الأيام التي هي مع العشر الأول التي هي سنن التمييز
أربعون سنة انتهى- وهو قريب مما ذكرته- ولعل ما ذكرته على ضعفي
أولى منه، وباب التأويل واسع وبطون كلام الله تعالى لا تحصى
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ تتمة لشرح أحكام اصطفاء آل عمران،
ووقعت قصة زكريا. ويحيى عليهما السلام في البين لما فيها مما
يؤكد ذلك الاصطفاء، وَإِذْ في المشهور منصوب بذكر، والجملة
معطوفة على الجملة السابقة عطف القصة على القصة وبينهما كمال
المناسبة لأن تلك مسوقة أولا وبالذات لشرح حال الأم وهذه لشرح
حال البنت، والمراد من الملائكة رئيسهم جبريل عليه السلام
والكلام هنا كالكلام فيما تقدم، وجوز أبو البقاء كون الظرف
معطوفا على الظرف السابق وناصبه ناصبه والأول أولى، والمراد
اذكر أيضا من شواهد اصطفاء أولئك الكرام وقت قول الملائكة
عليهم السلام يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ أي اختارك
من أول الأمر ولطف بك وميزك على كل محرر وخصك بالكرامات
السنية، والتأكيد اعتناء بشأن الخبر وقول الملائكة لها ذلك كان
شفاها على ما دلت عليه الأخبار ونطقت به الظواهر، وفي بعض
الآثار ما يقتضي تكرر هذا القول من الملائكة لها، فقد أخرج ابن
جرير عن ابن إسحق أنه قال: كانت مريم حبيسا في الكنيسة ومعها
فيها غلام اسمه يوسف وقد كان أمه وأبوه جعلاه نذيرا حبيسا
فكانا في الكنيسة جميعا وكانت مريم إذا نفذ ماؤها وماء يوسف
أخذا قلتيهما فانطلقا إلى المغارة التي فيها الماء فيملآن ثم
يرجعان والملائكة في ذلك مقبلة على مريم بالبشارة يا مريم
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ الآية فإذا سمع ذلك زكريا عليه السلام
قال: إن لابنة عمران لشأنا. وقيل: إن الملائكة عليهم السلام
ألهموها ذلك، ولا يخفى أن تفسير القول بالإلهام وإسناده
للملائكة خلاف الظاهر وإن كان لا منع من أن يكون بواسطتهم أيضا
على أنه قول لا يعضده خبر أصلا، وعلى القول الأول يكون التكليم
من باب الكرامة التي يمنّ بها الله سبحانه على خواص عباده، ومن
أنكرها زعم أن ذلك إرهاص وتأسيس لنبوة عيسى عليه السلام أو
معجزة لزكريا عليه السلام، وأورد على الأول أن الإرهاص في
المشهور أن يتقدم على دعوى النبوة ما يشبه المعجزة كاظلال
الغمام لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وتكلم الحجر معه،
وهذا بظاهره يقتضي وقوع الخارق على يد النبي لكن قبل أن ينبأ
لا على يد غيره كما فيما نحن فيه، ويمكن أن يدفع بالعناية
وأورد على الثاني بأنه بعيد جدا إذ لم يقع الكلام مع زكريا
عليه السلام ولم يقترن ذلك بالتحدي أيضا فكيف يكون معجزة له،
واستدل بهذه الآية من ذهب إلى نبوة مريم لأن تكليم الملائكة
يقتضيها، ومنعه اللقاني بأن الملائكة قد كلموا من ليس بنبي
إجماعا فقد روي
(2/148)
أنهم كلموا رجلا خرج لزيارة أخ له في الله
تعالى وأخبروه أن الله سبحانه يحبه كحبه لأخيه فيه ولم يقل أحد
بنبوته، وادعى أن من توهم أن النبوة مجرد الوحي ومكالمة الملك
فقد حاد عن الصواب.
ومن الناس من استدل على عدم استنباء النساء بالإجماع وبقوله
تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا [الأنبياء:
7] ولا يخفى ما فيه، أما أولا فلأن حكاية الإجماع في غاية
الغرابة فإن الخلاف في نبوة نسوة- كحواء، وآسية، وأم موسى،
وسارة، وهاجر، ومريم- موجود خصوصا مريم فإن القول بنبوتها
شهير، بل مال الشيخ تقي الدين السبكي في الحلبيات، وابن السيد
إلى ترجيحه، وذكر أن ذكرها مع الأنبياء في سورتهم قرينة قوية
لذلك.
وأما ثانيا فلأن الاستدلال بالآية لا يصح لأن المذكور فيها
الإرسال وهو أخص من الاستنباء على الصحيح المشهور، ولا يلزم من
نفي الأخص نفي الأعم فافهم وَطَهَّرَكِ أي من الأدناس والأقذار
التي تعرض للنساء مثل الحيض والنفاس حتى صرت صالحة لخدمة
المسجد- قاله الزجاج- وروي عن الحسن، وابن جبير أن المراد طهرك
بالإيمان عن الكفر وبالطاعة عن المعصية، وقيل: نزهك عن الأخلاق
الذميمة والطباع الرديئة، والأولى الحمل على العموم أي طهرك من
الأقذار الحسية والمعنوية والقلبية والقالبية.
وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ يحتمل أن يراد بهذا
الاصطفاء غير الاصطفاء الأول وهو ما كان آخرا من هبة عيسى عليه
السلام لها من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء، وجعلها
وإياه آية للعالمين، ويحتمل أن يراد به الأول وكرر للتأكيد
وتبيين من اصطفاها عليهن، وعلى الأول يكون تقديم حكاية هذه
المقاولة على حكاية بشارتها بعيسى عليه السلام للتنبيه على أن
كلا منهما مستحق للاستقلال بالتذكير وله نظائر قد مر بعضها،
وعلى الثاني لإشكال في الترتيب، وتكون حكمة تعقدم هذه
المقاولة- على البشارة- الإشارة إلى كونها عليها السلام قبل
ذلك مستعدة لفيضان الروح عليها بما هي عليه من التبتل
والانقياد حسب الأمر، ولعل الأول أولى- كما قال الإمام- لما أن
التأسيس خير من التأكيد «والمراد من نساء العالمين» قيل: جميع
النساء في سائر الأعصار، واستدل به على أفضليتها على فاطمة،
وخديجة، وعائشة رضي الله تعالى عنهن، وأيد ذلك بما
أخرجه ابن عساكر في أحد الطرق عن ابن عباس أنه قال: «قال رسول
الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت
عمران، ثم فاطمة، ثم خديجة، ثم آسية امرأة فرعون»
وبما أخرجه ابن أبي شيبة عن مكحول، وقريب منه ما
أخرجه الشيخان عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله
عليه وسلم: خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في
صغره وأرعاه على بعل في ذات يده ولو علمت أن مريم ابنة عمران
ركبت بعيرا ما فضلت عليها أحدا»
وبما
أخرجه ابن جرير عن فاطمة صلى الله تعالى على أبيها وعليها وسلم
أنها قالت: «قال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أنت
سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم البتول» .
وقيل: المراد نساء عالمها فلا يلزم منه أفضليتها على فاطمة رضي
الله تعالى عنها، ويؤيده ما
أخرجه ابن عساكر من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «أربع نسوة سادات عالمهن:
مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة
بنت محمد صلّى الله عليه وسلم وأفضلهن عالما فاطمة»
وما
رواه الحرث بن أسامة في مسنده بسند صحيح لكنه مرسل «مريم خير
نساء عالمها»
وإلى هذا ذهب أبو جعفر رضي الله تعالى عنه وهو المشهور عن أئمة
أهل البيت- والذي أميل إليه- أن فاطمة البتول أفضل النساء
المتقدمات والمتأخرات من حيث إنها بضعة رسول الله صلّى الله
تعالى عليه وسلم بل ومن حيثيات أخر أيضا، ولا يعكر على ذلك
الأخبار السابقة لجواز أن يراد بها أفضلية غيرها غليها من بعض
الجهات وبحيثية من الحيثيات- وبه يجمع بين الآثار- وهذا سائغ
على القول بنبوة مريم أيضا إذ البضعية من روح الوجود وسيد كل
موجود لا أراها تقابل بشيء وأين الثريا يد
(2/149)
المتناول ومن هنا يعلم أفضليتها على عائشة
رضي الله تعالى عنها الذاهب إلى خلافها الكثير محتجين
بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «خذوا ثلثي دينكم عن
الحميراء»
وقوله عليه الصلاة والسلام: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد
على الطعام»
وبأن عائشة يوم القيامة في الجنة مع زوجها رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم وفاطمة يومئذ فيها مع زوجها علي كرم الله
تعالى وجهه، وفرق عظيم بين مقام النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم ومقام علي كرم الله تعالى وجهه.
وأنت تعلم ما في هذا الاستدلال وأنه ليس بنص على أفضلية
الحميراء على الزهراء، وأما أولا فلأن قصارى ما في الحديث
الأول على تقدير ثبوته إثبات أنها عالمة إلى حيث يؤخذ منها
ثلثا الدين، وهذا لا يدل على نفي العلم المماثل لعلمها عن
بضعته عليه الصلاة والسلام، ولعلمه صلى الله تعالى عليه وسلم
أنها لا تبقى بعده زمنا معتدا به يمكن أخذ الدين منها فيه لم
يقل فيها ذلك، ولو علم لربما قال: خذوا كل دينكم عن الزهراء،
وعدم هذا القول في حق من دل العقل والنقل على علمه لا يدل على
مفضوليته وإلا لكانت عائشة أفضل من أبيها رضي الله تعالى عنه
لأنه لم يرو عنه في الدين إلا قليل لقلة لبثه وكثرة غائلته بعد
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أن
قوله عليه الصلاة والسلام: «إني تركت فيكم الثقلين كتاب الله
تعالى وعترتي لا يفترقان حتى يردا على الحوض»
يقوم مقام ذلك الخبر وزيادة- كما لا يخفى- كيف لا وفاطمة رضي
الله تعالى عنها سيدة تلك العترة؟! وأما ثانيا فلأن الحديث
الثاني معارض بما يدل على أفضلية غيرها رضي الله تعالى عنها
عليها،
فقد أخرج ابن جرير عن عمار بن سعد أنه قال: «قال لي رسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم: فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت
مريم على نساء العالمين»
بل هذا الحديث أظهر في الأفضلية وأكمل في المدح عند من انجاب
عن عين بصيرته عين التعصب والتعسف لأن ذلك الخبر وإن كان ظاهرا
في الأفضلية لكنه قيل ولو على بعد: إن- أل- في النساء فيه
للعهد والمراد بها الأزواج الطاهرات الموجودات حين الاخبار ولم
يقل مثل ذلك في هذا الحديث.
وأما ثالثا فلأن الدليل الثالث يستدعي أن يكون سائر زوجات
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل من سائر الأنبياء
والمرسلين عليهم الصلاة والسلام لأن مقامهم بلا ريب ليس كمقام
صاحب المقام المحمود صلى الله تعالى عليه وسلم فلو كانت الشركة
في المنزل مستدعية للأفضلية لزم ذلك قطعا ولا قائل به.
وبعد هذا كله الذي يدور في خلدي أن أفضل النساء فاطمة. ثم
أمها، ثم عائشة. بل لو قال قائل إن سائر بنات النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم أفضل من عائشة لا أرى عليه بأسا، وعندي بين
مريم. وفاطمة توقف نظرا للأفضلية المطلقة، وأما بالنظر إلى
الحيثية فقد علمت ما أميل إليه، وقد سئل الإمام السبكي عن هذه
المسألة فقال: الذي نختاره وندين الله تعالى به أن فاطمة بنت
محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل. ثم أمها. ثم عائشة-
ووافقه في ذلك البلقيني- وقد صحح ابن العماد أن خديجة أيضا
أفضل من عائشة لما ثبت
أنه عليه الصلاة والسلام قال لعائشة حين قالت: قد رزقك الله
تعالى خيرا منها، فقال لها: لا والله ما رزقني الله تعالى خيرا
منها آمنت بي حين كذبني الناس وأعطتني مالها حين حرمني الناس.
وأيد هذا بأن عائشة أقرأها السلام النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم من جبريل، وخديجة أقرأها السلام جبريل من ربها، وبعضهم
لما رأى تعارض الأدلة في هذه المسألة توقف فيها- وإلى التوقف
مال القاضي أبو جعفر الستروشني منا- وذهب ابن جماعة إلى أنه
المذهب الأسلم.
وأشكل ما في هذا الباب حديث الثريد ولعل كثرة الأخبار الناطقة
بخلافه تهون تأويل واحد لكثير أهون من تأويل كثير لواحد، والله
تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل يا مَرْيَمُ اقْنُتِي
لِرَبِّكِ الظاهر أنه من مقول الملائكة أيضا
(2/150)
وصوها بالمحافظة على الصلاة بعد أن أخبروها
بعلو درجتها وكمال قربها إلى الله تعالى لئلا تفتر ولا تغفل عن
العبادة، وتكرير النداء للإشارة إلى الاعتناء بما يرد بعد كأنه
هو المقصود بالذات وما قبله تمهيد له.
والقنوت إطالة القيام في الصلاة- قاله مجاهد- أو إدامة الطاعة-
قاله قتادة- وإليه ذهب الراغب، أو الإخلاص في العبادة- قاله
سعيد بن جبير- أو أصل القيام في الصلاة- قاله بعضهم- والتعرض
لعنوان الربوبية للإشعار بعلة وجوب امتثال الأوامر وَاسْجُدِي
وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ يحتمل أن يكون المراد من ذلك
كله الأمر بالصلاة إلا أنه أمر سبحانه بها بذكر أركانها مبالغة
في إيجاب المحافظة عليها لما أن في ذكر الشيء تفصيلا تقريرا
ليس في الإجمال، ولعل تقديم السجود على الركوع لأنه كذلك في
صلاتهم، وقيل: لأنه أفضل أركان الصلاة وأقصى مراتب الخضوع،
وفي الخبر «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»
أو للتنبيه على أن الواو لا توجب الترتيب أو ليقترن ارْكَعِي-
بالراكعين- للإيذان بأنّ من ليس في صلاتهم ركوع ليسوا مصلين،
وكل من هذه الأوجه لا يخلو عن دغدغة، أما أولا فلأنه إنما يتم
على القول بأن القيام ليس أفضل من السجود كما نقل عن الإمام
الشافعي، وأما الثاني فلأن خطاب القرآن مع من يعلم لغة العرب
لا مع من يتعلم منه اللغة، وأما الثالث فلأن تماميته تتوقف على
بيان وجه أنه لم يعبر بالساجدين تنبيها على أن من لا سجدة في
صلاته ليس من المصلين؟ وكأن وجه ذلك ما يستفاد من كلام
الزمخشري حيث قال:
ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا
يركع، وفيه من يركع فأمرت بأن تركع مع الراكعين ولا تكون مع من
لا يركع، فالنكتة في التعبير ما جعلت نكتة في ذكر وَارْكَعِي
مَعَ الرَّاكِعِينَ واعترضه أيضا بعضهم بأنه إذا قدم الركوع،
وقيل: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ وَاسْجُدِي يحصل ذلك
المقصود، ولا مدخل للتقديم والتأخير في إفادة ذلك، وقيل:
المراد بالسجود وحده الصلاة كما في قوله تعالى: وَأَدْبارَ
السُّجُودِ [ق: 40] والتعبير عن الصلاة بذلك من التعبير بالجزء
عن الكل ويراد بالركوع الخشوع والتواضع وكأن أمرها بذلك حفظا
لها من الوقوع في مهاوي التكبر والاستعلاء بما لها من علو
الدرجة، والاحتمال الأول هو الظاهر، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير
عن الأوزاعي قال: «كانت تقوم حتى يسيل القيح من قدميها» وما
أخرجه ابن عساكر في الآية عن أبي سعيد قال: «كانت مريم تصلي
حتى تورم قدماها»
والأكثرون على أن فائدة قوله سبحانه: مَعَ الرَّاكِعِينَ
الإرشاد إلى صلاة الجماعة، وإليه ذهب الجبائي، وذكر بعض
المحققين أن نكتة التعبير بذلك في هذا المقام دون- واسجدي مع
الساجدين- الإشارة إلى أن من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك
ركعة من الصلاة، وعورض بأنه لو قيل:- واسجدي مع الساجدين-
لربما كان فيه إشارة إلى أن من أدرك السجود مع الإمام فقد أدرك
الجماعة، ولعل هذه الإشارة أولى من الأولى في هذا المقام،
واستلزام ذلك أن من أدرك ما بعد السجود معه لا يدرك الجماعة في
حيز المنع، ولا يخفى أن المعارض والمعارض ليسا بشيء عند
المنصفين، وأحسن منهما ما أشار إليه صاحب الكشاف، وزعم بعضهم
أن مَعَ مجاز عن الموافقة في الفعل فقط دون اجتماع- أي افعلي
كفعل الرَّاكِعِينَ وإن لم توقعي الصلاة معهم- قال: لأنها كانت
تصلي في محرابها، وأيضا إنها كانت شابة وصلاة الشواب في
الجماعة مكروهة، واعترض بأنه ارتكاب للتجوز الذي هو خلاف الأصل
من غير داع، وكونها كانت تصلي في محرابها أحيانا مسلم لكن لا
يدل على المدعى، ودائما مما لا دليل عليه وبفرضه لا يدل على
المدعى أيضا لجواز اقتدائها وهي في المحراب، وكراهة صلاة
الشابة في الجماعة لم يتحقق عندنا ثبوتها في شرع من قبلنا، على
أن الماتريدي نفى كراهة صلاة مريم في الجماعة وإن كانت شابة،
وقلنا: بكراهة صلاة الشواب في شرعهم أيضا، وعلله بكون القوم
الذين كانت تصلي معهم كانوا ذوي قرابة منها ورحم، ولذلك
اختصموا في ضمها وإمساكها، وربما يعلل بعدم خشية الفتنة وإن
كانوا أجانب،
(2/151)
ويستأنس لهذا بذهابها مع يوسف لملء القلة
في المغارة، ولعل أولئك الذين تركع معهم من هذا القبيل وإن
قلنا: إنها تقتدي وهي في محرابها إما وحدها أو مع نسوة زال
الإشكال، وجاء مَعَ الرَّاكِعِينَ دون الراكعات لأن هذا الجمع
أعم إذ يشمل الرجال والنساء على سبيل التغليب، ولمناسبة رؤوس
الآي، ولأن الاقتداء بالرجال أفضل إن قلنا: إنها مأمورة بصلاة
الجماعة.
وادعى بعضهم أن في التعبير بذلك مدحا ضمنيا لمريم عليها السلام
ولم يقيد الأمرين الأخيرين بما قيد به الأمر الأول اكتفاء
بالتقييد من أول وهلة، وقال شيخ الإسلام: إن تجريد الأمر
بالركنين الأخيرين عما قيد به الأول لما أن المراد تقييد الأمر
بالصلاة بذلك، وقد فعل حيث قيد به الركن الأول منها، ولعل ما
ذكرناه أولى لأنه مطرد على سائر الأقوال في القنوت، وأخرج ابن
أبي داود في المصاحف عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه كان
يقرأ واركعي واسجدي في الساجدين ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم ذكره
من تلك الأخبار البديعة الشأن المرتقية من الغرابة إلى أعلى
مكان، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي
من أخبار ما غاب عنك وعن قومك مما لا يعرف إلا بالوحي على ما
يشير إليه المقام، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب،
وقوله تعالى: نُوحِيهِ إِلَيْكَ جملة مستقلة مبينة للأولى،
والإيحاء- إلقاء المعنى إلى الغير على وجه خفي، ويكون بمعنى
إرسال الملك إلى الأنبياء، وبمعنى الإلهام، والضمير في
نُوحِيهِ عائد إلى ذلك في المشهور، واستحسن عوده إلى الغيب
لأنه حينئذ يوهم الاختصاص بما مضى، وجوز أن تكون هذه الجملة
خبرا عن المبتدأ قبلها، مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ إما متعلق-
بنوحيه- أو حال من مفعوله أي نُوحِيهِ حال كونه بعض أَنْباءِ
الْغَيْبِ وجعله حالا من المبتدأ رأى البعض، وجوز أبو البقاء
أن يكون التقدير الأمر ذلِكَ فيكون ذلِكَ خبرا لمبتدأ محذوف
والجار والمجرور حال منه، وهو وجه مرذول لا ينبغي أن يخرج عليه
كلام الملك الجليل.
وصيغة الاستقبال عند قوم للايذان بأن الوحي لم ينقطع بعد وَما
كُنْتَ لَدَيْهِمْ أي عند المتنازعين فالضمير عائد إلى غير
مذكور دل عليه المعنى، والمقصود من هذه الجملة تحقيق كون
الإخبار بما ذكر عن وحي على سبيل التهكم بمنكريه كأنه قيل: إن
رسولنا أخبركم بما لا سبيل إلى معرفته بالعقل مع اعترافكم بأنه
لم يسمعه ولم يقرأه في كتاب، وتنكرون أنه وحي فلم يبق مع هذا
ما يحتاج إلى النفي سوى المشاهدة التي هي أظهر الأمور انتفاء
لاستحالتها المعلومة عند جميع العقلاء، ونبه على ثبوت قصة مريم
مع أن ما علم بالوحي قصة زكريا عليه السلام أيضا لما أن «تلك»
هي المقصودة بالأخبار أولا، وإنما جاءت القصة الأخرى على سبيل
الاستطراد ولاندراج بعض قصة زكريا في ذكر من تكفل فما خلت
الجملة عن تنبيه على قصته في الجملة، وروي عن قتادة أن المقصود
من هذه الجملة تعجيب الله سبحانه نبيه عليه الصلاة والسلام من
شدة حرص القوم على كفالة مريم والقيام بأمرها، وسيق ذلك تأكيدا
لاصطفائها عليها السلام ويبعد هذا الفصل بين المؤكد والمؤكد،
ومع هذا هو أولى مما قيل: إن المقصود منها التعجيب من تدافعهم
لكفالتها لشدة الحال ومزيد الحاجة التي لحقتهم حتى وفق لها خير
الكفلاء زكريا عليه السلام، بل يكاد يكون هذا غير صحيح دراية
ورواية، وعلى كل تقدير لا يشكل نفي المشاهدة مع ظهور انتفائها
عند كل أحد إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أي يرمونها ويطرحونها
للاقتراع، والأقلام- جمع قلم وهي التي كانوا يكتبون بها
التوراة واختاروها تبركا بها، وقيل: هي السهام من النشاب وهي
القداح، وحكى الكازروني أنها كانت من نحاس وهي مأخوذة من القلم
بمعنى القطع، ومنه قلامة الظفر وقد تقدم بيان كيفية الرمي- وفي
عدة الأقلام خلاف-
وعن الباقر أنها كانت ستة،
والظرف معمول للاستقرار العامل في لَدَيْهِمْ وجعله ظرفا لكان-
كما قال أبو البقاء- ليس بشيء
(2/152)
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ من تتمة
الكلام الأول، وجعله ابتداء استفهام مفسد للمعنى، ولما لم يصلح
يُلْقُونَ للتعلق بالاستفهام لزم أن يقدر ما يرتبط به النظام
فذكر الجلّ له ثلاثة أوجه:
«أحدها» أن يقدر ينظرون أَيُّهُمْ يَكْفُلُ وحيث كان النظر مما
يؤدي إلى الإدراك جاز أن يتعلق باسم الاستفهام كالأفعال
القلبية- كما صرح به ابن الحاجب. وابن مالك في التسهيل-
وثانيها أن يقدر ليعلموا أَيُّهُمْ يَكْفُلُ وعلى الأول الجملة
حال مما قبلها وعلى الثاني في موضع المفعول له، ولا يخفى أن
الإلقاء سبب لنفس العلم لكنه سبب بعيد، والقريب هو النظر إلى
ما ارتفع من الأقلام، وثالثها أن يقدر يقولون، أو ليقولوا
أَيُّهُمْ واعترض بأنه لا فائدة يعتد بها في تقدير يقولون ولا
ينساق المعنى إليه بل هو مجرد إصلاح لفظي لموقع أَيُّهُمْ
وأجيب بأنه مفيد، وينساق المعنى إليه بناء على أن المراد
بالقول القول للبيان والتعيين، واعترض أيضا تقدير القول مقرونا
بلام التعليل بأن هذا التعليل هنا مما لا معنى له، وأجيب
بتأويله كما أول في سابقة، وقيل: يؤول بالحكم أي ليقولوا
وليحكموا أَيُّهُمْ إلخ، والسكاكي يقدر هاهنا ينظرون لعلموا،
ولعل ذلك لمراعاة المعنى واللفظ وإلا فتقدير النظر، أو العلم
يغني عن الآخر، وبعض المحققين لم يقدر شيئا أصلا وجعل
أَيُّهُمْ بدلا عن ضمير الجمع- أي يلقى كل من يقصد الكفالة-
وتتأتى منه، ولا يخفى أنه من التكلف بمكان وَما كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ في شأنها تنافسا على كفالتها
وكان هذا الاختصام بعد الاقتراع في رأي، وقبله في آخر، وتكرير
ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ مع تحقق المقصود بعطف إِذْ يَخْتَصِمُونَ
على إِذْ يُلْقُونَ للإيذان بأن كل واحد من عدم الحضور عند
الإلقاء، وعدم الحضور عند الاختصام مستقل بالشهادة على نبوته
صلّى الله عليه وسلم لا سيما على الرأي الثاني في وقت الاختصام
لأن تغيير الترتيب في الذكر مؤكد لذلك- قاله شيخ الإسلام.
واختلف في وقت هذا الاقتراع والتشاحّ على قولين: أحدهما وهو
المشهور المعول عليه أنه كان حين ولادتها وحمل أمها لها إلى
الكنيسة على ما أشرنا إليه من قبل، وثانيهما أنه كان وقت كبرها
وعجز زكريا عليه السلام عن تربيتها، وهو قول مرجوح، وأوهن منه
قول من زعم أن الاقتراع وقع مرتين مرة في الصغر وأخرى في
الكبر، وفي هذه الآية دلالة على أن القرعة لها دخل في تمييز
الحقوق،
وروي عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال: ما تقارع قوم
ففوضوا أمرهم إلى الله عز وجل إلا خرج سهم المحق، وقال أي قضية
أعدل من القضية إذا فوض الأمر إلى الله سبحانه، أليس الله
تعالى يقول: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
[الصافات: 141]
وقال الباقر رضي الله تعالى عنه: أول من سوهم عليه مريم بنت
عمران ثم تلا وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ
أَقْلامَهُمْ
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ شروع في قصة عيسى عليه السلام،
والمراد بالملائكة جبريل عليه السلام على المشهور، والقول
شفاهي كما رواه ابن أبي حاتم عن قتادة، وإِذْ المضافة إلى ما
بعدها بدل من نظيرتها السابقة بدل كل من كل، وقيل: بدل اشتمال
ولا يضر الفصل إذ الجملة الفاصلة بين البدل والمبدل منه اعتراض
جيء به تقريرا لما سبق وتنبيها على استقلاله وكونه حقيقيا بأن
يعد على حياله من شواهد النبوة قالوا: وترك العطف بناء على
اتحاد المخاطب والمخاطب وإيذانا بتقارن الخطابين أو تقاربهما
في الزمان، وجوز أبو البقاء كون الظرف منصوبا باذكر مقدرا، وأن
يكون ظرفا- ليختصمون- وقيل: إنه بدل من إِذْ المضافة إليه،
واعترض بأن زمن الاختصام قبل زمن البشارة بمدة- فلا تصح هذه
البدلية والتزام أنه بدل غلط- غلط إذ لا يقع في فصيح الكلام،
وأجيب بأنه يعتبر زمان ممتد يقع الاختصام في بعضه والبشارة في
بعض آخر وبهذا الاعتبار يصح أن يقال: إنهما في زمان واحد كما
يقال وقع القتال والصلح في سنة واحدة مع أن القتال واقع في
أولها مثلا والصلح في آخرها، قيل: ولا يحتاج إلى هذا على
الاحتمال الثاني مما ذكره أبو البقاء بناء
(2/153)
على ما روي عن الحسن أنها عليها السلام
كانت عاقلة في حال الصغر فيحتمل أنها وردت عليها البشرى إذ
ذاك، وفيه بعد بل الآثار ناطقة بخلافه.
يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ
كلمة- من- لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة-
لكلمة- وإطلاق الكلمة على من أطلقت عليه باعتبار أنه خلق من
غير واسطة أب بل بواسطة كن فقط على خلاف أفراد بني آدم فكان
تأثير الكلمة في حقه أظهروا وأكمل فهو كقولك لمن غلب عليه
الجود مثلا: محض الجود- وعلى ذلك أكثر المفسرين- وأيدوا ذلك
بقوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ
آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
[آل عمران: 59] ، وقيل: أطلق عليه ذلك لأن الله تعالى بشر به
في الكتب السالفة، ففي التوراة- في الفصل العشرين من السفر
الخامس- أقبل الله تعالى من سينا وتجلى من ساعير وظهر من جبال
فاران- وسينا- جبل التجلي لموسى- وساعير- جبل بيت المقدس وكان
عيسى يتعبد فيه- وفاران- جبل مكة، وكان متحنث سيد المرسلين صلى
الله تعالى عليه وسلم، وهذا كقول من يخبر بالأمر إذا خرج
موافقا لما أخبر به: قد جاء كلامي، وقيل: لأن الله تعالى يهدي
به كما يهدي بكلمته.
ومن الناس من زعم أن- الكلمة- بمعنى البشارة كأنه قيل ببشارة
منه ويبعده ظاهر قوله تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ
[النساء: 171] ولعله يرجح أول الأقوال كما يرجحه عدم اطراد
الأقوال الأخر وإن لم يكن لازما في مثل ذلك، وفي يُبَشِّرُكِ
هنا من القراءات مثل ما فيها فيما تقدم اسْمُهُ الضمير راجع
إلى- الكلمة- وذكره رعاية للمعنى لكونها عبارة عن مذكر واسم
مبتدأ خبره الْمَسِيحُ وقوله تعالى:
عِيسَى يحتمل أن يكون بدلا، أو عطف بيان، أو توكيدا بالمرادف
كما أشار إليه الدنوشري، أو خبرا آخر، أو خبر مبتدأ محذوف، أو
منصوبا بإضمار أعني مدحا، وحذف المبتدأ والفعل قيل: على سبيل
الجواز ومقتضى ما ذكروه في النعت المقطوع أن يكون على سبيل
الوجوب، وقوله تعالى: ابْنُ مَرْيَمَ صفة لعيسى وعلى تقدير
كونه منصوبا يلتزم القول بالقطع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، ومن
جعل هذه الثلاثة أخبارا عن المبتدأ أورد عليه بأن الاسم في
الحقيقة عِيسَى والْمَسِيحُ لقب وابْنُ صفة فكيف جعلت الثلاثة
خبرا عنه؟! وأجيب بأن المراد بالاسم معناه المصطلح وهو العلم
مطلقا وليس هو بمعنى مقابل اللقب بل ما يعمه وغيره وأن إضافته
تفيد العموم لأن إضافة اسم الجنس قد يقصد بها الاستغراق، وإن
إطلاقه على ابن مريم على طريق التغليب، وقيل: المراد بالاسم
معناه اللغوي- وهو السمة والعلامة المميزة- لا العلم.
ولا مانع حينئذ من جعل مجموع الثلاثة خبرا إذ التمييز بذلك أشد
من التمييز بكل واحد فيؤول المعنى إلى قولك الذي يعرف به ويميز
به عما سواه مجموع الثلاثة وبهذا- كما في الانتصاف- خلاص من
إشكال يوردونه فيقولون: الْمَسِيحُ في الآية إن أريد به
التسمية- وهو الظاهر- فما موقع عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ والتسمية
لا توصف بالنبوة؟! وإن أريد به المسمى بهذه التسمية لم يلتئم
مع قوله سبحانه: اسْمُهُ ووجه الخلاص ظاهر، ولعدم ظهور هذا
التوجيه لبعضهم التزم الخلاص من ذلك بأن المسيح خبر عن قوله
تعالى: اسْمُهُ والمراد التسمية، وأما عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
فخبر مبتدأ محذوف تقديره هو، ويكون الضمير عائدا إلى المسمى
بالتسمية المذكورة منقطعا عن الْمَسِيحُ والمشهور أن
الْمَسِيحُ لقبه عليه السلام وهو له من الألقاب المشرفة
كالفاروق، وأصله بالعبرية مشيحا ومعناه المبارك، وعن إبراهيم
النخعي الصديق، وعن ابن عمرو بن العلاء الملك، وعِيسَى معرب
أيشوع، ومعناه السيد، وعن كثير من السلف أن الْمَسِيحُ مشتق من
المسح، واختلفوا في وجه إطلاقه على عيسى عليه
(2/154)
السلام فقيل: لأنه مسح بالبركة واليمن،
وروي ذلك عن الحسن، وابن جبير، وقيل: لأنه كان يمسح عين الأكمه
فيبصر، وروي ذلك عن الكلبي، وقيل: لأنه كان لا يمسح ذا عاهة
بيده إلا برىء، ورواه عطاء. والضحاك عن ابن عباس، وقال
الجبائي: لأنه كان يمسح بدهن زيت بورك فيه وكانت الأنبياء
تتمسح به، وقيل: لأن جبريل مسحه بجناحيه وقت الولادة ليكون
عوذة من الشيطان الرجيم، وقيل: لأنه حين مسح الله تعالى ظهر
آدم عليه السلام فاستخرج من ذرات ذريته لم يرده إلى مقامه كما
فعل بباقي الذرات بل حفظه عنده حتى ألقاه إلى مريم فكان قد بقي
عليه اسم المسيح أي الممسوح «وقيل: وقيل:» وهذه الأقوال تشعر
بأن اللفظ عربي لا عبري، وكثير من المحققين على الثاني،
واختاره أبو عبيدة، وعليه لا اشتقاق لأنه لا يجري على الحقيقة
في الأسماء الأعجمية، وفي الكشف أن الظاهر فيه الاشتقاق لأنه
عربي دخل عليه خواص كلامهم جعل لقب تشريف له عليه السلام-
كالخليل- لإبراهيم، وجعله معربا ثم إجراؤه مجرى الصفات في
إدخال اللام لأنه في كلامهم بمعنى الوصف خلاف الظاهر.
ومن الناس من ادعى أن دخول اللام لا ينافي العجمة فإن-
التوراة، والإنجيل، والإسكندر- لم تسمع إلا مقرونة بها مع أنها
أعجمية، ولعل ذلك لا ينافي أظهرية كون محل النزاع عربيا، نعم
قيل في عيسى: إنه مشتق من العيس وأنه إنما سمي به عليه السلام
لأنه كان في لونه عيسى أي بياض تعلوه حمرة كما يشير إليه خبر
«كأنما خرج من ديماس» إلا أن المعول عليه فيه أنه لا اشتقاق
له، وأن القائل به كالراقم على الماء.
وهذا الخلاف إنما هو في هذا المسيح وأما المسيح الدجال فعربي
إجماعا وسمي به لأنه مسحت إحدى عينيه، أو لأنه يمسح الأرض أي
يقطعها في المدة القليلة وفرق النخعي بين لقب روح الله. وعدوه
بأن الأول يفتح الميم والتخفيف. والثاني بكسر الميم وتشديد
السين- كشرير- وأنكره غيره- وهو المعروف- ثم القائلون باللقبية
في الآية وكون عيسى بدلا مثلا خص الكثير منهم منع تقديم اللقب
على الاسم بما إذا لم يكن أشهر منه حقيقة أو ادعاء أما إذا كان
أشهر كما هنا فإنه يجوز التقديم كما نص عليه ابن الأنباري ولا
يختص بغير الفصيح كما فيما إذا لم يكن كذلك.
والمشهور فيما إذا كان الاسم واللقب مفردين إضافة الأول
للثاني، وفي المفصل تعينها، وصنيع سيبويه يشير إلى ذلك، ومن
جوز التبعية استدل بقولهم: هذا يحيى- عينان- إذ لو أضيف لقيل
عينين، وحمله على لغة من يلزم المثنى الألف يرده أن الرواية
بضم النون ولو كانت الرواية بالكسر لأمكن ذلك الحمل فلا يتم
الاستدلال، وكذا لو كانت بالفتح لأنه يمكن حينئذ أن يكون اللقب
مجرورا بالإضافة إلا أن الفتحة فيه نائبة عن الكسرة بناء على
القول بأن المسمى به يجوز أن يعرب كما لا ينصرف لكن أنت تعلم
أن قصارى ما يثبته هذا الاستدلال الورود في هذا الجزئي.
وأما أنه يثبت الاطراد فلا، ولعل المانع إنما يمنع ذلك، ويدعي
أن المطرد هو الإضافة لكن بشرط أن لا يمنع منها مانع فلا تجوز
فيما إذا قارنت- أل- الوضع لمنعها عن ذلك فلا يقال: الحرث-
كرز- بالإضافة، وكذا إذ كان اللقب وصفافي الأصل نحو إبراهيم
الخليل- على ما نص عليه ابن الحاجب في شرح المفصل- لأن الموصوف
لا يضاف إلى صفته في المشهور.
ومن الناس من جعل ما نحن فيه من هذا القبيل، وهو مبني على مذهب
من يقول: إن المسيح صفة في العربية ومع هذا في المسألة خلاف
ابن هشام فإنه يجوز الإضافة في هذا القسم أيضا وتمام البحث في
كتبنا النحوية فليفهم، وإنما قيل: ابْنُ مَرْيَمَ مع كون
الخطاب لها تنبيها على أنه يولد من غير أب ولو كان له أب لنسب
إليه، وفي ذلك رمز إلى تفضيل الأم أيضا، وقيل: إن في ذلك ردا
للنصارى، وأبعد من ادعى أن هذه الإضافة لمدح عيسى عليه السلام
لأن الكلام حينئذ في قوة ابن عبادة، هذا واعلم أن لفظ ابْنُ في
الآية يكتب بغير همزة بناء على وقوعه صفة بين
(2/155)
علمين إذ القاعدة أنه متى وقع كذلك لم تكتب
همزته بل تحذف في الخط تبعا لحذفها في اللفظ لكثرة استعماله
كذلك ومتى تقدمه علم لكن أضيف إلى غير علم- كزيد ابن السلطان-
أو تقدمه غير علم، وأضيف إلى علم- كالسلطان ابن زيد- أو وقع
بين ما ليسا علمين- كزيد العاقل ابن الأمير عمرو- كتبت الألف
ولم تحذف في الخط في جميع تلك الصور، والكتاب كثيرا ما يخطئون
في ذلك فيحذفون الهمزة منه في الكتابة أينما وقع، وقد نص على
خطئهم في ذلك ابن قتيبة. وغيره.
ومن هنا قيل: إن الرسم يرجح التبعية، نعم في كون ذلك مطردا
فيما إذا كان المضاف إليه علم الأم خلاف، والذي أختاره الحذف
أيضا إذا كان ذلك مشهورا وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ
الوجيه ذو الجاه. والشرف. والقدر.
وقيل: الكريم على من يسأله فلا يرد لكرم وجهه عنده خلاف من
يبذل وجهه للمسألة فيرد، ووجاهته في الدنيا بالنبوة والتقدم
على الناس، وفي الآخرة بقبول شفاعته وعلو درجته، وقيل: وجاهته
في الدنيا بقبول دعائه بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص،
وقيل: بسبب أنه كان مبرءا من العيوب التي افتراها اليهود عليه،
وفي الآخرة ما تقدم وليست الوجاهة بمعنى الهيئة والبزة ليقال:
كيف كان- وجيها- في الدنيا مع أن اليهود قاتلهم الله عاملوه
بما عاملوه على أنه لو كان المعنى على ذلك لا تقدح تلك
المعاملة فيه كما لا تقدح على التقادير الأول كما لا يخفى على
المتأمل، ونصب وَجِيهاً على أنه حال مقدرة من كلمة وسوغ مجيء
الحال منها مع أنها نكرة وصفها بما بعدها والتذكير باعتبار
المعنى- كما أشير إليه- وجعلت الحال مقدرة لأن الوجاهة كانت
بعد البشارة.
ومن الناس من جعل الحال من عِيسَى وقال أبو البقاء: لا يجوز
ذلك وكذا لا يجوز جعله حالا من الْمَسِيحُ أو من ابْنُ
مَرْيَمَ لأنها أخبار، والعامل فيها الابتداء، أو المبتدأ أو
هما وليس شيء من ذلك يعمل في الحال، وكذا لا يجوز أيضا أن يكون
حالا من الهاء في اسمه للفصل الواقع بينهما ولعدم العامل في
الحال، والظرف متعلق بما عنده لما فيه من معنى الفعل وَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ أي عند الله يوم القيامة قاله قتادة، وقيل: هو
إشارة إلى رفعه إلى السماء وصحبته الملائكة، وقيل: من المقربين
من الناس بالقبول، والإجابة وهو معطوف على وَجِيهاً أي ومقربا
من جملة المقربين وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ
وَكَهْلًا عطف على الحال الأولى أيضا وعطف الفعل على الاسم
لتأويله به سائغ شائع- وهو في القرآن كثير- والظرف حال من
الضمير المستكن في الفعل ولم يجعل ظرفا لغوا متعلقا به مع صحته
لعطف وَكَهْلًا عليه، والمراد يكلمهم حال كونه طفلا وكهلا،
والمقصود التسوية بين الكلام في حال الطفولية وحال الكهولة،
وإلا فالكلام في الثاني ليس مما يختص به عليه السلام وليس فيه
غرابة، وعلى هذا فالمجموع حال لا كل على الاستقلال، وقيل: إن
كلا منهما حال، والثاني تبشير ببلوغ سن الكهولة وتحديد لعمره،
والْمَهْدِ مقر الصبي في رضاعه وأصله مصدر سمي به وكان كلامه
فِي الْمَهْدِ ساعة واحدة بما قص الله تعالى لنا، ثم لم يتكلم
حتى بلغ أو إن الكلام قاله ابن عباس، وقيل: كان يتكلم دائما
وكان كلامه فيه تأسيسا لنبوته وإرهاصا لها على ما ذهب إليه ابن
الأخشيد وعليه يكون قوله: وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم: 30]
إخبارا عما يؤول إليه، وقال الجبائي: إنه سبحانه أكمل عقله
عليه السلام إذ ذاك وأوحى إليه بما تكلم به مقرونا بالنبوة،
وجوز أيضا أن يكون ذلك كرامة لمريم دالة على طهارتها وبراءة
ساحتها مما نسبه أهل الإفك إليها، والقول: بأنه معجزة لها
بعيد- وإن قلنا بنبوتها- وزعمت النصارى أنه عليه السلام لم
يتكلم فِي الْمَهْدِ ولم ينطق ببراءة أمه صغيرا بل أقام ثلاثين
سنة واليهود تقذف أمه بيوسف النجار- وهذا من أكبر فضائحهم
الصادحة برد ما هم عليه من دعوى الألوهية له عليه السلام- وكذا
تنقله في الأطوار المختلفة المتنافية لأن من هذا شأنه بمعزل عن
الألوهية، واعترضوا بأن كلامه في المهد من أعجب
(2/156)
الأمور فلو كان لنقل ولو نقل لكان النصارى
أولى الناس بمعرفته، وأجيب بأن الحاضرين إذ ذاك لم يبلغوا مبلغ
التواتر، ولما نقلوا كذبوا فسكتوا، وبقي الأمر مكتوما إلى أن
نطق القرآن به، وهذا قريب على قول ابن عباس: إنه لم يتكلم إلا
ساعة من نهار- وعلى القول الآخر- وهو أنه بقي يتكلم يقال: إن
الناس اشتغلوا بعد بنقل ما هو أعجب من ذلك من أحواله كإحياء
الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، والإخبار عن الغيوب، والخلق من
الطين كهيئة الطير حتى لم يذكر التكلم منهم إلا النزر ولا زال
الأمر بقلة حتى لم يبق مخبر عن ذلك وبقي مكتوما إلى أن أظهره
القرآن.
وبعد هذا كله لك أن تقول لا نسلم إجماع النصارى على عدم تكلمه
في المهد، وظاهر الأخبار، وقد تقدم بعضها يشير إلى أن بعضهم
قائل بذلك، وبفرض إجماعهم نهاية ما يلزم الاستبعاد وهو بعد
إخبار الصادق لا يسمن ولا يغني من جوع عند من رسخ إيمانه. وقوى
إيقانه، وكم أجمع أهل الكتابين على أشياء نطق القرآن الحق
بخلافها والحق أحق بالاتباع، ولعل مرامهم من ذلك أن يطفئوا نور
الله بأفواههم وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ
وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [التوبة:
32] والكهل ما بين الشاب والشيخ، ومنه اكتهل النبت إذا طال
وقوى، وقد ذكر غير واحد أن ابن آدم ما دام في الرحم فهو جنين،
فإذا ولد فهو وليد ثم ما دام يرضع فهو رضيع، ثم إذا قطع اللبن
فهو فطيم، ثم إذا دب ونما فهو دارج، فإذا بلغ خمسة أشبار فهو
خماسي فإذا سقطت رواضعه فهو مثغور، فإذا نبتت أسنانه فهو- مثغر
بالتاء والثاء- كما قال أبو عمرو- فإذا قارب عشر سنين أو
جاوزها فهو مترعرع وناشئ، فإذا كان يبلغ الحلم أو بلغه فهو
يافع ومراهق، فإذا احتلم واجتمعت قوته فهو حزور، واسمه في جميع
هذه الأحوال غلام فإذا اخضرّ شاربه وأخذ عذاره يسيل قيل: قد
بقل وجهه، فإذا صار ذا فتاء فهو فتى وشارخ. فإذا اجتمعت لحيته
وبلغ غاية شبابه فهو مجتمع، ثم ما دام بين الثلاثين والأربعين
فهو شاب، ثم كهل إلى أن يستوفي الستين.
ويقال لمن لاحت فيه أمارات الكبر وخطه الشيب، ثم يقال شاب، ثم
شمط، ثم شاخ، ثم كبر، ثم هرم، ثم دلف، ثم خرف، ثم اهتر،
ومحاظله- إذا مات- وهذا الترتيب إنما هو في الذكور- وأما في
الإناث فيقال للأنثى ما دامت صغيرة: طفلة، ثم وليدة إذا تحركت،
ثم كاعب إذا كعب ثديها ثم ناهد، ثم معصر إذا أدركت، ثم عانس
إذا ارتفعت عن حد الاعصار، ثم خود إذا توسطت الشباب، ثم مسلف
إذا جاوزت الأربعين، ثم نصف إذا كانت بين الشباب والتعجيز، ثم
شهلة كهلة إذا وجدت من الكبر- وفيها بقية وجلد- ثم شهربة إذا
عجزت- وفيها تماسك- ثم حيزبون إذا صارت عالية السن ناقصة
العقل، ثم قلعم ولطلط إذا انحنى قدّها وسقطت أسنانها.
وعلى ما ذكر في سن الكهولة يراد بتكليمه عليه السلام كهلا
تكليمه لهم كذلك بعد نزوله من السماء وبلوغه ذلك السن بناء على
ما ذهب إليه سعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم، وغيرهما
«أنه عليه السلام رفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة
وأنه سينزل إلى الأرض ويبقى حيا فيها أربعا وعشرين سنة» كما
رواه ابن جرير بسند صحيح عن كعب الأحبار،
ويؤيد هذا ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: قد
كلمهم عيسى في المهد وسيكلمهم إذا قتل الدجال وهو يومئذ كهل
وَمِنَ الصَّالِحِينَ أي ومعدودا في عدادهم وهو معطوف على
الأحوال السابقة قالَتْ استئناف مبني على السؤال كأنه قيل:
فماذا كان منها حين قالت لها الملائكة ذلك؟ فقيل: قالت رَبِّ
أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ يحتمل أن يكون الاستفهام مجازيا
والمراد التعجب من ذلك والاستبعاد العادي، ويحتمل أن يكون
حقيقيا على معنى أنه يكون بتزوج أو غيره، وقيل: يحتمل أن يكون
استفهاما عن أنه من أي شخص يكون، وإعراب هذه الجملة على نحو
إعراب الجملة السابقة في قصة زكريا عليه السلام وَلَمْ
يَمْسَسْنِي بَشَرٌ جملة حالية محققة لما مر ومقوية له،
والمسيس هنا كناية عن الوطء وهذا نفي عام للتزوج وغيره، والبشر
يطلق على الواحد والجمع،
(2/157)
والتنكير للعموم، والمراد عموم النفي لا
نفي العموم، وسمي بشرا لظهور بشرته أو لأن الله تعالى باشر
أباه وخلقه بيديه قالَ استئناف كسابقه، والفاعل ضمير الرب،
والملك حكى لها المقول وهو قوله سبحانه: كَذلِكِ اللَّهُ
يَخْلُقُ ما يَشاءُ.
إما بلا تغيير فيكون فيه التفات، وإما بتغيير، وقيل: إن الله
تعالى قال لها ذلك بلا واسطة ملك، والأول مبني على أنه تعالى
لم يكلم غير الأنبياء بل غير خاصتهم عليهم الصلاة والسلام،
وقيل: القائل جبريل عليه السلام وليس على سبيل الحكاية
والقرينة عليه ذكر الملائكة عليهم السلام قبله، وحمل رَبِّ
فيما تقدم على ذلك أبعد بعيد، وقد مر عليك الكلام في مثل هذه
الجملة خلا أن التعبير هنا- بيخلق- وهناك- بيفعل- لاختلاف
القصتين في الغرابة فإن الثانية أغرب فالخلق المنبئ عن
الاختراع أنسب بها ولهذا عقبه ببيان كيفيته فقال سبحانه: إِذا
قَضى أَمْراً أي أراد شيئا- فالأمر- واحد الأمور، والقضاء في
الأصل الأحكام، وأطلق على الإرادة الإلهية القطعية المتعلقة
بإيجاد المعدوم وإعدام الموجود وسميت بذلك لا يجابها ما تعقلت
به البتة ويطلق على الأمر، ومنه وَقَضى رَبُّكَ [الإسراء:
23] فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي فهو- يكون: أي
يحدث وهذا عند الأكثرين تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر
المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار
إلى مزاولة عمل واستعمال آلة، فالممثل الشيء المكون بسرعة من
غير عمل وآلة، والممثل به أمر الآمر المطاع لمأمور به مطيع على
الفور، وهذا اللفظ مستعار لذلك منه.
وأنت تعلم أنه يجوز فيه أن يكون حقيقة بأن يراد تعلق الكلام
النفسي بالشيء الحادث على أن كيفية الخلق على هذا الوجه، وعلى
كلا التقديرين المراد من هذا الجواب بيان أن الله تعالى لا
يعجزه أن يخلق ولدا بلا أب لأنه أمر ممكن في نفسه فيصح أن يكون
متعلق الإرادة والقدرة كيف لا وكثيرا ما نشاهد حدوث كثير من
الحيوانات على سبيل التولد كحدوث الفأر عن المدر. والحيات عن
الشعر المتعفن. والعقارب عن البادورج. والذباب عن الباقلاء إلى
غير ذلك غايته الاستبعاد. وهو لا يوجب ظنا فضلا عن علم، وبعد
إخبار الصادق عن وجود ذلك الممكن يجب القطع بصحته، والقول: بأن
المادة فيما عد ونحوه موجودة وبعد وجودها لا ريب في الإمكان
دون ما نحن فيه لأن مادة الآدمي منيان وليس هناك إلا مني واحد
أو لا مني أصلا فكيف يمكن الخلق- ليس بشيء أما على مذهبنا فلان
الإيجاد لا يتوقف على سبق المادة وإلا لتسلسل الأمر، وأما على
مذهب المنكرين فيجوز أن يكون مني الأنثى بنفسه أو بما ينضم
إليه مما لا يعلمه إلا الله تعالى بحالة يصلح أن يكون مادة،
وقصارى ما يلزم من ذلك الاستبعاد وهو لا يجدي نفعا في أمثال
هذه المقامات، ويجوز أيضا أن يقيم الله تعالى غير المني مقام
المني، وأي محال يلزم من ذلك ألا ترى كيف أقيم التراب مقام
المني في أصل النوع ودعوى أن الإقامة مشروطة يكون ذلك الغير
خارج الرحم، وأما الإقامة في الرحم فمما لا إمكان لها غير بينة
ولا مبينة بل العقل لا يفرق بين الأمرين في الإمكان وإنما يفرق
بينهما في موافقة العادة وعدمها وهو أمر وراء ما نحن فيه.
ومن الناس من بين هذا المطلب بأن التخيلات الذهنية كثيرا ما
تكون أسبابا لحدوث الحوادث كتصور حضور المنافي للغضب وكتصور
السقوط بحصول السقوط للماشي على جذع ممدود فوق فضاء بخلافه لو
كان على قرار من الأرض وقد جعلت الفلاسفة هذا كالأصل في بيان
جواز المعجزات والكرامات- فما المانع أن يقال: إنها لما تخيلت
صورة جبريل كفى ذلك في علوق الولد في رحمها لأن مني الرجل ليس
إلا لأجل العقد فإذا حصل الانعقاد لمني المرأة بوجه آخر أمكن
علوق الولد انتهى- وليس بشيء لأنه يعود بالنقص لحضرة البتول.
وإنها لتنزه ساحتها عن
(2/158)
|