روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني

وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)

مثل هذا التخيل كما لا يخفى، وفي جواب هذه الظاهرة ليوسف النجار ما يؤيد ما قلناه،
فقد أخرج إسحق بن بشر.
وابن عساكر عن وهب أنه قال: لما استقر حمل مريم وبشرها جبريل وثقت بكرامة الله تعالى واطمأنت وطابت نفسا، وأول من اطلع على حملها ابن خال لها يقال له يوسف، واهتم لذلك وأحزنه وخشي البلية منه لأنه كان يخدمها فلما رأى تغير لونها وكبر بطنها عظم عليه ذلك فقال معرضا لها: هل يكون زرع من غير بذر؟! قالت: نعم قال: وكيف يكون ذلك قال: إن الله تعالى خلق البذر أول من غير نبات وأنبت الزرع الأول من غير بذر، ولعلك تقول: لم يقدر أن يخلق الزرع الأول إلا بالبذر؟ ولعلك تقول: لولا أن استعان الله تعالى عليه بالبذر لغلبه حتى لا يقدر على أن يخلقه ولا ينبته؟ قال يوسف أعوذ بالله أن أقول ذلك قد صدقت وقلت بالنور والحكم، وكما قدر أن يخلق الزرع الأول وينبته من غير بذر يقدر أن يجعل زرعا من غير بذر فأخبريني هل ينبت الشجر من غير ماء ولا مطر؟ قالت: ألم تعلم أن للبذر.
والماء. والمطر. والشجر خالقا واحدا فلعلك تقول لولا الماء والمطر لم يقدر على أن ينبت الشجر؟ قال أعوذ بالله تعالى أن أقول ذلك قد صدقت فأخبريني خبرك قالت: بشرني الله تعالى بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إلى قوله تعالى: وَمِنَ الصَّالِحِينَ فعلم يوسف أن ذلك أمر من الله تعالى لسبب خير أراده بمريم فسكت عنها فلم تزل على ذلك حتى ضربها الطلق فنوديت أن اخرجي من المحراب فخرجت.
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ عطف على يُبَشِّرُكِ أي إن الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ ويعلم ذلك المولود المعبر عنه بالكلمة الْكِتابَ ولا يرد عليه طول الفصل لأنه اعتراض لا يضر مثله، أو على- يخلق- أي كذلك الله يخلق ما يشاء وَيُعَلِّمُهُ أو على- يكلم فتكون في محل نصب على الحال والتقدير- يبشرك بكلمة مكلما الناس ومعلما الكتاب- أو على وَجِيهاً وجوز أن تكون جملة مستأنفة ليست داخلة في حيز قول الملائكة عليهم السلام، والواو- تكون للاستئناف وتقع في ابتداء الكلام كما صرح به النحاة فلا حاجة- كما قال الشهاب- إلى التأويل بأنها معطوفة على جملة مستأنفة سابقة وهي وَإِذْ قالَتِ إلخ ولا إلى مقدرة، ولا إشكال في العطف كما قال النحرير، وكذا لا يدعي أن الواو زائدة كما قال أبو حيان، فهذه أوجه من الإعراب مختلفة بالأولوية، وأغرب ما رأيته ما نقله الطبرسي عن بعضهم أن العطف على جملة نُوحِيهِ إِلَيْكَ بل لا يكاد يستطيبه من سلم له ذوقه، والْكِتابَ

(2/159)


مصدر بمعنى الكتابة أي يعلمه الخط باليد- قاله ابن عباس وإليه ذهب ابن جريج،
وروي عنه أنه قال: أعطى الله تعالى عيسى عليه السلام تسعة أجزاء من الخط وأعطى سائر الناس جزءا واحدا،
وذهب أبو علي الجبائي إلى أن المراد بعض الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه عليهم السلام سوى التوراة والإنجيل مثل الزبور وغيره، وذهب كثيرون إلى أن- أل- فيه للجنس والمراد جنس الكتب الإلهية إلا أن المأثور هو الأول، والقول- بأن المراد بالكتاب الجنس لكن في ضمن فردين هما التوراة والإنجيل، وتجعل الواو فيما بعد زائدة مقحمة وما بعدها بدلا أو عطف بيان- من الهذيان بمكان.
وقرأ أهل المدينة، وعاصم، ويعقوب، وسهل- ويعلمه- بالياء، والباقون بالنون قيل: وعلى ذلك لا يحسن بعض تلك الوجوه إلا بتقدير القول أي إن الله- يبشرك بعيسى- ويقول: يُعَلِّمُهُ أو وجيها ومقولا فيه نعلمه الكتاب وَالْحِكْمَةَ أي الفقه وعلم الحلال والحرام- قال ابن عباس- وقيل: جميع ما علمه من أمور الدين، وقيل: سنن الأنبياء عليهم السلام، وقيل: الصواب في القول والعمل، وقيل: إتقان العلوم العقلية، وقد تقدم الكلام على ذلك وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أفردا بالذكر على تقدير أن يراد بالكتاب ما يشملهما لوفور فضلهما وسمو شأوهما على غيرهما، وتعليمه ذلك قيل: بالإلهام، وقيل: بالوحي، وقيل: بالتوفيق والهداية للتعلم، وقد صح أنه عليه السلام لما رعرع- وفي رواية الضحاك عن ابن عباس- لما بلغ سبع سنين أسلمته أمه إلى المعلم لكن الروايات متضافرة أنه جعل يسأل المعلم كلما ذكر له شيئا عما هو بمعزل عن أن ينبض فيه ببنت شفة، وذلك يؤيد أن علمه محض موهبة إلهية وعطية ربانية، وذكر- الإنجيل- لكونه كان معلوما عند الأنبياء والعلماء متحققا لديهم أنه سينزل وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ منصوب بمضمر يجر إليه المعنى معطوفا على نعلمه أي ونجعله رسولا- وهو الذي اختاره أبو حيان- وقيل: إنه منصوب بمضمر معمول لقول مضمر معطوف على- يعلمه- أي ويقول عيسى أرسلت رسولا، ولا يخفى أن عطف هذا القول على يُعَلِّمُهُ إذا كان مستأنفا مما ليس فيه كثير بأس، وأما على تقدير عطفه على يُبَشِّرُكِ أو يَخْلُقُ فقد طعن فيه العلامة التفتازاني بأنه يكون التقدير- إن الله يبشرك- أو إن الله يخلق ما يشاء- ويقول عيسى كذا، وفيه العطف على الخبر ولا رابط بينهما إلا بتكلف عظيم، وفي البحر: إن هذا الوجه مطلقا ضعيف إذ فيه إضمار شيئين القول ومعموله، والاستغناء عنهما باسم منصوب على الحال المؤكدة، واختار بعضهم عطفه على الأحوال المتقدمة مضمنا معنى النطق فلا يضر كونها في حكم الغيبة مع كون هذا في حكم التكلم إذ يكون المعنى حال كونه- وجيها- وَرَسُولًا ناطقا بكذا، والرسول على سائر التقادير صفة كشكور وصبور، وفعول هنا بمعنى مفعل، واحتمال- أن يكون مصدرا كما قال أبو البقاء مثله في قول الشاعر: أبلغ أبا سلمى رَسُولًا تروعه ويجعل معطوفا فاعلي الْكِتابَ أي ويعلمه رسالة- بعيد لفظا ومعنى، أما الأول فلأن المتبادر الوصفية لا المصدرية، وأما ثانيا فلأن تعليم الرسالة مما لا يكاد يوجد في كلامهم، والظرف إما متعلق- برسولا- أو بمحذوف وقع صفة له أي- رسولا كائنا إلى بني إسرائيل أي كلهم، قيل: وتخصيصهم بالذكر للإيذان بخصوص بعثته، أو للرد على من زعم من اليهود أنه مبعوث إلى غيرهم.
ولي في نسبة هذا الزعم لبعض اليهود تردد- وليس ذلك في الكتب المشهورة- والذي رأيناه فيها أنهم في عيسى الذي قص الله تعالى علينا من أمره ما قص فرقتان: فرقة ترميه- وحاشاه بأفظع ما رمت به أمة نبيها- وهم أكثر اليهود، وفرقة يقال لهم العنانية أصحاب عنان بن داود رأس الجالوت يصدقونه في مواعظه وإشاراته ويقولون: إنه لم يخالف التوراة البتة بل قررها ودعا الناس إليها، وإنه من المستجيبين لموسى عليه السلام، ومن بني إسرائيل المتعبدين

(2/160)


وليس برسول ولا نبي، ويقولون: إن سائر اليهود ظلموه حيث كذبوه أولا ولم يعرفوا مدعاه وقتلوه آخرا ولم يعرفوا مرامه ومغزاه، نعم من اليهود فرقة يقال لهم العيسوية- أصحاب أبي عيسى إسحق بن يعقوب الأصفهاني الذي يسميه بعضهم بعرقيد الوهيم- يزعمون: إن لله تعالى رسولا بعد موسى عليه السلام يسمى المسيح إلا أنه لم يأت بعد ويدعون أن له خمسة من الرسل يأتون قبله واحدا بعد واحد وأن صاحبهم هذا أحد رسله- وكل من هذه الأقوال بعيد- عما ادعاه صاحب القيل بمراحل- ولعله وجد ما يوافق دعواه، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.
هذا واختلف في زمن رسالته عليه السلام فقيل: في الصبا وهو ابن ثلاث سنين. وفي البحر: أن الوحي أتاه بعد البلوغ وهو ابن ثلاثين سنة فكانت نبوته ثلاث سنين قيل: وثلاثة أشهر وثلاثة أيام. ثم رفع إلى السماء وهو القول المشهور، وفيه أن أول أنبياء بني إسرائيل يوسف. وقيل: موسى وآخرهم عيسى- على سائرهم أفضل الصلاة وأكمل السلام- وقرأ اليزيدي- ورسول- بالجر على أنه معطوف على كلمة- أي يبشرك بكلمة وبرسول- أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ معمول- لرسولا- لما فيه من معنى النطق. وجوز أبو البقاء كونه معمولا لمحذوف وقع صفة- لرسولا- أي رسولا ناطقا. أو مخبرا بأني. وكونه بدلا من رَسُولًا إذا جعلته مصدرا أي ونعلمه أنى قد جئتكم، أو خبرا لمبتدأ محذوف على تقدير المصدرية أيضا أي هو أني، فالمنسبك إما في محل جر. أو نصب. أو رفع، وقوله تعالى:
بِآيَةٍ في موضع الحال أي محتجا أو متلبسا بآية أو متعلق- بجئتكم- والباء للملابسة أو للتعدية، والتنوين للتفخيم دون الوحدة لظهور ما ينافيها، وقرئ بآيات مِنْ رَبِّكُمْ متعلق بمحذوف وقع صفة- لآية- وجوز تعلقه بجئت، ومِنْ في التقديرين لابتداء الغاية مجازا، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأكيد إيجاب الامتثال لما سيأتي من الأوامر، أو لأن وصف الربوبية يناسب حال الإرسال إليهم، وقوله تعالى: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بدل من قوله سبحانه: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ أو من آية أو منصوب على المفعولية لمحذوف أي أعني، أو مرفوع على أنه خبر لمقدر أي هي أَنِّي إلخ وقرأ نافع «إني» بكسر الهمزة على الاستئناف، والمراد بالخلق التصوير والإبراز على مقدار معين لا الإيجاد من العدم كما يشير إليه ذكر المادة، والهيئة مصدر بمعنى المهيأ كالخلق بمعنى المخلوق، وقيل: إنها اسم لحال الشيء وليست مصدرا وإنما المصدر الهيء والتهيؤ فهي على الأول جوهر وعلى الثاني عرض، وفسروها بالكيفية الحاصلة- من إحاطة الحد الواحد أو الحدود- بالجسم، والمعنى أنى أقدر- لأجل تحصيل إيمانكم ودفع تكذيبكم إياي- من الطين شيئا مثل الطير المهيأ أو هيئة كائنة كهيئته. والكاف إما اسم- كما ذهب إليه أبو الحسن- في موضع نصب على المفعولية- لأخلق- أو نعت لمفعول محذوف له، وإما حرف- كما ذهب إليه الجمهور- فتتعلق بمحذوف وقع نعتا أيضا لما وقع هو نعتا له على تقدير الاسمية. وقرأ يزيد وحمزة- كهية- بتشديد الياء. وكان ابن المقسم يقول: بلغني أن خلفا يقول: إن حمزة يترك الهمزة ويحرك الياء بحركتها. وقرأ أهل المدينة ويعقوب- الطائر- ومثله في المائدة فَأَنْفُخُ فِيهِ الضمير للهيئة المقدرة في نظم الكلام لكن بمعنى الشيء المهيأ لا بمعنى العرض القائم به إذ لا يصح أن يكون ذلك محلا للنفخ. وذكر الضمير هنا مراعاة للمعنى كما أنث في المائدة مراعاة للفظ قيل: وصح هذا لعدم الإلباس، ووقع في كلام غير واحد كون الضمير للكاف بناء على أنها اسم. ويعود ذلك في الحقيقة إلى عود الضمير إلى الموصوف بها. واعترضه ابن هشام بأنه لو كان كما زعموا لسمع في الكلام مررت- بكالأسد- وبعضهم بأن عود الضمير إليها غير معهود. وقرئ- فيها- فَيَكُونُ طَيْراً حيا طيارا كسائر الطيور.
وقرأ المفضل- فتكون- بتاء التأنيث، ويعقوب، وأبو جعفر، ونافع- طائرا- بِإِذْنِ اللَّهِ متعلق- بيكون- أو-

(2/161)


بطيرا- والمراد بأمر الله، وأشار بذلك إلى أن إحياءه من الله تعالى ولكن بسبب النفخ، وليس ذلك لخصوصية في عيسى عليه السلام وهي تكونه من نفخ جبريل عليه السلام وهو روح محض- كما قيل- بل لو شاء الله تعالى الإحياء بنفخ أي شخص كان لكان من غير تخلف ولا استعصاء، قيل: وفي هذه المعجزة مناسبة لخلقه من غير أب، واختلف هل كان ذلك بطلب واقتراح أم لا؟ فذهب المعظم إلى الأول قالوا: إن بني إسرائيل طلبوا منه على سبيل التعنت جريا على عادتهم مع أنبيائهم أن يخلق لهم خفاشا فلما فعل قالوا: ساحر وإنما طلبوا هذا النوع دون غيره لأنه أكمل الطير خلقا وأبلغ دلالة على القدرة لأن له نابا وأسنانا، ويحيض، ويلد، ويطير بغير ريش، وله آذان، وثدي، وضرع، ويخرج منه اللبن، ويرى ضاحكا كما يضحك الإنسان، ولا يبصر في ضور النهار، ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جدا، والمشهور أنه لم يخلق غير الخفاش، وأخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز عن خلق الله تعالى بلا واسطة، وقيل: خلق أنواعا من الطير.
وذهب بعضهم إلى الثاني
فقد أخرج ابن جرير عن ابن إسحق أن عيسى عليه السلام جلس يوما مع غلمان من الكتاب فأخذ طينا، ثم قال: أجعل لكم من هذا الطين طائرا؟ قالوا: أو تستطيع ذلك؟ قال: نعم بإذن ربي، ثم هيأه حتى إذا جعله في هيئة الطائر نفخ فيه، ثم قال: كن طائرا بإذن الله تعالى فخرج يطير من بين كفيه، وخرج الغلمان بذلك من أمره فذكروه لمعلمهم وأفشوه في الناس
وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ عطف على أَخْلُقُ فهو داخل في حيز أَنِّي والْأَكْمَهَ هو الذي ولد أعمى أخرجه ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عطاء عنه أنه الممسوح العين الذي لم يشق بصره ولم يخلق له حدقة، قيل: ولم يكن في صدر هذه الأمة أكمه بهذا المعنى غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير، وعن مجاهد أنه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، وعن عكرمة أنه الأعمش أي أخلص الْأَكْمَهَ من الكمه وَالْأَبْرَصَ وهو الذي به الوضح المعروف وتخصيص هذين الأمرين لأنهما أمران معضلان أعجزا الأطباء وكانوا في غاية الحذاقة مع كثرتهم في زمنه، ولهذا أراهم الله تعالى المعجزة من جنس الطب كما أرى قوم موسى عليه السلام المعجزة بالعصا واليد البيضاء حيث كان الغالب عليهم السحر، والعرب المعجزة بالقرآن حيث كان الغالب عليهم عصر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم البلاغة، والاقتصار على هذين الأمرين لا يدل على نفي ما عداهما
لقد روى أنه عليه السلام أبرأ أيضا غيرهما،
وروى عن وهب أنه ربما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى خمسون ألفا من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق ذلك منهم أتاه عيسى عليه السلام فمشى إليه، وكان يداويهم بالدعاء إلى الله تعالى بشرط الإيمان وكان دعاؤه الذي يدعو به للمرضى والزمنى والعميان والمجانين وغيرهم «اللهم أنت إله من في السماء وإله من في الأرض لا إله فيهما غيرك وأنت جبار من في السماء وجبار من في الأرض لا جبار فيهما غيرك وأنت ملك من في السماء وملك من في الأرض لا ملك فيهما غيرك قدرتك في الأرض كقدرتك في السماء وسلطانك في الأرض كسلطانك في السماء أسألك باسمك الكريم ووجهك المنير وملكك القديم إنك على كل شيء قدير»
ومن خواص هذا الدعاء- كما قال وهب- أنه إذا قرئ على الفزع والمجنون وكتب له وسقى منه نفع إن شاء الله تعالى- وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ عطف على خبر أَنِّي وقيد الأحياء بالاذن كما فعل في الأول لأنه خارق عظيم يكاد يتوهم منه ألوهية فاعله لأنه ليس من جنس أفعال البشر وكان إحياؤه بالدعاء وكان دعاؤه- يا حي يا قيوم-
وخبر «إنه كان إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتين يقرأ في الأولى تبارك الذي بيده الملك، وفي الثانية تنزيل السجدة فإذا فرغ مدح الله تعالى وأثنى عليه ثم

(2/162)


دعا بسبعة أسماء: يا قديم، يا خفي، يا دائم، يا فرد، يا وتر، يا أحد، يا صمد»
قال البيهقي: ليس بالقوي، وقيل: إنه كان إذا أراد أن يحيي ميتا ضرب بعصاه الميت، أو القبر، أو الجمجمة فيحيا بإذن الله تعالى ويكلمه ويموت سريعا.
وأخرج محيي السنة عن ابن عباس أنه قال: قد أحيا عليه السلام أربعة أنفس: عازر، وابن العجوز، وابنة العاشر، وسام بن نوح. فأما عازر فكان صديقا له فأرسلت أخته إلى عيسى أن أخاك عازر مات وكان بينه وبين عازر مسيرة ثلاثة أيام فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام فقال لاخته: انطلقي بنا إلى قبره فانطلقت معهم إلى قبره فدعا الله تعالى عيسى فقام عازر وودكه يقطر فخرج من قبره وبقي زمانا وولد له.
وأما ابن العجوز فمر به ميتا على عيسى عليه السلام على سرير يحمل فدعا الله تعالى عيسى فجلس على سريره ونزل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي زمانا وولد له، وأما ابنة العاشر فكان أبوها رجلا يأخذ العشور ماتت له بنت بالأمس فدعا الله تعالى وأحياها وبقيت زمانا وولد لها.
وأما سام بن نوح فإن عيسى عليه السلام جاء إلى قبره فدعى باسم الله تعالى الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفا من قيام الساعة ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان فقال: أقد قامت الساعة؟ قال: لا ولكن دعوتك باسم الله تعالى الأعظم ثم قال له: مت قال: بشرط أن يعيذني الله تعالى من سكرات الموت فدعا الله تعالى له ففعل، وفي بعض الآثار أن إحياءه ساما كان بعد قولهم له عليه السلام إنك تحيي من كان قريب العهد من الموت ولعلهم لم يموتوا بل أصابتهم سكتة فأحي لنا سام بن نوح فأحياه وكان بينه وبين موته أكثر من أربعة آلاف سنة فقال للقوم: صدقوه فإنه نبي فآمن به بعضهم وكذبه آخرون فقالوا: هذا سحر فأرنا آية فنبأهم بما يأكلون وما يدخرون، وقد ورد أيضا أنه عليه السلام أحيا ابن ملك ليستخلفه في قصة طويلة، وأحيا خشفا وشاة وبقرة
ولفظ الْمَوْتى يعم كل ذلك.
وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ «ما» في الموضعين موصولة، أو نكرة موصوفة والعائد محذوف- أي تأكلونه وتدخرونه- والظرف متعلق بما عنده وليس من باب التنازع والادخار- الخبء- وأصل تَدَّخِرُونَ تذتخرون بذال معجمة فتاء فأبدلت التاء ذالا ثم أبدلت الذال دالا وأدغمت، ومن العرب من يقلب التاء دالا ويدغم، وقد كان هذا الإخبار بعد النبوة وإحيائه الموتى عليه السلام على ما في بعض الأخبار، وقيل: قبل،
فقد أخرج ابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: كان عيسى عليه السلام وهو غلام يلعب مع الصبيان يقول لأحدهم: تريد أن أخبرك ما خبأت لك أمك؟ فيقول: نعم فيقول: خبأت لك كذا وكذا فيذهب الغلام منهم إلى أمه فيقول لها: أطعميني ما خبأت لي فتقول: وأي شيء خبأت لك؟ فيقول: كذا وكذا فتقول: من أخبرك؟! فيقول: عيسى ابن مريم فقالوا: والله لأن تركتم هؤلاء الصبيان مع عيسى ليفسدنهم فجمعوهم في بيت وأغلقوه عليهم فخرج عيسى يلتمسهم فلم يجدهم حتى سمع ضوضاهم في بيت فسأل عنهم فقال: ما هؤلاء أكان هؤلاء الصبيان؟ قالوا: لا إنما هي قردة وخنازير قال: اللهم اجعلهم قردة وخنازير فكانوا كذلك،
وذهب بعضهم أن ذلك كان بعد نزول المائدة وأيد بما أخرجه عبد الرزاق وغيره عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه في الآية أنه قال: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ من المائدة وَما تَدَّخِرُونَ منها، وكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا ولا يدخروا فادخروا وخانوا فجعلوا قردة وخنازير، ويمكن أن يقال: إن كل ذلك قد وقع- وعلى سائر التقادير- فالمراد الأخبار بخصوصية هذين الأمرين كما يشعر به الظاهر، وقيل: المراد الأخبار بالمغيبات إلا أنه قد اقتصر على ذكر أمرين منها ولعل وجه تخصيص الإخبار بأحوالهم لتيقنهم بها فلا يبقى لهم شبهة، والسر في ذكر هذين الأمرين بخصوصهما أن غالب سعي الإنسان وصرف ذهنه لتحصيل الأكل الذي به قوامه والادخار الذي يطمئن به أكثر القلوب ويسكن منه غالب النفوس فليفهم.

(2/163)


وقرئ- «تذخرون» - بالذال المعجمة والتخفيف إِنَّ فِي ذلِكَ أي المذكور من الخوارق الأربعة العظيمة، وهذا من كلام عيسى عليه السلام حكاه الله تعالى عنه، وقيل: هو من كلام الله تعالى سيق للتوبيخ لَآيَةً أي جنسها، وقرئ لآيات لَكُمْ دالة على صحة الرسالة دلالة واضحة حيث لم يكن ذلك بتخلل آلات وتوسط أسباب عادية كما يفعله الأطباء والمنجمون.
ومن هنا يعلم أن علم الجفر، وعلم الفلك، ونحوهما لما كانت مقرونة بأصول وضوابط لا يقال عنها: إنها علم غيب أبدا إذ علم الغيب شرطه أن يكون مجردا عن المواد والوسائط الكونية وهذه العلوم ليست كذلك لأنها مرتبة على قواعد معلومة عند أهلها لولاها ما علمت تلك العلوم، وليس ذلك كالعلم بالوحي لأنه غير مكتسب بل الله تعالى يختص به من يشاء وكذا العلم بالإلهام فإنه لا مادة له إلا الموهبة الالهية والمنحة الأزلية على أن بعضهم ذهب إلى أن تلك العلوم لا يحصل بها العلم المقابل للظن بل نهاية ما يحصل الظن الغالب وبينه وبين علم الغيب بون بعيد. وسيأتي لهذا تتمة إن شاء الله تعالى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فيه مجاز المشارفة أي إن كنتم موفقين للإيمان. ويحتمل أن يكون المعنى إن كنتم مصدقين. وجواب الشرط على التقديرين محذوف أي انتفعتم بذلك وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ عطف إما على المضمر الذي تعلق به قوله تعالى: بِآيَةٍ أي قد جئتكم محتجا، أو متلبسا بِآيَةٍ إلخ وَمُصَدِّقاً لِما إلخ، وإما على رَسُولًا وفيه معنى النطق مثله، وجوز أن يكون منصوبا بفعل دل عليه قَدْ جِئْتُكُمْ أي وجئتكم مصدقا إلخ. وقوله سبحانه: مِنَ التَّوْراةِ في موضع نصب على الحال من الضمير المستتر في الظرف والعامل فيه الاستقرار، أو الظرف نفسه لقيامه مقام الفعل، ويجوز أن يكون حالا من «ما» فيكون العامل فيه مُصَدِّقاً ومعنى تصديقه عليه السلام للتوراة الإيمان بأن جميع ما فيها حكمة وصواب. وقيل: إن تصديقه لها مجيئه رَسُولًا طبق ما بشرت به وَلِأُحِلَّ لَكُمْ معمول لمقدر بعد الواو أي- وجئتكم لأحل- فهو من عطف الجملة على الجملة، أو معطوف على بِآيَةٍ من قوله سبحانه: جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ لأنه في معنى- لأظهر لكم آية ولأحل- فلا يرد أنه لا يصح عطف المفعول له على المفعول به، أو معطوف على مُصَدِّقاً ويلتزم التأويل بما يجعلهما من باب واحد، وإن كان الأول حالا، والثاني مفعولا له فكأنه قيل: جئتكم لأصدق ولأحل، وقيل: لا بد من تقدير- جئتكم- فيها كلها إذ لا يعطف نوع من المعمولات على نوع آخر.
بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ أي في شريعة موسى عليه السلام.
أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن الربيع أنه قال: كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى عليهما السلام وكان قد حرم عليهم فيما جاء به موسى عليه السلام لحوم الإبل والثروب فأحلها لهم على لسان عيسى وحرمت عليهم شحوم الإبل فأحلت لهم فيما جاء به عيسى، وفي أشياء من السمك، وفي أشياء من الطير ما لا صيصية له، وفي أشياء أخر حرمها عليهم وشدد عليهم فيها فجاء عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله، وهذا يدل على أن الإنجيل مشتمل على أحكام تغاير ما في التوراة وأن شريعة عيسى نسخت بعض شريعة موسى، ولا يخل ذلك بكونه مصدقا للتوراة فإن النسخ بيان لانتهاء زمان الحكم الأول لا رفع وإبطال كما تقرر، وهذا مثل نسخ القرآن بعضه ببعض، وذهب بعضهم إلى أن الإنجيل لم يخص أحكاما ولا حوى حلالا وحراما ولكنه رموز، وأمثال، ومواعظ، وزواجر، وما سوى ذلك من الشرائع والأحكام فمحالة على التوراة، وإلى أن عيسى عليه السلام لم ينسخ شيئا مما في التوراة، وكان يسبت ويصلي نحو البيت المقدس، ويحرم لحم الخنزير، ويقول بالختان إلا أن النصارى غيروا ذلك بعد رفعه فاتخذوا يوم الأحد بدل يوم السبت لما أنه أول يوم

(2/164)


الأسبوع، ومبدأ الفيض، وصلوا نحو المشرق لما تقدم، وحملوا الختان على ختان القلب وقطعه عن العلائق الدنيوية والعوائق عن الحضرة الالهية وأحلوا لحم الخنزير مع أن مرقس حكى في إنجيله أن المسيح أتلف الخنزير وغرق منه في البحر قطيعا كبيرا وقال لتلامذته: لا تعطوا القدس الكلاب ولا تلقوا جواهركم قدام الخنازير فقرنها بالكلاب، وسبب ذلك زعمهم أن بطرس رأى في النوم صحيفة نزلت من السماء، وفيها صور الحيوانات، وصورة الخنزير، وقيل له: يا بطرس كل منها ما أحببت ونسب هذا القول إلى وهب بن منبه، والذاهبون إليه أولوا الآية بأن المراد ما حرمه علماؤهم تشهيا أو خطأ في الاجتهاد، واستدلوا على ذلك بأن المسيح عليه السلام قال في الإنجيل: ما جئت لأبطل التوراة بل جئت لأكملها، ولا يخفى أن تأويل الآية بما أولوه به بعيد في نفسه، ويزيده بعدا أنه قرئ- «حرّم» - بالبناء للفاعل وهو ضمير ما بَيْنَ يَدَيَّ أو الله تعالى، وقرئ أيضا- «حرم» - بوزن كرم، وأن ما ذكروه من كلام المسيح عليه السلام لا ينافي النسخ لما علمت أنه ليس بإبطال وإنما هو بيان لانتهاء الحكم الأول، ومعنى التكميل ضم السياسة الباطنة التي جاء بها إلى السياسة الظاهرة التي جاء بها موسى عليه السلام- على ما قيل- أو نسخ بعض أحكام التوراة بأحكام هي أوفق بالحكمة وأولى بالمصلحة وأنسب بالزمان، وعلى هذا يكون قول المسيح حجة للأولين لا عليهم، ولعل ما ذهبوا إليه هو المعول عليه كما لا يخفى على ذوي العرفان وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ الكلام فيه كالكلام في نظيره، وقرئ- بآيات- فَاتَّقُوا اللَّهَ في عدم قبول ما جئتكم به وَأَطِيعُونِ فيما آمركم به وأنهاكم بأمر الله تعالى إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ بيان للآية المأتي بها على معنى هي قولي: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ. ولما كان هذا القول مما أجمع الرسل على حقيته ودعوا الناس اليه كان آية دالة على رسالته، وليس المراد بالآية على هذا المعجزة ليرد أن مثل هذا القول قد يصدر عن بعض العوام بل المراد أنه بعد ثبوت النبوة بالمعجزة كان هذا القول لكونه طريقة الأنبياء عليهم السلام علامة لنبوته تطمئن به النفوس، وجوز أن يراد من الآية المعجزة على طرز ما مر، ويقال: إن حصول المعرفة والتوحيد والاهتداء للطريق المستقيم في الاعتقادات والعبادات عمن نشأ بين قوم غيروا دينهم وحرفوا كتب الله تعالى المنزلة وقتلوا أنبياءهم ولم يكن ممن تعلم من بقايا أخبارهم من أعظم المعجزات وخوارق العادات.
أو يقال من الجائز أن يكون قد ذكر الله تعالى في التوراة إذا جاءكم شخص من نعته كذا وكذا يدعوكم إلى كيت وكيت فاتبعوه فإنه نبي مبعوث إليكم فإذا قال: أنا الذي ذكرت بكذا وكذا من النعوت كان من أعظم الخوارق، وقرئ- «أن الله» - بفتح همزة- أن- على أن المنسبك بدل من آية أو أن المعنى جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ دالة على أن الله إلخ، ومثل هذا محتمل على قراءة الكسر أيضا لكن بتقدير القول، وعلى كلا التقديرين يكون قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ اعتراضا، وقد ذكر غير واحد أن الظاهر أن هذه الجملة معطوفة على جملة جِئْتُكُمْ الأولى وكررت ليتعلق بها معنى زائد وهو قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي أو للاستيعاب كقوله تعالى: «فارجع البصر كرتين» (1) أي جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ بعد أخرى مما ذكرت لكم من خلق الطير، وإبراء الأكمه، والأبرص، والأحياء، والإنباء بالمخفيات، ومن ولادتي بغير أب. ومن كلامي في المهد ونحو ذلك، والكلام الأول لتمهيد الحجة عليهم، والثاني لتقريبها إلى الحكم وهو إيجاب حكم تقوى الله تعالى وطاعته ولذلك جيء بالفاء في فَاتَّقُوا اللَّهَ كأنه قيل: لما جئتكم بالمعجزات الباهرات والآيات الظاهرات فَاتَّقُوا اللَّهَ إلخ، وعلى هذا يكون قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ إلخ ابتداء كلام
__________
(1) كذا في المصدر، والقراءة في مصاحفنا ثُمَّ ارْجِعِ ...

(2/165)


وشروعا في الدعوة المشار إليها بقول مجمل، فإن الجملة الاسمية المؤكدة بأن للإشارة إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد، وقوله تعالى: فَاعْبُدُوهُ
إشارة إلى استكمال القوة العملية فإنه ملازمة الطاعة التي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي، وتعقيب هذين الأمرين بقوله سبحانه: هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ تقرير لما سبق ببيان أن الجمع بين الأمرين الاعتقاد الحق، والعمل الصالح هو الطريق المشهود له بالاستقامة، ومعنى قراءة الفتح على ما ذكر- لأن الله- ربي وربكم فاعبدوه- فهو كقوله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قريش: 1] إلخ، والإشارة إما إلى مجموع الأمرين، أو إلى الأمر الثاني المعلول للأمر الأول، والتنوين إما للتعظيم أو للتبعيض، وجملة هذا إلخ على ما قيل: استئناف لبيان المقتضى للدعوة.
هذا «والإشارة في هذه الآيات ظاهرة كالعبارة» سوى أن تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس يحتاج إلى بيان فنقول: قال الله سبحانه: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ أي ملائكة القوى الروحانية لمريم النفس الطاهرة الزكية إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ لكمال استعدادك ووفور قابليتك وَطَهَّرَكِ عن الرذائل والأخلاق الردية وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ النفوس الشهوانية المتدرعة بجلباب الأفعال الذميمة يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ أي دوامي على الطاعة له بالائتمار بما أمر والانزجار عما نهى وَاسْجُدِي في مساجد الذل وَارْكَعِي في محاريب الخضوع مع الخاضعين فإن في ذلك إقامة مراسم العبودية وأداء حقوق الربوبية، ولله تعالى در من قال:
ويحسن إظهار التجلد للعدا ... ويقبح إلا العجز عند الحبائب
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي من أخبار غيب وجودك نُوحِيهِ إِلَيْكَ يا نبي الروح وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أي لدى القوى الروحانية والنفسانية، والمراد ما كنت ملتفتا إليهم بل كنت في شغل شاغل عنهم إِذْ يُلْقُونَ أقلام استعداداتهم التي يكتبون بها صحف أحوالهم وتوراة أطوارهم ويطرحونها في بحر التدبير أَيُّهُمْ يَكْفُلُ ويدبر مَرْيَمَ النفس بحسب رأيه ومقتضى طبعه وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ في مقام الصدر الذي هو محل اختصام القوى في طلب الرياسة قبل الرياضة وفي حالها إِذْ قالَتِ ملائكة القوى الروحانية حين غلبت يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بمقتضى التوجه إليه بِكَلِمَةٍ مِنْهُ جامعة لحروف الأكوان وهو القلب المحيط بالعوالم اسْمُهُ الْمَسِيحُ لأنه يمسحك بالنور، أو لأنه مسح به وَجِيهاً فِي الدُّنْيا لتدبيره أمر المعاش فيطيعه أنس القوى الظاهرة وجن القوى الباطنة، ووجيها في الآخرة لقيامه بتدبير المعاد فيطيعه ملكوت سماء الأرواح، أو شريفا مرفوعا في الدنيا وهي عبارة عن تجلي الأفعال، وفي الآخرة وهي عبارة عن تجلي الأسماء وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي المعدودين من جملة مقربي الحضرة القابلين لتجلي الذات،
وفي الخبر «ما وسعتني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن»
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ بما يرشدهم في مهد البدن وقت تغذيه بلبان السلوك إلى ملك الملوك وَكَهْلًا بالغا طور شيخ الروح وواصلا وسط الطريق قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ مثل هذا وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وهو تعجب من ولادتها ذلك من غير تربية معلم بشري لما أن العادة جرت بأن الوصول إلى المقامات العلية إنما هو بواسطة شيخ مرشد يعرف الطريق ويدفع الآفات، وقد شاع أن الإنسان متى سلك بنفسه ضل أو لم يفز بكثير، ومن كلامهم الشجرة التي تنبت بنفسها لا تثمر قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ فله أن يصطفي من شاء من غير تربية مرب ولا إرشاد مرشد بل بمجرد الجذبة الالهية، وهذا شأن المرادين وبعض المريدين:
رب شخص تقوده الأقدار ... للمعالي وما لذاك اختيار

غافل والسعادة احتضنته ... وهو عنها مستوحش نفار

(2/166)


وَيُعَلِّمُهُ بالتعليم الإلهي الغني عما يعهد من الوسائط كتاب العلوم المعقولة وحكم الشرائع ومعارف الكتب الالهية من توراة الظاهر وإنجيل الباطن ويجعله رسولا إلى الروحانيين من بني إسرائيل الروح قائلا: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ من عالم الغيب بآية عظيمة وهي أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ بالتربية من طين النفوس البشرية كَهَيْئَةِ الطائر إلى جناب القدس بجناحي الرجاء والخوف فَأَنْفُخُ فِيهِ بنفث العلم الإلهي ونفس الحياة الحقيقة فَيَكُونُ طَيْراً أي نفسا حية طائرة في فضاء الجمال والجلال إلى رياض جناب الحق سبحانه بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ أي الأعمى المحجوب برؤية الأغيار عن رؤية نور الأنوار وَالْأَبْرَصَ المبتلى بأمراض الرذائل والعقائد الفاسدة التي أوجبت مخالفة لون بشرته الفطرية وَأُحْيِ موتى الجهل بحياة العلم الحقيقية بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ أي تتناولون من الشهوات واللذات وَما تَدَّخِرُونَ في بيوت نياتكم من الآمال التي هي كسراب بقيعة إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور لَآيَةً لَكُمْ نافعة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ توراة الظاهر فإنه أحد المظاهر وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ بسبب عنادكم وقصركم الحق على بعض مظاهره، وأشير بذلك إلى علم الباطن، والمراد من البعض إما الكل على حد ما قيل في قوله تعالى: يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر: 28] وإما ظاهر معناه فيكون إشارة إلى أن من الباطن ما يحرم كشفه، فقد قال مولانا زين العابدين:
ورب جوهر علم لو أبوح به ... لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا

ولا استحل أناس مسلمون دمي ... يرون أقبح ما يأتونه حسنا

وقد تقدم في هذا أبو حسن ... إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا
وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ بعد أخرى مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفتي وَأَطِيعُونِ فيما فيه كمال نشأتكم إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فهو الذي يوصلكم إلى ما فيه كمالكم فَاعْبُدُوهُ بالذل والانكسار والوقوف على بابه بالعجز والافتقار وامتثلوا أمره ونهيه هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ يوصلكم إليه ويفد بكم عليه فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ شروع في بيان مآل أحواله عليه السلام، وقيل: يحتمل أن يكون كله من قبل الملائكة شرحا لطرف منها داخلا تحت القول، ويحتمل أن يكون الكلام قد تم عند قوله تعالى: وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ولا يكون أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ إلخ متعلقا بما قبله، ولا يكون داخلا تحت القول ويكون المحذوف هناك فجاء عيسى كما بشر الله تعالى رسولا إلى بني إسرائيل- بأني قد جئتكم بآية من ربكم- الآية، والفاء هنا مفصحة بمثل المقدر هناك على التقدير الثاني، وأصل الاحساس الإدراك بإحدى الحواس الخمس الظاهرة وقد استعير هنا استعارة تبعية للعلم بلا شبهة، وقيل: إنه مجاز مرسل عن ذلك من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم والداعي لذلك أن الكفر مما لا يحس، والقول- بأن المراد إحساس آثار الكفر- ليس بشيء، والمراد من الكفر إصرارهم عليه وعتوهم فيه من العزيمة على إيقاع مكروه به عليه السلام، وقد صح أنه عليه السلام لقي من اليهود قاتلهم الله تعالى شدائد كثيرة.
أخرج إسحق بن بشر، وابن عساكر من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «كان اليهود يجتمعون على عيسى عليه السلام ويستهزئون به ويقولون له: يا عيسى ما أكل فلان البارحة وما ادخر في بيته لغد؟! فيخبرهم ويسخرون منه حتى طال ذلك به وبهم وكان عيسى عليه السلام ليس له قرار ولا موضع يعرف إنما هو سائح في الأرض فمر ذات يوم بامرأة قاعدة عند قبر وهي تبكي فسألها فقالت: ماتت ابنة لي لم يكن لي ولد غيرها فصلى عيسى ركعتين ثم نادى يا فلانة قومي بإذن الرحمن فاخرجي فتحرك القبر. ثم نادى الثانية فانصدع القبر. ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنقض رأسها من التراب فقالت: يا أماه ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين؟ يا أماه اصبري واحتسبي فلا

(2/167)


حاجة لي في الدنيا يا روح الله سل ربي أن يردني إلى الآخرة وأن يهون علي كرب الموت فدعا ربه فقبضها إليه فاستوت عليها الأرض فبلغ ذلك اليهود فازدادوا عليه غضبا» وروي عن مجاهد أنهم أرادوا قتله ولذلك استنصر قومه،
ومن- لابتداء الغاية متعلق- بأحس- أي ابتدأ الاحساس من جهتهم وجوز أبو البقاء أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الكفر أي لما أحس الكفر حال كونه صادرا منهم.
قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ المقول لهم الحواريون كما يشير إليه آية- الصف- كما قال عيسى ابن مريم للحواريين الآية. وكونه- جميع بني إسرائيل لقوله تعالى: فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ [الصف:
14] ليس بشيء إذ الآية ليست بنص في المدعى إذ يكفي في تحقق الانقسام بلوغ الدعوة إلى الجميع، والأنصار- جمع نصير كالأشراف جمع شريف، وقال قوم: هو جمع نصر، وضعفه أبو البقاء إلا أن يقدر فيه مضاف أي من صاحب نصرى، أو تجعله مصدرا وصف به، والجار والمجرور إما أن يتعلق بمحذوف وقع حالا من الياء وهي مفعول به معنى، والمعنى من ينصرني حال كوني ملتجئا إلى الله تعالى أو ذاهبا إلى الله، إما أن يتعلق- بأنصاري- مضمنا معنى الإضافة أي من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله في نصري، وفي الكشاف في تفسير سورة الصف ما حاصله مما يخالف ما ذكره هنا أن إضافة أنصار- للياء إضافة ملابسة أي من حزبي ومشاركي في توجهي لنصرة الله تعالى ليطابق جوابهم الآتي ولا يصح أن يكون معناه من ينصرني مع الله لعدم المطابقة، وفيه أن عدم المطابقة غير مسلم إذ نصرة الله تعالى في الجواب ليست على ظاهرها بل لا بد من تجوز، أو إضمار في نصرهم لله تعالى ويضمر ما تحصل به المطابقة، نعم كون إِلَى بمعنى- مع- لا يخلو عن شيء فقد ذكر الفراء أنها إنما تكون كذلك إذا ضم شيء آخر نحو الذود إلى الذود إبل أي إذا ضممته إليه صار إبلا، ألا تراك تقول قدم زيد ومعه مال، ولا تقول: وإليه مال- وكذا نظائره- فالسالم عن هذا الحمل من التفاسير مع اشتماله على قلة الإضمار أولى، ومَنْ هنا اختار بعضهم كون إلى بمعنى اللام، وآخرون كونها بمعنى- في..
وقال في الكشف لعل الأشبه في معنى الآية- والله تعالى أعلم- أن يحمل على معنى- من ينصرني منهيا نصره إلى الله تعالى- كما يقتضيه حرف الانتهاء دون تضمين كأنه عليه السلام طلب منهم أن ينصروه لله تعالى لا لغرض آخر مدمجا أن نصرة الله تعالى في نصرة رسوله، وجوابهم المحكي عنهم بقوله سبحانه:
قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ شديد الطباق له كأنهم قالوا: نحن ناصروك لأنه نصر الله تعالى للغرض الذي رمز إليه، ولو قالوا مكانه: نحن أنصارك لما وقع هذا الموقع انتهى.
وأنت تعلم أن جعل إِلَى بمعنى اللام، أو في التعليليتين يحصل طلبة المسيح التي أشير إليها على وجه لعله أقل تكلفا مما ذكر، وكأن اختيار ذلك لما قاله الزجاج: من أنه لا يجوز أن يقال: إن بعض الحروف من حروف المعاني بمعنى الآخر لكن الحرفين قد يتقاربان في الفائدة فيظن الضعيف العلم باللغة أن معناهما واحد وليس بذلك فليفهم، والحواريون- جمع حواري يقال: فلان حواري فلان أي خاصته من أصحابه وناصره، وليس الحواري جمعا ككراسي على ما وهم بل هو مفرد منصرف كما صرح به المحققون، وذكر العلام التفتازاني أنه مفرد وألفه من تغييرات النسب وفيه أن الألف إذا زيدت في النسبة وغيرت بها تخفف الياء في الأفصح في أمثاله، والحواري بخلافه لأن تخفيف يائه شاذ كما صرحوا به، وبه قرئ في الآية، وأصله من التحوير أي التبييض، ومنه الخبز الحواري الذي نخل مرة بعد أخرى والحواريات للحضريات نساء المدن والقرى لما أنه يغلب فيهن البياض لعدم البروز للشمس، ويطلق الحواري على- القصار- أيضا لأنه يبيض الثياب وهو بلغة النبط، هواري بضم الهاء وتشديد الواو وفتح الراء قاله

(2/168)


الضحاك «واختلف» في سبب تسمية أولئك القوم بذلك فقيل: سموا بذلك لبياض ثيابهم- وهو المروي عن سعيد بن جبير- وقيل: لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب للناس- وهو المروي عن مقاتل وجماعة- وقيل: لنقاء قلوبهم وطهارة أخلاقهم- وإليه يشير كلام قتادة- وفي تعيين أنهم من أي الطوائف من الناس خلاف أيضا
فقيل: قوم كانوا يصطادون السمك فيهم يعقوب، وشمعون، ويوحنا فمر بهم عيسى عليه السلام فقال لهم: أنتم تصيدون السمك فإن اتبعتموني صرتم بحيث تصيدون الناس بالحياة الأبدية؟ فقالوا له: من أنت؟ قال: عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فطلبوا منه المعجزة، وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة فما اصطاد شيئا فأمر عيسى عليه السلام بإلقائها في الماء مرة أخرى ففعل فاصطاد ما ملأ سفينتين فعند ذلك آمنوا به عليه السلام،
وقيل: هم اثنا عشر رجلا، أو تسعة وعشرون من سائر الناس اتبعوا عيسى عليه السلام وكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روح الله جعنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج لكل واحد رغيفان، وإذا عطشوا قالوا: عطشنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج الماء فيشربون فقالوا: من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا وإذا شئنا أسقيتنا وقد آمنا بك؟ فقال: أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه فصاروا يغسلون الثياب بالكراء ويأكلون،
وقيل: إن واحدا من الملوك صنع طعاما وجمع الناس عليه وكان عيسى عليه السلام على قصعة فكانت القصعة لا تنقص فذكر ذلك للملك فذهب إليه الملك مع أقاربه فقالوا له: من أنت؟ قال: عيسى ابن مريم فقال الملك: إني تارك ملكي ومتبعك فتبعه مع أقاربه فأولئك هم الحواريون،
وقيل: إنه أمه دفعته إلى صباغ فكان إذا أراد أن يعلمه شيئا وجده أعلم به منه فغاب الصباغ يوما لمهم وقال له: هاهنا ثياب مختلفة وقد جعلت على كل منها علامة فاصبغها بتلك الألوان فطبخ عيسى عليه السلام حبا واحدا وجعل الجميع فيه، وقال: كوني بإذن الله كما أريد فرجع الصباغ فأخبره بما فعل فقال: أفسدت علي الثياب قال: قم فانظر فكان يخرج ثوبا أحمر، وثوبا أخضر، وثوبا أصفر كما كان يريد فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به وكانوا الحواريين،
ونقل جمع عن القفال أنه يجوز أن يكون بعضهم من الملوك. وبعضهم من الصيادين. وبعضهم من القصارين. وبعضهم من الصباغين. وبعضهم من سائر الناس وسموا جميعا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه السلام والمخلصين في محبته وطاعته.
والاشتقاق كيف كانوا هو الاشتقاق ومأخذه إما أن يؤخذ حقيقيا وإما أن يؤخذ مجازيا وهو الأوفق بشأن أولئك الأنصار، وقيل: إنه مأخوذ من حار بمعنى رجع. ومنه قوله تعالى: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ [الانشقاق: 14] وكأنهم سموا بذلك لرجوعهم إلى الله تعالى.
ومن الناس من فسر الحواري بالمجاهد فإن أريد بالجهاد ما هو المتبادر منه أشكل ذلك حيث إنه لم يصح أن عيسى عليه السلام أمر به وادعاه بعضهم مستدلا بقوله تعالى: فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ [الصف: 14] ولا يخفى أن الآية ليست نصا في المقصود لجواز أن يراد بالتأييد التأييد بالحجة وإعلاء الكلمة، وإن أريد بالجهاد جهاد النفس بتجريعها مرائر التكاليف لم يشكل ذلك.
نعم استشكل أن عيسى عليه السلام إذا لم يكن مأمورا بالقتال فما معنى طلبه الأنصار؟ وأجيب بأنه عليه السلام لما علم أن اليهود يريدون قتله استنصر للحماية منهم- كما قاله الحسن- ومجاهد- ولم يستنصر للقتال معهم على الايمان بما جاء به، وهذا هو الذي لم يؤمر به لا ذلك بل ربما يدعي أن ذلك مأمور به لوجوب المحافظة على حفظ النفس،
وقد روي أن اليهود لما طلبوه ليقتلوه قال للحواريين: أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقي فيه شبهي فيقتل مكاني؟ فأجابه إلى ذلك بعضهم، وفي بعض الأناجيل أن اليهود لما أخذوا عيسى عليه السلام سل شمعون سيفه فضرب به عبدا كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى بإذنه فقال له عيسى عليه السلام: حسبك ثم

(2/169)


أدنى أذن العبد فردها إلى موضعها فصارت كما كانت،
وقيل: يجوز أن يكون طلب النصرة للتمكين من إقامة الحجة ولتمييز الموافق من المخالف وذلك لا يستدعي الأمر بالجهاد كما أمر نبينا روح جسد الوجود صلى الله تعالى عليه وسلم وهو الظاهر لمن أنصف، والمراد من أنصار الله أنصار دينه ورسوله وأعوانهما على ما هو المشهور آمَنَّا بِاللَّهِ مستند لتلك الدعوى جارية مجرى العلة لها وَاشْهَدْ عطف على آمَنَّا ولا يضر اختلافهما إنشائية وإخبارية لما تحقق في محله، وقيل إن آمَنَّا لإنشاء الإيمان أيضا فلا اختلاف بأنّا مسلمون أي منقادون لما تريده منا ويدخل فيه دخولا أوليا نصرتهم له، أو بأن ديننا الإسلام الذي هو دين الأنبياء من قبلك فهو إقرار معنى بنبوة من قبله عليه السلام وهذا طلب منهم شهادته عليه السلام لهم يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم إيذانا- كما قال الكرخي- بأن مرمى غرضهم السعادة الأخروية وجاء فيه المائدة «بأننا» لأن ما فيها- كما قيل- أول كلام الحواريين فجاء على الأصل، وما هنا تكرار له بالمعنى فناسب فيه التخفيف لأن كلا من التخفيف والتكرار فرع، والفرع بالفرع أولى رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ عرض لحالهم عليه تعالى بعد عرضها على رسوله استمطارا لسحائب إجابة دعائهم الآتي، وقيل: مبالغة في إظهار أمرهم وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ أي امتثلنا ما أتى به منك إلينا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي محمد صلّى الله عليه وسلم وأمته لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم يشهد لهم بالصدق- رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وروى أبو صالح عنه أنهم من آمن من الأمم قبلهم، وقيل: المراد من الشَّاهِدِينَ الأنبياء لأن كل نبي شاهد لأمته وعليها، وقال مقاتل: هم الصادقون، وقال الزجاج: هم الشاهدون للأنبياء بالتصديق، وقيل: أرادوا مع المستغرقين في شهود جلالك بحيث لا نبالي بما يصل إلينا من المشاق والآلام فيسهل علينا الوفاء بما التزمنا من نصرة رسولك، وقيل: أرادوا اكتب ذكرنا في زمرة من شهد حضرتك من الملائكة المقربين كقوله تعالى: إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: 18] ولا يخفي ما في هذا الأخير من التكلف والمعنى على ما عداه أدخلنا في عداد أولئك، أو في عداد أتباعهم، وقيل: وعبروا عن فعل الله تعالى ذلك بهم بلفظ فَاكْتُبْنا إذ كانت الكتابة تقيد وتضبط ما يحتاج إلى تحقيقه وعلمه في ثاني حال، وقيل: المراد اجعل ذلك وقدره في صحائف الأزل.
ومن الناس من جعل الكتابة كناية عن تثبيتهم على الإيمان في الخاتمة، والظرف متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعول- اكتبنا- وَمَكَرُوا أي الذين أحس منهم الكفر إذ وكلوا به من يقتله غيلة وَمَكَرَ اللَّهُ بأن ألقى شبهة عليه السلام على غيره فصلب ورفعه إليه، قال ابن عباس: لما أراد ملك بني إسرائيل قتل عيسى عليه السلام دخل خوخة وفيها كوة فرفعه جبريل عليه السلام من الكوة إلى السماء فقال الملك لرجل منهم خبيث: ادخل عليه فاقتله فدخل الخوخة فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه السلام فخرج إلى أصحابه يخبرهم أنه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه وظنوا أنه عيسى وقال وهب: أسروه ونصبوا خشبة ليصلبوه فأظلمت الأرض فأرسل الله الملائكة فحالوا بينه وبينهم فأخذوا رجلا يقال له يهودا- وهو الذي دلهم على عيسى- وذلك أن عيسى جمع الحواريين تلك الليلة وأوصاهم ثم قال ليكفرنّ بي أحدكم قبل أن يصيح الديك فيبيعني بدراهم يسيرة فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه فأتى أحد الحواريين إليهم وقال: ما تجعلون لي إن دللتكم عليه؟ فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه السلام فأدخل البيت ورفع وقال: أنا الذي دللتكم عليه فلم يلتفتوا إلى قوله وصلبوه- وهم يظنون أنه عيسى- فلما صلب شبه عيسى وأتى على ذلك سبعة أيام قال الله تعالى لعيسى: اهبط على مريم ثم لتجمع لك الحواريين وبثهم في الأرض دعاة فهبط عليها واشتعل الجبل نورا فجمعت له الحواريين فبثهم في الأرض دعاة ثم رفعه

(2/170)


الله سبحانه، وتلك الليلة هي الليلة التي تدخن فيها النصارى فلما أصبح الحواريون قصد كل منهم بلدة من أرسله عيسى إليهم.
وروي عن غير واحد أن اليهود لما عزموا على قتله عليه السلام اجتمع الحواريون في غرفة فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة فأخبر بهم إبليس جمع اليهود فركب منهم أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة فقال المسيح للحواريين أيكم يخرج ويقتل ويكون معي في الجنة؟ فقال واحد منهم: أنا يا نبي الله فألقى عليه مدرعة من صوف وعمامة من صوف وناوله عكازه وألقى عليه شبه عيسى عليه السلام فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه وأما عيسى عليه السلام فكساه الله النور وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب ورفعه إليه، ثم إن أصحابه لما رأوا ذلك تفرقوا ثلاث فرق فقالت فرقة: كان الله تعالى فينا فصعد إلى السماء، وقالت فرقة أخرى: كان فينا ابن الله عز وجل ثم رفعه الله سبحانه إليه، وقالت فرقة أخرى منهم: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه إليه وهؤلاء هم المسلمون، فتظاهرت عليهم الفرقتان الكافرتان فقتلوهم
فلم يزل الإسلام مندرس الآثار إلى أن بعث الله تعالى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، وروي عن ابن إسحق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد رفع عيسى عليه السلام ولقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم وكان ملك اليهود من رعيته واسمه داود بن نوذا فقيل له: إن رجلا من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله تعالى وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص- فعل وفعل- فقال: لو علمت ذلك ما خليت بينهم وبينه ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام فأخبروه فبايعهم على دينهم وأنزل المصلوب فغيبه وأخذ الخشبة فأكرمها ثم غزا بني إسرائيل فقتل منهم خلقا عظيما، ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم ثم جاء بعده ملك آخر يقال له طيطوس وغزا بيت المقدس بعد رفع عيسى عليه السلام بنحو من أربعين سنة فقتل وسبى ولم يترك في بيت المقدس حجرا على حجر فخرج عند ذلك قريظة، والنضير إلى الحجاز.
هذا وأصل المكر قيل: الشر، ومنه «مكر الليل» إذا أظلم، وقيل: الالتفات ومنه- المكوّر- لضرب من الشجر ذي التفاف، واحده مكر، والممكورة من النساء للملتفة الخلق مطويته وفسره البعض بصرف الغير عما يقصده بحيلة، وآخرون باختداع الشخص لإيقاعه في الضرر، وفرقوا بينه وبين الحيلة بأنها قد تكون لإظهار ما يسر من الفعل من غير قصد إلى الإضرار، والمكر حيلة على الشخص توقعه في مثل الوهق، وقالوا: لا يطلق على الله تعالى إلا بطريق المشاكلة لأنه منزه عن معناه وغير محتاج إلى حيلة فلا يقال ابتداء مكر الله سبحانه- وإلى ذلك ذهب العضد وجماعة- وخالفهم الأبهري. وغيره فجوزوا الإطلاق بلا مشاكلة مستدلين بقوله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ [الأعراف: 99] فإنه نسب إليه سبحانه ابتداء.
ونقل عن الإمام أن المكر إيصال المكروه إلى الغير على وجه يخفي فيه، وأنه يجوز صدوره عنه تعالى حقيقة، وقال غير واحد: إنه عبارة عن التدبير المحكم وهو ليس بممتنع عليه تعالى،
وفي الحديث «اللهم امكر لي ولا تمكر بي»
ومن ذهب إلى عدم الإطلاق- إلا بطريق المشاكلة- أجاب عن الاستدلال بالآية ونحوها بأن ذلك من المشاكلة التقديرية كما في قوله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة: 138] ولا يخفى ما فيه، فالأولى القول بصحة الإطلاق عليه سبحانه ابتداء بالمعنى اللائق بجلاله جل جلاله، ومما يؤيد ذلك قوله سبحانه: وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أي أقواهم مكرا وأشدهم، أو أن مكره أحسن وأوقع في محله لبعده عن الظلم فإنه يبعد المشاكلة إِذْ قالَ اللَّهُ ظرف- لمكر- أو بمحذوف نحو وقع ذلك ولو قدر اذكر- كما في أمثاله- لم يبعد وتعلقه بالماكرين بعيد إذ لا يظهر وجه حسن لتقييد قوة مكره تعالى بهذا الوقت يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: هذا من

(2/171)


المقدم والمؤخر أي رافعك إلي ومتوفيك، وهذا أحد تأويلات اقتضاها مخالفة ظاهر الآية للمشهور المصرح به في الآية الأخرى، وفي
قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة» .
وثانيها أن المراد إني مستوف أجلك ومميتك حتف أنفك لا أسلط عليك من يقتلك فالكلام كناية عن عصمته من الأعداء وما هم بصدده من الفتك به عليه السلام لأنه يلزم من استيفاء الله تعالى أجله وموته حتف أنفه ذلك.
وثالثها أن المراد قابضك ومستوفي شخصك من الأرض- من توفى المال- بمعنى استوفاه وقبضه.
ورابعها أن المراد بالوفاة هنا النوم لأنهما أخوان ويطلق كل منهما على الآخر،
وقد روي عن الربيع أن الله تعالى رفع عيسى عليه السلام إلى السماء وهو نائم رفقا به،
وحكي هذا القول والذي قبله أيضا عن الحسن.
وخامسها أن المراد أجعلك كالمتوفى لأنه بالرفع يشبهه، وسادسها أن المراد آخذك وافيا بروحك وبدنك فيكون وَرافِعُكَ إِلَيَّ كالمفسر لما قبله، وسابعها أن المراد بالوفاة موت القوى الشهوانية العائقة عن إيصاله بالملكوت، وثامنها أن المراد مستقبل عملك، ولا يخلو أكثر هذه الأوجه عز بعد لا سيما الأخير، وقيل: الآية محمولة على ظاهرها،
فقد أخرج ابن جرير عن وهب أنه قال: توفى الله تعالى عيسى ابن مريم ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه إليه.
وأخرج الحاكم عنه أن الله تعالى توفى عيسى سبع ساعات ثم أحياه، وأن مريم حملت به ولها ثلاث عشرة سنة وأنه رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين، وأن أمه بقيت بعد رفعه ست سنين، وورد ذلك في رواية ضعيفة عن ابن عباس- والصحيح كما قاله القرطبي- أن الله تعالى رفعه من غير وفاة ولا نوم- وهو اختيار الطبري- والرواية الصحيحة عن ابن عباس، وحكاية أن الله تعالى توفاه سبع ساعات ذكر ابن إسحق أنها من زعم النصارى.
ولهم في هذا المقام كلام تقشعر منه الجلود، ويزعمون أنه في الإنجيل وحاشا الله ما هو إلا افتراء وبهتان عظيم، ولا بأس بنقله ورده فإن في ذلك ردّ عواهم فيه عليه السلام الربوبية على أتم وجه، فنقول: قالوا: بينما المسيح مع تلاميذه جالس ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر نيسان إذ جاء يهودا الأسخريوطي أحد الاثني عشر ومعه جماعة معهم السيوف والعصي من عند رؤساء الكهنة ومشايخ الشعب وقد قال لهم يهودا: الرجل الذي أقبل هو هو فأمسكوه فلما رأى يهودا المسيح قال: السلام عليك يا معلم ثم أمسكوه فقال يسوع: مثل ما يفعل باللصوص خرجتم لي بالسيوف والعصي وأنا عندكم في الهيكل كل يوم أعلم فلم تتعرضوا لي لكن هذه ساعة سلطان الظلمة فذهبوا به إلى رئيس الكهنة حيث تجتمع الشيوخ وتبعه بطرس من بعيد ودخل معه الدار ليلا وجلس ناحية منها متنكرا ليرى ما يؤول أمره إليه فالتمس المشايخ على يسوع شهادة يقتلونه بها فجاء جماعة من شهود الزور فشهد منهم اثنان أن يسوع قال: أنا أقدر أن أنقض هيكل الله تعالى وأبنيه في ثلاثة أيام فقال له الرئيس: ما تجيب عن نفسك بشيء؟
فسكت يسوع فأقسم عليه رئيس الكهنة بالله الحي أنت المسيح؟ فقال أنت قلت ذاك وأنا أقول لكم من الآن لا ترون ابن الإنسان حتى تروه جالسا عن يمين القوة وآتيا في سحاب السماء وأن ناسا من القيام هاهنا لا يذوقون الموت حتى يرون ابن الإنسان آتيا في ملكوته فلما سمع رئيس الكهنة ذلك شق ثيابه وقال: ما حاجتنا إلى شهادة يهودا قد سمعتم ماذا ترون في أمره؟ فقالوا: هذا مستوجب الموت فحينئذ بصقوا في وجه البعيد ولطموه وضربوه وهزئوا به وجعلوا يلطمون ويقولون: بين لنا من لطمك ولما كان من الغد أسلموه لفيلاطس القائد فتصايح الشعب بأسره- يصلب يصلب- فتحرج فيلاطس من قتله، وقال: أي شر فعل هذا فقال الشيوخ: دمه عليهم وعلى أولادهم فحينئذ ساقه جند القائد

(2/172)


إلى الابروطوريون فاجتمع عليه الشعب ونزعوه ثيابه وألبسوه لباسا أحمر وضفروا إكليلا من الشوك وتركوه على رأسه وجعلوا في يده قصبة ثم جثوا على ركبهم يهزئون به ويقولون: السلام عليك يا ملك اليهود وشرعوا يبصقون عليه ويضربونه في رأسه ثم ذهبوا به وهو يحمل صليبه إلى موضع يعرف بالجمجمة فصلبوه وسمروا يديه على الخشبة فسألهم شربة ماء فأعطوه خلا مدافا بمرّ فذاقه ولم يسغه وجلس الشرط فاقتسموا ثيابه بينهم بالقرعة وجعلوا عند رأسه لوحا مكتوبا هذا يسوع ملك اليهود استهزاء به، ثم جاؤوا بلصين فجعلوهما عن يمينه وشماله تحقيرا له وكان اليهود يقولون له: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك وإن كنت ابن الله كما تقول انزل عن الصليب، وقال اليهود: هذا يزعم أنه خلص غيره فكيف لم يقدر على خلاص نفسه إن كان متوكلا على الله تعالى فهو ينجيه مما هو فيه؟ ولما كان ست ساعات من يوم الجمعة صرخ يسوع وهو على الصليب بصوت عظيم- آلوى آلوى أيما صاصا- أي إلهي إلهي لم تركتني وخذلتني وأخذ اليهود سفنجة فيها خل ورفعها أحدهم على قصبة وسقاه، وقال آخر: دعوه حتى نرى من يخلصه فصرخ يسوع وأمال رأسه وأسلم الروح وانشق حجاب الهيكل وانشقت الصخور وتفتحت القبور وقام كثير من القديسين من قبورهم ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا للناس ولما كان المساء جاء رجل من ألزامه يسمى يوسف بلفائف نقية وتركه في قبر كان قد نحته في صخرة ثم جعل على باب القبر حجرا عظيما وجاء مشايخ اليهود من الغد الذي بعد الجمعة إلى فيلاطس القائد فقالوا: يا سيدي ذكرنا أن ذاك الضال كان قد ذكر لتلاميذه أنا أقوم بعد ثلاثة أيام فلو أمرت من يحرس القبر حتى تمضي المدة كي لا يأتي تلاميذه ويسرقوه ثم يشيعون في الشعب أنه قام فتكون الضلالة الثانية شرا من الأولى فقال لهم القائد: اذهبوا وسدوا عليه واحرسوه كما تريدون فمضوا وفعلوا ما أرادوا، وفي عشية يوم السبت جاءت مريم المجدلانية ومريم رفيقتها لينظرن إلى القبر.
وفي إنجيل مرقص إنما جاءت مريم يوم الأحد بغلس وإذا ملك قد نزل من السماء برجة عظيمة فألقى الحجر عن القبر وجلس عنده وعليه ثياب بيض كالبرق فكاد الحرس أن يموتوا من هيبته ثم قال للنسوة: لا تخافا قد علمت أنكما جئتما تطلبان يسوع المصلوب ليس هو هاهنا إنه قد قام تعالين انظرن إلى المكان الذي كان فيه الرب واذهبا وقولا لتلاميذه إنه سبقكم إلى الخليل فمضتا وأخبرتا التلاميذ ودخل الحراس وأخبروا رؤساء الكهنة الخبر فقالوا: لا تنطقوا بهذا ورشوهم بفضة على كتمان القضية فقبلوا ذلك منهم وأشاعوا أن التلاميذ جاؤوا وسرقوه ومهدت المشايخ عذرهم عند القائد ومضت الأحد عشر تلميذا إلى الخليل وقد شك بعضهم، وجاء لهم يسوع وكلمهم وقال لهم: اذهبوا فعمدوا كل الأمم وعلموهم ما أوصيكم به، وهو ذا أنا معكم إلى انقضاء الدهر انتهى.
«وهاهنا أمور» الأول أنه يقال للنصارى: ما ادعيتموه من قتل المسيح وصلبه أتنقلونه تواترا أو آحادا فإن زعموا أنه آحاد لم تتم بذلك حجة ولم يثبت العلم إذ الآحاد لم يؤمن عليهم السهو والغفلة والتواطؤ على الكذب، وإذا كان الآحاد يعرض لهم ذلك فيكف يحتج بقولهم في القطعيات؟ وإن عزوا ذلك إلى التواتر قلنا لهم: أحد شروط التواتر استواء الطرفين فيه والواسطة بأن يكون الإخبار في كل طبقة ممن لا يمكن مواطأته على الكذب فإن زعمتم أن خبر قتل المسيح كذلك أكذبتم نصوص الإنجيل الذي بأيديكم إذ قال نقلته الذين دونوه لكم- وعليه معولكم: إن المأخوذ للقتل كان في شرذمة قليلة من تلامذته فلما قبض عليه هربوا بأسرهم ولم يتبعه سوى بطرس من بعيد فلما دخل الدار حيث اجتمعوا نظرت جارية منهم إليه فعرفته فقالت: هذا كان مع يسوع فحلف أنه لا يعرف يسوع ولا يقول بقوله وخادعهم حتى تركوه وذهب. ولم يكد يذهب وأن شابا آخر تبعه وعليه إزار فتعلقوا به فترك إزاره بأيديهم وذهب عريانا فهؤلاء أصحابه وأتباعه لم يحضر أحد منهم بشهادة الإنجيل، وأما أعداؤه اليهود الذين تزعمون أنهم حضروا الأمر فلا

(2/173)


نسلم أنهم بلغوا عدد التواتر بل كانوا آحادا وهو أعداء يمكن تواطؤهم على الكذب على عدوهم إيهاما منهم أنهم ظفروا به وبلغوا منه أمانيهم فانخرم شرط التواتر.
ويؤيد هذا أن رؤساء الكهنة فيما زعمتم رشوا الحراس فلا يبعد أن تكون هذه العصابة من اليهود صلبوا شخصا من أصحاب يسوع وأوهموا الناس أنه المسيح لتتم لهم أغراضهم على أن الأخباريين ذكروا أن بختنصر قتل علماء اليهود في مشارق الأرض ومغاربها لأنهم حرفوا التوراة وزادوا فيها ونقصوا حتى لم يبق منهم إلا شرذمة، فالمخبرون لم يبلغوا حد التواتر في الطبقة الوسطى أيضا.
الثاني أن في هذا الفصل ما تحكم البداهة بكذبه، وما تضحك الثكلى منه، وما يبعده العقل مثل قوله للكهنة:
إنكم من الآن ما ترون ابن الإنسان- يريدون بالإنسان الرب سبحانه- فإنه لم يرد إطلاق ذلك عليه جل شأنه في كتاب، وقوله: إن ناسا من القيام هاهنا إلخ فانه لم ير أحد من القيام هناك قبل موتة عيسى عليه السلام آتيا في ملكوته، وقول الملك للنسوة: تعالين فانظرن إلى الموضع الذي كان فيه الرب فإنه يقال فيه: أرب يقبر وإله يلحد، أف لتراب يغشى وجه هذا الإله، وتبا لكفن ستر محاسنه، وعجبا للسماء كيف لم تبد- وهو سامكها- وللأرض لم تمد- وهو ماسكها- وللبحار كيف لم تغض- وهو مجريها- وللجبال كيف لم تسر- وهو مرسيها- وللحيوان كيف لم يصعق- وهو مشبعه- وللكون كيف لم يمحق- وهو مبدعه- سبحان الله كيف استقام الوجود والرب في اللحود، وكيف ثبت العالم على نظام والإله في الرغام إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: 156] على المصيبة بهذا الرب والرزية بهذا الإله لقد ثكلته أمه، وعدمه لا أبا لك قومه؟! وقوله: إلهي إلهي لم خذلتني فإنه ينافي الرضا بمرّ- القضاء، ويناقض التسليم لأحكام الحكيم، وذلك لا يليق بالصالحين فضلا عن المرسلين على أنه يبطل دعوى الربوبية التي تزعمونها والألوهية التي تعتقدونها، وقولهم: إنه قام كثير من القديسين من قبورهم إلخ فإنه كذب صريح لأنه لو كان صحيحا لأطبق الناس على نقله ولزال الشك عن تلك الجموع في أمر يسوع، وقولهم: مضت الأحد عشر تلميذا إلى الخليل إلخ فإنه قد انطفأ فيه سراج التلميذ الثاني عشر على ما يقتضيه قول المسيح: ويل لمن يسلم ابن الإنسان مع أن يسوع يزعمكم قال لتلاميذه الإثني عشر وفيهم يهودا الاسخريوطي الذي أسلمه للقتل إنكم ستجلسون يوم القيامة على اثنى عشر كرسيا تدينون اثني عشر سبط بني إسرائيل، وقولهم: إنهم سألهم شربة ماء فإنه في غاية البعد لأن الإنجيل مصرح بأن المسيح كان يطوي أربعين يوما وأربعين ليلة ومثله لا يجزع من فراق الماء ساعة لا سيما وقد كان يقول لتلاميذه: إن لي طعاما لا تعرفونه إلى غير ذلك.
«الثالث» إن ما ذكروا من قيام المسيح من قبره ليلة السبت مع صلبه يوم الجمعة مخالف لما رواه متى في إنجيله فإنه قال فيه: سأل اليهود المسيح أن يريهم آية فقال: الجيل الشرير الفاسق يطلب آية فلا يعطى إلا آية يونيان النبي- يعني يونس عليه السلام- لأنه أقام في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال وكذلك ابن الإنسان يقيم في بطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال.
«والرابع» أن في هذه القصة ما يدل دلالة واضحة على أن المصلوب هو الشبه وأن الله تعالى حمى المسيح عليه السلام عن الصلب كما سيتضح لك مع زيادة تحقيق عند قوله تعالى: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:
157] هذا وإنما أكد الحكم السابق اعتناء به أو لأن تسلط الكفار عليه جعل المقام مقام اعتقاد أنهم يقتلونه، وأراد سبحانه بقوله: وَرافِعُكَ إِلَيَّ رافعك إلى سمائي، وقيل: إلى كرامتي، وعلى كل فالكلام على حذف مضاف إذ من المعلوم أن البارئ سبحانه ليس بمتحيز في جهة، وفي رفعه إلى أي سماء خلاف والذي اختاره الكثير من العارفين أنه

(2/174)


رفع إلى السماء الرابعة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه رفعه إلى السماء الدنيا فهو فيها يسبح مع الملائكة ثم يهبطه الله تعالى عند ظهور الدجال على صخرة بيت المقدس.
وفي الخازن أن سبحانه لما رفعه عليه السلام إليه كساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش وصار إنسيا ملكيا أرضيا سماويا، وأورد بعض الناس هاهنا إشكالات وهي أن الله تعالى كان قد أيده بجبريل عليه السلام كما قال سبحانه: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة: 87، 253] ثم إن طرف جناح من أجنحة جبريل كان يكفي للعالم فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود عنه؟! وأيضا أنه عليه السلام لما كان قادرا على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فكيف لم يقدر على إماتتهم ودفع شوكتهم. أو على إسقامهم وإلقاء الزمانة والفلج عليهم حتى يصيروا عاجزين من التعرض له؟ وأيضا لما خلصه من الأعداء بأن رفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء شبهه على الغير؟ وأجيب عن الكل بأن بناء التكليف على الاختيار، ولو أقدر الله تعالى جبريل، أو عيسى عليهما السلام على دفع الأعداء، أو رفعه من غير إلقاء شبهه إلى السماء لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء، والقول- بأن فتح باب إلقاء الشبه يوجب ارتفاع الأمان عن المحسوسات وأنه يفضي إلى سقوط الشرائع وإبطال التواتر، وأيضا إن في ذلك الإلقاء تمويها وتخليطا وذلك لا يليق بحكمة الله تعالى- ليس بشيء، أما أولا فلأن إلقاء شبه شخص على آخر وإن كان ممكنا في نفسه إلا أن الأصل عدم الإلقاء واستقلال كل من الحيوان بصورته التي هي له، نعم لو أخبر الصادق بإلقاء صورة شخص على آخر قلنا به واعتقدناه فحينئذ لا يرتفع الأمان عن المحسوسات بل هي باقية على الأصل فيها فيما لم يخبر الصادق بخلافه على أن إبطال التواتر بفتح هذا الباب ممنوع لأنه لم يشترط في الخبر أن يكون عن أمر ثابت في نفس الأمر بل يكفي فيه كونه عن أمر محسوس على ما قاله بعض المحققين، وأما ثانيا فلأن التمويه والتلبيس إن كان على الأعداء فلا نسلم أنه مما لا يليق بالحكمة وإن كانت النجاة مما تمكن بدون الإلقاء وإن كان ذلك على أوليائه فلا نسلم أن في الإلقاء تمويها لأنهم كانوا عارفين يقينا إن المطلوب الشبه لا عيسى عليه السلام كما ستعرفه إن شاء الله تعالى، والقول- بأن المطلوب قد ثبت بالتواتر أنه بقي حيا زمانا طويلا فلولا أنه كان عيسى لأظهر الجزع وعرف نفسه ولو فعل ذلك لاشتهر وتواتر- ليس بشيء أيضا، أما أولا فلأن دعوى تواتر بقاء المصلوب حيا زمانا طويلا مما لم يثبتها برهان. والثابت أن المصلوب إنما صلب في الساعة الثانية من يوم الجمعة ومات في الساعة السادسة من ذلك اليوم وأنزل ودفن، ومقدار أربع ساعات لا يعد زمانا طويلا كما لا يخفى، وأما ثانيا فلأن عدم تعريف المصلوب نفسه إما لأنه أدركته دهشة منعته من البيان والإيضاح، أو لأن الله تعالى أخذ على لسانه فلم يستطع أن يخبر عن نفسه صونا لنبيه عليه السلام أن يفصح الرجل عن أمره، أو لأنه لصديقيته آثر المسيح بنفسه وفعل ذلك بعهد عهده إليه رغبة في الشهادة، ولهذا ورى في الجواب الذي نقلته النصارى في القصة وقد وعد المسيح عليه السلام التلاميذ- على ما نقلوا قبل- بقولهم لو دفعنا إلى الموت معك لمتنا والشبه من جملتهم فوفى بما وعد من نفسه على عادة الصديقين من أصحاب الأنبياء عليهم السلام فهو من رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23] ، ومن ذهب إلى أن الشبه كان من الأعداء لا من الأولياء روي أنه جعل يقول لليهود عند الصلب: لست المسيح وإنما أنا صاحبكم لكنه لم يسمع ولم يلتفت إلى قوله وصلبوه، والقول- بأنه لو كان ذلك لتواتر- لا يخفى ما فيه لمن أحاط بما ذكرناه خبرا فتأمل وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يحتمل أن يكون تطهيره عليه السلام بتبعيده منهم بالرفع، ويحتمل أن يكون بنجاته مما قصدوا فعله به من القتل، وفي الأول جعلهم كأنهم نجاسة، وفي الثاني جعل فعلهم كذلك والأول هو الظاهر- وإلى الثاني ذهب الجبائي.

(2/175)


والمراد من الموصول اليهود، وأتى بالظاهر- على ما قيل- دون الضمير: إشارة إلى علة النجاسة وهي الكفر.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن الحسن أن المراد من الموصول: اليهود، والنصارى، والمجوس، وكفار قومه وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ قال قتادة. والحسن، وابن جريج. وخلق كثير: هم أهل الإسلام اتبعوه على ملته وفطرته من أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم اليهود وسائر من شمله هذا المفهوم فإن المؤمنين يعلونهم بالحجة، أو السيف في غالب الأمر.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد أن المراد من الموصول الأول النصارى، ومن الثاني اليهود وقد جعل سبحانه النصارى فوق اليهود فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق اليهود في شرق الدنيا وغربها، وعلى هذا يكون المراد من الأتباع مجرد الادعاء والمحبة ولا يضر في غلبتهم على اليهود غلبة المسلمين عليهم، وإذا أريد بالأتباع ما يشمل أتباع المسلمين، وهذا الأتباع يصح أن يراد بالمتبعين ما يشمل المسلمين والنصارى مطلقا من آمن به قبل مجيء نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ونسخ شريعته، ومن آمن بزعمه بعد ذلك- وقد يراد من الأتباع- الأتباع بالمعنى الأول فيجوز أن يراد من المبتعين المسلمون، والقسم الأول من النصارى، وتخصيص المتبعين بهذه الأمة- وحمل الأتباع على المجيء بعد- مما لا ينبغي أن يخرج عليه الكتاب الكريم كجعل الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأن الوقف على الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ متعلق بالجعل أو بالاستقرار المقدر في الظرف، وليس المراد إن ذلك ينتهي حينئذ ويتخلص الَّذِينَ كَفَرُوا من الذلة بل المراد أن المتبعين يعلونهم إلى تلك الغاية فأما بعدها فيفعل الله تعالى ما يريد.
ومن الناس من حمل الفوقية- على العلو الرتبي والفوقية بحسب الشرف وجعل التقييد بيوم القيامة للتأبيد كما في قولهم ما دامت السماء، وما دار الفلك بناء على ظن أن عدم انتهاء علو المؤمنين وذلة الكافرين إلى ذلك اليوم موجب لهذا الجعل- وليس بذلك ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي مصيركم بعد يوم القيامة ورجوعكم، والضمير لعيسى عليه السلام والطائفتين، وفيه تغليب على الأظهر، وثُمَّ للتراخي وتقديم الظرف للقصر المفيد لتأكيد الوعد والوعيد، ويحتمل أن يكون الضمير لمن اتبع وكفر فقط، وفيه التفات للدلالة على شدة إرادة إيصال الثواب والعقاب لدلالة الخطاب على الاعتناء.
فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أي فأقضي بينكم إثر رجوعكم إليّ ومصيركم بين يدي فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمور الدين، أو من أمر عيسى عليه السلام، والظرف متعلق بما بعده وقدم رعاية للفواصل.
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً تفسير للحكم المدلول عليه بقوله سبحانه: فَأَحْكُمُ وتفصيل له على سبيل التقسيم بعد الجمع، وإلى ذلك ذهب كثير من المحققين، واعترض بأن الحكم مرتب على الرجوع إلى الله تعالى وذلك في القيامة لا محالة، فكيف يصح تفسيره بالعذاب المقيد بقوله تعالى: فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ؟
وأجيب بوجوه، الأول أن المقصود التأبيد وعدم الانقطاع من غير نظر إلى الدنيا والآخرة، الثاني أن المراد بالدنيا والآخرة مفهومهما اللغوي أي الأول والآخر، ويكون ذلك عبارة عن الدوام وهذا أبعد من الأول جدا.
الثالث ما ذكر صاحب الكشف من أن المرجع أعم من الدنيوي والأخروي، وقوله سبحانه: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ غاية الفوقية لا غاية الجعل، والرجوع متراخ عن الجعل وهو غير محدود على وزان قولك: سأعيرك سكنى هذا البيت إلى شهر ثم أخلع عليك بثوب من شأنه كذا وكذا فإنه يلزم تأخر الخلع عن الإعارة لا الخلع، وعلى هذا توفية الأجر لغنم الدارين، ولا يخفى أن في لفظ كُنْتُمْ في قوله جل وعلا: فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ بعض نبوة

(2/176)


عن هذا المعنى، وأن المعنى- أحكم بينكم في الآخرة فيما كنتم فيه تختلفون في الدنيا.
الرابع أن العذاب في الدنيا هو الفوقية عليهم، والمعنى أضم إلى عذاب الفوقية السابقة عذاب الآخرة قال في الكشف: وفيه تقابل حسن وإن هذه الفوقية مقدمة عذاب الآخرة ومؤكدته، وإدماج أنها فوقية عدل لا تسلط وجود، ولا يخفى أنه بعيد من اللفظ جدا إذ معنى أعذبه في الدنيا والآخرة ليس إلا أني أفعل عذاب الدارين إلا أن يقال: إن اتخاذ الكل لا يلزم أن يكون باتخاذ كل جزء فيجوز أن يفعل في الآخرة تعذيب الدارين بأن يفعل به عذاب الآخرة وقد فعل في الدنيا عذاب الدنيا فيكون تمام العذابين في الآخرة.
الخامس أن في الدنيا والآخرة متعلق- بشديد- تشديدا لأمر الشدة وليس بشيء كما لا يخفى، والأولى من هذا كله ما ذكره بعض المحققين أن يحمل معنى ثُمَّ على التراخي والرتبي والترقي من كلام إلى آخر لا على التراخي في الزمان فحينئذ لا يلزم أن يكون رجوعهم إلى الله تعالى متأخرا عن الجعل في الزمان سواء كان قوله جل شأنه: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ غاية للجعل أو الفوقية فلا محذور، ثم إن المراد بالعذاب في الدنيا إذ لا هم بالقتل والأسر والسبي وأخذ الجزية ونحو ذلك، ومن لم يفعل معه شيء من وجوه الإذلال فهو على وجل إذ يعلم أن الإسلام يطلبه وكفى بذلك عذابا، وبالعذاب في الآخرة عقاب الأبد في النار وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي أعوان يدفعون عنهم عذاب الله، وصيغة الجمع- كما قال مولانا مفتي الروم- لمقابلة ضمير الجمع أي ليس لكل واحد منهم ناصر واحد.
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بيان الحال القسم الثاني، وبدأ بقسم الَّذِينَ كَفَرُوا لأن ذكر ما قبله من حكم الله تعالى بينهم أول ما يتبادر منه في بادئ النظر التهديد فناسب البداءة بهم ولأنه أقرب في الذكر لقوله تعالى: فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ولكون الكلام مع اليهود الذين كفروا بعيسى عليه السلام وهموا بقتله فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ أي فيوفر عليهم ويتمم جزاء أعمالهم القلبية والقالبية ويعطيهم ثواب ذلك وافيا من غير نقص.
وزعم بعضهم أن توفية الأجور هي قسم المنازل في الجنة- والظاهر أنها أعم من ذلك- وعلق التوفية على الإيمان والعمل الصالح ولم يعلق العذاب بسوى الكفر تنبيها على درجة الكمال في الإيمان ودعاء إليها وإيذانا بعظم قبح الكر، وقرأ حفص، ورويس عن يعقوب- فيوفيهم- بياء الغيبة، وزاد رويس ضم الهاء، وقرأ الباقون بالنون جريا على سنن العظمة والكبرياء، ولعل وجه الالتفات إلى الغيبة على القراءة الأولى الإيذان بأن توفية الاجر مما لا يقتضي لها نصب نفس لأنها من آثار الرحمة الواسعة ولا كذلك العذاب، والموصول في الآيتين مبتدأ خبره ما بعد الفاء، وجوز أن يكون منصوبا بفعل محذوف يفسره ما ذكر، وموضع المحذوف بعد الصلة- كما قال أبو البقاء- ولا يجوز أن يقدر قبل الموصول لأن- أما- لا يليها الفعل.
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي لا يريد تعظيمهم ولا يرحمهم ولا يثني عليهم، أو المراد يبغضهم على ما هو الشائع في مثل هذه العبارة، والجملة تذييل لما قبل مقرر لمضمونه ذلِكَ أي المذكور من أمر عيسى عليه السلام والإتيان بما يدل على البعد للإشارة إلى عظم شأن المشار إليه وبعد منزلته في الشرف.
نَتْلُوهُ عَلَيْكَ أي نسرده ونذكره شيئا بعد شيء، والمراد تلوناه إلا أنه عبر بالمضارع استحضارا للصورة الحاصلة اعتناء بها، وقيل: يمكن الحمل على الظاهر لأن قصة عيسى عليه السلام لم يفرغ منها بعد مِنَ الْآياتِ أي الحجج الدالة على صدق نبوتك إذ أعلمتهم بما لا يعلمه إلا قارئ كتاب، أو معلم، ولست بواحد منهما فلم يبق إلا أنك قد عرفته من طريق الوحي وَالذِّكْرِ أي القرآن، وقيل: اللوح المحفوظ وتفسيره به لاشتماله عليه، ومِنَ تبعيضية على الأول، وابتدائية على الثاني وحملها على البيان وإرادة بعض مخصوص من القرآن بعيد الْحَكِيمِ أي

(2/177)


المحكم المتقن نظمه، أو الممنوع من الباطل، أو صاحب الحكمة، وحينئذ يكون استعماله لما صدر عنه مما اشتمل على حكمته إما على وجه الاستعارة التبعية في لفظ حكيم، أو الإسناد المجازي بأن أسند للذكر ما هو لسببه وصاحبه، وجعله من باب الاستعارة المكنية التخييلية بأن شبه القرآن بناطق بالحكمة وأثبت له الوصف- بحكيم- تخييلا محوج إلى تكلف مشهور في دفع شبهة ذكر الطرفين حينئذ فتأمل، وجوز في الآية أوجه من الإعراب، الأول أن ذلك مبتدأ، ونَتْلُوهُ خبره، وعَلَيْكَ متعلق بالخبر، ومِنَ الْآياتِ حال من الضمير المنصوب، أو خبر بعد خبر، أو هو الخبر وما بينهما حال من اسم الإشارة على أن العامل فيه معنى الإشارة لا الجار والمجرور قيل: لأن الحال لا يتقدم العامل المعنوي، الثاني أن يكون ذلك خبرا لمحذوف أي الأمر ذلِكَ، ونَتْلُوهُ في موضع الحال من ذلِكَ ومِنَ الْآياتِ حال من الهاء، الثالث أن يكون ذلك في موضع نصب فعل دل عليه- نتلو- فيكون مِنَ الْآياتِ حالا من الهاء أيضا إِنَّ مَثَلَ عِيسى
ذكر غير واحد أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مالك تشتم صاحبنا؟ قال: ما أقول؟ قالوا: تقول: إنه عبد الله قال: أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول فغضبوا، وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب فإن كنت صادقا فأرنا مثله فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يسوع عن أبيه عن جده «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس [النمل: 1] «سليمان» بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من محمد رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران إن أسلمتم فإني أحمد الله إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية فإن أبيتم فقد أذنتم بحرب والسلام، فلما قرأ الأسقف الكتاب فظع به وذعر ذعرا شديدا فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل ابن وداعة فدفع إليه كتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقرأه فقال له الأسقف: ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله تعالى إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما يؤمن أن يكون هذا الرجل نبيا وليس لي في النبوة رأي لو كان أمر من أمر الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت فبعث الأسقف إلى واحد بعد واحد من أهل نجران فكلهم قال مثل قول شرحبيل فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل وعبد الله بن شرحبيل. وحيار بن قنص فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فانطلق الوفد حتى أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسألهم وسألوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا: ما تقول في عيسى ابن مريم؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقال لي في عيسى صبح الغداة فأنزل الله هذه الآية إِنَّ مَثَلَ عِيسى إلى قوله سبحانه: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ فأبوا أن يقروا بذلك فلما أصبح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة وله يومئذ عدة نسوة فقال شرحبيل لصاحبيه: إني أرى أمرا ثقيلا إن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فتلاعناه لا يبقى على ظهر الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك فقالا له: ما رأيك؟ فقال: رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا فقالا له: أنت وذاك فتلقى شرحبيل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: إني رأيت خيرا من ملاعنتك قال: وما هو؟ قال:
حكمك اليوم إلى الليل وليلك إلى الصباح فما حكمت فينا فهو جائز فرجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يلاعنهم وصالحهم على الجزية،
وروي غير ذلك كما سيأتي قريبا، والمثل- هنا ليس هو المثل المستعمل في التشبيه والكاف زائدة- كما قيل به- بل بمعنى الحال والصفة العجيبة أي إن صفة عيسى عِنْدَ اللَّهِ أي في تقديره

(2/178)


وحكمه، أو فيما غاب عنكم ولم تطلعوا على كنهه، والظرف متعلق فيما تعلق به الجار في قوله سبحانه: كَمَثَلِ آدَمَ أي كصفته وحاله العجيبة التي لا يرتاب فيها مرتاب خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ جملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب مبينة لوجه الشبه باعتبار أن في كل الخروج عن العادة وعدم استكمال الطرفين، ويحتمل أنه جيء بها لبيان أن المشبه به أغرب وأخرق للعادة فيكون ذلك أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته، ومِنْ لابتداء الغاية متعلقة بما عندها، والضمير المنصوب- لآدم- والمعنى ابتدأ خلق قالبه من هذا الجنس ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي صر بشرا فصار، فالتراخي على هذا زماني إذ بين إنشائه، مما ذكر وإيجاد الروح فيه وتصييره لحما ودما زمان طويل،
فقد روي أنه بعد أن خلق قالبه بقي ملقى على باب الجنة أربعين سنة لم تنفخ فيه الروح
والتعبير بالمضارع مع أن المقام مقام المضي لتصوير ذلك الأمر الكامل بصورة المشاهد الذي يقع الآن إيذانا بأنه من الأمور المستغربة العجيبة الشأن، وجوز أن يكون التعبير بذلك لما أن الكون مستقبل بالنظر إلى ما قبله، وذهب كثير من المحققين إلى أن ثُمَّ للتراخي في الأخبار لا في المخبر به، وحملوا الكلام على ظاهره، ولا يضر تقدم القول على الخلق في هذا الترتيب والتراخي- كما لا يخفى، والضمير المجرور عائد على ما عاد عليه الضمير المنصوب، والقول- بأنه عائد على عيسى- ليس بشيء لما فيه من التفكيك الذي لا داعي إليه ولا قرينة تدل عليه، قيل: وفي الآية دلالة على صحة النظر والاستدلال لأنه سبحانه احتج على النصارى وأثبت جواز خلق عيسى عليه السلام من غير أب يخلق آدم عليه السلام من غير أب ولا أم، ثم إن الظاهر أن عيسى عليه السلام خلقه الله سبحانه من نطفة مريم عليها السلام بجعلها قابلة لذلك ومستعدة له كما أشرنا إليه فيما تقدم.
والقول- بأنه خلق من الهواء كما خلق آدم من التراب- مما لا مستند له من عقل ولا نقل «ونفخنا فيه من روحنا» (1) لا يدل عليه بوجه أصلا الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ خبر لمحذوف أي هو الحق، وهو راجع إلى البيان، والقصص المذكور سابقا، والجار والمجرور حال من الضمير في الخبر، وجوز أن يكون الْحَقُّ مبتدأ، ومِنْ رَبِّكَ خبره، ورجح الأول بأن المقصود الدلالة على كون عيسى مخلوقا كآدم عليهما السلام هو الْحَقُّ لا ما يزعمه النصارى، وتطبيق كونهما مبتدأ وخبرا على هذا المعنى لا يتأتى إلا بتكلف إرادة أن كل حق، أو جنسه من الله تعالى، ومن جملته هذا الشان، أو حمل اللام على العهد بإرادة الْحَقُّ المذكور، ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم من اللطافة الظاهرة فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ خطاب له صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا يضر فيه استحالة وقوع الامتراء منه عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى: «فلا تكونن من المشركين» (2) بل قد ذكروا في هذا الأسلوب فائدتين:
«إحداهما» أنه صلى الله تعالى عليه وسلم إذا سمع مثل هذا الخطاب تحركت منه الأريحية فيزداد في الثبات على اليقين نورا على نور «وثانيتهما» أن السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم فينزع وينزجر عما يورث الامتراء لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم مع جلالته التي لا تصل إليها الأماني إذا خوطب بمثله فما يظن بغيره ففي ذلك زيادة ثبات له صلوات الله تعالى وسلامه عليه ولطف بغيره، وجوز أن يكون خطابا لكل من يقف عليه ويصلح للخطاب فَمَنْ حَاجَّكَ أي جادلك وخاصمك من وفد نصارى نجران إذ هم المتصدون لذلك فِيهِ أي في شأن عيسى
__________
(1) كذا في الأصل، والقراءة في مصاحفنا فَنَفَخْنا ...
(2) كذا في الأصل، والقراءة في مصاحفنا وَلا تَكُونَنَّ.

(2/179)


عليه السلام لأنه المحدث عنه وصاحب القصة، وقيل: الضمير للحق المتقدم لقربه وعدم بعد المعنى مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي الآيات الموجبة للعلم، وإطلاق العلم عليها إما حقيقية لأنها كما قيل: نوع منه، وإما مجاز مرسل، والقرينة عليه ذكر المحاجة المقتضية للأدلة، والجار والمجرور الأخير حال من فاعل جاءَكَ الراجع إلى ما الموصولة، ومِنْ من ذلك تبعيضية، وقيل: لبيان الجنس فَقُلْ أي لمن حاجّك- تَعالَوْا أي أقبلوا بالرأي والعزيمة، وأصله طلب الإقبال إلى مكان مرتفع، ثم توسع فيه فاستعمل في مجرد طلب المجيء نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ أي يدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه للمباهلة، وفي تقديم من قدم على النفس في المباهلة مع أنها من مظان التلف والرجل يخاطر لهم بنفسه إيذانا بكمال أمنه صلى الله تعالى عليه وسلم وكمال يقينه في إحاطة حفظ الله تعالى بهم، ولذلك- مع رعاية الأصل في الصيغة فإن غير المتكلم تبع له في الاسناد- قدم صلى الله تعالى عليه وسلم جانبه على جانب المخاطبين ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي نتباهل، فالافتعال هنا بمعنى المفاعلة، وافتعل وتفاعل أخوان في كثير من المواضع- كاشتور وتشاور، واجتور وتجاور. والأصل في البهلة- بالضم، والفتح فيه- كما قيل- اللعنة، والدعاء بها، ثم شاعت في مطلق الدعاء كما يقال: فلان يبتهل إلى الله تعالى في حاجته، وقال الراغب: بهل الشيء والبعير إهماله وتخليته ثم استعمل في الاسترسال في الدعاء سواء كان لعنا أو لا إلا أنه هنا يفسر باللعن لأنه المراد الواقع كما يشير إليه قوله تعالى: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ أي في أمر عيسى عليه السلام فإنه معطوف على نبتهل مفسر للمراد منه أي نقول لعنة الله على الكاذبين، أو اللهم العن الكاذبين.
أخرج البخاري، ومسلم «أن العاقب والسيد أتيا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأراد أن يلاعنهما فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه فو الله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا فقالوا له: نعطيك ما سألت فابعث معنا رجلا أمينا فقال: قم يا أبا عبيدة فلما قام قال هذا أمين هذه الأمة،
وأخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء، والضحاك عن ابن عباس «أن ثمانية من أساقفة أهل نجران قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم منهم العاقب، والسيد فأنزل الله تعالى فَقُلْ تَعالَوْا الآية فقالوا: أخرنا ثلاثة أيام فذهبوا إلى بني قريظة، والنضير، وبني قينقاع فاستشاروهم فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه، وقالوا: هو النبي الذي نجده في التوراة فصالحوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على ألف حلة في صفر وألف في رجب ودراهم» وروي أنهم صالحوه على أن يعطوه في كل عام ألفي حلة وثلاثا وثلاثين درعا وثلاثة وثلاثين بعيرا وأربعا وثلاثين فرسا.
وأخرج في الدلائل أيضا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس «أن وفد نجران من النصارى قدموا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم منهم السيد- وهو الكبير- والعاقب- وهو الذي يكون بعده وصاحب رأيهم- فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أسلما قالا: أسلمنا قال: ما أسلمتما قالا: بلى قد أسلمنا قبلك قال: كذبتما يمنعكما من الإسلام ثلاث فيكما، عبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، وزعمكما أن لله ولدا، ونزل إِنَّ مَثَلَ عِيسى الآية فلما قرأها عليهم قالوا: ما نعرف ما تقول، ونزل فَمَنْ حَاجَّكَ الآية فقال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الله تعالى قد أمرني إن لم تقبلوا هذا أن أباهلكم فقالوا: يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك فخلا بعضهم ببعض وتصادقوا فيما بينهم قال السيد للعاقب: قد والله علمتم أن الرجل نبي مرسل ولئن لاعنتموه أنه لاستئصالكم وما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبث صغيرهم فإن أنتم لن تتبعوه وأبيتم إلا إلف دينكم فوادعوه وارجعوا إلى بلادكم وقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خرج ومعه

(2/180)


علي، والحسن، والحسين، وفاطمة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن أنا دعوت فآمنوا أنتم فأبوا أن يلاعنوه وصالحوه على الجزية» .
وعن الشعبي فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه: «لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران حتى الطير على الشجر لو تموا على الملاعنة» وعن جابر «والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهما نارا» . وروي أن أسقف نجران «لما رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مقبلا ومعه علي، وفاطمة، والحسنان رضي الله عنهم قال: يا معشر النصارى: إني لأرى وجوها لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تباهلوا وتهلكوا» .
هذا وإنما ضم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى النفس الأبناء والنساء مع أن القصد من المباهلة تبين الصادق من الكاذب وهو يختص به وبمن يباهله لأن ذلك أتم في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، وأكمل نكاية بالعدو وأوفر إضرارا به لو تمت المباهلة، وفي هذه القصة أوضح دليل على نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم وإلا لما امتنعوا عن مباهلته، ودلالتها على فضل آل الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم مما لا يمتري فيها مؤمن، والنصب جازم الإيمان، واستدل بها الشيعة على أولوية علي كرم الله تعالى وجهه بالخلافة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنار على رواية مجيء علي كرم الله تعالى وجهه مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ووجه أن المراد حينئذ بأبنائنا الحسن. والحسين، وبنسائنا فاطمة، وبأنفسنا الأمير، وإذا صار نفس الرسول- وظاهر أن المعنى الحقيقي مستحيل- تعين أن يكون المراد المساواة، ومن كان مساويا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم؟! فهو أفضل وأولى بالتصرف من غيره، ولا معنى للخليفة إلا ذلك، وأجيب عن ذلك أما أولا فبأنا لا نسلم أن المراد بأنفسنا الأمير بل المراد نفسه الشريفة صلى الله تعالى عليه وسلم، ويجعل الأمير داخلا في الأبناء، وفي العرف يعد الختن ابنا من غير ريبة، ويلتزم عموم المجاز إن قلنا: إن إطلاق الابن على ابن البنت حقيقة، وإن قلنا: إنه مجاز لم يحتج إلى القول بعمومه وكان إطلاقه على الأمير وابنيه رضي الله تعالى عنهم على حد سواء في المجازية.
وقول الطبرسي، وغيره من علمائهم- إن إرادة نفسه الشريفة صلى الله تعالى عليه وسلم من أنفسنا لا تجوز لوجود نَدْعُ والشخص لا يدعو نفسه- هذيان من القول، إذ قد شاع وذاع في القديم والحديث- دعته- نفسه إلى كذا، ودعوت نفسي إلى كذا، وطوعت له نفسه، وآمرت نفسي، وشاورتها إلى غير ذلك من الاستعمالات الصحيحة الواقعة في كلام البلغاء فيكون حاصل نَدْعُ أَنْفُسَنا نحضر أنفسنا وأي محذور في ذلك على أنا لو قررنا الأمير من قبل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إياهم وأبناءهم ونساءهم بعد قوله: تَعالَوْا كما لا يخفى.
وأما ثانيا فبأنّا لو سلمنا أن المراد بأنفسنا الأمير لكن لا نسلم أن المراد من النفس ذات الشخص إذ قد جاء لفظ النفس بمعنى القريب والشريك في الدين والملة. ومن ذلك قوله تعالى «يخرجون أنفسهم من ديارهم» (1) وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً [النور: 12] فلعله لما كان للأمير اتصال بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم في النسب والمصاهرة واتحاد في الدين عبر عنه بالنفس، وحينئذ لا تلزم المساواة التي هي عماد استدلالهم على أنه لو كان المراد مساواته في جميع الصفات يلزم الاشتراك في النبوة والخاتمية والبعثة إلى كافة الخلق ونحو ذلك- وهو باطل بالإجماع- لأن التابع دون المتبوع ولو كان المراد المساواة في البعض لم يحصل الغرض لأن المساواة في بعض صفات الأفضل والأولى بالتصرف لا تجعل من هي له أفضل
__________
(1) لا يوجد آية بهذا النص، والذي في الآية 85 من سورة البقرة: وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ.

(2/181)


وأولى بالتصرف بالضرورة، وأما ثالثا فبأن ذلك لو دل على خلافة الأمير كما زعموا لزم كون الأمير إماما في زمنه صلى الله تعالى عليه وسلم- وهو باطل بالاتفاق- وإن قيد بوقت دون وقت فمع أن التقييد مما لا دليل عليه في اللفظ لا يكون مفيدا للمدعي إذ هو غير متنازع فيه لأن أهل السنة يثبتون إمامته في وقت دون وقت فلم يكن هذا الدليل قائما في محل النزاع، ولضعف الاستدلال به في هذا المطلب بل عدم صحته كالاستدلال به على أفضلية الأمير علي كرم الله تعالى وجهه على الأنبياء والمرسلين عليهم السلام لزعم ثبوت مساواته للأفضل منهم فيه لم يقمه محققو الشيعة على أكثر من دعوى كون الأمير، والبتول، والحسين أعزة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما صنع عبد الله المشهدي في كتابه- إظهار الحق.
وقد أخرج مسلم، والترمذي، وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال: «لما نزلت هذه الآية فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ إلخ دعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عليا، وفاطمة، وحسنا، وحسينا فقال: اللهم هؤلاء أهلي»
وهذا الذي ذكرناه من دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم هؤلاء الأربعة المتناسبة رضي الله تعالى عنهم هو المشهور المعول عليه لدى المحدثين.
وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله تعالى عنهم «أنه لما نزلت هذه الآية جاء بأبي بكر، وولده، وبعمر، وولده، وبعثمان، وولده، وبعلي، وولده»
وهذا خلاف ما رواه الجمهور.
واستدل ابن أبي علان من المعتزلة بهذه القصة أيضا على أن الحسنين كانا مكلفين في تلك الحال لأن المباهلة لا تجوز إلا مع البالغين، وذهب الإمامية إلى أنها يشترط فيها كمال العقل والتمييز، وحصول ذلك لا يتوقف على البلوغ فقد يحصل كمال قبله ربما يزيد على كمال البالغين فلا يمتنع أن يكون الحسنان إذ ذاك غير بالغين إلا أنهما في سن لا يمتنع معها أن يكونا كاملي العقل على أنه يجوز أن يخرق الله تعالى العادات لأولئك السادات ويخصهم بما لا يشاركهم فيه غيرهم، فلو صح أن كمال العقل غير معتاد في تلك السن لجاز ذلك فيهم إبانة لهم عمن سواهم ودلالة على مكانهم من الله تعالى واختصاصهم به- وهم القوم الذين لا تحصى خصائصهم.
وذهب النواصب إلى أن المباهلة جائزة لإظهار الحق إلى اليوم إلا أنه يمنع فيها أن يحضر الأولاد والنساء، وزعموا رفعهم الله تعالى لا قدرا، وحطهم ولا حط عنهم وزرا أن ما وقع منه صلى الله تعالى عليه وسلم كان لمجرد إلزام الخصم وتبكيته وأنه لا يدل على فضل أولئك الكرام على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأكمل السلام، وأنت تعلم أن هذا الزعم ضرب من الهذيان، وأثر من مس الشيطان:
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
ومن ذهب إلى جواز المباهلة اليوم على طرز ما صنع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم استدل بما أخرجه عبد بن حميد عن قيس بن سعد أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان بينه وبين آخر شيء فدعاه إلى المباهلة، وقرأ الآية ورفع يديه فاستقبل الركن وكأنه يشير بذلك رضي الله تعالى عنه إلى كيفية الابتهال وأن الأيدي ترفع فيه، وفيما أخرجه الحاكم تصريح بذلك وأنها ترفع حذو المناكب إِنَّ هذا أي المذكور في شأن عيسى عليه السلام قاله ابن عباس لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ جملة اسمية خبر إِنَّ ويجوز أن يكون- هو ضمير فصل لا محل له من الإعراب، والْقَصَصُ هو الخبر، وضمير الفصل يفيد القصر الإضافي كما يفيده تعريف الطرفين والْحَقُّ صفة القصص وهو المقصود بالإفادة أي- إن هذا هو الحق- لا ما يدعيه النصارى من كون المسيح عليه السلام إلها. وابن الله سبحانه وتعالى عما يقوله الظالمون علوا كبيرا، وقيل: إن الضمير للقصر والتأكيد لو لم يكن في الكلام ما يفيد ذلك

(2/182)


وإن كان كما هنا فهو لمجرد التأكيد، والأول هو المشهور- وعليه الجمهور ولعله الأوجه، واللام لام الابتداء والأصل فيها أن تدخل على المبتدأ إلا أنهم يزحلقونها إلى الخبر لئلا يتوالى حرفا تأكيد وإذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجوز لأنه أقرب إلى المبتدأ فافهم.
الْقَصَصُ على ما في البحر مصدر قولهم: قص فلان الحديث يقصه قصا وقصصا، وأصله تتبع الأثر يقال:
خرج فلان يقص أثر فلان أي يتتبعه ليعرف أين ذهب، ومنه قوله تعالى: وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ [القصص: 11] أي تتبعي أثره، وكذلك القاص في الكلام لأنه يتتبع خبرا بعد خبر، أو يتتبع المعاني ليوردها، وهو هنا فعل بمعنى مفعول أي المقصوص الحق، وقرئ «لهو» بسكون الواو وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ رد النصارى في تثليثهم، وكذا فيه رد على سائر الثنوية ومِنْ زائدة للتأكيد كما هو شأن الصلات، وقد فهم أهل اللسان- كما قال الشهاب- أنها لتأكيد الاستغراق المفهوم من النكرة المنفية لاختصاصها بذلك في الأكثر، وقد توقف محب الدين في وجه إفادة الكلمات المزيدة للتأكيد بأي طريق هي فإنها ليست وضعية، وأجاب بأنها ذوقية يعرفها أهل اللسان، واعترض بأن هذا حوالة على مجهول فلا تفيد فالأولى أن يقال: إنها وضعية لكنه من باب الوضع النوعي فتدبر وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب غلبة تامة، أو القادر قدرة كذلك، أو الذي لا نظير له الْحَكِيمُ أي المتقن فيما صنع، أو المحيط بالمعلومات، والجملة تذييل لما قبلها، والمقصود منها أيضا قصر الإلهية عليه تعالى ردا على النصارى أي قصر إفراد فالفصل والتعريف هنا كالفصل والتعريف هناك فما قيل: إنهما ليسا للحصر إذ الغالب على الأغيار لا يكون إلا واحدا فيلغو القصر فيه إلا أن يجعل قصر قلب والمقام لا يلائمه مما لا عصام له كما لا يخفى فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن اتباعك وتصديقك بعد هذه الآيات البينات، وهذا على تقدير أن يكون الفعل ماضيا، ويحتمل أن يكون مضارعا وحذفت منه إحدى التاءين تخفيفا، وأصله تتولوا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ أي بهم، أو بكم، والجملة جواب الشرط في الظاهر لكن المعنى على ما يترتب على علمه بِالْمُفْسِدِينَ من معاقبته لهم، فالكلام للوعيد ووضع الظاهر موضع الضمير تنبيها على العلة المقضية للجزاء والعقاب وهي الإفساد، وقيل: المعنى على أن اللَّهَ عَلِيمٌ بهؤلاء المجادلين بغير حق وبأنهم لا يقدمون على مباهتلك لمعرفتهم نبوتك وثبوت رسالتك، والجملة على هذا أيضا عند التحقيق قائمة مقام الجواب إلا أنه ليس الجزاء والعقاب، والكلام منساق لتسليته صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يخفى ما فيه.
«ومن باب الإشارة في الآيات» فَلَمَّا أَحَسَّ أي شاهد عيسى بواسطة النور الإلهي المشرق عليه مِنْهُمُ الْكُفْرَ أي ظلمته، أو نفسه فإن المعاني تظهر للكمل على صور مختلفة باختلافها فيرونها.
وحكي عن الباز قدس سره أنه قال: إن الليل والنهار يأتياني فيخبراني بما يحدث فيهما، وعن بعض العارفين أنه يشاهد أعمال العباد كيف تصعد إلى السماء ويرى البلاء النازل منها قالَ مَنْ أَنْصارِي في حال دعوتي إلى الله سبحانه بأن يلتفت إلى الاشتغال بتكميل نفسه وتهذيب أخلاقها حتى يصلح لتربية الناقصين فينصرني ويعينني في تكميل الناقص وإرشاد الضال قالَ الْحَوارِيُّونَ المبيضون ثياب وجودهم بمياه العبادة ومطرقة المجاهدة وشمس المراقبة نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أي أعوان الفانين فيه الباقين به ومنهم عيسى عليه السلام آمَنَّا بِاللَّهِ الإيمان الكامل وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أي مقادون لأمرك حيث إنه أمر الله سبحانه رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وهو ما نورت به قلوب أصفيائك من علوم غيبك وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فيما أظهر من أوامرك ونواهيك رجاء أن يوصلنا ذلك إلى محبتك فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي مع من يشهدك ولا يشهد معك سواك، أو الحاضرين لك المراقبين لأمرك وَمَكَرُوا

(2/183)


قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)

أي الذين أحس منهم الكفر واحتالوا مع أهل الله بتدبير النفس فكان مكرهم مكر الحق عليهم لأنه المزين ذلك لهم كما قال سبحانه: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام: 108] فهو الماكر في الحقيقة وهذا معنى وَمَكَرَ اللَّهُ عند بعض، والأولى القول باختلاف المكرين على ما يقتضيه مقام الفرق، وقد سئل بعضهم كيف يمكر الله؟ فصاح وقال: لا علة لصنعه وأنشأ يقول:
فديتك قد جبلت على هواكا ... ونفسي لا تنازعني سواكا

أحبك لا ببعضي بل بكلي ... وإن لم يبق حبك لي حراكا

ويقبح من- سواك الفعل- عندي ... وتفعله فيحسن منك ذاكا

(2/184)


إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ عن رسم الحدوثية وَرافِعُكَ إِلَيَّ بنعت الربوبية وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بشغل سرك عن مطالعة الأغيار، أو متوفيك عنك، وقابضك منك، ورافعك عن نعوت البشرية ومطهرك من إرادتك بالكلية، وقيل: إن عيسى عليه الصلاة والسلام لما أحس منهم الكفر وعلم أنهم بعثوا من يقتله قال للحواريين: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم السماوي أي متصل بروح القدس ومتطهر من علاقة عالم الرجس فأمدكم بالفيض كي تستجاب دعوتكم الخلق بعدي، فشبه للقوم صورة جسدانية هي مظهر عيسى روح الله تعالى بصورة حقيقة عيسى فظنوها هو فصلبوها ولم يعلموا أن الله تعالى رفعه إلى السماء الرابعة التي هي فلك الشمس، وحكمة رفعه إلى ذلك أن روحانيته عبارة عن إسرافيل عليه الصلاة والسلام ويشاركه المسيح في سر النفخ.
ومن قال: إنه رفع إلى السماء الدنيا بين الحكمة بأن إفاضة روحه كانت بواسطة جبريل عليه السلام وهو عبارة عن روحانية فلك القمر، وبأن القمر في السماء الدنيا وهو آية ليلية تناسب علم الباطن الذي أوتيه المسيح عليه السلام، ولم يعتبر الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم القول: بأنه يدور حول العرش لأن ذلك مقام النهاية في الكمال، ولهذا لم يعرج إليه سوى صاحب المقام المحمود صلى الله تعالى عليه وسلم الجامع بين الظاهر والباطن إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ في أن كلا منهما خارق للعادة خارج عن دائرتها وإن افترقا في أن عيسى عليه الصلاة والسلام بلا ذكر

(2/185)


بل من نطفة أنثى فقط كان في بعضها قوة العقد وفي البعض الآخرة قوة الانعقاد كسائر النطف المركبة من منيين في أحدهما القوة العاقدة وفي الأخرى المنعقدة، وأن آدم عليه الصلاة والسلام بلا ذكر ولا أنثى خلقه من تراب أي صور قالبه من ذلك ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ إشارة إلى نفخ الروح فيه وكونه من عالم الأمر نظرا إلى روحه المقدسة التي لم ترتكض في رحم فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ أي الحق، أو في عيسى عليه السلام بالحجج الباطلة فَقُلْ تَعالَوْا إلخ أي فادعه إلى المباهلة بالهيئة المذكورة.
قال بعض العارفين: اعلم أن لمباهلة الأنبياء عليهم السلام تأثيرا عظيما سببه اتصال نفوسهم بروح القدس وتأييد الله تعالى إياهم به وهو المؤثر بإذن الله تعالى في العالم العنصري فيكون انفعال العالم العنصري منه كانفعال أبداننا من روحنا بالعوارض الواردة عليه، كالغضب، والخوف، والفكر في أحوال المعشوق، وغير ذلك. وانفعال النفوس البشرية منه كانفعال حواسنا وسائر قوانا من عوارض أرواحنا فإذا اتصل نفس قدسي به، أو ببعض أرواح الأجرام السماوية والنفوس الملكوتية كان تأثيرها في العالم عند التوجه الاتصالي تأثير ما يتصل به فينفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الانسانية منه بما أراد حسب ذلك الاتصال ولذا انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه الصلاة والسلام بالخوف وأحجمت عن المباهلة وطلبت الموادعة بقبول الجزية انتهى.
وادعى بعضهم أن لكل نفس تأثيرا لكنه يختلف حسب اختلاف مراتب النفوس وتفاوت مراتب التوجهات إلى عام التجرد- وفيه كلام طويل- ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه، هذا وتطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس ظاهر لمن أحاط خبرا بما قدمناه في الآيات الأول، والله تعالى الموفق.
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ نزلت في وفد نصارى نجران- قاله السدي، والحسن، وابن زيد، ومحمد بن جعفر بن الزبير- وروي عن قتادة، والربيع، وابن جريج أنها نزلت في يهود المدينة. وذهب أبو علي الجبائي أنها نزلت في الفريقين من أهل الكتاب، واستظهره بعض المحققين لعمومه تَعالَوْا أي هلموا إِلى كَلِمَةٍ أي كلام- كما قال الزجاج- وإطلاقها على ذلك في كلامهم من باب المجاز المرسل وعلاقته تجوز إطلاقها على المركب الناقص إلا أنه لم يوجد بالاستقراء، وقيل: إنه من باب الاستعارة وليس بالبعيد- وقرىء كَلِمَةٍ بكسر الكاف وإسكان اللام على التخفيف والنقل سَواءٍ أي عدل- قاله ابن عباس، والربيع، وقتادة- وقيل: إن سَواءٍ مصدر بمعنى مستوية أي لا يختلف فيها التوراة والإنجيل والقرآن، أو لا اختلاف فيها بكل الشرائع، وهو في قراءة الجمهور مجرور على أنه نعت- لكلمة- وقرئ بنصبه على المصدر.
بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ متعلق بسواء أَلَّا نَعْبُدَ أي نحن وأنتم إِلَّا اللَّهَ بأن نوحده بالعبادة ونخلص فيها، وفي موضع أن وما بعدها وجهان- كما قال أبو البقاء- الأول الجر على البدلية من كَلِمَةٍ، والثاني الرفع على الخبرية لمحذوف أي هي أن لا نعبد إلا الله، ولولا عمل أن لجاز أن تكون تفسيرية، وقيل: إن الكلام تم على سَواءٍ ثم استؤنف فقيل: بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أن لا نعبد، فالظرف خبر مقدم، وأن وما بعدها مبتدأ مؤخر وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً من الأشياء على معنى لا نجعل غيره شريكا له في استحقاق العبادة ولا نراه أهلا لأن يعبد، وبهذا المعنى يكون الكلام تأسيسا والظاهر أنه تأكيد لما قبله إلا أن التأسيس أكثر فائدة، وقيل: المراد لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً من الشرك وهو بعيد جدا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أي لا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله تعالى- قاله ابن جريج- ويؤيده ما
أخرجه الترمذي وحسنه من حديث عدي بن حاتم «أنه لما نزلت هذه الآية قال: ما كنا نعبدهم يا رسول الله فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: أما كانوا يحللون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ قال: نعم

(2/186)


فقال عليه الصلاة والسلام هو ذاك»
قيل: وإلى هذا أشار سبحانه بقوله عز من قائل: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31] وعن عكرمة أن هذا الاتخاذ هو سجود بعضهم لبعض، وقيل: هو مثل اعتقاد اليهود في عزيز أنه ابن الله، واعتقاد النصارى في المسيح نحو ذلك، وضمير- نا- على كل تقدير للناس لا للممكن- وإن أمكن- حتى يشمل الأصنام لأن أهل الكتاب لم يعبدوها.
وفي التعبير- بالبعض- نكتة وهي الإشارة إلى أنهم بعض من جنسنا فكيف يكونون أربابا؟
«فإن قلت» إن المخاطبين لم يتخذوا البعض أربابا من دون الله بل اتخذوهم آلهة معه سبحانه «أجيب» بأنه أريد من دون الله وحده، أو يقال: بأنه أتى بذلك للتنبيه على أن الشرك لا يجامع الاعتراف بربوبيته تعالى عقلا- قاله بعضهم- وللنصارى- سود الله تعالى حظهم- الحظ الأوفر من هذه المنهيات، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان فرقهم وتفصيل كفرهم على أتم وجه فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ المراد فان تولوا عن موافقتكم فيما ذكر مما اتفق عليه الكتب والرسل بعد عرضه عليهم فاعلموا أنهم لزمتهم الحجة وإنما أبوا عنادا فقولوا لهم: أنصفوا واعترفوا بأنا على الدين الحق وهو تعجيز لهم أو هو تعريض بهم لأنهم إذا شهدوا بالإسلام لهم فكأنهم قالوا: إنا لسنا كذلك، وإلى هذا ذهب بعض المحققين، وقيل: المراد فإن تولوا فقولوا: إنا لا نتحاشى عن الإسلام ولا نبالي بأحد في هذا الأمر- فاشهدوا بأنا مسلمون- فإنا لا نخفي إسلامنا كما أنكم تخافون وتخفون كفركم ولا تعرفون به لعدم وثوقكم بنصر الله تعالى، ولا يخفى أن هذا على ما فيه إنما يحسن لو كان الكلام في منافقي أهل الكتاب لأن المنافقين هم الذين يخافون فيخفون، وأما هؤلاء فهم معترفون بما هم عليه كيف كان فلا يحسن هذا الكلام فيهم، تَوَلَّوْا هنا ماض ولا يجوز أن يكون التقدير تتولوا لفساد المعنى لأن فَقُولُوا خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين، وتتولوا خطاب للمشركين، وعند ذلك لا يبقى في الكلام جواب يا أَهْلَ الْكِتابِ خطاب لليهود والنصارى لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ أي تنازعون وتجادلون فيه ويدعي كل منكم أنه عليه السلام كان على دينه،
أخرج ابن إسحق.
وابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «اجتمعت نصارى نجران. وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتنازعوا عنده فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية»
والظرف الأول متعلق بما بعده وكذا الثاني، وما- استفهامية، والغرض الإنكار والتعجب- عند السمين- وحذفت ألفها لما دخل الجار للفرق بينها وبين الموصولة، والكلام على حذف مضاف أي دين إبراهيم أو شريعته لأن الذوات لا مجادلة فيها وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ على موسى عليه السلام وَالْإِنْجِيلُ على عيسى عليه السلام إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ حيث كان بينه وبين موسى عليهما السلام خمسمائة وخمس وستون سنة، وقيل:
سبعمائة، وقيل: ألف سنة وبين موسى، وعيسى عليهما السلام ألف وتسعمائة وخمس وعشرون سنة، وقيل ألفا سنة، وهناك أقوال أخر أَفَلا تَعْقِلُونَ الهمزة داخلة على مقدر هو المعطوف عليه بالعاطف المذكور على رأي- أي ألا تتفكرون فلا تعقلون بطلان قولكم- أو أتقولون ذلك فلا تعقلون بطلانه، وهذا تجهيل لهم في تلك الدعوى وتحميق، وهو ظاهر إن كانوا قد ادعوا- كما قال الشهاب- إنه عليه السلام منهم حقيقة، وإن كان مدعاهم أن دين إبراهيم يوافق دين موسى، أو دين عيسى فهو يهودي، أو نصراني بهذا المعنى فتجهيلهم، ونفي العقل عنهم بنزول التوراة الإنجيل بعده- مشكل إلا أن يدعي بأن المراد أنه لو كان الأمر كذلك لما أوتي موسى عليه السلام التوراة، ولا عيسى عليه السلام الإنجيل بل كانا يؤمران بتبليغ صحف إبراهيم- كذا قيل- وأنت تعلم أن هذا لا يشفي الغليل إذ لقائل أن يقول:
أي مانع من اتحاد الشريعة مع إنزال هذين الكتابين لغرض آخر غير بيان شريعة جديدة على أن الصحف لم تكن

(2/187)


مشتملة على الأحكام بل كانت أمثالا ومواعظ كما جاء في الحديث، ثم ما قاله الشهاب- إن كان وجه التجهيل عليه ظاهرا، إلا أن صدور تلك الدعوى من أهل الكتاب في غاية البعد لأن القوم لم يكونوا بهذه المثابة من الجهالة، وفيهم أحبار اليهود، ووفد نجران، وقد ذكر أن الأخيرين كانت لهم شدة في البحث،
فقد أخرج ابن جرير عن عبد الله بن الحرث الزبيدي أنه قال: «سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: ليت بيني وبين أهل نجران حجابا فلا أراهم ولا يروني»
من شدة ما كانوا يمارون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اللهم إلا أن يقال: إن الله تعالى أعمى بصائرهم في هذه الدعوى ليكونوا ضحكة لأطفال المؤمنين، أو أنهم قالوا ذلك على سبيل التعنت والعناد ليغيظ كل منهم صاحبه، أو ليوهموا بعض المؤمنين ظنا منهم أنهم لكونهم أميين غير مطلعين على تواريخ الأنبياء السالفين يزلزلهم مثل ذلك ففضحهم الله تعالى، أو أن القوم في حدّ ذاتهم جهلة لا يعلمون وإن كانوا أهل كتاب- وما ذكره ابن الحرث- لا يدل على علمهم كما لا يخفى، وقيل: إن مراد اليهود بقولهم: إن إبراهيم عليه السلام كان يهوديا أنه كان مؤمنا بموسى عليه السلام قبل بعثته على حدّ ما يقوله المسلمون في سائر المرسلين عليهم الصلاة والسلام من أنهم كانوا مؤمنين بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم قبل بعثته كما يدل عليه تبشيرهم به، وأن مراد النصارى بقولهم: إن إبراهيم كان نصرانيا نحو ذلك فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه: وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أي ومن شأن المتأخر أن يشتمل على أخبار المتقدم لا سيما مثل هذا الأمر المهم، والمفخر العظيم، والمنة الكبرى أَفَلا تَعْقِلُونَ ما فيهما لتعلموا خلوهما عن الأخبار بيهوديته ونصرانيته اللتين زعمتموهما، ثم نبه سبحانه على حماقتهم بقوله جل وعلا:
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ أي أنتم هؤُلاءِ الحمقى حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ كأمر موسى، وعيسى عليهما السلام فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وهو أمر إبراهيم عليه السلام حيث لا ذكر لدينه في كتابكم، أو لا تعرض لكونه آمن بموسى. وعيسى قبل بعثتيهما أصلا، وليس المراد وصفهم بالعلم حقيقة وإنما المراد هب أنكم تحاجون فيما تدعون علمه على ما يلوح لكم من خلال عبارات كتابكم وإشاراته في زعمكم فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به ولا ذكر، ولا رمز له في كتابكم البتة؟! وها حرف تنبيه، واطرد دخولها على المبتدأ إذا كان خبره اسم إشارة نحو- ها أنا ذا- وكررت هنا للتأكيد، وذهب الأخفش أن الأصل أأنتم على الاستفهام فقلبت الهمزة هاء، ومعنى الاستفهام عنده التعجب من جهالتهم، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يحسن ذلك لأنه لم يسمع إبدال همزة الاستفهام هاء في كلامهم إلا في بيت نادر، ثم الفصل بين الهاء المبدلة. وهمزة أَنْتُمْ لا يناسب لأنه إنما يفصل لاستثقال اجتماع الهمزتين، وهنا قد زال الاستثقال بإبدال الأولى هاء، والإشارة للتحقير والتنقيص، ومنها فهم الوصف الذي يظهر به فائدة الحمل، وجملة حاجَجْتُمْ مستأنفة مبينة للأولى، وقيل: إنها حالية بدليل أنه يقع الحال موقعها كثيرا نحو- ها أنا ذا قائما- وهذه الحال لازمة وقيل: إن الجملة غبر عن أَنْتُمْ وهؤُلاءِ منادى حذف منه حرف النداء، وقيل: هؤُلاءِ بمعنى الذين خبر المبتدأ، وجملة حاجَجْتُمْ صلة وإليه ذهب الكوفيون، وقراؤهم يقرؤون ها أَنْتُمْ بالمد والهمز، وقرأ أهل المدينة، وأبو عمرو بغير همز ولا مد إلا بقدر خروج الألف الساكن، وقرأ ابن كثير.
ويعقوب بالهمز والقصر بغير مد، وقرأ ابن عامر بالمد دون الهمز وَاللَّهُ يَعْلَمُ حال إبراهيم وما كان عليه.
وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك، ولك أن تعتبر المفعول عاما ويدخل المذكور فيه دخولا أوليا، والجملة تأكيد لنفي العلم عنهم في شأن إبراهيم عليه السلام ثم صرح بما نطق به البرهان المقرر فقال سبحانه: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا كما قالت اليهود وَلا نَصْرانِيًّا كما قالت النصارى وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً أي مائلا عن العقائد الزائغة مُسْلِماً

(2/188)


أي منقادا لطاعة الحق، أو موحدا لأن الإسلام يرد بمعنى التوحيد أيضا قيل: وينصره قوله تعالى: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي عبدة الأصنام كالعرب الذين كانوا يدعون أنهم على دينه، أو سائر المشركين ليعم أيضا عبدة النار كالمجوس، وعبدة الكواكب كالصابئة، وقيل: أراد بهم اليهود والنصارى لقول اليهود: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] وقول النصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وأصل الكلام وما كان منكم إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر للتعريض بأنهم مشركون، والجملة حينئذ تأكيد لما قبلها، وتفسير الإسلام بما ذكر- هو ما اختاره جمع المحققين وادعوا أنه لا يصح تفسيره هنا بالدين المحمدي لأنه يرد عليه أنه كان بعده بكثير فكيف يكون مسلما؟ فيكون كادعائهم تهوده وتنصره المردود بقوله سبحانه: وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ فيرد عليه ما ورد عليهم، ويشترك الإلزام بينهما، وفسره بعضهم بذلك، وأجاب عن اشتراك الإلزام بأن القرآن أخبر بأن إبراهيم كان مُسْلِماً وليس في التوراة والإنجيل أنه عليه الصلاة والسلام كان يهوديا أو نصرانيا فظهر الفرق، قال العلامة النيسابوري: فإن قيل: قولكم: إن إبراهيم عليه السلام على دين الإسلام إن أردتم به الموافقة في الأصول فليس هذا مختصا بدين الإسلام، وإن أردتم في الفروع لزم أن لا يكون نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم صاحب شريعة بل مقرر لشرع من قبله. قيل: يختار الأول، والاختصاص ثابت لأن اليهود والنصارى مخالفون للأصول في زماننا لقولهم بالتثليث وإشراك عزيز عليه السلام إلى غير ذلك، أو الثاني ولا يلزم ما ذكر لجواز أنه تعالى نسخ تلك الفروع بشرع موسى عليه السلام ثم نسخ نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم صاحب شريعة مع موافقة شرعه شرع إبراهيم في معظم الفروع انتهى، ولا يخفى ما في الجواب على الاختيار الثاني من مزيد البعد، بل عدم الصحة لأن نسخ شريعة إبراهيم بشريعة موسى، ثم نسخ شريعة موسى بشريعة نبينا عليهم الصلاة والسلام الموافقة لشريعة إبراهيم لا يجعل نبينا صاحب شريعة جديدة بل يقال له أيضا: إنه مقرر لشرع من قبله وهو إبراهيم عليه السلام، وأيضا موافقة جميع فروع شريعتنا لجميع فروع شريعة إبراهيم مما لا يمكن بوجه أصلا إذ من جملة فروع شريعتنا فرضية قراءة القرآن في الصلاة ولم ينزل على غير نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بالبديهة، ونحو ذلك كثير.
وموافقة المعظم في حيز المنع ودون إثباتها الشم الراسيات، وقوله تعالى: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [النحل:
123] ليس بالدليل على الموافقة في الفروع إذ الملمة فيه عبارة عن التوحيد أو عنه وعن الأخلاق كالهدى في قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] واعترض الشهاب على الجواب- على الاختيار الأول- بالبعد كاعتراضه على الجواب على الاختيار الثاني بمجرده أيضا، وذكر أن ذلك سبب عدول بعض المحققين عما يقتضيه كلام هذا العلامة من أن المراد يكون إبراهيم مُسْلِماً أنه على ملة الإسلام إلى أن المراد بذلك أنه منقاد بحمل الإسلام على المعنى اللغوي، وادعى أنه سالم من القدح، ونظر فيه- بأن أخذ الإسلام لغويا لا يناسب بحث الأديان، والكلام فيه- فلا يخلو هذا الوجه عن بعد، ولعله لا يقصر عما ادعاه من بعد الجواب الأول كما لا يخفى على صاحب الذوق السليم.
هذا وفي الآية وجه آخر- ولعله يخرج من بين فرث ودم- وهو أن أهل الكتاب لما تنازعوا فقالت اليهود: إبراهيم منا، وقالت النصارى: إنه منا أرادت كل طائفة أنه عليه السلام كان إذ ذاك على ما هو عليه الآن من الحال وهو حال مخالف لما عليه نبيهم في نفس الأمر موافق له زعما على معنى موافقة الأصول للأصول، أو الموافقة فيما يعد في العرف موافقة ولو لم تكن في المعظم وليست هذه الدعوى من البطلان بحيث لا تخفى على أحد فرد الله تعالى

(2/189)


عليهم بقوله سبحانه: وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أي وليسا مشتملين على ذلك وهو من الحري بالذكر لو كان، ثم أشار سبحانه إلى ما هم عليه من الحماقة على وجه أتم، ثم صرح سبحانه بما أشار أولا فقال: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا أي من الطائفة اليهودية المخالفة لما جاء به موسى عليه السلام في نفس الأمر وَلا نَصْرانِيًّا أي من الطائفة النصرانية المخالفة لما جاء به عيسى عليه السلام كذلك وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً أي على دين الإسلام الذي ليس عند الله دين مرضي سواه وهو دين جميع الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم، وفي ذلك إشارة إلى أن أولئك اليهود والنصارى ليسوا من الدين في شيء لمخالفتهم في نفس الأمر لما عليه النبيان بل الأنبياء، ثم أشار إلى سبب ذلك بما عرض به من قوله سبحانه: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فعلى هذا يكون المسلم- كما قال الجصاص، وأشرنا إليه فيما مرّ مرارا- المؤمن ولو من غير هذه الأمة خلافا للسيوطي في زعمه أن الإسلام مخصوص بهذه الأمة- هذا ما عندي في هذا المقام- فتدبر فلمسلك الذهن اتساع.
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ أَوْلَى أفعل تفضيل من وليه يليه وليا وألفه منقلبة عن ياء لأن فاءه واوا فلا تكون لامه واوا إذا ليس في الكلام ما فاؤه ولامه واوان إلا واو، وأصل معناه أقرب، ومنه ما
في الحديث «لأولى رجل ذكر»
ويكون بمعنى أحق كما تقول: العالم أولى بالتقديم، وهو المراد هنا- أي أقرب الناس وأخصهم بإبراهيم لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أي كانوا على شريعته في زمانه، أو اتبعوه مطلقا فالعطف في قوله سبحانه: وَهذَا النَّبِيُّ من عطف الخاص على العام وهو معطوف على الموصول قبله الذي هو خبر إِنَّ وقرئ بالنصب عطفا على الضمير المفعول، والتقدير- للذين اتبعوا إبراهيم واتبعوا هذا النبي- وقرئ بالجر عطفا على إبراهيم أي- إن أولى الناس بإبراهيم، وهذا النبي للذين اتبعوه- واعترض بأنه كان ينبغي أن يثنى ضمير اتَّبَعُوهُ ويقال اتبعوهما، وأجيب بأنه من باب وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] إلا أن فيه على ما قيل الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا إن كان عطفا على- الذين اتبعوه- يكون فيه ذلك أيضا، وإن كان عطفا على هذا النبي- فلا فائدة فيه إلا أن يدعي أنها للتنويه بذكرهم، وأما التزام أنه من عطف الصفات بعضها على بعض حينئذ فهو كما ترى، ثم إن كون المتبعين لابراهيم عليه السلام في زمانه أولى الناس به ظاهر، وكون نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أولاهم به لموافقة شريعته للشريعة الابراهيمية أكثر من موافقة شرائع سائر المرسلين لها، وكون المؤمنين من هذه الأمة كذلك لتبعيتهم نبيهم فيما جاء به ومنه الموافق وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ينصرهم ويجازيهم بالحسنى كما هو شأن الولي، ولم يقل- وليهم- تنبيها على الوصف الذي يكون الله تعالى به وليا لعباده- وهو الإيمان- بناء على أن التعليق بالمشتق يقتضي عليه مبدأ الاشتقاق ومن ذلك يعلم ثبوت الحكم للنبي بدلالة النص،
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال رؤساء اليهود: الله يا محمد لقد علمت أنا أولى بدين إبراهيم منك ومن غيرك وأنه كان يهوديا وما بك إلا الحسد فأنزل الله تعالى هذه الآية،
وأخرج عيد بن حميد من طريق شهر بن حوشب قال: حدثني ابن غنم أنه لما خرج أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى النجاشي أدركهم عمرو بن العاص، وعمارة بن أبي معيط فأرادوا عنتهم والبغي عليهم فقدموا على النجاشي وأخبروه أن هؤلاء الرهط الذين قدموا عليك من أهل مكة يريدون أن يحيلوا عليك ملكك ويفسدوا عليك أرضك ويشتموا ربك فأرسل إليهم النجاشي فلما أن أتوه قال: ألا تسمعون ما يقول صاحباكم هذان- لعمرو بن العاص، وعمارة بن أبي معيط- يزعمان إنما جئتم لتحيلوا عليّ ملكي وتفسدوا عليّ أرضي فقال عثمان بن مظعون، وحمزة: إن شئتم خلوا بين أحدنا وبين النجاشي فليكلمه أينا أحدثكم سنا فإن كان صوابا فالله يأتي به، وإن كان أمرا غير ذلك قلتم رجل شاب لكم في ذلك عذر، فجمع النجاشي قسيسيه ورهبانيته وترجمته ثم سألهم أرأيتكم صاحبكم هذا الذي من

(2/190)


عنده جئتم ما يقول لكم وما يأمركم به وما ينهاكم عنه هل له كتاب يقرؤه؟ قالوا: نعم هذا الرجل يقرأ ما أنزل الله تعالى عليه وما قد سمع منه ويأمر بالمعروف، ويأمر بحسن المجاورة، ويأمر باليتيم، ويأمر بأن يعبد الله تعالى وحده ولا يعبد معه إلها آخر فقرأ عليه- سورة الروم. والعنكبوت. وأصحاب الكهف. ومريم فلما أن ذكر عيسى في القرآن أراد عمرو أن يغضبه عليهم قال: والله إنهم يشتمون عيسى ويسبونه قال النجاشي: ما يقول صاحبكم في عيسى: قال يقول: إن عيسى عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم، فأخذ النجاشي نفثة من سواكه قدر ما يقذي العين فخلف ما زاد المسيح على ما يقول صاحبكم بما يزن ذلك القذى في يده من نفثة سواكه فأبشروا ولا تخافوا فلا دهونة- يعني بلسان الحبشة- اللوم على حزب إبراهيم قال عمرو بن العاص: ما حزب إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاؤوا من عنده ومن اتبعهم فأنزلت ذلك اليوم في خصومتهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو المدينة إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ الآية وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ المشهور أنها نزلت حين دعا اليهود حذيفة، وعمارا، ومعاذا إلى اليهودية، فالمراد بأهل الكتاب اليهود، وقيل: المراد بهم ما يشمل الفريقين، والآية بيان لكونهم دعاة إلى الضلالة إثر بيان أنهم ضالون، وأخرج ابن المنذر عن سفيان أنه قال: كل شيء في آل عمران من ذكر أهل الكتاب فهو في النصارى. ولعله جار مجرى الغالب، ومِنْ للتبعيض، والطائفة رؤساؤهم وأحبارهم، وقيل: لبيان الجنس- والطائفة- جميع أهل الكتاب وفيه بعد، ولَوْ بمعنى أن المصدرية، والمنسبك مفعول- ودّ- وجوز إقرارها على وضعها، ومفعول ودّ محذوف، وكذا جواب لَوْ والتقدير وَدَّتْ إضلالكم لَوْ يُضِلُّونَكُمْ لسروا بذلك، ومعنى يُضِلُّونَكُمْ يردونكم إلى كفركم- قاله ابن عباس- أو يهلكونكم- قاله ابن جرير الطبري- أو يوقعونكم في الضلال ويلقون إليكم ما يشككونكم به في دينكم- قاله أبو علي- وهو قريب من الأول وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ الواو للحال، والمعنى على تقدير إرادة الإهلاك من الإضلال أنهم ما يهلكون إلا أنفسهم لاستحقاقهم بإيثارهم إهلاك المؤمنين سخط الله تعالى وغضبه، وإن كان المراد من الإهلاك الإيقاع في الضلال فيحتاج إلى تأويل لأن القوم ضالون فيؤدي إلى جعل الضال ضالا فيقال: إن المراد من الإضلال ما يعود من وباله إما على سبيل المجاز المرسل، أو الاستعارة أي ما يتخطاهم الإضلال ولا يعود وباله إلا إليهم لما أنهم يضاعف به عذابهم، أو المراد بأنفسهم أمثالهم المجانسون لهم، وفيه على ما قيل: الإخبار بالغيب فهو استعارة أو تشبيه بتقدير أمثال أنفسهم إذ لم يتهود مسلم- ولله تعالى الحمد- وقيل: إن معنى إضلالهم أنفسهم إصرارهم على الضلال بما سولت لهم أنفسهم مع تمكنهم من اتباع الهدى بإيضاح الحجج، ولا يخلو عن شيء وَما يَشْعُرُونَ أي وما يفطنون بكون الإضلال مختصا بهم لما اعترى قلوبهم من الغشاوة- قاله أبو علي- وقيل: وَما يَشْعُرُونَ بأن الله تعالى يعلم المؤمنين بضلالهم وإضلالهم، وفي نفي الشعور عنهم مبالغة في ذمهم يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أي لم تكفرون بما يتلى عليكم من آيات القرآن وأنتم تعلمون ما يدل على صحتها ووجوب الإقرار بها من التوراة والإنجيل، وقيل: المراد لِمَ تَكْفُرُونَ بما
في كتبكم من الآيات الدالة على نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ الحجج الدالة على ذلك، أو لِمَ تَكْفُرُونَ بما في كتبكم من إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وأنتم تشاهدون ذلك، أو لِمَ تَكْفُرُونَ بالحجج الدالة على نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أن ظهور المعجزة يدل على صدق مدعي الرسالة أو- أنتم تشدون- إذ خلوتم بصحة دين الإسلام، أو لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ جميعا وأنتم تعلمون حقيتها بلا شبهة بمنزلة علم المشاهدة.
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ أي تسترونه به، أو تخلطونه به، والباء صلة، وفي المراد أقوال:

(2/191)


أحدها أن المراد تحريفهم التوراة والإنجيل- قاله الحسن. وابن زيد- وثانيها أن المراد إظهارهم الإسلام وإبطانهم النفاق- قاله ابن عباس. وقتادة- وثالثها أن المراد الإيمان بموسى، وعيسى، والكفر بمحمد عليهم الصلاة والسلام، ورابعها أن المراد ما يعلمونه في قلوبهم من حقية رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم وما يظهرونه من تكذيبه، عن أبي علي، وأبي مسلم، وقرئ تَلْبِسُونَ بالتشديد وهو بمعنى المخفف، وقرأ يحيى بن وثاب تَلْبِسُونَ وهو من لبست الثوب، والباء بمعنى مع، والمراد من اللبس الاتصاف بالشيء، والتلبس به وقد جاء ذلك فيما رواه البخاري في الصحيح عن عائشة «أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور» وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ أي نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وما وجدتموه في كتبكم من نعته والبشارة به وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه حق، وقيل:
تعلمون الأمور التي يصح بها التكليف وليس بشيء.
وَقالَتْ طائِفَةٌ أي جماعة وسميت بها لأنه يسوى بها حلقة يطاف حولها مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي اليهود لبعضهم آمِنُوا أي أظهروا الإيمان بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وهم أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه وَجْهَ النَّهارِ أي أوله كما في قول الربيع بن زياد:
من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا «بوجه نهار»
وسمي وجها لأنه أول ما يواجهك منه، وقيل: لأنه كالوجه في أنه أعلاه وأشرف ما فيه وذكر الثعالبي أنه في ذلك استعارة معروفة وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بسبب هذا الفعل عن اعتقادهم حقية ما أنزل عليهم- قال الحسن، والسدي- تواطأ اثنا عشر رجلا من أحبار يهود خيبر، وقرى عرينة، وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد- أول النهار- باللسان دون الاعتقاد- واكتفروا آخر النهار- وقولوا إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس بذاك وظهر لنا كذبه وبطلان دينه فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم فقالوا: إنهم أهل الكتاب وهم أعلم به فيرجعون عن دينهم إلى دينكم، وقال مجاهد، ومقاتل، والكلبي: كان هذا في شأن القبلة لما حولت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فقال كعب بن الأشرف لأصحابه آمنوا بالذي أنزل على محمد من أمر الكعبة وصلوا إليها أول النهار وارجعوا إلى قبلتكم آخره لعلهم يشكون، والتعبير بما أنزل بناء على ما يقوله المؤمنون وإلا فهم يكذبون ولا يصدقون أن الله تعالى أنزل شيئا على المؤمنين، وظاهر الآية، يدل على وقوع أمر بعضهم لبعض أن يقولوا ذلك. وأما امتثال الأمر من المأمور فمسكوت عن بيان وقوعه وعدمه، وعن بعضهم أن في الأخبار ما يدل على وقوعه.
وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ في نظم الآية ومعناها أوجه لخصها الشهاب من كلام بعض المحققين، أحدها أن التقدير وَلا تُؤْمِنُوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وهم المسلمون أوتوا كتابا سماويا كالتوراة ونبيا مرسلا كموسى- وبأن يحاجوكم- ويغلبوكم بالحجة يوم القيامة إلا لاتباعكم، وحاصله أنهم نهوهم عن إظهار هذين الأمرين المسلمين لئلا يزدادوا تصلبا ولمشركي العرب لئلا يبعثهم على الإسلام وأتى- بأو- على وزان وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان: 24] وهو أبلغ.
والحمل على معنى حتى صحيح مرجوح، وأتى بقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ معترضا بين الفعل ومتعلقه، وفائدة الاعتراض الإشارة إلى أن كيدهم غير ضار لمن لطف الله تعالى به بالدخول في الإسلام أو زيادة التصلب فيه.
ويفيد أيضا أن الهدى هداه فهو الذي يتولى ظهوره يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ [الصف:

(2/192)


8] فالمراد بالإيمان إظهاره كما ذكره الزمخشري، أو الإقرار اللساني كما ذكره الواحدي، والمراد من التابعين المتصلب منهم، وإلا وقع ما فروا منه، وثانيها أن المراد وَلا تُؤْمِنُوا هذا الإيمان الظاهر الذي أتيتم به وجه النهار إلا لمن كان تابعا لدينكم أولا وهم الذين أسلموا منهم أي لأجل رجوعهم لأنه كان عندهم أهم وأوقع، وهم فيه أرغب وأطمع، وعند هذا تم الكلام، ثم قيل: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أي فمن يهدي الله فلا مضل له ويكون قوله تعالى: أَنْ يُؤْتى إلخ على هذا معللا لمحذوف أي- لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم- ولما يتصل به من الغلبة بالحجة يوم القيامة دبرتم ما دبرتم.
وحاصله أن داعيكم إليه ليس إلا الحسد، وإنما أتى- بأو- تنبيها على استقلال كل من الأمرين في غيظهم وحملهم على الحسد حتى دبروا ما دبروا ولو أتى بالواو لم تقع هذا الموقع للعلم بلزوم الثاني للأول لأنه إذا كان ما أوتوا حقا غلبوا يوم القيامة مخالفهم لا محالة فلم يكن فيه فائدة زائدة، وأما- أو- فتشعر بأن كلا مستقل في الباعثية على الحسد والاحتشاد في التدبير، والحمل على معنى حتى ليس له موقع يروع السامع وإن كان وجها ظاهرا.
ويؤيد هذا الوجه قراءة ابن كثير- أن يؤتى- بزيادة همزة الاستفهام للدلالة على انقطاعه عن الفعل واستقلاله بالإنكار، وفيه تقييد الإيمان بالصادر أول النهار بقرينة إن الكلام فيه وتخصيص من تبع بمسلميهم بقرينة المضي فإن غيرهم متبع دينهم الآن أيضا، وعن الزمخشري أن أَنْ يُؤْتى إلخ من جملة المقول كأنه قيل: قل لهم هذين القولين ومعناه أكد عليهم أن الهدى ما فعل الله تعالى من إيتاء الكتاب غيركم، وأنكر عليهم أن يمتعضوا من أن يؤتى أحد مثله- كأنه قيل- قل: إن الهدى هدى الله، وقل- لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم- قلتم ما قلتم وكدتم ما كدتم، وثالثها أن يقرر ولا تؤمنوا على ما قرر عليه الثاني، ويجعل أن يؤتى خبر إِنَّ وهُدَى اللَّهِ بدل من اسمها- وأو- بمعنى حتى على أنها غاية سببية، وحينئذ لا ينبغي أن يخص عند ربكم بيوم القيامة بل بالمحاجة الحقة كما أشير إليه في البقرة، ولو حملت على العطف لم يلتئم الكلام، ورابعها أن يكون وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ إلخ باقيا على إطلاقه أي واكفروا آخره واستمروا على ما كنتم فيه من اليهودية ولا تقروا لأحد إلا لمن هو على دينكم وهو من جملة مقول الطائفة ويكون قُلْ إِنَّ الْهُدى إلخ أمرا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقول ذلك في جوابهم على معنى قل: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ فلا تنكروا أن يؤتى حتى تحاجوا وقرينة الإضمار أن وَلا تُؤْمِنُوا إلخ تقرير على اليهودية وأنه لا دين يساويها فإذا أمر صلى الله تعالى عليه وسلم أن يجيبهم علم أن ما أنكروه غير منكر وأنه كائن، وحمل- أو- على معناها الأصلي حينئذ أيضا حسن لأنه تأييد للإيتاء وتعريض بأن من أوتي مثل ما أوتوا هم الغالبون، وقرئ- أن يؤتى- بكسر همزة إن على أنها نافية- أي قولوا لهم ما يؤتى- وهو خطاب لمن أسلم منهم رجاء العود، والمعنى لا إيتاء ولا محاجة- فأو- بمعنى حتى، وقدر قولوا توضيحا وبيانا لأنه ليس استئنافا تعليلا، وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدى إلخ اعتراض ذكر قبل أن يتم كلامهم للاهتمام ببيان فساد ما ذهبوا إليه وأرجح الأوجه الثاني لتأيده بقراءة ابن كثير وأنه أفيد من الأول وأقل تكلفا من باقي الأوجه، وأقرب إلى المساق انتهى.
«وأقول» ما ذكره في الوجه الرابع من تقرير فلا تنكروا أَنْ يُؤْتى إلخ هو قول قتادة، والربيع، والجبائي لكنهم لم يجعلوا- أو- بمعنى حتى وهو أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما وكذا القول بإبدال أن يؤتى من الهدى قول السدي.
وابن جريج إلا أنهم قدروا- لا- بين أن ويؤتى، واعترض عليهما أبو العباس المبرد بأن- لا- ليست مما تحذف هاهنا، والتزم تقدير مضاف شاع تقديره في أمثال ذلك وهو كراهة، والمعنى إن الهدى كراهة- أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم- أي ممن خالف دين الإسلام لأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار فهدى الله تعالى بعيد من غير المؤمنين، ولا يخفى

(2/193)


أنه معنى متوعر، وليس بشيء، ومثله ما قاله قوم من أن أَنْ يُؤْتى إلخ تفسير للهدى، وأن المؤتى هو الشرع وأن أَوْ يُحاجُّوكُمْ عطف على أوتيتم، وأن ما يحاج به العقل وأن تقدير الكلام أن هدى الله تعالى ما شرع أو ما عهد به في العقل، ومن الناس من جعل الكلام من أول الآية إلى آخرها من الله تعالى خطابا للمؤمنين قال: والتقدير ولا تؤمنوا أيها المؤمنون إلا لمن تبع دينكم وهو دين الإسلام ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الدين فلا نبي بعد نبيكم عليه الصلاة والسلام ولا شريعة بعد شريعتكم إلى يوم القيامة ولا تصدقوا بأن يكون لأحد حجة عليكم عند ربكم لأن دينكم خير الأديان، وجعل قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ اعتراضا للتأكيد وتعجيل المسرة- ولا يخفى ما فيه- واختيار البعض له والاستدلال عليه بما قاله الضحاك- إن اليهود قالوا: إنا نحج عند ربنا من خالفنا في ديننا فبين الله تعالى لهم أنهم هم المدحضون المغلوبون وأن المؤمنين هم الغالبون- ليس بشيء لأن هذا البيان لا يتعين فيه هذا الجمل كما لا يخفى على ذي قلب سليم، والضمير المرفوع من يحاجوكم على كل تقدير عائد إلى أحد لأنه في معنى الجمع إذا المراد به غير أتباعهم.
واستشكل ابن المنير قطع أَنْ يُؤْتى عن لا تُؤْمِنُوا على ما في بعض الأوجه السابقة بأنه يلزم وقوع أحد في الواجب لأن الاستفهام هنا إنكار، واستفهام الإنكار في مثله إثبات إذ حاصله أنه أنكر عليهم ووبخهم على ما وقع منهم وهو إخفاء الإيمان بأن النبوة لا تخص بني إسرائيل لأجل العلتين المذكورتين فهو إثبات محقق، ثم قال: ويمكن أن يقال: روعيت صيغة الاستفهام وإن لم يكن المراد حقيقته فحسن دخول أحد في سياقه لذلك- وفيه تأمل- فتأمل وتدبر، فقد قال الواحدي: إن هذه الآية من مشكلات القرآن وأصعبه تفسيرا قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ رد وإبطال لما زعموه بأوضح حجة، والمراد من الفضل الإسلام- قاله ابن جريج- وقال غيره: النبوة وقيل: الحجج التي أوتيها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون، وقيل: نعم الدين والدنيا ويدخل فيه ما يناسب المقام دخولا أوليا يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أي من عباده وَاللَّهُ واسِعٌ رحمة، وقيل: واسع القدرة يفعل ما يشاء عَلِيمٌ بمصالح العبادة، وقيل: يعلم حيث يجعل رسالته يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ قال الحسن: هي النبوة، وقال ابن جريج: الإسلام والقرآن، وقال ابن عباس هو وكثرة الذكر لله تعالى، والباء داخلة على المقصور وتدخل على المقصور عليه وقد نظم ذلك بعضهم فقال:
والباء بعد الاختصاص يكثر ... دخولها على الذي قد قصروا

وعكسه مستعمل وجيد ... ذكره الحبر الإمام السيد
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ قال ابن جبير: يعني الوافر.
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ شروع في بيان نوع آخر من معايبهم، وتَأْمَنْهُ من أمنته بمعنى ائتمنته والباء، قيل: بمعنى على، وقيل: بمعنى في أي في حفظ قنطار والقنطار تقدم- قنطار من الكلام فيه- يروى أن عبد الله بن سلام استودعه قرشي ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأداه إليه.
وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ كفنحاص بن عازوراء فإنه يروى أنه استودعه قرشي آخر دينارا فجحده، وقيل: المأمون على الكثير النصارى إذ الغالب فيهم الأمانة، والخائنون في القليل اليهود إذ الغالب عليهم الخيانة. وروي هذا عن عكرمة، والدينار- لفظ أعجمي وياؤه بدل عن نون وأصله دنار فأبدل أول المثلين ياء لوقوعه بعد كسرة، ويدل على الأصل جمعه على دنانير فإن الجمع يردّ الشيء إلى أصله، وهو في المشهور أربعة وعشرون قيراطا والقيراط ثلاث حبات من وسط الشعير فمجموعه اثنتان وسبعون حبة قالوا: ولم يختلف جاهلية ولا إسلاما، ومن الغريب ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مالك بن دينار أنه قال: إنما سمي الدينار دينارا لأنه- دين ونار- ومعناه أن من

(2/194)


أخذه بحقه فهو دينه، ومن أخذه بغير حقه فله النار، ولعله إبداء إشارة من هذا اللفظ لا أنه في نفس الأمر كذلك كما لا يخفى على- مالك درهم من عقل فضلا عن مالك دينار- وقرئ يُؤَدِّهِ بكسر الهاء مع وصلها بياء في اللفظ بالكسر من غير ياء، وبالإسكان إجراء للوصل مجرى الوقف وبضم الهاء ووصلها بواو في اللفظ وبضمها من غير واو إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً استثناء من أعم الأحوال، أو الأوقات أي لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ في حال من الأحوال، أو في وقت من الأوقات إلا في حال دوام قيامك، أو في وقت دوام قيامك، والقيام مجاز عن المبالغة في المطالبة، وفسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالالحاح، والسدي بالملازمة والاجتماع معه، والحسن بالملازمة والتقاضي، والجمهور على ضم دال- دمت- فهو عندهم كقلت، وقرئ بكسر الدال فهو حينئذ على وزان خفت وهو لغة، والمضارع على اللغة الأولى يدوم كيقوم، وعلى الثانية يدام كيخاف ذلِكَ أي ترك الأداء المدلول عليه بقوله سبحانه وتعالى: لا يُؤَدِّهِ.
بِأَنَّهُمْ قالُوا ضمير الجمع عائد على مِنْ في مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ وجمع حملا على المعنى والباء للسببية أي بسبب قولهم لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أي ليس علينا فيما أصبناه من أموال العرب عتاب وذم.
أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: بايع اليهود رجال من المسلمين في الجاهلية فلما أسلموا تقاضوهم عن بيوعهم فقالوا: ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم فقال الله تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي إنهم كاذبون، وقال الكلبي: قالت اليهود:
الأموال كلها كانت لنا فما في أيدي العرب منها فهو لنا وأنهم ظلمونا وغصبونا فلا إثم علينا في أخذ أموالنا منهم،
وأخرج ابن المنذر، وغيره عن سعيد بن جبير قال: «لما نزلت «ومن أهل الكتاب» إلى قوله سبحانه: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر»
والجار والمجرور متعلق بيقولون، والمراد يفترون، ويجوز أن يكون حالا من الكذب مقدما عليه، ولم يجوز أبو البقاء تعلقه به لأن الصلة لا تتقدم على الموصول، وأجازه غيره لأنه كالظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره بَلى جواب لقولهم ليس علينا في الأميين سبيل، وإيجاب لما نفوه، والمعنى بَلى عليهم في الأميين سبيل.
مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ استئناف مقرر للجملة التي دلت عليها بَلى حيث أفادت بمفهومها المخالف ذم من لم يف بالحقوق مطلقا فيدخلون فيه دخولا أوليا، ومَنْ إما موصولة أو شرطية، وأَوْفى فيه ثلاث لغات: إثبات الهمزة وحذفها مع تخفيف الفاء وتشديدها، والضمير في- عهده- عائد على مَنْ وقيل: يعود على اللَّهِ فهو على الأول مصدر مضاف لفاعله، وعلى الثاني مصدر مضاف لمفعوله، أو لفاعله ولا بد من ضمير يعود على مَنْ من الجملة الثانية، فإما أن يقام الظاهر مقام المضمر في الربط إن كان الْمُتَّقِينَ من أَوْفى وإما أن يجعل عمومه وشموله رابطا إن كان المتقين عاما وإنما وضع الظاهر موضع الضمير على الأول تسجيلا على الموفين بالعهد بالتقوى وإشارة إلى علة الحكم ومراعاة لرؤوس الآي، ورجح الأول بقوة الربط فيه، وقال ابن هشام: الظاهر أنه لا عموم وأن الْمُتَّقِينَ مساو لمن تقدم ذكره والجواب لفظا، أو معنى محذوف تقديره يحبه الله، ويدل عليه فَإِنَّ اللَّهَ إلخ، واعترضه الحلبي بأنه تكلف لا حاجة إليه، وقوله: الظاهر إنه لا عموم في حيز المنع فإن ضمير بِعَهْدِهِ إذا كان لله فالالتفات عن الضمير إلى الظاهر لإفادة العموم كما هو المعهود في أمثاله قاله بعض المحققين.

(2/195)


إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا
أخرج الستة، وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان فقال الأشعث بن قيس: في والله كان ذلك كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ألك بينة؟ قلت: لا فقال لليهودي: احلف. فقلت: يا رسول الله، إذا يحلف فيذهب مالي فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ» إلخ.
وأخرج البخاري، وغيره عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلا أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت هذه الآية.
وأخرج أحمد، وابن جرير- واللفظ له- عن عدي بن عميرة قال: كان بين امرئ القيس ورجل من حضر موت خصومة فارتفعا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «فقال للحضرمي: بينتك وإلا فيمينه قال: يا رسول الله إن حلف ذهب بأرضي فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها حق أخيه لقي الله تعالى وهو عليه غضبان فقال امرؤ القيس: يا رسول الله فما لمن تركها وهو يعلم أنها حق؟ قال: الجنة قال: فإني أشهدك إني قد تركتها» فنزلت،
وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في أبي رافع. ولبابة بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف. وحيي بن أخطب حرفوا التوراة وبدلوا نعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وحكم الأمانات وغيرهما وأخذوا على ذلك رشوة، وروي غير ذلك ولا مانع من تعدد سبب النزول كما حققوه.
والمراد- يشترون- يستبدلون، وبالعهد أمر الله تعالى، وما يلزم الوفاء به، وقيل: ما عهده إلى اليهود في التوراة من أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: ما في عقل الإنسان من الزجر عن الباطل والانقياد إلى الحق، والأيمان- الأيمان الكاذبة، وبالثمن القليل- الأعواض النزرة، أو الرشا، ووصف ذلك بالقلة لقلته في جنب ما يفوتهم من الثواب ويحصل لهم من العقاب أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي لا نصيب لهم من نعيمها بسبب ذلك الاستبدال وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ أي بما يسرهم بل بما يسوؤهم وقت الحساب لهم- قاله الجبائي- أو لا يكلمهم بشيء أصلا وتكون المحاسبة بكلام الملائكة لهم بأمر الله تعالى إياهم استهانة بهم، وقيل: المراد إنهم لا ينتفعون بكلمات الله تعالى وآياته ولا يخفى بعده، واستظهر أن يكون ذا كناية عن غضبه سبحانه عليهم.
وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي لا يعطف عليهم ولا يرحمهم كما يقول القائل- انظر إليّ- يريد ارحمني، وجعله الزمخشري مجازا عن الاستهانة بهم والسخط عليهم، وفرق بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر المفسر بتقليب الحدقة وفيمن لا يجوز عليه ذلك بأن أصله فيمن يجوز عليه الكناية لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثم نظر، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجردا لمعنى الإحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر، وفي الكشف إن في هذا تصريحا بأن الكناية يعتبر فيها صلوح إرادة الحقيقة وإن لم ترد وأن الكنايات قد تشتهر حتى لا تبقى تلك الجهة ملحوظة وحينئذ تلحق بالمجاز ولا تجعل مجازا إلا بعد الشهرة لأن جهة الانتقال إلى المعنى المجازي أو لا غير واضحة بخلاف لمعنى المكنى عنه، وبهذا يندفع ما ذكره غير واحد من المخالفة بين قولي الزمخشري في جعل بسط اليد في قوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [المائدة: 64] مجازا عن الجود تارة وكناية أخرى إذ حاصله أنه إن قطع النظر عن المانع الخارجي كان كناية ثم ألحق بالمجاز فيطلق عليه أنه كناية باعتبار أصله قبل الإلحاق ومجاز بعده فلا تناقض بينهم كما توهموه فتدبر.

(2/196)


والظرف متعلق بالفعلين وفيه تهويل للوعيد وَلا يُزَكِّيهِمْ أي ولا يحكم عليهم بأنهم أزكياء ولا يسميهم بذلك بل يحكم بأنهم كفرة فجرة- قاله القاضي- وقال الجبائي: لا ينزلهم منزلة الأزكياء، وقيل: لا يطهرهم عن دنس الذنوب والأوزار بالمغفرة وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم موجع، والظاهر أن ذلك في القيامة إلا أنه لم يقيد به اكتفاء بالأول، وقيل: إنه في الدنيا بالإهانة وضرب الجزية بناء على أن الآية في اليهود.
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً أي إن من أهل الكتاب الخائنين لجماعة يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ أي يحرفونه- قاله مجاهد- وقيل: أصل- اللّي- الفتل من قولك: لويت يده إذا فتلتها، ومنه لويت الغريم إذا مطلته حقه قال الشاعر:
تطيلين لياني وأنت «ملية» ... وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا
وفي الخبر «ليّ الواجد ظلم»
فالمعنى يفتلون ألسنتهم في القراءة بالتحريف في الحركات ونحوها تغييرا يتغير به المعنى ويرجع هذا في الآخرة إلى ما قاله مجاهد، وقريب منه ما قيل: إن المراد يميلون الألسنة بمشابه الكتاب، والألسنة- جمع لسان. وذكر ابن الشحنة أنه يذكر ويؤنث، ونقل عن أبي عمرو بن العلاء أن من أنثه جمعه على ألسن، ومن ذكره جمعه على ألسنة، وعن الفراء أنه قال: اللسان بعينه لم أسمعه من العرب إلا مذكرا ولا يخفى أن المثبت مقدم على النافي والباء صلة، أو للآلة، أو للظرفية، أو للملابسة، والجار والمجرور حال من الألسنة أي ملتبسة بالكتاب، وقرأ أهل المدينة- يلوون- بالتشديد فهو على حد لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ [المنافقون: 5] وعن مجاهد وابن كثير- يلون- على قلب الواو المضمومة همزة ثم تخفيفها بحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها كذا قيل، واعترض عليه بأنه لو نقلت ضمة الواو لما قبلها فحذفت لالتقاء الساكنين كفى في التوجيه فأي حاجة إلى قلب الواو همزة، ورد بأنه فعل ذلك ليكون على القاعدة التصريفية بخلاف نقل حركة الواو ثم حركة الواو ثم حذفها على ما عرف في التصريف، ونظر فيه بعض المحققين بأن الواو المضمومة إنما تبدل همزة إذا كانت ضمتها أصلية فهو مخالف للقياس أيضا.
نعم قرئ- يلؤون- بالهمز في الشواذ وهو يؤيده، وعلى كل ففيه اجتماع إعلالين ومثله كثير، وأما جعله من- الولي- بمعنى القرب أي يقربون ألسنتهم بميلها إلى المحرف فبعيد من الصحيح قريب إلى المحرف.
لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ أي لتظنوا أيها المسلمون أن المحرف المدلول عليه- باللي- أو المشابه من كتاب الله تعالى المنزل على بعض أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، وقرئ ليحسبوه بالياء والضمير أيضا للمسلمين.
وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ ولكنه من قبل أنفسهم وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي ويزعمون صريحا غير مكتفين بالتورية والتعريض أن المحرف، أو المشابه نازل من عند الله وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي وليس هو نازلا من عند الله تعالى، والواو- للحال والجملة حال من ضمير المبتدأ في الخبر، وفي جملة وَيَقُولُونَ إلخ تأكيد للنفي الذي قبلها وليس الغرض التأكيد فقط وإلا لما توجه العطف بل التشنيع أيضا بأنهم لم يكتفوا بذلك التعريض حتى ارتكبوا هذا التصريح وبهذا حصلت المغايرة المقتضية للعطف، والإظهار في موضع الإضمار لتهويل ما قدموا عليه، واستدل الجبائي والكعبي بالآية على أن فعل العبد ليس بخلق الله تعالى وإلا صدق أولئك المحرفون بقولهم هو من عند الله تعالى لكن الله ردّ بأن القوم ما ادعوا أن التحريف منه عند الله وبخلقه وإنما ادعوا أن المحرف منزل من عند الله، أو حكم من أحكامه فتوجه تكذيب الله تعالى إياهم إلى هذا الذي زعموا.
والحاصل أن المقصود بالنفي كما أشرنا إلى نزوله من عنده سبحانه وهو أخص من كونه من فعله وخلقه، ونفي

(2/197)


الخاص لا يستلزم نفي العام فلا يدل على مذهب المعتزلة القائلين بأن أفعال العبادة مخلوقة لهم لا لله تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي في نسبتهم ذلك إلى الله تعالى تعريضا وتصريحا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كاذبون عليه سبحانه وهو تسجيل عليهم بأن ما افتروه عن عمد لا خطأ، وقيل: يَعْلَمُونَ ما عليهم في ذلك من العقاب، روى الضحاك عن ابن عباس أن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعا وذلك أنهم حرفوا التوراة والإنجيل وألحقوا بكتاب الله تعالى ما ليس منه، وروى غير واحد أنها في طائفة من اليهود، وهم كعب بن الأشرف، ومالك، وحيي بن أخطب، وأبو ياسر، وشعبة بن عمرو الشاعر غيروا ما هو حجة عليهم من التوراة.
واختلف الناس في أن المحرف هل كان يكتب في التوراة أم لا؟ فذهب جمع إلى أنه ليس في التوراة سوى كلام الله تعالى وأن تحريف اليهود لم يكن إلا تغييرا وقت القراءة أو تأويلا باطلا للنصوص، وأما أنهم يكتبون ما يرومون في التوراة على تعدد نسخها فلا، واحتجوا لذلك بما أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه قال: إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منهما حرف ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم ويقولون: إن ذلك من عند الله وما هو من عند الله فأما كتب الله تعالى فإنها محفوظة لا تحول
وبأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول لليهود إلزاما لهم: «ائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين»
وهم يمتنعون عن ذلك فلو كانت مغيرة إلى ما يوافق مرامهم ما امتنعوا بل وما كان يقول لهم ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه يعود على مطلبه الشريف بالإبطال.
وذهب آخرون إلى أنهم بدلوا وكتبوا ذلك في نفس كتابهم واحتجوا على ذلك بكثير من الظواهر ولا يمنع من ذلك تعدد النسخ إما لاحتمال التواطؤ أو فعل ذلك في البعض دون البعض وكذا لا يمنع منه قول الرسول لهم ذلك لاحتمال علمه صلى الله تعالى عليه وسلم ببقاء بعض ما يفي بغرضه سالما عن التغيير إما لجهلهم بوجه دلالته، أو لصرف الله تعالى إياهم عن تغييره، وأما ما روي عن وهب فهو على تقدير ثبوته عنه يحتمل إن يكون قولا عن اجتهاد، أو ناشئا عن عدم استقراء تام، ومما يؤيد وقوع التغيير في كتب الله تعالى وأنها لم تبق كيوم نزلت وقوع التناقض في الأناجيل وتعارضها وتكاذبها وتهافتها ومصادمتها بعضها ببعض، فإنها أربعة أناجيل: الأول إنجيل متى وهو من الاثني عشر الحواريين- وإنجيله باللغة السريانية- كتبه بأرض فلسطين بعد رفع المسيح إلى السماء بثماني سنين وعدد إصحاحاته ثمانية وستون إصحاحا، والثاني إنجيل مرقس وهو من السبعين- وكتب إنجيله باللغة الفرنجية بمدينة رومية بعد رفع المسيح باثنتي عشرة سنة- وعدد إصحاحاته ثمانية وأربعون إصحاحا، والثالث إنجيل لوقا وهو من السبعين أيضا- كتب إنجيله باللغة اليونانية بمدينة الاسكندرية بعد ذلك- وعدد إصحاحاته ثلاثة وثمانون إصحاحا، والرابع إنجيل يوحنا وهو حبيب المسيح- كتب إنجيله بمدينة إفسس من بلاد رومية بعد رفع المسيح بثلاثين سنة- وعدد إصحاحاته في النسخ القبطية ثلاثة وثلاثون إصحاحا. وقد تضمن كل إنجيل من الحكايات والقصص ما أغفله الآخر، واشتمل على أمور وأشياء قد اشتمل الآخر على نقيضها أو ما يخالفها، وفيها ما تحكم الضرورة بأنه ليس من كلام الله تعالى أصلا، فمن ذلك أن متى ذكر أن المسيح صلب وصلب معه لصان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله وأنهما جميعا كانا يهزءان بالمسيح مع اليهود ويعيرانه، وذكر لوقا خلاف ذلك فقال: إن أحدهما كان يهزأ به والآخر يقول له:
أما تتقي الله تعالى أما نحن فقد جوزينا وأما هذا فلم يعمل قبيحا ثم قال للمسيح: يا سيدي اذكرني في ملكوتك فقال:
حقا إنك تكون معي اليوم في الفردوس. ولا يخفى أن هذا يؤول إلى التناقض فإن اللصين عند متى كافران وعند لوقا أحدهما مؤمن والآخر كافر، وأغفل هذه القصة مرقس، ويوحنا، ومنه أن لوقا ذكر أنه قال يسوع: إن ابن الإنسان لم

(2/198)


يأت ليهلك نفوس الناس ولكن ليحيي وخالفه أصحابه، وقالوا بل قال: إن ابن الإنسان لم يأت ليلقي على الأرض سلامة لكن سيفا ويضرم فيها نارا، ولا شك أن هذا تناقض، أحدهما يقول جاء رحمة للعالمين، والآخر يقول: جاء نقمة على الخلائق أجمعين، ومن ذلك أن متى قال: قال يسوع للتلاميذ الإثني عشر: أنتم الذين تكونون في الزمن الآتي جلوسا على اثني عشر كرسيا تدينون اثني عشر سبطا إسرائيل فشهد للكل بالفوز والبر عامة في القيامة ثم نقض ذلك متى وغيره وقال: مضى واحد من التلاميذ الاثني عشر وهو يهوذا صاحب صندوق الصدقة فارتشى على يسوع بثلاثين درهما وجاء بالشرطي فسلم إليهم يسوع فقال يسوع: الويل له خير له أن لا يولد، ومنه أن متى أيضا ذكر أنه لما حمل يسوع إلى فيلاطس القائد قال: أي شر فعل هذا فصرخ اليهود وقالوا: يصلب يصلب فلما رأى عزمهم وأنه لا ينفع فيهم أخذ ماء وغسل يديه وقال: أنا بريء من دم هذا الصديق وأنتم أبصر، وأكذب يوحنا ذلك فقال: لما حمل يسوع إليه قال لليهود: ما تريدون؟ قالوا: يصلب فضرب يسوع ثم سلمه إليهم إلى غير ذلك مما يطول، فإذا وقع هذا التغيير والتحريف في أصول القوم ومتقدميهم فما ظنك في فروعهم ومتأخيرهم:
وإذا كان في الأنابيب حيف ... وقع الطيش في صدور الصعاد
ويا ليت شعري هل تنبه ابن منبه لهذا أم لم يتنبه فقال: إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى سبحان الله هذا من العجب العجاب؟! ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ تنزيه لأنبياء الله تعالى عليهم الصلاة والسلام إثر تنزيه الله تعالى عن نسبة ما افتراه أهل الكتاب إليه، وقيل: تكذيب وردّ على عبدة عيسى عليه السلام.
وأخرج ابن إسحق وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال «قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس: أو ذاك تريد منا يا محمد؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني» فأنزل الله تعالى الآية.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: بلغني أن رجلا قال: «يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال: لا ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله تعالى» فنزلت،
وأخرج ابن أبي حاتم قال: «كان ناس من يهود يتعبدون الناس من دون ربهم بتحريفهم كتاب الله تعالى عن موضعه فقال: ما كان لبشر» إلخ، والمعنى ما يصح، وقيل: ما ينبغي، وقيل لا يجوز لأحد، وعبر بالبشر إيذانا بعلة الحكم فإن البشرية منافية للأمر الذي أسنده الكفرة إلى أولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام.
والجار خبر مقدم- لكان- والمنسبك من أَنْ والفعل بعد اسمها ولا بد لاستقامة المعنى من ملاحظة العطف إذ لو سكت عنه لم يصح لأن الله تعالى قد آتى كثيرا من البشر الكتاب وأخويه، وعطف الفعل على منصوب أن- بثم- تعظيما لهذا القول فإنه إذا انتفى بعد مهلة كان انتفاؤه بدونها أولى وأحرى فكأنه قيل: إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول أصلا وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام والحكم بمعنى الحكمة، وقد تقدم معناها، والعباد- جمع عبد قال القاضي: وهو هنا من العبادة ولم يقل عبيدا لأنه من العبودية وهي لا تمتنع أن تكون لغير الله تعالى، ولهذا يقال: هؤلاء عبيد زيد ولا يقال: عباده، والظرف الذي بعده متعلق بمحذوف وقع صفة له أي عبادا كائنين لِي

(2/199)


ومِنْ دُونِ اللَّهِ متعلق بلفظ عِباداً لما فيه من معنى الفعل، ويجوز أن يكون صفة ثانية وأن يكون حالا لتخصيص النكرة بالوصف أي متجاوزين الله تعالى إشراكا وإفرادا- كما قال الجبائي- فإن التجاوز متحقق فيهما حتما، ثم إن هذا الإيتاء في الآية حقيقة على الروايتين الأوليين مجاز على الرواية الأخيرة كما لا يخفى.
وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ إثبات لما نفي سابقا، وهو القول المنصوب بأن كأنه قيل: ما كان لذلك البشر أن يقول ذلك لكن يقول كونوا ربانيين، فالفعل هنا منصوب أيضا عطفا عليه، وجوز رفعه على المعنى لأنه في معنى لا يقول، وقيل: يصح عدم تقدير القول على معنى لا تكونوا قائلين لذلك وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ
وفسر علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس الرباني بالفقيه العالم،
وقتادة. والسدي بالعالم الحكيم، وابن جبير بالحكيم التقي، وابن زيد بالمدبر أمر الناس- وهي أقوال متقاربة، وهو لفظ عربي لا سرياني على الصحيح.
وزعم أبو عبيدة أن العرب لا تعرفه وهو منسوب إلى الرب كإلهي، والألف والنون يزادان في النسب للمبالغة كثيرا- كلحياني- لعظيم اللحية، والجماني لوافر الجمة، ورقباني بمعنى غليظ الرقبة، وقيل: إنه منسوب إلى ربان صفة كعطشان بمعنى مربى بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ الباء السببية متعلقة- بكونوا- أي كونوا كذلك بسبب مثابرتكم على تعليمكم الكتاب ودراستكم له، والمطلوب أن لا ينفك العلم عن العمل إذ لا يعتد بأحدهما بدون الآخر، وقيل: متعلقة- بربانيين- لأن فيه معنى الفعل، وقيل بمحذوف وقع صفة له- والدراسة- التكرار يقال: درس الكتاب أي كرره، وتطلق على القراءة، وتكرير بِما كُنْتُمْ للإشعار باستقلال كل من استمرار التعليم، واستمرار القراءة المشعر به جعل خبر «كان» مضارعا بالفضل، وتحصيل الربانية، وقدم تعليم الكتاب على دراسته لوفور شرفه عليها، أو لأن الخطاب الأول لرؤسائهم، والثاني لمن دونهم، وقيل: لأن متعلق التعليم الكتاب بمعنى القرآن، ومتعلق الدراسة الفقه- وفيه بعد بعيد- وإن أشعر به كلام بعض السلف.
وقرأ نافع، وابن كثير، ويعقوب، وأبو عمرو، ومجاهد «تعلمون» بمعنى عالمين، وقرئ «تدرّسون» بالتشديد من التدريس، وتدرسون من الإدراس بمعناه، ومجيء أفعل بمعنى فعل كثير، وجوز كون القراءة المشهورة أيضا بهذا المعنى على أن يكون المراد تدرسونه للناس.
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً قرأ ابن عامر، وحمزة، وعاصم، ويعقوب «ولا يأمركم» بالنصب عطفا على يقول، وَلا أما مزيدة لتأكيد معنى النفي الشائع في الاستعمال سيما عند طول العهد وتخلل الفصل، والمعنى ما كان لبشر أن يؤتيه الله تعالى ذلك ويرسله للدعوة إلى اختصاصه بالعبادة وترك الأنداد، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له، ويأمركم أن تتخذوا الملائكة وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً فهو كقولك: ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ولا يستخف بي، وإما غير زائدة بناء على
أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان ينهى عن عبادة الملائكة، والمسيح، وعزير عليهم السلام فلما قيل له: أنتخذك ربا؟ قيل لهم: «ما كان لبشر أن يتخذه الله تعالى نبيا ثم يأمر الناس بعبادته وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء مع أن من يريد أن يستعبد شخصا يقول له: ينبغي أن تعبد أمثالي وأكفائي»
وعلى هذا يكون المقصود- من عدم الأمر- النهي وإن كان أعم منه لكونه أمسّ، بالمقصود وأوفق للواقع، وقرأ باقي السبعة وَلا يَأْمُرَكُمْ بالرفع على الاستئناف، ويحتمل الحالية، وقيل: والرفع على الاستئناف أظهر، وينصره قراءة «ولن يأمركم» ووجهت الأظهرية بالخلو عن تكلف جعل عدم الأمر بمعنى النهي، وبأن العطف يستدعي تقديمه على لكِنْ وكذا الحالية أيضا.
وقرئ بإسكان الراء فرارا من توالي الحركات وعلى سائر القراءات ضمير الفاعل عائد على- بشر- وجوز

(2/200)


عوده في بعضها على الله تعالى، وجوز الأمران أيضا في قوله تعالى: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ والاستفهام فيه للإنكار وكون مرجع الضمير في أحد الاحتمالين نكرة يجعله عاما بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ استدل به الخطيب على أن الآية نزلت في المسلمين القائلين «أفلا نسجد لك؟» بناء على الظاهر، ووجه كون الخطاب للكفار وأن الآية نزلت فيهم بأنه يجوز أن يقال لأهل الكتاب: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي منقادون مستعدون للدين الحق إرخاء للعنان واستدراجا، والقول- بأن كل مصدق بنبيه مسلم ودعواه أنه أمره نبيه بما يوجب كفره دعوى أنه أمره بالكفر بعد إسلامه فدلالة هذا على أن الخطاب للمسلمين ضعيفة- في غاية السقوط كما لا يخفى.
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ الظرف منصوب بفعل مقدر مخاطب به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم- أي اذكر وقت ذلك- واختار السمين كونه معمولا «لأقررتم» الآتي، وضعفه عبد الباقي بأن خطاب أَأَقْرَرْتُمْ بعد تحقق أخذ الميثاق، وفيه تردد، وعطفه على ما تقدم من قوله تعالى: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ كما نقله الطبرسي بعيد.
واختلف في المراد من الآية فقيل: إنها على ظاهرها ويؤيد ذلك ما
أخرجه ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لم يبعث الله تعالى نبيا آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأمره فيأخذ العهد على قومه ثم تلا الآية
وعدم ذكر الأمم فيها حينئذ إما لأنهم معلومون بالطريق الأولى أو لأنه استغنى بذكر النبيين عن ذكرهم، ففي الآية اكتفاء وليس فيها الجمع بين المتنافيين، وقيل: إن إضافة الميثاق إلى النبيين إضافة إلى الفاعل، والمعنى وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه النبيون على أممهم- وإلى هذا ذهب ابن عباس- فقد أخرج ابن المنذر. وغيره عن سعيد بن جبير أنه قال: قلت لابن عباس: إن أصحاب عبد الله يقرؤون «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لما آتيتكم» إلخ ونحن نقرأ ميثاق النبيين فقال ابن عباس: إنما أخذ الله تعالى ميثاق النبيين على قومهم، وأشار بذلك رضي الله تعالى عنه إلى أنه لا تناقض بين القراءتين كما توهم حتى ظن أن ذلك منشأ قول مجاهد فيما رواه عنه ابن المنذر، وغيره أن وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ خطأ من الكتاب- وأن الآية كما قرأ عبد الله- وليس كذلك إذ لا يصلح ذلك وحده منشأ وإلا لزم الترجيح بلا مرجح بل المنشأ لذلك إن صح، ولا أظن ما يعلم بعد التأمل فيما أسلفناه في المقدمات وبسطنا الكلام عليه- في الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية- وقيل: المراد
أمم النبيين على حذف المضاف، وإليه ذهب الصادق رضي الله تعالى عنه
وقيل: المضاف المحذوف أولاد، والمراد بهم على الصحيح بنو إسرائيل لكثرة أولاد الأنبياء فيهم وأن السياق في شأنهم، وأيد بقراءة عبد الله المشار إليها- وهي قراءة أبي بن كعب- أيضا، وقيل: المراد- وإذ أخذ الله ميثاقا مثل ميثاق النبيين- أي ميثاقا غليظا على الأمم، ثم جعل ميثاقهم نفس ميثاقهم بحذف أداه التشبيه مبالغة، وقيل: المراد من النبيين بنو إسرائيل وسماهم بذلك تهكما لأنهم كانوا يقولون: نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب والنبيون وكانوا منا، وهذا كما تقول لمن ائتمنته على شيء فخان فيه ثم زعم الأمانة: يا أمين ماذا صنعت بأمانتي؟؟ وتعقبه الحلبي بأنه بعيد جدا إذ لا قرينة تبين ذلك، وأجيب بأن القائل به لعله اتخذ مقالهم المذكور قرينة حالية، وقيل: إن الإضافة للتعليل لأدنى ملابسة كأنه قيل: وإذ أخذ الله الميثاق على الناس لأجل النبيين، ثم بينه بقوله سبحانه: لَما آتَيْتُكُمْ إلخ ولا يخفى أن هذا أيضا من البعد بمكان، وقال الشهاب: لم نر من ذكر أن الإضافة تفيد التعليل في غير كلام هذا القائل، واختار كثير من العلماء القول الأول، وأخذ الميثاق من النبيين له صلى الله تعالى عليه وسلم- على ما دل عليه كلام الأمير كرم الله تعالى وجهه مع علمه سبحانه أنهم لا يدركون وقته- لا يمنع من ذلك لما فيه مع ما علمه الله تعالى من التعظيم له

(2/201)


صلى الله تعالى عليه وسلم والتفخيم ورفعة الشأن والتنويه بالذكر ما لا ينبغي إلا لذلك الجناب، وتعظيم الفائدة إذا كان ذلك الأخذ عليهم في كتبهم لا في عالم الذر فإنه بعيد كبعد ذلك الزمان- كما عليه البعض- ويؤيد القول- بأخذ الميثاق من الأنبياء الموجب لإيمان من أدركه عليه الصلاة والسلام منهم به- ما
أخرجه أبو يعلى عن جابر قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا فإما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بحق وأنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني»
وفي معناه أخبار كثيرة وهي تؤيد بظاهرها ما قلنا، ومن هنا ذهب العارفون إلى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم هو النبي المطلق والرسول الحقيقي والمشرع الاستقلالي، وأن من سواه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في حكم التبعية له صلّى الله عليه وسلم.
هذا وقد عدوا هذه الآية من مشكلات القرآن إعرابا وقد غاص النحويون في تحقيق ذلك وشقوا الشعر فيه.
ولنذكر بعض الكلام في ذلك فنقول: قال غير واحد: اللام في لَما آتَيْتُكُمْ على قراءة الفتح والتخفيف- وهي قراءة الجمهور- موطئة للقسم المدلول عليه بأخذ الميثاق لأنه بمعنى الاستحلاف وسميت بذلك لأنها تسهل تفهم الجواب على السامع، وعرفها النحاة كما قال الشهاب: بأنها اللام التي تدخل على الشرط سواء- إن- وغيرها لكنها غلبت في- إن- بعد تقدم القسم لفظا أو تقديرا لتؤذن أن الجواب له لا للشرط- كقولك: لئن أكرمتني لأكرمنك- ولو قلت أكرمك، أو فإني أكرمك، أو ما أشبهه مما يجاب به الشرط لم يجز على ما صرح به ابن الحاجب- وخالفه الفراء فيه- فجوز أن يجاب الشرط مع تقدم القسم عليه لكن الأول هو المصحح وكونها يجب دخولها على الشرط هو المشهور- وخالف فيه بعض النحاة، قال: يجوز دخولها على غير الشرط إما مطلقا أو بشرط مشابهته للشرط كما الموصولة دون الزائدة وقال الزمخشري في سورة هود: إنه لا يجب دخولها على كلم المجازاة، ونقله الأزهري عن الأخفش، وذكر أن ثعلبا غلطه فيه فالمسألة خلافية، وما- شرطية في موضع نصب- بآتيت- والمفعول الثاني ضمير المخاطب، ومِنْ بيان- لما- واعترض بأن حمل مِنْ على البيان شائع بعد الموصولة، وأما بعد الشرطية محتاج لما ذكر، وأجيب بأن السمين نقل ما يدل على الوقوع عند الأئمة، وفي جنى الداني.
ومن الناس من قال: إن مِنْ تزاد بالشروط في غير باب التمييز، وأما فيه فتزاد وإن لم تستوف الشروط نحو لله درّك من رجل، ومن هنا قال مولانا عبد الباقي: يجوز ان تكون مِنْ تبعيضية ذكرت لبيان ما الشرطية، أو زائدة داخلة على التمييز، ولَتُؤْمِنُنَّ جواب القسم وحده على الصحيح، ولدلالته على جواب الشرط واتحاد معناهما تسامح بعضهم فجعله سادّا مسد الجوابين، ولم يرد أنه جواب القسم وجواب الشرط لتنافيهما من حيث إن الأول لا محل له، والثاني له محل، والقول: بأن الجملة الواحدة قد يحكم عليها بالأمرين باعتبارين التزام لما لا يلزم، وجوزوا كون ما موصولة واللام الداخلة عليها حينئذ لام الابتداء، ويشعر كلام البعض أن اللام بعد موطئة وكأنه مبني على مذهب من جوز دخول الموطئة على غير الشرط من النحاة- كما مر- وهي على هذا التقدير مبتدأ، والخبر إما مقدر أو جملة لَتُؤْمِنُنَّ مع القسم المقدر، والكلام في مثله شهير، وأورد عليه أن الضمير في بِهِ إن عاد على المبتدأ على ما هو الظاهر كان الميثاق هو إيمانهم بما آتاهم، والمقصود من الآية أخذ الميثاق بالإيمان بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ونصرته، وإن عاد على الرسول كالضمير الثاني المنصوب العائد عليه مطلقا دفعا للزوم التفكيك خلت الجملة التي هي خبر عن العائد، وأجيب بأن الجملة المعطوفة لما كانت مشتملة على ما هو بمعنى المبتدأ الموصول، ولذلك استغنى عن ضميره فيها مع لزومه في الصلتين المتعاطفتين في المشهور وكان ضمير بِهِ راجعا للرسول مع ملاحظة مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ القائم مقام الضمير العائد على ما اكتفى بمجرد ذلك عن ضمير في

(2/202)


خبرها لارتباط الكلام بعضه ببعض، وإلى ذلك يشير كلام الإمام السهيلي في الروض الانف، ولا يخفى أنه مع ما فيه من التكلف مبني على اتحاد ما أوتوه، وما هو معهم، وفي ذلك إشكال- لأن آتيناكم، وجاءكم- إن كان كلاهما مستقبلين فالظاهر أن المراد- بما آتيناكم- القرآن لأنه الذي يؤتوه في المستقبل باعتبار إيتائه للرسول الذي كلفوا باتباعه وبما معهم الكتب التي أوتوها، وحمله على القرآن يأباه الذوق لأنه مع كونه ليس معهم بحسب الظاهر لا يظهر حسن لكون القرآن مصدقا للقرآن وهو لازم عى ذلك التقدير. وإن كانا ماضيين ظهر الفساد من جهة أن هذا الرسول الذي أوجب الله تعالى عليهم الإيمان به ونصرته لم يجئ إذ ذاك، وإن كان الفعل الأول ماضيا. والثاني مستقبلا جاء عدم التناسب بين المعطوفين وهما ماضيان لفظا، وفيه نوع بعد، ولعل المجيب يختار هذا الشق ويتحمل هذا البعد لما أن ثم مع كونه لا يعبأ بمثله لضعفه تهون أمره، وجوز أبو البقاء على ذلك التقدير كون الخبر من كتاب أي الذي آتيتكموه من الكتاب، وجعل النكرة هنا كالمعرفة وسوغ كون العائد على الموصول من المعطوف محذوفا- أي جاءكم به- مع عدم تحقق شروط حذف مثل هذا الضمير عند الجمهور بل مع خلل في المعنى لأن المؤتى كتاب كل نبي في زمان بعثته وشريعته والجائي به الرسول هو القرآن بحسب الظاهر لا كتاب كل نبي، وعود الضمير المقدر يستدعي ذلك، وعلى تقدير التزام كون المؤتى القرآن أيضا كما يقتضيه حمل الفعلين على الاستقبال يرد أنه لا معنى لمجيء الرسول إليهم بالقرآن بعد إيتائهم القرآن بمهلة، والعطف بثم كالنص بهذا المعنى، وعلى تقدير التزام كون الجائي به الرسول هو كتاب كل نبي بنوع من التكلف يكون وصف الرسول بكونه مصدقا لما معكم كالمستغني عنه فتدبر.
وقرأ حمزة- لما آتيتكم- بكسر اللام على أن ما مصدرية- واللام- جارّة أجلية متعلقة- بلتؤمنن- أي لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب ثم مجيء رسول مصدق له أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه، واعترض بأن فيه إعمال ما بعد لام القسم فيما قبلها وهو لا يجوز، وأجيب بأنه غير مجمع عليه فإن ظاهر كلام الزمخشري يشعر بجوازه، ولعل من يمنعه يخصه بما إذا لم يكن المعمول المتقدم ظرفا لأن ذاك يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره، نعم الأولى حسبما للنزاع تعلقه بأقسم المحذوف. وجوز أن تكون ما في هذه القراءة موصولة أيضا. والجار متعلق- بأخذ- وروي عبد بن حميد عن سعيد بن جبير أنه قرأ- لما آتيتكم- بالتشديد. وفيها احتمالان: الأول أن تكون ظرفية بمعنى حين- كما قاله الجمهور- خلافا لسيبويه، وجوابها مقدر من جنس جواب القسم- كما ذهب إليه الزمخشري- أي- لما آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسول مصدق وجب عليكم الإيمان به ونصرته- وقدره ابن عطية من جنس ما قبلها- أي لما كنتم بهذه الحال رؤساء الناس وأماثلهم أخذ عليكم الميثاق- وكذا وقع في تفسير الزجاج، و «مآل» معناها التعليل، الثاني أن أصلها من «ما» فأبدلت النون ميما لمشابهتها إياها فتوالت ثلاث ميمات فحذفت الثانية لضعفها بكونها بدلا وحصول التكرير بها، ورجحه أبو حيان في البحر.
وزعم ابن جني أنها الأولى، ونظر فيه الحلبي، ومِنْ إما مزيدة في الإيجاب على رأي الأخفش، وإما تعليلية على ما اختاره ابن جني قيل: وهو الأصح- لا تضاح المعنى عليه وموافقته لقراءة التخفيف- واللام إما زائدة، أو موطئة بناء على عدم اشتراط دخولها على أداة الشرط، وقرأ نافع- آتيناكم- على لفظ الجمع للتعظيم، والباقون- آتيتكم- على التوحيد، ولكل من القراءتين حسن من جهة- فافهم ذاك- فبعيد أن تظفر بمثله يداك قالَ أي الله تعالى للنبيين وهو بيان لأخذ الميثاق، أو مقول بعده للتأكيد أَأَقْرَرْتُمْ بذلك المذكور وَأَخَذْتُمْ أي قبلتم على حدّ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ [المائدة: 41] .
وقيل: معناه هل أخذتم عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي على الأمم- والإصر- بكسر الهمزة العهد كما قال ابن عباس،

(2/203)


أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)

وأصله من- الإصار- وهو ما يعقد به ويشد. وكأنه إنما سمي العهد بذلك لأنه يشد به. وقرئ بالضم. وهو إما لغة فيه- كعبر وعبر- في قولهم ناقة عبر أسفار. أو هو بالضم جمع- إصار- استعير للعهد. وجمع إما لتعدد المعاهدين وهو الظاهر، أو للمبالغة قالُوا استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قالوا: عند ذلك؟ فقيل: قالوا: أَقْرَرْنا، وكان الظاهر في الجواب أقررنا على ذلك إصرك لكنه لم يذكر الثاني اكتفاء بالأول قالَ أي الله تعالى لهم فَاشْهَدُوا أي فليشهد بعضكم على بعض بذلك الإقرار، فاعتبر المقر بعضا، والشاهد بعضا آخر لئلا يتحد المشهود عليه والشاهد، وقيل:
الخطاب فيه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقط أمروا بالشهادة على أممهم. ونسب ذلك إلى عليّ كرم الله تعالى وجهه،
وقيل: للملائكة فيكون ذلك كناية عن غير مذكور. ونسب إلى سعيد بن المسيب وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أي على إقراركم وتشاهدكم- على ما يقتضيه المعنى- لأنه لا بد في الشهادة من مشهود عليه. وهنا ما ذكرناه (1) للمقام. وعن ابن عباس إن المراد اعلموا وأنا معكم أعلم. وعلى كل تقدير فيه توكيد وتحذير عظيم، والجار والمجرور خبر- أنا- ومَعَكُمْ حال، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. وجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير فَاشْهَدُوا فَمَنْ تَوَلَّى أي
أعرض عن الإيمان بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم ونصرته- قاله علي كرم الله وجهه-
بَعْدَ ذلِكَ أي الميثاق والإقرار والتوكيد بالشهادة فَأُولئِكَ إشارة إلى من مراعى معناه كما روعي من قبل لفظها هُمُ الْفاسِقُونَ أي الخارجون في الكفر إلى أفحش مراتبه، والمشهور عدم دخول الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في حكم هذه الشرطية، أو ما هي في حكمها لأنهم أجلّ قدرا من أن يتصور في حقهم ثبوت المقدم ليتصفوا، وحاشاهم بما تضمنه التالي بل هذا الحكم بالنسبة إلى أتباعهم.
وجوز أن يراد العموم. والآية من قبيل لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] .
__________
(1) كذا بخطه رحمه الله، ولعله- وهو ما ذكرناه- كما يستفاد من عبارة الشهاب كتبه مصححه.

(2/204)


أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ
ذكر الواحدي عن ابن عباس أنه قال: «اختصم أهل الكتابين إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما اختلفوا بينهم من دين إبراهيم عليه السلام كل فرقة زعمت أنها أولى بدينه فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم فغضبوا وقالوا: والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فأنزل الله تعالى هذه الآية،
والجملة في النظم معطوفة على مجموع الشرط والجزاء، وقيل: على الجزاء فقط، وعطف الإنشاء على الإخبار مغتفر هنا عند المانعين، والهمزة على التقديرين متوسطة بين المعطوف والمعطوف عليه للإنكار، وقيل:
إنها معطوفة على محذوف تقديره- أيتولون فغير دين الله يبغون- قال ابن هشام: والأول مذهب سيبويه، والجمهور، وجزم به الزمخشري في مواضع، وجوز الثاني في بعض- ويضعفه ما فيه من التكلف- وأنه غير مطرد، أما الأول فلدعوى حذف الجملة فإن قوبل بتقديم بعض المعطوف فقد يقال إنه أسهل منه لأن المتجوز فيه على قولهم: أقل لفظا مع أن في هذا التجوز تنبيها على أصالة شيء في شيء أي أصالة الهمزة في التصدر، وأما الثاني فلأنه غير ممكن في نحو أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرعد: 33] انتهى.
وتعقبه الشمس ابن الصائغ بأنه أي مانع من تقدير ألا مدبر للموجودات- فمن هو قائم على كل نفس- على الاستفهام التقريري المقصود به تقرير ثبوت الصانع، والمعنى- أينتفي المدبر فلا أحد قائم على كل نفس- ولا يمكن ذلك بل المدبر موجود فالقائم على كل نفس هو- وهو أولى من تقدير البدر ابن الدماميني- أهم ضالون فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت لم يوحدوه، وجعله الهمزة للإنكار التوبيخي، وعلى العلات يوشك أن يكون التفصيل في هذه المسألة أولى بأن يقال: إن انساق ذلك المقدر للذهن قيل) بالتقدير، وإلا قيل بما قاله الجماعة، وتقديم المفعول لأنه المقصود بالإنكار لا للحصر كما توهم لأن المنكر اتخاذ غير الله ربا ولو معه، ودعوى أنه إشارة إلى أن دين غير الله لا يجامع دينه في الطلب، فالتقديم للتخصيص، والإنكار متوجه إليه أي أيخصون غير دين الله بالطلب- تكلف، وقول أبي حيان: إن تعليل التقديم بما تقدم لا تحقيق فيه لأن الإنكار الذي هو معنى الهمزة لا يتوجه إلى الذوات، وإنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء الذي متعلقه غير دين الله، وإنما جاء تقديم المفعول من باب الاتساع، ولشبه يبغون بالفاصلة لا تحقيق فيه عند ذوي التحقيق لأنا لم ندع توجه الإنكار إلى الذوات كما لا يخفى، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية الحفص، ويعقوب- يبغون- بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالتاء الفوقانية على معنى- أتتولون- أو- أتفسقون، وتكفرون فغير دين الله تبغون- وذهب بعضهم إلى أنه التفات فعنده لا تقدير، وعلى تقدير التقدير يجيء قصد الإنكار فيما أشير إليه ولا ينافيه لأنه منسحب عليه وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جملة حالية مؤكدة للإنكار- أي كيف يبغون ويطلبون غير دينه، والحالة هذه طَوْعاً وَكَرْهاً مصدران في موضع الحال أي طائعين وكارهين، وجوز أبو البقاء أن يكونا مصدرين على غير المصدر لأن أسلم بمعنى انقاد وأطاع قيل:
وفيه نظر لأنه ظاهر في طَوْعاً لموافقة معناه ما قبله لا في كَرْهاً والقول: بأنه يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل غير نافع، وقد يدفع بأن الكره فيه انقياد أيضا، والطوع مصدر طاع يطوع، كالإطاعة مصدر أطاع يطيع ولم يفرقوا بينهما، وقيل: طاعه يطوعه انقاد له، وأطاعه يطيعه بمعنى مضى لأمره، وطاوعه بمعنى وافقه، وفي معنى الآية أقوال: الأول أن المراد من الإسلام بالطوع الإسلام الناشئ عن العلم مطلقا سواء كان حاصلا للاستدلال كما في الكثير منا، أو بدون استدلال وإعمال فكر- كما في الملائكة- ومن الإسلام بالكره ما كان حاصلا بالسيف ومعاينة ما

(2/205)


يلجئ إلى الإسلام، الثاني أن المراد انقادوا له تعالى مختارين لأمره- كالملائكة، والمؤمنين- ومسخرين لإرادته كالكفرة- فإنهم مسخرون لإرادة كفرهم إذ لا يقع ما لا يريده تعالى، وهذا لا ينافي على ما قيل: الجزء الاختياري حتى لا يكون لهم اختيار في الجملة فيكون قولا بمذهب الجبرية، ولا يستدعي عدم توجه تعذيبهم على الكفر ولا عدم الفرق بين المؤمن والكافر بناء على أن الجميع لا يفعلون إلا ما أراده الله تعالى بهم كما وهم، الثالث ما أشار إليه بعض ساداتنا الصوفية نفعنا الله تعالى بهم أن الإسلام طوعا هو الانقياد والامتثال لما أمر الله تعالى من غير معارضة ظلمة نفسانية وحيلولة حجب الأنانية، والإسلام كرها هو الانقياد مع توسط المعارضات والوساوس وحيلولة الحجب والتعلق بالوسائط، والأول مثل إسلام الملائكة وبعض من في الأرض من المصطفين الأخيار، والثاني مثل إسلام الكثير ممن تقلبه الشكوك جنبا إلى جنب حتى غدا يقول:
لقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسرحت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم
والكفار من القسم الثاني عند أهل الله تعالى لأنهم أثبتوا صانعا أيضا إلا أن ظلمة أنفسهم حالت بينهم وبين الوقوف على الحق وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت: 29] وإلى هذا يشير كلام مجاهد، وأخرج ابن جرير، وغيره عن أبي العالية أنه قال:
كل آدمي أقر على نفسه بأن الله تعالى ربي وأنا عبده فمن أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرها، ومن أخلص لله تعالى العبودية فهو الذي أسلم طوعا، وقرأ الأعمش- «كرها» - بالضم وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ أي إلى جزائه تصيرون على المشهور فبادروا إلى دينه، ولا تخالفوا الإسلام، وجوزوا في الجملة أن تكون مستأنفة للأخبار بما تضمنته من التهديد، وأن تكون معطوفة على وَلَهُ أَسْلَمَ فهي حالية أيضا، وقرأ عاصم بياء الغيبة، والضمير- لمن- أو لمن عاد إليه ضمير يَبْغُونَ فإن قرئ بالخطاب فهو التفات، وقرأ الباقون بالخطاب، والضمير عائد لمن عاد إليه ضمير يَبْغُونَ فعلى الغيبة فيه التفات أيضا قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ أمر للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أن يخبر عن نفسه والمؤمنين بالإيمان بما ذكر، فضمير آمنا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والأمة، وقال المولى عبد الباقي: لما أخذ الله تعالى الميثاق من النبيين أنفسهم أن يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام وينصروه أمر محمدا أيضا صلى الله تعالى عليه وسلم أن يؤمن بالأنبياء المؤمنين به وبكتبهم فيكون آمَنَّا في موضع آمنت لتعظيم نبينا عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام، أو لما عهد مع النبيين وأممهم أن يؤمنوا أمر محمدا عليه الصلاة والسلام وأمته أن يؤمنوا بهم وبكتبهم.
والحاصل أخذ الميثاق من الجانبين على الإيمان على طريقة واحدة ولم يتعرض هنا لحكمة الأنبياء السالفين إما لأن الإيمان بالكتاب المنزل إيمان بما فيه من الحكمة، أو للإشارة إلى أن شريعتهم منسوخة في زمن هذا النبي صلّى الله عليه وسلم وكلاهما على تقدير كون الحكمة بمعنى الشريعة ولم يتعرض لنصرته عليه الصلاة والسلام لهم إذ لا مجال بوجه لنصرة السلف، ويؤيد دعوى أخذ الميثاق من الجانبين ما أخرجه عبد الرزاق وغيره عن طاوس أنه قال: أخذ الله تعالى ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وهو القرآن المنزل عليه صلى الله تعالى عليه وسلم أولا وعليهم بواسطة تبليغه إليهم، ومن هنا أتى بضمير الجمع، وقد يعتبر الإنزال عليه الصلاة والسلام وحده، ولكن نسب إلى الجمع ما هو منسوب لواحد منه مجازا على ما قيل، ويحتمل أن تكون النون نون العظمة لا ضمير الجماعة، وعدي الإنزال هنا- بعلى- وفي البقرة- بإلى- لأنه له جهة علو باعتبار ابتدائه، وانتهاء باعتبار آخره، وقد جعل الخطاب هنا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فناسبه الاستعلاء وهناك للعموم فناسب الانتهاء كذا قيل، ويرد عليه قوله تعالى:

(2/206)


آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران: 72] والتحقيق أنه لا فرق بين المعدى- بإلى- والمعدى- بعلى- إلا بالاعتبار، فإن اعتبرت مبدأه عديته- بعلى- لأنه فوقاني وإن اعتبرت انتهاء إلى من هو له عديته- بإلى- ويلاحظ أحد الاعتبارين تارة والآخر أخرى تفننا بالعبارة، وفرق الراغب بأن ما كان واصلا من الملأ الأعلى بلا واسطة كان لفظ- على- المختص بالعلو أولى به، وما لم يكن كذلك كان لفظ- إلى- المختص بالإيصال أولى به وقيل: أنزل عليه يحمل على أمر المنزل عليه أن يبلغه غيره، وأنزل اليه يحمل على ما خص به نفسه لأن إليه انتهاء الإنزال- وكلا القولين- لا يخلو عن نظر وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ قيل: خص هؤلاء الكرام بالذكر لأن أهل الكتاب يعترفون بنبوتهم وكتبهم، والمراد بالموصول الصحف- كما هو الظاهر- وقدم المنزل عليه عليه الصلاة والسلام على المنزل عليهم إما لتعظيمه والاعتناء به، أو لأنه المعرف له ومعرفة المعرف تتقدم على معرفة المعرف، والأسباط الأحفاد لا أولاد البنات، والمراد بهم على رأي أبناء يعقوب الاثنا عشر وذراريهم، وليس كلهم أبناء خلافا لزاعمه وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى من التوراة، والإنجيل، وسائر المعجزات- كما يشعر به إيثار الإيتاء على الإنزال الخاص بالكتاب- وقيل: هو خاص بالكتابين، وتغيير الأسلوب للاعتناء بشأن الكتابين، وتخصيص هذين النبيين بالذكر لما أن الكلام مع اليهود والنصارى وَالنَّبِيُّونَ عطف على موسى، وعيسى أي- وبما أوتي النبيون- على تعدد أفرادهم واختلاف أسمائهم مِنْ رَبِّهِمْ متعلق بأوتي، وفي التعبير بالرب مضافا إلى ضميرهم ما لا يخفى من اللطف.
لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أي بالتصديق والتكذيب- كما فعل اليهود والنصارى- والتفريق بغير ذلك كالتفضيل جائز وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي مستسلمون بالطاعة والانقياد في جميع ما أمر به ونهى عنه، أو مخلصون له في العبادة، وعلى التقديرين لا تكون هذه الجملة مستدركة بعد جملة الإيمان كما هو ظاهر، وقيل: إن أهل الملل المخالفة للإسلام كانوا كلهم يقرون بالإيمان ولم يكونوا يقرون بلفظة الإسلام فلهذا أردف تلك الجملة بهذه.
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ نزلت في جماعة ارتدوا كانوا اثني عشر رجلا وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفارا، منهم الحرث بن سويد الأنصاري، والإسلام قيل: التوحيد والانقياد، وقيل: شريعة نبينا عليه الصلاة والسلام بين تعالى أن من تحرى بعد مبعثه صلى الله تعالى عليه وسلم غير شريعته فهو غير مقبول منه، وقبول الشيء هو الرضا به وإثابة فاعله عليه، وانتصاب دِيناً على التمييز من غَيْرَ وهي مفعول يَبْتَغِ وجوز أن يكون دِيناً مفعول يَبْتَغِ وغَيْرَ صفة قدمت فصارت حالا، وقيل: هو بدل من غَيْرَ الْإِسْلامِ والجمهور على إظهار الغينين، وروي عن أبي عمرو الإدغام، وضعفه أبو البقاء بأن كسرة الغين الأولى تدل على الياء المحذوفة وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ إما معطوفة على جواب الشرط فتكون في محل جزم، وإما في محل الحال من الضمير المجرور فتكون في محل نصب، وإما مستأنفة فلا محل لها من الإعراب، وفِي الْآخِرَةِ متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده- أي وهو خاسر في الآخرة- أو متعلق- بالخاسرين- على أن الألف واللام ليست موصولة بل هي حرف تعريف، والخسران في الآخرة هو حرمان الثواب وحصول العقاب، وقيل: أصل الخسران ذهاب رأس المال، والمراد به هنا تشييع ما جبل عليه من الفطرة السليمة المشار إليها
في حديث «كل مولود يولد على الفطرة»
وعدم الانتفاع بذلك وظهوره بتحقق ضده يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88] والتعبير- بالخاسرين- أبلغ من التعبير بخاسر كما أشرنا إليه فيما قبل وهو منزل منزلة اللازم ولذا ترك مفعوله، والمعنى- وهو من جملة الواقعين في الخسران- واستدل بالآية على أن الإيمان هو الإسلام إذ لو كان غيره لم يقبل، واللازم باطل بالضرورة فالملزوم مثله، وأجيب بأن فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ينفي قبول كل دين يباين دين الإسلام والإيمان، وإن كان غَيْرَ الْإِسْلامِ

(2/207)


لكنه لا يغاير دين الإسلام بل هو هو بحسب الذات. وإن كان غيره بحسب المفهوم، وذكر الإمام أن ظاهر هذه الآية يدل على عدم المغايرة وقوله تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الحجرات: 14] يدل على المغايرة، ووجه التوفيق بينهما أن تحمل الآية الأولى على العرف الشرعي، والثانية على الوضع اللغوي كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ إلى الدين الحق قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ أخرج عبد بن حميد، وغيره عن الحسن أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى رأوا نعت محمد صلى الله تعالى عليه وسلم في كتابهم وأقروا وشهدوا أنه حق فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه وكفروا بعد إقرارهم حسدا للعرب حين بعث من غيرهم.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس مثله، وقال عكرمة: هم أبو عامر الراهب، والحارث بن سويد في اثني عشر رجلا رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة؟ فنزلت الآية فيهم وأكثر الروايات على هذا، والمراد من الآية استبعاد أن يهديهم- أي يدلهم دلالة موصلة- لا مطلق الدلالة قاله بعضهم، وقيل: إن المعنى كيف يسلك بهم سبيل المهديين بالإثابة لهم والثناء عليهم وقد فعلوا ما فعلوا، وقيل: إن الآية على طريق التبعيد كما يقال: كيف أهديك إلى الطريق وقد تركته أي لا طريق يهديهم به إلى الإيمان إلا من الوجه الذي هداهم به وقد تركوه ولا طريق غيره، وقيل: إن المراد كيف يهديهم إلى الجنة ويثيبهم والحال ما ترى؟! وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ وهو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم حَقٌّ لا شك في رسالته وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ أي البراهين والحجج الناطقة بحقية ما يدعيه، وقيل: القرآن، وقيل: ما في كتبهم من البشارة به عليه الصلاة والسلام، وَشَهِدُوا عطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل لأنه بمعنى آمنوا، والظاهر أنه عطف على المعنى كما في قوله تعالى: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ [الحديد: 18] لا على التوهم كما نوهم واختار بعضهم تأويل المعطوف ليصح عطفه على الاسم الصريح قبله بأن يقدر معه أن المصدرية أي «إن شهدوا» أي وشهادتهم على حد قوله:
ولبس عباءة وتقرّ عيني ... أحب إلي من لبس الشفوف
وإلى هذا ذهب الراغب، وأبو البقاء، وجوز عطفه على كَفَرُوا وفساد المعنى يدفعه أن العطف لا يقتضي الترتيب فليكن المنكر الشهادة المقارنة بالكفر أو المتقدمة عليه، واعترض بأن الظاهر تقييد المعطوف بما قيد به المعطوف عليه وشهادتهم هذه لم تكن بعد إيمانهم بل معه، أو قبله وأجيب بالمنع لأنه لا يلزم تقييد المعطوف بما قيد به المعطوف عليه ولو قصد ذلك لأخر، وقيل: يمنع من ذلك العطف أنهم ليسوا جامعين بين الشهادة والكفر، وأجيب بالمنع بل هم جامعون وإن لم يكن ذلك معا، ومن الناس من جعله معطوفا على كَفَرُوا ولم يتكلف شيئا مما ذكر، وزعم أن ذلك في المنافقين وهو خلاف المنقول والمعقول، والأكثرون من المحققين على اختيار الحالية من الضمير في كَفَرُوا وقد معه مقدرة، ولا يجوز أن يكون العامل- يهدي- لأنه يهدي من شهد أن الرسول حق وعليه، وعلى تقدير العطف على الإيمان استدل على أن الإقرار باللسان خارج عن حقيقة الإيمان، ووجه ذلك أن العطف يقتضي بظاهره المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه وأن الحالية تقتضي التقييد ولو كان الإقرار داخلا في حقيقة الإيمان خلا ذكره عن الفائدة، ولو كان عينه يلزم تقييد الشيء بنفسه ولا يخفى ما فيه، وادعى بعضهم أن المراد من الإيمان الإيمان بالله، ومن الشهادة المذكورة الإيمان برسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، والأمر حينئذ واضح فتدبر وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بالإخلال بالنظر، ووضع الكفر موضع الإيمان فكيف من جاءه الحق، وعرفه ثم أعرض عنه ويجوز حمل الظلم على مطلقه فيدخل فيه الكفر دخولا أوليا، والجملة اعتراضية أو حالية أُولئِكَ أي المذكورون المتصفون بأشنع الصفات وهو مبتدأ، وقوله سبحانه: جَزاؤُهُمْ أي جزاء فعلهم

(2/208)


مبتدأ ثان، وقوله عز شأنه: أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خبر المبتدأ الثاني، وهو وخبره خبر المبتدأ الأول قيل: وهذا يدل بمنطوقه على جواز لعنهم، ومفهومه ينفي جواز لعن غيرهم، ولعل الفرق بينهم وبين غيرهم حتى خص اللعن بهم أنهم مطبوع على قلوبهم ممنوعون بسبب خباثة ذواتهم وقبح استعدادهم من الهدى آيسون من رحمة الله تعالى بخلاف غيرهم، والخلاف في لعن أقوام بأعيانهم ممن ورد لعن أنواعهم- كشارب خمر معين مثلا مشهور- والنووي على جوازه استدلالا بما
ورد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مر بحمار وسم في وجهه فقال: لعن الله تعالى من فعل هذا
وبما
صح أن الملائكة تلعن من خرجت من بيتها بغير إذن زوجها،
وأجيب بأن اللعن هناك للجنس الداخل فيه الشخص أيضا، واعترض بأنه خلاف الظاهر كتأويل إن وراكبها بذلك- والاحتياط لا يخفى- والمراد من- الناس- إما المؤمنون لأنهم هم الذين يلعنون الكفرة، أو المطلق لأن كل واحد يلعن من لم يتبع الحق، وإن لم يكن غير متبع بناء على زعمه خالِدِينَ فِيها حال من الضمير في عَلَيْهِمْ والعامل فيه الاستقرار، والضمير المجرور- للعنة- أو للعقوبة، أو للنار، وإن لم يجر لها ذكر اكتفاء بدلالة اللعنة عليها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يمهلون ولا يؤخر عنهم العذاب من وقت إلى وقت آخر، أو لا ينظر إليهم ولا يعتد بهم، والجملة إما مستأنفة، أو في محل نصب على الحال.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي الكفر الذي ارتكبوه بعد الإيمان وَأَصْلَحُوا أي دخلوا في الصلاح بناء على أن الفعل لازم من قبيل- أصبحوا- أي دخلوا في الصباح، ويجوز أن يكون متعديا والمفعول محذوف- أي أصلحوا ما أفسدوا- ففيه إشارة كما قيل: إلى أن مجرد الندم على ما مضى من الارتداد، والعزم على تركه في الاستقبال غير كاف لما أخلوا به من الحقوق، واعترض بأن مجرد التوبة يوجب تخفيف العذاب ونظر الحق إليهم، فالظاهر أنه ليس تقييدا بل بيان لأن يصلح ما فسد. وأجيب بأنه ليس بوارد لأن مجرد الندم والعزم على ترك الكفر في المستقبل لا يخرجه منه فهو بيان للتوبة المعتد بها، فالمآل واحد عند التحقيق.
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي فيغفر كفرهم ويثيبهم، وقيل: غَفُورٌ لهم في الدنيا بالستر على قبائحهم «رحيم» بهم في الآخرة بالعفو عنهم- ولا يخفى بعده- والجملة تعليل لما دل عليه الاستثناء.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قال عطاء وقتادة: نزلت في اليهود كفروا بعيسى عليه السلام، والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم وكتبهم، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم والقرآن، وقيل: في أهل الكتاب آمنوا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل مبعثه، ثم كفروا به بعد مبعثه، ثم ازدادوا كفرا بالإصرار والعناد والصد عن السبيل، ونسب ذلك إلى الحسن، وقيل: في أصحاب الحارث بن سويد فإنه لما رجع قالوا: نقيم بمكة على الكفر ما بدا لنا فمتى أردنا الرجعة رجعنا فينزل فينا ما نزل في الحارث، وقيل: في قوم من أصحابه ممن كان يكفر ثم يراجع الإسلام، وروي ذلك عن أبي صالح مولى أم هانئ.
وكُفْراً تمييز محول عن فاعل، والدال الأولى في ازْدادُوا بدل من تاء الافتعال لوقوعها بعد الزاي لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ قال الحسن، وقتادة، والجبائي: لأنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت والمعاينة وعند ذلك لا تقبل توبة الكافر، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لأنها لم تكن عن قلب، وإنما كانت نفاقا، وقيل: إن هذا من قبيل ولا ترى الضب بها ينجحر أي لا توبة لهم حتى تقبل لأنهم لم يوفقوا لها فهو من قبيل الكناية- كما قال العلامة- دون المجاز حيث أريد بالكلام معناه لينتقل منه إلى الملزوم، وعلى كل تقدير لا ينافي هذا ما دل عليه الاستثناء وتقرر في الشرع كما لا يخفى، وقيل: إن هذه التوبة لم تكن عن الكفر وإنما هي عن ذنوب كانوا يفعلونها معه فتابوا عنها مع

(2/209)


إصرارهم على الكفر فردت عليهم لذلك، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن أبي العالية قال: هؤلاء اليهود. والنصارى كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا بذنوب أذنبوها ثم ذهبوا يتوبون من تلك الذنوب في كفرهم فلم تقبل توبتهم ولو كانوا على الهدى قبلت ولكنهم على ضلالة، وتجيء على هذا مسألة تكليف الكافر بالفروع وقد بسط الكلام عليها في الأصول.
وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ عطف إما على خبر إِنَّ فمحلها الرفع، وإما على إِنَّ مع اسمها فلا محل لها، والضَّالُّونَ المخطئون طريق الحق والنجاة، وقيل: الهالكون المعذبون والحصر باعتبار أنهم كاملون في الضلال فلا ينافي وجود الضلال في غيرهم أيضا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أي على كفرهم.
فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ من مشرقها إلى مغربها ذَهَباً نصب على التمييز، وقرأ الأعمش- ذهب- بالرفع، وخرج على البدلية من مِلْءُ أو عطف البيان، أو الخبر لمحذوف، وقيل: عليه إنه لا بد من تقدير وصف ليحسن البدل ولا دلالة عليه ولم يعهد بيان المعرفة بالنكرة، وجعله خبرا إنما يحسن إذا جعلت الجملة صفة، أو حالا ولا يخلو عن ضعف، ومِلْءُ الشيء بالكسر مقدار ما يملؤه، وأما مِلْءُ بالفتح فهو مصدر ملأه ملأ، وأما الملاءة بالضم والمد فهي الملحفة وهنا سؤال مشهور وهو أنه لم دخلت الفاء في خبر إِنَّ هنا ولم تدخل في الآية السابقة مع أن الآيتين سواء في صحة إدخال الفاء لتصور السببية ظاهرا؟ وأجاب غير واحد بأن الصلة في الآية الأولى الكفر، وازدياده وذلك لا يترتب عليه عدم قبول التوبة بل إنما يترتب على الموت عليه إذ لو وقعت على ما ينبغي لقبلت بخلاف الموت على الكفرة في هذه الآية فإنه يترتب عليه ذلك ولذلك لو قال: من جاءني له درهم كان إقرارا بخلاف ما لو قرنه بالفاء- كما هو معروف بين الفقهاء- ولا يرد أن ترتب الحكم على الوصف دليل على السببية لأنا لا نسلم لزومه لأن التعبير بالموصول قد يكون لأغراض كالإيماء إلى تحقق الخبر كقوله:
إن التي ضربت بيتا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت دونها غول
وقد فصل ذلك في المعاني وقرئ- «فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض» - على البناء للفاعل وهو الله تعالى ونصب- ملء ومل الأرض- بتخفيف الهمزتين وَلَوِ افْتَدى بِهِ قال ابن المنير في الانتصاف: إن هذه الواو المصاحبة للشرط تستدعي شرطا آخر تعطف عليه الشرط المقترنة به ضرورة والعادة في مثل ذلك أن يكون المنطوق به منبها على المسكوت عنه بطريق الأولى مثاله قولك: أكرم زيدا ولو أساء فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف تقديره- أكرم زيدا لو أحسن ولو أساء- إلا أنك نبهت بإيجاب إكرامه وإن أساء على أن إكرامه إن أحسن بطريق الأولى ومنه كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [النساء: 135] فإن معناه- والله تعالى أعلم- لو كان الحق على غيركم ولو كان عليكم ولكنه ذكر ما هو أعسر عليهم فأوجبه تنبيها على أن ما كان أسهل أولى بالوجوب، ولما كانت هذه الآية مخالفة لهذا النمط من الاستعمال لأن قوله سبحانه: وَلَوِ افْتَدى بِهِ يقتضي شرطا آخر محذوفا يكون هذا المذكور منبها عليه بطريق الأولى، والحالة المذكورة أعني حالة افتدائهم- بملء الأرض ذهبا- هي أجدر الحالات بقبول الفدية، وليس وراءها حالة أخرى تكون أولى بالقبول منها- خاض المفسرون بتأويلها- فذكر الزمخشري ثلاثة أوجه حاصل الأول: أن عدم قبول- ملء الأرض- كناية عن عدم قبول فدية ما لدلالة السياق على أن القبول يراد للخلاص وإنما عدل تصويرا للتكثير لأنه الغاية التي لا مطمح وراءها في العرف، وفي الضمير يراد مِلْءُ الْأَرْضِ على الحقيقة فيصير المعنى لا تقبل منه فدية ولو افتدى- بملء الأرض ذهبا- ففي الأول نظر إلى العموم وسده مسد فدية ما، وفي الثاني إلى الحقيقة أو لكثرة المبالغة من غير نظر إلى القيام مقامها، وحاصل الثاني: إن المراد

(2/210)


ولو افتدى بمثله معه كما صرع به في آية أخرى ولأنه علم أن الأول فدية أيضا كأنه قيل: لا يقبل ملء الأرض فدية ولو ضوعف، ويرجع هذا إلى جعل الباء بمعنى مع، وتقدير مثل بعده أي مع مثله، وحاصل الثالث: إنه يقدر وصف يعينه المساق من نحو كان متصدقا به، وحينئذ لا يكون الشرط المذكور من قبيل ما يقصد به تأكيد الحكم السابق بل يكون شرطا محذوف الجواب ويكون المعنى لا يقبل منه- ملء الأرض ذهبا لو تصدق ولو افتدى به أيضا لم يقبل منه- وضمير بِهِ للمال من غير اعتبار وصف التصدق فالكلام من قبيل وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ [فاطر:
11] ، وعندي درهم ونصفه انتهى، ولا يخفى ما في ذلك من الخفاء والتكلف، وقريب من ذلك ما قيل: إن الواو زائدة، ويؤيد ذلك أنه قرئ في الشواذ بدونها وكذا القول: بأن لَوِ ليست وصلية بل شرطية، والجواب ما بعد أو هو ساد مسده، وذكر ابن المنير في الجواب مدعيا أن تطبيق الآية عليه أسهل وأقرب بل ادعى أنه من السهل الممتنع أن قبول الفدية التي هي مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً تكون على أحوال تارة تؤخذ قهرا كأخذ الدية، وكرة يقول المفتدي: أنا أفدي نفسي بكذا ولا يفعل، وأخرى يقول ذلك والفدية عتيدة ويسلمها لمن يؤمل قبولها منه فالمذكور في الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول، وهي أن يفتدي بملء الأرض ذهبا افتداء محققا بأن يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه اختيارا، ومع ذلك لا يقبل منه فلأن لا يقبل منه مجرد قوله: أبذل المال وأقدره عليه، أو ما يجري هذا المجرى بطريق الأولى فتكون الواو والحالة هذه على بابها تنبيها على أن ثم أحوالا أخر لا يقع فيها القبول بطريق الأولى بالنسبة إلى الحالة المذكورة، وقوله تعالى: لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ [المائدة: 36] مصرح بذلك، والمراد به أنه لا خلاص لهم من الوعيد وإلا فقد علم أنهم في ذلك اليوم أفلس من ابن المذلق لا يقدرون على شيء، ونظير هذا قولك: لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إليّ في يدي انتهى. وقريب منه ما ذكره أبو حيان قائلا:
إن الذي يقتضيه هذا التركيب وينبغي أن يحمل عليه أن الله تعالى أخبر أن من مات كافرا لا يقبل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدها ولو في حال افتدائه من العذاب لأن حالة الافتداء لا يمتن فيها المفتدي على المفتدى منه إذ هي حالة قهر من المفتدى منه، وقد قررنا في نحو هذا التركيب أن لَوِ تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصار وما بعدها جاء تنصيصا على الحالة التي يظن أنا لا تندرج فيما قبلها
كقوله عليه الصلاة والسلام: «أعطوا السائل ولو جاء على فرس» «وردوا السائل ولو بظلف محرق»
كأن هذه الأشياء مما لا ينبغي أن يؤتي بها لأن كون السائل على فرس يشعر بغناه فلا يناسب أن يعطى، وكذلك الظلف المحرق لا غناء فيه فكان يناسب أن لا يرد السائل به. وكذلك حالة الافتداء يناسب أن يقبل منه مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً لكنه لا يقبل، ونظيره وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ [يوسف: 17] لأنهم نفوا أن يصدقهم على كل حال حتى في حالة صدقهم وهي الحالة التي ينبغي أن يصدقوا فيها ولو لتعميم النفي والتأكيد له.
هذا
وقد أخرج الشيخان. وابن جرير- واللفظ له- عن أنس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت مفتديا به؟ فيقول: نعم فيقال: لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك فلم تفعل
فذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ اسم الإشارة مبتدأ والظرف خبر ولاعتماده على المبتدأ رفع الفاعل، ويجوز أن يكون لَهُمْ خبرا مقدما، وعَذابٌ مبتدأ مؤخرا، والجملة خبر عن اسم الإشارة والأول أحسن، وفي تعقيب ما ذكر بهذه الجملة مبالغة في التحذير والإقناط لأن من لا يقبل منه الفداء ربما يعفى عنه تكرما وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ في رفع العذاب أو تخفيفه، ومِنْ مزيدة بعد النفي للاستغراق وتزاد بعده سواء دخلت على مفرد أو

(2/211)


جمع خلافا لمن زعم أن ذلك مخصوص بالمفرد، وصيغة الجمع لمراعاة الضمير، وفيها توافق الفواصل، والمراد ليس لواحد منهم ناصر واحد.
«ومن باب الإشارة» قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ وهي كلمة التوحيد وترك اتباع الهوى والميل إلى السوي فإن ذلك لم يختلف فيه نبي ولا كتاب قط ما كانَ إِبْراهِيمُ الخليل يهوديا متعلقا بالتشبيه وَلا نَصْرانِيًّا قائلا بالتثليث وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مائلا عن الكون برؤية المكون مُسْلِماً منقادا عند جريان قضائه وقدره، أو ذاهبا إلى ما ذهب إليه المسلمون المصطفون القائلون لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ بشرط التجرد عن الكونين ومنع النفوس عن الالتفات إلى العالمين فإن الخليل لما بلغ حضره القدس زاغ بصره عن عرائس الملك والملكوت قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَهذَا النَّبِيُّ العظيم يعني محمدا عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التسليم أَوْلَى أيضا بمتابعة أبيه الخليل وسلوك منهجه الجليل لأنه زبدة مخيض محبته وخلاصة حقيقة فطرته وَالَّذِينَ آمَنُوا به صلى الله تعالى عليه وسلم وأشرقت عليهم أنواره وأينعت في رياض قلوبهم أسراره وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ كافة يحفظهم عن آفات القهر ويدخلهم في قباب العصمة ويبيح لهم ديار الكرامة وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ جعله أهل الله سبحانه خطابا للمؤمنين كما قال بذلك بعض أهل الظاهر أي لا تفشوا أسرار الحق إلا إلى أهله ولا تقروا بمعاني الحقيقة للمحجوبين من الناس فيقعون فيكم ويقصدون سفك دمائكم قُلْ إِنَّ الْهُدى أعني هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من علم الباطن، أو مثل ما يحاجوكم به في زعمهم عند ربكم وهو علم الظاهر.
وحاصل المعنى إِنَّ الْهُدى الجمع بين الظاهر، والباطن. وأما الاقتصار على علم الظاهر وإنكار الباطن فليس بهدى قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ فيتصرف به حسب مشيئته التابعة لعلم التابع للمعلوم في أزل الآزال وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ فكيف يتقيد بالقيود بل يتجلى حسبما تقتضيه الحكمة في المظاهر لأهل الشهود يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ الخاصة مَنْ يَشاءُ من عباده وهي المعرفة به وهي فوق مكاشفة غيب الملكوت ومشاهدة سر الجبروت، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الذي لا يكتنه بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وهو عهد الروح بنعت الكشف وعهد القلب بتلقي الخطاب، وعهد العقل بامتثال الأوامر والنواهي وَاتَّقى من خطرات النفوس وطوارق الشهوات فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أي فهو بالغ مقام حقيقة المحبة إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا الآية إشارة إلى من مال إلى حضرة الدنيا وآثرها على مشاهدة حضرة المولى وزين ظاهره بعبادة المقربين ومزجها بحب الرياسة فذلك الذي سقط عن رؤية اللقاء ومخاطبة الحق في الدنيا والآخرة ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ لأن الاستنباء لا يكون إلا بعد الفناء في التوحيد فمن محا الله تعالى بشريته بإفنائه عن نفسه وأثابه وجودا نورانيا حقيقا قابلا للكتاب والحكمة العقلية لا يمكن أن يدعو إلى نفسه إذ الداعي إليها لا يكون إلا محجوبا بها، وبين الأمرين تناقض ولكن يقول كُونُوا رَبَّانِيِّينَ أي منسوبين إلى الرب، والمراد عابدين مرتاضين بالعلم والعمل والمواظبة على الطاعات لتغلب على أسراركم أنوار الرب، ولهم في الرباني عبارات كثيرة، فقال الشبلي: الرباني الذي لا يأخذ العلوم إلا من الرب ولا يرجع في شيء إلا إليه، وقال سهل: الرباني الذي لا يختار على ربه حالا، وقال القاسم: هو المتخلق بأخلاق الرب علما وحكما، وقيل: هو الذي محق في وجوده ومحق عن شهوده. وقيل: هو الذي لا تؤثر فيه تصاريف الأقدار على اختلافها «وقيل: وقيل:» وكل الأقوال ترد من منهل واحد،

(2/212)


وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً فإنها بعض مظاهره وهو سبحانه المطلق حتى عن قيد الإطلاق أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي أيأمركم بالاحتجاب برؤية الأشكال والنظر إلى الأمثال بعد أن لاح في أسراركم أنوار التوحيد وطلعت في قلوبكم شموس التفريد وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ الآية فيه إشارة إلى أنه سبحانه أخذ العهد من نواب الحقيقة المحمدية في الأزل بالانقياد والطاعة والإيمان بها، وخصهم بالذكر لكونهم أهل الصف الأول ورجال الحضرة، وقيل: إن الله تعالى أخذ عليهم ميثاق التعارف بينهم وإقامة الدين وعدم التفرق وتصديق بعضهم بعضا ودعوة الخلق إلى التوحيد وتخصيص العبادة بالله تعالى وطاعة النبي وتعريف بعضهم بعضا لأممهم، وهذا غير الميثاق العام المشار إليه بقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ إلخ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ أي بعد ما علم عهد الله تعالى مع النبيين وتبليغ الأنبياء إليه ما عهد إليهم فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي الخارجون عن دين الله تعالى ولا دين غيره معتدا به في الحقيقة إلا توهما أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي من في عالم الأرواح وعالم النفوس، أو من في عالم الملكوت وعالم الملك طَوْعاً باختياره وشعوره وَكَرْهاً من حيث لا يدري ولا يدري أنه لا يدري بسبب احتجابه برؤية الأغيار، ولهذا سقط عن درجة القبول وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ في العاقبة حين يكشف عن ساق وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ وهو التوحيد دِيناً له فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ لعدم وصوله إلى الحق لمكان الحجاب وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ ويوم القيامة الكبرى مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا أنفسهم كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً الآية استبعاد لهداية من فطره الله على غير استعداد المعرفة، وحكم عليه بالكفر في سابق الأزل فإن من لم يكن له استعداد لم يقع في أنوار التجلي، ومن خاض في بحر القهر ولزم قعر بعد البعد لم يكن له سبيل إلى ساحل قرب القرب وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ ولله در من قال:
إذا المرء لم يخلق سعيدا تحيرت ... ظنون مربيه وخاب المؤمل

فموسى الذي رباه جبريل كافر ... وموسى الذي رباه فرعون مرسل
هذا والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ كلام مستأنف لبيان ما ينفع المؤمنين ويقبل منهم- إثر بيان ما لا ينفع الكفار ولا يقبل منهم، وتنال- من تنال نيلا إذا أصاب ووجد، ويقال:
نال العلم إذا وصل إليه واتصف به، الْبِرَّ الإحسان وكمال الخير، وبعضهم يفرق بينه وبين الخير بأن البر هو النفع الواصل إلى الغير مع القصد إلى ذلك، والخير هو النفع مطلقا وإن وقع سهوا، وضد الْبِرَّ العقوق، وضد الخير الشر، وأل- فيه إما للجنس والحقيقة، والمراد لن تكونوا أبرارا حتى تُنْفِقُوا وهو المروي عن الحسن، وإما لتعريف العهد، والمراد لن تصيبوا بر الله تعالى يا أهل طاعته حتى تنفقوا، وإلى ذلك ذهب مقاتل وعطاء.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه تفسير الْبِرَّ بالجنة، وروي مثله عن مسروق، والسدي، وعمرو بن ميمون، وذهب بعضهم إلى أن الكلام على حذف مضاف أي- لن تنالوا ثواب البر، وحَتَّى بمعنى إلى، ومن- تبعيضية، ويؤيده قراءة عبد الله بعض ما تحبون، وقيل: بيانية، وعليه أيضا لا تخالف بين القراءتين معنى، و «ما» موصولة، أو موصوفة، وجعلها مصدرية والمصدر بمعنى المفعول جائز على رأي أبي علي.
وفي المراد من قوله سبحانه: مِمَّا تُحِبُّونَ أقوال، فقيل المال وكني بذلك عنه لأن جميع الناس يحبون، وقيل: نفائس الأموال وكرائمها، وقيل: ما يعم ذلك وغيره من سائر الأشياء التي يحبها الإنسان ويهواها، والإنفاق على هذا مجاز، وعلى الألين حقيقة وكان السلف رضي الله تعالى عنهم إذا أحبوا شيئا جعلوه لله تعالى،
فقد أخرج الشيخان، والترمذي، والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار نخلا بالمدينة وكان

(2/213)


أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب فلما نزلت لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قال أبو طلحة: يا رسول الله إن الله تعالى يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وإن أحب أموالي إلى بيرحاء وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها عند الله تعالى فضعها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بخ بخ ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه» وفي رواية لمسلم. وأبي داود «فجعلها بين حسان بن ثابت، وأبي بن كعب» .
وأخرج ابن أبي حاتم، وغيره عن محمد بن المنكدر قال: «لما نزلت هذه الآية جاء زيد بن حارثة بفرس يقال لها سبل لم يكن له مال أحب إليه منها فقال: هي صدقة فقبلها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وحمل عليها ابنه أسامة فرأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك في وجه زيد فقال: إن الله تعالى قد قبلها منك» .
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عمر قال: «حضرتني هذه الآية لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ إلخ فذكرت ما أعطاني الله تعالى فلم أجد أحب إلي من مرجانة جارية لي رومية فقلت هي حرة لوجه الله تعالى فلو أني أعوذ في شيء جعلته لله تعالى نكحتها فأنكحتها نافعا، وأخرج ابن المنذر عن نافع قال: كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يشتري السكر يتصدق به فنقول له: لو اشتريت لهم بثمنه طعاما كان أنفع لهم من هذا فيقول: أنا أعرف الذي تقولون ولكن سمعت الله تعالى يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وأن ابن عمر يحب السكر.
وظاهر هذه الأخبار يدل على أن الإنفاق في الآية يعم المستحب، وروي عن ابن عباس أن المراد به إخراج الزكاة الواجبة وما فرضه الله تعالى في الأموال فكأنه قيل: لن تنالوا البر حتى تخرجوا زكاة أموالكم- وهو مبني على أن المراد من ما تحبون المال لا كرائمه، فقول النيسابوري: إنه يرد عليه أنه لا يجب على المزكي أن يخرج أشرف أمواله وأكرمها ناشئ من قلة التأمل، ولو تأمل ما اعترض على ترجمان القرآن، وحبر الأمة، ونقل الواحدي عن مجاهد.
والكلبي أن الآية منسوخة بآية الزكاة، وضعف بأن إيجاب الزكاة لا ينافي الترغيب في بذل المحبوب في سبيل الله تعالى، واستشكلت هذه الآية بأن ظاهرها يستدعي أن الفقير الذي لم ينفق طول عمره مما يحبه لعدم إمكانه لا يكون بارا أو لا يناله برّ الله تعالى بأهل طاعته مع أنه ليس كذلك، وأجيب بأن الكلام خارج مخرج الحث على الإنفاق وهو مقيد بالإمكان وإنما أطلق على سبيل المبالغة في الترغيب، وقيل: الأولى أن يكون المراد لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ الكامل الواقع على أشرف الوجوه حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ والفقير الذي لم ينفق طول عمره لا يبعد القول بأنه لا يكون بارا كاملا ولا يناله برّ الله تعالى الكامل بأهل طاعته، وقيل: الأولى من هذا الأولى أن يقال: إن المراد لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ على الإنفاق حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وحاصله أن الإنفاق من المحبوب يترتب عليه نيل البر وأن الإنفاق مما عداه لا يترتب عليه نيل البر، وليس في الآية ما يدل على حصر ترتب البر على الإنفاق من المحبوب، ونفي ترتب البر على فعل آخر من الأفعال المأمور بها، وحينئذ لا يبعد أن يكون الفقير الغير المنفق بارا أو نائلا برّ الله تعالى بأهل طاعته من جهة أخرى، وربما تستدعي أفعاله الخالية عن إنفاق المال من البرّ ما هو أكمل وأوفر مما يستدعيه الإنفاق المجرد منه وينجر الكلام إلى مسألة تفضيل الفقير الصابر على الغني الشاكر، وهي مسألة طويلة الذيل قد ألفت فيها الرسائل وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ أي أي شيء تنفقونه من الأشياء، أو أي شيء تنفقوا طيب تحبونه، أو خبيث تكرهونه- فمن- على الأول متعلقة بمحذوف وقع صفة لاسم الشرط، وعلى الثاني في محل نصب على التمييز فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ تعليل لجواب الشرط واقع موقعه- أي فيجازيكم بحسبه- فإنه تعالى عَلِيمٌ بكل ما تنفقونه، وقيل: إنه

(2/214)


جواب الشرط، والمراد أن الله تعالى يعلمه موجود على الحدّ الذي تفعلونه من حسن النية وقبحها، وتقديم الظرف لرعاية الفواصل، وفي الآية ترغيب وترهيب قيل: وفيها إشارة إلى الحث على إخفاء الصدقة (1) .
__________
(1) تم بحمده تعالى وحسن معونته طبع الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع أوله «كل الطعام» .

(2/215)


روح المعاني الجزء الرابع

(2/217)


كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)

بسم الله الرحمن الرحيم
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ
روى الواحدي عن الكلبي أنه حين «قال النبي صلّى الله عليه وسلم: أنا على ملة إبراهيم قالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها؟ فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: كان ذلك حلالا لإبراهيم عليه السلام فنحن نحله فقالت اليهود: كل شيء أصبحنا اليوم نحرمه فإنه كان محرما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا فأنزل الله تعالى هذه الآية تكذيبا لهم»
والطعام بمعنى المطعوم، ويراد به هنا المطعومات مطلقا أو المأكولات وهو لكونه مصدرا منعوتا به معنى يستوي فيه الواحد المذكر وغيره وهو الأصل المطرد فلا ينافيه قول الرضي: إنه يقال:
رجل عدل ورجلان عدلان لأنه رعاية لجانب المعنى، وذكر بعضهم أن هذا التأويل يجعل كلا للتأكيد لأن الاستغراق شأن الجمع المعرف باللام، والحل مصدر أيضا أريد منه حلالا، والمراد الاخبار عن أكل الطعام بكونه حلالا لا نفس الطعام لأن الحل كالحرمة مما لا يتعلق بالذوات ولا يقدر نحو الإنفاق وإن صح أن يكون متعلق الحل وربما توهم بقرينة ما قبله لأنه خلاف الغرض المسوق له الكلام.
وإِسْرائِيلَ هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وعن أبي مجلز أن ملكا سماه بذلك بعد أن صرعه وضرب على فخذه إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ قال مجاهد: حرم لحوم الأنعام، وروى عكرمة عن ابن عباس أنه حرم زائدتي الكبد والكليتين والشحم إلا ما كان على الظهر، وعن عطاء أنه حرم لحوم الإبل وألبانها وسبب تحريم ذلك كما
في الحديث الذي أخرجه الحاكم وغيره بسند صحيح عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام كان به عرق النسا فنذر إن شفي لم يأكل أحب الطعام إليه وكان ذلك أحب إليه،
وفي رواية سعيد بن جبير عنه أنه كان به ذلك الداء فأكل من لحوم الإبل فبات بليلة يزقو فحلف أن لا يأكل أبدا، وقيل: حرمه على نفسه تعبدا وسأل الله تعالى أن يجيز له فحرم سبحانه على ولده ذلك، ونسب هذا إلى الحسن، وقيل: إنه حرمه وكف نفسه عنه كما يحرم المستظهر في دينه من الزهاد، اللذائذ على نفسه.
وذهب كثير إلى أن التحريم كان بنص ورد عليه، وقال بعض: كان ذلك عن اجتهاد ويؤيده ظاهر النظم، وبه استدل على جوازه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والاستثناء متصل لأن المراد على كل تقدير أنه حرمه على نفسه وعلى أولاده، وقيل: منقطع، والتقدير ولكن حرم إسرائيل على نفسه خاصة ولم يحرمه عليهم وصحح الأول مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ الظاهر أنه متعلق بقوله تعالى: كانَ حِلًّا ولا يضر الفصل بالاستثناء إذ هو فصل جائز، وذلك على

(2/219)


مذهب الكسائي وأبي الحسن في جواز أن يعمل ما قبل إلا فيما بعدها إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا أو حالا، وقيل:
متعلق بحرم، وتعقبه أبو حيان بأنه بعيد إذ هو من الإخبار بالواضح المعلوم ضرورة ولا فائدة فيه، واعتذر عنه بأن فائدة ذلك بيان أن التحريم مقدم عليها وأن التوراة مشتملة على محرمات أخر حدثت عليهم حرجا وتضييقا، واختار بعضهم أنه متعلق بمحذوف، والتقدير كانَ حِلًّا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ في جواب سؤال نشأ من سابق المستثنى كأنه قيل: متى كان حلا؟ فأجيب به والذي دعاه إلى ذلك عدم ظهور فائدة تقييد التحريم ولزوم قصر الصفة قبل تمامها على تقدير جعله قيدا للحل.
ولا يخفى ما فيه، والمعنى على الظاهر أن كل الطعام ما عدا المستثنى كان حلالا لبني إسرائيل قبل نزول التوراة مشتملة على تحريم ما حرم عليهم لظلمهم، وفي ذلك رد لليهود في دعواهم البراءة فيما نعي عليهم قوله تعالى:
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ [النساء: 160] وقوله سبحانه: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا [الأنعام: 146] الآيتين، وتبكيت لهم في منع النسخ ضرورة أن تحريم ما كان حلالا لا يكون إلا به ودفع الطعن في دعوى الرسول صلّى الله عليه وسلم موافقته لأبيه إبراهيم عليه السلام على ما دل عليه سبب النزول.
وذهب السدي إلى أنه لم يحرم عليهم عند نزول التوراة إلا ما كان يحرمونه قبل نزولها اقتداء بأبيهم يعقوب عليه السلام، وقال الكلبي: لم يحرم سبحانه عليهم ما حرم في التوراة، وإنما حرمه بعدها بظلمهم وكفرهم. فقد كانت بنو إسرائيل إذا أصابت ذنبا عظيما حرم الله تعالى عليهم طعاما طيبا وصب عليهم رجزا، وعن الضحاك أنه لم يحرم الله تعالى عليهم شيئا من ذلك في التوراة ولا بعدها، وإنما هو شيء حرموه على أنفسهم اتباعا لأبيهم وإضافة تحريمه إلى الله تعالى مجاز وهذا في غاية البعد قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها أمر له صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يحاجهم بكتابهم الناطق بصحة ما يقول في أمر التحليل والتحريم وإظهار اسم التوراة لكون الجملة كلاما مع اليهود منقطعا عما قبله، وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في دعواكم شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه أي إن كنتم صادقين فأتوا بالتوراة فاتلوها، روي أنهم لم يجسروا على الإتيان بها فبهتوا وألقموا حجرا.
وفي ذلك دليل ظاهر على صحة نبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إذ علم بأن ما في التوراة يدل على كذبهم وهو لم يقرأها ولا غيرها من زبر الأولين ومثله لا يكون إلا عن وحي فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
أي اخترع ذلك بزعمه أن التحريم كان على الأنبياء وأممهم قبل نزول التوراة فَمَنِ
عبارة عن أولئك اليهود، ويحتمل أن تكون عامة ويدخلون حينئذ دخولا أوليا، وأصل الافتراء قطع الأديم يقال: فرى الأديم يفريه فريا إذا قطعه، واستعمل في الابتداع والاختلاق، والجملة يحتمل أن تكون مستأنفة وأن تكون منصوبة المحل معطوفة على جملة فَأْتُوا فتدخل تحت القول، ومن يجوز أن تكون شرطية وأن تكون موصولة وقد روعي لفظها ومعناها مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
أي أمرهم بما ذكر وما يترتب عليه من قيام الحجة وظهور البينة.
فَأُولئِكَ
أي المفترون المبعدون عن عز القرب هُمُ الظَّالِمُونَ
لأنفسهم بفعل ما أوجب العقاب عليهم، وقيل: هم الظالمون لأنفسهم بذلك ولأشياعهم بإضلالهم لهم بسبب إصرارهم على الباطل وعدم تصديقهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإنما قيد بالبعدية- مع أنه يستحق الوعيد بالكذب على الله تعالى في كل وقت وفي كل حال- للدلالة على كمال القبح، وقيل: لبيان أنه إنما يؤاخذ به بعد إقامة الحجة عليه ومن كذب فيما ليس بمحجوج فيه فهو بمنزلة الصبي الذي لا يستحق الوعيد بكذبه وفيه تأمل، ثم مناسبة هذه الآية لما قبلها أن الأكل إنفاق مما يحب

(2/220)


لكن على نفسه وإلى ذلك أشار علي بن عيسى، وقيل: إنه لما تقدم محاجتهم في ملة إبراهيم عليه السلام وكان مما أنكروا على نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أكل لحوم الإبل وادعوا أنه خلاف ملة إبراهيم ناسب أن يذكر رد دعواهم ذلك عقيب تلك المحاجة قُلْ صَدَقَ اللَّهُ أي ظهر وثبت صدقه في أن كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ وقيل: في أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم على دين إبراهيم عليه السلام وأن دينه الإسلام، وقيل: في كل ما أخبر به ويدخل ما ذكر دخولا أوليا وفيه كما قيل: تعريض بكذبهم الصريح فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ وهي دين الإسلام فإنكم غير متبعين ملته كما تزعمون، وقيل: اتبعوا مثل ملته حتى تخلصوا عن اليهودية التي اضطرتكم إلى الكذب على الله والتشديد على أنفسكم، وقيل: اتبعوا ملته في استباحة أكل لحوم الإبل وشرب ألبانها مما كان حلا له حَنِيفاً أي مائلا عن سائر الأديان الباطلة إلى دين الحق، أو مستقيما على ما شرعه الله تعالى من الدين الحق في حجه ونسكه ومأكله وغير ذلك وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي في أمر من أمور دينهم أصلا وفيه تعريض بشرك أولئك المخاطبين، والجملة تذييل لما قبلهم إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ.
أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جريج قال: بلغنا أن اليهود قالت: بيت المقدس أعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء ولأنه في الأرض المقدسة، فقال المسلمون: بل الكعبة أعظم فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فنزلت إلى مقام إبراهيم.
وروي مثل ذلك عن مجاهد، ووجه ربطها بما قبلها أن الله تعالى أمر الكفرة باتباع ملة إبراهيم ومن ملته تعظيم بيت الله تعالى الحرام فناسب ذكر البيت وفضله وحرمته لذلك، وقيل: وجه المناسبة أن هذه شبهة ثانية ادعوها فأكذبهم الله تعالى فيها كما أكذبهم في سابقتها، والمعنى أن أول بيت وضع لعبادة الناس ربهم أي هيئ وجعل متعبدا، والواضع هو الله تعالى كما يدل عليه قراءة من قرأ وُضِعَ بالبناء للفاعل لأن الظاهر حينئذ أن يكون الضمير راجعا إلى الله تعالى وإن لم يتقدم ذكره سبحانه صريحا في الآية بناء على أنها مستأنفة واحتمال عوده إلى إبراهيم عليه السلام لاشتهاره ببناء البيت خلاف الظاهر، وجملة وُضِعَ في موضع جر على أنها صفة بَيْتٍ ولِلنَّاسِ متعلق به واللام فيه للعلة، وقوله تعالى: لَلَّذِي بِبَكَّةَ خبر إن واللام مزحلقة وأخبر بالمعرفة عن النكرة لتخصيصها، وهذا في باب إن، وبكة- لغة في مكة عند الأكثرين والباء والميم تعقب إحداهما الأخرى كثيرا، ومنه نميط ونبيط ولازم ولازب وراتب وراتم، وقيل: هما متغايران فبكة موضع المسجد ومكة البلد بأسرها وأصلها من البك بمعنى الزحم يقال بكه يبكه بكا إذا زحمه، وتبارك الناس إذا ازدحموا وكأنها إنما سميت بذلك لازدحام الحجيج فيها، وقيل: بمعنى الدق وسميت بذلك لدق أعناق الجبابرة إذا أرادوها بسوء وإذلالهم فيها ولذا تراهم في الطواف كآحاد الناس ولو أمكنهم الله تعالى من تخلية المطاف لفعلوا، وقيل: إنها مأخوذة من بكأت الناقة أو الشاة إذا قل لبنها وكأنها إنما سميت بذلك لقلة مائها وخصبها، وقيل: ومن هنا سميت البلد مكة أيضا أخذا لها من أمتك الفصيل ما في الضرع إذا امتصه ولم يبق فيه من اللبن شيئا، وقيل: هي من مكة الله تعالى إذا استقصاه بالهلاك، ثم المراد بالأولية الأولية بحسب الزمان، وقيل: بحسب الشرف، ويؤيد الأول ما
أخرجه الشيخان عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن أول بيت وضع للناس فقال: المسجد الحرام ثم بيت المقدس فقيل: كم بينهما؟
فقال: أربعون سنة،
واستشكل ذلك بأن باني المسجد الحرام إبراهيم عليه السلام وباني الأقصى داود ثم ابنه سليمان عليهما السلام، ورفع قبته ثمانية عشر ميلا وبين بناء إبراهيم وبنائهما مدة تزيد على الأربعين بأمثالها، وأجيب بأن الوضع غير البناء والسؤال عن مدة ما بين وضعيهما لا عن مدة ما بين بناءيهما فيحتمل أن واضع الأقصى بعض الأنبياء

(2/221)


قبل داود وابنه عليهما السلام ثم بيناه بعد ذلك، ولا بد من هذا التأويل- قاله الطحاوي- وأجاب بعضهم على تقدير أن يراد من الوضع البناء بأن باني المسجد الحرام والمسجد الأقصى هو إبراهيم عليه السلام وأنه بني الأقصى بعد أربعين سنة من بنائه المسجد الحرام وادعى فهم ذلك من الحديث فتدبر.
وورد في بعض الآثار أن أول من بنى البيت الملائكة وقد بنوه قبل آدم عليه السلام بألفي عام،
وعن مجاهد وقتادة والسدي ما يؤيد ذلك، وحكي أن بناء الملائكة له كان من ياقوتة حمراء ثم بناه آدم ثم شيث ثم إبراهيم ثم العمالقة ثم جرهم ثم قصي ثم قريش ثم عبد الله بن الزبير ثم الحجاج واستمر بناء الحجاج إلى الآن إلا في الميزاب والباب والعتبة ووقع الترميم في الجدار والسقف غير مرة وجدد فيه الرخام، وقيل: إنه نزل مع آدم من الجنة ثم رفع بعد موته إلى السماء، وقيل: بني قبله ورفع في الطوفان إلى السماء السابعة، وقيل: الرابعة، وذهب أكثر أهل الأخبار أن الأرض دحيت من تحته، وقد أسلفنا لك ما ينفعك هنا فتذكر مُبارَكاً أي كثير الخير لما أنه يضاعف فيه ثواب العبادة قاله ابن عباس، وقيل: لأنه يغفر فيه الذنوب لمن حجه وطاف به واعتكف عنده.
وقال القفال: يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله تعالى: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص: 57] ، وقيل: بركته دوام العبادة فيه ولزومها، وقد جاءت البركة بمعنيين: النمو وهو الشائع، والثبوت ومنه البركة لثبوت الماء فيها والبرك الصدر لثبوت الحفظ فيه وتبارك الله سبحانه بمعنى ثبت ولم يزل، ووجه الكرماني كونه مباركا بأن الكعبة كالنقطة وصفوف المتوجهين إليها في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز ولا شك أن فيهم أشخاصا أرواحهم علوية وقلوبهم قدسية وأسرارهم نورانية وضمائرهم ربانية ومن كان في المسجد الحرام يتصل أنوار تلك الأرواح الصافية المقدسة بنور روحه فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه وهذا غاية البركة ثم إن الأرض كرية وكل آن يفرض فهو صبح لقوم ظهر لثان عصر لثالث وهلم جرا، فليست الكعبة منفكة قط عن توجه قوم إليها لأداء الفرائض فهو دائما كذلك والمنصوب حال من الضمير المستتر في الظرف الواقع صلة.
وجوز أبو البقاء جعله حالا من الضمير في وُضِعَ وَهُدىً لِلْعالَمِينَ أي هاد لهم إلى الجنة التي أرادها سبحانه أو هاد إليه جل شأنه بما فيه من الآيات العجيبة كما قال تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ كإهلاك من قصده من الجبابرة بسوء كأصحاب الفيل وغيرهم وعدم تعرض ضواري السباع للصيود فيه وعدم نفرة الطير من الناس هناك، وإن أيّ ركن من البيت وقع الغيث في مقابلته كان الخصب فيما يليه من البلاد فإذا وقع في مقابلة الركن اليماني كان الخصب باليمن، وإذا كان في مقابلة الركن الشامي كان الخصب بالشام، وإذا عم البيت كان في جميع البلدان وكقلة الجمرات على كثرة الرماة إلى غير ذلك وعدوا منه انحراف الطير عن موازاته على مدى الأعصار، وفيه كلام للمحدثين لأن منها ما يعلوه، وقيل: لا يعلوه إلا ما به علة للاستشفاء، واعترض بأن العقاب علته لأخذ الحية، وقيل: إن الطير المهدر دمها تعلوه والحمام مع كثرته لا يعلوه وبه جمع بعضهم بين الكلامين- ومع هذا في القلب منه شيء- فقد نقل بعض الناس أنه شاهد أن الطير مطلقا تعلوه في بعض الأحايين والضمير المجرور عائد على البيت، والظرفية مجازية وإلا لما صح عدّ هذه الآيات، والجملة إما مستأنفة جيء بها بيانا تفسيرا للهدى، وإما حال أخرى ولا بأس في ترك الواو في الجملة الاسمية الحالية على ما أشار إليه عبد القاهر وغيره، وجوز أن تكون حالا من الضمير في العالمين والعامل فيه هدى، أو من الضمير في مُبارَكاً وهو العامل فيها، أو يكون صفة لهدى كما أن العالمين كذلك، وقوله

(2/222)


تعالى: مَقامُ إِبْراهِيمَ مبتدأ محذوف الخبر أو خبر محذوف المبتدأ أي منها أو أحدها مقام إبراهيم، واختار الحلبي الأخير، وقيل: بدل البعض من الكل واليه ذهب أبو مسلم، وجوز بعضهم أن يكون عطف بيان وصح بيان الجمع بالمفرد بناء على اشتمال المقام على آيات متعددة لان أثر القدمين في الصخرة الصماء آية وغوصهما فيها إلى الكعبين آية وإلانة بعض هذا النوع دون بعض آية وإبقاؤه على ممر الزمان آية وحفظه من الأعداء آية أو على أن هذه الآية الواحدة لظهور شأنها وقوة دلالتها على قدرة الله تعالى ونبوة إبراهيم عليه السلام منزلة منزلة آيات كثيرة، وأيد ذلك بما أخرجه ابن الأنباري عن مجاهد أنه كان يقرأ- فيه آية بينة- بالتوحيد، وفيه أن هذا وإن ساغ معنى إلا أنه يرد عليه أن آياتٌ نكرة، ومَقامُ إِبْراهِيمَ معرفة، وقد صرح أبو حيان أنه لا يجوز التخالف في عطف البيان بإجماع البصريين والكوفيين، ثم إن سبب هذا الأثر في هذا المقام ما ورد في الأثر عن سعيد بن جبير أنه لما ارتفع بنيان الكعبة قام على هذا الحجر ليتمكن من رفع الحجارة فغاصت فيه قدماه وقد تقدم غير ذلك في ذلك أيضا وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً الضمير المنصوب عائد إلى مقام إبراهيم بمعنى الحرم كله على ما قاله ابن عباس لا موضع القدمين فقط، ويمكن أن يكون هناك استخدام، وقال الجصاص: أورد الآيات المذكورات في الحرم، ثم قال: وَمَنْ دَخَلَهُ الله فيجب أن يكون المراد جميع الحرم، والجملة إما ابتدائية وليست بشرطية وإما شرطية عطف كما قال غير واحد من حيث المعنى على مَقامُ لأنه في المعنى أمن من دخله أي ومنها أو ثانيها أمن من دخله أو- فيه آيات مقام إبراهيم- وأمن من دخله وعلى هذا لا حاجة إلى ما تكلف في توجيه الجمعية لأن الآيتين نوع من الجملة كالثلاثة والأربعة، ويجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات، ومثل هذا الطي واقع في الأحاديث النبوية والأشعار العربية، فالأول
كرواية «حبب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة»
على ما هو الشائع وإن صححوا عدم ذكر ثلاث، وأما الثاني فمنه قول جرير:
كانت حنيفة (أثلاثا) فثلثهم ... من العبيد (وثلث من مواليها)
ومَنْ إما للعقلاء أو لهم ولغيرهم على سبيل التغليب لأنه يأمن فيه الوحش والطير بل والنبات فحينئذ يراد بالأمن ما يصح نسبته إلى الجميع بضرب من التأويل، وعلى التقدير الأول يحتمل أن يراد بالأمن الأمن في الدنيا من نحو القتل والقطع وسائر العقوبات فقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية أنه قال: كان الرجل في الجاهلية يقتل الرجل ثم يدخل الحرم فيلقاه ابن المقتول أو أبوه فلا يحركه.
وأخرج ابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه قال: لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه.
وأخرج ابن جرير عن ابنه أنه قال: لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هجته، وعن ابن عباس لو وجدت قاتل أبي في الحرم لم أتعرض له، ومذهبه في ذلك أن من قتل أو سرق في الحل ثم دخل الحرم فإنه لا يجالس ولا يكلم ولا يؤذى ولكنه يناشد حتى يخرج فيؤخذ فيقام عليه ما جرّ فإن قتل أو سرق في الحرم أقيم عليه في الحرم والروايات عنه في ذلك كثيرة وقد تقدم تفصيل الأقوال في المسألة، وأما أن يراد به كما ذهب إليه الصادق رضي الله تعالى عنه الأمن في الآخرة من العذاب، فقد أخرج عبد بن حميد وغيره عن يحيى بن جعدة أن من دخله كان آمنا من النار،
وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من دخل البيت دخل في حسنة، وخرج من سيئة مغفورا له،
وروي من غير طريق عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: من مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة،
وفي رواية عن ابن عمر قال: من قبر بمكة مسلما بعث آمنا يوم القيامة،
ويجوز إرادة العموم بأن يفسر بالأمن في الدنيا والآخرة ولعله الظاهر من إطلاق اللفظ.

(2/223)


وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ جملة ابتدائية فيها حج والخبر لِلَّهِ وعَلَى النَّاسِ متعلق بما تعلق به الخبر أو بمحذوف وقع حالا من المستتر في الجار والمجرور والعامل فيه الاستقرار.
وجوز أن يكون عَلَى النَّاسِ خبرا، ولِلَّهِ متعلق بما تعلق به، ولا يجوز أن يكون حالا من المستكن في الناس لأن العامل في الحال حينئذ يكون معنى، والحال لا يتقدم على العامل المعنوي عند الجمهور، وجوزه ابن مالك إذا كان الحال ظرفا أو حرف جر وعامله كذلك بخلاف الظرف وحرف الجر فإنهما لا يتقدمان على عاملهما المعنوي، وجوز أن يرتفع الحج بالجار الأول أو الثاني وهو في اللغة مطلق القصد أو كثرته إلى من يعظم، والمراد به هنا قصد مخصوص غلب فيه حتى صار حقيقة شرعية، وأل في البيت للعهد، وقرأ حمزة والكسائي. وعاصم في رواية حفص حِجُّ بالكسر كعلم وهو لغة نجد مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا بدل من الناس بدل البعض من الكل والضمير في البدل مقدر أي منهم، وقيل: بدل الكل من الكل، والمراد من الناس خاص ولا يحتاج إلى ضمير، وقيل: خبر لمحذوف أي هم من استطاع أو الواجب عليه من استطاع.
وجوز أن يكون منصوبا بإضمار فعل أعني أعني، وأن يكون فاعل المصدر وهو مضاف إلى مفعوله أي- ولله على الناس أن يحج من استطاع منهم البيت- وفيه مناقشة مشهورة، ومَنْ على هذه الأوجه موصولة.
وجوز أن تكون شرطية والجزاء محذوف يدل عليه ما تقدم، أو هو نفسه على الخلاف المقرر بين البصريين والكوفيين ولا بد من ضمير يعود من جملة الشرط عَلَى النَّاسِ والتقدير من استطاع منهم إليه سبيلا فلله عليه أن يحج، ويترجح هذا بمقابلته بالشرط بعده، والضمير المجرور للبيت أو للحج لأنه المحدث عنه، وهو متعلق بالسبيل لما فيه من معنى الإفضاء وقدم عليه للاهتمام بشأنه، والاستطاعة في الأصل استدعاء طواعية الفعل وتأتيه، والمراد بالاستدعاء الإرادة وهي تقتضي القدرة فأطلقت على القدرة مطلقا أو بسهولة فهي أخص منها وهو المراد هنا، وسيأتي تحقيقه قريبا إن شاء الله تعالى، والقدرة إما بالبدن أو بالمال أو بهما. وإلى الأول ذهب الإمام مالك فيجب الحج عنده على من قدر على المشي والكسب في الطريق، وإلى الثاني ذهب الإمام الشافعي ولذا أوجب الاستنابة على الزمن إذا وجد أجرة من ينوب عنه، وإلى الثالث ذهب إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه، ويؤيده ما أخرجه البيهقي، وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: السبيل أن يصح بدن العبد ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يجحف به.
واستدل الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بما
أخرجه الدارقطني عن جابر بن عبد الله قال: «لما نزلت هذه الآية وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قام رجل فقال: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة»
وروي هذا من طرق شتى وهو ظاهر فيما ذهب إليه الشافعي حيث قصر الاستطاعة على المالية دون البدنية، وهو مخالف لما ذهب إليه الإمام مالك مخالفة ظاهرة، وأما إمامنا فيؤول ما وقع فيه بأنه بيان لبعض شروط الاستطاعة بدليل أنه لو فقد أمن الطريق مثلا لم يجب الحج عليه، والظاهر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يتعرض لصحة البدن لظهور الأمر كيف لا والمفسر في الحقيقة هو السبيل الموصل لنفس المستطيع إلى البيت وذا لا يتصور بدون الصحة، ومما يؤيد أن ما في الحديث بيان لبعض الشروط أنه ورد في بعض الروايات الاقتصار على واحد مما فيه،
فقد أخرج الدارقطني أيضا عن علي كرم الله تعالى وجهه أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل عن السبيل فقال: أن تجد ظهر بعير ولم يذكر الزاد.
هذا واستدل بالآية على أن الاستطاعة قبل الفعل وفساد القول بأنها معه، ووجه الاستدلال ظاهر، وأجيب بأن الاستطاعة التي ندعي أنها مع الفعل هي حقيقة القدرة التي يكون بها الفعل وتطلق الاستطاعة على معنى آخر هو سلامة

(2/224)


الأسباب والآلات والجوارح أي كون المكلف بحيث سلمت أسبابه وآلاته وجوارحه ولا نزاع لنا في أن هذه الاستطاعة قبل الفعل وهي مناط صحة التكليف وما في الآية بهذا المعنى كذا قالوا.
وتحقيق الكلام في هذا المقام على ما قالوا: إن المشهور عن الأشعري أن القدرة مع الفعل بمعنى أنها توجد حال حدوثه وتتعلق به في هذه الحال ولا توجد قبله فضلا عن تعلقها به، ووافقه على ذلك كثير من المعتزلة كالنجار ومحمد بن عيسى وابن الراوندي، وأبي عيسى الوراق، وغيرهم، وقال أكثر المعتزلة: القدرة قبل الفعل وتتعلق به حينئذ ويستحيل تعلقها به قبل حدوثه، ثم اختلفوا في بقاء القدرة فمنهم من قال: ببقائها حال وجود الفعل وإن لم تكن القدرة الباقية قدرة عليه ومنهم من نفاه، ودليلهم على ذلك وجوه.
الأول أن تعلق القدرة بالفعل معناه الإيجاد وإيجاد الموجود محال لأنه تحصيل الحاصل بل يجب أن يكون الإيجاد قبل الوجود ولهذا صح أن يقال: أوجده فوجد، وأجيب بأن هذا مبني على أن القدرة الحادثة مؤثرة وهو ممنوع وعلى تقدير تسليمه يقال: إيجاد الموجود بذلك الوجود الذي هو أثر ذلك الإيجاد جائز بمعنى أن يكون ذلك الوجود الذي هو به موجود في زمان الإيجاد مستندا إلى الموجد ومتفرعا على إيجاده، والمستحيل هو إيجاد الموجود بوجود آخر وتحقيقه أن التأثير مع حصول الأثر بحسب الزمان، وإن كان متقدما عليه بحسب الذات وهذا التقدم هو المصحح لاستعمال الفاء بينهما.
الثاني إن جاز تعلق القدرة حال الحدوث يلزم القدرة على الباقي حال بقائه والتالي باطل، بيان الملازمة أن المانع من تعلق القدرة به ليس إلا كونه متحقق الوجود والحادث حال حدوثه متحقق الوجود أيضا، وأجيب بأنا نلتزمه لدوام وجوده بدوام تعلق القدرة به أو نفرق بما يبطل به الملازمة من احتياج الموجود عن عدمه إلى المقتضي دون الباقي فلو لم تتعلق القدرة بالأول لبقي على عدمه وقد فرض وجوده هذا خلفه ولو لم تتعلق بالثاني لبقي على الوجود وهو المطابق للواقع، أو ننقض الدليل أولا بتأثير العلم أو العالمية بالاتفاق فإن ذلك مشروط حال حدوث الفعل دون بقائه، وثانيا بتأثير الفعل في كون الفاعل فاعلا فإن الفعل مؤثر في ذلك حال الحدوث وبتقدير كون الفعل باقيا لا يؤثر حال البقاء، وثالثا بمقارنة الإرادة إذ يوجبونها حال الحدوث دون البقاء فكذا الحال في القدرة.
الثالث أن كون القدرة مع الفعل يوجب حدوث قدرة الله تعالى أو قدم مقدوره وكلاهما باطلان بل قدرته أزلية وتعلقها في الأزل بمقدوراته فقد ثبت تعلق القدرة بمقدوراتها قبل الحدوث ولو كان ممتنعا في القدرة الحادثة لكان ممتنعا في القدرة القديمة وليس فليس، وأجيب بأن القدرة القديمة الباقية مخالفة في الماهية للقدرة الحادثة التي لا يجوز بقاؤها عندنا فلا يلزم من جواز تقدمها على الفعل جواز تقدم الحادثة عليه ثم إن القديمة متعلقة في الأزل بالفعل تعلقا معنويا لا يترتب عليه وجود الفعل ولها تعلق آخر به حال حدوثه موجب لوجوده فلا يلزم من قدمها مع تعلقها المعنوي قدم آثارها.
«الرابع» لأنه يلزم على ذلك التقدير أن لا يكون الكافر في زمان كفره مكلفا بالإيمان أنه غير مقدور له في تلك الحالة المتقدمة عليه بل نقول: يلزم أن لا يتصور عصيان من أحد إذ مع الفعل لا عصيان وبدونه لا قدرة فلا تكليف فلا عصيان، وأيضا أقوى أعذار المكلف التي يجب قبولها لدفع المؤاخذة عنه هو كون ما كلف به غير مقدور له فإذا لم يكن قادرا على الفعل قبله وجب رفع المؤاخذة عنه بعدم الفعل المكلف به وهو باطل بإجماع الأمة، وأيضا لو جاز تكليف الكافر بالإيمان مع كونه غير مقدور له فليجز تكليفه بخلق الجواهر والأعراض، وأجيب بأنه يجوز تكليف

(2/225)


المحال عندنا جواز التكليف بالخلق المذكور، ولنا أن نفرق بأن ترك الإيمان إنما هو بقدرته بخلاف عدم الجواهر والأعراض فإنه ليس مقدورا له أصلا فلا يلزم من جواز التكليف بالإيمان جواز التكليف بخلقها، وبالجملة فكون الشيء مقدورا الذي هو شرط التكليف عندنا أن يكون الشيء أو ضده متعلقا للقدرة، وهذا حاصل في الإيمان لأن تركه لتلبسه بضده مقدور له حال كفره بخلاف إحداث الجواهر والأعراض فإنه غير مقدور له أصلا لا فعلا ولا تركا فلا يجوز التكليف به، وأما ما ذكر من قضية الأعذار ووجوب قبولها فمبني على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين وقد أقيمت الأدلة على بطلانهما في محله كذا في المواقف وشرحه.
ودليل ما شاع عن الأشعري قيل: هو أن القدرة عرض يخلقه الله تعالى في الحيوان يفعل به الأفعال الاختيارية فيجب أن تكون مقارنة للفعل بالزمان لا سابقة عليه وإلا لزم وقوع الفعل بلا قدرة لما برهن عليه من امتناع بقاء الأعراض واعترض عليه بما في أدلة امتناع بقاء الأعراض من النظر القوي وأنه قد يقال على تقدير تسليم الامتناع المذكور لا نزاع في إمكان تجدد الأمثال عقيب الزوال فمن أين يلزم وقوع الفعل بدون القدرة؟ وأجيب بأنا إنما ندعي لزوم ذلك إذا كانت القدرة التي بها الفعل هي القدرة السابقة وأما إذا جعلتموها المثل المتجدد المقارن فقد اعترفتم بأن القدرة التي بها الفعل لا تكون إلا مقارنة، ثم إن ادعيتم أنه لا بد لها من أمثال تقع حتى لا يمكن الفعل بأول ما يحدث من القدرة فعليكم البيان.
وفيه أن هذا قول بأن نفي وجود المثل السابق ليس داخلا في دعوى الأشعري وهو خلاف ما علم مما تقدم في تقرير مذهبه، وذكر في المواقف دليلا آخر للأشعري على ما ادعاه ونظر فيه أيضا- هذا كلامهم- والحق عندي في هذه المسألة أن شرط التكليف هو القوة التي تصير مؤثرة بإذن الله تعالى عند انضمام الإرادة التابعة الإرادة الله تعالى لقوله سبحانه: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] وإيضاحه أنه تعالى كما أنه غني بالذات عن العالمين كذلك حكيم جواد وكما أن غناه الذاتي أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد كذلك مقتضى جوده ورحمته مراعاة ما اقتضته حكمته سبحانه كما أشار إليه العضد في عيون الجواهر، وأطال الكلام فيه أبو عبد الله الدمشقي في شفاء العليل، ومن المعلوم أن الحكمة لا تقتضي أن يؤمر بالفعل من لا يقدر على الامتثال وينهى عنه من لا يقدر على الاجتناب فلا بد بمقتضى الحكمة التي رعاها سبحانه فيما خلق وأمر فضلا ورحمة أن يكون التكليف بحسب الوسع وإذا كان كذلك كان شرط التكليف هو القوة التي تصير مؤثرة إذا انضم إليها الإرادة وهذه قبل الفعل، والقدرة التي هي مع الفعل هي القدرة المستجمعة لشرائط التأثير التي من جملتها انضمام الإرادة إليها، وبهذا جمع الإمام الرازي- كما في المواقف- بين مذهب الأشعري القائل بأن القدرة مع الفعل، والمعتزلة القائلين بأنها قبله، وقال: لعل الأشعري أراد بالقدرة القوة المستجمعة لشرائط التأثير فلذلك حكم بأنها مع الفعل وأنها لا تتعلق بالضدين، والمعتزلة أرادوا بالقدرة مجرد القوة العضلية فلذلك قالوا بوجودها قبل الفعل وتعلقها بالأمور المتضادة وهو جمع صحيح، وقول السيد قدس سره- في توجيه البحث الذي ذكره صاحب المواقف فيه بأن القدرة الحادثة ليست مؤثرة عند الشيخ فكيف يصح أن يقال: إنه أراد بالقدرة القوة المستجمعة لشرائط التأثير- مدفوع بما تبين في الإبانة التي هي آخر مصنفاته.
والمعتمد من كتبه كما صرح به ابن عساكر والمجد بن تيمية وغيرهما أن الشيخ قائل بالتأثير للقدرة المستجمعة للشرائط لكن لا استقلالا كما يقوله المعتزلة بل بإذن الله تعالى وهو معنى الكسب عنده، وأما قوله في شرح المواقف: إن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها ليس لقدرتهم تأثير فيها بل الله تعالى أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارا فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما فيكون فعل العبد

(2/226)


مخلوقا لله تعالى إبداعا وإحداثا ومكسوبا للعبد، والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير ومدخل في وجوده سوى كونه محلا له، وهو مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، ففيه بحث من وجوه.
«أما أولا» فلأن هذا ليس مذهب الشيخ المذكور في آخر تصانيفه التي استقر عليها الاعتماد وذكره في غيره إن سلم لا يعول عليه لكونه مرجوحا مرجوعا عنه «وأما ثانيا» فلأن التكليف في صرائح الكتاب والسنة إنما تعلق أمرا أو نهيا بالأفعال الاختيارية أنفسها لا بمقارنة القدرة والإرادة لها فمكسوب العبد نفس الفعل الاختياري، والمراد بكسبه إياه تحصيله إياه بتأثير قدرته بإذن الله تعالى لا مستقلا، فالقول بأن المراد بكسب العبد للفعل هو مقارنة الفعل لقدرته، وإرادته من غير تأثير لا يوافق ما اقتضاه صرائح الكتاب والسنة ونصوص الإبانة، ويزيده وضوحا
حديث أبي هريرة «أنه لما نزل إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة: 284] اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها» الحديث
فإنه صريح بأن الذي كلفوا به ما يطيقونه من نفس الأعمال وهو نفس الصلاة وأخواتها لا مقارنتها لقدرتهم وإرادتهم وأقرهم صلى الله تعالى عليه وسلم على ذلك «وأما ثالثا» فلأن مقارنة الفعل لقدرة العبد وإرادته لو كانت هي الكسب لكانت هي المكلف بها ولو كانت كذلك لكان التكليف بما لا يطاق واقعا لأن المقارنة أمر يترتب على فعل الله تعالى أي على إيجاد الله تعالى الفعل الاختياري مقارنا لهما وما يترتب على فعل الله تعالى ليس مقدورا للعبد أصلا لأن معنى كون الشيء مقدورا له أن يكون ممكن الإيقاع بقدرته عند تعلق مشيئته به الموافقة لمشيئة الله تعالى كما هو واضح
من حديث «من كظم غيظه وهو قادر على أن ينفذه»
وما يترتب على فعل الله تعالى لا يكون مقدورا للعبد بهذا المعنى إذ لو كان مقدورا له ابتداء لزم أن لا يكون مترتبا على فعل الله تعالى أو بواسطة لزم أن يكون فعل الله تعالى المترتب عليه هذا مقدورا للعبد واللازم باطل بشقيه، بعد القول، بنفي التأثير أصلا فكذا الملزوم «وأما رابعا» فلأن المقارنة لكونها مترتبة على فعل الله تعالى لا تختلف بالنسبة إلى العبد صعوبة وسهولة فلو كانت هي المكلف بها لاستوى بالنسبة إلى العبد التكليف بأشق الأعمال والتكليف بأسهلها مع أن نص الكتاب التكليف بحسب الوسع ونص السنة أن المملوك لا يكلف إلا ما يطيق شاهدان على التفاوت كما أن البديهة تشهد بذلك، واعترض هذا من وجوه.
الأول أن القول: بأن من المعلوم أن الحكمة لا تقتضي أن يؤمر بالفعل من لا يقدر على الامتثال.
يقتضي أن أفعال الله تعالى وأحكامه لا بدّ فيها من حكمة ومصلحة وهو مسلم لكن لا نسلم أنه لا بدّ أن تظهر هذه المصلحة لنا إذ الحكيم لا يلزمه اطلاع من دونه على وجه الحقيقة- كما قاله القفال في محاسن الشريعة- وحينئذ فما المانع من أن يقال هناك مصلحة لم نطلع عليها. ويجاب بأنا لم ندع سوى أن الله تعالى قد راعى الحكمة فيما أمر وخلق تفضلا ورحمة لا وجوبا وهذا ثابت بقوله تعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88] وقوله سبحانه: أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] وبالإجماع المعصوم عن الخطأ بفضل الله تعالى وإن مقتضى الحكمة أن لا يطلب حصول شيء إلا ممن يتمكن منه ويقدر عليه كما تشهد له النصوص ولم ندع وجوب ظهور وجه الحكمة في جميع أفعاله وأحكامه ولا ما يستلزم ذلك وبيان وجه الحكمة لحكم واحد لا يستلزم دعوى الكلية ويؤول هذا إلى أن الله تعالى أطلعنا على الحكمة في هذا مع عدم وجوب الاطلاع عليه.
والثاني أن القول بأن التكليف في صرائح الكتاب والسنة إنما تعلق إلخ فيه أنه ليس المراد مطلق المقارنة بل المقارنة على جهة التعلق فالكسب عبارة عن تعلق القدرة الحادثة بالمقدور من غير تأثير كما في عبارة غير واحد،

(2/227)


فالأوامر والنواهي متعلقة بالأفعال التي هي اختيارية في الظاهر باعتبار هذا التعلق الذي لا تأثير معه وادعاء أنها صرائح في التعلق مع التأثير ممنوع بل هي محتملة ولو سلم أنها ظاهرة في التأثير، فالظاهر قد يعدل عنه لدليل خلافه، والقول بأنا لا نفهم من تعلق القدرة إلا تأثيرها وإلا فليست بقدرة، فكيف يثبت للقدرة تعلق بلا تأثير سؤال مشهور «وجوابه» ما في شرح المواقف وغيره من أن التأثير من توابع القدرة، وقد ينفك عنها ويجاب بأن تفسير الكسب- بالتعلق الذي لا تأثير معه مردا به التحصيل بحسب ظاهر الأمر فقط- مصادم للنصوص الناطقة بأن العبد متمكن من إيجاد أفعاله الاختيارية بإذن الله تعالى، ولا دليل على خلافه يوجب العدول، والله خالق كل شيء لا ينافي التأثير بالإذن على أن تعلق القدرة تابع للإرادة وتعلقها على القول بنفي التأثير بالكلية غير صحيح كما يشير إليه كلام الجلال الدواني في بيان مبادئ الأفعال الاختيارية، ويوضحه كلام حجة الإسلام الغزالي في كتاب التوحيد والتوكل من الإحياء، وأما ما في شرح المواقف وغيره من أن التأثير قد ينفك عن القدرة فنحن نقول به إذ ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن وإنما الإنكار على نفي التأثير بالكلية عن القدرة الحادثة والاستدلال بما ذكره حجة الإسلام في الاقتصاد من أن القدرة الأزلية متعلقة في الأزل بالحادث ولا حادث فصح التعلق ولا تأثير، ويجوز أن تكون القدرة الحادثة كذلك مجاب عنه بأن القدرة لا تؤثر إلا على وفق الإرادة والإرادة تعلقت أزلا بإيجاد الأشياء بالقدرة في أوقاتها اللائقة بها في الحكمة فعدم تأثيرها قبل الوقت لكونها مؤثرة على وفق الإرادة لا مطلقا فلا يجب تأثيرها قبل الوقت ويجب تأثيرها فيه والقدرة الحادثة على القول بنفي تأثيرها بالكلية لا يصدق عليها أنها تؤثر وفق الإرادة فلا يصح قياسها على القديمة.
والحاصل أن كل تعلق للقديمة على وفق الإرادة لا ينفك عنه التأثير في وقته بخلاف الحادثة فإنه لا تأثير لها أصلا على القول بنفي التأثير عنها كليا فلا تعلق لها بالتأثير على وفق الإرادة.
والثالث أن القول في الاعتراض الثالث إنه لو كانت كذلك لكان التكليف بما لا يطاق واقعا إلخ يقال عليه: نلتزم وقوعه عند الأشعري ولا محذور فيه، ويجاب بأنه قد حقق في موضعه أن الإمام الأشعري لم ينص على ذلك ولا يصح أخذه من كلامه فالتزام وقوعه عنده التزام ما لم يقل به لا صريحا ولا التزاما، والقول إنه لا محذور فيه إنما يصح بالنظر إلى الغنى الذاتي وأما بالنظر إلى أنه تعالى جواد حكيم فالتزامه مصادمة للنص رأي محذور أشنع من هذا.
والرابع أن القول هناك أيضا إن المقارنة لو كانت هي الكسب لكانت هي المكلف بها غير لازم فإن الكسب يطلق على المعنى المصدري ويطلق على المفعول أي المكسوب وهو نفس الأمر لا الكسب بمعنى المقارنة أو تعلق القدرة الحادثة بالفعل فمعنى كسب تعلقت قدرته بالفعل، وإن شئت قلت: قارنت قدرته الفعل فكان الفعل مكسوبا وهو المكلف به، ويجاب بأن الكسب الحقيقي الوارد في الكتاب والسنة معناه تحصيل العبد ما تعلقت به إرادته التابعة لإرادة الله تعالى بقدرته المؤثره بإذنه وأن مكسوبه ما حصله بقدرته المذكورة فمعنى كون الفعل المكسوب مكلفا به هو أن العبد المكلف مطلوب منه تحصيله بالكسب بالمعنى المصدري لأن المكسوب هو الحاصل بالمصدر فإذا كان المكسوب مكلفا به كان الكسب بالمعنى المصدري مكلف به قطعا لامتناع حصول المكسوب من غير قيام المعنى المصدري بالمكلف ضرورة انتفاء الحاصل بالمصدر عند انتفاء قيام المصدر بالمكلف فظهرت الملازمة في الشرطية «والخامس» أن القول في الاعتراض إن المقارنة لكونها أمرا مترتبا على فعل الله تعالى لا تختلف إلخ، فيه أمران: الأول أنا لا نسلم التلازم بين كون المقارنة هي المكلف بها وبين عدم الاختلاف وأي مانع من أن تكون مختلفة باعتبار أحوال الشخص عندها فتارة يخلق الله تعالى فيه صبرا وعزما وتارة جزعا وفتورا إلى غير ذلك مما يرجع إلى سلامة البنية ومقابله أو غيرهما من الاعراض والأحوال التي يخلقها الله تعالى ويصرف عبده فيها كيف شاء مما يوجب

(2/228)


ألما لذة. والثاني أن ما ذكرتموه مشترك الإلزام إذ يقال إذا كانت قدرة العبد مؤثرة بإذن الله تعالى فبأي وجه وقع الاختلاف حتى كان هذا سهلا وهذا صعبا وكلاهما مقدور وهما متساويان في الإمكان، ويجاب أما عن الأول بأن التلازم بين كونها مترتبة على فعل الله تعالى وبين عدم اختلافها متحقق لأنها إذا كانت الكسب بالمعنى المصدري كانت تحصيلا للمكسوب والتحصيل لكونه قائما بالمكلف تتفاوت درجاته صعوبة وسهولة قطعا ولهذا
قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب»
والمقارنة لكونها أمرا مرتبا على فعل الله تعالى ليست قائمة بالعبد فلا تتفاوت بالنسبة إليه أصلا، والإيراد بتجويز اختلافها بكون بعضها بخلق الله تعالى عنده صبرا في العبد إلخ خارج عن المقصود لأن العبارة صريحة في أن المقصود عدم اختلافها بالنسبة إلى العبد صعوبة وسهولة لا مطلق الاختلاف، وأما عن الثاني فبأنه قد دلت النصوص على تفاوت درجات القوة والبطش كقوله تعالى: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً [غافر: 82] وقوله سبحانه: كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً [غافر: 21] وقوله عز شأنه: فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً [الزخرف: 8] وباختلاف درجات ذلك في الأقوياء التابع لاستعداداتهم الذاتية الغير المجعولة وقع الاختلاف في الأعمال صعوبة وسهولة، هذا ما ظفرنا به من تحقيق الحق من كتب ساداتنا قدس الله تعالى أسرارهم وجعل أعلى الفردوس قرارهم، وإنما استطردت هذا المبحث هنا مع تقدم إشارات جزئية إلى بعض منه لأنه أمر مهم جدا لا تنبغي الغفلة عنه فاحفظه فإنه من بنات الحقاق لا من حوانيت الأسواق، والله تعالى الموفق لا رب غيره.
وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ يحتمل أن يراد بمن كفر من لم يحج وعبر عن ترك الحج بالكفر تغليظا وتشديدا على تاركه كما وقع مثل ذلك فيما
أخرجه سعيد بن منصور وأحمد وغيرهما عن أبي أمامة من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه مرض حابس أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حالة شاء يهوديا أو نصرانيا»
ومثله ما روي بسند صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فلينظروا كل من كان له جدة فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين، ويحتمل إبقاء الكفر على ظاهره بناء على ما
أخرج ابن جرير وعبد بن حميد وغيرهما عن عكرمة «أنه لما نزلت وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً [آل عمران: 85] الآية قال اليهود: فنحن مسلمون فقال لهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الله تعالى فرض على المسلمين حج البيت فقالوا: لم يكتب علينا وأبوا أن يحجوا فنزل وَمَنْ كَفَرَ» الآية.
ومن طريق الضحاك أنه لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أهل الملل مشركي العرب والنصارى واليهود والمجوس والصابئين فقال: إن الله تعالى قد فرض عليكم الحج فحجوا البيت فلم يقبله إلا المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا: لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نستقبله فأنزل الله سبحانه وَمَنْ كَفَرَ إلخ
وإلى إبقائه على ظاهره ذهب ابن عباس، فقد أخرج البيهقي عنه أنه قال في الآية: وَمَنْ كَفَرَ بالحج فلم ير حجه برا ولا تركه مأثما،
وروى ابن جرير أن الآية لما نزلت قام رجل من هذيل فقال: يا رسول الله من تركه كفر؟ قال: من تركه لا يخاف عقوبته ومن حج لا يرجو ثوابه فهو ذاك،
وعلى كلا الاحتمالين لا تصلح الآية دليلا لمن زعم أن مرتكب الكبيرة كافر، ومَنْ تحتمل أن تكون شرطية وهو الظاهر وأن تكون موصولة، وعلى الاحتمالين استغني فيما بعد الفاء عن الرابط بإقامة الظاهر مقام المضمر إذ الأصل فإن الله غني عنهم.
ويجوز أن يبقى الجمع على عمومه ويكتفي عن الضمير الرابط بدخول المذكورين فيه دخولا أوليا والاستغناء

(2/229)


قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)

في هذا المقام كناية عن السخط على ما قيل، ولهذا صح جعله جزاء وإن أبيت فهو دليله، وفي الآية- كما قالوا- فنون من الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج والتشديد على تاركه ما لا مزيد عليه، وعدوا من ذلك إيثار صيغة الخبر وإبرازها في صورة الجملة الاسمية الدالة على الثبات والدوام على وجه يفيد أنه حق واجب لله تعالى في ذمم الناس وتعميم الحكم أولا وتخصيصه ثانيا وتسمية ترك الحج كفرا من حيث إنه فعل الكفرة وذكر الاستغناء والعالمين.
وذكر الطيبي أن في تخصيص اسم الذات الجامع وتقديم الخبر الدلالة على أن ذلك عبادة لا ينبغي أن تختص إلا بمعبود جامع للكمالات بأسرها وأن في إقامة المظهر وهو البيت مقام المضمر بعد سبقه منكرا المبالغة في وصفه أقصى الغاية كأنه رتب الحكم على الوصف المناسب وكذا في ذكر الناس بعد ذكره معرفا الأشعار بعلية الوجوب وهو كونهم ناسا، وفي تذييل وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ لأنها في المعنى تأكيد الإيذان بأن ذلك هو الإيمان على الحقيقة وهو النعمة العظيمة وأن مباشرة مستأهل لأن الله تعالى بجلالته وعظمته يرضى عنه رضا كاملا كما كان ساخطا على تاركه سخطا عظيما، وفي تخصيص هذه العبادة وكونها مبينة لملة إبراهيم عليه السلام بعد الرد على أهل الكتاب فيما سبق من الآيات والعود إلى ذكرهم بعد خطب جليل وشأن خطير لتلك العبادة العظيمة، واستأنس بعضهم لكونه عبادة عظيمة بأنه من الشرائع القديمة بناء على ما
روي أن آدم عليه السلام حج أربعين سنة من الهند ماشيا وأن جبريل قال له: إن الملائكة كانوا يطوفون قبلك بهذا البيت سبعة آلاف سنة
وادعى ابن إسحاق أنه لم يبعث الله تعالى نبيا بعد إبراهيم إلا حج، والذي صرح به غيره أنه ما من نبي إلا حج خلافا لمن استثنى هودا وصالحا عليهما الصلاة والسلام، وفي وجوبه على من قبلنا وجهان قيل: الصحيح أنه لم يجب إلا علينا واستغرب، وادعى جمع أنه أفضل العبادات لاشتماله على المال والبدن، وفي وقت وجوبه خلاف فقيل: قبل الهجرة، وقيل: أول سنيها وهكذا إلى العاشرة وصحح أنه في السادسة، نعم حج صلى الله تعالى عليه وسلم قبل النبوة وبعدها وقبل الهجرة حججا لا يدري عددها والتسمية مجازية باعتبار الصورة بل قيل ذلك في حجة الصديق رضي الله تعالى عنه أيضا في التاسعة لكن الوجه خلافه لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا يؤمر إلا بحج شرعي، وكذا يقال في الثامنة التي أمر فيها عتاب بن أسيد أمير مكة وبعد ذلك حجة الوداع لا غير.

(2/230)


قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ خاطبهم بعنوان أهلية الكتاب الموجبة للإيمان به وبما يصدقه مبالغة في تقبيح حالهم في تكذيبهم بذلك والاستفهام للتوبيخ والإشارة إلى تعجيزهم عن إقامة العذر في كفرهم كأنه قيل: هاتوا عذركم إن أمكنكم.
والمراد من الآيات مطلق الدلائل الدالة على نبوة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وصدق مدعاه الذي من جملته الحج وأمره به، وبه تظهر مناسبة الآية لما قبلها، وسبب نزولها ما
أخرجه ابن إسحاق وجماعة عن زيد بن أسلم قال: مر شماس بن قيس وكان شيخا قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم على نفر من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار فأمر فتى شابا معه من يهود فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ففعل، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب- أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس وهبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج- فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها الآن وغضب الفريقان جميعا وقالوا قد فعلنا السلاح السلاح. موعدكم الظاهرة- والظاهرة الحرة- فخرجوا إليها وانضمت الأوس بعضها إلى بعض

(2/231)


والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله تعالى إلى الإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد لهم من عدوهم فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق الرجال بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله تعالى عنهم كيد عدو الله تعالى شماس، وأنزل الله تعالى في شأن شماس، وما صنع قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ إلى قوله سبحانه: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وأنزل في أوس بن قيظي وهبار ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الآية،
وعلى هذا يكون المراد من أهل الكتاب ظاهر اليهود.
وقيل: المراد منه ما يشمل اليهود والنصارى وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ جملة حالية العامل فيها تكفرون وهي مفيدة لتشديد التوبيخ والإظهار في موضع الإضمار لما مرّ غير مرة والشهيد العالم المطلع، وصيغة المبالغة للمبالغة في الوعيد وجعل الشهيد بمعنى الشاهد تكلف لا داعي إليه، وما إما عبارة عن كفرهم، وإما على عمومها وهو داخل فيها دخولا أوليا والمعنى لأي سبب تكفرون، والحال أنه لا يخفى عليه بوجه من الوجوه جميع أعمالكم وهو مجازيكم عليها على أتم وجه ولا مرية في أن هذا مما يسد عليكم طرق الكفر والمعاصي ويقطع أسباب ذلك أصلا قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ أي تصرفون عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي طريقه الموصلة إليه وهي ملة الإسلام مَنْ آمَنَ أي بالله وبما جاء من عنده أو من صدق بتلك السبيل وآمن بذلك الدين بالفعل أو بالقوة القريبة منه بأن أراد ذلك وصمم عليه وهو مفعول لتصدون قدم عليه الجار للاهتمام به تَبْغُونَها أي السبيل عِوَجاً أي اعوجاجا وميلا عن الاستواء ويستعمل مكسور العين في الدين والقول والأرض، ومنه لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه: 107] ويستعمل المفتوح في ميل كل شيء منتضب كالقناة والحائط مثلا وهو أحد مفعولي- تبغون- فإن بغى يتعدى لمفعولين أحدهما بنفسه والآخر باللام كما صرح به اللغويون وتعديته للهاء من باب الحذف والإيصال أي تبغون لها كما في قوله:
فتولى غلامهم ثم نادى ... أظليما أصيدكم أم حمارا
أراد أصيد لكم، وقال ابن المنير: الأحسن جعل الهاء مفعولا من غير حاجة إلى تقدير الجار، وعِوَجاً حال وقع موقع الاسم مبالغة كأنهم طلبوا أن تكون الطريقة القويمة نفس المعوج، وادعى الطيبي أن فيه نظرا إذ لا يستقيم المعنى إلا على أن يكون عِوَجاً هو المفعول به لأنه مطلوبهم فلا بد من تقدير: الجار وفيه تأمل وقيل: عِوَجاً حال من فاعل- تبغون- والكلام فيه كالكلام في سابقه، وجملة- تبغون- على كل حال إما حال من ضمير تَصُدُّونَ أو من- السبيل- وإما مستأنفة جيء بها كالبيان لذلك الصد، والأكثرون على أنه كان بالتحريش والإغراء بين المؤمنين لتختلف كلمتهم ويختل أمر دينهم كما دل عليه ما أوردناه في بيان سبب النزول فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب هم اليهود أيضا، والتعبير عنهم بهذا العنوان لما تقدم وإعادة الخطاب والاستفهام مبالغة في التقريع والتوبيخ لهم على قبائحهم وتفصيلها ولو قيل: لم تكفرون بآيات الله وتصدون عن سبيل الله لربما توهم أن التوبيخ على مجموع الأمرين، وقيل: الخطاب لأهل الكتاب مطلقا وكان صدهم عن السبيل بهتهم وتغييرهم صفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم- وإلى هذا ذهب الحسن وقتادة- وعن السدي كانوا إذا سألهم أحد هل تجدون محمدا في كتبكم؟ قالوا: لا فيصدونه عن الإيمان به وهذا ذم لهم بالإضلال إثر ذمهم بالضلال.

(2/232)


وقرئ تَصُدُّونَ من أصد وَأَنْتُمْ شُهَداءُ حال إما من فاعل تَصُدُّونَ أو من فاعل- تبغون- والاستئناف خلاف الظاهر أي كيف تفعلون هذا وأنتم علماء عارفون بتقدم البشارة به صلى الله تعالى عليه وسلم مطلعون على صحة نبوته أو وأنتم عدول عند أهل ملتكم يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في القضايا وصفتكم هذه تقتضي خلاف ما أنتم عليه وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تهديد لهم على ما صنعوا قيل: لما كان كفرهم ظاهرا ناسب ذكر الشهادة معه في الآية السابقة لأنها تكون لما يظهر ويعلم، أو ما هو بمنزلته- وصدهم عن سبيل الله- وما معه لما كان بالمكر والحيلة الخفية التي تروج على الغافل ناسب ذكر الغفلة معه في هذه الآية فلهذا ختم كلّا من الآيتين بما ختم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ خطاب للأوس والخزرج على ما يقتضيه سبب النزول ويدخل غيرهم من المؤمنين في عموم اللفظ، وخاطبهم الله تعالى بنفسه بعد ما أمر رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم بخطاب أهل الكتاب إظهارا لجلالة قدرهم وإشعارا بأنهم هم الأحقاء بأن يخاطبهم الله تعالى ويكلمهم فلا حاجة إلى أن يقال المخاطب الرسول صلّى الله عليه وسلم بتقدير قل لهم.
والمراد من الفريق بعض غير معين أو هو شماس بن قيس اليهودي، وفي الاقتصار عليه مبالغة في التحذير ولهذا على ما قيل حذف متعلق الفعل، وقال بعضهم: هو على معنى إن تطيعوهم في قبول قولهم بإحياء الضغائن التي كانت بينكم في الجاهلية وكافِرِينَ إما مفعول ثان ليردوكم على تضمين الردّ معنى التصيير كما في قوله:
رمى الحدثان نسوة آل سعد ... بمقدار سمدن له سمودا

فرد شعورهن السود بيضا ... ورد وجوههن البيض سودا
أو حال من مفعوله، قالوا: والأول أدخل في تنزيه المؤمنين عن نسبتهم إلى الكفر لما فيه من التصريح بكون الكفر المفروض بطريق القسر، وبعد يجوز أن يكون ظرفا- ليردوكم- وأن يكون ظرفا- لكافرين- وإيراده مع عدم الحاجة إليه لإغناء ما في الخطاب عنده واستحالة الرد إلى الكفر بدون سبق الإيمان وتوسيطه بين المنصوبين لإظهار كمال شناعة الكفر وغاية بعده من الوقوع إما لزيادة قبحه أو لممانعة الإيمان له كأنه قيل: بعد إيمانكم الراسخ، وفي ذلك من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى وقدم توبيخ الكفار على هذا الخطاب لأن الكفار كانوا كالعلة الداعية إليه وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ أي على أيّ حال يقع منكم الكفر وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ الدالة على توحيده ونبوة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وَفِيكُمْ رَسُولُهُ يعني محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم يعلمكم الكتاب والحكمة ويزكيكم بتحقيق الحق وإزاحة الشبه، والجملة وقعت حالا من ضمير المخاطبين في تَكْفُرُونَ والمراد استبعاد أن يقع منهم الكفر وعندهم ما يأباه.
وقيل: المراد التعجيب أي لا ينبغي لكم أن تكفروا في سائر الأحوال لا سيما في هذه الحال التي فيها الكفر أفظع منه في غيرها وليس المراد إنكار الواقع كما في كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً [البقرة: 28] الآية وقيل:
المراد بكفرهم فعلهم أفعال الكفرة كدعوى الجاهلية فلا مانع من أن يكون الاستفهام لإنكار الواقع، والأول أولى وفي الآية تأييس لليهود مما راموه، والأكثرون على تخصيص هذا الخطاب بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو الأوس والخزرج منهم، ومنهم من جعله عاما لسائر المؤمنين وجميع الأمة، وعليه معنى كونه صلى الله تعالى عليه وسلم فيهم أن آثاره وشواهد نبوته فيهم لأنها باقية حتى يأتي أمر الله ولم يسند سبحانه التلاوة إلى رسوله عليه الصلاة والسلام إشارة إلى استقلال كل من الأمرين في الباب، وإيذانا بأن التلاوة كافية في الغرض من أي تال كانت.

(2/233)


وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ إما أن يقدر مضاف أي ومن يعتصم بدين الله والاعتصام بمعنى التمسك استعارة تبعية، وإما أن لا يقدر فيجعل الاعتصام بالله استعارة للالتجاء إليه سبحانه قال الطيبي: وعلى الأول تكون الجملة معطوفة على وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ أي- كيف تكفرون- أي والحال أن القرآن يتلى عليكم وأنتم عالمون بحال المعتصم به جل شأنه، وعلى الثاني تكون تذييلا لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا إلخ لأن مضمونه أنكم إنما تطيعونهم لما تخافون من شرورهم ومكائدهم فلا تخافوهم والتجئوا إلى الله تعالى في دفع شرورهم ولا تطيعوهم أما علمتم أن من التجأ إلى الله تعالى كفاه شر ما يخافه، فعلى الأول جيء بهذه الجملة لإنكار الكفر مع هذا الصارف القوي المفهوم من قوله تعالى: وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ إلخ، وعلى الثاني للحث على الالتجاء، ويحتمل على الأول التذييل، وعلى الثاني الحال أيضا فافهم، ومَنْ شرطية، وقوله تعالى:
فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ جواب الشرط ولكونه ماضيا مع قد أفاد الكلام تحقق الهدى حتى كأنه قد حصل، قيل: والتنوين للتفخيم ووصف الصراط بالاستقامة للتصريح بالرد على الذين يبغون له عوجا، والصراط المستقيم وإن كان هو الدين الحق في الحقيقة والاهتداء إليه هو الاعتصام به بعينه لكن لما اختلف الاعتباران وكان العنوان الأخير مما يتنافس فيه المتنافسون أبرز في معرض الجواب للحث والترغيب على طريقة قوله تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [آل عمران: 185] انتهى.
وأنت تعلم أن هذا على ما فيه إنما يحتاج إليه على تقدير أن يكون المراد من الاعتصام بالله الإيمان به سبحانه والتمسك بدينه كما قاله ابن جريج، وأما إذا كان المراد منه الثقة بالله تعالى والتوكل عليه والالتجاء إليه كما روي عن أبي العالية فيبعد الاحتياج، وعلى هذا يكون المراد من الاهتداء إلى الصراط المستقيم النجاة والظفر بالمخرج،
فقد أخرج الحكيم الترمذي عن الزهري قال: أوحى الله تعالى داود عليه السلام ما من عبد يعتصم بي من دون خلقي وتكيده السموات والأرض إلا جعلت له من ذلك مخرجا، وما من عبد يعتصم بمخلوق من دوني إلا قطعت أسباب السماء بين يديه وأسخت الأرض من تحت قدميه.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كرر الخطاب بهذا العنوان تشريفا لهم ولا يخفى ما في تكراره من اللطف بعد تكرار خطاب الذين أوتوا الكتاب اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ أي حق تقواه،
روى غير واحد عن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا هو أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر،
وادعى كثير نسخ هذه الآية وروي ذلك عن ابن مسعود.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت اشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم فأنزل الله تعالى تخفيفا على المسلمين فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] فنسخت الآية الأولى، ومثله عن أنس وقتادة وإحدى الروايتين عن ابن عباس، وروى ابن جرير من بعض الطرق عنه أنه قال: لم تنسخ ولكن حق تقاته أن يجاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم ويقوموا لله سبحانه بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم، ومن قال بالنسخ جنح إلى أن المراد من حق تقاته ما يحق له ويليق بجلاله وعظمته وذلك غير ممكن وما قدروا الله حق قدره، ومن قال بعدم النسخ جنح إلى أن حَقَّ من حق الشيء بمعنى وجب وثبت، والإضافة من باب إضافة الصفة إلى موصوفها وأن الأصل اتقوا الله اتقاء حقا أي ثابتا وواجبا على حد ضربت زيد شديد الضرب تريد الضرب الشديد فيكون قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] بيانا لقوله تعالى:
اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وادعى أبو علي الجبائي أن القول بالنسخ باطل لما يلزم عليه من إباحة بعض المعاصي، وتعقبه الرماني بأنه إذا وجه قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ على أن يقوموا بالحق في الخوف والأمن لم يدخل عليه ما

(2/234)


ذكره لأنه لا يمتنع أن يكون أوجب عليهم أن يتقوا الله سبحانه وتعالى على كل حال، ثم أباح ترك الواجب عند الخوف على النفس كما قال سبحانه: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل: 106] وأنت تعلم أن ما ذكره الجبائي إنما يخطر بالبال حتى يجاب عنه إذا فسر حَقَّ تُقاتِهِ على تقدير النسخ بما فسره هو به من ترك جميع المعاصي ونحوه وإن لم يفسر بذلك بل فسر بما جنح إليه القائل بالنسخ فلا يكاد يخطر ما ذكره ببال ليحتاج إلى الجواب، نعم يكون القول بإنكار النسخ حينئذ مبنيا على ما ذهب إليه المعتزلة من امتناع التكليف بما لا يطاق ابتداء كما لا يخفى، وأصل تُقاةً وقية قلبت واوها المضمومة تاء كما في تهمة وتخمة وياؤها المفتوحة ألفا، وأجاز فيها الزجاج ثلاثة أوجه:
تقاة، ووقاة، وإقاة وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي مخلصون نفوسكم لله عز وجل لا تجعلون فيها شركة لسواه أصلا، وذكر بعض المحققين أن الإسلام في مثل هذا الموضع لا يراد به الأعمال بل الإيمان القلبي لأن الأعمال حال الموت مما لا تكاد تتأتى ولذا
ورد في دعاء صلاة الجنازة اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن أمته منا فأمته على الإيمان
فأخذ الإسلام أولا والإيمان ثانيا لما أن لكل مقام مقالا، والاستثناء من أعم الأحوال أي لا تموتن على حال من الأحوال إلا على حال تحقق إسلامكم وثباتكم عليه كما تفيده الجملة الاسمية، ولو قيل: إلا مسلمين لم يقع هذا الموقع والعامل في الحال ما قبل إِلَّا بعد النقض والمقصود النهي عن الكون على حال غير حال الإسلام عند الموت، ويؤول إلى إيجاب الثبات على الإسلام إلى الموت إلا أنه وجه النهي إلى الموت للمبالغة في النهي عن قيده المذكور وليس المقصود النهي عنه أصلا لأنه ليس بمقدور لهم حتى ينهوا عنه، وفي التحبير للإمام السيوطي.
ومن عجيب ما اشتهر في تفسير مُسْلِمُونَ قول العوام: أي متزوجون وهو قول لا يعرف له أصل، ولا يجوز الإقدام على تفسير كلام الله تعالى بمجرد ما يحدث في النفس أو يسمع ممن لا عهدة عليه انتهى، وقرأ أبو عبد الله رضي الله تعالى عنه مُسْلِمُونَ بالتشديد ومعناه مستسلمون لما أتى به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم منقادون له وفي الآية تأكيد للنهي عن إطاعة أهل الكتاب وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ أي القرآن وروي ذلك بسند صحيح عن ابن مسعود.
وأخرج غير واحد عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض» .
وأخرج أحمد عن زيد بن ثابت قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله عز وجل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض»
وورد بمعنى ذلك أخبار كثيرة، وقيل: المراد بحبل الله الطاعة والجماعة، وروي ذلك عن ابن مسعود أيضا.
أخرج ابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن ثابت بن قطنة المزني قال: سمعت ابن مسعود يخطب وهو يقول:
أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة فإنهما حبل الله تعالى الذي أمر به، وفي رواية عنه حبل الله تعالى الجماعة، وروي ذلك أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي العالية أنه الإخلاص لله تعالى وحده، وعن الحسن أنه طاعة الله عز وجل، وعن ابن زيد أنه الإسلام، وعن قتادة أنه عهد الله تعالى وأمره وكلها متقاربة.
وفي الكلام استعارة تمثيلية بأن شبهت الحالة الحاصلة للمؤمنين من استظهارهم بأحد ما ذكر ووثوقهم بحمايته بالحالة الحاصلة من تمسك المتدلي من مكان رفيع بحبل وثيق مأمون الانقطاع من غير اعتبار مجاز في المفردات، واستعير ما يستعمل في المشبه به من الألفاظ للمشبه، وقد يكون في الكلام استعارتان مترادفتان بأن يستعار الحبل للعهد مثلا استعارة مصرحة أصلية والقرينة الإضافة، ويستعار الاعتصام للوثوق بالعهد والتمسك به على طريق الاستعارة المصرحة التبعية والقرينة اقترانها بالاستعارة الثانية، وقد يكون في اعْتَصِمُوا مجاز مرسل تبعي بعلاقة الإطلاق

(2/235)


والتقييد، وقد يكون مجازا بمرتبتين لأجل إرسال المجاز وقد تكون الاستعارة في الحبل فقط ويكون الاعتصام باقيا على معناه ترشيحا لها على أتم وجه، والقرينة قد تختلف بالتصرف فباعتبار قد تكون مانعة وباعتبار آخر قد لا تكون، فلا يرد أن احتمال المجازية يتوقف على قرينة مانعة عن إرادة الموضع له فمع وجودها كيف يتأتي إرادة الحقيقة ليصح الأمران في اعْتَصِمُوا وقد تكون الاستعارتان غير مستقلتين بأن تكون الاستعارة في الحبل مكنية وفي الاعتصام تخييلية لأن المكنية، مستلزمة للتخييلية قاله الطيبي، ولا يخفى أنه أبعد من العيوق.
وقد ذكرنا في حواشينا على رسالة ابن عصام ما يرد على بعض هذه الوجوه مع الجواب عن ذلك فارجع إليه إن أردته جَمِيعاً حال من فاعل اعْتَصِمُوا كما هو الظاهر المبادر أي مجتمعين عليه فيكون قوله تعالى: وَلا تَفَرَّقُوا تأكيدا بناء على أن المعنى ولا تتفرقوا عن الحق الذي أمرتم بالاعتصام به، وقيل: المعنى لا يقع بينكم شقاق وحروب كما هو مراد المذكرين لكم بأيام الجاهلية الماكرين بكم، وقيل: المعنى لا تتفرقوا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وروي ذلك عن الحسن وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي جنسها ومن ذلك الهداية والتوفيق للإسلام المؤدي إلى التآلف وزوال الأضغان، ويحتمل أن يكون المراد بها ما بينه سبحانه بقوله: إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً أي في الجاهلية فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بالإسلام، ونِعْمَتَ مصدر مضاف إلى الفاعل، وعَلَيْكُمْ إما متعلق به أو حال منه، وإِذْ إما ظرف للنعمة أو للاستقرار في عَلَيْكُمْ إذا جعلته حالا، قيل: وأراد سبحانه بما ذكر ما كان بين الأوس والخزرج من الحروب التي تطاولت مائة وعشرين سنة إلى أن ألف سبحانه بينهم بالإسلام فزالت الأحقاد- قاله ابن إسحاق- وكان يوم بعاث آخر الحروب التي جرت بينهم وقد فصل ذلك في الكامل، وقيل: أراد ما
كان بين مشركي العرب من التنازع الطويل والقتال العريض، ومنه حرب البسوس، ونقل ذلك عن الحسن رضي الله تعالى عنه
فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً أي فصرتم بسبب نعمته التي هي ذلك التأليف متحابين- فأصبح- ناقصة، وإِخْواناً خبره، وقيل: فَأَصْبَحْتُمْ أي دخلتم في الصباح فالباء حينئذ متعلقة بمحذوف وقع حالا من الفاعل وكذا إخوانا أي فأصبحتم متلبسين بنعمته حال كونكم إخوانا، والإخوان جمع أخ وأكثر ما يجمع أخو الصداقة على ذلك على الصحيح، وفي الإتقان الأخ في النسب جمعه إخوة وفي الصداقة إخوان، قاله ابن فارس- وخالفه غيره- وأورد في الصداقة إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] وفي النسب أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ [النور:
31] وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ أي وكنتم على طرف حفرة من جهنم إذ لم يكن بينكم وبينها إلا الموت وتفسير الشفا بالطرف مأثور عن السدي في الآية ووارد عن العرب، ويثنى على شفوان، ويجمع على أشفاء ويضاف إلى الأعلى ك شَفا جُرُفٍ هارٍ [التوبة: 109] وإلى الأسفل قيل: كما هنا وكون المراد من النار ما ذكرنا هو الظاهر وحملها على نار الحرب بعيد فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها أي بمحمد صلّى الله عليه وسلم- قاله ابن عباس- والضمير المجرور عائد إما على النار، أو على حُفْرَةٍ أو على شَفا لأنه بمعنى الشفة، أو لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه كما في قوله:
وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم
فإن المضاف يكتسب التأنيث من المضاف إليه إذا كان بعضا منه أو فعلا له أو صفة كما صرحوا به وما نحن فيه من الأول، ومن أطلق لزمه جواز قامت غلام هند، واختار الزمخشري الاحتمال الأخير، وقال ابن المنير: وعود الضمير إلى الحفرة أتم لأنها التي يمتن بالإنقاذ منها حقيقة، وأما الامتنان بالإنقاذ من الشفا قلما يستلزمه الكون على الشفا غالبا من الهوي إلى الحفرة فيكون الإنقاذ من الشفا إنقاذا من الحفرة التي يتوقع الهوي فيها فإضافة المنة إلى الإنقاذ من الحفرة أبلغ وأوقع مع أن اكتساب التأنيث من المضاف إليه قد عده أبو علي في التعاليق من ضرورة الشعر

(2/236)


خلاف رأيه في الإيضاح، وما حمل الزمخشري على إعادة الضمير إلى الشفا إلا أنه هو الذي كانوا عليه ولم يكونوا في الحفرة حتى يمتن عليهم بالإنقاذ من الحفرة، وقد علم أنهم كانوا صائرين إليها لولا الإنقاذ الرباني فبولغ في الامتنان بذلك ألا ترى إلى
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «الراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه»
وإلى قوله تعالى: أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ [التوبة: 109] فانظر كيف جعل تعالى كون البنيان على الشفا سببا مؤديا إلى انهياره في نار جهنم مع تأكيد ذلك بقوله سبحانه: هارٍ انتهى، ومنه يعلم ما في قول أبي حيان من أنه لا يحسن عوده إلا إلى الشفا لأن كينونتهم عليه هو أحد جزأي الإسناد فالضمير لا يعود إلا إليه لا على الحفرة لأنها غير محدث عنها ولا على النار لأنه إنما جيء بها لتخصيص الحفرة.
وأيضا فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة ومن النار، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا فعوده على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى، نعم ما ذكره من أن عوده على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ظاهر بناء على أن الأصل أن يعود الضمير على المضاف دون المضاف إليه إذا صلح لكل منهما ولو بتأويل إلا أنه قد يترك ذلك فيعود على المضاف إليه إما مطلقا- كما هو قول ابن المنير- أو بشرط كونه بعضه أو كبعضه كقول جرير أرى مرّ السنين «أخذن» مني- فإن مرّ السنين من جنسها، وإليه ذهب الواحدي والشرط موجود فيما نحن فيه كَذلِكَ أي مثل ذلك التبيين الواضح يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أي دلائله فيما أمركم به ونهاكم عنه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لكي تدوموا على الهدى وازديادكم فيه كما يشعر به كون الخطاب للمؤمنين أو صيغة المضارع من الافتعال وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ أمرهم سبحانه بتكميل الغير إثر أمرهم بتكميل النفس ليكونوا هادين مهديين على ضد أعدائهم فإن ما قص الله تعالى من حالهم فيما سبق يدل على أنهم ضالون مضلون، والجمهور على إسكان لام الأمر، وقرئ بكسرها على الأصل، وتكن إما من كان التامة فتكون أُمَّةٌ فاعلا وجملة يَدْعُونَ صفته ومِنْكُمْ متعلق- بتكن- أو بمحذوف على أن يكون صفة- لأمة- قدم عليها فصار حالا. وإما من كان الناقصة فتكون أُمَّةٌ اسمها، ويَدْعُونَ خبرها، ومِنْكُمْ إما حال من أمة أو متعلق بكان الناقصة، والأمة الجماعة التي تؤم أي تقصد لأمر ما، وتطلق على أتباع الأنبياء لاجتماعهم على مقصد واحد وعلى القدوة ومنه إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: 120] وعلى الدين والملة، ومنه إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف: 22، 23] وعلى الزمان، ومنه وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف: 45] إلى غير ذلك من معانيها، والمراد من الدعاء إلى الخير الدعاء إلى ما فيه صلاح ديني أو دنيوي فعطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه في قوله سبحانه:
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ من باب عطف الخاص على العام إيذانا بمزيد فضلهما على سائر الخيرات كذا قيل، قال ابن المنير: إن هذا ليس من تلك الباب لأنه ذكر بعد العام جميع ما يتناوله إذ الخير المدعو إليه إما فعل مأمور أو ترك منهي لا يعدو واحدا من هذين حتى يكون تخصيصهما بتميزهما عن بقية المتناولات، فالأولى أن يقال فائدة هذا التخصيص ذكر الدعاء إلى الخير عاما ثم مفصلا، وفي تثنية الذكر على وجهين ما لا يخفى من العناية إلا إن ثبت عرف يخص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببعض أنواع الخير وحينئذ يتم ما ذكر، وما أرى هذا العرف ثابتا انتهى، وله وجه وجيه لأن الدعاء إلى الخير لو فسر بما يشمل أمور الدنيا وإن لم يتعلق بها أمر أو نهي كان أعم من فرض الكفاية ولا يخفى ما فيه، على أنه
قد أخرج ابن مردويه عن الباقر رضي الله تعالى عنه قال: «قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ثم قال: الخير اتباع القرآن وسنتي»
وهذا يدل أن الدعاء إلى الخير لا يشمل الدعاء إلى أمور الدنيا.

(2/237)


ومن الناس من فسر الخير بمعروف خاص وهو الإيمان بالله تعالى وجعل المعروف في الآية ما عداه من الطاعات فحينئذ لا يتأتى ما قاله ابن المنير أيضا، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل أن الخير الإسلام والمعروف طاعة الله والمنكر معصيته، وحذف المفعول الصريح من الأفعال الثلاثة إما للإعلام بظهوره أي يدعون الناس ولو غير مكلفين ويأمرونهم وينهونهم، وإما للقصد إلى إيجاد نفس الفعل على حدّ فلان يعطي أي يفعلون الدعاء والأمر والنهي ويوقعونها، والخطاب قيل متوجه إلى من توجه الخطاب الأول إليه في رأي وهم الأوس والخزرج، وأخرج ابن المنذر عن الضحاك أنه متوجه إلى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة وهم الرواة، والأكثرون على جعله عاما ويدخل فيه من ذكر دخولا أوليا، ومن هنا قيل: للتبعيض، وقيل: للتبيين وهي تجريدية كما يقال لفلان من أولاده جند وللأمير من غلمانه عسكر يراد بذلك جميع الأولاد والغلمان.
ومنشأ الخلاف في ذلك أن العلماء اتفقوا على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات ولم يخالف في ذلك إلا النزر، ومنهم الشيخ أبو جعفر من الامامية قالوا: إنها من فروض الأعيان، واختلفوا في أن الواجب على الكفاية هل هو واجب على جميع المكلفين ويسقط عنهم بفعل بعضهم أو هو واجب على البعض، ذهب الإمام الرازي وأتباعه إلى الثاني للاكتفاء بحصوله من البعض ولو وجب على الكل لم يكتف بفعل البعض إذ يستبعد سقوط الواجب على المكلف بفعل غيره، وذهب إلى الأول الجمهور وهو ظاهر نص الإمام الشافعي في الأم، واستدلوا على ذلك بإثم الجميع بتركه ولو لم يكن واجبا عليهم كلهم لما أثموا بالترك.
وأجاب الأولون عن هذا بأن إثمهم بالترك لتفويتهم ما قصد حصوله من جهتهم في الجملة لا للوجوب عليهم، واعترض عليه من طرف الجمهور بأن هذا هو الحقيق بالاستبعاد أعني إثم طائفة بترك أخرى فعلا كلفت به.
والجواب عنه بأنه ليس الإسقاط من غيرهم بفعلهم أولى من تأثيم غيرهم بتركهم يقال فيه: بل هو أولى لأنه قد ثبت نظيره شرعا من إسقاط ما على زيد بأداء عمرو ولم يثبت تأثيم إنسان بترك آخر فيتم ما قاله الجمهور.
واعترض القول بأن هذا هو الحقيق بالاستبعاد بأنه إنما يتأتى لو ارتبط التكليف في الظاهر بتلك الطائفة الأخرى بعينها وحدها لكنه ليس كذلك بل كلتا الطائفتين متساويتان في احتمال الأمر لهما وتعلقه بهما من غير مزية لإحداهما على الأخرى فليس في التأثيم المذكور تأثيم طائفة بترك أخرى فعلا كلفت به إذ كون لأخرى كلفت به غير معلوم بل كلتا الطائفتين متساويتان في احتمال كل أن تكون مكلفة به فالاستبعاد المذكور ليس في محله على أنه إذا قلنا بما اختاره جماعة من أصحاب المذهب الثاني من أن البعض مبهم آل الحال إلى أن المكلف طائفة لا بعينها فيكون المكلف القدر المشترك بين الطوائف الصادق بكل طائفة فجميع الطوائف مستوية في تعلق الخطاب بها بواسطة تعلقه بالقدر المشترك المستوي فيها فلا إشكال في اسم الجميع ولا يصير النزاع بهذا بين الطائفتين لفظيا حيث إن الخطاب حينئذ عم الجميع على القولين وكذا الإثم عند الترك لما أن في أحدهما دعوى التعليق بكل واحد بعينه، وفي الآخر دعوى تعلقه بكل بطريق السراية تعلقه بالمشترك، وثمرة ذلك أن من شك أن غيره هل فعل ذلك الواجب لا يلزمه على القول بالسراية ويلزمه على القول بالابتداء ولا يسقط عنه إلا إذا ظن فعل الغير، ومن هنا يستغني عن الجواب عما اعترض به من طرف الجمهور فلا يضرنا ما قيل فيه على أنه يقال على ما قيل: ليس الدين نظير ما نحن فيه كليا لأن دين زيد واجب عليه وحده بحسب الظاهر ولا تعلق له بغيره فلذا صح أن يسقط عنه بأداء غيره ولم يصح أن يأثم غيره بترك أدائه بخلاف ما نحن فيه فإن نسبة الواجب في الظاهر إلى كلتا الطائفتين على السواء فيه فجاز أن يأثم كل طائفة

(2/238)


بترك غيرها لتعلق الوجوب بها بحسب الظاهر واستوائها مع غيرها في التعلق.
وأما قولهم: ولم يثبت تأثيم إنسان بأداء آخر فهو لا يطابق البحث إذ ليس المدعى تأثيم أحد بأداء غيره بل تأثيمه بترك فالمطابق ولم يثبت تأثيم إنسان بترك أداء آخر ويتخلص منه حينئذ بأن التعلق في الظاهر مشترك في سائر الطوائف فيتم ما ذهب إليه الإمام الرازي وأتباعه- وهو مختار ابن السبكي- خلافا لأبيه، إذا تحقق هذا فاعلم أن القائلين بأن المكلف البعض قالوا: إن من للتبعيض، وإن القائلين بأن المكلف الكل قالوا: إنها للتبيين، وأيدوا ذلك بأن الله تعالى أثبت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكل الأمة في قوله سبحانه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران: 110] ولا يقتضي ذلك كون الدعاء فرض عين فإن الجهاد من فروض الكفاية بالإجماع مع ثبوته بالخطابات العامة فتأمل وَأُولئِكَ أي الموصوفون بتلك الصفات الكاملة.
هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الكاملون في الفلاح وبهذا صح الحصر المستفاد من الفصل وتعريف الطرفين،
أخرج الإمام أحمد وأبو يعلى عن درة بنت أبي لهب قالت: «سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من خير الناس؟ قال:
آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله تعالى وأوصلهم للرحم» .
وروى الحسن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله تعالى وخليفة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وخليفة كتابه، وروي- لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله تعالى عليكم سلطانا ظالما لا يجل كبيركم ولا يرحم صغيركم ويدعو خياركم فلا يستجاب لهم وتستنصرون فلا تنصرون- والأمر بالمعروف يكون واجبا ومندوبا على حسب ما يؤمر به والنهي عن المنكر كذلك أيضا إن قلنا إن المكروه منكر شرعا، وأما إن فسر بما يستحق العقاب عليه كما أن المعروف ما يستحق الثواب عليه فلا يكون إلا واجبا، وبه قال بعضهم إلا أنه يرد أنهما ليسا على طرفي نقيض والأظهر أن العاصي يجب عليه أن ينهى عما يرتكبه لأنه يجب عليه نهي كل فاعل وترك نهي بعض وهو نفسه لا يسقط عنه وجوب نهي الباقي وكذا يقال في جانب الأمر ولا يعكر على ذلك قوله تعالى: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ [الصف: 2] لأنه مؤول بأن المراد نهيه عن عدم الفعل لا عن القول ولا قوله سبحانه: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 44] لأن التوبيخ إنما هو على نسيان أنفسهم لا على أمرهم بالبر، وعن بعض السلف مروا بالخير وإن لم تفعلوا، نعم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروط معروفة محلها والأصل فيهما افعل كذا ولا تفعل كذا، والقتال ليمتثل المأمور والمنهي أمر وراء ذلك وليس داخلا في حقيقتهما وإن وجب على بعض كالأمراء في بعض الأحيان لأن ذلك حكم آخر كما يشعر به
قوله صلّى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع»
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وهم اليهود والنصارى قاله الحسن والربيع.
وأخرج ابن ماجة عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة والذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: الجماعة»
وفي رواية أحمد عن معاوية مرفوعا أن أهل الكتاب تفرقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين كلها في النار إلا واحدة،
وفي رواية له أخرى عن أنس مرفوعا أيضا «إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون فرقة وخلصت فرقة واحدة وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة تهلك إحدى وسبعون فرقة وتخلص فرقة»
ولا تعارض بين هذه الروايات لأن الافتراق حصل

(2/239)


لمن حصل على طبق ما وقع فيها في بعض الأوقات وهو يكفي للصدق وإن زاد العدد أو نقص في وقت آخر وَاخْتَلَفُوا في التوحيد والتنزيه وأحوال المعاد، قيل: وهذا معنى تفرقوا وكرره للتأكيد، وقيل: التفرق بالعداوة والاختلاف بالديانة.
مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ أي الآيات والحجج المبينة للحق الموجبة لاتحاد الكلمة، وقال الحسن:
التوراة، وقال قتادة وأبو أمامة: القرآن وَأُولئِكَ إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما في حيز الصلة لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لا يكتنه على تفرقهم واختلافهم المذكور، وفي ذلك وعيد لهم وتهديد للمتشبهين بهم لأن التشبيه بالمغضوب عليه يستدعي الغضب، ثم إن هذا الاختلاف المذموم محمول كما قيل على الاختلاف في الأصول دون الفروع ويؤخذ هذا التخصيص من التشبيه، وقيل: إنه شامل للأصول والفروع لما نرى من اختلاف أهل السنة فيها- كالماتريدي والأشعري- فالمراد حينئذ بالنهي عن الاختلاف النهي عن الاختلاف فيما ورد فيه نص من الشارع أو أجمع عليه وليس بالبعيد.
واستدل على عدم المنع من الاختلاف في الفروع
بقوله عليه الصلاة والسلام: اختلاف أمتي رحمة.
وبقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: مهما أوتيتم من كتاب الله تعالى فالعمل به لا عذر لأحد في تركه فإن لم يكن في كتاب الله تعالى فسنة مني ماضية فإن لم يكن سنة مني فما قال أصحابي إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيما أخذتم به اهتديتم واختلاف أصحابي لكم رحمة،
وأراد بهم صلى الله تعالى عليه وسلم خواصهم البالغين رتبة الاجتهاد والمقصود بالخطاب من دونهم فلا إشكال فيه خلافا لمن وهم، والروايات عن السلف في هذا المعنى كثيرة.
فقد أخرج البيهقي في المدخل عن القاسم بن محمد قال: اختلاف أصحاب محمد رحمة لعباد الله تعالى، وأخرجه ابن سعد في طبقاته بلفظ كان اختلاف أصحاب محمد رحمة للناس، وفي المدخل عن عمر بن عبد العزيز قال: ما سرني لو أن أصحاب محمد لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة، واعترض الإمام السبكي بأن اختلاف أمتي رحمة ليس معروفا عند المحدثين ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع ولا أظن له أصلا إلا أن يكون من كلام الناس بأن يكون أحد قال اختلاف الأمة رحمة فأخذه بعضهم فظنه حديثا فجعله من كلام النبوة وما زلت أعتقد أن هذا الحديث لا أصل له. واستدل على بطلانه بالآيات والأحاديث الصحيحة الناطقة بأن الرحمة تقتضي عدم الاختلاف والآيات أكثر من أن تحصى، ومن الأحاديث
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إنما هلكت بنو إسرائيل بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم»
وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم»
وهو وإن كان واردا في تسوية الصفوف إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ثم قال: والذي نقطع به أن الاتفاق خير من الاختلاف وأن الاختلاف على ثلاثة أقسام: أحدها في الأصول ولا شك أنه ضلال وسبب كل فساد وهو المشار إليه في القرآن، والثاني في الآراء والحروب ويشير إليه
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن: «تطاوعا ولا تختلفا»
ولا شك أيضا أنه حرام لما فيه من تضييع المصالح الدينية والدنيوية، والثالث في الفروع كالاختلاف في الحلال والحرام ونحوهما والذي نقطع به أن الاتفاق خير منه أيضا لكن هل هو ضلال كالقسمين الأولين أم لا؟ فيه خلاف، فكلام ابن حزم ومن سلك مسلكه ممن يمنع التقليد يقتضي الأول، وأما نحن فإنا نجوز التقليد للجاهل والأخذ عند الحاجة بالرخصة من أقوال بعض العلماء من غير تتبع الرخص وهو يقتضي الثاني، ومن هذا الوجه قد يصح أن يقال: الاختلاف رحمة فإن الرخص منها بلا شبهة وهذا لا ينافي قطعا القطع بأن الاتفاق خير من الاختلاف فلا تنافي بين الكلامين لأن جهة الخيرية تختلف وجهة الرحمة تختلف، فالخيرية في العلم

(2/240)


بالدين الحق الذي كلف الله تعالى به عباده وهو الصواب عنده والرحمة في الرخصة له وإباحة الإقدام بالتقليد على ذلك، ورحمة نكرة في سياق الإثبات لا تقتضي العموم فيكتفي في صحته أن يحصل في الاختلاف رحمة ما في وقت ما في حالة ما على وجه ما فإن كان ذلك حديثا فيخرج على هذا وكذا إن لم يكنه، وعلى كل تقدير لا نقول إن الاختلاف مأمور به، والقول بأن الاتفاق مأمور به يلتفت إلى أن المصيب واحد أم لا؟ فإن قلنا: إن المصيب واحد وهو الصحيح فالحق في نفس الأمر واحد والناس كلهم مأمورون بطلبه واتفاقهم عليه مطلوب والاختلاف حينئذ منهي عنه وإن عذر المخطئ وأثيب على اجتهاده وصرف وسعه لطلب الحق.
فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث عمرو بن العاص «إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر»
وكذلك إذا قلنا بالشبه كما هو قول بعض الأصوليين، وأما إذا قلنا: كل مجتهد مصيب فكل أحد مأمور بالاجتهاد وباتباع ما غلب على ظنه فلا يلزم أن يكونوا كلهم مأمورين بالاتفاق ولا أن لا يكون اختلافهم منهيا عنه، وإطلاق الرحمة على هذا التقدير في الاختلاف أقوى من إطلاقها على قولنا: المصيب واحد، هذا كله إذا حملنا الاختلاف في الخبر على الاختلاف في الفروع، وأما إذا قلنا المراد الاختلاف في الصنائع والحرف فلا شك أن ذلك من نعم الله تعالى التي يطلب من العبد شكرها كما قال الحليمي في شعب الإيمان، لكن كان المناسب على هذا أن يقال اختلاف الناس رحمة إذ لا خصوصية للأمة بذلك فإن كل الأمم مختلفون في الصنائع والحرف لا هذه الأمة فقط فلا بد لتخصيص الأمة من وجه، ووجهه إمام الحرمين بأن المراتب والمناصب التي أعطيتها أمته صلى الله تعالى عليه وسلم لم تعطها أمة من الأمم فهي من رحمة الله تعالى لهم وفضله عليهم لكنه لا يسبق من لفظ الاختلاف إلى ذلك ولا إلى الصنائع والحرف، فالحرفة الإبقاء على الظاهر المبادر وتأويل الخبر بما تقدم.
هذه خلاصة كلامه ولا يخفى أنه مما لا بأس به، نعم كون الحديث ليس معروفا عند المحدثين أصلا لا يخلو عن شيء، فقد عزاه الزركشي في الأحاديث المشتهرة إلى كتاب الحجة لنصر المقدسي ولم يذكر سنده ولا صحته لكن ورد ما يقويه في الجملة مما نقل من كلام السلف، والحديث الذي أوردناه قبل وإن رواه الطبري والبيهقي في المدخل بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على أنه يكفي في هذا الباب الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما، فالحق الذي لا محيد عنه أن المراد اختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن شاركهم في الاجتهاد كالمجتهدين المعتد بهم من علماء الدين الذين ليسوا بمبتدعين وكون ذلك رحمة لضعفاء الأمة، ومن ليس في درجتهم مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان ولا يتنازع فيه اثنان فليفهم يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ نصب بما في لهم من معنى الاستقرار أو منصوب باذكر مقدرا، وقيل: العامل فيه عذاب وضعف بأن المصدر الموصوف لا يعمل، وقيل: عظيم، وأورد عليه أنه يلزم تقييد عظمته بهذا ولا معنى له، ورد بأنه إذا عظم فيه وفيه كل عظيم ففي غيره أولى إلا أن يقال: إن التقييد ليس بمراد، والمراد بالبياض معناه الحقيقي أو لازمه من السرور والفرح وكذا يقال في السواد، والجمهور على الأول قالوا: يوسم أهل الحق ببياض الوجه وإشراق البشرة تشريفا لهم وإظهارا لآثار أعمالهم في ذلك الجمع، ويوسم أهل الباطل بضد ذلك، والظاهر أن الابيضاض والاسوداد يكون لجميع الجسد إلا أنهما أسندا للوجوه لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه وهو أشرف أعضائه.
واختلف في وقت ذلك فقيل: وقت البعث من القبور، وقيل: وقت قراءة الصحف، وقيل: وقت رجحان الحسنات والسيئات في الميزان، وقيل: عند قوله تعالى شأنه: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: 59] ، وقيل:

(2/241)


وقت أن يؤمر كل فريق بأن يتبع معبوده، ولا يبعد أن يقال: إن في كل موقف من هذه المواقف يحصل شيء من ذلك إلى أن يصل إلى حدّ الله تعالى أعلم به إذ البياض والسواد من المشكك دون المتواطئ كما لا يخفى، وقرأ: «تبيضّ وتسودّ» بكسر حرف المضارعة وهي لغة و «تبياضّ وتسوادّ» .
فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ تفصيل لأحوال الفريقين وابتدأ بحال الذين اسودت وجوههم لمجاورته وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ وليكون الابتداء والاختتام بما يسر الطبع ويشرح الصدر أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ على إرادة القول المقرون بالفاء أي فيقال لهم ذلك، وحذف القول واستتباع الفاء له في الحذف أكثر من أن يحصى، وإنما الممنوع حذفها وحدها في جواب أما، والاستفهام للتوبيخ والتعجيب من حالهم، والكلام حكاية لما يقال لهم فلا التفات فيه خلافا للسمين، والظاهر من السياق والسباق أن هؤلاء أهل الكتاب وكفرهم بعد إيمانهم كفرهم برسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد الإيمان به قبل مبعثه- وإليه ذهب عكرمة- واختاره الزجاج والجبائي.
وقيل: هم جميع الكفار لإعراضهم عما وجب عليهم من الإقرار بالتوحيد حين أشهدهم على أنفسهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: 172] وروي ذلك عن أبيّ بن كعب، ويحتمل أن يراد بالإيمان الإيمان بالقوة والفطرة وكفر جميع الكفار كان بعد هذا الإيمان لتمكنهم بالنظر الصحيح والدلائل الواضحة والآيات البينة من الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وعن الحسن أنهم المنافقون أعطوا كلمة الإيمان بألسنتهم وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم فالإيمان على هذا مجازي، وقيل:
إنهم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة، وروي ذلك عن عليّ كرم الله تعالى وجهه
وأبي أمامة وابن عباس وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه.
فَذُوقُوا الْعَذابَ أي المعهود الموصوف بالعظم والأمر للإهانة لتقرر المأمور به وتحققه، وقيل: يحتمل أن يكون أمر تسخير بأن يذوق العذاب كل شعرة من أعضائهم نعوذ بالله تعالى من غضبه، والفاء للإيذان بأن الأمر بذوق العذاب مترتب على كفرهم المذكور كما يصرح به قوله سبحانه: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فالباء للسببية، وقيل:
للمقابلة من غير نظر إلى التسبب وليست بمعنى اللام ولعله سبحانه أراد بَعْدَ إِيمانِكُمْ والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرار كفرهم أو على مضيه في الدنيا.
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ أي الجنة فهو من التعبير بالحال عن المحل والظرفية حقيقية، وقد يراد بها الثواب فالظرفية حينئذ مجازية كما يقال: في نعيم دائم وعيش رغد- وفيه إشارة إلى كثرته وشموله للمذكورين شمول الظرف ولا يجوز أن يراد بالرحمة ما هو صفة له تعالى إذ لا يصح فيها الظرفية ويدل على ما ذكر مقابلتها بالعذاب ومقارنتها للخلود في قوله تعالى: هُمْ فِيها خالِدُونَ وإنما عبر عن ذلك بالرحمة إشعارا بأن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى فإنه لا ينال ما ينال إلا برحمته تعالى ولهذا
ورد في الخبر «لن يدخل أحدكم الجنة عمله فقيل له: حتى أنت يا رسول الله؟ فقال: حتى أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته»
وجملة هُمْ فِيها خالِدُونَ استئنافية وقعت جوابا عما نشأ من السياق كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فأجيب بما ترى وفيها تأكيد في المعنى لما تقدم، وقيل: خبر بعد خبر وليس بشيء، وتقديم الظرف للمحافظة على رؤوس الآي، والضمير المجرور للرحمة، ومن أبعد البعيد جعله للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلافا لمن قال به، وجعل الكلام عليه بيانا لسبب كونهم في رحمة الله تعالى وكون مقابلهم في العذاب كأنه قيل: ما بالهم في رحمة الله تعالى؟ فأجيب بأنهم كانوا خالدين في الخيرات، وقرئ «ابياضت واسوادت» تِلْكَ أي التي مرّ ذكرها وعظم قدرها آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ أي نقرؤها شيئا فشيئا، وإسناد ذلك إليه تعالى مجاز إذ التالي جبريل عليه السلام

(2/242)


بأمره سبحانه وتعالى وفي عدوله عن الحقيقة مع الالتفات إلى التكلم بنون العظمة ما لا يخفى من العناية بالتلاوة والمتلو عليه، والجملة الفعلية في موضع الحال من الآيات والعامل فيها معنى الإشارة.
وجوز أن تكون في موضع الخبر لتلك، وآياتُ بدل منه، وقرئ «يتلوها» على صيغة الغيبة.
بِالْحَقِّ أي متلبسة أو متلبسين بالصدق أو بالعدل في جميع ما دلت عليه تلك الآيات ونطقت به فالظرف في موضع الحال المؤكدة من الفاعل أو المفعول وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ بأن يحلهم من العقاب ما لا يستحقونه عدلا أو ينقصهم من الثواب عما استحقوه فضلا، والجملة مقررة لمضمون ما قبلها على أتم وجه حيث نكر ظلما ووجه النفي إلى إرادته بصيغة المضارع المفيد بمعونة المقام دوام الانتفاء وعلق الحكم بآحاد الجمع المعرف والتفت إلى الاسم الجليل والظلم وضع الشيء في غير موضعه اللائق به أو ترك الواجب وهو يستحيل عليه تعالى للأدلة القائمة على ذلك ونفي الشيء لا يقتضي إمكانه فقد ينفي المستحيل كما في قوله تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص: 30] وقيل: الظاهر أن المراد أن الله لا يريد ما هو ظلم من العباد فيما بينهم لا أن كل ما يفعل ليس ظلما منه لأن المقام مقام بيان أنه لا يضيع أجر المحسنين ولا يهمل الكافر ويجازيه بكفره، ولو كان المراد أن كل ما يفعل ليس ظلما لا يستفاد هذا، وفيه ما لا يخفى.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي له سبحانه وحده ما فيهما من المخلوقات ملكا وخلقا وتصرفا والتعبير ب ما للتغليب أو للإيذان بأن غير العقلاء بالنسبة إلى عظمته كغيرهم وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي أمورهم فيجازي كلّا بما تقتضيه الحكمة من الثواب والعقاب، وتقديم الجار للحصر أي إلى حكم الله تعالى وقضائه لا إلى غيره شركة أو استقلالا، والجملة مقررة لمضمون ما ورد في جزاء الفريقين، وقيل: معطوفة على ما قبلها مقررة لمضمونه والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة، وقرأ يحيى بن وثاب- «ترجع» - بفتح التاء وكسر الجيم في جميع القرآن كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ كلام مستأنف سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاتفاق على الحق والدعوة إلى الخير كذا قيل، وقيل: هو من تتمة الخطاب الأول في قوله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وتوالت بعد هذا خطابات المؤمنين من أوامر ونواهي واستطرد بين ذلك من يبيض وجهه ومن يسود وشيء من أحوالهم في الآخرة، ثم عاد إلى الخطاب الأول تحريضا على الانقياد والطواعية- وكان- ناقصة ولا دلالة لها في الأصل على غير الوجود في الماضي من غير دلالة على انقطاع أو دوام، وقد تستعمل للأزلية كما في صفاته تعالى نحو كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً [الأحزاب: 40، الفتح: 26] وقد تستعمل للزوم الشيء وعدم انفكاكه نحو وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف: 54] ، وذهب بعض النحاة إلى أنها تدل بحسب الوضع على الانقطاع كغيرها من الأفعال الناقصة والمصحح هو الأول وعليه لا تشعر الآية بكون المخاطبين ليسوا خير أمة الآن، وقيل: المراد كنتم في علم الله تعالى أو في اللوح المحفوظ أو فيما بين الأمم أي في علمهم كذلك، وقال الحسن: معناه أنتم خير أمة، واعترض بأنه يستدعي زيادة كان وهي لا تزاد في أول الجملة أُخْرِجَتْ أي أظهرت وحذف الفاعل للعلم به لِلنَّاسِ متعلق بما عنده، وقيل: بخير أمة، وجملة أُخْرِجَتْ صفة- لأمة- وقيل: لخير، والأول أولى، والخطاب قيل: لأصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة وإليه ذهب الضحاك، وقيل: للمهاجرين من بينهم وهو أحد خبرين عن ابن عباس، وفي آخر أنه عام لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ويؤيده ما
أخرجه الإمام أحمد بسند حسن عن أبي الحسن كرم الله تعالى وجهه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد وجعل التراب لي طهورا وجعلت أمتي خير الأمم»
وأخرج ابن

(2/243)


أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن الآية في أهل بيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم،
وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنها نزلت في ابن مسعود وعمار بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، والظاهر أن الخطاب وإن كان خاصا بمن شاهد الوحي من المؤمنين أو ببعضهم لكن حكمه يصلح أن يكون عاما للكل كما يشير إليه قول عمر رضي الله تعالى عنه فيما حكى قتادة «يا أيها الناس من سره أن يكون من تلكم الأمة فليؤد شرط الله تعالى منها» وأشار بذلك إلى قوله سبحانه تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فإنه وإن كان استئنافا مبينا لكونهم خير أمة أو صفة ثانية لأمة على ما قيل إلا أنه يفهم الشرطية والمتبادر من المعروف الطاعات ومن المنكر المعاصي التي أنكرها الشرع.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس في الآية أن المعنى تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقرّوا بما أنزل الله تعالى وتقاتلونهم عليهم ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف وتنهونهم عن المنكر والمنكر هو التكذيب وهو أنكر المنكر وكأنه رضي الله تعالى عنه حمل المطلق على الفرد الكامل وإلا فلا قرينة على هذا التخصيص وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أريد بالإيمان به سبحانه الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به لأن الإيمان إنما يعتد به ويستأهل أن يقال له إيمان إذا آمن بالله تعالى على الحقيقة وحقيقة الإيمان بالله تعالى أن يستوعب جميع ما يجب الإيمان به فلو أخل بشيء منه لم يكن من الإيمان بالله تعالى في شيء، والمقام يقتضيه لكونه تعريضا بأهل الكتاب وأنهم لا يؤمنون بجميع ما يجب الإيمان به كما يشعر بذلك التعقيب بنفي الإيمان عنهم مع العلم بأنهم مؤمنون في الجملة وأيضا المقام مقام مدح للمؤمنين بكونهم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها المعلل للخيرية فلو لم يرد الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به لم يكن مدحا فلا يصلح للتعليل والعطف يقتضيه وإنما أخر الإيمان عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع تقدمه عليهما وجودا ورتبة كما هو الظاهر لأن الإيمان مشترك بين جميع الأمم دون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهما أظهر في الدلالة على الخيرية، ويجوز أن يقال قدمهما عليه للاهتمام وكون سوق الكلام لأجلهما، وأما ذكره فكالتتميم، ويجوز أيضا أن يكون ذلك للتنبيه على أن جدوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الدين أظهر مما اشتمل عليه الإيمان بالله تعالى لأنه من وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام- ولو قيل قدما- وأخر للاهتمام وليرتبط بقوله تعالى: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ لم يبعد أي لو آمنوا إيمانا كما ينبغي لكان ذلك الإيمان خَيْراً لَهُمْ مما هم عليه من الرئاسة في الدنيا لدفع القتل والذل عنهم، والآخرة لدفع العذاب المقيم، وقيل:
لو آمن أهل الكتاب بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم لكان خيرا لهم من الإيمان بموسى وعيسى فقط عليهما السلام، وقيل: المفضل عليه ما هم فيه من الكفر فالخيرية إنما هي باعتبار زعمهم، وفيه ضرب تهكم بهم وهذه الجملة معطوفة على كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ مرتبطة بها على معنى ولو آمن أهل الكتاب كما آمنتم وأمروا بالمعروف كما أمرتم ونهوا عن المنكر كما نهيتم لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ كعبد الله بن سلام وأخيه وثعلبة بن شعبة.
وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ أي الخارجون عن طاعة الله تعالى وعبر عن الكفر بالفسق إيذانا بأنهم خرجوا عما أوجبه كتابهم، وقيل: للإشارة إلى أنهم في- الكفار- بمنزلة الكفار في العصاة لخروجهم إلى الحال الفاحشة التي هي منهم أشنع وأفظع لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً استثناء متصل لأن الأذى بمعنى الضرر اليسير كما يشهد به مواقع الاستعمال فكأنه قيل: لَنْ يَضُرُّوكُمْ ضررا ما إلا ضررا يسيرا، وقيل: إنه منقطع لأن الأذى ليس بضرر وفيه نظر والآية كما قال مقاتل: نزلت لما عمد رؤساء اليهود مثل كعب وأبي رافع وأبي ياسر وكنانة وابن صوريا إلى مؤمنيهم كعبد الله بن سلام وأصحابه، وآذوهم لإسلامهم وكان إيذاء قوليا على ما يفهمه كلام قتادة وغيره، وكان

(2/244)


ذلك الافتراء على الله تعالى كما قاله الحسن وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ أي ينهزموا من غير أن يظفروا منكم بشيء، وتولية الأدبار كناية عن الانهزام معروفة.
ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ عطف على جملة الشرط والجزاء، وثُمَّ للترتيب والتراخي الإخباري أي لا يكن لهم نصر من أحد ثم عاقبتهم العجز والخذلان إن قاتلوكم أو لم يقاتلوكم. وفيه تثبيت للمؤمنين على أتم وجه.
وقرئ- ثم لا ينصروا- والجملة حينئذ معطوفة على جزاء الشرط، وثُمَّ للتراخي في الرتبة بين الخبرين لا في الزمان لمقارنته، وجوز بعضهم كونها للتراخي في الزمان على القراءتين بناء على اعتباره بين المعطوف عليه وآخر أجزاء المعطوف، وقراءة الرفع أبلغ لخلوها عن القيد، وفي هذه الآية دلالة واضحة على نبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ولكونها من الإخبار بالغيب الذي وافقه الواقع لأن يهود بني قينقاع وبني قريظة والنضير ويهود خيبر حاربوا المسلمين ولم يثبتوا ولم ينالوا شيئا منهم ولم تخفق لهم بعد ذلك راية ولم يستقم أمر ولم ينهضوا بجناح ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أي ذلة هدر النفس والمال والأهل، وقيل: ذلة التمسك بالباطل وإعطاء الجزية قال الحسن: أذلهم الله تعالى فلا منعة لهم وجعلهم تحت أقدام المسلمين وهذا من ضرب الخيام والقباب كما قاله أبو مسلم، قيل: ففيه استعارة مكنية تخييلية وقد يشبه إحاطة الذلة واشتمالها عليهم بذلك على وجه الاستعارة التبعية، وقيل: هو من قولهم:
ضرب فلان الضريبة على عبده أي ألزمها إياه فالمعنى ألزموا الذلة وثبتت فيهم فلا خلاص لهم منها أَيْنَ ما ثُقِفُوا أي وجدوا، وقيل: أخذوا وظفر بهم، وأَيْنَ ما شرط، وما زائدة وثقفوا في موضع جزم وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أو هو بنفسه على رأي إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ استثناء مفرغ من أعم الأحوال، والمعنى على النفي أي لا يسلمون من الذلة في حال من الأحوال إلا في حال أن يكونوا معتصمين بذمة الله تعالى أو كتابه الذي أتاهم وذمة المسلمين فإنهم بذلك يسلمون من القتل والأسر وسبي الذراري واستئصال الأموال.
وقيل: أي إلا في حال أن يكونوا متلبسين بالإسلام واتباع سبيل المؤمنين فإنهم حينئذ يرتفع عنهم ذل التمسك والإعطاء وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أي رجعوا به وهو كناية عن استحقاقهم له واستيجابهم إياه من قولهم باء فلان بفلان إذا صار حقيقا أن يقتل به، فالمراد صاروا أحقاء بغضبه سبحانه والتنوين للتفخيم والوصف مؤكد لذلك وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ فهم في الغالب مساكين وقلما يوجد يهودي يظهر الغنى ذلِكَ أي المذكور من المذكورات بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ الدالة على نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ أصلا، ونسبة القتل إليهم مع أنه فعل أسلافهم على نحو ما مر غير مرة ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ إشارة إلى كفرهم وقتلهم الأنبياء عليهم السلام على ما يقتضيه القرب فلا تكرار، وقيل: معناه أن ضرب الذلة وما يليه كما هو معلل بكفرهم وقتلهم فهو معلل بعصيانهم واعتدائهم، والتعبير بصيغة الماضي والمضارع لما مر، ثم إن جملة مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وكذا جملة لَنْ يَضُرُّوكُمْ وما عطف عليها واردتان على سبيل الاستطراد ولذا لم يعطفا على الجملة الشرطية قبلهما وإنما لم يعطف الاستطراد الثاني على الأول لتباعدهما وكون كل منهما نوعا من الكلام، وقال بعض المحققين: إن هاتين الجملتين مع ما بعدهما مرتبط بقوله تعالى: وَلَوْ آمَنَ مبين له، فقوله سبحانه: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ مبين لذلك باعتبار أن المفروض إيمان الجميع، وإلا فبعضهم مؤمنون رفعا لسوء الظن بالبعض، وقوله عز شأنه: لَنْ يَضُرُّوكُمْ بيان لما هو خير لهم وهو أنهم لعدم إيمانهم مبتلون بمشقة التدبير لإضراركم وبالحزن على الخيبة وتدبير الغلبة عليكم بالمقابلة والغلبة لكم وفي طلب الرئاسة بمخالفتكم وضرب الله تعالى عليهم الذلة لتلك المخالفة وفي طلب المال بأخذ الرشوة بتحريف كتابهم وضرب الله عليهم المسكنة، ولو آمنوا لنجوا من

(2/245)


جميع ذلك انتهى ولا يخفى أن هذا على تقدير قبوله وتحمل بعده لا يأبى القول بالاستطراد لأنه أن يذكر في أثناء الكلام ما يناسبه وليس السياق له، وإنما يأبى الاعتراض ولا نقول به فتأمل.
هذا «ومن باب الإشارة» لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ الذي هو القرب من الله حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ أي بعضه، والإشارة به إلى النفس فإنها إذا أنفقت في سبيل الله زال الحجاب الأعظم وهان إنفاق كل بعدها وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فينبغي تحرّي ما يرضيه، ويحكى عن بعضهم أنه قال المنفقون على أقسام: فمنهم من ينفق على ملاحظة الجزاء والعوض. ومنهم من ينفق على مراقبة رفع البلاء والمحن. ومنهم من ينفق اكتفاء بعلمه ولله تعالى در من قال:
ويهتز للمعروف في طلب العلا ... لتذكر يوما عند سلمى شمائله
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ قيل: فائدة الإخبار بذلك تعليم أهل المحبة أن يتركوا ما حبب إليهم من الأطعمة الشهية واللذائذ الدنيوية رغبة فيما عند الله تعالى إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ وهو الكعبة التي هي من أعظم المظاهر له تعالى حتى قالوا: إنها للمحمديين كالشجرة لموسى عليه السلام مُبارَكاً بما كساه من أنوار ذاته وَهُدىً بما كساه من أنوار صفاته لِلْعالَمِينَ على حسب استعدادهم فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ المشتمل على الرضا والتسليم والانبساط واليقين والمكاشفة والمشاهدة والخلة والفتوة، أو المعرفة والتوحيد والفناء والبقاء والسكر والصحو، أو جميع ذلك وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً من غوائل نفسه لأنه مقام التمكين «وتطبيق ذلك على ما في الأنفس» أن البيت إشارة إلى القلب الحقيقي، ويحمل ما ورد أن البيت أول ما ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض وخلق قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على وجه الماء فدحيت الأرض تحته على ذلك وظهوره على الماء حينئذ تعلقه بالنطفة عند خلق سماء الروح الحيوان وأرض البدن، وخلقه قبل الأرض إشارة إلى قدمه وحدوث البدن، وتقييد ذلك بألفي عام إشارة إلى تقدمه على البدن بطورين طور النفس وطور القلب تقدما بالرتبة إذ الألف رتبة تامة، وكونه زبدة بيضاء إشارة إلى صفاء جوهره، ودحو الأرض تحته إشارة إلى تكون البدن من تأثيره وكون أشكاله وصور أعضائه تابعة لهيئاته ولا يخفى أن محل تعلق الروح بالبدن واتصال القلب الحقيقي به أولا هو القلب الصنوبري وهو أول ما يتكون من الأعضاء وأول عضو يتحرك وآخر عضو يسكن فيكون أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ الصدر صورة، أو أول متعبد وضع لهم للقلب الحقيقي الذي هو ببكة الصدر المعنوي الذي هو أشرف مقام في النفس وموضع ازدحام القوى اليه، ومعنى كونه مُبارَكاً أنه ذو بركة إلهية بسبب فيض الخير عليه، وكونه هُدىً أنه يهتدي به إلى الله تعالى- والآيات- التي فيه هي العلوم والمعارف والحكم والحقائق، ومَقامُ إِبْراهِيمَ إشارة إلى العقل الذي هو مقام قدم إبراهيم الروح يعني محل اتصال نوره من القلب ولا شك أن من دخل ذلك كانَ آمِناً من أعداء سعالى المتخيلة وعفاريت أحاديث النفس واختطاف شياطين الوهم وجن الخيالات واغتيال سباع القوى النفسانية وصفاتها وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وهم أهل معرفته عز شأنه، وأما الجاهلون به فلا قاموا ولا قعدوا، يحكى عن بعضهم أنه قال: قلت للشبلي: إني حججت فقال: كيف فعلت؟ فقلت: اغتسلت وأحرمت وصليت ركعتين ولبيت فقال لي: عقدت به الحج؟ فقلت:
نعم قال: فسخت بعقدك كل عقد عقدت منذ خلقت مما يضاد هذا العقد؟ قلت: لا قال: فما عقدت، ثم قال نزعت ثيابك؟ قلت: نعم قال: تجردت عن كل فعل فعلت؟ قلت: لا قال: ما نزعت، فقال: تطهرت؟ قال: نعم قال: أزلت عنك كل علة؟ فقلت: لا قال فما تطهرت، قال لبيت؟ قلت: نعم قال: وجدت جواب التلبية مثلا بمثل؟ قلت: لا قال:

(2/246)


ما لبيت، قال: دخلت الحرم؟ قلت: نعم قال: اعتقدت بدخولك ترك كل محرم؟ قلت: لا قال: ما دخلت، قال:
أشرفت على مكة؟ قلت: نعم قال: أشرف عليك حال من الله تعالى؟ قلت لا قال: ما أشرفت، قال: دخلت المسجد الحرام؟ قلت: نعم قال: دخلت الحضرة؟ قلت: لا قال: ما دخلت المسجد الحرام، قال: رأيت الكعبة؟ قلت: نعم قال: رأيت ما قصدت له؟ قلت: لا قال ما رأيت الكعبة، قال رملت وسعيت؟ قلت: نعم قال: هربت من الدنيا ووجدت أمنا مما هربت؟ قلت: لا قال: ما فعلت شيئا، قال: صافحت الحجر؟ قلت: نعم قال: من صافح الحجر فقد صافح الحق ومن صافح الحق ظهر عليه أثر الأمن أفظهر عليك ذلك؟ قلت: لا قال: ما صافحت قال: أصليت ركعتين بعد؟
قلت: نعم قال: أوجدت نفسك بين يدي الله تعالى؟ قلت: لا قال: ما صليت. قال: خرجت إلى الصفا. قلت: نعم قال: أكبرت؟ قلت: نعم فقال: أصفا سرك وصغرت في عينك الأكوان، قلت: لا قال: ما خرجت ولا كبرت. قال:
هرولت في سعيك؟ قلت: نعم قال: هربت منه إليه؟ قلت: لا قال: ما هرولت، قال: وقفت على المروة؟ قلت: نعم قال: رأيت نزول السكينة عليك وأنت عليها: قلت لا قال: ما وقفت على المروة، قال: خرجت إلى منى؟ قلت: نعم قال. أعطيت ما تمنيت؟ قلت: لا قال: ما خرجت، قال: دخلت مسجد الخيف؟ قلت: نعم قال: تجدد لك خوف؟
قلت: لا قال: ما دخلت. قال: مضيت إلى عرفات؟ قلت: نعم قال: عرفت الحال الذي خلقت له والحال الذي تصير إليه؟ وهل عرفت من ربك ما كنت منكرا له؟ وهل تعرف الحق إليك بشيء؟ قلت: لا قال: ما مضيت. قال: نفرت إلى المشعر الحرام؟ قلت: نعم. قال: ذكرت الله تعالى فيه ذكرا أنساك ذكر ما سواه؟ قلت لا قال: ما نفرت، قال: ذبحت؟
قلت: نعم قال: أفنيت شهواتك وإراداتك في رضاء الحق؟ قلت: لا قال ما ذبحت، قال: رميت؟ قلت: نعم قال: رميت جهلك منك بزيادة علم ظهر عليك؟ قلت: لا قال ما رميت، قال: زرت؟ قلت: نعم قال: كوشفت عن الحقائق؟ قلت:
لا قال ما زرت، قال: أحللت؟ قلت: نعم قال: عزمت على الأكل من الحلال قدر ما تحفظ به نفسك؟ قلت. لا قال:
ما أحللت، قال: ودعت قلت نعم قال: خرجت من نفسك وروحك بالكلية؟ قلت: لا قال: ما ودعت ولا حججت وعليك العود إن أحببت وإذا حججت فاجتهد أن تكون كما وصفت لك انتهى.
فهذا الذي ذكره الشبلي هو الحج الذي يستأهل أن يقال له حج، ولله تعالى عباد أهلهم لذلك وأقدرهم على السلوك في هاتيك المسالك فحجهم في الحقيقة منه إليه وله فيه فمطافهم حظائر القربة على بساط الحشمة وموقفهم عرفة العرفان على ساق الخدمة ليس لهم غرض في الجدران والأحجار وهيهات هيهات ما غرض المجنون من الديار إلا الديار، ومن كفر وأعرض عن المولى بهوى النفس فإن الله غني عن العالمين فهو سبحانه غني عنه لا يلتفت إليه قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ الدالة على توحيده وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ إذ هو أقرب من حبل الوريد قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بالإنكار على المؤمنين مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً بإيراد الشبه الباطلة وَأَنْتُمْ شُهَداءُ عالمون بأنها حق لا اعوجاج فيها وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيجازيكم به يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان الحقيقي إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ خوفا من إنكارهم ما أنتم عليه من الحقيقة والطريق الموصل إليه سبحانه يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ الراسخ فيكم كافِرِينَ لأن إنكار الحقيقة كفر كإنكار الشريعة وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي من يعتصم به منه فقد اهتدى إليه به، قال الواسطي:
ومن زعم أنه يعتصم به من غيره فقد جهل عظمة الربوبية، وحقيقة الاعتصام عند بعضهم انجذاب القلب عن الأسباب التي هي الأصنام المعنوية والتبري إلى الله تعالى من الحول والقوة، وقيل: الاعتصام للمحبين هو اللجأ بطرح السوي، ولأهل الحقائق رفع الاعتصام لمشاهدتهم أنهم في القبضة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ بصون العهود

(2/247)


وحفظ الحدود والخمود تحت جريان القضاء بنعت الرضا، وقيل: حق التقوى عدم رؤية التقوى وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي لا تموتن إلا على حال إسلام الوجود له أي ليكن موتكم هو الفناء في التوحيد وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وهو عهده الذي أخذه على العباد يوم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] وَلا تَفَرَّقُوا باختلاف الأهواء وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالهداية إلى معالم التوحيد المفيد للمحبة في القلوب إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً لاحتجابكم بالحجب النفسانية والغواشي الطبيعية فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بالتحاب في الله تعالى لتنورها بنوره فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ عليكم إِخْواناً في الدين وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ وهي مهوى الطبيعة الفاسقة وجهنم الحرمان فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها بالتواصل الحقيقي بينكم إلى سدرة مقام الروح وروح جنة الذات وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ كالعلماء العارفين أرباب الاستقامة في الدين يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ أي يرشدون الناس إلى الكمال المطلق من معرفة الحق تعالى والوصول إليه وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ المقرب إلى الله تعالى وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ المبعد عنه تعالى وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الذين لم يبق لهم حجاب وهم خلفاء الله تعالى في أرضه وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واتبعوا الأهواء والبدع وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الحجج العقلية والشرعية الموجبة للاتحاد واتفاق الكلمة وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو عذاب الحرمان من الحضرة يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ قالوا: ابيضاض الوجه عبارة عن تنور وجه القلب بنور الحق المتوجه إليه والإعراض عن الجهة السفلية النفسانية المظلمة ولا يكون ذلك إلا بالتوحيد واسوداده ظلمة وجه القلب بالإقبال على النفس الطالبة لحظوظها والإعراض عن الجهة العلوية النورانية فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ فيقال لهم أَكَفَرْتُمْ أي احتجبتم عن الحق بصفات النفس بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي تنوركم بنور الاستعداد وصفاء الفطرة وهداية العقل فَذُوقُوا الْعَذابَ وهو عذاب الاحتجاب عن الحق بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ به وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ الخاصة التي هي شهود الجمال هُمْ فِيها خالِدُونَ باقون بعد الفناء كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ من مكامن الأزل لِلنَّاسِ أي لنفعهم تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ الموصل إلى مقام التوحيد وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وهو القول بتحقق الكثرة على الحقيقة وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ كإيمانكم لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مما هم عليه مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ كإيمانكم وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن حرم الحق لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وهو الإنكار عليكم بالقول وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ ولم يكتفوا بذلك الإيذاء يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ولا ينالون منكم شيئا لقوة بواطنكم وضعفهم ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ لا ينصرهم أحد أصلا بل يبقون مخذولين لعدم ظهور أنوار الحق عليهم، والله تعالى الموفق.
لَيْسُوا سَواءً أخرج ابن إسحاق والطبراني والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس قال: لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن شعبة وأسيد بن شعبة وأسيد بن عبيد ومن أسلم من يهود معهم فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد وتبعه إلا أشرارنا ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره فأنزل الله تعالى في ذلك لَيْسُوا سَواءً إلى قوله سبحانه وتعالى: وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ والجملة على ما قاله مولانا شيخ الإسلام تمهيد لتعداد محاسن مؤمني أهل الكتاب، وضمير الجمع لأهل الكتاب جميعا لا للفاسقين خاصة وهو اسم- ليس- وسَواءً خبره، وإنما أفرد لكونه في الأصل مصدرا والوقف هنا تام على الصحيح والمراد بنفي المساواة نفي المشاركة في أصل الاتصاف بالقبائح لا نفي المساواة في الاتصاف بمراتبها مع تحقق المشاركة في أصل الاتصاف ومثله كثير في الكلام.
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ استئناف مبين لكيفية عدم التساوي ومزيل لما فيه من الإبهام، وقال أبو عبيدة:

(2/248)


إنه مع الأول كلام واحد، وجعل أُمَّةٌ اسم- ليس- والخبر سَواءً فهو على حد أكلوني البراغيث، وقيل:
أُمَّةٌ مرفوع- بسواء- وضعف كلا القولين ظاهر، ووضع أَهْلِ الْكِتابِ موضع الضمير زيادة في تشريفهم والاعتناء بهم- والقائمة- من قام اللازم بمعنى استقام أي أُمَّةٌ مستقيمة على طاعة الله تعالى ثابتة على أمره لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه، وحكي عن ابن عباس وغيره، وزعم الزجاج أن الكلام على حذف مضاف والتقدير ذو أمة قائمة أي ذو طريقة مستقيمة، وفيه أنه عدول عن الظاهر من غير دليل.
والمراد من هذه الأمة من تقدم في سبب النزول، وجعل بعضهم أَهْلِ الْكِتابِ عاما لليهود والنصارى وعد من الأمة المذكورة نحو النجاشي وأصحابه ممن أسلم من النصارى يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ صفة لأمة بعد وصفها بقائمة، وجوز أن تكون حالا من الضمير في قائِمَةٌ أو من الأمة لأنها قد وصفت، أو من الضمير في الجار الواقع خبرا عنها، والمراد يقرؤون القرآن آناءَ اللَّيْلِ أي ساعاته وواحده أني بوزن عصا، وقيل: إنى كمعا، وقيل: أني بفتح فسكون أو كسر فسكون وحكى الأخفش أنو كجرو فالهمزة منقلبة عن ياء أو واو وهو متعلق- بيتلون- أو- بقائمة- ومنع أبو البقاء تعلقه بالثاني بناء على أنه قد وصف فلا يعمل فيما بعد الصفة وَهُمْ يَسْجُدُونَ حال من ضمير يَتْلُونَ على ما هو الظاهر، والمراد وهم يصلون إذ من المعلوم أن لا قراءة في السجود وكذا الركوع بل وقع النهي عنها فيهما كما في الخبر، والمراد بصلاتهم هذه التهجد على ما ذهب إليه البعض وعلل بأنه أدخل في المدح وفيه تيسر لهم التلاوة لأنها في المكتوبة وظيفة الإمام، واعتبار حالهم عند الصلاة على الانفراد يأباه مقام المدح وهو الأنسب بالعدول عن إيرادها باسم الجنس المتبادر منه الصلوات المكتوبة وبالتعبير عن وقتها بالآناء المبهمة، وإنما لم يعبر على هذا بالتهجد دفعا لاحتمال المعنى اللغوي الذي لا مدح فيه، والذي عليه بعض السلف أنها صلاة العتمة.
واستدل عليه بما
أخرجه الإمام أحمد والنسائي وابن جرير والطبراني بسند حسن واللفظ للأخيرين عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: أخر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: أما أنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب قال: وأنزلت هذه الآية لَيْسُوا سَواءً حتى بلغ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ

وعليه تكون الجملة معطوفة على جملة يتلون، وقيل: مستأنفة ويكون المدح لهم بذلك لتميزهم واختصاصهم بتلك الصلاة الجليلة الشان التي لم يتشرف بأدائها أهل الكتاب كما نطق به الحديث بل ولا سائر الأمم،
فقد روى الطبراني بسند حسن أيضا عن المنكدر أنه قال: خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذات ليلة وأنه أخر صلاة العشاء حتى ذهب من الليل هنيهة أو ساعة والناس ينتظرون في المسجد فقال: أما إنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتموها ثم قال: أما إنها صلاة لم يصلها أحد ممن كان قبلكم من الأمم
ولعل هذا هو السر في تقديم هذا الحكم على الحكم بالإيمان، ولا يرد عليه أن التلاوة لا تتيسر لهم إلا بصلاتهم منفردين ولا تمدح في الانفراد مع أنه خلاف الواقع من حال القوم على ما يشير إليه الخبران لأنه لم تقيد التلاوة فيه بالصلاة وإنما يلزم التقييد لو كانت الجملة حالا من الضمير كما سبق وليس فليس.
والتعبير عن الصلاة بالسجود لأنه أدل على كمال الخضوع وهو سر التعبير به عنها في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: لمن طلب أن يدعو له بأن يكون رفيقه في الجنة لفرط حبه له وخوف حيلولة الفراق يوم القيامة أغني بكثرة السجود، وكذا في كثير من المواضع، وقيل: المراد بها الصلاة ما بين المغرب والعشاء الآخرة وهي المسماة بصلاة الغفلة، وقيل: المراد بالسجود سجود التلاوة، وقيل: الخضوع كما في قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرعد: 15] واختيرت الجملة الاسمية للدلالة على الاستمرار وكرر الإسناد تقوية للحكم

(2/249)