روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا
أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ
فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ
أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ
وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
(117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا
بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا
مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ
وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ
الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ
أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ
بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا
وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ
الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ
تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ
شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ
غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ
لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ
طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ
فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ
تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ
رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ
(124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ
فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ
مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ
اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ
بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ
لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ
يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا
أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ
لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ
مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي
السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
(134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ
وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا
عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ
جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ
أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ
سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
وتأكيدا له، واختيار صيغة المضارع للدلالة
على التجدد يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ صفة
أخرى لأمة، وجوز أن تكون حالا على طرز ما قبلها وإن شئت- كما
قال أبو البقاء استأنفتها، والمراد بهذا الإيمان الإيمان بجميع
ما يجب الإيمان به على الوجه المقبول، وخص الله تعالى اليوم
الآخر بالذكر إظهارا لمخالفتهم لسائر اليهود فيما عسى أن يتوهم
متوهم مشاركتهم لهم فيه لأنهم يدعون أيضا الإيمان بالله تعالى
واليوم الآخر لكن لما كان ذلك مع قولهم: عُزَيْرٌ ابْنُ
اللَّهِ [التوبة: 30] وكفرهم ببعض الكتب والرسل ووصفهم اليوم
الآخر بخلاف ما نطقت به الشريعة المصطفوية جعل هو والعدم سواء
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
إشارة إلى وفور نصيبهم من فضيلة تكميل الغير إثر الإشارة إلى
وفوره من فضيلة تكميل النفس، وفيه تعريض بالمداهنين الصادين عن
سبيل الله تعالى وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي يبادرون إلى
فعل الخيرات والطاعات خوف الفوات بالموت مثلا، أو يعملون
الأعمال الصالحة راغبين فيها غير متثاقلين لعلمهم بجلالة
موقعها وحسن عاقبتها وهذه صفة جامعة لفنون الفضائل والفواضل
وفي ذكرها تعريض بتباطؤ اليهود وتثاقلهم عن ذلك، وأصل المسارعة
المبادرة وتستعمل بمعنى الرغبة، واختيار صيغة المفاعلة
للمبالغة، قيل: ولم يعبر بالعجلة للفرق بينها وبين السرعة فإن
السرعة التقدم فيما يجوز أن يتقدم فيه وهي محمودة وضدها
الإبطاء وهو مذموم، والعجلة التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه
وهي مذمومة وضدها الأناة وهي محمودة. وإيثار فِي على- إلى-
وكثيرا ما تتعدى المسارعة بها للإيذان كما قال شيخ الإسلام:
بأنهم مستقرون في أصل الخير متقلبون في فنونه لا أنهم خارجون
منتهون إليها وصيغة جمع القلة هنا تغني عن جمع الكثرة كما لا
يخفى وَأُولئِكَ أي الموصوفون بتلك الصفات الجليلة الشأن بسبب
اتصافهم بها كما يشعر به العدول عن الضمير مِنَ الصَّالِحِينَ
أي من عداد الذين صلحت عند الله تعالى حالهم وهذا رد لقول
اليهود: ما آمن به إلا شرارنا.
وقد ذهب الجلّ إلى أن في الآية استغناء بذكر أحد الفريقين عن
الآخر على عادة العرب من الاكتفاء بذكر أحد الضدين عن الآخر،
والمراد ومنهم من ليسوا كذلك وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ أي
طاعة متعدية أو سارية فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أي لن يحرموا ثوابه
البتة، وأصل الكفر الستر ولتفسيره بما ذكرنا تعدى إلى مفعولين
والخطاب قيل: لهذه الأمة وهو مرتبط بقوله تعالى: كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ وجميع ما بينهما استطراد، وقيل: لأولئك
الموصوفين بالصفات المذكورة وفيه التفات ونكتته الخاصة هنا
الإشارة إلى أنهم لا تصافهم بهذه المزايا أهل لأن يخاطبوا،
وقرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر بالياء في الفعلين، والباقون
بالتاء فيهما غير أبي عمرو فإنه روي عنه أنه كان يخير بهما،
وعلى قراءة الغيبة يجوز أن يراد من الضمير ما أريد من نظائره
فيما قبل ويكون الكلام حينئذ على وتيرة واحدة، ويحتمل أن يعود
للأمة ويكون العدول إلى الغيبة مراعاة للأمة كما روعيت أولا في
التعبير- بأخرجت- دون أخرجتم وهذه طريقة مشهورة للعرب في مثل
ذلك.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ أي بأحوالهم فيجازيهم وهذا
تذييل مقرر لمضمون ما قبله.
والمراد بالمتقين إما عام ويدخل المخاطبون دخولا أوليا وإما
خاص بالمتقدمين وفي وضع الظاهر موضع المضمر إيذان بالعلة وأنه
لا يفوز عنده إلا أهل التقوى، وعلى هذا يكون قوله تعالى:
(2/250)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ
عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً
مؤكدا لذلك ولهذا فصل. والمراد من الموصول إما سائر الكفار
فإنهم فاخروا بالأموال والأولاد حيث قالوا: نَحْنُ أَكْثَرُ
أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ: 35]
فرد الله تعالى عليهم بما ترى عليهم، وإما بنو قريظة وبنو
النضير حيث كانت معالجتهم بالأموال والأولاد.
(2/251)
وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما، وقيل: مشركو قريش (وقيل: وقيل:) ولعل من ادعى العموم-
وهو الظاهر- قال بدخول المذكورين دخولا أوليا، والمراد من
الإغناء الدفع، ويقال: أغنى عنه إذا دفع عنه ضررا لولاه لنزل
به أي لن تدفع عنهم يوم القيامة أموالهم التي عولوا عليها في
المهمات ولا من هو أرجى من ذلك وأعظم عندهم وهم أولادهم من
عذاب الله تعالى لهم شيئا يسيرا منه، وقال بعضهم: المراد
بالاغناء الإجزاء، ويقال: ما يغنى عنك هذا أي ما يجزي عنك وما
ينفعك، ومِنَ للبدل أو الابتداء، وشَيْئاً مفعول مطلق أي لن
يجزي عنهم ذلك من عذاب الله تعالى شيئا من الإجزاء، وعلى
التفسير الأول للإغناء وجعل هذا معنى حقيقيا له دونه يقال
بالتضمين وأمر المفعولية عليه ظاهر لتعديه حينئذ وَأُولئِكَ أي
الموصوفون بالكفر بسبب كفرهم أَصْحابُ النَّارِ أي ملازموها
وهو معنى الأصحاب عرفا.
هُمْ فِيها خالِدُونَ تأكيد لما يراد من الجملة الأولى واختيار
الجملة الاسمية للإيذان بالدوام والاستمرار وتقديم الظرف
محافظة على رؤوس الآي ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ
الدُّنْيا
كالدليل لعدم إغناء الأموال، ولعل عدم بيان إغناء الأولاد ظاهر
لأنهم إن كانوا كفارا- وهو الظاهر- كان حكمهم حكمهم وإن كانوا
مسلمين كانوا عليهم لا لهم في الدنيا، وبغضهم لهم في الآخرة
يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطارق: 9] يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ
[القلم: 42] وتبريهم منهم حين يفر المرء من أمه وأبيه أظهر من
أن يخفى، وا
موصولة والعائد محذوف أي ينفقونه والإشارة للتحقير، والمراد
تمثيل جميع صدقات الكفار ونفقاتهم كيف كانت- وهو المروي عن
مجاهد- وقيل: مثل لما ينفقه الكفار مطلقا في عداوة الرسول صلى
الله تعالى عليه وسلم، وقيل: لما أنفقته قريش يوم بدر وأحد لما
تظاهروا عليه الصلاة والسلام، وقيل: لما أنفقه سفلة اليهود على
علمائهم المحرفين أي حال ذلك وقصته العجيبةمَثَلِ رِيحٍ فِيها
صِرٌّ
أي برد شديد قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وجماعة، وقال
الزجاج- الصر- صوت لهيب النار وقد كانت في تلك الريح، وقيل:
أصل الصر كالصرصر الريح الباردة، وعليه يكون معنى النظم ريح
فيها ريح باردة وهو كما ترى محتاج إلى التوجيه، وقد ذكر فيه
أنه وارد على التجريد كقوله:
ولولا ذاك قد سوّمت مهري ... وفي الرحمن للضعفاء كاف
أي هو كاف ومنع بعضهم كونه في الأصل الريح الباردة وإنما هو
مصدر بمعنى البرد كما قال الحبر واستعماله فيما ذكر مجاز وليس
بمراد، وقيل: إنه صفة بمعنى بارد إلا أن موصوفه محذوف أي برد
بارد فهو من الإسناد المجازي كظل ظليل- وفيه بعد- لأن المعروف
في مثله ذكر الموصوف وأما حذفه وتقديره فلم يعهد، وقيل: هو في
الأصل صوت الريح الباردة من صر القلم والباب صريرا إذا صوت، أو
من الصرة الضجة والصيحة وقد استعمل هنا على أصله، وفيه أن هذا
المعنى مما لم يعهد في الاستعمال، والريح واحدة الرياح، وفي
الصحاح والأرياح، وقد تجمع على أرواح لأن أصلها الواو، وإنما
جاءت بالياء لانكسار ما قبلها فإذا رجعوا إلى الفتح عادت إلى
الواو كقولك: أروح الماء وتروحت بالمروحة، ويقال أيضا: ريح
وريحة كما قالوا: دار ودارة، وسيأتي إن شاء الله تعالى للعلماء
من الكلام في هذا المقام، وأفرد الريح لما في البحر أنها مختصة
بالعذاب والجمع مختص بالرحمة ولذلك روى اللهم- اجعلها رياحا
ولا تجعلها ريحاصابَتْ حَرْثَ
أي زرع.
ْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
بالكفر والمعاصي فباؤوا بغضب من الله تعالى وإنما وصفوا بذلك
لما قيل: إن الإهلاك عن سخط أشد وأفظع أو لأن المراد الإشارة
إلى عدم الفائدة في الدنيا والآخرة وهو إنما يكون في هلاك مال
الكافر وأما
(2/252)
غيره فقد يثاب على ما هلك له لصبره، وقيل:
المراد ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير موضع الزراعة وفي غير
وقتهاأَهْلَكَتْهُ
عن آخره ولم تدع له عينا ولا أثرا عقوبة لهم على معاصيهم،
وقيل: تأديبا من الله تعالى لهم في وضع الشيء في غير موضعه
الذي هو حقه وهذا من التشبيه المركب الذي توجد فيه الزبدة من
الخلاصة والمجموع ولا يلزم فيه أن يكون ما يلي الأداة هو
المشبه به كقوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا
كَماءٍ أَنْزَلْناهُ [يونس: 24] وإلا لوجب أن يقال: كمثل حرث
لأنه المشبه به المنفق، وجوز أن يراد مثل إهلاك ما ينفقون كمثل
إهلاك ريح، أو مثل ما ينفقون كمهلك ريح والمهلك اسم مفعول هو
الحرث، والوجه عند كونه مركبا قلة الجدوى والضياع، ويجوز أن
يكون من التشبيه المفرق فيشبه إهلاك الله تعالى بإهلاك الريح،
والمنفق بالحرث وجعل الله تعالى أعمالهم هباء منثورا بما في
الريح الباردة من جعله حطاما، وقرئ- تنفقون- بالتاء ما
ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
الضمير إما للمنفقين أي ما ظلمهم بضياع نفقاتهم التي أنفقوها
على غير الوجه اللائق المعتد به، وإما للقوم المذكورين أي ما
ظلم الله تعالى أصحاب الحرث بإهلاكه لأنهم استحقوا ذلك وحينئذ
يكون هذا النفي مع قوله تعالى: لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
تأكيدا لما فهم من قبل إشعارا وتصريحا، وقرئ «ولكنّ» بالتشديد
على أن أنفسهم اسمها، وجملةظْلِمُونَ
خبرها والعائد محذوف، والتقدير يظلمونها وليس مفعولا مقدما كما
في قراءة التخفيف، واسمها ضمير الشأن لأنه لا يحذف إلا في
الشعر كقوله:
وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ... ولكن من يبصر جفونك يعشق
وتعين حذفه فيه لمكان من الشرطية التي تدخل عليها النواسخ
وتقديم أنفسهم على الفعل للفاصلة لا للحصر وإلا لا يتطابق
الكلام لأن مقتضاه وما ظلمهم الله ولكن هم يظلمون أنفسهم لا
أنهم يظلمون أنفسهم لا غيرهم وهو في الحصر لازم، وصيغة المضارع
للدلالة على التجدد والاستمرار.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ
دُونِكُمْ أخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس قال: كان رجال من
المسلمين يواصلون رجالا من يهود لما كان بينهم من الجوار
والحلف في الجاهلية فأنزل الله تعالى فيهم ينهاهم عن مباطنتهم
تخوف الفتنة عليهم هذه الآية، وأخرج عبد بن حميد أنها نزلت في
المنافقين من أهل المدينة نهى المؤمنون أن يتولوهم، وظاهر ما
يأتي يؤيده، والبطانة خاصة الرجل الذين يستبطنون أمره مأخوذ من
بطانة الثوب للوجه الذي يلي البدن لقربه وهي نقيض الظهارة
ويسمى بها الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ومِنْ متعلقة ب لا
تَتَّخِذُوا أو بمحذوف وقع صفة لبطانة، وقيل: زائدة ودون- إما
بمعنى غير أو بمعنى الأدون والدنيء، وضمير الجمع المضاف إليه
للمؤمنين والمعنى لا تَتَّخِذُوا الكافرين كاليهود والمنافقين
أولياء وخواص من غير المؤمنين أو ممن لم تبلغ منزلته، منزلتكم
في الشرف والديانة، والحكم عام وإن كان سبب النزول خاصا فإن
اتخاذ المخالف وليا مظنة الفتنة والفساد ولهذا ورد تفسير هذه
البطانة بالخوارج.
وأخرج البيهقي، وغيره عن أنس عن النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم أنه قال: «لا تنقشوا في خواتيكم عربيا ولا تستضيئوا بنار
المشركين»
فذكر ذلك للحسن فقال: نعم لا تنقشوا في خواتيمكم محمد رسول
الله ولا تستسروا المشركين في شيء من أموركم، ثم قال الحسن:
وتصديق ذلك من كتاب الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ
خَبالًا أصل الألو التقصير يقال: ألا كغزا- يألو ألوا إذا قصر
وفتر وضعف، ومنه قول امرئ القيس:
(2/253)
وما المرء ما دامت خشاشة نفسه ... بمدرك
أطراف الخطوب ولا «آلى»
أراد ولا مقصر في الطلب وهو لازم يتعدى إلى المفعول بالحرف،
وقد يستعمل متعديا إلى مفعولين في قولهم:
لا آلوك نصحا ولا آلوك جهدا على تضمين معنى المنع أي لا أمنعك
ذلك وقد يجعل بمنع الترك فيتعدى إلى واحد، وفي القاموس ما ألوت
الشيء أي ما تركته، والخبال في الأصل الفساد الذي يلحق الإنسان
فيورثه اضطرابا كالمرض والجنون، ويستعمل بمعنى الشر والفساد
مطلقا، ومعنى الآية على الأول لا يقصرون لكم في الفساد والشر
بل يجهدون في مضرتكم، وعليه يكون الضمير المنصوب والاسم الظاهر
منصوبين بنزع الخافض وإليه ذهب ابن عطية- وجوز أن يكون الثاني
منصوبا على الحال أي مخبلين، أو على التمييز.
واعترض ذلك بأنه لا إبهام في نسبة التقصير إلى الفاعل ولا يصح
جعله فاعلا إلا على اعتبار الإسناد المجازي والنصب بنزع
الخافض، ووقوع المصدر حالا ليس بقياس إلا فيما يكون المصدر
نوعا من العامل نحو أتاني سرعة وبطأ كما نص عليه الرضي في بحث
المفعول به والحال- واعتمده الساليكوتي- ونقل أبو حيان أن
التمييز هنا محول عن المفعول نحو فَجَّرْنَا الْأَرْضَ
عُيُوناً [القمر: 12] وهو من الغرابة بمكان لأن المفروض أن
الفعل لازم فمن أين يكون له مفعول ليحول عنه؟! وملاحظة تعديه
إليه بتقدير الحرف قول بالنصب على نزع الخافض وقد سمعت ما فيه.
وأجيب بالتزام أحد الأمرين الحالية أو كونه منصوبا على النزع
مع القول بالسماع هنا والمعنى على الثاني لا يمنعونكم خبالا أي
أنهم يفعلون معكم ما يقدرون عليه من الفساد ولا يبقون عندهم
شيئا منه في حقكم وهو وجه وجيه، والتضمين قياسي على الصحيح
والخلاف فيه واه لا يلتفت إليه، والمعنى والإعراب على الثالث
ظاهران بعد الإحاطة بما تقدم وَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي أحبوا
عنتكم أي مشقتكم الشديدة وضرركم.
وقال السدي: تمنوا ضلالتكم عن دينكم، وروي مثله عن ابن جرير
قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي ظهرت أمارات
العداوة لكم من فلتات ألسنتهم وفحوى كلماتهم لأنهم لشدة بغضهم
لكم لا يملكون أنفسهم ولا يقدرون أن يحفظوا ألسنتهم، وقال
قتادة: ظهور ذلك فيما بينهم حيث أبدى كل منهم ما يدل على بغضه
للمسلمين لأخيه، وفيه بعد إذ لا يناسبه ما بعد، والأفواه جمع
فم وأصله فوه، فلامه هاء والجموع ترد الأشياء إلى أصولها ويدل
على ذلك أيضا تصغيره على فويه والنسبة إليه فوهيّ، وقرأ عبد
الله قد بدا البغضاء وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ من البغضاء
أَكْبَرُ أي أعظم مما بدا لأنه كان عن فلتة ومثله لا يكون إلا
قليلا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ أي أظهرنا لكم الآيات
الدالة على النهي عن موالاة أعداء الله تعالى ورسوله صلى الله
تعالى عليه وسلم، أو قد أظهرنا لكم الدلالات الواضحات التي
يتميز بها الولي من العدو إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي إن
كنتم من أهل العقل، أو إن كنتم تعلمون الفضل بين الولي والعدو،
أو إن كنتم تعلمون مواعظ الله تعالى ومنافعها، وجواب إن محذوف
لدلالة الكلام عليه، ثم إن هذه الجمل ما عدا وَما تُخْفِي
صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ لأنها حال لا غير جاءت مستأنفات جوابا عن
السؤال عن النهي وترك العطف بينها إيذانا باستقلال كل منها في
ذلك، وقيل: إنها في موضع النعت- لبطانة- إلا قَدْ بَيَّنَّا
لظهور أنها لا تصلح لذلك، والأول أحسن لما في الاستئناف من
الفوائد وفي الصفات من الدلالة على خلاف المقصود أو إيهامه لا
أقل وهو تقييد النهي وليس المعنى عليه، وقيل: إن وَدُّوا ما
عَنِتُّمْ بيان وتأكيد لقوله: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا فحكمه
حكمه وما عدا ذلك مستأنف للتعليل على طريق الترتيب بأن يكون
اللاحق علة للسابق إلى أن تكون الأولى علة للنهي ويتم التعليل
بالمجموع أي لا تتخذوهم بطانة لأنهم لا يألونكم خبالا لأنهم
يودّون شدة ضرركم بدليل أنهم قد تبدو البغضاء من أفواههم وإن
كانوا يخفون الكثير ولا بد على هذا من استثناء قَدْ بَيَّنَّا
إذ لا يصلح تعليلا لبدو البغضاء
(2/254)
ويصلح تعليلا للنهي فافهم ها أَنْتُمْ
أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ تنبيه على أن
المخاطبين مخطئون في اتخاذهم بطانة، وفي إعراب مثل هذا التركيب
مذاهب للنحويين فقال الأزهري وابن كيسان وجماعة: إن ها للتنبيه
وأَنْتُمْ مبتدأ وجملة تُحِبُّونَهُمْ خبره، وأُولاءِ منادى أو
منصوب على الاختصاص، وضعف بأنه خلاف الظاهر والاختصاص لا يكون
باسم الإشارة، وقيل: أَنْتُمْ مبتدأ، وأُولاءِ خبره، والجملة
بعد مستأنفة، ويؤيد ذلك ما قاله الرضي من أنه ليس المراد من-
ها أنا ذا أفعل، وها أنت ذا تفعل- تعريف نفسك أو المخاطب إذ لا
فائدة فيه بل استغراب وقوع مضمون وقوع الفعل المذكور بعد من
المتكلم أو المخاطب، فالجملة بعد اسم الإشارة لازمة لبيان
الحال المستغربة ولا محل لها إذ هي مستأنفة، وقال البصريون: هي
في محل النصب على الحال أي ها أنت ذا قائلا، والحال هاهنا
لازمة لأن الفائدة معقودة بها وبها تتم، والعامل فيها حرف
التنبيه أو اسم الإشارة.
واعترضه الرضي بأنه لا معنى للحال إذ ليس المعنى أنت المشار
إليه في حال فعلك ولا يخفى أن ما قاله البصريون هو الظاهر من
كلام العرب لأنهم قالوا: ها أنت ذا قائما فصرحوا بالحالية وإن
كان المعنى على الاخبار بالحال لأنه المقصود بالاستبعاد،
ومدلول الضمير واسم الإشارة متحد واعتبار معنى الإشارة لمجرد
تصحيح العمل لا أن المعنى عليه- وبه يندفع بحث الرضي- على أنه
قد أجيب عنه بغير ذلك، وقال الزجاج: يجوز أن يكون أُولاءِ
بمعنى الذين خبرا عن المبتدأ، وتُحِبُّونَهُمْ في موضع الصلة
وليس بشيء، وقيل: أَنْتُمْ مبتدأ أول وأُولاءِ مبتدأ ثان،
وتحبونهم خبر المبتدأ الثاني، والجملة خبر المبتدأ الأول على
حد أنت زيد تحبه، وقيل: إن أُولاءِ هو الخبر، والجملة ما بعده
خبر ثان، وقيل: أُولاءِ في محل نصب بفعل يفسره ما بعده،
والجملة خبر المبتدأ والإشارة للتحقير فاستعملت هنا للتوبيخ
كأنه ازدرى بهم لظهور خطئهم في ذلك الاتخاذ.
والمراد بمحبة المؤمنين لهم المحبة العادية الناشئة من نحو
الإحسان والصداقة، ومثلها- وإن كان غريب يلام عليه إذا وقع من
المؤمنين في حق أعداء الدين الذين يتربصون بهم ريب المنون لكن
لا يصل إلى الكفر وإنما لم يصل إليه باعتبار آخر لا يكاد يقع
من أولئك المخاطبين، وقيل. المراد تُحِبُّونَهُمْ لأنكم تريدون
الإسلام لهم وتدعونهم إلى الجنة ولا يحبونكم لأنهم يريدون لكم
الكفر والضلال وفي ذلك الهلاك، ولا يخفى ما فيه.
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ أي الجنس كله وجعل ذلك من
قبيل أنت الرجل أي الكامل في الرجولية ويكون الكتاب حينئذ
إشارة إلى القرآن تعسف، والجملة حال من ضمير المفعول في لا
يُحِبُّونَكُمْ واعترضه في البحر بأن المضارع المثبت إذا وقع
حالا لا تدخل عليه واو الحال ولهذا تأولوا- قمت وأصك عينيه-
على حذف المبتدأ أي قمت وأنا أصك عينيه، ومثل هذا التأويل وإن
جاء هنا أي ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله إلا أن العطف
على تحبونهم أولى لسلامته من الحذف، وفيه أن الكلام في معرض
التخطئة ولا كذلك الإيمان بالكتاب كله فإنه محض الصواب،
والحمل- على أنكم تؤمنون بالكتاب كله وهم لا يؤم ژنون بشيء منه
لأن إيمانهم كلا إيمان فلا يجامع المحبة- سديد كما قال العلامة
الثاني في تقرير الحالية دون العطف، وبهذا يندفع ما في البحر
من الاعتذار والمعنى يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم فما
بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا
آمَنَّا نفاقا وَإِذا خَلَوْا أي خلا بعضهم ببعض عَضُّوا
عَلَيْكُمُ أي لأجلكم الْأَنامِلَ أي أطراف الأصابع مِنَ
الْغَيْظِ أي لأجل الغضب والحنق لما يرون من ائتلاف المؤمنين
واجتماع كلمتهم ونصرة الله تعالى إياهم بحيث عجز أعداؤهم عن أن
يجدوا سبيلا إلى التشفي واضطروا إلى مداراتهم وعض الأنامل عادة
النادم الأسيف العاجز، ولهذا أشير به إلى حال هؤلاء وليس
المراد أن هناك عضا بالفعل قُلْ يا محمد بلسانك، وقيل: المراد
حدث نفسك بإذلالهم وإعزاز
(2/255)
الإسلام من غير أن يكون هناك قول، وقيل: هو
خطاب لكل مؤمن وتحريض لهم على عداوتهم وحث لهم على خطابهم خطاب
الخصماء فإنه لا أقطع للمحبة من جراحة اللسان فالمقصود على هذا
من قوله تعالى: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ مجرد الخطاب بما يكرهونه،
والصحيح الذي اتفقت عليه كلمتهم أنه دعاء عليهم وكون ذلك مما
فيه خفاء إذ لا يخاطب المدعو عليه بل الله تعالى ويسأل منه
ابتلاؤه لا خفاء في خفائه وأنه غفلة عن قولهم: قاتلك الله
تعالى، وقولهم: دم بعز، وبت قرير عين، وغيره مما لا يحصى،
والمراد كما قيل: الدعاء بدوام الغيظ وزيادته بتضاعف قوة
الإسلام وأهله حتى يهلكوا به، وهذا عند العلامة الثاني من
كناية الكناية حيث عبر بدعاء موتهم بالغيظ عن ملزومه الذي هو
دعاء ازدياد غيظهم إلى حين الهلاك وبه عن ملزومه الذي هو قوة
الإسلام وعز اسمه وذلك لأن مجرد الموت بالغيظ أو ازدياده ليس
مما يحسن أن يطلب ويدعى به.
وتعقب بأن المجاز على المجاز مذكور وأما الكناية على الكناية
فنادرة وقد صرح بها السبكي في قواعده الأصولية ونقل فيها
خلافا، ومع هذا الفرق بين الكناية بالوسائط والكناية على
الكناية مما يحتاج إلى التأمل الصادق ولعله فرق اعتباري، وأيضا
ما ذكره من أن مجرد الموت بالغيظ إلخ مدفوع بأنه يمكن أن يكون
المحسن لذلك ما فيه من الإشارة إلى ذمهم حيث إنهم قد استحقوا
هذا الموت الفظيع والحال الشنيع.
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما خفي فيها،
وهذا يحتمل أن يكون من تتمة المقول أي قل لهم إن الله تعالى
عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل إذا خلوتم فيجازى
به وأن يكون خارجا عنه أي قل لهم ما تقدم ولا تتعجب من اطلاعي
إياك على أسرارهم فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم، والنهي عن
التعجب حينئذ إما خارج مخرج العادة مجازا بناء على أن المخاطب
عالم بمضمون هذه الجملة، وإما باق على حقيقته إن كان المخاطب
غير ذلك ممن يقف على هذا الخطاب فلا إشكال على التقديرين خلافا
لمن وهم في ذلك إِنْ تَمْسَسْكُمْ أيها المؤمنون حَسَنَةٌ نعمة
من ربكم كالألفة واجتماع الكلمة والظفر بالأعداء تَسُؤْهُمْ أي
تحزنهم وتغظهم وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ أي محنة كإصابة
العدو منكم واختلاف الكلمة فيما بينكم يَفْرَحُوا أي يبتهجوا
بِها وفي ذلك إشارة إلى تناهي عداوتهم إلى حد الحسد والشماتة،
والمس قيل: مستعار للإصابة فهما هنا بمعنى، وقد سوى بينهما في
غير هذا الموضع كقوله تعالى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ
تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ [التوبة: 50] وقوله
سبحانه: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ
الْخَيْرُ مَنُوعاً [المعارج: 20] والتعبير هنا بالمسّ مع
الحسنة وبالإصابة مع السيئة لمجرد التفنن في التعبير، وقال بعض
المحققين: الأحسن والأنسب بالمقام ما قيل: إنه للدلالة على
إفراطهم في السرور والحزن لأن المسّ أقل من الإصابة كما هو
الظاهر فإذا ساءهم أقلّ خير نالهم فغيره أولى منه، وإذا فرحوا
بأعظم المصائب مما يرثي له الشامت ويرق الحاسد فغيره أولى فهم
لا ترجى موالاتهم أصلا فكيف تتخذونهم بطانة؟! والقول بأنه لا
يبعد أن يقال: إن ذلك إشارة إلى أن ما يصيبهم من الخير بالنسبة
إلى لطف الله تعالى معهم خير قليل وما يصيبهم من السيئة
بالنسبة لما يقابل به من الأجر الجزيل عظيم بعيد كما لا يخفى
وَإِنْ تَصْبِرُوا على أذاهم أو على طاعة الله تعالى ومضض
الجهاد في سبيله وَتَتَّقُوا ما حرم عليكم لا يَضُرُّكُمْ
كَيْدُهُمْ أي مكرهم وأصل الكيد المشقة، وقرأ ابن كثير ونافع
وأبو عمرو ويعقوب لا يَضُرُّكُمْ بكسر الضاد وجزم الراء على
أنه جواب الشرط من ضاره يضيره بمعنى ضره يضره، وضم الراء في
القراءة المشهورة لاتباع ضمة الضاد كما في الأمر المضاعف
المضموم العين كمد، والجزم مقدر، وجوزوا في مثله الفتح للخفة
والكسر لأجل تحريك الساكن، وقيل: إنه مرفوع بتقدير الفاء وهو
تكلف مستغنى عنه شَيْئاً نصب على المصدر أي لا يَضُرُّكُمْ
كَيْدُهُمْ شَيْئاً من الضرر لا كثيرا ولا قليلا ببركة الصبر
والتقوى
(2/256)
لكونهما من محاسن الطاعات ومكارم الأخلاق
ومن تحلى بذلك كان في كنف الله تعالى وحمايته من أن يضره كيد
عدو، وقيل: لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ لأنه أحاط بكم فلكم
الأجر الجزيل، إن بطل فهو النعمة الدنيا فأنتم لا تحرمون
الحسنى على كلتا الحالتين وفيه بعد إِنَّ اللَّهَ بِما
يَعْمَلُونَ من الكيد.
وقرأ الحسن وأبو حاتم- تعملون- بالتاء الفوقانية وهو خطاب
للمؤمنين أي ما تعملون من الصبر والتقوى مُحِيطٌ علما أو
بالمعنى اللائق بجلاله فيعاقبهم به أو فيثيبكم عليه وَإِذْ
غَدَوْتَ أي واذكر إذ خرجت عدوة مِنْ عند أَهْلِكَ والخطاب
للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة والكلام مستأنف سيق
للاستشهاد بما فيه من استتباع عدم الصبر والتقوى للضرر على أن
وجودهما مستتبع لما وعد من النجاة عن مضرة كيد الأعداء وكان
الخروج من حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها تُبَوِّئُ
الْمُؤْمِنِينَ أي توطنهم قاله ابن جبير وقيل: تنزلهم، وقيل:
تسوي وتهييء لهم، ويؤيده قراءة- «للمؤمنين» - إذ ليس محل
التقوية والزيادة غير فصيحة مَقاعِدَ لِلْقِتالِ أي مواطن
ومواقف ومقامات له، وأصل المقعد والمقام محل القعود والقيام ثم
وسع فيه فأطلق بطريق المجاز على المكان مطلقا وإن لم يكن فيه
قيام وقعود، وقد يطلق على من به كقولهم المجلس السامي والمقام
الكريم- وجملة تُبَوِّئُ حال من فاعل غَدَوْتَ ولكون المقصود
تذكير الزمان الممتد المتسع لابتداء الخروج والتبوئة وما يترتب
عليها إذ هو المذكر للقصة لم يحتج إلى القول بأنها حال مقدرة
أي ناويا وقاصدا للتبوئة، ومَقاعِدَ مفعول ثان- لتبوئ- والجار
والمجرور متعلق بالفعل قبله أو بمحذوف وقع صفة لمقاعد، ولا
يجوز- كما قال أبو البقاء- أن يتعلق به لأن المراد به المكان
وهو لا يعمل.
روى ابن إسحاق وجماعة عن ابن شهاب ومحمد بن يحيى والحصين بن
عبد الرحمن وغيرهم وكل قد حدث بعض الحديث «أنه لما أصيب يوم
بدر من كفار قريش أصحاب القليب ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو
سفيان ابن حرب بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي
جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيبت آباؤهم وأبناؤهم
وإخوانهم يوم بدر فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير
من قريش تجارة فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل
أخياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك به ثأرنا بمن
أصاب منا ففعلوا فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلّى الله عليه
وسلم وخرجت بجدها وجديدها وأحابيشها ومن تابعها من بني كنانة
وأهل تهامة وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة وأن لا يفروا
وخرج أبو سفيان وهو قائد الناس بهند بنت عتبة وخرج آخرون بنساء
أيضا فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة من قناة على
شفير الوادي مقابل المدينة فلما سمع بهم رسول الله صلّى الله
عليه وسلم والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا قال رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم: إني رأيت بقرا تنحر ورأيت في ذباب سيفي
ثلما ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة (1)
فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وندعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا
أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها وكان رأي
عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم يرى رأيه في ذلك أن لا يخرج إليهم وكان صلى الله
تعالى عليه وسلم يكره الخروج فقال رجال من المسلمين ممن أكرمه
الله تعالى بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن كان فاته يوم بدر:
اخرج بنا يا رسول الله إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم
وضعفنا فقال عبد الله بن أبيّ ابن سلول: يا رسول الله أقم
بالمدينة لا تخرج إليهم فو الله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط
إلا أصاب منا ولا دخل علينا إلا أصبنا منه فدعهم يا رسول الله
فإن أقاموا
__________
(1) وعبر صلّى الله عليه وسلم ذبح البقرة بذبح أناس من أصحابه
والثلم الذي بذباب سيفه بقتل رجل من أهل بيته اهـ من مؤلف رحمه
الله كتبه مصححه.
(2/257)
أقاموا بشر محبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال
من فوقهم وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا فلم يزل الناس
برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذين كان من أمرهم حب
لقاء القوم حتى دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلبس لأمة
حربه وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ثم خرج عليهم وقد ندم
الناس وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد صلى الله تعالى عليه وسلم فقال:
ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل فخرج صلّى
الله عليه وسلم بألف من أصحابه وقد وعدهم الفتح أن يصبروا،
واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس حتى إذا كان بالشوط
بين المدينة وأحد انخذل عنه عبد الله بثلث الناس، وقال: أطاعهم
وعصاني وما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس فرجع بمن
تبعه من قومه من أهل النفاق والريب واتبعهم عبد الله بن عمرو
بن حزام أخو بني سلمة يقول: يا قوم أذكركم الله تعالى أن
تخذلوا قومكم ونبيكم عند ما حضر من عدوهم قال: لو نعلم أنكم
تقاتلون لما أسلمناكم ولكنا لا نرى أنه يكون قتال فلما استعصوا
عليه وأبوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله تعالى أعداء الله
فسيغني الله تعالى عنكم نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ومضى
رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى سلك في حرة بني حارثة فذب
فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف فاستله فقال صلى الله تعالى عليه
وسلم وكان يحب الفأل ولا يعتاف لصاحب السيف: شم سيفك فإني أرى
السيوف ستسل اليوم ومضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
حتى نزل الشعب من أحد من عدوة الوادي إلى الجبل فجعل ظهره
وعسكره إلى أحد وقال: لا يقاتل أحد حتى نأمره بالقتال وتعبأ
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم للقتال ومشى على رجليه
وجعل يصف أصحابه فكأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدرا خارجا قال:
تأخر وهو في سبعمائة رجل وأمر على الرماة عبد الله بن جبير وهو
معلم يومئذ بثياب بيض وكانوا خمسين رجلا وقال: انضح الخيل عنا
بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كان علينا أو لنا فاثبت مكانك لا
يؤتين من قبلك وظاهر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بين
درعين ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير وتعبأت قريش وهم ثلاثة
آلاف فيهم مائتا فرس قد جنبوها ووقع القتال وكان ذلك يوم السبت
للنصف من شوال سنة- ثلاث من الهجرة- وكان ما كان»
وأشار الله تعالى إلى هذا اليوم بهذه الآية، والقول بأنها
إشارة إلى يوم بدر كقول مقاتل بأنها إشارة إلى يوم الأحزاب
خلاف ما عليه الجمهور وَاللَّهُ سَمِيعٌ لسائر المسموعات ويدخل
ما وقع في هذه الغزوة من الأقوال دخولا أوليا عَلِيمٌ بسائر
المعلومات ومنها ما في ضمائر القوم يومئذ، والجماعة اعتراض
للإيذان بأنه قد قدر من الأقوال والأفعال ما لا ينبغي صدوره
منهم، ومن ذلك قول أصحاب عبد الله بن جبير حين رأوا غلبة
المسلمين على كفار قريش: قد غنم ونبقى نحن بلا غنيمة وجعلوا
ينسلون رجلا فرجلا حتى أخلوا مراكزهم ولم يبق مع عبد الله سوى
اثني عشر رجلا مع إيصاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم بثبوتهم
مكانهم إِذْ هَمَّتْ قيل: بدل من إذ غدوت مبين لما هو المقصود
بالتذكير.
وجوز أن يكون ظرفا- لتبوئ- أو- لغدوت- أو- لسميع عليم- على
سبيل التنازع أو لهما معا في رأي، وليس المراد تقييد كونه
سميعا عليما بذلك الوقت طائِفَتانِ مِنْكُمْ أي فرقتان من
المسلمين وهما حيان من الأنصار بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة
من الأوس وكانا جناحي عسكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
قاله ابن عباس وجابر بن عبد الله والحسن وخلق كثير وقال
الجبائي: همت طائفة من المهاجرين، وطائفة من الأنصار أَنْ
تَفْشَلا أي تضعفا وتجبنا حين رأوا انخذال عبد الله بن أبيّ
ابن سلول مع من معه عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
والمنسبك من أَنْ والفعل متعلق- بهمت- والباء محذوفة أي همت
بالفشل وكان المراد به هنا لازمه لأن الفعل الاختياري الذي
يتعلق الهم به والظاهر أن هذا الهم لم يكن عن عزم وتصميم على
مخالفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومفارقته لأن ذلك لا
يصدر مثله عن مؤمن بل كان مجرد حديث نفس ووسوسة كما في قوله:
(2/258)
أقول لها إذا جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي
أو تستريحي
ويؤيد ذلك قوله تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما أي ناصرهما
والجملة اعتراض.
وجوز أن تكون حالا من فاعل هَمَّتْ أو من ضميره في تَفْشَلا
مفيدة لاستبعاد فشلهما أو همهما مع كونهما في ولاية الله
تعالى، وقرأ عبد الله «والله وليهم» بضمير الجمع على حد وَإِنْ
طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9]
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي عليه
سبحانه لا على غيره كما يؤذن به تقديم المعمول، وإظهار الاسم
الجليل للتبرك به والتعليل وأل في الْمُؤْمِنُونَ للجنس ويدخل
فيه الطائفتان دخولا أوليا، وفي هذا العنوان إشعار بأن الإيمان
بالله تعالى من موجبات التوكل عليه، وحذف متعلق التوكل ليفيد
العموم أي ليتوكلوا عليه عز شأنه في جميع أمورهم جليلها
وحقيرها سهلها وحزنها وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ
بيان لما يترتب على الصبر والتقوى إثر بيان ما ترتب على عدمهما
أو مساقة (1) لا يجاب التوكل على الله تعالى بتذكير ما يوجبه.
وبدر- كما قال الشعبي- بئر لرجل من جهينة يقال له بدر فسميت
به، وقال الواقدي: اسم للموضع، وقيل: للوادي وكانت- كما قال
عكرمة- متجرا في الجاهلية.
وقال قتادة: إن بدرا ماء بين مكة والمدينة التقى عليه النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم والمشركون وكان أول قتال قاتله النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم وكان ذلك في السابع عشر من شهر رمضان
يوم الجمعة سنة اثنتين من الهجرة، والباء بمعنى- في- أي نصركم
الله في بدر وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ حال من مفعول نَصَرَكُمُ
وأَذِلَّةٌ جمع قلة لذليل، واختير على ذلائل ليدل على قلتهم مع
ذلتهم، والمراد بها عدم العدة لا الذل المعروف فلا يشكل دخول
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في هذا الخطاب إن قلنا به،
وقيل: لا مانع من أن يراد المعنى المعروف ويكون المراد
وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ في أعين غيركم وإن كنتم أعزة في أنفسكم،
وقد تقدم الكلام على عددهم وعدد المشركين إذ ذاك فَاتَّقُوا
اللَّهَ باجتناب معاصيه والصبر على طاعته ولم يصرح بالأمر
بالصبر اكتفاء بما سبق وما لحق مع الاشعار- على ما قيل- بشرف
التقوى وأصالتها وكون الصبر من مبادئها اللازمة لها وفي ترتيب
الأمر بها على الاخبار بالنصر إعلام بأن نصرهم المذكور كان
بسبب تقواهم فمعنى قوله تعالى:
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لعلكم تقومون بشكر ما أنعم به عليكم
من النصر القريب بسبب تقواكم إياه، ويحتمل أن يكون كناية أو
مجازا عن نيل نعمة أخرى توجب الشكر كأنه قيل: فاتقوا الله
لعلكم تنالون نعمة من الله تعالى فتشكرونه عليها فوضع الشكر
موضع الإنعام لأنه سبب له ومستعد إياه إِذْ تَقُولُ
لِلْمُؤْمِنِينَ ظرف لنصركم، والمراد به وقت ممتد وقدم عليه
الأمر بالتقوى إظهارا لكمال العناية، وقيل: بدل ثان من إِذْ
غَدَوْتَ وعلى الأول يكون هذا القول ببدر، وعلى ذلك الحسن
وغيره.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وغيرهما عن الشعبي أن
المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد
المشركين فشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ
إلخ فبلغت كرزا الهزيمة فلم يمد المشركين وعلى الثاني يكون
القول بأحد وكان مع اشتراط الصبر والتقوى عن المخالفة ولم
يوجدا منهم فلم يمدوا، ونسب ذلك إلى عكرمة وقتادة في إحدى
الروايتين عنه.
أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ
آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ الكفاية سد الحاجة
وفوقها الغنى بناء على
__________
(1) وقوله: أو مساقة كذا بخطه رحمه الله، ولعلها منساقة أو
مسوقة، كتبه مصححه.
(2/259)
أنه الزيادة على نفي الحاجة، والإمداد في
الأصل إعطاء الشيء حالا بعد حال، ويقال مد في السير إذا استمر
عليه، وامتد بهم السير إذا طال واستمر، وعن بعضهم ما كان بطريق
التقوية والإعانة يقال فيه أمده يمده إمدادا وما كان بطريق
الزيادة يقال فيه: مده مدا، وقيل: يقال: مده في الشر وأمده في
الخير والهمزة لإنكار أن لا يكفيهم ذلك، وأتي بلن لتأكيد النفي
بناء على ما ذهب إليه البعض، وفيه إشعار بأنهم كانوا حينئذ
كالآيسين من النصر لقلة عددهم وعددهم، وفي التعبير بعنوان
الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين ما لا يخفى من اللطف
وتقوية الإنكار، وأَنْ يُمِدَّكُمْ في تأويل المصدر فاعل-
بيكفيكم ومِنَ الْمَلائِكَةِ بيان أو صفة لآلاف أو لما أضيف
إليه ومُنْزَلِينَ صفة لثلاثة آلاف، وقيل: حال من الملائكة وفي
وصفهم بذلك إشارة إلى أنهم من أشرف الملائكة وقد أنزلوا على ما
ذكره الشيخ الأكبر قدس سره من السماء الثالثة وذكر سر ذلك في
الفتوحات، وقرئ مُنْزَلِينَ بالتشديد للتكثير أو للتدريج، وقرئ
مبنيا للفاعل من الصيغتين على معنى مُنْزَلِينَ الرعب في قلوب
أعدائكم أو النصر لكم والجمهور على كسر التاء من ثلاثة، وقد
أسكنت في الشواذ ووقف عليها بإبدالها هاء أيضا على أنه أجرى
الوصل مجرى الوقف فيهما ويضعف ذلك أن المضاف والمضاف إليه
كالشيء الواحد بَلى إيجاب لما بعد لَنْ أي بلى يَكْفِيَكُمْ
ذلك ثم وعدهم الزيادة بالشرط فقال سبحانه وتعالى: إِنْ
تَصْبِرُوا على مضض الجهاد وما أمرتم به وَتَتَّقُوا ربكم
بالاجتناب عن معاصيه وعدم المخالفة له وَيَأْتُوكُمْ أي
المشركون أو أصحاب كرز كما قال الشعبي.
مِنْ فَوْرِهِمْ هذا أصل الفور مصدر من فارت القدر إذا اشتد
غليانها ومنه «أن شدة الحر من فور جهنم» ويطلق على الغضب لأنه
يشبه فور القدر وعلى أول كل شيء، ثم إنه استعير للسرعة، ثم
أطلق على الحال التي لا بطء فيها ولا تراخي، والمعنى ويأتوكم
في الحال ووصف بهذا التأكيد السرعة بزيادة التعيين والتقريب
ونظم إتيانهم بسرعة في سلك شرطي الإمداد ومداريه مع تحقق
الإمداد لا محالة أسرعوا أو أبطؤوا إيذانا بتحقق سرعة الإمداد
لا لتحقيق أصله، أو لبيان تحققه على أي حال فرض على أبلغ وجه
وآكده حيث علقه بأبعد التقادير ليعلم تحققه على سائرها بالأولى
فإن هجوم الأعداء بسرعة من مظان عدم لحوق المد دعاة فمتى علق
به تحقق الإمداد مع منافاته له أفاد تحققه لا محالة مع ما هو
غير مناف له كذا قيل، وربما يفهم منه أن الإمداد المرتب على
الشرط في قوله تعالى: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ
مِنَ الْمَلائِكَةِ وقع لهم وفي ذلك ترديد وتردد لأن هذا
الكلام إن كان في غزوة أحد فلا شبهة في عدم وقوع ذلك ولا بملك
واحد لعدم وقوع الشرط ولذا وقعت الهزيمة وإن كان في غزوة بدر
كما هو المعتمد فقد وقع الاختلاف في أنهم أمدوا بهذه الخمسة
الآلاف أولا. فذهب الشعبي إلى أنهم أمدوا بغيرها ولم يمدوا بها
بناء على تعليق الإمداد بها بمجموع الأمور الثلاثة وهي الصبر
والتقوى وإيتاء (1) أصحاب كرز وقد فقد الأمر الثالث كما نقلناه
أولا فلم يوجد المجموع لانعدامه بانعدام بعض أجزائه فلم يوجد
الإمداد المذكور كما صرح به الشعبي، نعم ذهب جمع إلى خلافه
ولعله مبنى صاحب القيل لكن يبقى أن تفسير الفور بما فسر به غير
متعين بل لم يوجد صريحا في كلام السلف، والذي ذهب إليه عكرمة
ومجاهد وأبو صالح مولى أم هانئ أنه بمعنى الغضب فحينئذ تكون من
للسببية أي يأتوكم بسبب غضبهم عليكم، والإشارة إما لتعظيم ذلك
الغضب من حيث إنه شديد ومتمكن في القلوب، وإما لتحقيره من حيث
إنه ليس على الوجه اللائق والطريق المحمود فإنه إنما كان على
مخالفة المسلمين لهم في
__________
(1) قوله: وإيتاء كذا بخطه رحمه الله ولعل المناسب، وإتيان كما
لا يخفى. كتبه مصححه.
(2/260)
الدين وتسفيه آرائهم وذم آلهتهم أو على ما
أوقعوا فيهم وحطموا رؤوس رؤسائهم يوم بدر، وإلى الثاني ذهب
عكرمة- وهو مبني على أن هذا القول وقع في أحد.
وذهب ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن جرير إلى تفسيره بالسفر أي
ويأتوكم من سفرهم هذا، قيل: وهو مبني أيضا على ما بني عليه
سابقه لأن الكفار في غزوة أحد ندموا بعد انصرافهم حيث لم
يعبروا على المدينة وهموا بالرجوع فأوحى الله تعالى إلى نبيه
صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأمر أصحابه بالتهيؤ إليهم، ثم
قال: إن صبرتم على الجهاد واتقيتم وعادوا إليكم من سفرهم هذا
أمدكم الله تعالى بخمسة آلاف من الملائكة فأخذوا في الجهاد
وخرجوا يتبعون الكفار على ما كان بهم من الجراح فأخبر المشركين
من مر برسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه خرج يتبعكم فخاف
المشركون إن رجعوا أن تكون الغلبة للمسلمين وأن يكون قد التأم
إليهم من كان تأخر عنهم وانضم إليهم غيرهم فدسوا نعيما الأشجعي
حتى يصدهم بتعظيم أمر قريش وأسرعوا بالذهاب إلى مكة وكفى الله
تعالى المسلمين أمرهم والقصة معروفة، ثم إن تفسير الفور بالسفر
مما لم نظفر به فيما بين أيدينا من الكتب اللغوية فلعل الفور
بمعنى الحال التي لا بطء فيها وهذا التفسير بيان لحاصل المعنى،
وذهب الحسن والربيع والسدي وقتادة وغيرهم أن من فَوْرِهِمْ
بمعنى وجههم وليس بنص فيما ذهب إليه متأخرو المفسرين أصحاب
القيل لأنه يحتمل أن يكون المراد من الوجه الجهة التي يقصدها
المسافر، ويحتمل أن يكون من وجه الدهر بمعنى أوله اللهم إلا أن
يقال: إنه وإن لم يكن نصا لكنه ظاهر قريب من النص لأن كون
الوجه بمعنى الجهة المذكورة وإن جاء في اللغة إلا أن كون الفور
كذلك في حيز المنع واحتمال كونه من وجه الدهر بمعنى أوله يرجع
إلى ما قالوا فتدبر.
واعلم أن هذا الإمداد وقع تدريجا فكان أولا بألف، ثم صاروا
ألفين، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف لا غير فمعنى
يمددكم بخمسة آلاف يمددكم بتمام خمسة آلاف، وإليه ذهب الحسن،
وقال غيره: كانت الملائكة ثمانية آلاف فالمعنى يمددكم بخمسة
آلاف أخر مُسَوِّمِينَ من التسويم وهو إظهار علامة الشيء،
والمراد معلمين أنفسهم أو خيلهم، وقد اختلفت الروايات في ذلك،
فعن عبد الله بن الزبير أن الزبير كانت عليه عمامة صفراء
معتجرا بها فنزلت الملائكة وعليهم عمائم صفر، وأخرج ابن إسحاق.
والطبراني عن ابن عباس أنه قال: كانت سيماء الملائكة يوم بدر
عمائم بيض قد أرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمر، وفي
رواية أخرى عنه لكن بسند ضعيف أنها كانت يوم بدر بعمائم سود
ويوم أحد بعمائم حمر.
وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال:
كانت سيماء الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض في نواصي الخيل
وأذنابها
وكانوا كما قال الربيع على خيل بلق، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي
هريرة أنهم كانوا مسومين بالعهن الأحمر، وأخرج ابن جرير وغيره
عن مجاهد أنه قال: كانوا معلمين مجزوزة أذناب خيولهم ونواصيها
فيها الصوف والعهن، وأنت تعلم أنه لا مانع من أن يكونوا معلمين
أنفسهم وخيولهم أيضا وذا على قراءة ابن كثير:
وأبي عمرو وعاصم مُسَوِّمِينَ بكسر الواو، وأما على قراءة
الباقين مُسَوِّمِينَ بفتح الواو على أنه اسم مفعول فقيل:
المراد به معلمين من جهة الله تعالى، وقيل مرسلين مطلقين، ومنه
قولهم: ناقة سائمة أي مرسلة في المرعى، وإليه ذهب السدي،
والمتبادر على هذه القراءة أن الإسامة لهم، وأما أنها كانت
لخيلهم فغير ظاهر وَما جَعَلَهُ اللَّهُ أي الإمداد المفهوم من
الفعل المقدر المدلول عليه بقوة الكلام كأنه قيل: فأمدكم الله
تعالى بما ذكر وما جعل الله تعالى ذلك الإمداد إِلَّا بُشْرى
لَكُمْ وقيل: الضمير للوعد بالإمداد، وقيل: للتسويم أو للتنزيل
أو للنصر المفهوم من نصركم السابق ومتعلق البشارة غيره، وقيل:
للإمداد المدلول عليه بأحد الفعلين، والكل ليس بشيء كما لا
يخفى، والبشرى إما
(2/261)
مفعول له، وجعل- متعدية لواحد أو مفعول لها
إن جعلت متعدية لاثنين، وعلى الأول الاستثناء مفرغ من أعم
العلل أي وما جعل إمدادكم بإنزال الملائكة لشيء من الأشياء إلا
للبشارة لكم بأنكم تنصرون، وعلى الثاني مفرغ من أعم المفاعيل
أي وما جعله الله تعالى شيئا من الأشياء إِلَّا بُشْرى لَكُمْ.
والجملة ابتداء كلام غير داخل في حيز القول بل مسوق من جنابه
تعالى لبيان أن الأسباب الظاهرة بمعزل عن التأثير بدون إذنه
سبحانه وتعالى، فإن حقيقة النصر مختص به عز اسمه ليثق به
المؤمنون ولا يقنطوا منه عند فقدان أسبابه وأماراته وهي معطوفة
على فعل مقدر كما أشرنا إليه، ووجه الخطاب نحو المؤمنين تشريفا
لهم وإيذانا بأنهم هم المحتاجون لما ذكر، وأما رسوله صلى الله
تعالى عليه وسلم فغني عنه بما منّ به عليه من التأييد الروحاني
والعلم الرباني وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ أي ولتسكن
قلوبكم بالإمداد فلا تخافوا كثرة عدد العدو وقلة عددكم وهذا
إما معطوف على بُشْرى باعتبار الموضع وهو كالمعطوف عليه علة
غائية للجعل إلا أنه نصب الأول لاجتماع شرائطه ولم ينصب الثاني
لفقدانها، وقيل: للإشارة أيضا إلى أصالته في العلية وأهميته في
نفسه كما في قوله تعالى:
لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [النحل: 8] وإما متعلق بمحذوف معطوف
على الكلام السابق أي ولتطمئن قلوبكم به، فعل ذلك وهو أولى من
تقدير بشركم كما فعل أبو البقاء، والثاني متعين على الاحتمال
الثاني في الأول.
وَمَا النَّصْرُ أي على الإطلاق فيندرج فيه النصر المعهود
دخولا أوليا إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ المودع في الأسباب
بمقتضى الحكمة قوة لا تأثر إلا به أو وَمَا النَّصْرُ المعهود
إِلَّا مِنْ عنده سبحانه وتعالى لا من الملائكة لأن قصارى
أمرهم ما ذكر من البشارة وتقوية القلوب ولم يقاتلوا أو لأن
قصارى أمرهم أنهم قاتلوا بتمكين الله تعالى لهم ولم يكن لهم
فعل استقلالا ولو شاء الله تعالى ما فعلوا على أن مجرد قتالهم
لا يستدعي النصر بل لا بد من انضمام ضعف المقابلين المقاتلين
ولو شاء الله تعالى لسلطهم عليهم فحيث أضعف وقوى ومكن وما مكن
وبه حصل النصر كان ذلك منه سبحانه وتعالى. والآية على هذا لا
تكون دليلا لمن زعم أن المسببات عند الأسباب لا بها وقد مر
تحقيقه فتذكر، وكذا لا دليل فيها على وقوع قتالهم ولا على عدمه
لاحتمالها الأمرين، وبكل قال بعض.
والمختار ما روي عن مجاهد أن الملائكة لم يقاتلوا في غزواته
صلى الله تعالى عليه وسلم إلا في غزوة بدر وإنما حضروا في
بعضها بمقتضى ما علم الله تعالى من المصلحة مثل حضورهم حلق أهل
الذكر، وربما أعانوا بغير القتال كما صنعوا في غزوة أحد على
قول، فعن ابن إسحق أن سعد بن مالك كان يرمي في غزوة أحد وفتى
شاب كان ينبل له كلما فني النبل أتاه به. وقال له: ارم أبا
إسحاق ارم أبا إسحاق، فلما انجلت المعركة سأل عن ذلك الرجل فلم
يعرف، وأنكر أبو بكر الأصم الإمداد بالملائكة، وقال: إن الملك
الواحد يكفي في إهلاك سائر أهل الأرض كما فعل جبريل عليه
السلام بمدائن قوم لوط فإذا حضر هو مأمورا بالقتال فأي حاجة
إلى مقاتلة الناس مع الكفار، وأيضا أي فائدة في إرسال سائر
الملائكة معه وهو القوي الأمين، وأيضا إن أكابر الكفار
الموجودين في غزوة القتال قاتل كل منهم من الصحابة معلوم ولم
يعلم أن أحدا من الملائكة قتل أحدا منهم، وأيضا لو قاتلوا فإما
أن يكونوا بحيث يراهم الناس أولا، وعلى الأول يكون المشاهد من
عسكر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة بدر ألوفا عديدة
ولم يقل بذلك أحد، وهو أيضا خلاف قوله تعالى: وَيُقَلِّلُكُمْ
فِي أَعْيُنِهِمْ [الأنفال: 44] ولو كانوا في غير صورة ابن آدم
لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق ولم ينقل ذلك ولو كان
لنقل البتة، وعلى الثاني يلزم حز الرؤوس وتمزيق البطون ونحو
ذلك من الكفار من غير مشاهدة فاعل لهذه الأفعال ومثل هذا يكون
من أعظم المعجزات وقد وقع بين جمعين سالم ومكسر فكان يجب أن
يتواتر ويشتهر لدى الموافق والمخالف فحيث إنه لم يشتهر دل على
أنه لم يكن،
(2/262)
وأيضا أنهم لو كانوا أجساما كثيفة وجب أن
يراهم الكل وإن كانوا أجساما لطيفة هوائية تعذر ثبوتهم على
الخيل انتهى.
ولا يخفى أن هذه الشبه لا يليق إيرادها بقوانين الشريعة ولا
بمن يعترف بأنه تعالى قادر على ما يشاء فعال لما يريد فما كان
يليق بالأصم إلا أن يكون أخرس عن ذلك إذ نص القرآن ناطق
بالإمداد، ووروده في الأخبار قريب من المتواتر فكأن الأصم أصم
عن سماعه أو أعمى عن رؤية رباعه، وقد روى عبد بن عمير قال: لما
رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ويقولون
لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر،
والتحقيق في هذا المقام كما قال بعض المحققين: إن التكليف
ينافي الإلجاء وأنه تعالى شأنه وإن كان قادرا على إهلاك جميع
الكفار في لحظة واحدة بملك واحد بل بأدنى من ذلك بل بلا سبب،
وكذا وهو قادر على أن يجبرهم على الإسلام ويقسرهم لكنه سبحانه
أراد إظهار هذا الدين على مهل وتدريج وبواسطة الدعوة وبطريق
الابتداء والتكليف فلا جرم أجرى الأمور على ما أجرى فله الحمد
على ما أولى وله الحكم في الآخرة والأولى، وبهذا يندفع كثير من
تلك الشبه، وإهلاك قوم لوط عليه الصلاة والسلام كان بعد انقضاء
تكليفهم وهو حين نزول البأس فلا جرم أظهر الله تعالى القدرة
وجعل عاليها سافلها، وفي غزوة أحد كان الزمان زمان تكليف فلا
جرم أظهر الحكمة ليتميز الموافق عن المنافق والثابت عن المضطرب
ولو أجرى الأمر فيها كما أجرى في بدر أشبه أن يفضي الأمر إلى
حد الإلجاء ونافى التكليف ونوط الثواب والعقاب، ثم لا يخفى أن
الملائكة إما أجسام لطيفة نورانية وإما أرواح شريفة قدسية.
وعلى التقديرين لهم الظهور في صور بني آدم مثلا من غير انقلاب
العين وتبدل الماهية- كما قال ذلك العارفون من المحققين في
ظهور جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي- ومثل هذا من وجه
ولله تعالى المثل الأعلى ما صح من تجلي الله تعالى لأهل الموقف
بصورة فيقول لهم: أنا ربكم فينكرونه فإن الحكم في تلك القضية
صادق مع أن الله تعالى وتقدس وراء ذلك وهو سبحانه في ذلك
التجلي باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق، ومن سلم هذا- ولا
يسلمه إلا ذو قلب سليم- لم يشكل عليه الإمداد بالملائكة
وظهورهم على خيول غيبية ثابتين عليها حسبما تقتضيه الحكمة
الإلهية والمصلحة الربانية ولا يلزم من ذلك رؤية كل ذي بصر لهم
لجواز إحداث أمر مانع عنها إما في الرائي أو في المرئي ولا
مانع من أنهم يرون أحيانا ويخفون أحيانا ويرى البعض ويخفى
البعض، وزمام ذلك بيد الحكيم العليم فما شاء كان وما لم يشأ لم
يكن والشيء متى أمكن وورد به النص عن الصادق وجب قبوله ومجرد
الاستبعاد لا يجدي نفعا ولو ساغ التأويل لذلك لزم تأويل أكثر
هذه الشريعة بل الشرائع بأسرها وربما أفضى ذلك إلى أمر عظيم،
فالواجب تسليم كل ممكن جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
وتفويض تفصيل ذلك وكيفيته إلى الله تعالى الْعَزِيزِ أي الغالب
الذي لا يغالب فيما قضى به، وقيل: القادر على انتقامه من
الكفار بأيدي المؤمنين وفي إجراء هذا الوصف هنا عليه تعالى
إيذان بعلة اختصاص النصر به سبحانه الْحَكِيمِ أي الذي يضع
الأشياء مواضعها ويفعل على ما تقتضيه الحكمة في سائر أفعاله
ومن ذلك نصره للمؤمنين بواسطة إنزال الملائكة، وفي الإتيان
بهذا الوصف رد على أمثال الأصم في إنكارهم ما نطقت به الظواهر
فسبحانه من عليم حكيم وعزيز حليم لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا متعلق بقوله تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللَّهُ بِبَدْرٍ وما بينهما تحقيق لحقيقته وبيان لكيفية
وقوعه، وإلى ذلك ذهب جمع من المحققين وهو ظاهر على تقدير أن
يجعل إِذْ تَقُولُ ظرفا- لنصركم- لا بدلا من إِذْ غَدَوْتَ
لئلا يفصل بأجنبي ولأنه كان يوم أحد.
والظاهر أن هذا في شأن بدر والمقصور على التعليل بما ذكر من
البشرى والاطمئنان إنما هو الإمداد بالملائكة على الوجه
المذكور فلا يقدح في تعليل أصل النصر بالقطع وما عطف عليه،
وجوز أن يتعلق بما تعلق به الخبر في قوله
(2/263)
سبحانه: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ على تقدير كونه عبارة عن النصر المعهود والمعلل
بالبشارة والاطمئنان إنما هو الإمداد الصوري لا ما في ضمنه من
النصر المعنوي الذي هو ملاك الأمر وعموده، وقيل: هو متعلق بنفس
الصبر، واعترض عليه بأنه مع ما فيه من الفصل بين المصدر
ومعموله بأجنبي هو الخبر مخل بسداد المعنى كيف لا ومعناه قصر
النصر المخصوص المعلل بعلة معينة على الحصول من جهته تعالى،
وليس المراد إلا قصر حقيقة النصر كما في الأول أو النصر
المعهود كما في الثاني على ذلك، والقول بأنه متعلق بمحذوف
والتقدير فعل ذلك التدبير، أو أمدكم بالملائكة ليقطع منقطع عن
القبول، والقطع الإهلاك، والمراد من- الطرف- طائفة منهم قيل:
ولم يعبر عن تلك الطائفة بالوسط بل بالطرف لأن أطراف الشيء
يتوصل بها إلى توهينه وإزالته، وقيل: لأن الطرف أقرب إلى
المؤمنين فهو كقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ
مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة: 123] وقيل: للإشارة إلى أنهم كانوا
أشرافا، ففي الأساس هو من أطراف العرب أي أشرافها، ولعل إطلاق
الأطراف على الأشراف لتقدمهم في السير، ومن ذلك قالوا:
الأطراف منازل الأشراف لا يرد أن الوسط أيضا يشعر بالشرف،
فالمعنى ليهلك صناديد الذين كفروا ورؤساءهم المتقدمين فيهم
بقتل وأسر، وقد وقع ذلك في بدر كما قال الحسن والربيع وقتادة،
فقد قتل من أولئك سبعون وأسر سبعون، واعتبار ذلك في أحد حيث
قتل فيه ثمانية عشر رجلا من رؤسائهم قول لبعضهم وقد استعبدوه
كما أشرنا إليه أَوْ يَكْبِتَهُمْ أي يخزيهم قاله قتادة
والربيع: ومنه قول ذي الرمة:
لم أنس من شجن لم أنس موقفنا ... في حيرة بين مسرور ومكبوت
وقال الجبائي والكلبي: أي يردهم منهزمين، وقال السدي: أي
يلعنهم وأصل الكبت الغيظ والغم المؤثر، وقيل:
صرع الشيء على وجهه، وقيل: إن كبته يكون بمعنى كبده أي أصاب
كبده كراه بمعنى أصاب رئته، ومنه قول المتنبي:
لأكبت حاسدا وأرى عدوا ... كأنهما وداعك الرحيل
والآية محمولة على ذلك، ويؤيد هذا القول أنه قرئ أو يكبدهم،
وأو للتنويع دون الترديد لوقوع الأمرين فَيَنْقَلِبُوا
خائِبِينَ أي فينهزموا منقطعي الآمال فالخيبة انقطاع الأمل،
وفرقوا بينها وبين اليأس بأن الخيبة لا تكون إلا بعد الأمل
واليأس يكون بعده وقبله، ونقيض الخيبة الظفر، ونقيض اليأس
الرجاء لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ
أخرج غير واحد «أن رباعية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
السفلى اليمنى أصيبت يوم أحد أصابها عتبة بن أبي وقاص وشجه في
وجهه فكان سالم مولى أبي حذيفة أو علي كرم الله تعالى وجهه
يغسل الدم والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: كيف يفلح قوم
صنعوا هذا بنبيهم» فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وأخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر رضي
الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم يوم أحد: اللهم العن أبا سفيان اللهم العن الحارث بن هشام
اللهم العن سهيل بن عمرو اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت هذه
الآية لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ إلخ فتيب عليهم كلهم،
وعن الجبائي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم استأذن يوم أحد أن
يدعو على الكفار لما آذوه حتى أنه صلّى الله عليه وسلم صلى
الظهر ذلك اليوم قاعدا من الجراح وصلى المسلمون وراءه قعودا
فلم يؤذن له ونزلت هذه الآية،
وقال محمد بن إسحاق. والشعبي لما رأى صلى الله تعالى عليه وسلم
والمسلمون ما فعل الكفار بأصحابه وبعمه حمزة من جدع الأنوف
والآذان وقطع المذاكير قالوا: لئن أدالنا الله تعالى منهم
لنفعلن بهم مثل ما فعلوا بنا ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد
من العرب قط فنزلت،
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أراد رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم أن يدعو على المنهزمين عنه من أصحابه يوم أحد
فنهاه الله تعالى عن ذلك وتاب عليهم ونزلت هذه الآية.
(2/264)
وهذا الروايات كلها متضافرة على أن الآية
نزلت في أحد والمعول عليه منها أنها بسبب المشركين.
وعن مقاتل أنها نزلت في أهل بئر معونة وذلك أن رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم أرسل أربعين وقيل:
سبعين رجلا من قراء أصحابه وأمر عليهم المنذر بن عمرو إلى بئر
معونة على رأس أربعة أشهر من أحد ليعلموا الناس القرآن والعلم
فاستصرخ عليهم عدو الله عامر بن الطفيل قبائل من سليم من عصية
ورعل وذكوان فأحاطوا بهم في رحالهم فقاتلوا حتى قتلوا من عند
آخرهم إلا كعب بن زيد أخا بني النجار فإنهم تركوه وبه رمق فلما
علم بذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجد وجدا شديدا
وقنت عليهم شهرا يلعنهم فنزلت هذه الآية فترك ذلك،
والمعنى ليس لك من أمر هؤلاء شيء وإن قل أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ عطف إما على الأمر أو على شيء
بإضمار أن أي ليس لك من أمرهم شيء أو من التوبة عليهم أو من
تعذيبهم شيء، أو ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو
تعذيبهم، وفرقوا بين الوجهين بأنه على الأول سلب ما يتبع
التوبة والتعذيب منه صلى الله تعالى عليه وسلم بالكلية من
القبول والرد والخلاص من العذاب والمنع من النجاة.
وعلى الثاني سلب نفس التوبة والتعذيب منه عليه الصلاة والسلام
يعني لا يقدر أن يجبرهم على التوبة ولا يمنعهم عنها ولا يقدر
أن يعذبهم ولا أن يعفو عنهم فإن الأمور كلها بيد الله تعالى،
وعلى التقديرين هو من عطف الخاص على العام- كما قال العلامة
الثاني- لكن في مجيء مثل هذا العطف بكلمة أَوْ نظر، وتعقبه
بعضهم بأن هذا إذا كان الأمر بمعنى الشأن- ولك أن تجعله بمعنى
التكليف والإيجاب أي ليس ما تأمرهم به من عندك وليس الأمر بيدك
ولا التوبة ولا التعذيب- فليس هناك عطف الخاص على العام، وفيه
أن الحمل على التكليف تكلف، والحمل على الشأن أرفع شأنا.
ونقل عن الفراء وابن الأنباري أن أَوْ بمعنى إلا أن، والمعنى
ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله تعالى عليهم بالإسلام
فتفرح، أو يعذبهم فتشتفي بهم وأيا ما كان فالجملة كلام مستأنف
سيق لبيان بعض الأمور المتعلقة بغزوة أحد أو ما يشبهها إثر
بيان ما يتعلق بغزوة بدر لما بينهما من التناسب من حيث إن كلا
منهما مبني على اختصاص الأمر كله بالله تعالى ومبني على سلبه
عمن سواه، وقيل: إن كل ما في هذه الآيات في غزوة أحد على ما
أشرنا إليه، وقيل: إن قوله تعالى: أَوْ يَتُوبَ إلخ عطف على
ينقلبوا أي يكون ثمرة خزيهم انقلابهم خائبين أو التوب عليهم أو
تعذيبهم، أو عطف على يَكْبِتَهُمْ ولَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ
شَيْءٌ اعتراض وسط بين المعطوف عليه المتعلق بالعاجل والمعطوف
المتعلق بالآجل لتحقيق أن لا تأثير للمنصور إثر بيان أن لا
تأثير للناصرين وتخصيص النفي برسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم على طريق تلوين الخطاب للدلالة على الانتفاء من غيره من
باب أولى وإنما خص الاعتراض بموقعه لأن ما قبله من القطع
والكبت من مظان أن يكون فيه لرسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم ولسائر مباشري القتال مدخل في الجملة، والمعنى أن مالك
أمرهم على الإطلاق وهو الله تعالى نصركم عليهم ليهلكهم أو
يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا، وليس لك
من أمرهم شيء إن أنت إلا عبد مأمور بإنذارهم وجهادهم.
والمراد بتعذيبهم التعذيب الشديد الأخروي المخصوص بأشد الكفرة
كفرا وإلا فمطلق التعذيب الأخروي متحقق في الفريقين الأولين
وحمله على التعذيب الدنيوي بالأسر واستيلاء المؤمنين عليهم
خلاف المتبادر من التعذيب عند الإطلاق كذا لا يلائم ظاهر قوله
سبحانه: فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ فإنه في مقام التعليل لهذا
التعذيب وأكثر ما
(2/265)
يعلل به التعذيب الأخروي، نعم حمله على
التعذيب الدنيوي أوفق بالمعنى الذي ذكره الفراء وابن الأنباري
لأن التشفي في الغالب إنما يكون في الدنيا ونظم التوبة
والتعذيب الأخروي في سلك العلة الغائية للنصر المترتبة عليه في
الوجود من حيث إن قبول توبتهم فرع تحققها الناشئ من علمهم
بحقية الإسلام بسبب غلبة أهله المترتبة على النصر الذي هو من
الآيات الغر المحجلة وأن تعذيبهم المذكور شيء مسبب على إصرارهم
على الكفر بعد تبين الحق على الوجه المذكور كما ينبئ عن ذلك
قوله تعالى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى
مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال: 42] وإن فسر بالأسر مثلا
كان أمر التسبب مكشوفا لا مرية فيه، واستشكلت هذه الآية بناء
على أنها تدل على ما في بعض الروايات على أنه صلّى الله عليه
وسلم كان فعل فعلا ومنع منه بأنه إن كان ذلك الفعل من الله
تعالى فكيف منعه منه وإن لم يكن فهو قادح بالعصمة ومناف لقوله
تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3] ، وأجيب بأن ما
وقع كان من باب خلاف الأولى نظرا إلى منصبه صلّى الله عليه
وسلم، والنهي المفهوم من الكلام من باب الإرشاد إلى اختيار
الأفضل ولا يعد ذلك من الهوى في شيء بناء على القول بأنه يصح
للنبي أن يجتهد ويعمل بما أدى إليه اجتهاد المأذون به.
وجوز أن يكون ذلك الفعل نفسه عن وحي وإذن من الله تعالى له صلى
الله تعالى عليه وسلم به وأن النهي عن ذلك كان نسخا لذلك الإذن
وأيّا ما كان لا ينافي العصمة الثابتة للأنبياء عليهم الصلاة
والسلام فافهم.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ كلام مستأنف
سيق لبيان اختصاص ملكية جميع الكائنات به تعالى إثر بيان
اختصاص طرف من ذلك به عز شأنه تقريرا لما سبق وتكملة له وتقديم
الخبر للقصر، وَما عامة للعقلاء وغيرهم تغليبا أي له سبحانه ما
في هذين النوعين، أو ما في هاتين الجهتين ملكا وملكا وخلقا
واقتدارا لا مدخل لأحد معه في ذلك فالأمر كله له يفعل ما يشاء
ويحكم ما يريد يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له من المؤمنين
فلا يعاقبه على ذنبه فضلا منه وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أن
يعذبه عدلا منه وإيثار كلمة مَنْ في الموضعين لاختصاص المغفرة
والتعذيب بالعقلاء وتقديم المغفرة على التعذيب للإيذان بسبق
رحمته تعالى على غضبه.
وظاهر الآية يدل على أن مغفرة الله تعالى وتعذيبه غير مقيدين
بشيء بل قد يدّعي أن التقييد مناف للسوق إذ هو لا ثبات أنه
سبحانه المالك على الإطلاق فله أن يفعل ما يشاء لا مانع له من
مشيئته ولو كانت مغفرته مقيدة بالتوبة وتعذيبه بالظلم لم يكن
فاعلا لما يشاء بل لما تستدعيه التوبة أو الظلم، فالآية ظاهرة
في نفي الوجوب على الله تعالى وأنه يجوز أن يغفر سبحانه للمذنب
ويعذب المصلح- وهو مذهب الجماعة- وذهب المعتزلة إلى أن المغفرة
مشروطة بالتوبة فمن لم يتب لا يجوز أن يغفر له أصلا، وتمسكوا
في ذلك بوجهين: الأول الآيات والأحاديث الناطقة بوعيد العصاة،
الثاني أن المذنب إذا علم أنه لا يعاقب على ذنبه كان ذلك
تقريرا له وإغراء للغير عليه وهذا ينافي حكمة إرسال الرسل
صلوات الله تعالى وسلامه عليهم، وحملوا هذه الآية على التقييد
وخصوا أمثالها من المطلقات بالصغائر أو الكبائر المقرونة
بالتوبة، وقالوا: إن المراد يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ إذا تاب
وجعلوا القرينة على ذلك أنه تعالى عقب قوله سبحانه: أَوْ
يُعَذِّبَهُمْ بقوله جل شأنه: فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ وهو دليل
على أن الظلم هو السبب الموجب فلا تعذيب بدونه ولا مغفرة مع
وجوده فهو مفسر لِمَنْ يَشاءُ وأيدوا كون المراد ذلك بما روي
عن الحسن في الآية يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ بالتوبة ولا يشاء أن
يغفر إلا للتائبين وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ولا يشاء أن يعذب
إلا للمستوجبين، وبما روي عن عطاء يَغْفِرُ لِمَنْ يتوب عليه
وَيُعَذِّبُ مَنْ لقيه ظالما والجماعة تمسكوا بإطلاق الآيات،
وأجابوا عن متمسك المخالف، أما عن الأول فبأن تلك الآيات
والأحاديث على تقدير عمومها إنما تدل على الوقوع دون الوجوب،
والنزاع فيه على أن كثرة النصوص في العفو تخصص المذنب المغفور
عن عمومات الوعيد، وأما عن الثاني فبأن مجرد
(2/266)
جواز العفو لا يوجب ظن عدم العقاب فضلا عن
الجزم به، وكيف يوجب جواز العفو العلم بعدم العقاب والعمومات
الواردة في الوعيد المقرونة بغاية من التهديد ترجح جانب الوقوع
بالنسبة إلى كل واحد وكفى به زاجرا فكيف يكون العلم بجواز
العفو تقريرا وإغراء على الذنب مع هذا الزاجر وأيضا إن الكثير
من المعتزلة خصوا مثل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: 53] بالصغائر فلو كان جواز العفو
مستلزما كما زعموا للعلم بعدم العقاب لزم اشتراك الإلزام بأن
يقال: إن المرتكب للصغائر إذا علم أنه لا يعاقب على ذنبه كان
ذلك تقريرا له وإغراء للغير عليه وفيه من الفساد ما فيه، وما
جعلوه قرينة على التقييد معارض بما يدل على الإطلاق أعني قوله:
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فإنه معطوف
معنى على قوله جل اسمه:
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ويدل ذلك على أن له سبحانه
التصرف المطلق وهو على خلاف ما يقولون حيث جعلوا تصرفه ومشيئته
مقيدا بأن يكون على مقتضى الحكمة والحكمة تقتضي عدم غفران من
لم يتب ولا يخفى أنه في حيز المنع لأن المشيئة والحكمة كلاهما
من صفاته تعالى لا تتبع إحداهما الأخرى وبتقدير الاستتباع لا
نسلم أن الحكمة تقتضي عدم غفران من لم يتب على أن تعقيب أَوْ
يُعَذِّبَهُمْ بقوله عز وجل: فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ لا يدل على
أكثر من أن الظلم مفض إلى التعذيب ومن يمنع الإفضاء إنما المنع
على أن يكون تفسيرا لِمَنْ يَشاءُ وأين الدلالة على أن كل ظلم
كذلك ولا عموم للفظ ولا هو من قبيل مفهوم الصفة ليصلح متمسكا
في الجملة، وما نقل عن الحسن وعطاء لا يعرف له سند أصلا ومن
ادعاه فليأت به إن كان من الصادقين، ومما يدل على كذبه أن فيه
حجرا على الرحمة الواسعة وتضييق مسالكها من غير دليل قطعي ولا
يظن بمثل الحسن هذا القبيح سلمنا الصدق وعدم لزوم ما ذكر لكن
قول الحسن ونحوه لا يترك له ظاهر الكتاب والحق أحق بالاتباع.
فإن قال الخصم: نحن نتمسك في هذا المطلب بلزوم الخلف قلنا:
يكون رجوعا إلى الاستدلال بالمعقول، وقد أذقناكم الموت الأحمر
فيه لا بالآيات فتبقى دلالة هذه الآية على عمومها. وهو مطلوبنا
هنا- على أن هذه الآية واردة في الكفار على أكثر الروايات،
ومعتقد الجماعة أن المغفرة في حقهم مشروطة بالتوبة من الكفر
والرجوع إلى الإيمان كما يفصح عن قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ
يَشاءُ [النساء: 48، 116] وليسوا محل خلاف بين الطائفتين فمن
استدل بها من المعتزلة على غرضه الفاسد فقد ضل سواء السبيل.
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تذييل مقرر لمضمون قوله تعالى:
يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ مع زيادة، وفي تخصيص التذييل به إشارة
إلى ترجيح جهة الإحسان والإنعام، وفيه ما يؤيد مذهب الجماعة.
هذا «ومن باب الإشارة» لَيْسُوا سَواءً من حيث الاستعداد وظهور
الحق فيهم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الذين ظهرت فيهم نقوش الكتاب
الإلهي الأزلي أُمَّةٌ قائِمَةٌ بالله تعالى له يَتْلُونَ
آياتِ اللَّهِ أي يظهرون للمستعدين ما فاض عليهم من الأسرار
آناءَ اللَّيْلِ أوقات ليل الجهالة وظلمة الحيرة وَهُمْ
يَسْجُدُونَ أي يخضعون لله تعالى ولا يحدث فيهم الأنانية إنهم
عالمون وأن من سواهم جاهلون يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ أي بالمبدأ والمعاد وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ حسبما اقتضاه الشرع ولكون ما
تقدم نظرا للخصوص لأن إيداع الأسرار عند الأحرار، وهذا بالنظر
إلى العموم لأن الشريعة أوسع دائرة من الحقيقة قدم وأخر
وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ من تكميل أنفسهم وغيرهم
وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ القائمين بحقوق الحق والخلق
وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يقربكم إلى الله تعالى فَلَنْ
يُكْفَرُوهُ
فقد جاء «من تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إليّ
ذراعا تقربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة»
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ أي الذين اتقوا ما يحجبهم
عنه فيتجلى لهم بقدر زوال الحجاب
(2/267)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا واحتجبوا عن الحق
برؤية الأغيار أَشْرَكُوا بِاللَّهِ تعالى ما لا وجود له في
عير ولا نفير لَنْ تُغْنِيَ لن تدفع عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ
وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي عذابه شَيْئاً من الدفاع
لأنها من جملة أصنامهم التي عبدوا وَأُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ وهي الحجاب والبعد عن الحضرة هُمْ فِيها خالِدُونَ
لاقتضاء صفة الجلال مع استعدادهم ذلك ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي
هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا
الفانية الدنية ولذاتها السريعة الزوال طلبا للشهوات ومحمدة
الناس لا يطلبون به وجه الله تعالى مَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ
أي برد شديدصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
بالشرك والكفرأَهْلَكَتْهُ
عقوبة لهم من الله تعالى لظلمهم ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
بإهلاك حرثهم لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
لسوء استعدادهم الغير المقبول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً أي خاصة تطلعونه على أسراركم مِنْ
دُونِكُمْ كالمنكرين المحجوبين إذ المحبة الحقيقية لا تكون إلا
بين الموحدين لكونها ظل الوحدة ولا تكون بين المحجوبين لكونهم
في عالم التضاد والظلمة ولا يتأتى الصفاء والوفاق الذي هو ثمرة
المحبة في ذلك العالم فلذا ترى محبة غير أهل الله تعالى تدور
على الأغراض ومن هنا تتغير لأن اللذات النفسانية لا تدوم فإذا
كان هذا حال المحجوبين بعضهم مع بعض فكيف تتحقق المحبة بينهم
وبين من يخالفهم في الأصل والوصف، وأنى يتجانس النور والظلمة،
وكيف يتوافق مشرق ومغرب؟!
أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني
ففي الحقيقة بينهما عداوة حقيقية وبعد كلي إلى حيث لا تتراءى
ناراهما، وآثار ذلك ظاهرة كما بين الله تعالى بقوله سبحانه:
قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ لامتناع إخفاء
الوصف الذاتي وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ لأنه المنشأ
لذلك فهو نار وذاك شرار وهو جبل والظاهر غبار قَدْ بَيَّنَّا
لَكُمُ الْآياتِ وهي العلامات الدالة على المحبة والعداوة
وأسبابهما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ وتفهمون من فحوى الكلام
ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ بمقتضى ما عندكم من
التوحيد لأن الموحد يحب الناس كلهم بالحق للحق ويرى الكل مظهرا
لحبيبه جل شأنه فيرحم الجميع ويعلم أن البعض منهم قد اشتغل
بباطل نظرا إلى بعض الحيثيات وابتلي بالقدر، وهذا لا ينافي ما
قدمنا آنفا عند التأمل وَلا يُحِبُّونَكُمْ بمقتضى الحجاب
والظلمة التي ضربت عليهم وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ أي جنسه
كُلِّهِ لما أنتم عليه من التوحيد المقتضي لذلك وَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ بذلك للاحتجاب بما هم عليه وَإِذا لَقُوكُمْ
قالُوا آمَنَّا لما فيهم من النفاق المستجلب للأغراض العاجلة
وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ
الكامن في صدورهم إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ كآثار تجلي
الجمال تَسُؤْهُمْ ويحزنوا لها وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ أي
ما يظنون أنه سيئة كآثار تجلي الجلال يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ
تَصْبِرُوا على ما ابتليتم به وتثبتوا على التوحيد وَتَتَّقُوا
الاستعانة بالسوى لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً لأن
الصابر على البلاء المتوكل على الله تعالى المستعين به المعرض
عمن سواه ظافر بطلبته غالب على خصمه محفوف محفوظ بعناية الله
تعالى، والمخذول من استعان بغيره وقصده سواه كما قيل:
من استعان بغير الله في طلب ... فإن (ناصره عجز وخذلان)
إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ من المكايد مُحِيطٌ فيبطلها
ويطفئ نارها لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ
أَذِلَّةٌ لله تعالى تحت ظل الكبرياء والعظمة لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ ذلك وبالشكر تزاد النعم إِذْ تَقُولُ
لِلْمُؤْمِنِينَ لما رأيت من حالهم أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ
يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ
مُنْزَلِينَ على صيغة اسم الفاعل السكينة عليكم، أو
مُنْزَلِينَ على صيغة اسم المفعول من جانب الملكوت إليكم بَلى
إِنْ تَصْبِرُوا على صدمات تجليه سبحانه
(2/268)
وَتَتَّقُوا من سواه وَيَأْتُوكُمْ مِنْ
فَوْرِهِمْ هذا أي بلا بطء يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ
آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ على صيغة الفاعل أي
معلمين أرواحكم بعلائم الطمأنينة، أو مُسَوِّمِينَ على صيغة
المفعول بعمائم بيض، وهي إشارة إلى الأنوار الإلهية الظاهرة
عليهم، وتخصيص- الخمسة آلاف- بالذكر لعله إشارة إلى إمداد كل
لطيفة من اللطائف الخمس بألف والألف إشارة إلى الإمداد الكامل
حيث إنها نهاية مراتب الأعداد وشرط ذلك بالصبر والتقوى لأن
النصر على الأعداء- وأعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك- لا يكون
إلا عند تقوى القلب وكذا سائر جنود الروح بل والروح نفسها أيضا
بتأييد الحق والتنور بنور اليقين فتحصل المناسبة بين القلب
مثلا وبين ملكوت السماء وبذلك التناسب يستنزل قواها وأوصافها
في أفعاله وربما يستمد من قوى قهرها على من يغضب عليه وذلك
عبارة عن نزول الملائكة وهذا لا يكون إلا بالصبر على تحمل
المكروه طلبا لرضا الله تعالى والتقوى من مخالفة أمر الحق
والميل إلى نحو النفع الدنيوي واللذات الفانية.
وأما إذا جزع وهلع ومال إلى الدنيا فلا يحصل له ذلك لأن النفس
حينئذ تستولي عليه وتحجبه بظلمة صفاتها عن النور فلم تبق تلك
المناسبة وانقطع المدد ولم تنزل الملائكة، وَما جَعَلَهُ
اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ أي إلا لتستبشروا به فيزداد
نشاطكم في التوجه إلى الحق وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ
فيتحقق الفيض بقدر التصفية وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ لا من عند الملائكة فلا تحتجبوا بالكثرة عن الوحدة
وبالحق عن الحق فالكل منه تعالى وإليه الْعَزِيزِ فلا يعجزه
الظهور بما شاء وكيف شاء الْحَكِيمِ الذي ستر نصره بصور
الملائكة لحكمة لِيَقْطَعَ أي يهلك طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا وهم أعداء الله تعالى أَوْ يَكْبِتَهُمْ يخزيهم
ويذلهم فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ فيرجعوا غير ظافرين بما أملوا
لَيْسَ لَكَ من حيث أنت مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وكله لك من
حيثية أخرى أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إذا أسلموا فتفرح لأنك
المظهر للرحمة الواسعة وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِلْعالَمِينَ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ لأجلك فتشتفي بهم من حيث
أنهم خالفوا الأمر الذي بعثت به إلى الناس كافة فإنهم ظالمون
بتلك المخالفة وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ من عالم الأرواح
وَما فِي الْأَرْضِ من عالم الطبيعيات يتصرف فيهما كيفما يشاء
ويختار يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ لأن له
التصرف المطلق في الملك والملكوت وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
كثير المغفرة والرحمة نسأل الله تعالى أن يغفر لنا ويرحمنا يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا ابتداء
كلام مشتمل على أمر ونهي وترغيب وترهيب تتميما لما سلف من
الإرشاد إلى ما هو الأصلح في أمر الدين وفي باب الجهاد، ولعل
إيراد النهي عن الربا بخصوصه هنا لما أن الترغيب في الإنفاق في
السراء والضراء الذي عمدته الإنفاق في سبيل الجهاد متضمن
للترغيب في تحصيل المال فكان مظنة مبادرة الناس إلى طرق
الاكتساب ومن جملتها بل أسهلها الربا فنهوا عنه، وقدمه على
الأمر اعتناء به وليجيء ذلك الأمر بعد سدّ ما يخدشه، وقال
القفال: يحتمل أن يكون هذا الكلام متصلا بما قبله من جهة أن
أكثر أموال المشركين قد اجتمعت من الربا وكانوا ينفقون تلك
الأموال على العساكر وكان من الممكن أن يصير ذلك داعيا
للمسلمين إلى الاقدام عليه كي يجمعوا الأموال وينفقوها على
العساكر أيضا ويتمكنوا من الانتقام من عدوهم، فورد النهي عن
ذلك رحمة عليهم ولطفا بهم، وقيل: إنه تعالى شأنه لما ذكر أن له
التعذيب لمن يشاء والمغفرة لمن يشاء وصل ذلك بالنهي عما لو
فعلوه لاستحقوا عليه العقاب- وهو الربا- وخصه بالنهي لأنه كان
شائعا إذ ذاك وللاعتناء بذلك لم يكتف بما دل على تحريمه مما في
سورة البقرة بل صرح بالنهي وساق الكلام له أولا وبالذات إيذانا
بشدة الحظر.
والمراد من الأكل الأخذ، وعبر به عنه لما أنه معظم ما يقصد به
ولشيوعه في المأكولات مع ما فيه من زيادة
(2/269)
التشنيع، وقد تقدم الكلام في الربا
أَضْعافاً مُضاعَفَةً حال من الربا- والأضعاف- جمع ضعف وضعف
الشيء مثله، وضعفاه مثلاه، وأضعافه أمثاله، وقال بعض المحققين:
الضعف اسم ما يضعف الشيء كالثني اسم ما يثنيه من ضعفت الشيء
بالتخفيف فهو مضعوف- على ما نقله الراغب- بمعنى ضعفته، وهو اسم
يقع على العدد بشرط أن يكون معه عدد آخر فأكثر والنظر فيه إلى
فوق بخلاف الزوج فإن النظر فيه إلى ما دونه فإذا قيل: ضعف
العشرة لزم أن تجعلها عشرين بلا خلاف لأنه أول مراتب تضعيفها،
ولو قال: له عندي ضعف درهم لزمه درهمان ضرورة الشرط المذكور
كما إذا قيل: هو أخو زيد اقتضى أن يكون زيد أخاه وإذا لزم
المزاوجة دخل في الإقرار، وعلى هذا له ضعفا درهم منزل على
ثلاثة دراهم وليس ذلك بناء على ما يتوهم أن ضعف الشيء موضوعه
مثلاه وضعفيه ثلاثة أمثاله، بل ذلك لأن موضوعه المثل بالشرط
المذكور.
وهذا معزى الفقهاء في الأقارير والوصايا، ومن البين أنهم
ألزموا في ضعفي الشيء ثلاثة أمثاله ولو كان موضوع الضعف
المثلين لكان الضعفان أربعة أمثال- وليس مبناه العرف العامي بل
الموضوع اللغوي- كما قال الأزهري.
ومن هنا ظهر أنه لو قال: له الضعفان درهم ودرهم أو الضعفان من
الدراهم لم يلزم إلا درهمان كما لو قال الأخوان، ثم قال
والحاصل أن تضعيف الشيء ضم عدد آخر إليه وقد يزاد وقد ينظر إلى
أول مراتبه لأنه المتيقن، ثم إنه قد يكون الشيء المضاعف مأخوذا
معه فيكون ضعفاه ثلاثة وقد لا يكون فيكون اثنين وهذا كله موضوع
له في اللغة لا العرف، وليس هذه الحال لتقييد المنهي عنه ليكون
أصل الربا غير منهي بل لمراعاة الواقع، فقد روى غير واحد أنه
كان الرجل يربي إلى أجل فإذا حل قال للمدين: زدني في المال حتى
أزيدك بالأجل فيفعل وهكذا عند كل أجل فيستغرق بالشيء الضعيف ما
له بالكلية فنهوا عن ذلك ونزلت الآية، وقرئ- «مضعفة» - بلا ألف
مع تشديد العين.
وَاتَّقُوا اللَّهَ أي فيما نهيتم عنه ومن جملته أكل الربا
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تفلحوا أو راجين الفلاح،
فالجملة حينئذ في موضع الحال قيل: ولا يخفى أن اقتران الرجاء
بالتخويف يفيد أن العبد ينبغي أن يكون بين الرجاء والخوف فهما
جناحاه اللذان يطير بهما إلى (1) حضائر القدس وَاتَّقُوا
النَّارَ أي احترزوا عن متابعة المرابين وتعاطى ما يتعاطونه من
أكل الربا المفضي إلى دخول النار الَّتِي أُعِدَّتْ أي هيئت
لِلْكافِرِينَ وهي الطبقة التي اشتد حرها وتضاعف عذابها وهي
غير النار التي يدخلها عصاة أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم
فإنها دون ذلك، وفيه إشارة إلى أن أكلة الربا على شفا حفرة
الكفرة، ويحتمل أن يقال: إن النار مطلقا مخلوقة للكافرين معدّة
لهم أولا وبالذات، وغيرهم يدخلها على وجه التبع فالصفة ليست
للتخصيص، وإلى هذا ذهب الجل من العلماء، روي عن الإمام الأعظم
رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول: إن هذه الآية هي أخوف آية في
القرآن حيث أوعد الله تعالى المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين
إن لم يتقوه في اجتناب محارمه وليس بنص في التخصيص وَأَطِيعُوا
اللَّهَ في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه فلا يتكرر مع الأمر
بالتقوى السابق وَالرَّسُولَ أي الذي شرع لكم الدين وبلغكم
الرسالة فإن طاعته طاعة الله تعالى.
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي تنالوا رحمة الله تعالى أو
راجين رحمته، وعقب الوعيد بالوعد ترهيبا عن المخالفة وترغيبا
في الطاعة، قال محمد بن إسحاق: هذه الآية معاتبة للذين عصوا
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين أمرهم بما أمرهم في
أحد ولعلهم الرماة الذين فارقوا المركز وَسارِعُوا عطف على
أطيعوا أو اتقوا.
__________
(1) قوله: (حضائر) هو في خط المؤلف رحمه الله بالضاد الساقطة
كتبه مصححه.
(2/270)
وقرأ نافع وابن عامر بغير واو على وجه
الاستئناف وهي قراءة أهل المدينة والشام، والقراءة المشهورة
قراءة أهل مكة والعراق أي بادروا وسابقوا، وقرئ بالأخير إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ أي أسبابهما من الأعمال
الصالحة، وعن علي كرم الله تعالى وجهه سارعوا إلى أداء
الفرائض، وعن ابن عباس إلى الإسلام، وعن أبي العالية إلى
الهجرة، وعن أنس بن مالك إلى التكبيرة الأولى، وعن سعيد بن
جبير إلى أداء الطاعات، وعن يمان إلى الصلوات الخمس وعن الضحاك
إلى الجهاد، وعن عكرمة إلى التوبة، والظاهر العموم ويدخل فيه
سائر الأنواع، وتقديم المغفرة على الجنة لما أن التخلية مقدمة
على التحلية، وقيل: لأنها كالسبب لدخول الجنة، ومِنْ متعلقة
بمحذوف وقع نعتا- لمغفرة- والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة
إلى ضمير المخاطبين لإظهار مزيد اللطف بهم ووصف المغفرة بكونها
من الرب دون الجنة تعظيما لأمرها وتنويها بشأنها وسبب نزول
الآية على ما
أخرجه عبد بن حميد وغيره عن عطاء بن أبي رباح «أن المسلمين
قالوا: يا رسول الله بنو إسرائيل كانوا أكرم على الله تعالى
منا كانوا إذا أذنب أحدهم ذنبا أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في
عتبة داره اجدع أنفك اجدع أذنك افعل كذا وكذا فسكت صلى الله
تعالى عليه وسلم فنزلت هذه الآيات إلى قوله تعالى: وَالَّذِينَ
إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية فقال
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ألا أخبركم بخير من ذلكم ثم
تلاها عليهم»
والتنوين في مغفرة للتعظيم ويؤيده الوصف، وكذا في جَنَّةٍ
ويؤيده أيضا وصفها بقوله سبحانه: عَرْضُهَا السَّماواتُ
وَالْأَرْضُ والمراد كعرض السموات فهو على حد قوله:
حسبت بغام راحلتي عناقا ... وما هي ويب غيرك بالعناق
فإنه أراد كصوت عناق، والعرض أقصر الامتدادين، وفي ذكره دون
ذكر الطول مبالغة، وزاد في المبالغة بحذف أداة التشبيه وتقدير
المضاف فليس المقصود تحديد عرضها حتى يمتنع كونها في السماء بل
الكلام كناية عن غاية السعة بما هو في تصور السامعين، والعرب
كثيرا ما تصف الشيء بالعرض إذا أرادوا وصفه بالسعة، ومنه
قولهم: أعرض في المكارم إذا توسع فيها، والمراد من السَّماواتُ
وَالْأَرْضُ السموات السبع والأرضون السبع، فعن ابن عباس من
طريق السدي أنه قال: تقرن السموات السبع والأرضون السبع كما
تقرن الثياب بعضها ببعض فذاك عرض الجنة، والأكثرون على أنها
فوق السموات السبع تحت العرش وهو المروي عن أنس بن مالك، وقيل:
إنها في السماء الرابعة وإليه ذهب جماعة، وقيل: إنها خارجة عن
هذا العالم حيث شاء الله تعالى، ومعنى كونها في السماء أنها في
جهة العلو ولا مانع عندنا أن يخلق الله تعالى في العلو أمثال
السموات والأرض بأضعاف مضاعفة. ولا ينافي هذا خبر أنها في
السماء الرابعة إن صح، ولا ما حكي عن الأكثر لأن ذلك مثل قولك:
في الدار بستان إذا كان له باب منها يشرع إليه مثلا فإنه لا
ينافي خروج البستان عنها، وعلى هذا التأويل لا ينافي الخبر
أيضا كون عرض الجنة كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الحديد:
21] من غير حاجة إلى القول بأنه ليس المراد من السَّماواتُ
السموات السبع كما قيل به.
ومن الناس من ذهب إلى أنها في السماء تحت العرش أو الرابعة إلا
أن هذا العرض إنما يكون يوم القيامة حيث يزيد الله تعالى فيها
ما يزيد.
وحكي ذلك عن أبي بكر أحمد بن علي قيل: وبذلك يدفع السؤال بأنه
إذا كان عرض الجنة «كعرض السماء والأرض» فأين تكون النار، ووجه
الدفع أن ذلك يوم القيامة، وأما الآن فهي دون ذلك بكثير، ويوم
يثبت لها ذلك لا تكون فيه السموات والأرض كهذه السموات والأرض
المشبه بعرضهما عرضها، ولا يخفى أن القول بالزيادة في السعة
يوم القيامة وإن سلم إلا أن كونها اليوم دون هذه السموات
والأرض بكثير في حيز المنع ولا يكاد يقبل، والسؤال المذكور
أجاب عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بغير ذلك.
(2/271)
فقد أخرج ابن جرير عن التنوخي رسول هرقل
قال: «قدمت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بكتاب
هرقل، وفيه: إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض
فأين النار؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: سبحان
الله فأين الليل إذا جاء النهار؟
ولعل المقصود من الجواب إسقاط المسألة وبيان أن القادر على أن
يذهب الليل حيث شاء قادر على أن يخلق النار حيث شاء، وإلى ذلك
يشير خبر أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وذهب أبو مسلم
الأصفهاني إلى أن العرض هاهنا ليس مقابل الطول بل هو من قولك
عرضت المتاع للبيع، والمعنى أن ثمنها لو بيعت كثمن السموات
والأرض، والمراد بذلك عظم مقدارها وجلالة قدرها وأنه لا
يساويها شيء وإن عظم، فالعرض بمعنى ما يعرض من الثمن في مقابلة
المبيع وربما يستغني على هذا عن تقدير ذلك المضاف، ولا يخفى
أنه على ما فيه من البعد خلاف المأثور عن السلف الصالح من أن
المراد وصفها بأنها واسعة أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ أي هيئت
للمطيعين لله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وإنما
أضيفت إليهم للإيذان بأنهم المقصودون بالذات وإن دخول غيرهم
كعصاة المؤمنين والأطفال والمجانين بطريق التبع وإذا حملت
التقوى في غير هذا الموضع، وأما فيه فبعيد على التقوى عن الشرك
لا ما يعمه وسائر المحرمات لم نستغن عن هذا القول أيضا لأن
المجانين مثلا لا يتصفون بالتقوى حقيقة ولو كانت عن الشرك كما
لا يخفى.
وجوز أن يكون هناك جنات متفاوتة وإن هذه الجنة للمتقين
الموصوفين بهذه الصفات لا يشاركهم فيها غيرهم لا بالذات ولا
بالتبع، ولعلها الفردوس المصرح بها في
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه
الفردوس»
وفيه تأمل، والآية ظاهرة في أن الجنة مخلوقة الآن كما يدل عليه
الفعل الماضي، وجعله من باب وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [الكهف: 99،
يس: 51، الزمر: 68، ق: 20] خلاف الظاهر ولا داعي إليه كما بين
في محله، ومثل ذلك أُعِدَّتْ السابق في حق النار، وأما دلالة
الآية على أن الجنة خارجة عن هذا العالم بناء على أنها تقتضي
أن الجنة أعظم منه فلا يمكن أن يكون محيطا بها ففيه نظر كما
يرشدك إليه النظر فيما تقدم.
والجملة في موضع جر على أنها صفة لجنة، وجوز أن تكون في موضع
نصب على الحالية منها لأنها قد وصفت، وجوز أيضا أن تكون
مستأنفة قال أبو البقاء: ولا يجوز أن تكون حالا من المضاف إليه
لثلاثة أمور: أحدها أنه لا عمل له وما جاء من ذلك متأول على
ضعفه، والثاني أن العرض هنا لا يراد به المصدر الحقيقي بل
المسافة، والثالث أن ذلك يلزم منه الفصل بين الحال وصاحبها
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ في محل الجرّ على أنه نعت للمتقين مادح
لهم، وقيل: مخصص أو بدل أو بيان أو في محل نصب على إضمار الفعل
أو رفع على إضمار هم ومفعول يُنْفِقُونَ محذوف ليتناول كل ما
يصلح للإنفاق المحمود أو متروك بالكلية كما في قولهم: فلان
يعطي.
فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ أي في اليسر والعسر قاله ابن
عباس وقيل: في حال السرور والاغتمام، وقيل: في الحياة وبعد
الموت بأن يوصي، وقيل: فيما يسر كالنفقة على الولد والقريب
وفيما يضر كالنفقة على الأعداء، وقيل:
في ضيافة الغني والإهداء إليه وفيما ينفقه على أهل الضر ويتصدق
به عليهم، وأصل السراء الحالة التي تسر والضراء الحالة التي
تضر، والمتبادر ما قاله الحبر، والمراد إما ظاهرهما أو التعميم
كما عهد في أمثاله أي إنهم لا يخلون في حال ما بإنفاق ما قدروا
عليه من كثير أو قليل. وقد روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها
أنها تصدقت بحبة عنب، وعن بعض السلف أنه تصدق ببصلة،
وفي الخبر «اتقوا النار ولو بشق تمرة، وردوا السائل ولو بظلف
محرق»
وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ أصل الكظم شدّ رأس القربة عند
امتلائها، ويقال: فلان كظيم أي ممتلئ حزنا، والْغَيْظَ هيجان
الطبع عند رؤية ما ينكر، والفرق بينه وبين الغضب على ما قيل:
إن الغضب يتبعه إرادة الانتقام البتة، ولا كذلك الغيظ، وقيل:
(2/272)
الغضب ما يظهر على الجوارح والبشرة من غير
اختيار والغيظ ليس كذلك وقيل: هما متلازمان إلا أن الغضب يصح
إسناده إلى الله تعالى والغيظ لا يصح فيه ذلك.
والمراد والمتجرعين للغيظ الممسكين عليه عند امتلاء نفوسهم منه
فلا ينقمون ممن يدخل الضرر عليهم ولا يبدون له ما يكره بل
يصبرون على ذلك مع قدرتهم على الإنقاذ والانتقام وهذا هو
الممدوح،
فقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا «من كظم
غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله تعالى قلبه أمنا وإيمانا» .
وأخرج أحمد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم: «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله تعالى على
رؤوس الخلائق حتى يخيره الله تعالى من أي الحور شاء»
وفي الأول جزاء من جنس العمل، وفي الثاني ما هو من توابعه،
وهذا الوصف معطوف على ما قبله والعدول إلى صيغة الفاعل هنا
للدلالة على الاستمرار، وأما الإنفاق فحيث كان أمرا متجددا عبر
عنه بما يفيد التجدد والحدوث وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ أي
المتجاوزين عن عقوبة من استحقوا مؤاخذته إذا لم يكن في ذلك
إخلال بالدين، وقيل: عن المملوكين إذا أساؤوا، والعموم أولى.
أخرج ابن جرير عن الحسن «أن الله تعالى يقول يوم القيامة: ليقم
من كان له على الله تعالى أجر فلا يقوم إلا إنسان عفا» ،
وأخرج الطبراني عن أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم قال: «من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات
فليعف عمن ظلمه ويعط من حرمه ويصل من قطعه» .
وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس بن مالك في الآية «إن
هؤلاء في أمتي قليل إلا من عصم الله تعالى وقد كانوا كثيرا في
الأمم التي مضت»
والاستثناء منقطع إن كانت القلة على ظاهرها ومتصل إن كانت
بمعنى العدم، وكون بعض الخصائص كثيرا في الأمم السابقة لا
يقتضي تفضيلهم على هذه الأمة من كل الوجوه ومن ظن ذلك تكلف في
توجيه الحديث بأن المراد أن الكاظمين الغيظ في أمتي قليل إلا
بعصمة الله تعالى لغلبه الغيظ عليهم، وقد كانوا كثيرا في الأمم
السالفة لقلة حميتهم ولذا كان الأمر بالمعروف النهي عن المنكر
فيما بينهم قليلا ولما تمرنت هذه الأمة في الغضب لله تعالى
والتزموا الاجتناب عن المداهنة صار إنفاذ الغيظ عادتهم فلا
يكظمون إذا ابتلوا إلا بعصمة الله تعالى، فالقليل في الخبر هم
الذين يكظمون لقلة الحمية وهم الكثيرون في الأمم السالفة فلا
اختصاص لهم بمزية ليتوهم تفضيلهم على هذه الأمة ولو من بعض
الوجوه، ولا يخفى أن هذا التوجيه مما تأباه الإشارة والعبارة،
وأحسن منه بل لا نسبة أن الكثرة نظرا إلى مجموع الأمم لا
بالنسبة إلى كل أمة أمة ولا يضر قلة وجود الموصوفين بتلك الصفة
فينا بالنظر إلى مجموع الخلائق من لدن آدم عليه السلام إلى أن
بعث نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم لأن هذه الأمة بأسرها
قليلة بالنظر إلى مجموع الأمم فضلا عن خيارها فتدبر، وفي ذكر
هذين الوصفين كما قال بعض المحققين: إشعار بكمال حسن موقع عفوه
عليه الصلاة والسلام عن الرماة وترك مؤاخذتهم بما فعلوا من
مخالفة أمره صلى الله تعالى عليه وسلم وندب له عليه الصلاة
والسلام إلى ترك ما عزم عليه من مجازاة المشركين بما فعلوا
بحمزة رضي الله تعالى عنه حتى
قال: «حين رآه مثل به لأمثلن بسبعين مكانك»
ولعل التعبير هنا بصيغة الفاعل أيضا دون الفعل لأن العفو أشبه
بالكظم منه بالإنفاق وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تذييل
لمضمون ما قبله- وال- إما للجنس والمذكورون داخلون فيه دخولا
أوليا وإما للعهد وعبر عنهم بالمحسنين على ما قيل: إيذانا بأن
النعوت المعدودة من باب الإحسان الذي هو الإتيان بالأعمال على
الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي
وقد فسره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم- بأن تعبد الله كأنك
تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك-
ويمكن أن يقال: الإحسان
(2/273)
هنا بمعنى الإنعام على الغير على وجه عار
عن وجوه القبح، وعبر عنهم بذلك للإشارة إلى أنهم في جميع تلك
النعوت محسنون إلى الغير لا في الإنفاق فقط.
ومما يؤيد كون الإحسان هنا بمعنى الإنعام ما
أخرجه البيهقي أن جارية لعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما
جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها فشجه
فرفع رأسه إليها فقالت: إن الله تعالى يقول وَالْكاظِمِينَ
الْغَيْظَ فقال لها: قد كظمت غيظي قالت: وَالْعافِينَ عَنِ
النَّاسِ قال: قد عفا الله تعالى عنك قالت:
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال: اذهبي فأنت حرة لوجه
الله تعالى،
ورجح بعضهم العهد على الجنس بأنه أدخل في المدح وأنسب بذكره
قبل قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ
ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ من تتمة ما نزل حين قال المسلمون لرسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «بنو إسرائيل كانوا أكرم على
الله تعالى منا» إلخ على ما أشرنا إليه فيما تقدم، وعن ابن
مسعود رضي الله تعالى عنه أنه ذكر عند رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم حال بني إسرائيل فنزلت هذه الآية ولم يذكر صدر
الآية.
وفي رواية الكلبي «أن رجلين أنصاريا وثقيفا آخى رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم بينهما فكانا لا يفترقان فخرج رسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض مغازيه وخرج معه الثقفي وخلف
الأنصاري في أهله وحاجته فكان يتعاهد أهل الثقفي فأقبل ذات يوم
فأبصر امرأة صاحبه قد اغتسلت وهي ناشرة شعرها فوقعت في نفسه
فدخل ولم يستأذن حتى انتهى إليها فذهب ليلثمها فوضعت كفها على
وجهها فقبل ظاهر كفها ثم ندم واستحيا فأدبر راجعا فقالت: سبحان
الله تعالى خنت أمانتك وعصيت ركب ولم تصل إلى حاجتك قال: وندم
على صنيعته فخرج يسيح في الجبال ويتوب إلى الله تعالى من ذنبه
حتى وافى الثقفي فأخبرته أهله بفعله فخرج يطلبه حتى دل عليه
فوافقه ساجدا وهو يقول: رب ذنبي ذنبي قد خنت أخي فقال له: قم
يا فلان فانطلق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاسأله عن
ذنبك لعل الله تعالى أن يجعل لك فرجا وتوبة فأقبل معه حتى رجع
إلى المدينة وكان ذات يوم عند صلاة العصر نزل جبريل عليه
السلام بتوبته فتلا وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا إلى قوله سبحانه
وتعالى وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ فقال عمر رضي الله تعالى
عنه:
يا رسول الله ألهذا الرجل خاصة أم للناس عامة؟ فقال عليه
الصلاة والسلام: بل للناس عامة» .
وفي رواية عطاء عن ابن عباس أن تيهان التمار أتته امرأة حسناء
تبتاع منه تمرا فضمها إلى نفسه وقبلها ثم ندم على ذلك فأتى
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر ذلك له فنزلت هذه الآية.
وأنت تعلم أنه لا مانع من تعدد سبب النزول وأيا ما كان فبإطلاق
اللفظ ينتظم ما فعله الرماة انتظاما أوليا،
وأخرج الترمذي عن عطاف بن خالد أنه قال: بلغني أنها لما نزلت
صاح إبليس بجنوده وحثا على رأسه التراب ودعا بالويل والثبور
حتى جاءته جنوده من كل بر وبحر فقالوا: ما لك يا سيدنا قال:
آية نزلت في كتاب الله لا يضر بعدها أحدا من بني آدم ذنب
قالوا: وما هي؟ فأخبرهم قالوا: نفتح لهم باب الأهواء فلا
يتوبون ولا يستغفرون ولا يرون إلا أنهم على الحق فرضي منهم
بذلك،
والموصول إما مفصول عما قبله على أنه مبتدأ، وقيل: إنه معطوف
على ما قبله من صفات المتقين، وقوله سبحانه: وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ اعتراض بينهما مشير إلى ما بينهما من التفاوت
فإن درجة الأولين من التقوى أعلى وحظهم أوفى، أو على المتقين
فيكون التفاوت أظهر وأكثر،- والفاحشة- الكبائر، وظلم النفس
الصغائر قاله القاضي عبد الجبار الهمداني، وقيل: الفاحشة
المعصية الفعلية، وظلم النفس المعصية القولية، وقيل:
الفاحشة ما يتعدى، ومنه إفشاء الذنب لأنه سبب اجتراء الناس
عليه ووقوعهم فيه وظلم النفس ما ليس كذلك، وقيل:
الفاحشة كل ما يشتد قبحه من المعاصي والذنوب وتقال لكل خصلة
قبيحة من الأقوال والأفعال، وكثيرا ما ترد بمعنى
(2/274)
الزنا، وأصل الفحش مجاوزة الحدّ في السوء
ومنه قول طرفة
عقيلة مال الفاحش المتشدد
يعني الذي جاوز الحد في البخل فلعل المراد منها هنا المعصية
البالغة في القبح، والظلم الذنب مطلقا وذكره بعدها من ذكر
العام بعد الخاص، وأو على الوجوه للتنويع ولا يرد أنه على بعض
الوجوه الترديد بين الخاص والعام وقد توقف في قبوله لأنهم
قالوا: إن هذا ترديد بين فرقتين من يستغفر للفاحشة ومن يستغفر
لأي ذنب صدر عنه وكم بينهما، وجواب إِذا قوله تعالى شأنه:
ذَكَرُوا اللَّهَ أي تذكروا حقه العظيم ووعيده، أو ذكروا العرض
عليه، أو سؤاله عن الذنب يوم القيامة أو نهيه أو غفرانه وقيل:
ذَكَرُوا جماله فاستحيوا وجلاله فهابوا، وقيل: ذَكَرُوا ذاته
المقدسة عن جميع القبائح وأحبوا التقرب إليه بالمناسبة له
بالتطهير من الذمائم، وعلى كل تقدير ليس المراد مجرد ذكر اسمه
عز اسمه فَاسْتَغْفَرُوا أي طلبوا المغفرة منه تعالى
لِذُنُوبِهِمْ كيفما كانت ومفعول فَاسْتَغْفَرُوا محذوف لفهم
المعنى أي استغفروه، وليس المراد مجرد طلب المغفرة بل مع
التوبة وإلا فطلب المغفرة مع الإصرار كالاستهزاء بالرب جل
شأنه، ومن هنا قالت رابعة العدوية: استغفارنا هذا يحتاج إلى
استغفار وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ اعتراض بين
المعطوفين أو بين الحال وذيها، والتركيب على ما أفاده بعض
المحققين يدل على أمور من جهة الله تعالى وأمور من جهة العبد.
أما الأول فعلى وجوه: أحدها دلالة اسم الذات بحسب ما يقتضيه
المقام من معنى الغفران الواسع وإيراد التركيب على صيغة
الإنشاء دون الإخبار بأن لم يقل وما يغفر الذنوب إلا الله
تقرير لذلك المعنى وتأكيد له كأنه قيل:
هل تعرفون أحدا يقدر على غفر الذنوب كلها صغيرها وكبيرها
سالفها وغابرها غير من وسعت رحمته كل شيء، وثانيها تقديمه عن
مكانه وإزالته عن مقرّه لأنه اعتراض بين المبتدأ وهو الَّذِينَ
والخبر الآتي، ثم بين المعطوف والمعطوف عليه أو الحال وصاحبه
للدلالة على شدة الاهتمام به والتنبيه على أنه كلما وجد
الاستغفار لم يتخلف الغفران، وثالثها الإتيان بالجمع المحلى
باللام إعلاما بأن التائب إذا تقدم بالاستغفار يتلقى بغفران
ذنوبه كلها فيصير كمن لا ذنب له، ورابعها دلالة النفي بالحصر
والإثبات على أنه لا مفزع للمذنبين إلا كرمه وفضله، وذلك أن من
وسعت رحمته كل شىء لا يشاركه أحد في نشرها كرما وفضلا، وخامسها
إسناد غفران الذنوب إلى نفسه سبحانه وإثباته لذاته المقدس بعد
وجود الاستغفار وتنصل عبيده يدل على تحقق ذلك قطعا إما بحسب
الوعد كما نقول، أو بحسب العدل كما يزعمه المعتزلة. وأما
الثاني ففيه وجوه أيضا:
الأول إن في إبداء سعة الرحمة واستعجال المغفرة بشارة عظيمة
وتطييبا للنفوس، والثاني أن العبد إذا نظر إلى هذه العناية
الشديدة والاهتمام العظيم في شأن التوبة يتحرك نشاطه ويهتز
عطفه فلا يتقاعد عنها، والثالث أن في ضمن معنى الاستغراق قلع
اليأس والقنوط ولهذا علل سبحانه النهي في قوله تعالى: لا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] بقوله جل شأنه:
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: 53]
والرابع أنه أطلقت الذنوب وعمت بعد ذكر الفاحشة وظلم النفس
وترك مقتضى الظاهر ليدل به على عدم المبالاة في الغفران فإن
الذنوب وإن كبرت فعفو الله تعالى أكبر، والخامس أن الاسم
الجامع في التركيب كما دل على سعة الغفران بحسب المقام يدل
أيضا مع إرادة الحصر على أنه تعالى وحده معه مصححات المغفرة من
كونه عزيزا ليس فوقه أحد فيرد عليه حكمه وكونه حكيما يغفر لمن
تقتضي حكمته غفرانه.
وقد التزم بعضهم كون- أل- في الذُّنُوبَ للجنس لتفيد الآية
امتناع صدور مغفرة فرد منها من غيره تعالى، وهذا على ظنه لا
تفيده الآية على تقدير إرادة كل الذُّنُوبَ وحينئذ يزداد أمر
المبالغة، وأما جعل الجملة حالية
(2/275)
بتقدير قائلين ذلك فتعسف يذهب بكثير من هذه
الوجوه اللطيفة كما لا يخفى، ومَنْ مبتدأ ويَغْفِرُ خبره
والاسم الجليل بدل من المستكن في يغفر أو فاعل له وَلَمْ
يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا عطف على فَاسْتَغْفَرُوا أو حال من
فاعله أي لم يقيموا أو غير مقيمين على الذي فعلوه من الذنوب
فاحشة كانت أو ظلما أو على فعلهم، وأصل الإصرار الشد من الصر،
وقيل: الثبات على الشيء، ومنه قول الحطيئة يصف الخيل:
عوابس بالشعث الكماة إذا ابتغوا ... غلالتها بالمحصدات (أصرت)
ويستعمل شرعا بمعنى الإقامة على القبيح من غير استغفار ورجوع
بالتوبة، والظاهر أنه لا يصح إرادة هذا المعنى هنا لئلا يتكرر
ما في المفهوم مع ما في المنطوق، فلعله فيه بمعنى الإقامة،
وإذا حمل الاستغفار على مجرد طلب المغفرة فقط كان هذا مشيرا
للتوبة التي هي ملاك الأمر إلا أنه قدم الاستغفار لأنه دال
عليها في الظاهر، وإذا حمل على الحال الذي ينضم إليه التوبة
كان هذا تصريحا ببعض ما أريد منه إشارة إلى الاعتناء به كما
قالوا في ذكر الخاص بعد العام،
أخرج البيهقي عن ابن عباس موقوفا «كل ذنب أصر عليه العبد كبير
وليس بكبير ما تاب منه العبد»
وأخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد عن ابن عمر مرفوعا ارحموا
ترحموا واغفروا يغفر لكم ويل لأقماع القول ويل للمصرين»
وَهُمْ يَعْلَمُونَ قيل: الجملة حال من ضمير- استغفروا- وفيه
بعد لفظي، والمشهور أنها حال من ضمير- أصروا- ومفعول
يَعْلَمُونَ محذوف أي يعلمون قبح فعلهم، وقد ذكر أن الحال بعد
الفعل المنفي وكذا جميع القيود قد يكون راجعا إلى النفي قيدا
له دون المنفي مثل ما جئتك مشتغلا بأمورك بمعنى تركت المجيء
مشتغلا بذلك، وقد يكون راجعا إلى ما دخله النفي مثل ما جئتك
راكبا، ولهذا معنيان: أحدهما وهو الأكثر- أن يكون النفي راجعا
إلى القيد فقط ويثبت أصل الفعل فيكون المعنى جئت غير راكب،
وثانيهما أن يقصد نفي الفعل والقيد معا بمعنى انتفاء كل من
الأمرين بالمعنى في المثال لا مجيء ولا ركوب، وقد يكون النفي
متوجها للفعل فقط من غير اعتبار لنفي القيد وإثباته.
قيل: وهذه الآية لا يصح فيها أن يكون وهم يَعْلَمُونَ قيدا
للنفي لعدم الفائدة لأن ترك الإصرار موجب للأجر والجزاء سواء
كان مع العلم بالقبح أو مع الجهل بل مع الجهل أولى ولا يصح
أيضا فيها أن يتوجه النفي إلى القيد فقط مع إثبات أصل الفعل إذ
ليس المعنى على إثبات الإصرار ونفي العلم، وكذا لا يصح توجهه
إلى الفعل والقيد معا إذ ليس المعنى على نفي العلم، والظاهر أن
المناسب فيها توجهه إلى الفعل فقط من غير اعتبار لنفي القيد
وإثباته، والمراد لم يصروا عالمين بمعنى أن عدم الإصرار متحقق
البتة.
ولك أن تقول: لم لا يجوز أن يكون الحال هنا قيدا للنفي ويكون
المعنى تركوا الإصرار على الذنب لعلمهم بأن الذنب قبيح فإن
الحال قد يجيء في معرض التعليل.
وحديث إن ترك الإصرار موجب للأجر والجزاء سواء كان مع العلم
بالقبح أو مع الجعل فلا دخل لمضمون الحال في إيجاب الأجر؟ مجاب
عنه بأنه ليس المقصود من ذكر الحال تقييد الإصرار بها لإيجاب
الأجر حتى يرد عليه ما ذكر بل المراد مدحهم بأن تركهم الإصرار
على الذنب لأجل أن فيهم ما هو زاجر عنه وهو علمهم بقبح الذنب
فيكون مدح لهم بأن من صفاتهم التحرز عن القبائح، وادعى بعض
المتأخرين تعين كون الحال قيدا للمنفي وأن النفي راجع إلى
القيد، والمعنى لم يكن لهم الإصرار مع العلم بقبح الجزاء لأن
المصر مع عدم العلم بالقبح لا يحرم الجزاء وغير المصر لكسالة
أو لعدم ميل الطبع لا يبلغه لأن الجزاء على الكف لا على العدم
وإلا لكان لكل أحد أجزية لا تتناهى لعدم فعل قبائح لا تتنامى
لم تخطر بباله، ولا يخفى ما في قوله: «وغير المصر» إلخ، وقوله:
«لأن الجزاء» إلخ
(2/276)
من النظر، وكأن من جعله حالا من ضمير-
استغفروا- أراد الفرار من هذه الدغدغة، وأنا أقول: إن الحال
قيد للنفي ومتعلق العلم وليس هو القبح بل إنه يغفر لمن استغفر
ويتوب على من تاب، وهو المروي عن مجاهد كما أخرجه جماعة عنه،
وحكي عن الضحاك أيضا. والمعنى أنهم تركوا الإقامة على الذنب
عالمين بأن الله تعالى يقبل التوبة من عباده ويغفر لهم، وهو
إيذان بأنهم لا ييأسون من روح الله سبحانه ولا يرد على هذا
دعوى عدم الفائدة كما أورد أولا إذ من المعلوم الذي لا شبهة
فيه أن ترك الإصرار إنما يوجب الأجر إذا لم يكن معه يأس فإنه
لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولعل مدحهم بأنهم
يعلمون ذلك أولى من مدحهم بأنهم يعلمون قبح الفعل، وربما يقال:
إن الجملة سيقت معترضة لذلك كما سيقت كذلك جملة وَمَنْ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ لما سيقت له، وأما جعلها
معطوفة على جملة- لم يصروا- ورب شيء يصح تبعا ولا يصح استقلالا
فليس بالذي تميل النفس إليه أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين
أخيرا باعتبار اتصافهم بما تقدم من الصفات الحميدة، والبعد
للإشعار ببعد منزلتهم في الفضل، وإلى هذا ذهب المعظم، وقيل: هو
إشارة إلى المذكورين وهم طائفة واحدة، وهو مبتدأ، وقوله تعالى:
جَزاؤُهُمْ بدل اشتمال منه أو مبتدأ ثان، وقوله تعالى:
مَغْفِرَةٌ خبر أُولئِكَ أو خبر المبتدأ الثاني، والجملة خبر
الأول، وهذه الجملة خبر وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا إلخ على
الوجه الأول، وادعى مولانا شيخ الإسلام أنه الأظهر الأنسب بنظم
المغفرة المنبئة عن سابقة الذنب في سلك الجزاء إذ على الوجهين
الأخيرين أُولئِكَ إلخ جملة مستأنفة مبينة لما قبلها كاشفة عن
حال كلا الفريقين المحسنين والتائبين ولم يذكر ما هو من أوصاف
الأولين ما في شائبة الذنب حتى يذكر في مطلع الجزاء الشامل
لهما المفرة، وتخصيص الإشارة بالأخيرين مع اشتراكهما في حكم
إعداد الجنة لهما تعسف ظاهر انتهى.
والذي يشعر به ظاهر ما أخرجه ابن جرير عن الحسن أنه قرأ
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ الآية ثم
قرأ وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الآية فقال: إن هذين
النعتين لنعت رجل واحد أحد الوجهين الأخيرين اللذين أشار
إليهما بل الأول منهما، وتكون هذه الإشارة كما قال صاحب القيل،
وهذه المغفرة هي المغفرة التي أمر جميع المؤمنين من له ذنب ومن
لا ذنب له منهم بالمسارعة إلى ما يؤدي إليها فلا يضر وقوعها في
مطلع الجزاء مِنْ رَبِّهِمْ متعلق بمحذوف وقع صفة للمغفرة
مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية
أي مغفرة عظيمة كائنة من جهته تعالى، والتعرض لعنوان الربوبية
مع الإضافة إلى ضميرهم للإشعار بعلة الحكم مع التشريف
وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ عطف على
مَغْفِرَةٌ والمراد بها جنات في ضمن تلك الجنة التي أخبر
سبحانه أن عرضها السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وليس جنات وراءها على
ما يقتضيه كلام صاحب القيل إلا أنه لم يكتف بإعداد ما وصف أولا
تنصيصا على وصفها باشتمالها على ما يزيدها بهجة من الأنهار
الجالية بعد وصفها بالسعة والإخبار بأنها جزاؤهم وأجرهم الذي
لا بد بمقتضى الفضل أن يصل إليهم، وهذا فوق الإخبار بالأعداد
أو مؤكد له فالتنوين للتعظيم على طرز ما ذكر في المعطوف عليه،
وادعى شيخ الإسلام أن التنكير يشعر بكونها أدنى من الجنة
السابقة، وإن ذلك مما يؤيد رجحان الوجه الأول الذي أشار إليه
وفيه تردد خالِدِينَ فِيها حال مقدرة من الضمير المجرور في
جَزاؤُهُمْ لأنه مفعول به معنى إذ هو في قوة يجزيهم الله جنات
خالدين فيها، ولا مساغ لأن يكون حالا من جنات في اللفظ وهي
لأصحابها في المعنى إذ هو في قوة يجزيهم الله جنات خالدين
فيها، ولا مساغ لأن يكون حالا من جنات في اللفظ وهي المخصوص
بالمدح محذوف أي ونعم أجر العاملين الجنة، وعلى ذلك اقتصر
مقاتل، وذهب غير واحد أنه ذلك أي ما ذكر من المغفرة والجنات.
وفي الجملة على ما نص عليه بعض المحققين وجوه من المحسنات:
أحدها أنها كالتذييل للكلام السابق
(2/277)
فيفيد مزيد تأكيد للاستلذاذ بذكر الوعد،
وثانيها في إقامة الأجر موضع ضمير الجزاء لأن الأصل وَنِعْمَ
هو أي جزاؤهم إيجاب إنجاز هذا الوعد وتصوير صورة العمل في
العمالة تنشيطا للعامل، وثالثها في تعميم العاملين وإقامته
مقام الضمير الدلالة على حصول المطلوب للمذكورين بطريق برهاني.
ولمراد من الكلام السابق الذي جعل هذا كالتذييل له إما الكلام
الذي في شأن التائبين، أو جميع الكلام السابق على الخلاف الذي
ذكرناه آنفا، ومن ذهب إلى الأول قال: وكفاك في الفرق بين
القبيلين وهما المتقون الذين أتوا بالواجبات بأسرها واجتنبوا
المعاصي برمتها، والمستغفرون لذنوبهم بعد ما أذنبوا وارتكبوا
الفواحش والظلم أنه تعالى فصل آية الأولين بقوله سبحانه
وتعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ المشعر بأنهم محسنون
محبوبون عند الله تعالى، وفصل آية الآخرين بقوله جلا وعلا:
وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ المشعر بأن هؤلاء أجراء وأن ما
أعطوا من الأجر جزاء لتداركهم بعض ما فوتوه على أنفسهم، وأين
هذا من ذاك وبعيد ما بين السمك والسماك، ولا يخفى أنه على
تقدير كون النعتين نعت رجل واحد كما حكي عن الحسن يمكن أن
يقال: إن ذكر هذه الجملة عقيب تلك لما ذكره بعض المحققين وأي
مانع من الاخبار بأنهم محبوبون عند الله تعالى وأن الله تعالى
منجز ما وعدهم به ولا بدّ، وكونهم إذا أذنبوا استغفروا وتابوا
لا ينافي كونهم محسنين أما إذا أريد من الإحسان الانعام على
الغير فظاهر، وأما إذا أريد به الإتيان بالأعمال على الوجه
اللائق- أو
أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك- كما
صرح به في الصحيح
فلأن ذلك لو نافى لزم أن لا يصدق المحسن إلا على نحو المعصوم
ولا يصدق على من عبد الله تعالى وأطاعه مدة مديدة على أليق وجه
وأحسنه ثم عصاه لحظة فندم أشد الندم واستغفر سيد الاستغفار ولا
أظن أحدا يقول بذلك فتدبر.
ثم إن في هذه الآيات- على ما ذهب إليه المعظم- دلالة على أن
المؤمنين ثلاث طبقات، متقين وتائبين ومصرين، وعلى أن غير
المصرين تغفر ذنوبهم ويدخلون الجنة، وأما أنها تدل على أن
المصرين لا تغفر ذنوبهم ولا يدخلون الجنة كما زعمه البعض فلا
لأن السكوت عن الحكم ليس بيانا لحكمهم عند بعض ودال على
المخالفة عند آخرين وكفى في تحققها أنهم مترددون بين الخوف
والرجاء وأنهم لا يخلون عن تعنيف أقله تعييرهم بما أذنبوه
مفصلا- ويا له من فضيحة- وهذا ما لا بد منه على ما دلت عليه
نصوص الكتاب والسنة وحينئذ لم يتم لهم المغفرة الكاملة كما
للتائبين على أن مقتضى ما في الآيات أن الجنة لا تكون جزاء
للمصر وكذلك المغفرة أما نفي التفضل بهما فلا، وهذا على أصل
المعتزلة واضح للفرق بين الجزاء والتفضل وجوبا وعدم وجوب، وأما
على أصل أهل السنة فكذلك لأن التفضل قسمان: قسم مترتب على
العمل ترتب الشبع على الأكل يسمى أجرا وجزءا وقسم لا يترتب على
العمل فمنه ما هو تتميم للأجر كما أو كيفا كما وعده من الأضعاف
وغير ذلك، ومنه ما هو محض التفضل حقيقة واسما كالعفو عن أصحاب
الكبائر ورؤية الله تعالى في دار القرار وغير ذلك مما لا يعلمه
إلا الله تعالى قاله بعض المحققين، وذكر العلامة الطيبي أن
قوله تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ
لِلْكافِرِينَ وردت خطابا لآكلي الربا من المؤمنين وردعا لهم
عن الإصرار على ما يؤديهم إلى دركات الهالكين من الكافرين
وتحريضا على التوبة والمسارعة إلى نيل الدرجات مع الفائزين من
المتقين والتائبين، فإدراج المصرين في هذا المقام بعيد المرمى
لأنه إغراء وتشجيع على الذنب لا زجر ولا ترهيب فبين بالآيات
معنى المتقين للترغيب والترهيب ومزيد تصوير مقامات الأولياء
ومراتبهم ليكون حثا لهم على الانخراط في سلكهم ولا بدّ من ذكر
التائبين واستغفارهم وعدم الإصرار ليكون لطفا لهؤلاء وجميع
الفوائد التي ذكرت في قوله سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ تدخل في المعنى، فعلم من هذا أن
دلالة وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا مهجورة لأن مقام
التحريض والحث أخرج المصرين، والحاصل أن شرط دلالة المفهوم هنا
منتف فلا يصح
(2/278)
هَذَا بَيَانٌ
لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا
تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ
مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ
جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ
كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ
فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ
وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ
شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ
لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا
مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا
وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا
وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ
قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا
أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا
اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا
كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ
أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
(147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ
الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا
يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ
(149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ
(150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ
بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى
الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ
إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ
وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا
أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا
وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ
لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو
فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا
تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي
أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا
تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
الاحتجاج بذلك للمعتزلة أصلا قَدْ خَلَتْ
أي مضت مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ أي وقائع في الأمم المكذبة
أجراها الله تعالى حسب عادته، وقال المفضل: إن المراد بها
الأمم، وقد جاءت السنة بمعنى الأمة في كلامهم، ومنه قوله:
ما عاين الناس من فضل كفضلكم ... ولا رأوا مثلكم في سالف السنن
وقال عطاء: المراد بها الشرائع والأديان، فالمعنى قد مضت من
قبلكم سنن وأديان نسخت، ولا يخفى أن الأول أنسب بالمقام لأن
هذا إما مساق لحمل المكلفين أو آكلي الربا على فعل الطاعة أو
على التوبة من المعصية أو على كليهما بنوع غير ما سبق- كما
قيل- وإما عود إلى تفصيل بقية القصة بعد تمهيد مبادئ الرشد
والصلاح وترتيب مقدمات الفوز والفلاح على رأي، وذكر مضي
الأديان ليس له كثير ارتباط بذلك، وإن زعم بعضهم أن فيه تثبيتا
للمؤمنين على دين النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لئلا يهنوا
بقول اليهود إن دين موسى عليه السلام لا ينسخ ولا يجوز النسخ
على الله تعالى لأنه بداء وتحريضا لليهود وحثا على قبول دين
الإسلام وإنذارا لهم من أن يقع عليهم مثل ما وقع على المكذبين
وتقوية لقلوب المؤمنين بأنه سينصرهم على المكذبين، نعم إطلاق
السنة على الشريعة أقرب من إطلاقها على الوقعة لأنها في الأصل
الطريقة والعادة، ومنه قولهم: سنة النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم، والجار والمجرور إما متعلق بخلت أو بمحذوف وقع حالا من
سُنَنٌ أي سنن كائنة من قبلكم فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي
بأقدامكم أو بأفهامكم فَانْظُروا أي تأملوا.
كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أي آخر أمرهم الذي أدى
إليه تكذيبهم لأنبيائهم، والفاء للإيذان بسببية الخلو للسير
والنظر أو الأمر بهما، وقيل: المعنى على الشرط أي إن شككتم
فَسِيرُوا إلخ، والخطاب على كل تقدير مساق للمؤمنين، وقال
النقاش: للكفار- وفيه بعد- وكَيْفَ خبر مقدم- لكان- معلق لفعل
النظر، والجملة في محل النصب بعد نزع الخافض لأن الأصل
استعماله بالجار وتجريد الفعل عن تاء التأنيث لأن المرفوع
مجازي التأنيث.
(2/279)
هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ
لِلْمُتَّقِينَ الإشارة إما إلى القرآن- وهو المروي عن الحسن
وقتادة- وخدش بأنه بعيد عن السياق. وإما إلى ما لخص من أمر
الكفار والمتقين والتائبين، وقوله سبحانه: قَدْ خَلَتْ الآية
اعتراض للحث على الإيمان والتقوى والتوبة- كما قيل- ووجه
الاعتراض لدفع الاعتراض بأن المعترضة مؤكدة للمعترض فيه وهنا
ليس كذلك بأن تلك الآيات واردة على سبيل الترغيب والترهيب
لآكلي الربا وهذه الآية دلت على الترهيب ومعناه راجع إلى
الترغيب بحسب التضاد كما أن بعض الآيات الواردة في الرحمن
للوعيد تعدّ من الآلاء بحسب الزجر عن المعاصي فيتأتى التوكيد
دون نقص، واعترض عليه بأنه تعسف. وإما إلى ما سلف من قوله
سبحانه:
قَدْ خَلَتْ إلخ، وهو المروي عن أبي إسحاق، واختاره الطبري
والبلخي، وكثير من المتأخرين- وأل- في الناس للعهد، والمراد
بهم المكذبون، والظرف إما متعلق ببيان أو بمحذوف وقع صفة لهم
أي هذا إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب فإن الأمر
السابق وإن كان خاصا بالمؤمنين على المختار لكن العمل بموجبه
غير مختص بهم ففيه حمل للمكذبين أيضا على أن ينظروا في عاقبة
أسلافهم ليعتبروا بذلك، والموعظة ما يلين القلب ويدعو إلى
التمسك بما فيه طاعة، والهدى بيان طريق الرشد ليسلك دون طريق
الغي، والفرق بينه وبين البيان أن الثاني إظهار المعنى كائنا
ما كان ولكون المراد به هنا ما كان عاريا عن الهدى والعظة خصه
بالناس مع أن ظاهره شامل للمتقين.
والمراد بهم مقابل المكذبين وكأنه وضع موضع الضمير بناء على أن
المعنى وزيادة بصيرة وموعظة لكم للإيذان بعلة الحكم فإن مدار
ذلك كونه هدى وموعظة لهم إنما هو تقواهم وعدم تكذيبهم، وقدم
بيان كونه بيانا للمكذبين مع أنه غير مسوق له على بيان كونه
هدى للمتقين مع أنه المقصود بالسياق لأن أول ما يترتب على
مشاهدة آثار هلاك أسلافهم ظهور حال أخلافهم، وأما الهدى فأمر
مترتب عليه والاقتصار على الأمرين في جانب المتقين مع
(2/280)
ترتبهما على البيان لما أنهما المقصد
الأصلي، وقيل: أل في الناس للجنس.
والمراد بيان لجميع الناس لكن المنتفع به المتقون لأنهم يهتدون
به وينتجعون بوعظه- وليس بالبعيد- وجوز بعضهم أن يراد من
المتقين الصائرون إلى التقوى فيبقى الهدى والموعظة بلا زيادة،
وأن يراد بهم ما يعمهم وغيرهم من المتقين بالفعل فيحتاج الهدى
وما عطف عليه إلى اعتبار ما يعم الابتداء والزيادة فيه، ولا
يخفى ما في الثاني من زيادة البعد لارتكاب خلاف الظاهر في
موضعين، وأما الأول ففيه بعد من جهة الارتكاب في موضع واحد وهو
وإن شارك ما قلناه من هذه الحيثية إلا أن ما ارتكبناه يهدي
إليه في الجملة التنوين الذي في الكلمة ولا كذلك ما ارتكبوه بل
اعتبار الكمال المشعر به الإطلاق ربما يأباه ولعله لمجموع
الأمرين هان أمر نزع الخف.
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا
أخرج الواحدي عن ابن عباس أنه قال: «انهزم أصحاب رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم يوم أحد فبينما هم كذلك إذ أقبل خالد بن
الوليد بخيل المشركين يريدون أن يعلوا عليهم الجبل فقال النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم: اللهم لا قوة لنا إلا بك اللهم ليس
يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر فأنزل الله تعالى هذه الآية
وثاب نفر من المسلمين فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى
هزموهم»
وعن الزهري وقتادة أنها نزلت تسلية للمسلمين لما نالهم يوم أحد
من القتل والجراح.
وعن الكلبي أنها نزلت بعد يوم أحد حين أمر رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم أصحابه رضي الله تعالى عنهم بطلب القوم. وقد
أصابهم من الجراح ما أصابهم وقال صلى الله تعالى عليه وسلم:
«لا يخرج إلا من شهد معنا بالأمس فاشتد ذلك على المسلمين فأنزل
الله تعالى هذه الآية،
وأيّا ما كان فهي معطوفة على قوله تعالى: فَسِيرُوا فِي
الْأَرْضِ بحسب اللفظ ومرتبطة به بحسب المعنى إن قلنا إنه عود
إلى التفصيل، وبما تقدم من قصة أحد- إن لم نقل ذلك- وبه قال
جمع، وجعلوا توسيط حديث الربا استطرادا أو إشارة إلى نوع آخر
من عداوة الدين ومحاربة المسلمين، وبه يظهر الربط وقد مر
توجيهه بغير ذلك أيضا.
ومن الناس من جعل ارتباط هذه الآية لفظا بمحذوف أي كونوا مجدين
ولا تهنوا، ومضى على الخلاف وهو تكلف مستغنى عنه، والوهن-
الضعف أي لا تضعفوا عن قتال أعدائكم والجهاد في سبيل الله
تعالى بما نالكم من الجراح وَلا تَحْزَنُوا على ما أصبتم به من
قتل الأعزة وقد قتل في تلك الغزوة خمسة من المهاجرين حمزة بن
عبد المطلب ومصعب عن بن عمير صاحب راية رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم وعبد الله بن جحش ابن عمة النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم وعثمان بن شماس وسعد مولى عتبة رضي الله تعالى
عنهم، وسبعون من الأنصار، وقيل:
لا تَحْزَنُوا على ما فاتكم من الغنيمة ولا يخفى بعده والظاهر
أن حقيقة النهي غير مرادة هنا بل المراد التسلية والتشجيع وإن
أريدت الحقيقة فلعل ذلك بالنسبة إلى ما يترتب على الوهن والحزن
من الآثار الاختيارية أي لا تفعلوا ما يترتب على ذلك
وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ جملة حالية من فاعل الفعلين أي
والحال أنكم الْأَعْلَوْنَ الغالبون دون أعدائكم فإن مصيرهم
مصير أسلافهم المكذبين فهو تصريح بعد الإشعار بالغلبة والنصر.
حكى القرطبي أنهم لم يخرجوا بعد ذلك إلا ظفروا في كل عسكر كان
في عهده عليه الصلاة والسلام وكذا في كل عسكر كان بعد، ولو لم
يكن فيه إلا واحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. أو المراد
والحال أنكم أعلى منهم شأنا فإنكم على الحق وقتالكم لإعلاء
كلمة الله تعالى وقتلاكم في الجنة وأنهم على الباطل وقتالهم
لنصرة كلمة الشيطان وقتلاهم في النار، واشتراكهم على هذا في
العلو بناء على الظاهر وزعمهم، وإذا أخذ العلو بمعنى الغلبة لا
يحتاج إلى هذا لما أن الحرب سجال وأن العاقبة للمتقين، وقيل:
المراد وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ حالا منهم حيث أصبتم
(2/281)
منهم يوم بدر أكبر مما أصابوا منكم اليوم،
ومن الناس من جوز كون الجملة لا محل لها من الإعراب وجعلها
معترضة بين النهي المذكور، وقوله سبحانه: إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ لأنه متعلق به معنى وإن كان الجواب محذوف أي- إن
كنتم مؤمنين فلا تهنوا ولا تحزنوا- فإن الإيمان يوجب قوة القلب
ومزيد الثقة بالله تعالى وعدم المبالاة بأعدائه، ولا يخفى أن
دعوى التعلق مما لا بأس بها لكن الحكم- بكون تلك الجملة
معترضة- معترض بالبعد، ويحتمل أن يكون هذا الشرط متعلقا-
بالأعلون- والجواب محذوف أيضا أي إن كنتم مؤمنين- فأنتم
الأعلون- فإن الإيمان بالله تعالى يقتضي العلو لا محالة،
ويحتمل أن يراد بالإيمان التصديق بوعد الله تعالى بالنصرة
والظفر على أعداء الله تعالى، ولا اختصاص لهذا الاحتمال
بالاحتمال الأخير من احتمالي التعلق كما يوهمه صنيع بعضهم،
وعلى كل تقدير المقصود من الشرط هنا تحقيق المعلق به كما في
قول الأجير: إن كنت عملت لك فأعطني أجري، أو من قبيل قولك
لولدك:
إن كنت ابني فلا تعصني، وحمل بعضهم الشرط على التعليل أي لا
تهنوا ولا تحزنوا لأجل كونكم مؤمنين، أو وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ لأجل ذلك، والقول بأن المراد إن بقيتم على
الإيمان ليس له كمال ملاءمة للمقام إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ
فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ قرأ حمزة والكسائي،
وابن عياش عن عاصم بضم القاف، والباقون بالفتح، وهما لغتان-
كالدف والدف، والضعف والضعف- وقال الفراء: القرح بالفتح
الجراحة، وبالضم ألمها، ويقرأ بضم القاف والراء على الاتباع-
كاليسر واليسر، والطنب والطنب- وقرأ أبو السمال بفتحهما وهو
مصدر قرح يقرح إذا صار له قرحة والمعنى إن نالوا منكم يوم أحد
فقد نلتم منهم قبله يوم بدر، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يثبطهم
عن معاودتكم بالقتال وأنتم أحق بأن لا تضعفوا فإنكم ترجون من
الله تعالى ما لا يرجون، والمضارع على ما ذهب إليه العلامة
التفتازاني لحكاية الحال لأن المساس مضى، وأما استعمال- إن-
فبتقدير كان أي إن كان مسكم قرح، وإِنْ لا تتصرف في- كان- لقوة
دلالته على المضي، أو على ما قيل: إن إِنْ قد تجيء لمجرد
التعليق من غير نقل فعله من الماضي إلى المستقبل، وما وقع في
موضع جواب الشرط ليس بجواب حقيقة لتحققه قبل هذا الشرط، بل
دليل الجواب، والمراد إن كان مسكم قرح فذلك لا يصحح عذركم
وتقاعدكم عن الجهاد بعد لأنه قد مس أعداءكم مثله وهم على ما هم
عليه، أو يقال: إن مسكم قرح فتسلوا فقد مس القوم قرح مثله،
والمثلية باعتبار كثرة القتلى في الجملة فلا يرد أن المسلمين
قتلوا من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين، وقتل المشركون
من المسلمين يوم أحد خمسة وسبعين وجرحوا سبعين، والتزم بعضهم
تفسير القرح بمجرد الانهزام دون تكثير القتلى فرارا من هذا
الإيراد، وأبعد بعض في توجيه الآية وحملها على ما لا ينبغي أن
يحمل عليه كلام الله تعالى، فقال: الأوجه أن يقال: إن المراد
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فلا تهنوا لأنه مَسَّ الْقَوْمَ أي
الرجال قَرْحٌ مِثْلُهُ والقرح للرجال لا للنساء فمن هو من
زمرة الرجال ينبغي أن لا يعرض عما هو سمته بل ينبغي أن يسعى
له، وبهذا يظهر بقاء وجه التعبير بالمضارع وأنه على ظاهره،
وكذا يندفع ما قيل: إن قرح القوم لم يكن مثل قرحهم ولا يحتاج
إلى ما تقدم من الجواب.
وقيل: إن كلا المسين كان في أحد فإن المسلمين نالوا منهم قبل
أن يخالفوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فإنهم قتلوا
منهم نيفا وعشرين رجلا أحدهم صاحب لوائهم، وجرحوا عددا كثيرا
وعقروا عامة خيلهم بالنبل، وقيل: إن ذلك القرح الذي مسهم أنهم
رجعوا خائبين مع كثرتهم وغلبتهم بحفظ الله تعالى للمؤمنين.
وَتِلْكَ الْأَيَّامُ اسم الإشارة مشار به إلى ما بعده كما في
الضمائر المبهمة التي يفسرها ما بعدها نحو- ربه رجلا- ومثله
يفيد التفخيم والتعظيم، والْأَيَّامُ بمعنى الأوقات لا الأيام
العرفية، وتعريفها للعهد إشارة إلى أوقات الظفر والغلبة
الجارية فيما بين الأمم الماضية والآتية، ويوما بدر وأحد
داخلان فيها دخولا أوليا.
(2/282)
نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ نصرفها بينهم
فنديل لهؤلاء مرة ولهؤلاء أخرى كما وقع ذلك يوم بدر ويوم أحد،
والمداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر، يقال: تداولته الأيدي
إذا انتقل من واحد إلى واحد، والنَّاسِ عام، وفسره ابن سيرين
بالأمراء، واسم الإشارة مبتدأ، والْأَيَّامُ خبره، ونُداوِلُها
في موضع الحال، والعامل فيها معنى الإشارة أو خبر بعد خبر،
ويجوز أن تكون الْأَيَّامُ صفة أو بدلا أو عطف بيان،
ونُداوِلُها هو الخبر، وبَيْنَ النَّاسِ ظرف لنداولها، وجوز أن
يكون حالا من الهاء، وصيغة المضارع الدالة على التجدد
والاستمرار للإعلام بأن تلك المداولة سنة مسلوكة فيما بين
الأمم قاطبة إلى أن يأتي أمر الله تعالى ومن كلامهم: الأيام
دول، والحرب سجال، وفي هذا ضرب من التسلية للمؤمنين، وقرئ-
يداولها.
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا تعليل لما هو فرد من
أفراد مطلق المداولة المشار إليها فيما قبل، وهي المداولة
المعهودة الجارية بين فريقي المؤمنين والكافرين، واللام متعلقة
بما دل عليه المطلق من الفعل المقيد بالوقوع بين الفريقين
المذكورين أو بنفس الفعل المطلق باعتبار وقوعه بينهما، والجملة
معطوفة على علة أخرى لها معتبرة إما على الخصوص والتعيين
للدلالة المذكورة عليها كأنه قيل: نُداوِلُها بينكم وبين عدوكم
ليظهر أمركم وليعلم، وإما على العموم والإبهام للتنبيه على أن
العلل غير منحصرة فيما عد من الأمور، وأن العبد يسوءه ما يجري
عليه ولا يشعر بما لله في طيه من الألطاف، كأنه قيل: نجعلها
دولا بينكم لتكون حكما وفوائد جمة وَلِيَعْلَمَ إلخ، وفيه من
تأكيد التسلية ما لا يخفى، وتخصيص البيان بعلة هذا الفرد من
مطلق المداولة دون سائر أفرادها الجارية بين بقية الأمم تعيينا
أو إبهاما لعدم تعلق الغرض العلمي ببنيانها، ولك أن تجعل
المحذوف المبهم عبارة عن علل سائر أفرادها للإشارة إجمالا إلى
أن كل من أفرادها له علة داعية في الظاهر إليه كأنه قيل:
نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ كافة ليكون كيت وكيت من الحكم
الداعية إلى تلك الأفراد وَلِيَعْلَمَ إلخ، فاللام الأولى
متعلقة بالفعل المطلق باعتبار تقييده بتلك الأفراد، والثانية
باعتبار تقييده بالفرد المعهود- قاله مولانا شيخ الإسلام.
وجوزوا أن يكون الفعل معطوفا على ما قبله باعتبار المعنى كأنه
قيل: داولت بينكم الأيام لأن هذه عادتنا وَلِيَعْلَمَ إلخ،
وقيل: إن الفعل المعلل به محذوف ويقدر مؤخرا، والتقدير
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فعل ذلك ومنهم من زعم
زيادة الواو وهو من ضيق المجال، والكلام من باب التمثيل أي
ليعاملكم معاملة من يريد أن يعلم المخلصين الثابتين على
الإيمان من غيرهم. والعلم فيه مجاز عن التمييز من باب إطلاق
اسم السبب على المسبب أي ليميز الثابتين على الإيمان من غيرهم.
وحمل العلم على التمييز في حال التمثيل تطويل من غير طائل،
واختار غير واحد حمل العلم على التعلق التنجيزي المترتب عليه
الجزاء. وقد تقدم بعض الكلام على ذلك في البقرة.
وبالجملة لا يرد لزوم حدوث العلم الذي هو صفة قائمة بذاته
تعالى وإطلاق الإيمان مع أن المراد هو الرسوخ والإخلاص فيه
للإشعار بأن اسم الإيمان لا ينطلق على غيره.
وزعم بعضهم أن التقدير ليعلم الله المؤمن من المنافق إلا أنه
استغنى بذكر أحدهما عن الآخر ولا حاجة إليه، ومثله القول بحذف
المضاف أي صبر الذين، والالتفات إلى الغيبة بإسناده إلى الاسم
الجليل لتربية المهابة والإشعار بأن صدور كل واحد مما ذكر بصدد
التعليل من أفعاله تعالى باعتبار منشأ معين من صفاته التي
استجمعها هذا الاسم الأعظم مغاير لمنشأ الآخر وَيَتَّخِذَ
مِنْكُمْ شُهَداءَ جمع شهيد وهو قتيل المعركة وأراد بهم شهداء
أحد كما قاله الحسن وقتادة وابن إسحاق، و «من» ابتدائية أو
تبعيضية متعلقة- بيتخذ- أو بمحذوف وقع حالا من شُهَداءَ، وقيل:
جمع شاهد أي ويتخذ منكم شهودا معدلين بما ظهر من الثبات على
الحق والصبر على الشدائد وغير ذلك من
(2/283)
شواهد الصدق ليشهدوا على الأمم يوم
القيامة، و «من» على هذا بيانية لأن تلك الشهادة وظيفة الكل
كما يشير إليه قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً
وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143]
ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما أبطأ على
النساء الخبر خرجن يستخبرن فإذا رجلان مقتولان على دابة أو على
بعير فقالت امرأة من الأنصار: من هذان؟ قالوا: فلان وفلان
أخوها وزوجها أو زوجها وابنها فقالت: ما فعل رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم؟ قالوا: حي قالت: فلا أبالي يتخذ الله
تعالى من عباده الشهداء ونزل القرآن على ما قالت: ويَتَّخِذَ
مِنْكُمْ شُهَداءَ وكنى بالاتخاذ عن الإكرام لأن من اتخذ شيئا
لنفسه فقد اختاره وارتضاه فالمعنى ليكرم أناسا منكم بالشهادة
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي يبغضهم، والمراد من
الظالمين إما المنافقون كابن أبيّ وأتباعه الذين فارقوا جيش
الإسلام على ما نقلناه فيما قبل فهم في مقابلة المؤمنين فيما
تقدم المفسر بالثابتين على الإيمان الراسخين فيه الذين توافق
ظواهرهم بواطنهم، وإما بمعنى الكافرين المجاهرين بالكفر، وأيّا
ما كان فالجملة معترضة لتقرير مضمون ما قبلها، وفيها تنبيه على
أنه تعالى لا ينصر الكافر على الحقيقة وإنما يغلبه أحيانا
استدراجا له وابتلاء للمؤمن، وأيضا لو كانت النصرة دائما
للمؤمنين لكان الناس يدخلون في الإيمان على سبيل اليمن والفأل،
والمقصود غير ذلك وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي
ليطهرهم من الذنوب ويصفيهم من السيئات.
وأصل التمحيص كما قال الخليل: تخليص الشيء من كل عيب. يقال:
محصت الذهب إذا أزلت خبثه.
والجملة معطوفة على يَتَّخِذَ وتكرير اللام للاعتناء بهذه
العلة. ولذلك أظهر الاسم الجليل في موضع الإضمار أو لتذكير
التعليل لوقوع الفضل بينهما بالاعتراض. وهذه الأمور الثلاثة-
كما قال مولانا شيخ الإسلام- علل للمداولة المعهودة باعتبار
كونها على المؤمنين قدمت في الذكر لأنها المحتاجة إلى البيان.
ولعل تأخير العلة الأخيرة عن الاعتراض لئلا يتوهم اندراج
المذنبين في الظالمين. أو لتقترن بقوله عز وجل: وَيَمْحَقَ
الْكافِرِينَ لما بينهما من المناسبة حيث إن في كل من التمحيص
والمحق- إزالة إلا أن في الأول إزالة الآثار وإزاحة الأوضار،
وفي الثاني إزالة العين وإهلاك النفس، وأصل- المحق- تنقيص
الشيء قليلا قليلا ومنه المحاق والمعنى ويهلك الكافرين، ولا
يبقى منهم أحدا ينفخ النار. وهذا علة للمداولة باعتبار كونها
عليهم. والمراد منهم هنا طائفة مخصوصة وهم الذين حاربوا رسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم أحد وأصروا على الكفر فإن
الله تعالى محقهم جميعا، وقيل: يجوز أن يكون هذا علة للمداولة
باعتبار كونها على المؤمنين أيضا فإن الكفار إذا غلبوا أحيانا
اغتروا وأوقعهم الشيطان في أو حال الأمل ووسوس لهم فبقوا مصرين
على الكفر فأهلكهم الله تعالى بذنوبهم وخلدهم في النار.
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ خطاب للمنهزمين
يوم أحد وهو كلام مستأنف لبيان ما هي الغاية القصوى من
المداولة والنتيجة لما ذكر من العلل الثلاث الأول، و «أم»
منقطعة مقدرة ببل وهمزة الاستفهام الإنكاري وكونها متصلة
وعديلها مقدر تكلف، والإضراب عن التسلية ببيان العلل فيما لقوا
من الشدة إلى تحقيق أنها من مبادئ الفوز بالمطلب الأسنى
والمقام الأعلى، والمعنى بل لا ينبغي منكم أن تظنوا أنكم
تدخلون الجنة وتفوزون بنعيمها وما أعد الله تعالى لعباده فيها
وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ حال من
ضمير تَدْخُلُوا مؤكدة للإنكار فإن رجاء الأجر من غير عمل ممن
يعلم أنه منوط به مستبعد عند العقول، ولهذا قيل:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على
اليبس
وورد عن شهر بن حوشب طلب الجنة من غير عمل ذنب من الذنوب،
وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور، وارتجاء الرحمة ممن لا
يطاع حمق وجهالة، ونفي العلم باعتبار تعلقه التنجيزي كما مر في
الإثبات على رأي.
(2/284)
ويجوز أن يكون الكلام كناية عن نفي تحقق
ذلك لأن نفي العلم من لوازم نفي التحقق إذ التحقق ملزوم علم
الله تعالى، ونفي اللازم لازم نفي الملزوم وكثيرا ما يقال: ما
علم الله تعالى في فلان خيرا ويراد ما فيه خير حتى يعلمه، وهل
يجري ذلك في نفي علمنا أم لا؟ فيه تردد والذي قطع به صاحب
الانتصاف الثاني، وإيثار الكناية على التصريح للمبالغة في
تحقيق المعنى المراد- وهو عدم تحقق الجهاد الذي هو سبب للفوز
الأعظم منهم- لما أن الكلام عليها كدعوى الشيء ببينة، وفي ذلك
رمز أيضا إلى ترك الرياء، وأن المقصود علم الله تعالى لا
الناس، وإنما وجه النفي إلى الموصوفين مع أن المنفي هو الوصف
الذي هو الجهاد للمبالغة في بيان انتفاء ذلك، وعدم تحققه أصلا
وكيف تحقق صفة بدون موصوف، وفي اختيار لَمَّا على لم إشارة إلى
أن الجهاد متوقع منهم فيما يستقبل بناء على ما يفهم من كلام
سيبويه أن لَمَّا تدل على توقع الفعل المنفي بها، وقد ذكر
الزجاج أنه إذا قيل: قد فعل فلان فجوابه- لما يفعل، وإذا قيل:
فعل؟ فجوابه لم يفعل، فإذا قيل: لقد فعل، فجوابه ما فعل كأنه
قال: والله لقد فعل فقال المجيب:
والله ما فعل، وإذا قيل: هو يفعل يريد ما يستقبل، فجوابه لا
يفعل، وإذا قيل: سيفعل، فجوابه لن يفعل، فقول أبي حيان:
إن القول بأن لَمَّا تدل على توقع الفعل المنفي بها فيما
يستقبل لا أعلم أحدا من النحويين ذكره غير متعدّ به، نعم هذا
التوقع هنا غير معتبر في تأكيد الإنكار، وقرئ «ويعلم» بفتح
الميم على أن أصله يعلمن بنون خفيفة فحذفت في الدرج، وقد
أجازوا حذفها إما بشرط ملاقاة ساكن بعدها أو مطلقا، ومن ذلك
قوله:
إذا قلت قدني قال بالله حلفة ... لتغني عني ذا أنائك أجمعا
على رواية فتح اللام وقيل: إن فتح الميم لاتباع اللام ليبقى
تفخيم اسم الله عز اسمه، ومِنْكُمْ حال من الَّذِينَ ومن فيه
للتبعيض، فيؤذن بأن الجهاد فرض كفاية وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ
نصب بإضمار إن، وقيل: بواو الصرف، والكلام على طرز- لا تأكل
السمك وتشرب اللبن- أي أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، والحال أنه
لم يتحقق منكم الجهاد والصبر أي الجمع بينهما، وإيثار الصابرين
على الذين صبروا للإيذان بأن المعتبر هو الاستمرار على الصبر
وللمحافظة على رؤوس الآي، وقيل: الفعل مجزوم بالعطف على
المجزوم قبله وحرك لالتقاء الساكنين بالفتحة للخفة والاتباع،
ويؤيد ذلك قراءة الحسن وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ بكسر الميم،
وقرئ «ويعلم» بالرفع على أن الواو للاستئناف أو للحال بتقدير
وهو يعلم، وصاحب الحال الموصول كأنه قيل: ولما تجاهدوا وأنتم
صابرون وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ خطاب لطائفة
من المؤمنين لم يشهدوا غزوة بدر لعدم ظنهم الحرب حين خرج رسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليها فلما وقع ما وقع ندموا
فكانوا يقولون: ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر ونستشهد كما
استشهدوا فلما أشهدهم الله تعالى أحدا لم يلبث إلا من شاء الله
تعالى منهم.
فالمراد بالموت هنا الموت في سبيل الله تعالى وهي الشهادة ولا
بأس بتمنيها ولا يرد أن في تمني ذلك تمني غلبة الكفار لأن قصد
المتمني الوصول إلى نيل كرامة الشهداء لا غير، ولا يذهب إلى
ذلك وهمه كما أن من يشرب دواء النصراني مثلا يقصد الشفاء لا
نفعه ولا ترويج صناعته، وقد وقع هذا التمني من عبد الله بن
رواحة من كبار الصحابة ولم ينكر عليه، ويجوز أن يراد بالموت
الحرب فإنها من أسبابه، وبه يشعر كلام الربيع وقتادة فحينئذ
المتمني الحرب لا الموت مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ متعلق ب
تَمَنَّوْنَ مبين لسبب إقدامهم على التمني أي من قبل أن
تشاهدوا وتعرفوا هوله، وقرئ بضم اللام على حذف المضاف إليه
ونية معناه وأن تلقوه حينئذ بدل من الموت بدل اشتمال أي كنتم
تمنون الموت أن تلقوه من قبل ذلك، وقرئ: «تلاقوه» من المفاعلة
التي تكون بين اثنين وما لقيك فقد لقيته، ويجوز أن يكون من باب
سافرت والضمير عائد إلى الموت، وقيل: إلى العدو المفهوم من
الكلام وليس بشيء فَقَدْ
(2/285)
رَأَيْتُمُوهُ أي ما تمنيتموه من الموت
بمشاهدة أسبابه أو أسبابه، والفاء فصيحة كأنه قيل: إن كنتم
صادقين في تمنيكم ذلك فقد رأيتموه، وإيثار الرؤية على الملاقاة
إما للإشارة إلى انهزامهم أو للمبالغة في مشاهدتهم له كتقييد
ذلك بقوله سبحانه وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ لأنه في موضع الحال
من ضمير المخاطبين أي رأيتموه معاينين له، وهذا على حد قولك:
رأيته وليس في عيني علة أي رأيته رؤية حقيقية لا خفاء فيها ولا
شبهة، وقيل: تَنْظُرُونَ بمعنى تتأملون وتتفكرون أي وأنتم
تتأملون الحال كيف هي، وقيل: معناه وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إلى
محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وعلى كل حال فالمقصود من هذا
الكلام عتاب المنهزمين على تمنيهم الشهادة وهم لم يثبتوا حتى
يستشهدوا، أو على تمنيهم الحرب وتسببهم لها تم جبنهم وانهزامهم
لا على تمني الشهادة نفسها لأن ذلك مما لا عتاب عليه كما وهم
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ
روي أنه لما التقى الفئتان يوم أحد وحميت الحرب قال رسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم: «من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به
العدو حتى ينحني؟ فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري ثم
تعمم بعمامة حمراء وجعل يتبختر ويقول:
أنا الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسفح لدى النحيل
أن لا أقوم الدهر في الكبول ... أضرب بسيف الله والرسول
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنها لمشية يبغضها
الله تعالى ورسوله إلا في هذا الموضع فجعل لا يلقى أحدا إلا
قتله وقاتل علي كرم الله تعالى وجهه قتالا شديدا حتى التوى
سيفه وأنزل الله تعالى النصر على المسلمين وأدبر المشركون فلما
نظر الرماة إلى القوم قد انكشفوا والمسلمون ينتهبون الغنيمة
خالفوا أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا قليلا منهم
فانطلقوا إلى العسكر فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة
واشتغال الناس بالغنيمة ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من
المشركين وحمل على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم من
خلفهم في مائتين وخمسين فارسا ففرقوهم وقتلوا نحوا من ثلاثين
رجلا ورمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسول الله صلّى الله عليه
وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه الكريم وأقبل يريد قتله فذب
عنه مصعب بن عمير صاحب الراية رضي الله تعالى عنه حتى قتله ابن
قميئة.
وقيل: إن الرامي عتبة بن أبي وقاص فرجع وهو يرى أنه قتل رسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: إني قتلت محمدا وصرخ صارخ
لا يدري من هو حتى قيل: إنه إبليس ألا إن محمدا قد قتل فانكفأ
الناس وجعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يدعو: إليّ
عباد الله فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه حتى كشفوا عنه
المشركين ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه ونثل له
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كنانته وكان يقول ارم فداك
أبي وأمي وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست وعين قتادة حتى
وقعت على وجنته فأعادها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
فعادت كأحسن ما كانت فلما انصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم أدركه أبيّ بن خلف الجمحي وهو يقول: لا نجوت إن نجوت فقال
القوم: يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منا، فقال: دعوه حتى
إذا دنا منه تناول رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحربة من
الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه وخدشه خدشة فتدهدى
من فرسه وهو يخور كما يخور الثور وهو يقول: قتلني محمد وكان
أبي قبل ذلك يلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيقول: عندي
رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها ورسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم يقول له: بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى
فاحتمله أصحابه وقالوا: ليس عليك بأس فقال: بلى لو كانت هذه
الطعنة بربيعة ومضر لقتلهم أليس قال لي: أقتلك؟ فلو بزق على
بعد تلك المقالة قتلني فلم يلبث إلا يوما حتى مات بموضع يقال
له سرف. ولما فشا في الناس أن رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم قد قتل قال بعض المسلمين: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن
أبيّ فيأخذ لنا أمانا من أبي
(2/286)
سفيان، وبعضهم جلسوا وألقوا بأيديهم. وقال
أناس من أهل النفاق إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأول،
فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك: إن كان محمد قد قتل فإن رب
محمد لم يقتل وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلّى الله عليه
وسلم؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه ثم
قال: اللهم إني أعتذر إليك مما قال هؤلاء- يعني المسلمين-
وأبرأ إليك عما قال هؤلاء- يعني المنافقين- ثم شد بسيفه فقاتل
حتى قتل رضي الله تعالى عنه.
وروي أن أول من عرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كعب بن
مالك قال: عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي يا
معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
فأشار إليّ أن اسكت فانحازت إليه طائفة من أصحابه رضي الله
تعالى عنهم فلامهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على الفرار
فقالوا: يا رسول الله فديناك بآبائنا وأبنائنا أتانا الخبر
بأنك قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين» فأنزل الله تعالى هذه
الآية
ومُحَمَّدٌ علم لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم منقول من اسم
المفعول من حمد المضاعف لغة سماه به جده عبد المطلب السابع
ولادته لموت أبيه قبلها ولما سئل عن ذلك قال لرؤية رآها: رجوت
أن يحمد في السماء والأرض، ومعناه قبل النقل من يحمد كثيرا
وضده المذمم،
وفي الخبر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «ألم تروا كيف
صرف الله تعالى عني لعن قريش وشتمهم يشتمون مذمما وأنا محمد» .
وقد جمع هذا الاسم الكريم من الأسرار ما لا يحصى حتى قيل: إنه
يشير إلى عدة الأنبياء كإشارته إلى المرسلين منهم عليهم الصلاة
والسلام وعبر عنه صلى الله تعالى عليه وسلم بهذا الاسم هنا
لأنه أول أسمائه وأشهرها وبه صرخ الصارخ، وهو مرفوع على
الابتداء وخبره ما بعد إلا ولا عمل- لما- بالاتفاق لانتقاض
نفيه بإلا، واختلفوا في القصر هل هو قصر قلب أم قصر إفراد؟
فذهب العلامة الطيبي وجماعة إلى أنه قصر قلب لأنه جعل
المخاطبون بسبب ما صدر عنهم من النكوص على أعقابهم عند الإرجاف
بقتل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كأنهم اعتقدوا أن محمدا
صلى الله تعالى عليه وسلم، ليس حكمه حكم سائر الرسل المتقدمة
في وجوب اتباع دينهم بعد موتهم بل حكمه على خلاف حكمهم فأنكر
الله تعالى عليهم ذلك وبين أن حكم النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم حكم من سبق من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم
أجمعين في أنهم ماتوا وبقي أتباعهم متمسكين بدينهم ثابتين عليه
فتكون جملة قَدْ خَلَتْ إلخ صفة لرسول منبئة عن كونه صلى الله
تعالى عليه وسلم في شرف الخلو فإن خلو مشاركيه في منصب الرسالة
من شواهد خلوه لا محالة كأنه قيل: قد خلت من قبله أمثاله
فسيخلو كما خلوا، والقصر منصب على هذه الصفة فلا يرد أنه يلزم
من قصر القلب أن يكون المخاطبون منكرين للرسالة لأن ذلك ناشئ
من الذهول عن الوصف، وقيل: الجملة في موضع الحال من الضمير في
رسول والانصباب هو الانصباب.
وذهب صاحب المفتاح إلى أنه قصر إفراد إخراجا للكلام على خلاف
مقتضى الظاهر بتنزيل استعظامهم عدم بقائه صلّى الله عليه وسلم
منزلة استبعادهم إياه وإنكارهم له حتى كأنهم اعتقدوا فيه وصفين
الرسالة والبعد عن الهلاك فقصر على الرسالة نفيا للبعد عن
الهلاك، واعترض بأنه يتعين على هذا جعل جملة قَدْ خَلَتْ
مستأنفة لبيان أنه صلّى الله عليه وسلم ليس بعيدا عن عدم
البقاء كسائر الرسل إذ على اعتبار الوصف لا يكون إلا قصر قلب
لانصباب القصر عليه، وكون الجملة مستأنفة بعيد لمخالفته
القاعدة في الجمل بعد النكرات، وأجيب بأن ذلك ليس بمتعين لجواز
أن تكون صفة أيضا مؤكدة لمعنى القصر متأخرة عنه في التقدير،
وقرأ ابن عباس- رسل- بالتنكير أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ الهمزة للإنكار والفاء
استئنافية أو لمجرد التعقيب، والانقلاب على الأعقاب في الأصل
الرجوع القهقرى، وأريد به الارتداد والرجوع إلى ما كانوا عليه
من الكفر في المشهور، والغرض إنكار ارتدادهم عن الدين بخلوه
صلّى الله عليه وسلم
(2/287)
بموت أو قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله
وبقاء دينهم متمسكا به، واستشكل بأن القوم لم يرتدوا فكيف عبر
بالانقلاب على الأعقاب المتبادر منه ذلك؟ وأجيب بأنه ليس
المراد ارتدادا حقيقة وإنما هو تغليظ عليهم فيما كان منهم من
الفرار والانكشاف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وإسلامهم
إياه للهلك، وقيل: الإنكار هنا بمعنى أنه لم يكن ذلك ولا ينبغي
لا إنكار لما وقع، وقيل: هو إخبار عما وقع لأهل الردة بعد موته
صلى الله تعالى عليه وسلم وتعريض بما وقع من الهزيمة لشبهه به.
وحمل بعضهم الانقلاب هنا على نقص الإيمان لا الكفر بعده
احتجاجا بما
أخرجه ابن المنذر عن الزهري قال: «لما نزلت هذه الآية
لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الفتح: 4] قالوا: يا
رسول الله قد علمنا أن الإيمان يزداد فهل ينقص؟ قال: إي والذي
بعثني بالحق إنه لينقص قالوا: فهل لذلك دلالة في كتاب الله
تعالى؟ قال: نعم، ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم
أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ
والانقلاب نقصان لا كفر ولا يخفى أن هذا الخبر ليس من القوة
إلى حيث يحتج به وإني لا أجد عليه طلاوة الأحاديث الصحيحة.
وذهب بعضهم إلى أن الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة التي
قبلها على معنى التسبب، والهمزة لإنكار ذلك أي لا ينبغي أن
تجعلوا خلو الرسل قبله سببا لانقلابكم على أعقابكم بعد موته أو
قتله بل اجعلوه سببا للتمسك بدينه كما هو حكم سائر الأنبياء
عليهم السلام ففي انقلابكم على أعقابكم تعكيس لموجب القضية
المحققة التي هي كوله رسولا يخلو كما خلت الرسل، وإيراد الموت
بكلمة إن مع العلم البتة لتنزيل المخاطبين منزلة المترددين فيه
لما ذكر من استعظامهم إياه، قال المولى: وهكذا الحال في سائر
الموارد فإن كلمة إن في كلام الله تعالى لا تجري على ظاهرها
أصلا ضرورة علمه تعالى بالوقوع أو اللاوقوع بل تحمل على اعتبار
حال السامع، أو أمر آخر يناسب المقام، والمراد من- الموت-
الموت على الفراش وبالقتل- الموت بواسطة نقض البنية وقدم تقدير
الموت مع أن تقدير القتل هو الذي كاد يجر الموت الأحمر لما أن
الموت في شرف الوقوع فزجر الناس عن الانقلاب عنده وحملهم على
الثبات هناك أهم، ولأن الوصف الجامع في نفس الأمر بينه صلى
الله تعالى عليه وسلم وبين الرسل عليهم الصلاة والسلام هو
الموت دون القتل خلافا لمن زعمه مستدلا بما ورد من أكلة خيبر،
وإن كان قد وقع فيهم قتل وموت وإنما ذكر القتل مع علمه سبحانه
أنه لا يقتل لتجويز المخاطبين له وآية وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] على تقدير نزولها قبل أحد يحتمل
أنها لم تصل هؤلاء المنهزمين، وبتقدير وصولها احتمال أن لا
تحضرهم قائم في مثل ذلك المقام الهائل، وقد غفل عمر رضي الله
تعالى عنه عن هذه الآية يوم توفي رسول الله صلّى الله عليه
وسلم.
فقد روى أبو هريرة أنه رضي الله تعالى عنه قام يومئذ فقال: إن
رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم توفي وإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والله ما
مات ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه
أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات والله ليرجعن
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما رجع موسى فليقطعن أيدي
رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
مات، فخرج أبو بكر فقال: على رسلك يا عمر انصت فحمد الله تعالى
وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس من كان بعيد محمدا فإن محمدا قد
مات ومن كان يعبد الله تعالى فإن الله تعالى حي لا يموت، ثم
تلا هذه الآية وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ إلى آخرها فو
الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو
بكر يومئذ فأخذها الناس من أبي بكر، وقال عمر: فو الله ما هو
إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني
رجلاي وعرفت أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد مات،
والاعتذار باختصاص فهم آية العصمة بالعلماء من الصحابة وذوي
البصيرة منهم مع ظهور معنى اللفظ كما اعتذر به الزمخشري لا
يخفى ما فيه، وكون المراد منها العصمة من فتنة الناس
(2/288)
وإضلالهم لا يخفى بعده لأن النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم لا يظن به ذلك، وإنما يرد مثله في معرض
الإلهاب والتعريض وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ
يَضُرَّ اللَّهَ بما فعل من الانقلاب لأنه تعالى لا تجوز عليه
المضار شَيْئاً من الضرر وإن قل وإنما يضر نفسه بتعريضها للسخط
والعذاب أو بحرمانها مزيد الثواب، ويشير إلى ذلك توجه النفي
إلى المفعول فإنه يفيد أنه يضر غير الله تعالى وليس إلا نفسه
وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ أي سيثيب الثابتين على دين
الإسلام، ووضع الشاكرين موضع الثابتين لأن الثبات عن ذلك ناشيء
عن تيقن حقيته وذلك شكر له، وفيه إيماء إلى كفران المنقلبين،
وإلى
تفسير الشاكرين بالثابتين ذهب علي كرم الله تعالى وجهه وقد
رواه عنه ابن جرير،
وكان يقول:
الثابتون هم أبو بكر وأصحابه وأبو بكر رضي الله تعالى عنه أمير
الشاكرين، وعن ابن عباس أن المراد بهم الطائعون من المهاجرين
والأنصار، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار للإعلان بمزيد
الاعتناء بشأن جزائهم واتصال هذا بما قبله اتصال الوعد
بالوعيد.
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
استئناف سيق للحض على الجهاد واللوم على تركه خشية القتل مع
قطع عذر المنهزمين خشية ذلك بالكلية. ويجوز أن يكون تسلية عما
لحق الناس بموت النبي صلّى الله عليه وسلم وإشارة إلى أنه عليه
السلام كغيره لا يموت إلا بإذن الله تعالى فلا عذر لأحد بترك
دينه بعد موته.
والمراد بالنفس الجنس وتخصيصها بالنبي عليه الصلاة والسلام كما
روي عن ابن إسحاق ليس بشيء، والموت هنا أعم من الموت حتف
الأنف، والموت بالقتل كما سنحققه، وكانَ ناقصة اسمها أَنْ
تَمُوتَ لِنَفْسٍ متعلق بمحذوف وقع خبرا لها، والاستثناء مفرغ
من أعم الأسباب.
وذهب أبو البقاء إلى أن بإذن الله خبر كانَ ولِنَفْسٍ متعلق
بها واللام للتبيين، ونقل عن بعضهم أن الجار متعلق بمحذوف
تقديره الموت لنفس، وأَنْ تَمُوتَ تبيين للمحذوف، وحكي عن
الزجاج وبعض عن الأخفش أن التقدير- وما كان نفس لتموت- ثم قدمت
اللام وكل هذه الأقوال أوهن من الوهن لا سيما الأخير، والمعنى
ما كان الموت حاصلا لنفس من النفوس مطلقا بسبب من الأسباب إلا
بمشيئة الله تعالى وتيسيره. والإذن- مجاز عن ذلك لكونه من
لوازمه، وظاهر التركيب يدل على أن الموت من الأفعال التي يقدم
عليها اختيارا فقد شاع استعمال ما كان لزيد أن يفعل كذا فيما
إذا كان ذلك الفعل اختياريا لكن الظاهر هنا متروك بأن يجعل ذلك
من باب التمثيل بأن صور الموت بالنسبة إلى النفوس بصورة الفعل
الاختياري الذي لا يقدم عليه إلا بالإذن.
والمراد عدم القدرة عليه أو بتنزيل إقدام النفوس على مبادئه
كالقتال مثلا منزلة الإقدام عليه نفسه للمبالغة في تحقيق
المرام فإن موتها لما استحال وقوعه عند إقدامها عليه أو على
مبادئه وسعيها في إيقاعه فلأن يستحيل عند عدم ذلك أولى وأظهر،
ويجوز على هذا أن يبقى الأذن على حقيقته ومفعوله مقدر للعلم
به، والمراد بإذنه تعالى إذنه لملك الموت فإنه الذي يقبض روح
كل ذي روح بشرا كان أولا شهيدا كان أو غير شهيد برا أو بحرا
حتى قيل: إنه يقبض روح نفسه، واستثنى بعضهم أرواح شهداء البحر
فإن الله تعالى هو الذي يقبضها بلا واسطة واستدل بحديث جويبر-
وهو ضعيف جدا- وفيه من طريق الضحاك انقطاع، وذهب المعتزلة إلى
أن ملك الموت إنما يقبض أرواح الثقلين دون غيرهم، وقال بعض
المبتدعة: إنه يقبض الجميع سوى أرواح البهائم فإن أعوانه هم
الذين يقبضونها ولا تعارض بين اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ
حِينَ مَوْتِها [الزمر: 42] ويَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ
[السجدة: 11] تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا [الأنعام:
61] لأن إسناد ذلك له تعالى بطريق الخلق والإيجاد الحقيقي،
وإلى الملك لأنه المباشر له، وإلى الرسل لأنهم أعوانه
المعالجون للنزع من العصب والعظم واللحم والعروق كِتاباً مصدر
مؤكد لعامله المستفاد من الجملة السابقة
(2/289)
والمعنى كتب ذلك الموت المأذون فيه كتابا
مُؤَجَّلًا أي موقتا بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر، وقيل:
حكما لازما مبرما وهو صفة كِتاباً ولا يضر التوصيف بكون المصدر
مؤكدا بناء على أنه معلوم مما سبق وليس كل وصف يخرج عن
التأكيد، ولك- لما في ذلك من الخفاء- أن تجعل المصدر لوصفه
مبينا للنوع وهو أولى من جعله مؤكدا، وجعل مُؤَجَّلًا حالا من
الموت لا صفة له لبعد ذلك غاية البعد فتدبر.
وقرئ «موجلا» بالواو بدل الهمزة على قياس التخفيف، وظاهر الآية
يؤيد مذهب أهل السنة القائلين إن المقتول ميت بأجله أي بوقته
المقدر له وأنه لو لم يقتل لجاز أن يموت في ذلك الوقت وأن لا
يموت من غير قطع بامتداد العمر ولا بالموت بدل القتل إذ على
تقدير عدم القتل لا قطع بوجود الأجل وعدمه فلا قطع بالموت ولا
بالحياة، وخالف في ذلك المعتزلة فذهب الكعبي منهم إلى أن
المقتول ليس بميت لأن القتل فعل العبد والموت فعل الله سبحانه
أي مفعوله وأثر صفته، وأن للمقتول أجلين: أحدهما القتل والآخر
الموت وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أجله الذي هو الموت، وذهب أو
الهذيل إلى أن المقتول لو لم يقتل لمات البتة في ذلك الوقت.
وذهب الجمهور منهم إلى أن القاتل قد قطع على المقتول أجله وأنه
لو لم يقتل لعاش إلى أمد هو أجله الذي علم الله تعالى موته فيه
لولا القتل، وليس النزاع بين الأصحاب والجمهور لفظيا كما رآه
الأستاذ وكثير من المحققين حيث قالوا: إنه إذا كان الأجل زمان
بطلان الحياة في علم الله تعالى لكان المقتول ميتا بأجله بلا
خلاف من المعتزلة في ذلك إذ هم لا ينكرون كون المقتول ميتا
بالأجل الذي علمه الله تعالى وهو الأجل بسبب القتل، وإن قيد
بطلان الحياة بأن لا يترتب على فعل من العبد لم يكن كذلك بلا
خلاف من الأصحاب فيه إذ هم يقولون بعدم كون المقتول ميتا
بالأجل غير المرتب على فعل العبد لأنا نقول حاصل النزاع أن
المراد بأجل المقتول المضاف إليه زمان بطلان حياته بحيث لا
محيص عنه ولا تقدم ولا تأخر على ما يشير إليه قوله تعالى:
فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا
يَسْتَقْدِمُونَ [يونس: 49] ويرجع الخلاف إلى أنه هل تحقق ذلك
في حق المقتول أم المعلوم في حقه أنه إن قتل مات وإن لم يقتل
يعش كذا في شرح المقاصد، ولعله جواب باختيار الشق الأول، وهو
أن المراد زمان بطلان الحياة في علم الله تعالى لكنه لا مطلقا
بل على ما علمه تعالى وقدره بطريق القطع وحينئذ يصلح محلا
للخلاف لأنه لا يلزم من عدم تحقق ذلك في المقتول كما يقوله
المعتزلة تخلف العلم عن المعلوم لجواز أن يعلم تقدم موته
بالقتل مع تأخر الأجل الذي لا يمكن تخلفه عنه، وقد يقال: إنه
يمكن أن يكون جوابا باختيار شق ثالث وهو المقدر بطريق القطع إذ
لا تعرض في تقرير الجواب للعلم والمقدر أخص من الأجل المعلوم
مطلقا والفرق بينه وبين كونه جواب باختيار الأول لكن لا مطلقا
اعتبار قيد العلم في الأجل الذي هو محل النزاع على تقدير
اختيار الأول وعدم اعتباره فيه على اختيار الثالث وإن كان
معلوما في الواقع أيضا فافهم، ثم إن أبا الحسين ومن تابعه
يدعون الضرورة في هذه المسألة وكذا الجمهور في رأي البعض، وعند
البعض الآخر هي عندهم استدلالية.
واحتجوا على مذهبهم بالأحاديث الواردة في أن بعض الطاعات تزيد
في العمر وبأنه لو كان المقتول ميتا بأجله لم يستحق القاتل ذما
ولا عقابا ولم يتوجه عليه قصاص ولا غرم دية ولا قيمة في ذبح
شاة الغير لأنه لم يقطع أجلا ولم يحدث بفعله موتا، وبأنه ربما
يقتل في الملحمة والحرب ألوف تقضي العادة بامتناع اتفاق موتهم
في ذلك الوقت بآجالهم، وتمسك أبو الهذيل بأنه لو لم يمت
المقتول لكان القاتل قاطعا لأجل قدره الله تعالى ومغيرا لأمر
علمه وهو محال، والكعبي بقوله تعالى: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ
قُتِلَ حيث جعل القتل قسيما للموت بناء على أن المراد بالقتل
المقتولية وأنها نفس بطلان الحياة وأن الموت خاص بما لا يكون
على وجه القتل ومتى كان الموت غير القتل كان
(2/290)
للمقتول أجلان: أحدهما القتل، والآخر الموت
«وأجيب» عن متمسك الأولين الأول بأن تلك الأحاديث أخبار آحاد
فلا تعارض الآيات القطعية كقوله تعالى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ
لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس: 49] أو
بأن المراد من أن الطاعة تزيد في العمر أنها تزيد فيما هو
المقصود الأهم منه وهو اكتساب الكمالات والخيرات والبركات التي
بها تستكمل النفوس الإنسانية وتفوز بالسعادة الأبدية، أو بأن
العمر غير الأجل لأنه لغة الوقت، وأجل الشيء يقال لجميع مدته
ولآخرها كما يقال أجل الدين شهران أو آخر شهر كذا، ثم شاع
استعماله في آخر مدة الحياة، ومن هنا يفسر بالوقت الذي علم
الله تعالى بطلان حياة الحيوان عنده على ما قررناه.
والعمر لغة مدة الحياة- كعمر زيد- كذا ومدة البقاء- كعمر
الدنيا- وكثيرا ما يتجوز به عن مدة بقاء ذكر الناس الشخص للخير
بعد موته، ومنه قولهم: ذكر الفتى عمره الثاني ومن هنا يقال لمن
مات وأعقب ذكرا حسنا وأثرا جميلا: ما مات فلعله أراد صلى الله
تعالى عليه وسلم أن تلك الطاعات تزيد في هذا العمر لما أنها
تكون سببا للذكر الجميل، وأكثر ما ورد ذلك في الصدقة وصلة
الرحم وكونهما مما يترتب عليهما ثناء الناس مما لا شبهة فيه
قيل:
ولهذا لم يقل صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك إنه يزيد في
الأجل، أو بأن الله تعالى كان يعلم أن هذا المطيع لو لم يفعل
هذه الطاعة لكان عمره أربعين مثلا لكنه علم أنه يفعلها ويكون
عمره سبعين سنة فنسبة هذه الزيادة إلى تلك الطاعة بناء على علم
الله تعالى أنه لولاها لما كانت هذه الزيادة، ومحصل هذا أنه
سبحانه قدر عمره سبعين بحيث لا يتصور التقدم والتأخر عنه لعلمه
بأن طاعته تصير سببا لثلاثين فتصير مع أربعين من غير الطاعة
سبعين، وليس محصل ذلك أنه تعالى قدره سبعين على تقدير وأربعين
على تقدير حتى يلزم تعدد الأجل والأصحاب لا يقولون به.
والثاني بأن استحقاق الذم وللعقاب وتوجه القصاص أو غرم الدية
مثلا على القاتل ليس بما يثبت في المحل من الموت بل هو بما
اكتسبه وارتكبه من الإقدام على الفعل المنهي عنه الذي يخلق
الله تعالى به الموت كما في سائر الأسباب والمسببات لا سيما
عند ظهور أمارات البقاء وعدم ما يظن معه حضور الأجل حتى لو علم
موت شاة بإخبار صادق معصوم، أو ظهرت الأمارات المفيدة لليقين
لم يضمن عند بعض الفقهاء، والثالث بأن العادة منقوضة أيضا
بحصول موت ألوف في وقت واحد من غير قتال ولا محاربة كما في
أيام الوباء مثلا على أن التمسك بمثل هذا الدليل في مثل هذا
المطلب في غاية السقوط، وأجيب عن متمسك أبي الهذيل بأن عدم
القتل إنما يتصور على تقدير علم الله تعالى بأنه لا يقتل
وحينئذ لا نسلم لزوم المحال وبأنه لا استحالة في قطع الأجل
المقدر الثابت لولا القتل لأنه تقرير للمعلوم لا تغيير له، وعن
متمسك الكعبي المخالف للمعتزلة والأشاعرة في إثبات الأجلين بأن
القتل قائم بالقاتل وحال له لا للمقتول وإنما حاله الموت
وانزهاق الروح الذي هو بإيجاد الله تعالى وإذنه ومشيئته وإرادة
المقتولية المتولدة عن قتل القاتل بالقتل وهي حال المقتول إذ
هي بطلان الحياة والتخصيص بما لا يكون على وجه القتل على ما
يشعر به أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ خلاف مذهبه من إنكار القضاء
والقدر في أفعال العباد إذ بطلان الحياة المتولد من قتل القاتل
أجل قدره الله تعالى وعينه وحدده، معنى الآية- كما أشرنا إليه-
أفإن مات حتف أنفه بلا سبب، أو مات بسبب القتل، فتدل على أن
مجرد بطلان الحياة موت ومن هنا قيل: إن في المقتول معنيين قتلا
هو من فعل الفاعل وموتا هو من الله تعالى وحده، وذهبت الفلاسفة
إلى مثل ما ذهب إليه الكعبي من تعدد الأجل فقالوا: إن للحيوان
أجلا طبيعيا بتحلل رطوبته وانطفاء حرارته الغريزيتين وآجالا
اخترامية تتعدد بتعدد أسباب لا تحصى من الأمراض والآفات،
وبيانه أن الجواهر التي غلبت عليها الأجزاء الرطبة ركبت مع
الحرارة الغريزية فصارت لها بمنزلة الدهن للفتيلة المشعلة
وكلما انتقصت تلك الرطوبات تبعتها الحرارة الغريزية في ذلك حتى
إذا انتهت في الانتقاص وتزايد الجفاف انطفأت الحرارة
(2/291)
كانطفاء السراج عند نفاد دهنه فحصل الموت
الطبيعي وهو مختلف بحسب اختلاف الأمزجة وهو في الإنسان في
الأغلب تمام مائة وعشرين سنة.
وقد يعرض من الآفات مثل البرد المجمد والحرب المذوب وأنواع
السموم وأنواع تفرق الاتصال وسوء المزاج ما يفسد البدن ويخرجه
عن صلاحه لقبول الحياة إذ شرطها اعتدال المزاج فيهلك بسببه
وهذا هو الأجل الاخترامي، ويردد ذلك أنه مبني على قواعدهم من
تأثير الطبيعة والمزاج وهو باطل عندنا إذ لا تأثير إلا له
سبحانه وتلك الأمور عندنا أسباب عادية لا عقلية كما زعموا،
وادعى بعض المحققين أن النزاع بيننا وبين الفلاسفة كالنزاع
بيننا وبين المعتزلة- على رأي الأستاذ- لفظي إذ هم لا ينكرون
القضاء والقدر فالوقت الذي علم الله تعالى بطلان الحياة فيه
بأي سبب كان واحد عندهم أيضا، وما ذكروه من الأجل الطبيعي نحن
لا ننكره أيضا لكنهم يجعلون اعتدال المزاج واستقامة الحرارة
والرطوبة ونحو ذلك شروطا حقيقية عقلية لبقاء الحياة ونحن
نجعلها أسبابا عادية وذلك بحث آخر وسيأتي تتمة الكلام على هذه
المسألة إذ الأمور مرهونة لأوقاتها ولكل أجل كتاب.
وَمَنْ يُرِدْ أي بعمله كالجهاد ثَوابَ الدُّنْيا كالغنيمة
نُؤْتِهِ بنون العظمة على طريق الالتفات مِنْها أي شيئا من
ثوابها إن شئنا فهو على حدّ قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ
[الإسراء: 18] وهذا تعريض بمن شغلتهم الغنائم يوم أحد عن مصلحة
رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد تقدم تفصيل ذلك.
وَمَنْ يُرِدْ أي بعمله كالجهاد أيضا والذب عن رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم.
ثَوابَ الْآخِرَةِ مما أعد الله تعالى لعباده فيها من النعيم
نُؤْتِهِ مِنْها أي من ثوابها ما نشاء حسبما جرى به قلم الوعد
الكريم، وهذا إشارة إلى مدح الثابتين يومئذ مع رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم، والآية وإن نزلت في الجهاد خاصة لكنها
عامة في جميع الأعمال وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ يحتمل أنه
أريد بهم المريدون للآخرة، ويحتمل أنه أريد بهم جنس الشاكرين
وهم داخلون فيه دخولا أوليا.
والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ووعد بالمزيد عليه وفي
تصديرها بالسين وإبهام الجزاء من التأكيد والدلالة على فخامة
شأن الجزاء وكونه بحيث يضيق عنه نطاق البيان ما لا يخفى، وبذلك
جبر اتحاد العبادتين في شأن الفريقين واتضح الفرق لذي عينين،
وقرئت الأفعال الثلاثة بالياء.
هذا (ومن باب الإشارة) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً إما إشارة إلى
الأمر بالتوكل على الله تعالى في طلب الرزق والانقطاع إليه، أو
رمز إلى الأمر بالإحسان إلى عباد الله المحتاجين من غير طلب
نفع منهم،
فقد ورد في بعض الآثار أن القرض أفضل من الصدقة،
أو إيماء إلى عدم طلب الأجر على الأعمال بأن يفعلها محضا
لإظهار العبودية وَاتَّقُوا اللَّهَ من أكل الربا لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ أي تفوزون بالحق وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي
أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ أي اتقوني في النار لأن إحراقها
وعذابها مني، وهذا سرّ عين الجمع قالوا: ويرجع في الحقيقة إلى
تجلي القهر وهو بظاهره تخويف للعوام والتخويف الأول للخواص،
وقليل ما هم وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وهي
ستر أفعالكم التي هي حجابكم الأعظم عن رؤية الحق وَجَنَّةٍ
عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وهي جنة توحيد الأفعال وهو
توحيد عالم الملك، ولذا ذكر سبحانه السموات والأرض وذكر العرض
دون الطول لأن الأفعال باعتبار السلسلة العرضية وهي توقف كل
فعل على فعل آخر تنحصر في عالم الملك الذي تصل إليه أفهام
الناس ويقدرونه، وأما باعتبار الطول فلا تنحصر فيه ولا يقدر
قدرها إذ الفعل مظهر الوصف، والوصف مظهر الذات، والذات لا
نهاية لها ولا حد وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
فالمحجوبون عن الذات والصفات لا يرون إلا هذه الجنة، وأما
البارزون لله الواحد القهار
(2/292)
فعرض جنتهم عين طولها ولا حدّ لطولها فلا
يقدر قدرها طولا وعرضا أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ حجب أفعالهم
وترك نسبة الأفعال إلى غير الحق جل جلاله، ويحتمل أنه سبحانه
دعا خلقه على اختلاف مراتبهم إلى فعل ما يؤدي إلى المغفرة على
اختلاف مراتبها فإن الذنب مختلف وذنب المعصوم قلة معرفته بربه
بالنظر إلى عظمة جماله وجلاله في نفس الأمر.
وفي الخبر عن سيد العارفين صلى الله تعالى عليه وسلم «سبحانك
ما عرفناك حق معرفتك»
فما عرفه العارفون من حيث هو وإنما عرفوه من حيث هم وفرق بين
المعرفتين، ولهذا قيل: ما عرف الله تعالى إلا الله تعالى
ودعاهم أيضا إلى ما يجرّهم إلى الجنة، والخطاب بذلك إن كان
للعارفين فهو دعاء إلى عين الجمع ليتجلى لهم بالوسائط لبقائهم
في المعرفة وفي الحقيقة معرفته قربته وجنته مشاهدته، وفي حقيقة
الحقيقة هي الذات الجامع التي لا يصل إليها الأغيار، ومن هنا
قيل: ليس في الجنة إلا الله تعالى وإن كان الخطاب بالنظر إلى
آحاد المؤمنين فالمراد بها أنواع التجليات الجمالية أو ظاهرها
الذي أفصح به لسان الشريعة ودعاؤهم إليه من باب التربية وجلب
النفوس البشرية التي لم تفطم بعد من رضع ثدي اللذائذ إلى ما
يرغبها في كسب الكمالات الإنسانية والترقي إلى ذروة المعارج
الإلهية الذين ينفقون نفائس نفوسهم لمولاهم في السراء والضراء
في حالتي الجمال والجلال، ويحتمل أن يراد الذين لا تمنعهم
الأحوال المتضادة عن الإنفاق فيما يرضي الله تعالى لصحة توكلهم
عليه سبحانه برؤية جميع الأفعال منه وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ
الذي يعرض للإنسان بحسب الطبيعة البشرية وكظمهم له قد يكون
بالشدّ عليه بوكاء التسليم والرضا وذلك بالنظر لمن هو في مقام
جنة الصفات، وأما من دونهم فكظمهم دون هذا الكظم، وسبب الكظم
أنهم يرون الجناية عليهم فعل الله تعالى وليس للخلق مدخل فيها
وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ إما لأنهم في مقام توحيد الأفعال
أو لأنهم في مقام توحيد الصفات وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ حسب مراتبهم في الإحسان وَالَّذِينَ إِذا
فَعَلُوا فاحِشَةً أي كبيرة من الكبائر وهي رؤية أفعالهم
المحرمة عليهم تحريم رؤية الأجنبيات بشهوة أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ بنقصهم حقوقها والتثبط عن تكميلها ذَكَرُوا
اللَّهَ أي تذكروا عظمته وعلموا أنه لا فاعل في الحقيقة سواه
فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ أي طلبوا ستر أفعالهم عنهم
بالتبري عن الحول والقوة إلا بالله وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
وهي رؤية الأفعال، أو النظر إلى سائر الأغيار إِلَّا اللَّهُ
وهو الملك العظيم الذي لا يتعاظمه شيء وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى
ما فَعَلُوا في غفلتهم ونقص حق نفوسهم وَهُمْ يَعْلَمُونَ
حقيقة الأمر وأن لا فعل لغيره أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ
مِنْ رَبِّهِمْ وهو ستره لوجودهم بوجوده وترقيهم من مقام توحيد
الأفعال إلى ما فوقه وَجَنَّاتٌ أي أشياء خفية وهي جنات الغيب
وبساتين المشاهدة والمداناة التي هي عيون صفات الذات تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي تجري منها أنهار الأوصاف
الأزلية خالِدِينَ فِيها بلا مكث ولا قطع، ولا خطر الزمان ولا
حجب المكان ولا تغير وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ومنهم
الواقفون بشرط الوفاء في العشق على الحضرة القديمة بلا نقض
للعهود ولا سهو في الشهود قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ
بطشات ووقائع في الذين كذبوا الأنبياء في دعائهم إلى التوحيد
فَسِيرُوا بأفكاركم فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا وتأملوا في
آثارها لتعلموا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أي آخر
أمرهم ونهايته التي استدعاها التكذيب، ويحتمل أن يكون هذا أمرا
للنفوس بأن تنظر إلى آثار القوى النفسانية التي في أرض الطبيعة
لتعلم ماذا عراها وكيف انتهى حالها فلعلها ترقى بسبب ذلك عن
حضيض اللحوق بها هذا أي كلام الله تعالى بَيانٌ لِلنَّاسِ يبين
لهم حقائق أمور الكونين وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ يتوصل به إلى
الحضرة الإلهية لِلْمُتَّقِينَ وهم أهل الله تعالى وخاصته.
واختلف الحال لاختلاف استعداد المستمعين للكلام إذ منهم قوم
يسمعونه بأسماع العقول، ومنهم قوم يسمعونه
(2/293)
بأسماع الأسرار، وحظ الأولين منه الامتثال
والاعتبار، وحظ الآخرين مع ذلك الكشف وملاحظة الأنوار وقد تجلى
الحق فيه لخواص عباده ومقربي أهل اصطفائه فشاهدوا أنوارا تجلى
وصفة قديمة وراء عالم الحروف تتلى وَلا تَهِنُوا أي لا تضعفوا
في الجهاد وَلا تَحْزَنُوا على ما فاتكم من الفتح ونالكم من
قتل الإخوان وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ في الرتبة إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ أي موحدين حيث إن الموحد يرى الكل من مولاه فأقل
درجاته الصبر إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ
قَرْحٌ مِثْلُهُ ولم يبالوا مع أنهم دونكم وَتِلْكَ
الْأَيَّامُ أي الوقائع نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ فيوم
لطائفة وآخر لأخرى وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي
ليظهر علمه التفصيلي التابع لوقوع المعلوم وَيَتَّخِذَ
مِنْكُمْ شُهَداءَ وهم الذين يشهدون الحق فيذهلون عن أنفسهم
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي الذين ظلموا أنفسهم
وأضاعوا حقها ولم يكملوا نشأتها وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا أي ليخلصهم من الذنوب والغواشي التي تبعدهم
من الله تعالى بالعقوبة والبلية وَيَمْحَقَ أي يهلك
الْكافِرِينَ بنار أنانيتهم أَمْ حَسِبْتُمْ أن تدخلوا الجنة
أي تلجوا عالم القدس وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ
جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ أي ولم يظهر منكم
مجاهدات تورث المشاهدات وصبر على تزكية النفوس وتصفية القلوب
على وفق الشريعة وقانون الطريقة ليتجلى للأرواح أنوار الحقيقة
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أي موت النفوس عن
صفاتها مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ بالمجاهدات والرياضات
فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ برؤية أسبابه وهي الحرب مع أعداء الله
تعالى وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أي تعلمون أن ذلك الجهاد أحد
أسباب موت النفس عن صفاتها، ويحتمل أن يقال: إن الموقن إذا لم
يكن يقينه ملكة تمنى أمورا وادعى أحوالا حتى إذا امتحن ظهر منه
ما يخالف دعواه وينافي تمنيه، ومن هنا قيل:
وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا
ومتى رسخ ذلك اليقين وتمكن وصار ملكة ومقاما ولم يبق حالا لم
يختلف الأمر عليه عند الامتحان، والآية تشير إلى توبيخ
المنهزمين بأن يقينهم كان حالا ولم يكن مقاما وَما مُحَمَّدٌ
إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أي أنه
بشر كسائر إخوانه من المرسلين فكما خلوا من قبله سيخلو هو من
بعدهم أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى
أَعْقابِكُمْ ورجعتم القهقرى، والإشارة في ذلك إلى أنه تعالى
عاتب من تزلزل لذهاب الواسطة العظمى عن البين وهو مناف لمشاهدة
الحق ومعاينته، ولهذا قال الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه:
من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله تعالى
فإن الله تعالى حي لا يموت وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ
فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً لفنائه الذاتي وَسَيَجْزِي
اللَّهُ بالإيمان الحقيقي الشَّاكِرِينَ بالإيمان التقليدي
بأداء حقوقه من الائتمار بأوامر الشرع والانتهاء عن نواهيه
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ هذا الموت المعلوم، أو الموت
عن أوصافها الدنية وأخلاقها الردية إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
ومشيئته، أو جذبه بإشراق نوره وَمَنْ يُرِدْ بمقتضى استعداده
ثَوابَ الدُّنْيا جزاء لعمله نُؤْتِهِ مِنْها حسبما تقتضيه
الحكمة وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ جزاء لعمله نُؤْتِهِ
مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ولعلهم الذين لم يريدوا
الثوابين ولم يكن لهم غرض سوى العبودية، وأبهم جزاءهم للإشارة
إلى أنه أمر وراء العبارة- ولعله تجلى الحق لهم- وهذا غاية
متمنى المحبين ونهاية مطلب السالكين، نسأل الله تعالى رضاه
وتوفيقه وَكَأَيِّنْ كلام مبتدأ سيق توبيخا للمنهزمين أيضا حيث
لم يستنوا بسنن الربانيين المجاهدين مع الرسل عليهم الصلاة
والسلام مع أنهم أولى بذلك حيث كانوا خير أمة أخرجت للناس.
وقد اختلف في هذه الكلمة فقيل: إنها بسيطة وضعت كذلك ابتداء
والنون أصلية، وإليه ذهب ابن حيان.
وغيره، وعليه فالأمر ظاهر موافق للرسم، وقيل وهو المشهور: إنها
مركبة من- أي- المنونة وكاف التشبيه، واختلف
(2/294)
في- أي- هذه فقيل: هي أي التي في قولهم: أي
الرجال، وقال ابن جني: إنها مصدر أوى يأوي إذا انضم واجتمع
وأصله أوى فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت
وأدغمت مثل- طي وشي- وحدث فيها بعد التركيب معنى التكثير
المفهوم من كم كما حدث في كذا بعد التركيب معنى آخر- فكم
وكأين- بمعنى واحد قالوا:
وتشاركها في خمسة أمور: الإبهام والافتقار إلى التمييز،
والبناء، ولزوم التصدير وإفادة التكثير وهو الغالب والاستفهام
وهو نادر، ولم يثبته إلا ابن قتيبة، وابن عصفور، وابن مالك،
واستدل عليه بقول أبيّ بن كعب لابن مسعود رضي الله تعالى
عنهما: كائن تقرأ سورة الأحزاب آية فقال: ثلاثا وسبعين،
وتخالفها في خمسة أمور أيضا، أحدها أنها مركبة في المشهور وكم
بسيطة فيه خلافا لمن زعم أنها مركبة من الكاف وما الاستفهامية
ثم حذفت ألفها لدخول الجار وسكنت للتخفيف لثقل الكلمة
بالتركيب، والثاني أن مميزها مجرور بمن غالبا حتى زعم ابن
عصفور لزوم ذلك ويرده نص سيبويه على عدم اللزوم، ومن ذلك قوله:
اطرد اليأس بالرجاء «فكائن ... ألما حم يسره بعد عسره»
والثالث أنها لا تقع استفهامية عند الجمهور، والرابع أنها لا
تقع مجرورة خلافا لابن قتيبة وابن عصفور أجازا بكائن تبيع
الثوب، والخامس أن خبرها لا يقع مفردا، وقالوا: إن بينها وبين-
كذا- موافقة ومخالفة أيضا فتوافقها- كذا- في أربعة أمور:
التركيب والبناء والإبهام والافتقار إلى التمييز، وتخالفها في
ثلاثة أمور: الأول أنها ليس لها الصدر تقول: قبضت كذا وكذا
درهما، الثاني أن تمييزها واجب النصب فلا يجوز جره بمن اتفاقا
ولا بالإضافة خلافا للكوفيين أجازوا في غير تكرار ولا عطف أن
يقال: كذا ثوب وكذا أثواب قياسا على العدد الصريح، ولهذا قال
فقهاؤهم: إنه يلزم بقول القائل له عندي كذا درهم مائة، وبقوله:
كذا دراهم ثلاثة، وبقوله: كذا كذا درهما أحد عشر، وبقوله: كذا
درهما عشرون، وبقوله: كذا وكذا درهما أحد وعشرون حملا على
المحقق من نظائرهن من العدد الصريح ووافقهم على هذا التفصيل-
غير مسألتي الإضافة- المبرد والأخفش والسيرافي وابن عصفور،
ووهم ابن السيد في نقل الإجماع على إجازة ما أجازه المبرد ومن
ذكر معه، الثالث أنها لا تستعمل غالبا إلا معطوفا عليها كقوله:
عد النفس نعمى بعد بؤسك ذاكرا ... «كذا وكذا لطفا به نسي
الجهد»
وزعم ابن خروف أنهم لم يقولوا كذا درهما، وذكر ابن مالك أنه
مسموع لكنه قليل قاله ابن هشام، ثم إن إثبات تنوين كَأَيِّنْ
على القول المشهور في الوقف والخط على خلاف القياس لما أنه نسخ
أصلها، وفيه لغات وكلها قد قرئ به: أحدها كَأَيِّنْ بالتشديد
على الأصل وهي اللغة المشهورة، وبها قرأ الجمهور، والثانية-
كائن- بألف بعدها همزة مكسورة من غير ياء على وزن كاعن كاسم
الفاعل، وبها قرأ ابن كثير ومن ذلك قوله:
«وكائن» لنا فضلا عليكم ومنة ... قديما ولا تدرون ما من منعم
واختلف في توجيهها فعن المبرد أنها اسم فاعل من كان يكون وهو
بعيد الصحة إذ لا وجه لبنائها حينئذ ولا لإفادتها التكثير،
وقيل: أصلها المشددة فقدمت الياء المشددة على الهمزة وصار-
كيئن- بكاف وياء مفتوحتين وهمزة مكسورة ونون ووزنه كعلف، ونظير
هذا التصرف في المفرد تصرفهم في المركب كما ورد في لغة نادرة
رعملي بتقديم الراء في لعمري ثم حذفت الياء الأولى للتخفيف
فقلبت الثانية ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها أو حذفت الياء
الثانية لثقلها بالحركة والتضعيف وقلبت الياء الساكنة ألفا كما
في آية، ونظيره في حذف إحدى الياءين وقلب الأخرى ألفا طائي في
النسبة إلى طيئ اسم قبيلة فإن أصله طييء بياءين مشددتين بينهما
همزة فحذفت إحدى الياءين وقلبت الأخرى، والثالثة- كأي- بياء
بعد الهمزة، وبها قرأ ابن محيصن، ووجهها أنها حذفت الياء
الثانية وسكنت الهمزة
(2/295)
لاختلاط الكلمتين وجعلهما كالكلمة الواحدة
كما سكنوا الهاء في لهو وفهو، وحركت الياء لسكون ما قبلها،
والرابعة كيئن- بياء ساكنة بعدها همزة مكسورة والخامسة- كئن-
بكاف مفتوحة وهمزة مكسورة ونون، ووزنه كع، وورد ذلك في قوله:
«كئن» من صديق خلته صادق الإخا ... أبان اختباري إنه لمداهن
ووجهه أنه حذفت إحدى الياءين ثم حذفت الأخرى للتنوين أو حذفتا
دفعة واحدة، واحتمل ذلك لما امتزج الحرفان والكاف لا متعلق لها
لخروجها عن معناها، ومن قال به كالحوفي فقد تعسف، وموضعهما رفع
بالابتداء، وقوله تعالى: مِنْ نَبِيٍّ تمييز له كتمييزكم، وقد
تقدم آنفا الكلام في ذلك، ولعل المراد من النبي هنا الرسول وبه
صرح الطبرسي قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ أي جموع كثيرة،
وهو التفسير المشهور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما،
واستشهد له- كما رواه ابن الأنباري حين سأله نافع بن الأزرق-
بقول حسان:
وإذا معشر تجافوا عن القص ... د «أملنا عليهم ربّا»
وعليه فهو منسوب إلى ربة بكسر الراء وكون الضم فيها لغة غير
متحقق- وهي الجماعة- للمبالغة وخصها الضحاك بألف، وأخرج سعيد
بن منصور عن الحسن أنهم العلماء الفقهاء، وأخرجه ابن جبير عن
ابن عباس أيضا- وعليه فهو منسوب إلى الرب- كرباني على خلاف
القياس كقراءة الضم، والموافق له الفتح- وبه قرئ- وقال ابن
زيد: الرّبيون هم الأتباع والربانيون الولاة، وقرأ نافع وابن
كثير وأبو عمرو ويعقوب «قتل» - بالبناء للمفعول، وفي خبر
المبتدأ أوجه: أحدها أنه الفعل مع الضمير المستتر فيه الراجع
إلى كَأَيِّنْ أو إلى نَبِيٍّ وحينئذ- فمعه ربيون- جملة حالية
من الضمير، أو من نَبِيٍّ لتخصيصه معنى، أو مَعَهُ حال
ورِبِّيُّونَ فاعله، وثانيها أنه جملة مَعَهُ رِبِّيُّونَ
فحينئذ تكون جملة الفعل- مع- مرفوعه صفة لنبي، وثالثها أنه
محذوف وتقديره مضى ونحوه، وحينئذ يجوز أن يكون الفعل صفة لنبي،
ومَعَهُ رِبِّيُّونَ حالا على ما تقدم، ويجوز أن يكون الفعل
مسندا لربيون فلا ضمير فيه والجملة صفة لنبي، ورابعها أن يكون
رِبِّيُّونَ مرفوعا بالفعل فلا ضمير، والجملة هي الخبر.
وقرئ- «قتل» - بالتشديد قال ابن جني: وحينئذ فلا ضمير في الفعل
لما في التضعيف من الدلالة على التكثير وهو ينافي إسناده إلى
الواحد، وأجيب بأنه لا يمتنع أن يكون فيه ضمير الأول لأنه في
معنى الجماعة.
واعترض بأنه خلاف الظاهر، ومن هنا قيل: إن هذه القراءة تؤيد
إسناد- قتل- إلى- الربيين- ويؤيدها أيضا ما أخرجه ابن المنذر
عن ابن جبير أنه كان يقول: ما سمعنا قط أن نبيا قتل في القتال،
وقول الحسن وجماعة: لم يقتل نبي في الحرب قط ثم إن من ادعى
إسناد القتل إلى النبي وأنه في الحرب أيضا على ما يشعر به
المقام حمل النصرة الموعود بها في قوله تعالى: إِنَّا
لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غافر: 51] على النصرة بإعلاء الكلمة
ونحوه لا على الأعداء مطلقا لئلا تتنافى الآيتان، وهذا أحد
أجوبة في هذا المقام تقدمت الإشارة إليها فتذكر، والتنوين في
نَبِيٍّ للتعظيم.
وزعم الأجهوري أنه للتكثير فَما وَهَنُوا عطف على قاتلوا على
أن المراد عدم الوهن المتوقع من القتال والتلبس بالشيء بعد
ورود ما يستدعي خلافه وإن كان استمرارا عليه بحسب الظاهر لكنه
بحسب الحقيقة كما قال مولانا شيخ الإسلام: صنع جديد، ومن هنا
صح دخول الفاء المؤذنة بترتب ما بعدها على ما قبلها، ومن ذلك
قولهم:
وعظته فلم يتعظ وزجرته فلم ينزجر، وأصل الوهن الضعف، وفسره
قتادة وابن أبي مالك هنا بالعجز، والزجاج بالجبن أي فما عجزوا
أو فما جبنوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في أثناء
القتال وهذا علة للمنفي لا للنفي، نعم يفهم
(2/296)
المنفي من تقييد المثبت بهذا الظرف وما-
موصولة أو موصوفة فإن جعل الضميران لجميع الربيين فهي عبارة
عما عدا القتل من مكاره الحروب التي تعتري الكل، وإن جعلا
للبعض الباقين بعد قتل الآخرين- وهو الأنسب- كما قيل:
بمقام توبيخ المنخذلين بعد ما استشهد الشهداء- فهي عبارة عن
ذلك أيضا مع ما اعتراهم بعد قتل إخوانهم من نحو الخوف والحزن،
هذا على القراءة المشهورة، وأما على القراءتين الأخيرتين أعني
«قتل. وقتّل» - على صيغة المبني للمفعول مخففة ومشددة فقد
قالوا: إن أسند الفعل إلى الظاهر فالضميران للباقين حتما
والكلام حينئذ من قبيل- قتل بنو فلان إذا وقع القتل فيهم ولم
يستأصلهم- وإن أسند إلى الضمير كما هو الظاهر الأنسب عند البعض
بالتوبيخ على الانخذال بسبب الإرجاف بقتله صلى الله تعالى عليه
وسلم.
وإليه ذهب قتادة والربيع وابن أبي إسحاق. والسدي- كما قيل-
فهما للباقين أيضا إن اعتبر كون الربيين مع النبي في القتل
وللجميع إن اعتبر كونهم معه في القتال وَما ضَعُفُوا أي ما
فتروا عن الجهاد قاله الزجاج، وقيل: ما عراهم ضعف في الدين بأن
تغير اعتقادهم لعدم النصر وَمَا اسْتَكانُوا أي ما ارتدوا عن
بصيرتهم ولا عن دينهم قاله قتادة، وقيل: ما خضعوا لعدوهم،
وإليه يشير كلام ابن عباس، وكثيرا ما يستعمل استكان بهذا
المعنى، وكذا بمعنى تضرع، واختلف فيه هل هو من السكون فوزنه
افتعل لأن الخاضع يسكن لمن خضع له فألفه للإشباع وهو كثير وليس
بخطأ خلافا لأبي البقاء، ولا يختص بالشعر خلافا لأبي حيان، أو
من الكون فوزنه استفعل وألفه منقلبة عن واو السين مزيدة
للتأكيد كأنه طلب من نفسه أن يكون لمن قهره، وقيل: لأنه كالعدم
فهو يطلب من نفسه الوجود.
وجوز أن يكون من قول العرب: بات فلان- بكينة سوء- أي بحالة
سوء، أو من- كان يكينه- إذا أذله، وعزي ذلك إلى الأزهري وأبي
علي، وحينئذ فألفه منقلبة عن ياء، والجمهور على فتح الهاء من
وَهَنُوا وقرئ بكسرها وهي لغة والفتح أشهر، وقرئ بإسكانها على
تخفيف المكسور وفي الكلام تعريض لا يخفى وَاللَّهُ يُحِبُّ
الصَّابِرِينَ على مقاساة الشدائد ومعاناة المكاره في سبيله
فينصرهم ويعظم قدرهم.
والمراد بالصابرين إما الربيون، والإظهار في موضع الإضمار
للتصريح بالثناء عليهم بالصبر الذي هو ملاك الأمر مع الإشعار
بعلة الحكم، وإما ما يعمهم وغيرهم وهم داخلون في ذلك دخولا
أوليا.
والجملة على التقديرين تذييل لما قبلها، وقوله تعالى: وَما
كانَ قَوْلَهُمْ كالتتميم والمبالغة في صلابتهم في الدين وعدم
تطرق الوهن والضعف إليهم بالكلية، وهو معطوف على ما قبله،
وقيل: كلام مبين لمحاسنهم القولية إثر بيان محاسنهم الفعلية،
وقَوْلَهُمْ بالنصب خبر لكان واسمها المصدر المتحصل من أَنْ
وما بعدها في قوله تعالى: إِلَّا أَنْ قالُوا والاستثناء مفرغ
من أعم الأشياء أي- ما كان قولهم- في ذلك المقام واشتباك أسنة
الشدائد والآلام إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا
ذُنُوبَنا أي صغائرنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا أي تجاوزنا عن
الحد، والمراد كبائرنا. وروي ذلك عن الضحاك، وقيل: الإسراف
تجاوز في فعل ما يجب، والذنب عام فيه وفي التقصير، وقيل: إنه
يقابل الإسراف وكلاهما مذموم، وسيأتي في هذه السورة إن شاء
الله تعالى إطلاق الذنوب على الكبائر فافهم.
والظرف متعلق بما عنده أو حال منه وإنما أضافوا ذلك إلى أنفسهم
مع أن الظاهر أنهم برآء من التفريط في جنب الله تعالى هضما
لأنفسهم واستقصارا لهمهم وإسنادا لما أصابهم إلى أعمالهم، على
أنه لا يبعد أن يراد بتلك الذنوب وذلك الإسراف ما كان ذنبا
وإسرافا على الحقيقة لكن بالنسبة إليهم، وحسنات الأبرار سيئات
المقربين، وقيل: أرادوا من طلب المغفرة طلب قبول أعمالهم حيث
إنه لا يجب على الله تعالى شيء، وفيه ما لا يخفى، وقدموا
الدعاء بالمغفرة على ما هو الأهم بحسب الحال من الدعاء بقوله
سبحانه: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا أي عند جهاد أعدائك بتقوية
(2/297)
قلوبنا وإمدادنا بالمدد الروحاني من عندك
وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ تقريبا له إلى حيز
القبول فإن الدعاء المقرون بالخضوع الصادر عن زكاء وطهارة أقرب
إلى الاستجابة.
ومن الناس من قال: المراد من- ثبت أقدامنا- ثبتنا على دينك
الحق فيكون تقديم طلب المغفرة على هذا التثبيت من باب تقديم
التخلية على التحلية وتقديمهما على طلب النصرة لما تقدم، وقيل:
إنهم طلبوا الغفران أولا ليستحقوا طلب النصر على الكافرين
بترجحهم بطهارتهم عن الذنوب عليهم وهم محاطون بالذنوب، وفي
طلبهم النصر مع كثرتهم المفرطة التي دل عليها ما سبق إيذان
بأنهم لا ينظرون إلى كثرتهم ولا يعوّلون عليها بل يسندون ثبات
أقدامهم إلى الله تعالى ويعتقدون أن النصر منه سبحانه وتعالى،
وفي الاخبار عنهم بأنه ما كان قولهم إلا هذا دون ما فيه شائبة
جزع وخور وتزلزل من التعريض بالمنهزمين ما لا يخفى، وقرأ ابن
كثير وعاصم في رواية عنهما برفع «قولهم» على أنه الاسم والخبر
إن وما في حيزها أي ما كان قولهم شيئا من الأشياء إلا هذا
القول المنبئ عن أحاسن المحاسن، قال مولانا شيخ الإسلام: وهذا
كما ترى أقعد بحسب المعنى وأوفق بمقتضى المقام لما أن الأخبار
بكون قولهم المطلق خصوصية قولهم المحكي عنهم مفصلا كما تفيده
قراءتهما أكثر إفادة للسامع من الإخبار بكون خصوصية قولهم
المذكور قولهم لما أن مصب الفائدة وموقع البيان في الجمل
الخبرية هو الخبر، فالأحق بالخبرية ما هو أكثر إفادة وأظهر
دلالة على الحدث وأوفر اشتمالا على نسب خاصة بعيدة من الوقوع
في الخارج وفي ذهن السامع، ولا يخفى أن ذلك هاهنا في أن مع ما
في حيزها أتم وأكمل، وأما ما تفيده الإضافة من النسبة المطلقة
الإجمالية فحيث كانت سهلة الحضور خارجا وذهنا كان حقها أن
تلاحظ ملاحظة إجمالية وتجعل عنوانا للموضوع لا مقصودا بالذات
في باب البيان، وإنما اختار الجمهور ما اختار والقاعدة صناعية
هي أنه إذا اجتمع معرفتان فالأعرف منهما أحق بالاسمية، ولا ريب
في أعرفية أَنْ قالُوا لدلالته على جهة النسبة وزمان الحدث
ولأنه يشبه المضمر من حيث إنه لا يوصف ولا يوصف به،
وقَوْلَهُمْ مضاف إلى مضمر وهو بمنزلة العلم فتأمل انتهى.
وقال أبو البقاء: جعل ما بعد إلا اسما لكان، والمصدر الصريح
خبرا لها أقوى من العكس لوجهين: أحدهما أن أَنْ قالُوا يشبه
المضمر في أنه لا يوصف وهو أعرف، والثاني أن ما بعد إِلَّا
مثبت، والمعنى كان قولهم ربنا اغفر لنا ذنوبنا إلخ دأبهم في
الدعاء، وقال العلامة الطيبي: كأن المعنى ما صح ولا استقام من
الربانيين في ذلك المقام إلا هذا القول وكأن غير هذا القول
مناف لحالهم، وهذه الخاصية يفيدها إيقاع أَنْ مع الفعل اسما
لكان، وتحقيقه ما ذكره صاحب الانتصاف من أن فائدة دخول كانَ
المبالغة في نفي الفعل الداخل عليه بتعديد جهة فعله عموما
باعتبار الكون وخصوصا باعتبار خصوصية المقال فهو نفي مرتين، ثم
قال: فعلى هذا لو جعلت رب الجملة أَنْ قالُوا واعتمدت عليه
وجعلت قَوْلَهُمْ كالفضلة حصل لك ما قصدته ولو عكست ركبت
التعسف، ألا ترى إلى أبي البقاء كيف جعل الخبر نسيا منسيا في
الوجه الثاني واعتمد على ما بعد إِلَّا انتهى.
ومنه يعلم ما في كلام مولانا شيخ الإسلام فإنه متى أمكن اعتبار
جزالة المعنى مع مراعاة القاعدة الصناعية لا يعدل عن ذلك إلى
غيره لا سيما وقد صرحوا بأن جعل الاسم غير الأعرف ضعيف، قال في
المغني: واعلم أنهم حكموا لأن وإن- المقدرتين بمصدر معرف بحكم
الضمير لأنه لا يوصف كما أن الضمير أيضا كذلك فلهذا قرأت
السبعة ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا [الجاثية: 25]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا [الأعراف: 82،
النمل:
56، العنكبوت: 24، 29] والرفع ضعيف كضعف الاخبار بالضمير عما
دونه في التعريف انتهى، وعلل بعضهم أعرفية المصدر المؤول بأنه
لا ينكر.
(2/298)
وقد اعترضوا على كل من تعليلي ابن هشام
والبعض. أما الاعتراض على الأول فبأن كونه لا يوصف لا يقتضي
تنزيله منزلة الضمير فكم اسم لا يوصف بل ولا يوصف به وليس بتلك
المنزلة؟ وأجيب بأنه جاز أن يكون في ذلك الاسم مانع من جعله
بمنزلة الضمير لأن عدم المانع ليس جزءا من المقتضي ولا شرطا في
وجوده، وأما الاعتراض على الثاني فبأنه غير مسلم لأنه قد ينكر
كما في وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى [يونس: 37] أي
افتراء قاله الشهاب.
وأجيب بأن مراد من قال: إن المصدر المؤول لا ينكر أنه في مثل
هذا الموضع لا ينكر لا أن الحرف المصدري لا يؤول بمصدر منكر
أصلا، ويستأنس لذلك بتقييد المصدر بالمعرف في عبارة المغني حيث
يفهم منها أن- أن، وإن- تارة يقدران بمصدر معرف وتارة بمصدر
منكر وأنهما إذا قدرا بمصدر معرف كان له حكم الضمير، ومن هنا
قال صاحب المطلع في معنى ذلك التعليل: إن قول المؤمنين إن
اختزل عن الإضافة يبقى منكرا بخلاف أَنْ قالُوا بقي في كلام
المغني أمور، الأول أن التقييد- بأن وإن- هل هو اتفاقي أم
احترازي؟ الذي ذهب إليه بعض المحققين الأول: احتجاجا بأنه أطلق
في الجهة السادسة من الباب الخامس أن الحرف المصدري وصلته في
نحو ذلك معرفة فلا يقع صفة للنكرة ولم يخص- بأن وإن- وللذاهب
إلى الثاني أن يقول فرق بين مطلق التعريف وكونه في حكم الضمير
كما لا يخفى، وابن هشام قد أخذ المطلق في المطلق وقيد المقيد
بالمقيد فلا بأس بإبقاء كلا العبارتين على ما يتراءى منهما.
الثاني: أنه يفهم من ظاهره أن الأداتين لو قدرتا بمصدر منكر لا
يكون في حكم الضمير وظاهر هذا أنه يجوز الوصف حينئذ وفيه تردد
لأنه قد يقال: لا يلزم من عدم ثبوت مرتبة الضمير لذلك جواز
الوصف لأن امتناع الوصف أعم من مرتبة الضمير، ونفي الأخص لا
يستلزم نفي الأعم.
الثالث: أنه يفهم من كلامه أن المصدر المقدر المعرف بالإضافة
سواء أضيف إلى ضمير أو غيره بمثابة الضمير ولم يصرح أحد من
الأئمة بذلك لكن حيث إن ابن هشام ثقة وإمام في الفن ولم ينقل
عن أئمته ما يخالفه يقبل منه ما يقول. الرابع: أن ما حكم به من
أن الرفع ضعيف كضعف الاخبار بالضمير عما دونه في التعريف بينه
وبين ما ذهب إليه ابن مالك من جواز الإخبار بالمعرفة عن النكرة
المحضة في باب النواسخ بون عظيم، ويؤيد كلام ابن مالك قوله
تعالى فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ [الأنفال: 62] وكأنه لتحقيق
هذا المقام ولما أشرنا إليه أولا في تحقيق معنى الآية قال
المولى قدس سره: فتأمل فتأمل فَآتاهُمُ اللَّهُ أي بسبب قولهم
ذلك كما تؤذن به الفاء ثَوابَ الدُّنْيا أي النصر والغنيمة
قاله ابن جريج، وقال قتادة: الفتح والظهور والتمكن والنصر على
عدوهم، قيل: وتسمية ذلك ثوابا لأنه مترتب على طاعتهم، وفيه
إجلال لهم وتعظيم، وقيل: تسمية ذلك ثوابا مجاز لأنه يحاكيه.
واستشكل تفسير ابن جريج بأن الغنائم لم تحل لأحد قبل الإسلام
بل كانت الأنبياء إذا غنموا مالا جاءت نار من السماء فأخذته
فكيف تكون الغنيمة ثوابا دنيويا ولم يصل للغانمين منها شيء؟!
وأجيب بأن المال الذي تأخذه النار غير الحيوان، وأما الحيوان
فكان يبقى للغانمين دون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكان
ذلك هو الثواب الدنيوي وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ أي وثواب
الآخرة الحسن، وهو عند ابن جريج رضوان الله تعالى ورحمته، وعند
قتادة هي الجنة، وتخصيص الحسن بهذا الثواب للإيذان بفضله
ومزيته وأنه المعتد به عنده تعالى، ولعل تقديم ثواب الدنيا
عليه مراعاة للترتيب الوقوعي. أو لأنه أنسب بما قبله من الدعاء
بالنصر على الكافرين وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تذييل
مقرر لما قبله فإن محبة الله سبحانه للعبد مبدأ كل خير وسعادة،
واللام إما للعهد ووضع الظاهر موضع المضمر إيذانا بأن ما حكي
عنهم من باب الإحسان، وإما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا
وفيه على كلا التقديرين ترغيب للمؤمنين في تحصيل ما حكي من
المناقب الجليلة.
(2/299)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا شروع في زجر المؤمنين عن متابعة
الكفار ببيان مضارها إثر ترغيبهم في الاقتداء بأنصار الأنبياء
عليهم السلام ببيان فضائله، وتصدير الخطاب بالنداء والتنبيه
لإظهار الاعتناء بما في حيزه، ووصفهم بالإيمان لتذكيرهم بحال
ينافي تلك الطاعة فيكون الزجر على أكمل وجه والمراد من
الَّذِينَ كَفَرُوا إما المنافقون لأن
الآية نزلت- كما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه- حين قالوا
للمؤمنين عند الهزيمة:
ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم
والتعبير عنهم بذلك قصدا إلى مزيد التنفير عنهم والتحذير عن
طاعتهم، وإما أبو سفيان وأصحابه وحينئذ فالمراد بإطاعتهم
الاستكانة لهم وطلب الأمان منهم وإلى ذلك ذهب السدي، وإما
اليهود والنصارى فالمراد حينئذ لا تنتصحوا اليهود والنصارى على
دينكم ولا تصدقوهم بشيء في ذلك، وإليه ذهب ابن جريج، وحكي أنهم
كانوا يلقون إليهم الشبه في الدين ويقولون: لو كان محمد صلى
الله تعالى عليه وسلم نبيا حقا لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما
أصابهم وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس يوما عليه ويوما
له فنهوا عن الالتفات إليها، وإما سائر الكفار.
وذهب إلى جواز ذلك بعض المتأخرين، وأتي بأن للإيذان بأن
الإطاعة بعيدة الوقوع من المؤمنين. يَرُدُّوكُمْ عَلى
أَعْقابِكُمْ أي يرجعوكم إلى أول أمركم وهو الشرك بالله تعالى
والفعل جواب الشرط. وصح ذلك بناء على المأثور عن علي كرم الله
تعالى وجهه مع أن الكلام معه في قوة إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ
كَفَرُوا في قولهم: ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم
يدخلوكم في دينهم، ويؤول إلى قولك: إن تدخلوا في دينهم تدخلوا
في دينهم وفيه اتحاد الشرط والجزاء بناء على أن الارتداد على
العقب علم في انتكاس الأمر ومثل في الحور بعد الكور، وقيل: إن
المراد بالإطاعة الهمّ بها والتصميم عليها أي إن تصمموا على
إطاعتهم في ذلك تردوا وترجعوا إلى ما كنتم عليه من الكفر وهذا
أبلغ في الزجر إلا أنه بعيد عن اللفظ، وجوز أن تكون جوابيته
باعتبار كونه تمهيدا لقوله تعالى: فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ أي
فترجعوا خاسرين لخير الدنيا وسعادة الآخرة وذلك أعظم الخسران
بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ إضراب وترك للكلام الأول من غير إبطال
والمعنى ليس الكفار أولياء فيطاعوا في شيء ولا ينصرونكم بل
الله ناصركم لا غيره وهو مبتدأ وخبر، وقرئ بنصب الاسم الجليل
على أنه مفعول لفعل محذوف، والمعنى فلا تطيعوهم بل أطيعوا الله
مولاكم وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ لأنه القوي الذي لا يغلب
والناصر في الحقيقة فينبغي أن يخص بالطاعة والاستعانة، والجملة
معطوفة على ما قبلها.
وجوز على القراءة الشاذة الاستئناف والحالية سَنُلْقِي فِي
قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ كالبيان لما قبل، وعبر
بنون العظمة على طريق الالتفات جريا على سنن الكبرياء لتربية
المهابة، والسين لتأكيد الإلقاء، والرُّعْبَ بسكون العين الخوف
والفزع أي سنقذف ذلك في قلوبهم، والمراد من الموصول أبو سفيان
وأصحابه، فقد أخرج ابن جرير عن السدي قال: «لما ارتحل أبو
سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين نحو مكة انطلق أبو سفيان حتى
بلغ بعض الطريق ثم إنهم ندموا فقالوا: بئس ما صنعتم إنكم
قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم ارجعوا فاستأصلوا
فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب فانهزموا فلقوا أعرابيا
فجعلوا له جعلا فقالوا له: إن لقيت محمدا صلى الله تعالى عليه
وسلم وأصحابه فأخبرهم بما قد جمعنا لهم فأخبر الله تعالى رسوله
صلّى الله عليه وسلم فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد فأنزل الله
تعالى في ذلك هذه الآية يذكر فيها أمر أبي سفيان وأصحابه،
وقيل: إن الآية نزلت في يوم الأحزاب،
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم قال: «نصرت بالرعب على العدو» ،
وأخرج أحمد وغيره من حديث أبي أمامة «نصرت بالرعب مسيرة شهر
يقذف في قلوب أعدائي» ،
وقرئ «سيلقي» بالياء، وقرأ أبو جعفر
(2/300)
وابن عامر والكسائي «الرعب» بضم العين وهي
لغة فيه، وقيل: الضم هو الأصل والسكون للتخفيف، وقيل: الأصل
السكون والضم للاتباع.
بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ أي بسبب إشراكهم بالذات الواجب
الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال ولإشعار هذا الاسم بالعظمة
المنافية للشركة أتي به، والجار الأول متعلق، ب سَنُلْقِي دون
الرُّعْبَ ولا يمنع من ذلك تعلق فِي به لاختلاف المعنى،
والثاني متعلق بما عنده وكان الإشراك سببا لإلقاء الرعب لأنه
من موجبات خذلانهم ونصر المؤمنين عليهم وكلاهما من دواعي الرعب
ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ أي بإشراكه، وقيل: بعبادته، وما نكرة
موصوفة أو موصولة اسمية وليست مصدرية سُلْطاناً أي حجة،
والإتيان بها للإشارة بأن المتبع في باب التوحيد هو البرهان
السماوي دون الآراء والأهواء الباطلة، وسميت بذلك لأنه بها
يتقوى على الخصم ويتسلط عليه، والنون زائدة، وقيل: أصلية، وذكر
عدم إنزال الحجة مع استحالة تحققها من باب انتفاء المقيد
لانتفاء قيده اللازم أي لا حجة حتى ينزلها، فهو على حد قوله في
وصف مفازة:
لا يفزع الأرنب أهوالها ... ولا ترى الضب بها ينجحر
إذ المراد لا ضب بها حتى ينجحر فالمراد نفيهما جميعا وهذا
كقولهم: السالبة لا تقتضي وجود الموضوع، وما ذكرنا من استحالة
تحقق الحجة على الإشراك يكاد يكون معلوما من الدين بالضرورة
أما في الإشراك بالربوبية فظاهر إذ كيف يأمر الله سبحانه
باعتقاد أن خالق العالم اثنان مشتركان في وجوب الوجود والاتصاف
بكل كمال، وأما الإشراك في الألوهية الذي عليه أكثر المشركين
في عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلأنه يفضي إلى
الأمر باعتقاد أشياء خلاف الواقع مما كان المشركون يعتقدونه في
أصنامهم وقد رده عليهم، فقول عصام الملة: ونحن نقول الحجة على
الإشراك تحت قدرته تعالى لو شاء أنزلها إذ لو أمر بإشراك
الأصنام به في العبادة لوجبت العبادة لا أراه إلا حلا لعصام
الدين لأن لا إله إلا الله المخاطب بها الثنوية والوثنية تأبى
إمكان ذلك كما لا يخفى على من اطلع على معنى هذه الكلمة الطيبة
رزقنا الله تعالى الموت عليها ولا جعلنا ممن أشركوا بالله
تعالى ما لم ينزل به سلطانا وَمَأْواهُمُ أي ما يأوون إليه في
الآخرة النَّارُ لا مأوى لهم غيرها.
وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ أي مثواهم وإنما وضع الظاهر
موضع الضمير للتغليظ والتعليل والإشعار بأنهم في إشراكهم
ظالمون واضعون للشيء في غير موضعه، والمثوى مكان الإقامة على
وزن مفعل من ثويت ولامه ياء والمخصوص بالذم محذوف أي بئس
مثواهم النار، ولم يعبر بالمأوى للإيذان بالخلود إذ الإقامة
مأخوذة في المثوى دونه وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ
أخرج الواحدي عن محمد بن كعب قال: لما رجع رسول الله صلّى الله
عليه وسلم إلى المدينة، وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد، قال
ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا قد وعدنا الله تعالى النصر؟
فأنزل الله تعالى الآية،
ووعده مفعول ثان لصدق صريحا فإنه يتعدى إلى مفعولين في مثل هذا
النحو، وقد يتعدى إلى الثاني بحرف الجر، فيقال: صدقت زيدا في
الحديث، ومن هنا جوز بعضهم أن يكون نصبا بنزع الخافض والمراد
بهذا الوعد ما وعدهم سبحانه من النصر بقوله عز اسمه: إِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا [آل عمران: 120، 125، 186] إلخ وعلى
لسان نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم حيث قال للرماة: «لا
تبرحوا مكانكم فلن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم» .
وفي رواية أخرى «لا تبرحوا عن هذا المكان فإنا لانزال غالبين
ما دمتم في هذا المكان»
وأيد الأول بما أخرجه البيهقي في الدلائل عن عروة قال: كان
الله تعالى وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من
الملائكة مسوّمين وكان قد فعل فلما عصوا أمر الرسول وتركوا
مصافهم وتركت الرماة عهد الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم
(2/301)
إليهم أن لا يبرحوا منازلهم وأرادوا الدنيا
رفع الله تعالى مدد الملائكة، واختار مولانا شيخ الإسلام
الثاني، وقد تقدم لك ما ينفعك هنا.
والقول بأن المراد ما وعده جل شأنه بقوله سبحانه: سَنُلْقِي
فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ليس بشيء كما لا
يخفى، وأخرج الإمام أحمد وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما أنه قال: ما نصر الله تعالى نبيه في موطن كما نصره يوم
أحد فأنكروا ذلك، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب
الله تعالى إن الله تعالى يقول يوم أحد: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ
اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ أي تقتلونهم وهو التفسير
المأثور، واستشهد عليه الخبر بقول عتبة الليثي:
«نحسهم» بالبيض حتى كأننا ... نفلق منهم بالجماجم حنظلا
وبقوله:
ومنا الذي لاقى بسيف محمد ... «فحس» به الأعداء عرض العساكر
وأصل معنى حسه أصاب حاسته بآفة فأبطلها مثل كبده ولذا عبر به
عن القتل، ومنه جراد محسوس وهو الذي قتله البرد، وقيل: هو الذي
مسته النار، وكثيرا ما يستعمل الحس بالقتل على سبيل الاستئصال،
والظرف متعلق ب صَدَقَكُمُ وجوز أبو البقاء أن يكون ظرفا للوعد
بِإِذْنِهِ أي بتيسيره وتوفيقه، والتقييد به لتحقيق أن قتلهم
بما وعدهم الله تعالى من النصر حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ أي
فزعتم وجبنتم عن عدوكم وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أي أمر
الحرب أو أمره صلّى الله عليه وسلم لكم في سدّ ذلك الثغر على
ما تقدم تفسيره وَعَصَيْتُمْ إذ لم تثبتوا هناك وملتم إلى
الغنيمة مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ من انهزام
المشركين وغلبتكم عليهم.
قال مجاهد: نصر الله تعالى المؤمنين على المشركين حتى ركب نساء
المشركين على كل صعب وزلول ثم أديل عليهم المشركون بمعصيتهم
للنبي صلّى الله عليه وسلم،
وروي أن خالد بن الوليد أقبل بخيل المشركين ومعه عكرمة بن أبي
جهل، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الزبير رضي الله
تعالى عنه أن احمل عليه فحمل عليه فهزمه ومن معه فلما رأى
الرماة ذلك انكفؤوا إلا قليلا ودخلوا العسكر وخالفوا الأمر
وأخلوا الخلة التي كانوا فيها فدخلت خيول المشركين من ذلك
الموضع على الصحابة رضي الله تعالى عنهم فضرب بعضهم بعضا
والتبسوا وقتل من المسلمين أناس كثير بسبب ذلك
مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وهم الرماة الذين طمعوا في
النهب وفارقوا المركز له وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ
كعبد الله ابن جبير أمير الرماة ومن ثبت معه ممتثلا أمر رسول
الله صلّى الله عليه وسلم حتى استشهد ثُمَّ صَرَفَكُمْ
عَنْهُمْ أي كفكم عنهم حتى تحولت الحال من الغلبة إلى ضدها
لِيَبْتَلِيَكُمْ أي ليعاملكم معاملة من يمتحن ليبين أمركم
وثباتكم على الإيمان ففي الكلام استعارة تمثيلية، وإلا
فالامتحان محال على الله تعالى، وفي- حتى- هنا قولان: أحدهما
أنها حرف جر بمنزلة إلى ومتعلقها تَحُسُّونَهُمْ أو صَدَقَكُمُ
أو محذوف تقديره دام لكم ذلك، وثانيهما أنها حرف ابتداء دخلت
على الجملة الشرطية من إذا وما بعدها وجواب إِذا قيل:
تَنازَعْتُمْ، والواو زائدة واختاره الفراء، وقيل:
صَرَفَكُمْ وثُمَّ زائدة وهو ضعيف جدا والصحيح أنه محذوف وعليه
البصريون، وقدره أبو البقاء: بأن أمركم، وأبو حيان: انقسمتم
إلى قسمين بدليل ما بعده، والزمخشري: منعكم نصره، وابن عطية:
انهزمتم، ولكل وجهة، وبعض المتأخرين امتحنكم، وردّ بجعل
الابتداء غاية للصرف المترتب على منع النصر، وعلى كل تقدير
يكون صَرَفَكُمْ معطوفا على ذلك المحذوف، وقيل: إن إِذا اسم
كما في قولهم: إذا يقوم زيد إذا يقوم عمرو وحَتَّى حرف جر
بمعنى إلى متعلقة ب صَدَقَكُمُ باعتبار تضمنه معنى النصر كأنه
قيل: لقد نصركم الله تعالى إلى وقت فشلكم
(2/302)
وتنازعكم إلخ، وثُمَّ صَرَفَكُمْ حينئذ عطف
على ذلك، وهاتان الجملتان الظرفيتان اعتراض بين المتعاطفين
وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ بمحض التفضل أو لما علم من عظيم ندمكم
على المخالفة، قيل: والمراد بذلك العفو عن الذنب وهو عام لسائر
المنصرفين.
ويؤيد ذلك ما
أخرجه البخاري عن عثمان بن موهب قال: جاء رجل إلى ابن عمر رضي
الله تعالى عنهما فقال:
إني سائلك عن شيء فحدثني به أنشدك بحرمة هذا البيت أتعلم أن
عثمان بن عفان فرّ يوم أحد؟ قال: نعم قال: فتعلمه تغيب عن بدر
فلم يشهدها؟ قال: نعم، قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان
فلم يشهدها؟ قال: نعم فكبر فقال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبين
لك عما سألتني عنه، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله تعالى عفا
عنه، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلّى الله
عليه وسلم وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم: إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه.
وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان
لبعثه مكانه فبعث عثمان فكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان
إلى مكة فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بيده اليمنى وضرب
بها على يده فقال:
هذه يد عثمان اذهب بها الآن معك،
وقال البلخي: إنه عفو عن الاستئصال، وروي ذلك عن ابن جريج،
وزعم أبو علي الجبائي أنه خاص بمن لم يعص الله تعالى بانصرافه
والكل خلاف الظاهر. وقد يقال: الداعي لقول البلخي: إن العفو عن
الذنب سيأتي ما يدل عليه بأصرح وجه، والتأسيس خير من التأكيد،
وكلام ابن عمر رضي الله تعالى عنه ليس فيه أكثر من أن الله
تعالى عفا عن ذنب الفارّين وهو صريح الآية الآتية، وأما أنه
يفهم منه ولو بالإشعار أن المراد من العفو هنا العفو عن الذنب
فلا أظن منصفا يدعيه.
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ تذييل مقرر لمضمون
ما قبله وفيه إيذان بأن ذلك العفو ولو كان بعد التوبة بطريق
التفضل لا الوجوب أي شأنه أن يتفضل عليهم بالعفو أو في جميع
الأحوال أديل لهم أو أديل عليهم إذ الابتلاء أيضا رحمة،
والتنوين للتفخيم، والمراد بالمؤمنين إما المخاطبون والإظهار
في مقام الإضمار للتشريف والإشعار بعلة الحكم، وإما الجنس
ويدخلون فيه دخولا أوليا ولعل التعميم هنا وفيما قبله أولى من
التخصيص، وتخصيص الفضل بالعفو أولى من تخصيصه بعدم الاستئصال
كما زعمه البعض إِذْ تُصْعِدُونَ متعلق بصرفكم أو يبتليكم
وتعلقه- بعفا- كما قال الطبرسي: ليس بشيء، ومثله تعلقه كما قال
أبو البقاء، بعصيتم: أو تَنازَعْتُمْ أو فَشِلْتُمْ، وقيل:
متعلق بمقدر كاذكر، واستشكل بأنه يصير المعنى اذكر يا محمد
إِذْ تُصْعِدُونَ وفيه خطابان بدون عطف، فالصواب اذكروا.
وأجيب بأن المراد- باذكر- جنس هذا الفعل فيقدر- اذكروا- لا
اذكر، ويحتمل أنه من قبيل يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا
طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: 1] ولا يخفى أنه خلاف الظاهر،
وأجاب الشهاب بأن اذكر متضمن لمعنى القول، والمعنى قل لهم يا
محمد حين يصعدون إلخ ومثله لا منع فيه كما تقول لزيد: أتقول
كذا فإن الخطاب المحكي مقصود لفظه فلا ينافي القاعدة المذكورة
وهم غفلوا عنه فتأمل، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر أيضا،
والإصعاد الذهاب والإبعاد في الأرض، وفرق بعضهم بين الإصعاد
والصعود بأن الإصعاد في مستوى الأرض والصعود في ارتفاع، وقيل:
لا فرق بين أصعد وصعد سوى أن الهمزة في الأول للدخول نحو أصبح
إذا دخل في الصباح والأكثرون على الأول، وقرأ الحسن فيما أخرجه
ابن جرير عنه تُصْعِدُونَ بفتح التاء والعين، وحمله بعضهم على
صعود الجبل، وقرأ أبو حيوة تُصْعِدُونَ بفتح التاء وتشديد
العين وهو إما من تصعد في السلم إذا رقي أو من صعد في الوادي
تصعيدا إذا انحدر
(2/303)
فيه، فقد قال الأخفش: أصعد في الأرض إذا
مضى وسار وأصعد في الوادي وصعد فيه إذا انحدر. وأنشد:
فإما تريني اليوم مزجي ظعينتي ... «أصعد» طورا في البلاد وأفرع
وقال الشماخ:
فان كرهت هجائي فاجتنب سخطي ... لا يدهمنك إفراعي «وتصعيدي»
وورد عن غير واحد أن القوم لما امتحنوا ذهبوا فرارا في وادي
أحد، وقال أبو زيد: يقال صعد في السلم صعودا وصعد في الجبل أو
على الجبل تصعيدا ولم يعرفوا فيه صعد، وقرأ أبيّ إِذْ
تُصْعِدُونَ في الوادي وهي تؤيد قول من قال: إن الإصعاد الذهاب
في مستوى الأرض دون الارتفاع، وقرئ- يصعدون- بالياء التحتية
وأمر تعلق إذ باذكر عليه ظاهر وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ أي
لا تقيمون على أحد ولا تعرجون وهو من لوى بمعنى عطف وكثيرا ما
يستعمل بمعنى وقف وانتظر لأن من شأن المنتظر أن يلوي عنق، وفسر
أيضا بلا ترجعون وهو قريب من ذلك، وذكر الطبرسي أن هذا الفعل
لا يذكر إلا في النفي فلا يقال لويت على كذا، وقرأ الحسن تلون
بواو واحدة بقلب الواو المضمومة همزة وحذفها تخفيفا.
وقرئ تَلْوُونَ بضم التاء على أنه من ألوى لغة في لوى، ويلوون
بالياء كيصعدون قال أبو البقاء ويقرأ عَلى أَحَدٍ بضمتين- وهو
الجبل- والتوبيخ عليه غير ظاهر، ووجهه بعضهم بأن المراد أصحاب
أحد أو مكان الوقعة، وفيه إشارة إلى إبعادهم في استشعار الخوف
وجدهم في الهزيمة حتى لا يلتفتون إلى نفس المكان.
وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ أي يناديكم في ساقتكم
أو جماعتكم الأخرى أو يدعوكم من ورائكم فإنه يقال: جاء فلان في
آخر الناس وأخرتهم وأخراهم إذا جاء خلفهم، وإيراده عليه الصلاة
والسلام بعنوان الرسالة للإيذان بأن دعوته صلى الله تعالى عليه
وسلم كانت بطريق الرسالة من جهته تعالى مبالغة في توبيخ
المنهزمين،
روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان ينادي إليّ عباد الله
إليّ عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة
وكان ذلك حين انهزم القوم وجدوا في الفرار قبل أن يصلوا إلى
مدى لا يسمع فيه الصوت فلا ينافي ما تقدم
عن كعب بن مالك أنه لما عرف رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم ونادى بأعلى صوته يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله
صلّى الله عليه وسلم أشار إليه رسول الله عليه الصلاة والسلام
أن انصت
لأن ذلك كان آخر الأمر حيث أبعد المنهزمون، والجملة في موضع
الحال فَأَثابَكُمْ عطف على صَرَفَكُمْ والضمير المستتر عائد
على الله تعالى، والتعبير بالإثابة من باب التهكم على حد قوله:
تحية بينهم ضرب وجيع- أو أنها مجاز عن المجازاة أي فجازاكم
الله تعالى بما عصيتم غَمًّا بِغَمٍّ أي كربا بكرب والأكثرون
على أنه لا فرق بين الغم والحزن، والباء إما للمصاحبة والظرف
مستقر أي جازاكم غَمًّا متصلا بِغَمٍّ والغم الأول ما حصل لهم
من القتل والجرح وغلبة المشركين عليهم، والغم الثاني ما حصل
لهم من الإرجاف بقتل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفوت
الغنيمة، وإلى هذا ذهب قتادة والربيع.
وقيل: الغم الثاني إشراف أبي سفيان وأصحابه عليهم وهم مع رسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الصخرة وحكي ذلك عن السدي،
وقيل: المراد مجرد التكثير أي جازاكم بغموم كثيرة متصل بعضها
ببعض، وإما للسببية والظرف متعلق- بأثابكم- والغم الأول
للصحابة رضي الله تعالى عنهم بالقتل نحوه، والغم الثاني للرسول
صلى الله تعالى عليه وسلم بمخالفة أمره أي أثابكم غما بسبب غم
أذقتموه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعصيانكم له ومخالفتكم
أمره، وقال الحسن بن علي المغربي: الغم الأول للمشركين بما
رأوا من قوة المسلمين على طلبهم وخروجهم إلى حمراء
(2/304)
ثُمَّ أَنْزَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى
طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ
أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ
الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ
شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي
أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ
لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ
كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ
اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي
قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ
الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ
إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا
وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا
ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا
عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ
ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ
قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ
مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ
(158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ
كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي
الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ
اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا
الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ
لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ
كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ
اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا
مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ
قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
الأسد، والغم الثاني للمؤمنين بما نيل منهم
أي فجازاكم بغم أعدائكم المشركين بسبب غم أذاقوه إياكم، وقيل:
الباء على هذا للبدل وكلا القولين بعيد، والعطف عليه غير ظاهر
وأبعد من ذلك ما روي عن الحسن أن الغم الأول للمؤمنين بما
أصابهم يوم أحد، والغم الثاني للمشركين بما نالهم يوم بدر،
والمعنى فجازاكم غما يوم أحد بالقتل والجرح بسبب غم أذقتموه
المشركين يوم بدر كذلك واعترض عليه بأن ما لحق المشركين يوم
بدر من جهة المسلمين إنما يوجب المجازاة بالكرامة دون الغم،
وقيل الضمير المستكن في أثابكم للرسول صلى الله تعالى عليه
وسلم، وأثابكم بمعنى آساكم أي جعلكم أسوة له متساويين في الحزن
فاغتم صلى الله تعالى عليه وسلم بما نزل عليكم كما اغتممتم بما
نزل عليه ولم يثربكم على عصيانكم تسلية لكم وتنفيسا عنكم.
واعترض عليه بأنه خلاف الظاهر للزوم التفكيك على تقدير أن يكون
العطف على صرفكم وعدم ظهور الترتب إلا بتكلف إن كان العطف على
يَدْعُوكُمْ نعم التعليل عليه بقوله تعالى: لِكَيْلا
تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ ظاهر إذ
المعنى آساكم بذلك لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من
النصر ولا ما أصابكم من الشدائد، وكذا على ما ذهب إليه
المغربي، وأما على الأوجه الأخر فالمعنى لتتمرنوا على الصبر في
الشدائد فلا تحزنوا على نفع ما فات أو ضر آت، وإنما احتيج إلى
هذا التأويل لأن المجازاة بالغم إنما تكون سببا للحزن لا
لعدمه.
وقيل: لا زائدة والمعنى لكي تأسفوا على ما فاتكم من الظفر
والغنيمة وعلى ما أصابكم من الجراح والهزيمة عقوبة لكم،
فالتعليل حينئذ ظاهر ولا يخفى أن تأكيد لا وتكريرها يبعد القول
بزيادتها. وقيل: التعليل على ظاهره و «لا» ليست زائدة والكلام
متعلق بقوله تعالى: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ أي ولقد عفا الله
تعالى عنكم لئلا تحزنوا إلخ فإن عفو الله تعالى يذهب كل حزن،
ولا يخفى ما فيه، وربما يقال: إن أمر التعليل ظاهر أيضا على ما
حكي عن السدي من غير حاجة إلى التأويل ولا القول بزيادة- لا-
ويوضح ذلك ما أخرجه ابن جرير عن مجاهد قال: أصاب الناس غم وحزن
على ما أصابهم في أصحابهم الذين قتلوا فلما اجتمعوا في الشعب
وقف أبو سفيان وأصحابه بباب الشعب فظن المؤمنون أنهم سوف
يميلون عليهم فيقتلونهم أيضا فأصابهم حزن أنساهم حزنهم في
أصحابهم فذلك قوله تعالى:
فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ إلخ، وحديث إن المجازاة بالغم
إنما تكون سببا للحزن لا لعدمه غير مسلم على الإطلاق، وأي مانع
من أن يكون غم مخصوص سببا لزوال غم آخر مخصوص أيضا بأن يعظم
الثاني فينسى الأول فتدبر وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
عليم بأعمالكم وبما قصدتم بها، وفي المقصد الأسنى- الخبير-
بمعنى العليم لكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خبرة
وسمي صاحبها خبيرا، وفيه ترغيب في الطاعة وترهيب عن المعصية.
(2/305)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ عطف على
فَأَثابَكُمْ والخطاب للمؤمنين حقا، والمعنى ثم وهب لكم أيها
المؤمنون مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ الذي اعتراكم والتصريح بتأخر
الإنزال عنه مع دلالة ثم عليه وعلى تراخيه عنه لزيادة البيان،
وتذكير عظم المنة أَمَنَةً مصدر كالمنعة وهو مفعول أَنْزَلَ أي
ثم أنزل عليكم أمنا نُعاساً بدل اشتمال منها، وقيل:
عطف بيان، وجوز أن يكون نُعاساً منصوبا على المفعولية
وأَمَنَةً حال منه والمراد ذا أمنة ولا يضر كونها من النكرة
لتقدمها أو حال من المخاطبين على تقدير مضاف أي ذوي أمنة، أو
على أنه جمع آمن كبار وبررة.
وقيل: إن أمنة مفعول له لنعاسا، واعترض بأنه يلزم على ظاهره
تقديم معمول المصدر عليه، وإن التزم تقدير فعل أي نعستم أمنة،
ورد أنه ليس للفعل موقع حسن، وقيل: إنه مفعول له لأنزل.
واعترض بأنه فاسد لاختلال شرطه وهو اتحاد الفاعل إذ فاعل أنزل
هو الله تعالى وفاعل الأمنة هو المنزل عليهم، ورد بأن الأمنة
كما يكون مصدرا لمن وقع به الأمن يكون مصدرا لمن أوقعه،
والمراد هنا الثاني كأنه قيل: أنزل عليكم النعاس ليؤمنكم به
وحينئذ لا شبهة في اتحاد الفاعل وقرئ بسكون الميم كأنها
لوقوعها في زمن يسير مرة من الأمن فلا ينافي كون المقصود مطلق
الأمن وتقديم الظرفين على المفعول الصريح للاعتناء بشأن
المقدم، والتشويق إلى المؤخر، وتخصيص الخوف من بين فنون الغم
بالإزالة لأنه المهم عندهم في ذلك المقام،
فقد أخرج ابن جرير عن السدي أن المشركين انصرفوا يوم أحد بعد
الذي كان من أمرهم وأمر المسلمين فواعدوا النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم بدرا من قابل فقال لهم: نعم فتخوف المسلمون أن
ينزلوا المدينة فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجلا فقال:
انظر فإن رأيتهم قد قعدوا على أثقالهم وجنبوا خيولهم فإن القوم
ذاهبون، وإن رأيتهم قد قعدوا على خيولهم وجنبوا أثقالهم فإن
القوم ينزلون المدينة فاتقوا الله تعالى واصبروا، ووطنهم على
القتال فلما أبصرهم الرسول قعدوا على الأثقال سراعا عجالا نادى
بأعلى صوته بذهابهم فلما رأى المؤمنون ذلك صدقوا نبي الله صلّى
الله عليه وسلم فناموا وبقي أناس من المنافقين يظنون أن القوم
يأتونهم فلذلك قوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ إلخ،
وعن ابن عباس في الآية قال: آمنهم الله تعالى يومئذ
(2/306)
بنعاس غشاهم، وإنما ينعس من يأمن والخائف
لا ينام.
وأخرج خلق كثير عن أنس أن أبا طلحة قال غشينا النعاس يوم أحد
ونحن في مصافنا وكنت ممن غشيه النعاس يومئذ فجعل سيفي يسقط من
يدي وآخذه ويسقط وآخذه، وفي رواية أخرى عنه أنه قال: رفعت رأسي
يوم أحد فجعلت أنظر وما منهم من أحد إلا وهو يميد تحت حجفته-
أي ترسه- من النعاس، وعن الزبير بن العوام مثله قيل: وهذه عادة
الله تعالى مع المؤمنين جعل النعاس في الحرب علامة للظفر وقد
وقع كذلك لعلي كرم الله تعالى وجهه في صفين وهو من الواردات
الرحمانية والسكينة الإلهية يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ قال ابن
عباس: هم المهاجرون وعامة الأنصار، وفيه إشعار بأنه لم يغش
الكل ولا يقدح ذلك في عموم الإنزال للكل، والجملة في موضع نصب
على أنها صفة- لنعاسا- وقرأ حمزة والكسائي- تغشى- بالتاء
الفوقانية على أن الضمير- للأمنة.
والظاهر أن الجملة حينئذ مستأنفة وقعت جوابا لسؤال تقديره ما
حكم هذه الأمنة؟ فأجيب بأنها تغشى طائفة، وقيل: إنها في موضع
الصفة لأمنة، واعترض بأن الصفة حقها أن تتقدم على البدل وعطف
البيان وأن لا يفصل بينها وبين الموصوف بالمفعول له وأن
المعهود أن يحدث عن البدل دون المبدل منه وَطائِفَةٌ وهم
المنافقون. قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي جعلتهم ذوي هم
وأوقعتهم فيه أو ما يهمهم إلا أنفسهم لا النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم ولا غيره من أهمه بمعنى جعله مهما له ومقصودا والحصر
مستفاد من المقام، وذكر بعضهم أن العرب تطلق هذا اللفظ على
الخائف الذي شغله هم نفسه عن غيره، طائِفَةً مبتدأ وجملة قَدْ
أَهَمَّتْهُمْ إلخ خبره، وجاز ذلك مع كونها نكرة لوقوعها بعد
واو الحال كما في قوله:
سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا ... محياك أخفى ضوء كل شارق
أو لوقوعها موقع التفصيل كما في قوله:
إذا مت كان الناس صنفان شامت ... وآخر مثن بالذي أنا صانع
وجوز أن تكون الجملة نعتا لها والخبر حينئذ محذف أي ومعكم، أو
وهناك طائفة وتقدير- ومنكم طائفة- يقتضي أن يكون المنافقون
داخلين في الخطاب بإنزال الأمنة وأيّا ما كان فالجملة إما
حالية مبينة لفظاعة الهول مؤكدة لعظم النعمة في الخلاص عنه،
وإما مستأنفة مسوقة لبيان حال المنافقين فالواو إما حالية وإما
استئنافية وكونها بمعنى إذ ليس بشيء كما نص عليه أبو البقاء
يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ في موضع الحال من ضمير
أَهَمَّتْهُمْ لا من طائِفَةً وإن تخصصت لما في مجيء الحال من
المبتدأ من المقال، وجوز أن تكون صفة بعد صفة لطائفة، أو خبرا
بعد خبر، أو هي الخبر وقَدْ أَهَمَّتْهُمْ صفة أو مستأنفة
مبينة لما قبلها وغير منصوب على المصدرية المؤكدة لأنه مضاف
إلى مصدر محذوف وهو بحسب ما يضاف إليه أي غير الظن الحق وهو
الذي يحق أن يظن به تعالى، وقال بعضهم: إنه مفعول مطلق نوعي،
وقوله تعالى ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ بدل مما قبله.
وقال ابن الحاجب: غَيْرَ الْحَقِّ وظَنَّ مصدران أحدهما
للتشبيه والآخر تأكيد لغيره أي يقولون غير الحق ومفعولا
يَظُنُّونَ محذوفان أي يظنون أن إخلاف وعده سبحانه حاصل، وأبو
البقاء يجعل غَيْرَ الْحَقِّ مفعولا أولا أي أمرا غير الحق،
وبِاللَّهِ في موضع المفعول الثاني وإضافة ظَنَّ إلى الجاهلية
قيل: إما من إضافة الموصوف إلى مصدر صفته ومعناها الاختصاص
بالجاهلية كرجل صدق وحاتم الجود فهي على معنى اللام أي المختص
بالصدق والجود فالياء مصدرية والتاء للتأنيث اللازم له، وإما
من إضافة المصدر إلى الفاعل على حذف المضاف أي ظن أهل الجاهلية
أي الشرك والجهل بالله تعالى وهي اختصاصية حقيقية أيضا.
(2/307)
يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ
شَيْءٍ أي يقول بعضهم لبعض على سبيل الإنكار: هل لنا من النصر
والفتح والظفر نصيب أي ليس لنا من ذلك شيء لأن الله سبحانه
وتعالى لا ينصر محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، أو يقول
لحاضرون منهم لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على صورة
الاسترشاد: هل لنا من أمر الله تعالى ووعده بالنصر شيء،
واختاره بعض المحققين.
والجملة قيل: إما حال أو خبر إثر خبر أو صفة إثر صفة أو
مستأنفة مبينة لما قبلها، أو بدل من يَظُنُّونَ وهو بدل الكل
بحسب الصدق، وبدل الاشتمال بحسب المفهوم، واستشكل بأن قوله:
يَقُولُونَ هَلْ لَنا إلخ تفسير ل يَظُنُّونَ وترجمة له
والاستفهام لا بكون ترجمة للخبر كما لا يصح أن تقول: أخبرني
زيد قال: لا تذهب أو أمرني قال: لا تضرب، أو نهاني قال: اضرب
فإن المطابقة بين الحكاية والمحكي واجبة.
وحاصل الإشكال أن متعلق الظن النسبة التصديقية فكيف يقع
استفهام ترجمة له؟ وأجيب بأن الاستفهام طلب علم فيما يشك ويظن
فجاز أن يكون متعلق الظن وتحقيقه أن الظن أو العلم يتعلق بما
يقال في جواب ذلك الاستفهام على ما ذكر في باب تعليق أفعال
القلوب باستفهام، ولا يخفى أن هذا إنما هو على تقدير كون
الاستفهام حقيقيا، وأما على تقدير كونه إنكاريا فلا إشكال، ولا
قيل ولا قال لأنه خبر فيتطابق مع ما قبله في الخبرية، وبعض من
جعله إنكاريا ذهب إلى أن المعنى إنا منعنا تدبير أنفسنا
وتصريفها باختيارنا فلم يبق لنا من الأمر شيء، وقد قال ذلك عبد
الله بن أبيّ حين أخبره المنافقون بقتل بني الخزرج ثم قال:
والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قيل:
وظنهم السوء على هذا تصويبهم رأي عبد الله ومن تبعه، وقيل:
الاستفهام على ظاهره والمعنى هل يزول عنا هذا القهر فيكون لنا
من الأمر شيء، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر، ومِنْ الثانية سيف
خطيب، وشَيْءٍ في موضع رفع على الابتداء، وفي خبره كما قال أبو
البقاء: وجهان، أحدهما لَنا فمن الأمر حال، والثاني مِنَ
الْأَمْرِ فلنا تبيين وبه تتم الفائدة قُلْ يا محمد إِنَّ
الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ أي إن الشأن والغلبة الحقيقية لحزب
الله تعالى وأوليائه فينصر رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم
وأصحابه ويخذل أعداءه ويقهرهم وكنى بكون الغلبة لله تعالى عن
كونها لأوليائه لكونهم من الله سبحانه بمكان، أو أن القضاء أو
التدبير له تعالى مخصوص به لا يشاركه فيه غيره فيفعل ما يشاء
وتجري الأمور حسبما جرى به القلم في سابق القضاء، وعلى هذا لا
كناية في الكلام، وجاء مؤكدا لما أن الكلام الذي وقع هو في
مقابلته كذلك.
واستظهر في البحر من هذا الأمر كون الاستفهام فيما تقدمه باقيا
على حقيقته إذ لو كان معناه نفى أن يكون لهم شيء من الأمر لم
يجابوا بإثبات أن الأمر كله لله اللهم إلا أن يقدر مع جملة
النفي جملة ثبوتية ليكون المعنى- ليس لنا من الأمر شيء- بل
لغيرنا ممن حملنا على الخروج وأكرهنا عليه فحينئذ يمكن أن يكون
ذلك جوابا لهذا المقدر، وفيه أنه لا حاجة إلى هذا التقدير على
ذلك التقدير أيضا أما إذا كان مرادهم نفي نصر الله تعالى نبيه
صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه فواضح لأن في هذا القول
إثبات ذلك النصر على أتم وجه، وأما إذا كان مرادهم أنه لم يبق
لهم من الأمر شيء حيث منعوا تدبير أنفسهم فلأن في ذلك النفي
إشعارا بأن لهم تدبيرا وأنهم لو تركوا وتدبيرهم ما غمزت قناتهم
وهذا الإثبات متكفل برد ذلك وإبطاله على وجه سترة عليه كما لا
يخفى فلا أرى التقدير على ما فيه إلا من ضيق العطن، وقرأ أبو
عمرو ويعقوب كُلَّهُ بالرفع على الابتداء والجار متعلق بمحذوف
وقع خبرا له، والجملة خبر إِنَّ، وأما على قراءة النصب فكل
توكيد لاسم إِنَّ ولِلَّهِ خبرها.
(2/308)
وزعم أبو البقاء أنه يجوز أن يكون كُلَّهُ
بدلا من الْأَمْرِ وفيه بعد يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أي
يضمرون فيها أو يسرون فيما بينهم ما لا يُبْدُونَ لَكَ أي ما
لا يستطيعون إظهاره لك، والجملة إما استئناف أو حال من ضمير
يَقُولُونَ وقوله سبحانه: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ
لِلَّهِ اعتراض بين الحال وصاحبها أي يقولون ما يقولون مظهرين
أنهم مسترشدون طالبون للنصر مبطنين الإنكار والتكذيب وهذا ظاهر
على الاحتمال الثاني في الآية الأولى، والذاهب إلى حمل
الاستفهام فيها على الإنكار يتعين عنده الاستئناف أو يجوز
الخبرية ونحوها أيضا على ما مر، والجملة الجوابية اعتراضية في
كل حال سوى احتمال الاستئنافية على الصحيح، وأما جعل هذه
الجملة حالا من ضمير قُلْ والرابط لك فلا يخفى حاله يَقُولُونَ
أي في أنفسهم أو خفية لبعضهم إذ لو كان القول جهارا لم يكونوا
منافقين، والجملة إما بدل من يُخْفُونَ أو استئناف وقع جوابا
عن سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل: ما الذي أخفوه؟ فقيل ذلك،
ورجحه بعض المحققين بأنه أكثر فائدة وبأن القول إذا حمل على
ظاهره لم يتفاوت القولان لأن قولهم هَلْ لَنا للمؤمنين ليس في
حال قولهم لَوْ كانَ لَنا لأصحابهم، وبدل الحال حال، وأنت تعلم
أن هذا الأخير مبني على أن القول الأول كان للمؤمنين وقد علمت
أنه غير متعين، وقيل: لأنه لا يجتمع قولان من متكلم واحد، وفيه
أن زمان الحال المقارن ليس مبنيا على التضييق كما لا يخفى، ومن
هنا علل بعض الفضلاء نفي المقارنة بترتب هذا على ما قبله وعدل
عن هذا التعليل فان.
لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا على
معنى لو كان لنا شيء من ذلك كما وعد محمد وادعى أن الأمر لله
تعالى ولأوليائه ما قُتِلْنا فكأن هذا في زعمهم ردّ لما أجيبوا
به أولا، ويحتمل أن يكون المراد لو كان لنا اختيار وتدبير لم
نبرح كما كان رأي ابن أبيّ وأتباعه، ومعنى ما قُتِلْنا ما
غلبنا لأن القائلين ليسوا ممن قتل لاستحالته، ويحتمل أن يكون
الإسناد مجازيا بإسناد ما للبعض للكل، فالمعنى لو كان لنا شيء
من ذلك ما قتل من قتل منا في هذه المعركة، ثم لا يخفى أن القول
بالترتب يستدعي سبق نزول الآية الجوابية وسماعهم لها حتى يتأتى
القول بزعم ردها بهذه الشبهة الفاسدة، والظاهر من الآثار عدم
نزولها إذ ذاك، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه سئل عن هذه
الآية فقال: لما قتل من قتل من أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه
وسلم أتوا عبد الله بن أبيّ فقالوا له: ما ترى فقال: إنا والله
ما نؤامر لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا
هاهُنا.
وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن جرير وخلق كثير عن الزبير
رضي الله تعالى عنه قال: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا أرسل الله تعالى علينا
النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره فو الله إني لأسمع قول
معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم: لَوْ كانَ لَنا مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا فحفظتها منه، وفي ذلك
أنزل الله تعالى ثم أنزل إلى هاهُنا وقد يقال: إن هذا القول
منهم كالاستدلال على القول الأول وإن كلا القولين وقع منهم
ابتداء وقصة الله تعالى علينا رادا له وهذا ظاهر على تقدير أن
يكون الاستفهام إنكاريا وأما على تقدير أن يكون حقيقيا ففيه
خفاء فتأمل قُلْ يا محمد في جواب ذلك لَوْ كُنْتُمْ أيها
المنافقون فِي بُيُوتِكُمْ ومنازلكم بالمدينة ولم تخرجوا
للقتال بجملتكم لَبَرَزَ أي لخرج لسبب من الأسباب الداعية إلى
البروز الَّذِينَ كُتِبَ في اللوح المحفوظ أو قدر في سابق علم
الله تعالى عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ في تلك المعركة إِلى
مَضاجِعِهِمْ أي مصارعهم التي علم الله تعالى وقدر قتلهم فيها
وقتلوا هناك البتة فإن قضاء الله تعالى لا يرد وحكمه لا يعقب،
وفيه من المبالغة في ردّ مقالتهم الباطلة ما لا يخفى، وزعم بعض
أن الظاهر الأبلغ أن يراد بمن كتب عليهم القتل الكفار القاتلون
أي لخرج الذين يقتلون من بين قومهم إلى مضاجع المقتولين ولم
ينج أحد منهم مع تحصنهم بالمدينة
(2/309)
وتحفظهم في بيوتهم ولا يخفى بعده لما فيه
من التفكيك، ولأن الظاهر من «عليهم» أنهم مقتولون لا قاتلون،
وقيل:
المعنى لو لزمتم منازلكم أيها المنافقون والمرتابون وتخلفتم عن
القتال لخرج إلى البراز المؤمنون الذين فرض عليهم القتال
صابرين محتسبين فيقتلون ويقتلون، ويؤول إلى قولنا: لو تخلفتم
عن القتال لا يتخلف المؤمنون، والمضاجع جمع مضجع فإن كان بمعنى
المرقد فهو استعارة للمصرع، وإن كان بمعنى محل امتداد البدن
مطلقا للحي والميت فهو حقيقة، وقرئ «كتب» بالبناء للفاعل، ونصب
«القتل» و «كتب عليهم القتال» و «لبرّز» بالتشديد على البناء
للمفعول وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ أي ليختبر
الله تعالى ما في صدوركم بأعمالكم فإنه قد علمه غيبا ويريد أن
يعلمه شهادة لتقع المجازاة عليه قاله الزجاج، أو ليعاملكم
معاملة المبتلى الممتحن قاله غير واحد، وهو خطاب للمؤمنين
واللام للتعليل ومدخولها علة لفعل مقدر قبل معطوف على علل أخرى
مطوية للإيذان بكثرتها كأنه قيل فعل ما فعل لمصالح جمة
وَلِيَبْتَلِيَ إلخ أو لفعل مقدر بعد أي وللابتلاء المذكور فعل
ما فعل لا لعدم العناية بشأن أوليائه وأنصار نبيه صلى الله
تعالى عليه وسلم مثلا.
والعطف على هذا عند بعض المحققين على قوله تعالى: أَنْزَلَ
عَلَيْكُمْ والفصل بينهما مغتفر لأن الفاصل من متعلقات المعطوف
عليه لفظا أو معنى، وقيل: إنه لا حذف في الكلام وإنما هو معطوف
على قوله تعالى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا أي أثابكم بالغم لأمرين
عدم الحزن والابتلاء، واستبعد بأن توسط تلك الأمور محتاج إلى
نكتة حينئذ، وهي غير ظاهرة، وأبعد منه بل لا يكاد يقبل العطف
على قوله تعالى: لِيَبْتَلِيَكُمْ أي صرفكم عنهم ليبتليكم
وليبتلي ما في صدوركم، وجعله بعضهم معطوفا على علة محذوفة
وكلتا العلتين لَبَرَزَ الَّذِينَ كأنه قيل: لَبَرَزَ
الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ
لنفاذ القضاء، أو لمصالح جمة وللابتلاء.
واعترض بأن الذوق السليم يأباه فإن مقتضى المقام بيان حكمة ما
وقع يومئذ من الشدة والهول لا بيان حكمة البروز المفروض، وإنما
جعل الخطاب للمؤمنين لأنهم المعتدّ بهم ولأن إظهار حالهم مظهر
لغيرهم.
وقيل: إنه لهم وللمنافقين أي ليبتلي ما في سرائركم من الإخلاص
والنفاق: وقيل: للمنافقين خاصة لأن سوق الآية لهم وظاهر قوله
تعالى: وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ أي ليخلص ما فيها من
الاعتقاد من الوسواس، يرجح الأول لأن المنافقين لا اعتقاد لهم
ليمحص من الوساوس ويخلص منها، ولعل القائلين بكون الخطاب
للمنافقين فقط أو مع المؤمنين يفسرون التمحيص بالكشف والتمييز
أي ليكشف ما في قلوبكم من مخفيات الأمور أو النفاق ويميزها،
إلا أن حمل التمحيص على هذا المعنى يجعل هذه الجملة كالتأكيد
لما قبلها وإنما عبر بالقلوب هنا كما قيل: لأن التمحيص متعلق
بالاعتقاد على ما أشرنا إليه وقد شاع استعمال القلب مع ذلك
فيقال: اعتقد بقلبه ولا تكاد تسمعهم يقولون اعتقد بصدره أو آمن
بصدره، وفي القرآن أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ
[المجادلة: 42] وليس فيه كتب في صدورهم الإيمان، نعم يذكر
الصدر مع الإسلام كما في قوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ
صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الزمر: 22] ومن هنا قال بعض السادات:
القلب مقر الإيمان، والصدر محل الإسلام، والفؤاد مشرق
المشاهدة، واللب مقام التوحيد الحقيقي، ولعل الآية على هذا
تؤول إلى قولنا ليبتلي إسلامكم وليمحص إيمانكم، وربما يقال عبر
بذلك مع التعبير فيما قبل بالصدور للتفنن بناء على أن المراد
بالجمعين واحد.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما في القلوب التي في
الصدور من الضمائر الخفية ووصفت بذلك لأنها لتمكنها من الصدور
جعلت كأنها مالكة لها فذات بمعنى صاحبة لا بمعنى ذات الشيء
ونفسه، وفي الآية وعد ووعيد أو
(2/310)
أحدهما فقط على الخلاف في الخطاب وفيها
تنبيه على أن الله تعالى غني عن الابتلاء وإنما يبرز صورة
الابتلاء لحكم يعلمها كتمرين المؤمنين أو إظهار حال المنافقين،
واختار الصدور هاهنا لأن الابتلاء الغني عنه سبحانه كان متعلقا
بما فيها والتمحيص على المعنى الأول تصفية وتطهير وليس ذلك مما
تشعر به هذه الجملة بأنه سبحانه غني عنه وإنما فعله لحكمة، نعم
إذا أريد به الكشف والتمييز يصح أن يقال: إن هذه الجملة مشعرة
بأنه تعالى غني أيضا.
ومن هنا جوّز بعض المحققين كونها حالا من متعلق الفعلين أي فعل
ما فعل للابتلاء والكشف، والحال أنه تعالى غني عنهما محيط
بخفيات الأمور إلا أنه لا يظهر حينئذ سر التعبير عن الأسرار
والخفيات بذات الصدور دون ذات القلوب مع أن التعبير الثاني
أولى بها لأن القلوب محلها بلا واسطة ومحلية الصدور لها بحسب
الظاهر بواسطة القلوب اللهم إلا أن يقال: إن ذات الصدور بمعنى
الأشياء التي لا تكاد تفارق الصدور لكونها حالة فيها بل
تلازمها وتصاحبها أشمل من ذات القلوب لصدق الأولى على الأسرار
التي في القلوب وعلى القلوب أنفسها لأن كلا من هذين الأمرين
ملازم للصدور باعتبار كونه حالا فيها دون الثانية لأنها لا
تصدق إلا على الأسرار لأنها الحالة فيها دون الصدور فحينئذ
يمكن أن يراد من ذات الصدور هذا المعنى الشامل ويكون التعبير
بها لذلك إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا الدبر عن المشركين بأحد
مِنْكُمْ أيها المسلمون، أو أن الذين هربوا منكم إلى المدينة
يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وهما جمع رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم. وجمع أبي سفيان. إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ
الشَّيْطانُ أي طلب منهم الزلل ودعاهم إليه بِبَعْضِ ما
كَسَبُوا من ذنوبهم يعني إن الذين تولوا كان السبب في توليتهم
أنهم كانوا أطاعوا الشيطان فاقترفوا ذنوبا فمنعوا من التأييد
وتقوية القلوب حتى تولوا، وعلى هذا لا يكون الزلل هو التولي بل
الذنوب المفضية إليه، وجوز أن يكون الزلل الذي أوقعهم الشيطان
فيه ودعاهم إليه هو التولي نفسه، وحينئذ يراد ببعض ما كسبوا
إما الذنوب السابقة- ومعنى السببية- انجرارها إليه لأن الذنب
يجرّ الذنب كما أن الطاعة تجرّ الطاعة، وإما قبول ما زين لهم
الشيطان من الهزيمة وهو المروي عن الحسن، وإما مخالفة أمره صلى
الله تعالى عليه وسلم بالثبات في المركز فجرّهم ذلك إلى
الهزيمة، وإما الذنوب السابقة لا بطريق الانجرار بل لكراهة
الجهاد معها فقد قال الزجاج: إن للشيطان ذكرهم خطايا لهم كرهوا
لقاء الله تعالى معها فأخروا الجهاد وتولوا حتى يصلحوا أمرهم
ويجاهدوا على حال مرضية، والتركيب على الوجهين من باب تحقيق
الخبر كقوله:
إن التي ضربت بيتا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول
وليس من باب أن الصفة علة للخبر كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ
[لقمان: 8] لأن بِبَعْضِ ما كَسَبُوا يأباه ويحقق التحقيق، وهو
أيضا من باب الترديد للتعليق كقوله:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مستة سراء
لأن إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ إلخ خبر إن وزيد- إن- للتوكيد
وطول الكلام، وما- لتكفها عن العمل، وأصل التركيب إن الذين
تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما تولوا لأن الشيطان استزلهم
ببعض إلخ فهو كقولك: إن الذي أكرمك إنما أكرمك لأنك تستحقه،
وذكر بعض للإشارة إلى أن في كسبهم ما هو طاعة لا يوجب
الاستزلال، أو لأن هذه العقوبة ليست بكل ما كسبوا لأن الكل
يستدعي زيادة عليها لكنه تعالى منّ بالعفو عن كثير وَلَوْ
يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى
ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: 45] وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ
عَنْهُمْ.
أعاد سبحانه ذكر العفو تأكيدا لطمع المذنبين فيه ومنعا لهم عن
اليأس وتحسينا للظنون بأتم وجه، وقد يقال:
(2/311)
هذا تأسيس لا تأكيد فتذكر إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ للذنوب صغائرها وكبائرها حَلِيمٌ لا يعاجل بعقوبة
المذنب، وقد جاءت هذه الجملة كالتعليل للعفو عن هؤلاء المتولين
وكانوا أكثر القوم، فقد ذكر أبو القاسم البلخي أنه لم يبق مع
النبي صلّى الله عليه وسلم يوم أحد إلا ثلاثة عشر نفسا خمسة من
المهاجرين أبو بكر وعلي وطلحة وعبد الرحمن ابن عوف وسعد بن أبي
وقاص، والباقون من الأنصار رضي الله تعالى عنهم أجمعين ومن
مشاهير المنهزمين عثمان ورافع بن المعلى وخارجة بن زيد وأبو
حذيفة بن عتبة والوليد بن عقبة وسعد وعقبة ابنا عثمان من
الأنصار من بني زريق، وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت في
الثلاثة الأول، وعن غيره غير ذلك ولم يوجد في الآثار تصريح
بأكثر من هؤلاء، ولعل الاقتصار عليهم لأنهم بالغوا في الفرار
ولم يرجعوا إلا بعد مضي وقت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم حتى أن منهم من لم يرجع إلا بعد ثلاث، فزعموا أن رسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لقد ذهبتم بها عريضة، وأما
سائر المنهزمين فقد اجتمعوا في ذلك اليوم على الجبل، وعمر بن
الخطاب رضي الله تعالى عنه كان من هذا الصنف كما في خبر ابن
جرير خلافا للشيعة وبفرض التسليم لا تعيير بعد عفو الله تعالى
عن الجميع، ونحن لا ندعي العصمة في الصحابة رضي الله تعالى
عنهم ولا نشترطها في الخلافة.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
كَفَرُوا وهم المنافقون كعبد الله بن أبيّ وأصحابه قاله السدي.
ومجاهد- وإنما ذكر في صدر الجملة كفرهم تصريحا بمباينة حالهم
لحال المؤمنين وتنفيرا عن مماثلتهم وهم هم، وفيه دليل على أن
الإيمان ليس عبارة عن مجرد الإقرار باللسان- كما يقوله
الكرامية- وإلا لما لما سمي المنافق كافرا، وقيل: المراد
بالذين كفروا سائر الكفار على العموم أي لا تكونوا كالكفرة في
نفس الأمر وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ في المذهب أو النسب، واللام
تعليلية أي قالوا لأجلهم، وجعلها ابن الحاجب بمعنى عن، ولا
يجوز أن يكون المراد مخاطبة الإخوان كما هو المتبادر لدلالة ما
بعد على أنهم كانوا غائبين حين هذا القول، وقول بعضهم: يصح أن
يكون جعل القول لإخوانهم باعتبار البعض الحاضرين والضرب الآتي
لضرب آخر تكلف لا حاجة إليه سوى كثرة الفضول إِذا ضَرَبُوا فِي
الْأَرْضِ أي سافروا فيها لتجارة، أو طلب معاش فماتوا- قال
السدي- وأصل الضرب إيقاع شيء على شيء، واستعمل في السير لما
فيه من ضرب الأرض بالرجل، ثم صار حقيقة فيه، وقيل: أصل الضرب
في الأرض الإبعاد في السير وهو ممنوع وخص الأرض بالذكر لأن
أكثر أسفارهم كان في البر، وقيل: اكتفى بذكر الأرض مرادا بها
البر عن ذكر البحر، وقيل: المراد من الأرض ما يشمل البر والبحر
وليس بالبعيد، وجيء- بإذا- وحق الكلام إذ كما قالوا لقالوا
الدال بهيئته على الزمان المنافي للزمان الدالة عليه إِذا
مراعاة لحكاية الحال الماضية، ومعنى ذلك أن تقدر نفسك كأنك
موجود في ذلك الزمان الماضي أو تقدر ذلك الزمان كأنه موجود
الآن وهذا كقولك: قالوا ذلك حين يضربون والمعنى حين ضربوا إلا
أنك جئت بلفظ المضارع استحضارا لصورة ضربهم في الأرض، واعترض
بوجهين: الأول أن حكاية الحال إنما تكون حيث يؤتى بصيغة الحال
وهذه صيغة استقبال لأن معنى إِذا ضَرَبُوا حين يضربون فيما
يستقبل، الثاني أن قولهم: لو كانوا عندنا إنما هو بعد موتهم
فكيف يتقيد بالضرب في الأرض.
وأجيب عن الأول بأن إِذا ضَرَبُوا في معنى الاستمرار كما في
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 14، 76] فيفسد
الاستحضار نظرا للحال، وعن الثاني بأن قالُوا لِإِخْوانِهِمْ
في موقع جزاء الشرط من جهة المعنى فيكون المعنى لا تكونوا
كالذين كفروا، وإذا ضرب إخوانهم فماتوا أَوْ كانُوا غُزًّى
فقتلوا قالوا لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا
فالضرب والقتل كلاهما في معنى الاستقبال، وتقييد القول بالضرب
إنما هو باعتبار الجزء الأخير وهو الموت، والقتل فإنه وإن لم
يذكر لفظا لدلالة ما في القول عليه فهو مراد معنى والمعتبر
المقارنة عرفا كما في قوله تعالى: فَإِذا
(2/312)
أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا
اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ [البقرة: 198] وكقولك
إذا طلع هلال المحرم: أتيتك في منتصفه.
وقال الزجاج: إِذا هنا تنوب عما مضى من الزمان وما يستقبل يعني
أنها لمجرد الوقت أو لقصد الاستمرار والذي يقتضيه النظر الصائب
أن لا يجعل إِذا ضَرَبُوا ظرفا لقالوا بل ظرف لما يحصل للإخوان
حين يقال لأجلهم وفي حقهم ذلك كأنه قيل: قالوا لأجل الأحوال
العارضة للإخوان إِذا ضَرَبُوا بمعنى حين كانوا يضربون قاله
العلامة الثاني، وأنت تعلم أن تجريد إِذا عن معنى الاستقبال
وجعلها بمعنى الوقت مطلقا كاف في توجيه الآية مزيل لاشكالها،
وقصد الاستمرار منها لا يدفع الاعتراض عن ذلك التوجيه لأنها
إذا كانت للاستمرار تشمل الماضي فلا تكون لحكاية الحال وكذا
إذا كان قالوا جوابا إذ يصير مستقبلا فلا تتأتى فيه الحكاية
المذكورة أيضا ويرد على ما اقتضاه النظر الصائب أن دون إثبات
صحة مثله في العربية خرط القتاد، وأقعد منه- وإن كان بعيدا- ما
قاله أبو حيان من أنه يمكن إقرار إِذا على الاستقبال بأن يقدر
العامل فيها مضاف مستقبل على أن ضمير لو كانوا عائدا على
إخوانهم لفظا لا معنى على حد عندي درهم ونصفه، والتقدير
وَقالُوا مخافة هلاك إخوانهم إِذا ضَرَبُوا أَوْ كانُوا غُزًّى
لَوْ كانُوا أي إخواننا الآخرون الذين تقدم موتهم وقتلهم
عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا فتكون هذه المقالة تثبيطا
لإخوانهم الباقين عن السفر والغزو لئلا يصيبهم ما أصاب الأولين
وإنما لم يحملوا إِذا هنا على الحال كما قيل بحملها عليه بعد
القسم نحو وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [الليل: 1] لتصفوا لهم دعوى
حكاية الحال عن الكدر لأن ذلك غير مسلم عند المحققين هناك فقد
صححوا فيه بقاءها على الاستقبال من غير محذور، وجوز في الآية
كون قالوا بمعنى يقولون وقد جاء في كلامهم استعمال الماضي
بمعنى المستقبل ومنه قوله:
وإني لآتيكم تشكر ما مضى ... من الأمر واستيجاب ما كان في غد
وكذا جوز بقاؤه على معناه وحمل إِذا على الماضي فإنها تجيء له
كما جاءت إذا للمستقبل في قول البعض وذلك كقوله تعالى: وَإِذا
رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة:
11] ، وقوله:
وندمان يزيد الكأس طيبا ... سقيت «إذا» تغورت النجوم
وحينئذ لا منافاة بين زماني القيد والمقيد فتدبر ذلك كله،
والجملة المعينة لوجه الشبه والمماثلة التي نهوا عنها هي
الجملة المعطوفة على جملة الصلة والمعنى لا تتشبهوا بالكفار في
قولهم لإخوانهم إذا سافروا أَوْ كانُوا غُزًّى جمع غاز كعاف
وعفى وهو من نوادر الجمع في المعتل، واستشهد عليه بعضهم بقول
امرئ القيس:
ومغبرة الآفاق خاشعة الصوى ... لها قلب «عفّى» الحياض أجون
ويجمع على غزاة كقاض وقضاة، وعلى غزى مثل حاج وحجيج وقاطن
وقطين، وعلى غزاء مثل فاسق وفساق، وأنشدوا له قول تأبط شرا.
فيوما «بغزاء» ويوما بسرية ... ويوما بخشخاش من الرجل هيضل
وعلى غازون مثل ضارب وضاربون، وهو منصوب بفتحة مقدرة على الألف
المنقلبة عن الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين إذ أصله غزوا
تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا ثم حذفت، وقرئ بتخفيف
الزاي قال أبو البقاء: وفيه وجهان، الأول: أن أصله غزاة فحذفت
الهاء تخفيفا لأن التاء دليل الجمع، وقد حصل من نفس الصيغة.
(والثاني) : أنه أريد قراءة الجمهور فحذفت إحدى الزاءين كراهية
التضعيف وذكر هذا الشق مع دخوله فيما قبله لأنه المقصود في
المقام وما قبله توطئة له على أنه قيل: قد يوجد بدون الضرب في
الأرض بناء على أن المراد به
(2/313)
السفر البعيد فبين الضرب على هذا وكونهم
غزاة عموم من وجه وإنما لم يقل أو غزوا للإيذان باستمرار
اتصافهم بعنوان كونهم غزاة أو لانقضاء ذلك أي كانوا غزاة فيما
مضى لَوْ كانُوا مقيمين عِنْدَنا بأن لم يسافروا أو يغزوا ما
ماتُوا وَما قُتِلُوا بل كانوا يبقون زيادة على ما بقوا،
والجملة الامتناعية في محل النصب مفعول لقالوا ودليل على أن في
الكلام السابق مضمرا قد حذف أي إذا ضربوا في الأرض فماتوا أَوْ
كانُوا غُزًّى فقتلوا، وتقدير فماتوا، أو قتلوا في كل من
الشقين خلاف الظاهر لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي
قُلُوبِهِمْ متعلق بقالوا داخل في حيز الصلة ومن جملة المشبه
به، والإشارة إلى القول لكن باعتبار ما فيه من الاعتقاد واللام
لام العاقبة والمعنى لا تكونوا مثلهم في القول الباطل والمعتقد
الفاسد المؤديين إلى الحسرة والندامة والدمار في العاقبة، وإلى
هذا يشير كلام الزجاج وأبي علي، وقيل: متعلق- بلا تكونوا- على
أنه علة للنهي فهو خارج عن جملة المشبه به لكن القول والمعتقد
داخلان فيه أي لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده
ليجعل انتفاء كونكم معهم في ذلك القول والاعتقاد حسرة في
قلوبهم خاصة، واعترضه أبو حيان بأنه قول لا تحقيق فيه لأن جعل
الحسرة لا يكون سببا للنهي إنما يكون سببا لحصول امتثال النهي
وهو انتفاء المماثلة فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون
ويعتقدون يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم إذ لم يوافقوهم فيما قالوه
واعتقدوه فيترك الضرب في الأرض والغزو. وكأن القائل التبس عليه
استدعاء انتفاء المماثلة بحصول الانتفاء وفهم هذا فيه خفاء
ودقة.
وتعقبه السفاقسي بأنه يلزم على هذا الاعتراض أن لا يجوز نحو لا
تعص لتدخل الجنة لأن النهي ليس سببا لدخول الجنة، وكذا لا يجوز
أطع الله تعالى لتدخل الجنة لأن الأمر ليس سبب لدخولها. ثم
قال: والحق أن اللام تتعلق بالفعل المنهي عنه والمأمور به على
معنى أن الكف عن الفعل أو الفعل المأمور به سبب لدخول الجنة
ونحوه وهذا لا إشكال فيه، وقيل: متعلق- بلا تكونوا- والإشارة
إلى ما دل عليه النهي والكل خارج عن المشبه به والمعنى لا
تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم
وعلى هذا يكون وَقالُوا ابتداء كلام معطوفا على مقدرات شتى كما
يقتضيه أقوال المنافقين وأحوالهم وأفعالهم، ووجه اتصاله بما
قبله أنه لما وقع التنبيه على عدم الكون مثلهم عم جميع ما يتصل
بهم من الرذائل وخص المذكور لكونه أشنع وأبين لنفاقهم أي أنهم
أعداء الدين لم يقصروا في المضارة والمضادة بل فعلوا كيت وكيت
وقالوا كذا وكذا، ومن هذا يعلم ما في تلك المقدرات، وعلى كل من
الأوجه الثلاثة يكون الضمير المجرور في قلوبهم عائدا إلى
الكافرين، وذكر القلوب مع أن الحسرة لا تكون إلا فيها لإرادة
التمكن والإيذان بعدم الزوال.
وجوز ابن تمجيد رجوع الضمير إلى المؤمنين واللام متعلقة-
بقالوا- حينئذ لا غير، ووجه الآية بما يقضي منه العجب
وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ردّ لقولهم الباطل إثر بيان
غائلته أي والله هو المؤثر الحقيقي في الحياة والممات وحده لا
الإقامة أو السفر فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي مع
اقتحامهما موارد الحتوف ويميت المقيم والقاعد وإن كانا تحت
ظلال النعيم، وليس المراد أنه تعالى يوجد الحياة والممات وإن
كان هو الظاهر لأن الكلام ليس فيه ولا يحصل به الرد وإنما
الكلام في إحداث ما يؤثرهما، وقيل: المراد أنه تعالى يحيي
ويميت في السفر والحضر عند حضور الأجل ولا مؤخر لما قدم ولا
مقدم لما أخر، ولا راد لما قضى ولا محيص عما قدر، وفيه منع
المؤمنين عن التخلف في الجهاد لخشية القتل والواو للحال فلا
يرد أنه لا يصح عطف الإخبار على الإنشاء.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ترغيب في الطاعة وترهيب عن
المعصية أو تهديد للمؤمنين على أن يماثلوا الكفار لأن رؤية
الله تعالى كعلمه تستعمل في القرآن للمجازاة على المرئي
كالمعلوم، والمؤمنون وإن لم يماثلوهم فيما ذكر
(2/314)
لكن ندمهم على الخروج من المدينة يقتضيه،
وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة- غير عاصم- يعملون بالياء، وضمير
الجمع حينئذ للكفار، والعمل عام متناول للقول المذكور ولمنشئه
الذي هو الاعتقاد الفاسد ولما ترتب على ذلك من الأعمال ولذلك
تعرض لعنوان البصر لا لعنوان السمع وإظهار الاسم الجليل لما مر
غير مرة وكذا تقديم الظرف.
هذا (ومن باب الإشارة) وَكَأَيِّنْ وكم مِنْ نَبِيٍّ مرتفع
القدر جليل الشأن وهو في الأنفس الروح القدسية قاتَلَ مَعَهُ
عدو الله تعالى أعني النفس الأمارة رِبِّيُّونَ متخلقون بأخلاق
الرب وهم القوى الروحانية فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وطريق الوصول إليه من تعب المجاهدات وَما
ضَعُفُوا في طلب الحق وَمَا اسْتَكانُوا وما خضعوا للسوى
وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ على مقاساة الشدائد في جهاد
النفس وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا استر لنا وجوداتنا بإفاضة أنوار الوجود
الحقيقي علينا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا أي تجاوزنا حدود ظاهر
الشريعة عند صدمات التجليات وَثَبِّتْ أَقْدامَنا في مواطن
حروب أنفسنا وَانْصُرْنا بتأييدك وإمدادك عَلَى الْقَوْمِ
الْكافِرِينَ الساترين لربوبيتك فَآتاهُمُ اللَّهُ بسبب دعائهم
بألسنة الاستعدادات والانقطاع إليه تعالى ثَوابَ الدُّنْيا وهو
مرتبة توحيد الأفعال وتوحيد الصفات وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ
وهو مقام توحيد الذات وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ في
الطلب الذين لا يلتفتون إلى الأغيار يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا الإيمان الحقيقي إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا
وهم النفوس الكافرة وصفاتها يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ
إلى أسفل سافلين وهو سجين البهيمية فَتَنْقَلِبُوا ترجعوا
القهقري خاسِرِينَ أنفسكم بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ ناصركم
وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ لمن عول عليه وقطع نظره عمن سواه
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أي الخوف
بِما أَشْرَكُوا أي بسبب إشراكهم بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ
بِهِ أي بوجوده سُلْطاناً أي حجة إذ لا حجة على وجوده حتى
ينزلها لتحقق عدمه بحسب ذاته، وجعل سبحانه إلقاء الرعب في
قلوبهم مسببا عن شركهم لأن الشجاعة وسائر الفضائل اعتدالات في
قوى النفس عند تنورها بنور القلب المنور بنور التوحيد فلا تكون
تامة حقيقية إلا للموحد الموقن، وأما المشرك فمحجوب عن منبع
القوة بما أشرك ما لا وجود ولا ذات في الحقيقة له فهو ضعيف عاذ
بقر ملة وَمَأْواهُمُ النَّارُ وهي نار الحرمان وَبِئْسَ
مَثْوَى الظَّالِمِينَ الذين وضعوا الشيء في غير موضعه وعبدوا
أسماء سموها ما أنزل الله تعالى بها من كتاب وَلَقَدْ
صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ المشروط بالصبر والتقوى إِذْ
تَحُسُّونَهُمْ أي تقتلون جنود الصفات البشرية قتلا ذريعا
بِإِذْنِهِ وأمره لا على وفق الطبع حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ
جبنتم عند تجلي الجلال وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وخالفتم
في أمر الطلب وَعَصَيْتُمْ المرشد المربي مِنْ بَعْدِ ما
أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ من الفوز بأنوار الحضرة مِنْكُمْ مَنْ
يُرِيدُ الدُّنْيا لقصور همته وضعف رأيه وَمِنْكُمْ مَنْ
يُرِيدُ الْآخِرَةَ لطول باعه وقوة عقله ثُمَّ صَرَفَكُمْ
عَنْهُمْ أي عن أعداء نفوسكم وجنودها لِيَبْتَلِيَكُمْ أي
يمتحنكم بالستر بعد التجلي بأنوار المشاهدات والصحو بعد السكر
بأقداح الواردات والفطام بعد إرضاع ألبان الملاطفات كما يقتضي
ذلك الجلال وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ بعد ذلك فانقطعتم إليه كما
هو مقتضى الجمال وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ على المؤمنين في
طوري التقريب والإبعاد، وما ألطف قول من قال:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم
إِذْ تُصْعِدُونَ في جبل التوجه إلى الحق وَلا تَلْوُونَ أي لا
تلتفتون عَلى أَحَدٍ من الأمرين الدنيا والآخرة وَالرَّسُولُ
أي رسول الواردات يَدْعُوكُمْ إليّ عباد الله إليّ عباد الله
فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ فجازاكم بدل غم الدنيا والآخرة
بغم طلب الحق لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من زخارف
الدنيا وَلا ما أَصابَكُمْ من صدمات تجلي القهر وَاللَّهُ
خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ لأنه سبحانه أقرب إليكم منكم ثُمَّ
أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً
(2/315)
أي واردا من ألطافه ظهر في صورة النعاس وهو
السكينة الرحمانية يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وهم الصادقون في
الطلب وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وهم أرباب
النفوس فإنهم لا هم لهم سوى حظ نفوسهم واستيفاء لذاتها
يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ بمقتضى سوء استعدادهم
يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ أي إن الخلق
حالوا بيننا وبين التدبير ولو لم يحولوا لفعلنا ما به صلاحنا
قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ فهو المتصرف وحده حسبما
يقتضيه الاستعداد فلا تدبير مع تدبيره ولا وجود لأحد سواه
يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ الخبيثة ما لا يُبْدُونَ بزعمهم لك
أيها المرشد الكامل يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ
شَيْءٌ ما قُتِلْنا بسيف الشهوات هاهُنا أي في هذه النشأة قُلْ
لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وهي منازل العدم الأصلي قبل
ظهور هذه التعينات لَبَرَزَ على حسب العلم الَّذِينَ كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ في لوح الأزل إِلى مَضاجِعِهِمْ وهي
بيداء الشهوات، فقد قال سبحانه: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي
الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ
قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها [الحديد: 22] أي نظهرها بهذا التعين،
وإنما فعل سبحانه ما فعل لحكم شتى وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ
تعالى ما فِي صُدُورِكُمْ أي ليمتحن ما في استعدادكم من الصدق
والإخلاص والتوكل ونحو ذلك من الأخلاق ويخرجها من القوة إلى
الفعل وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ أي يخلص ما برز من
مكمن الصدر إلى مخزن القلب من غش الوساوس وخواطر النفس فإن
البلاء سوط يسوق الله تعالى به عباده إليه، ولهذا
ورد «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل»
ولله تعالى در من قال:
لله در النائبات فإنها ... صدأ اللئام وصيقل الأحرار
ما كنت إلا زبرة فطبعنني ... سيفا وأطلع صرفهن غراري
وذلك لأنهم حينئذ ينقطعون إلى الحق ولا يظهر على كل منهم إلا
ما في مكمن استعداده كما قيل: عند الامتحان يكرم الرجل أو
يهان، والخطاب في كلا الموضعين للمؤمنين، وقيل: إن الخطاب
الأول للمنافقين، والثاني للمؤمنين وأنه سبحانه إنما خص الصدور
بالأولين لأن الصدر معدن الغل والوسوسة فهو أوفق بحال
المنافقين، وخص القلوب بالآخرين لأن القلب مقر الإيمان
والاطمئنان وهو أوفق بحال المؤمنين وأن نسبة الإسلام باللسان
إلى الإيمان بالجنان كنسبة الصدر إلى القلب قيل: ولهذا قال
سبحانه: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بناء على أن
المراد به الترهيب والتحذير عن الاتصال بما لا يرضى من تلك
الصفات التي يكون الصدر مكمنا لها إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا
مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع الروح وقواها وجمع
النفس وقواها إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما
كَسَبُوا من الذنوب لأنها تورث الظلمة والشيطان لا مجال له على
ابن آدم بالتزيين والوسوسة إلا إذا وجد ظلمة في القلب، ولك أن
تبقي الجمعين على ظاهرهما وباقي الإشارة بحاله وَلَقَدْ عَفَا
اللَّهُ عَنْهُمْ حين استنارت قلوبهم بنور الندم والتوبة إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ وبمقتضى ذلك ظهرت المخالفات وأردفت
بالتوبة ليكون ذلك مرآة لظهور صفات الله تعالى.
ومن هنا جاء «لو لم تذنبوا لأتى الله تعالى بقوم يذنبون
فيستغفرون فيغفر لهم» .
وحكي أن إبراهيم بن أدهم رضي الله تعالى عنه أكثر ليلة في
الطواف من قوله: اللهم اعصمني من الذنوب فسمع هاتفا من قلبه
يقول: يا إبراهيم أنت تسأله العصمة وكل عباده يسألونه العصمة
فإذا عصمكم على من يتفضل وعلى من يتكرم يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا برؤية الأغيار
واعتقاد تأثير السوي، وقالوا لأجل إخوانهم إذا ضربوا في الأرض
إذا فارقوهم بترك ما هم عليه وسافروا في أرض نفوسهم وسلكوا
سبيل الرشاد أَوْ كانُوا غُزًّى أي مجاهدين مع أعدى أعدائهم
وهي نفوسهم التي بين جنوبهم وقواها وجنودها من الهوى والشيطان
لَوْ كانُوا مقيمين عِنْدَنا موافقين لنا ما ماتُوا بمقاساة
الرياضة وَما قُتِلُوا بسيف المجاهدة، ولاستراحوا من هذا
(2/316)
النصب لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ أي عدم
الكون مثلهم حَسْرَةً يوم القيامة فِي قُلُوبِهِمْ حين يرون ما
أعد الله تعالى لكم وَاللَّهُ يُحْيِي من يشاء بالحياة الأبدية
وَيُمِيتُ من يشاء بموت الجهل والبعد عن الحضرة وَاللَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ تحذير عن الميل إلى قول المنكرين
واعتقادهم وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ أيها المؤمنون فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أي في الجهاد أَوْ مُتُّمْ حتف الأنف وأنتم متلبسون به
فعلا أو نية.
لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ أي الكفار من منافع الدنيا ولذاتها مدة أعمارهم
وهذا ترغيب للمؤمنين في الجهاد وأنه مما يجب أن يتنافس فيه
المتنافسون، وفيه تعزية لهم وتسلية مما أصابهم في سبيل الله
تعالى إثر إبطال ما عسى أن يثبطهم عن إعلاء كلمة الله تعالى،
واللام الأولى هي موطئة للقسم، والثانية واقعة في جواب القسم،
وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ووفائه بمعناه-
ومغفرة- مبتدأ ومِنَ متعلقة بمحذوف وقع صفة لها ووصفت بذلك
إظهارا للاعتناء بها ورمزا إلى تحقق وقوعها، وذهب غير واحد إلى
تقدير صفة أخرى أي لمغفرة لكم من الله، وحذفت صفة رَحْمَةٌ
لدلالة المذكور عليها والتنوين فيهما للتقليل ولا ينافي ذلك ما
يشير إليه الوصف، وثبوت أصل الخيرية لما يجمعه الكفار كما
يقتضيه أفعل التفضيل إما بناء على أن الذي يجمعونه في الدنيا
قد يكون من الحلال الذي يعد خيرا في نفس الأمر. وإما أن ذلك
وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خير، وجوز في- ما-
أن تكون موصولة، أو نكرة موصوفة والعائد محذوف، أو مصدرية
ويكون المفعول حينئذ محذوف أي من جمعهم المال، وقرأ نافع وأهل
الكوفة- غير عاصم- «متّم» بالكسر ووافقهم حفص في سائر المواضع
إلا هاهنا، وقرأ الباقون بضم الميم وهو على الأول من مات يمات
مثل خفتم من خاف يخاف، وعلى الثاني من مات يموت مثل كنتم من
كان يكون، وقرأ حفص عن عاصم يَجْمَعُونَ بالياء على صيغة
الغيبة، وقرأ الباقون «تجمعون» بالتاء على صيغة الخطاب والضمير
للمؤمنين، وقدم القتل على الموت لأنه أكثر ثوابا وأعظم عند
الله تعالى، فترتب المغفرة والرحمة عليه أقوى وعكس في قوله
سبحانه: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ
تُحْشَرُونَ لأن الموت أكثر من القتل وهما مستويان في الحشر،
والمعنى أنكم بأي سبب اتفق هلاككم تحشرون إلى الله تعالى لا
إلى غيره فيجزي كلّا منكم كما يستحق فيجازي المحسن على إحسانه
والمسيء على إساءته وليس غيره يرجى منه ثواب، أو يتوقع منه دفع
عقاب فآثروا ما يقرّبكم إليه ويجرّ لكم رضاه من العمل بطاعته
والجهاد في سبيله ولا تركنوا إلى الدنيا، ومما ينسب للحسين رضي
الله تعالى عنه:
فإن تكن الأبدان للموت أنشئت ... فقتل امرئ بالسيف والله أفضل
والكلام في اللامين كالكلام في أختيهما بلامين، وإدخال لام
القسم على المعمول المقدم مشعر بتأكيد الحصر والاختصاص بأن
ألوهيته تعالى هي التي تقتضي ذلك، وادعى بعضهم أن تقديم هذا
المعمول لمجرد الاهتمام ويزيده حسنا وقوع ما بعده فاصلة، وما
أشرنا إليه أولا أولى، قالوا: ولولا هذا التقديم لوجب توكيد
الفعل بالنون لأن المضارع المثبت إذا كان مستقبلا وجب توكيده
مع اللام خلافا للكوفيين حيث يجوزون التعاقب بينهما وظاهر صنيع
بعض المحققين يشعر بأن في هذه الجملة مقدرا بقرينة ما قبله أي
ولئن متم أو قتلتم في سبيل الله، ولعل الحمل على العموم أولى،
وزعم بعض أن في الآية تقسيم مقامات العبودية إلى ثلاثة أقسام،
فمن عبد الله تعالى خوفا من ناره آمنه مما يخاف وإليه الإشارة
بقوله تعالى: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ ومن عبد الله تعالى
شوقا إلى جنته أناله ما يرجو، وإليه الإشارة بقوله سبحانه:
وَرَحْمَةٌ لأن الرحمة من أسماء الجنة، ومن عبد الله تعالى
شوقا إلى وجهه الكريم لا يريد غيره فهو العبد المخلص الذي
يتجلى عليه الحق جل جلاله في دار كرامته، وإليه الإشارة بقوله
عز اسمه: لَإِلَى اللَّهِ
(2/317)
تُحْشَرُونَ ولا يخفى أنه من باب التأويل
لا من قبيل التفسير فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ
لَهُمْ خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والفاء لترتيب
مضمون الكلام على ما ينبئ عنه السياق من استحقاق الفارّين
الملامة والتعنيف منه صلى الله تعالى عليه وسلم بمقتضى الجبلة
البشرية حيث صدروا عنه وحياض الأهوال مترعة وشمروا للهزيمة
والحرب قائمة على ساق، أو من سعة فضاء مغفرته ورحمته والباء
متعلقة- بلنت- والتقديم للقصر،- وما- مزيدة للتأكيد وعليه أجلة
المفسرين، وهو المأثور عن قتادة، وحكى الزجاج الإجماع عليه
وفيه نظر، فقد قال الأخفش وغيره:
يجوز أن تكون نكرة بمعنى شيء، ورَحْمَةٍ بدل منها، وجوز أن
تكون صفة لها، وقيل: إنها استفهامية للتعجب والتقدير فبأي رحمة
لنت لهم، والتنوين في رحمة على كل تقدير للتفخيم ومِنَ متعلقة
بمحذوف وقع صفة لها أي فَبِما رَحْمَةٍ عظيمة كائنة من الله
تعالى كنت لين الجانب لهم ولم تعنفهم، ولعل المراد بهذه الرحمة
ربطه سبحانه وتعالى على جأشه صلى الله تعالى عليه وسلم وتخصيصه
له بمكارم الأخلاق، وجعل الرفق ولين الجانب مسببا عن ربط الجأش
لأن من ملك نفسه عند الغضب كان كامل الشجاعة.
قيل: وأفاد الكلام في هذا المقام فائدتين: إحداهما ما يدل على
شجاعته صلى الله تعالى عليه وسلم، والثانية ما يدل على رفقه
فهو من باب التكميل، وقد اجتمعت فيه صلى الله تعالى عليه وسلم
هاتان الصفتان يوم أحد حيث ثبت حتى كر عليه أصحابه مع أنه عراه
ما عراه ثم ما زجرهم ولا عنفهم على الفرار بل آساهم في الغم
وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا أي خشن الجانب شرس الأخلاق جافيا في
المعاشرة قولا وفعلا غَلِيظَ الْقَلْبِ أي قاسيه، وقال الكلبي:
فَظًّا في الأقوال غَلِيظَ الْقَلْبِ في الأفعال.
وذكر بعضهم أن الفظ سيئ الخلق في الأمور الظاهرة من الأقوال
والأفعال، وغَلِيظَ الْقَلْبِ السيئ في الأمور الباطنة،
والثاني سبب للأول وقدم المسبب لظهوره إذ هو الذي يطلع عليه
ويمكن أن يقال المراد لو كنت على خلاف تينك الصفتين المعبر
عنهما بالرحمة وهو التهور المشار إليه بالفظاظة وسوء الأخلاق
المرموز إليه بغلظ القلب فإن قساوة القلب وعدم تأثره يتبعها كل
صفة ذميمة، ولهذا
ورد أبعد القلوب عن الله تعالى القلوب القاسية
وكأنه لبعده صدّر بيمكن وعلى كل تقدير في الكلام حذف أي ولو
كنت فظا غليظ القلب فلم تلن لهم وأغلظت عليهم لَانْفَضُّوا
مِنْ حَوْلِكَ أي لتفرقوا عنك ونفروا منك ولم يسكنوا إليك
وتردّوا في مهاوي الردى ولم ينتظم أمر ما بعثت به من هدايتهم
وإرشادهم إلى الصراط فَاعْفُ عَنْهُمْ مترتب على ما قبله أي
إذا كان أمر كذلك فاعف عنهم فيما يتعلق بحقوقك وَاسْتَغْفِرْ
لَهُمْ الله تعالى فيما يتعلق بحقوقه سبحانه وتعالى إتماما
للشفقة وإكمالا للتربية وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أي في
الحرب أخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن سيرين عن عبيدة وهو
المناسب للمقام، أو فيه وفي أمثاله مما تجري فيه المشاورة
عادة، وإليه ذهب جماعة، واختلف في مشاورته صلى الله تعالى عليه
وسلم لأصحابه رضي الله تعالى عنهم في أمر الدين إذا لم يكن
هناك وحي فمن أبى الاجتهاد له صلى الله تعالى عليه وسلم ذهب
إلى عدم جوازها ومن لا يأباه- وهو الأصح- ذهب إلى جوازها،
وفائدتها الاستظهار برأيهم، ويؤيد ذلك ما
أخرجه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن غنم أن رسول الله صلّى
الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر: «لو اجتمعتما في مشورة ما
خالفتكما»
أو التطييب لأنفسهم، وإليه ذهب قتادة، فقد أخرج ابن جرير عنه
أنه قال: أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يشاور
أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء لأنه أطيب لأنفس القوم،
أو أن تكون سنة بعده لأمته، وإليه ذهب الحسن، فقد أخرج البيهقي
عنه أنه قال في الآية: قد علم الله تعالى ما به إليهم حاجة
ولكن أراد أن يستن به من بعده، ويؤيده ما
أخرجه ابن عدي والبيهقي في الشعب بسند حسن عن ابن عباس قال:
لما نزلت وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ قال رسول
(2/318)
الله صلّى الله عليه وسلم: «أما إن الله
ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي فمن
استشار منهم لم يعدم رشدا ومن تركها لم يعدم غيا»
وقيل: فائدة ذلك أن يمتحنهم فيتميز الناصح من الغاش وليس بشيء،
وادعى الجصاص أن كون الأمر بالمشاورة على جهة تطييب النفوس
مثلا غير جائز لأنه لو كان معلوما عندهم أنهم إذا استفرغوا
مجهودهم في استنباط الصواب عما سئلوا عنه ثم لم يكن معمولا به
لم يكن في ذلك تطييب نفوسهم بل فيه إيحاشهم بأن آراءهم غير
مقبولة ولا معوّل عليها وجزم بأنه لا بد أن يكون لمشاورته صلى
الله تعالى عليه وسلم إياهم فائدة هي الاستظهار بما عندهم وأن
يكون للنبي صلّى الله عليه وسلم معهم ضرب من الاجتهاد فما وافق
رأيه عمل به وما خالفه ترك من غير لوم، وفيه إرشاد للاجتهاد
وجوازه بحضرته صلّى الله عليه وسلم وإشعار بمنزلة الصحابة
وأنهم كلهم أهل اجتهاد وأن باطنهم مرضي عند الله تعالى انتهى،
وفيه نظر إذ لا خفاء على من راجع وجدانه أن في قول الكبير
للصغير ماذا ترى في أمر كذا وماذا عندك فيه تطييبا لنفسه
وتنشيطا لها لاكتساب الآراء وإعمال الفكر لا سيما إذا صادف
رأيه رأي الكبير أحيانا وإن لم يكن العمل برأيه الموافق بل
العمل بالرأي الموافق، وما ادعاه من أن الرأي إذا لم يكن
معمولا به كان فيه إيحاش غير مسلم لا سيما فيما نحن فيه لعلم
الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعلو شأن رسول الله صلّى الله
عليه وسلم وأن عقولهم بالنسبة إلى عقله الشريف كالسها بالنسبة
إلى شمس الضحى، على أن من قال: إن فائدة المشاورة تطييب النفس
أشار إلى أن الوحي يأتيه فهو غني عنها، وحينئذ يكون قصد
التطييب أتم وأظهر لما في المشاورة إذ ذاك من تعريضهم لما يمكن
أن يوافق الوحي والإيحاش بعدم العمل هنا أبعد لأن مستنده اتباع
الوحي ومعلوم لديهم أنه أولى بالاتباع لأنه من قبل الله تعالى
اللطيف الخبير كما لا يخفى، ثم ما ذكر من أن في ذلك إشعارا بأن
الصحابة كلهم أهل اجتهاد في حيز المنع لأن أمر السلطان مثلا
لعامله أن يشاور أهل بلده في أموره لا يستدعي أن يشاور كل واحد
واحد منهم في ذلك بل لا يكاد أن يكون ذلك مرادا أصلا بل المراد
أن يشاور أهل الآراء منهم والمتدربين فيهم، وكون الصحابة كلهم
كذلك أول المدعى، ودون إثباته وقعة الجمل وحرب صفين.
ويؤيد كون المراد من الصحابة- المأمور صلى الله تعالى عليه
وسلم بمشاورتهم أهل الرأي والتدبير لا مطلقا بما أخرجه الحاكم
وصححه. والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه قال في وَشاوِرْهُمْ
فِي الْأَمْرِ: أبو بكر، وعمر، ومن طريق الكلبي عن أبي صالح عن
الحبر أن الآية نزلت فيهما، نعم لو كانت المشاورة لمجرد تطييب
النفوس دون الاستظهار كان لمشاورة أي واحد منهم وإن لم يكن من
أرباب الرأي وجه لكن الجصاص لم يبن كلامه على ذلك.
بقي أن بين ما
أخرجه الإمام أحمد من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم للعمرين
رضي الله تعالى عنهما: «لو اجتمعتما على مشورة ما خالفتكما»
وما
أخرجه ابن عدي والبيهقي من قوله عليه الصلاة والسلام عند نزول
الآية «أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله تعالى
رحمة لأمتي»
تنافيا إلا أن يحمل خبر عدم مخالفتهما لو اجتمعا على الإشارة
إلى رفعة قدرهما وعلو شأنهما وأن اجتماعهما على أمر لا يكون
إلا موافقا لما عند الله تعالى وهو الذي عليه المعول وبه
العمل، وكأن في
قوله صلّى الله عليه وسلم: «وما خالفتكما»
دون لعملت بقولكما مثلا نوع إشعار بما قلنا فتدبر، وقرأ ابن
عباس كما أخرج البخاري في الأدب المفرد عنه وَشاوِرْهُمْ فِي
بعض الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ أي إذا عقدت قلبك على الفعل
وإمضائه بعد المشاورة كما تؤذن به الفاء.
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فاعتمد عليه وثق به وفوض أمرك
إليه فإنه الأعلم بما هو الأصلح، وأصل التوكل إظهار العجز
والاعتماد على الغير والاكتفاء به في فعل ما يحتاج إليه، وهو
عندنا على الله سبحانه لا ينافي مراعاة الأسباب بل يكون
بمراعاتها مع تفويض الأمر إليه تعالى شأنه و «اعقلها وتوكل»
يرشد إلى ذلك، وعند ساداتنا الصوفية هو إهمال
(2/319)
التدبير بالكلية، وعن خالد بن زيد أنه قرأ
فَإِذا عَزَمْتَ بصيغة المتكلم، والمعنى فإذا قطعت لك بشيء
وعينته لك فتوكل علي ولا تشاور به أحدا، والالتفات لتربية
المهابة وتعليل التوكل والأمر به فإن عنوان الألوهية الجامعة
لجميع صفات الكلام مستدعى للتوكل عليه سبحانه والأمر به.
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ عليه الواثقين به
المنقطعين إليه فينصرهم ويرشدهم إلى ما هو خير لهم كما تقتضيه
المحبة، والجملة تعليل للتوكل عليه سبحانه، وقد روعي في الآية
حسن الترتيب وذلك لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أمر أولا
بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصة نفسه فإذا انتهوا إلى هذا المقام
أمر أن يستغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى لتنزاح عنهم
التبعتان فلما صاروا إلى هنا أمر بأن يشاورهم في الأمر إذ
صاروا خالصين من التبعتين مصفين منهما، ثم أمر صلّى الله عليه
وسلم بعد ذلك بالتوكل على الله تعالى والانقطاع إليه لأنه
سبحانه السند الأقوم والملجأ الأعظم الذي لا تؤثر الأسباب إلا
به ولا تنقضي الحاج إلا عند بابه إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ
فَلا غالِبَ لَكُمْ جملة مستأنفة سيقت بطريق تلوين الخطاب
تشريفا للمؤمنين لإيجاب التوكل عليه والترغيب في طاعته التي
يستحق بها النصرة والتحذير عن معصيته التي يستحق بها الخذلان
أي أن يرد نصركم كما أراده يوم بدر فلا أحد يغلبكم على طريق
نفي الجنس المنتظم بجميع أفراد الغالب ذاتا وصفة فهو أبلغ من
لا يغلبكم أحد لدلالته على نفي الصفة فقط.
ثم المفهوم من ظاهر النظم الكريم- كما قال شيخ الإسلام- وإن
كان نفي مغلوبيتهم من غير تعرض لنفي المساواة أيضا وهو الذي
يقتضيه المقام لكن المفهوم منه فهما قطعيا هو نفي المساواة
وإثبات الغالبية للمخاطبين، فإذا قلت: لا أكرم من فلان ولا
أفضل منه بالمفهوم منه حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل
فاضل وهذا أمر مطرد في جميع اللغات ولا اختصاص بالنفي الصريح
بل هو مطرد فيما ورد على طريق الاستفهام الإنكاري كما في قوله
تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً
[الأنعام: 144، الأعراف: 37، يونس: 17، الكهف: 15] في مواقع
كثيرة من التنزيل وقد أشرنا إلى هذا المبحث فيما تقدم وَإِنْ
يَخْذُلْكُمْ أي وإن يرد خذلانكم ويمنعكم معونته كما فعل يوم
أحد.
وقرئ «يخذلكم» من أخذله إذا جعله مخذولا فَمَنْ ذَا الَّذِي
يَنْصُرُكُمْ استفهام إنكاري مفيد لانتفاء الناصر على نحو
انتفاء الغالب، وقيل: وجاء جواب الشرط في الأول صريح النفي ولم
يجيء في الثاني كذلك تلطفا بالمؤمنين حيث صرح لهم بعدم الغلبة
ولم يصرح بأنه لا ناصر لهم وان كان الكلام مفيدا له مِنْ
بَعْدِهِ أي من بعد خذلانه أو من بعد الله تعالى على معنى إذا
جاوزتموه فعلى الأول- بعد- ظرف زمان وهو الأصل فيها، وعلى
الثاني مستعار للمكان وَعَلَى اللَّهِ لا على غيره كما يؤذن
بذلك تقديم المعمول.
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ المراد بهم إما جنس المؤمنين
والمخاطبون داخلون فيه دخولا أوليا، وإما المخاطبون خاصة بطريق
الالتفات على التقديرين لا يخفى ما في ذلك من تشريف المخاطبين
مع الإيماء إلى تعليل تحتم التوكل عليه تعالى، والفاء كما
قالوا: لترتيب ما بعدها أو الأمر به على ما مرّ من غلبة
المؤمنين ومغلوبيتهم على تقدير نصر الله تعالى لهم وخذلانه
إياهم فإن العلم بذلك مما يستدعي قصر التوكل عليه سبحانه لا
محالة.
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أي ما صح ولا استقام لنبي من
الأنبياء أن يخوف في المغنم لأن الخيانة تنافي النبوة وأصل
الغل الأخذ بخفية ولذا استعمل في السرقة ثم خص في اللغة
بالسرقة من المغنم قبل القسمة وتسمى غلولا أيضا، قيل: وسميت
بذلك لأن الأيدي فيها مغلولة أي ممنوعة مجعول فيها غل وهي
الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى
(2/320)
عنقه، ويقال لها: جامعة أيضا، وقال
الرماني، وغيره أصل الغلول من الغلل وهو دخول الماء في خلل
الشجر، وسميت الخيانة غلولا لأنها تجري في الملك على خفاء من
غير الوجه الذي يحل، ومن ذلك الغل للحقد، والغليل لحرارة
العطش، والغلالة للشغار، والمراد تنزيه ساحة النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم على أبلغ وجه عما ظن به الرماة يوم أحد
فقد حكى الواحدي عن الكلبي، ومقاتل أن الرماة حين تركوا المركز
يومئذ طلبا للغنيمة قالوا: نخشى أن يقول النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم: من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم
يقسم يوم بدر فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: «ظننتم أنا
نغلّ ولا نقسم لكم» ولهذا نزلت الآية،
أو تنزيهه صلى الله تعالى عليه وسلم عما اتهمه به بعض
المنافقين يوم بدر، فقد أخرج أبو داود والترمذي وابن جرير
وحسناه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال: نزلت هذه
الآية في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض الناس: لعل رسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم أخذها، والرواية الأولى أوفق
بالمقام، وارتباط الآية بما قبلها عليها أتم لأن القصة أحدية
إلا أن فيها إشعارا بأن غنائم بدر لم تقسم وهو مخالف لما سيأتي
في الأنفال وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه، والرواية الثانية
أولى بالقبول عند أرباب هذا الشأن، ويحتمل أن يكون المراد
المبالغة في النهي عن الغلول،
فقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف. وابن جرير مرسلا عن الضحاك
قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم طلائع فغنم النبي صلّى
الله عليه وسلم غنيمة فقسم بين الناس ولم يقسم للطلائع شيئا
فلما قدمت الطلائع قالوا قسم النبي صلّى الله عليه وسلم ولم
يقسم لنا فأنزل الله تعالى الآية،
فالمعنى ما كان لنبي أن يعطي قوما من العسكر ويمنع آخرين بل
عليه أن يقسم بين الكل بالسوية، وعبر سبحانه عن حرمان بعض
الغزاة بالغلول فطما عن هذا الفعل بالكلية، أو تعظيما لشأنه
صلّى الله عليه وسلم، وجعل بعضهم الكلام على هذا الاحتمال على
حدّ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65]
خوطب به صلّى الله عليه وسلم وأريد غيره ممن يفعل مثل هذا بعد
النهي عنه- ولا يخفى بعده- والصيغة على الاحتمال الأول إخبار
لفظا ومعنى لكنها لا تخلو عن رمز إلى نهي عن اعتقاد ذلك في تلك
الحضرة المقدسة وعلى الاحتمال الأخير خبر أجري مجرى الطلب، وقد
وردت هذه الصيغة نهيا في مواضع من التنزيل كقوله تعالى: ما
كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى [الأنفال: 67] ما
كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: 113] وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا
رَسُولَ اللَّهِ [الأحزاب: 53] وكذا للامتناع العقلي كقوله
تعالى: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مريم: 35]
وما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها [النمل: 60] وقرأ
نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب- أن يغل- على صيغة
البناء للمفعول، وفي توجيهها ثلاثة أوجه، أحدها أن يكون ماضيه
أغللته أي نسبته إلى الغلول كما تقول أكفرته أي نسبته إلى
الكفر قال الكميت:
وطائفة قد «أكفرتني» بحبكم ... وطائفة قالت مسيء ومذنب
والمعنى ما صح لنبي أن ينسبه أحد إلى الغلول، وثانيها أن يكون
من أغللته إذا وجدته غالا كقولهم أحمدته وأبخلته وأجبنته بمعنى
وجدته كذلك والمعنى ما صح لنبي أن يوجد غالا، وثالثها أنه من
غل إلى أن المعنى ما كان لنبي أن يغله غيره أي يخونه ويسرق من
غنيمته، ولعل تخصيص النبي بذلك وإن كان لا يجوز أن يغل غيره من
إمام أو أمير إما لعظم خيانته أو لأنه القائم بأمر الغنائم
فإذا حرمت الخيانة عليه وهو صاحب الأمر فحرمتها على غيره أولى
كذا قيل، وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى توجيه التخصيص بما ذكر بعد
الالتفات إلى سبب النزول والنظر إلى ما سيأتي بعد.
ومن الناس من زعم أن الآية نزلت في أداء الوحي قال: كان رسول
الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ القرآن وفيه عيب دينهم وسب
آلهتهم فسألوه أن يطوي ذلك فأنزل الله تعالى الآية، ولا يخفى
أنه بعيد جدا- ولا أدري كيف سند هذه الرواية- ولا أظن الخبر
إلا موضوعا، ويزيده بعدا بل لا يكاد يجوزه قوله تعالى: وَمَنْ
يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ وهو جملة
(2/321)
شرطية مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وما-
موصولة والعائد محذوف أي بالذي غله، وجوز أن تكون حالا ويكون
التقدير في حال علم الغال بعقوبة الغلول، وظاهر الآثار يدل على
أن الإتيان على ظاهره،
فقد أخرج الشيخان والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة رضي الله
تعالى عنه قال: «قام فينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
يوما فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال: ألا لا ألفين أحدكم
يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول: يا رسول الله
أغثني فأقول: لا أملك لك من الله تعالى شيئا قد أبلغتك لا
ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة فيقول:
يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك
لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول:
يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك
لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول: يا
رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك من الله تعالى شيئا قد
أبلغتك»
والأخبار بهذا المعنى كثيرة ولعل السر في ذلك أن يفضح به على
رؤوس الأشهاد زيادة في عقوبته، وإلى هذا ذهب الجبائي، ولا مانع
من ذلك عقلا.
والاستبعاد غير مفيد وقد وقع ما يشعر بالاستبعاد قديما فقد
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رجلا قال له:
أرأيت قول الله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ
يَوْمَ الْقِيامَةِ هذا يغل ألف درهم وألفي درهم يأتي بها
أرأيت من يغل مائة بعير أو مائتي بعير كيف يصنع بها؟! قال:
أرأيت من كان ضرسه مثل أحد وفخذه مثل ورقان وساقه مثل بيضاء
ومجلسه ما بين الربذة إلى المدينة ألا يحمل مثل هذا، وورد في
بعض الأخبار أن الإتيان بالغلول من النار فحينئذ يكون في الآية
حذف أي يأت بما غل من النار،
فقد أخرج ابن مردويه والبيهقي عن بريدة قال: قال رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم: إن الحجر ليزن سبع خلفات فيلقى في جهنم
فيهوي فيها سبعين خريفا ويؤتى بالغلول فيلقى معه ثم يكلف صاحبه
أن يأتي به وهو قول الله عز وجل: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما
غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال: لو كنت
مستحلا من الغلول القليل لاستحللت منه الكثير ما من أحد يغل
إلا كلف أن يأتي به من أسفل درك جهنم، وقيل: الإتيان به مجاز
عن الإتيان بإثمه تعبيرا بما عمل عما لزمه من الإثم أي يأت بما
احتمل من وباله وإثمه- واختاره البلخي- وقال: يجوز أن يكون ما
تضمنته الأخبار جاء على وجه المثل كأن الله تعالى إذ فضح الغال
وعاقبه العقوبة الشديدة جرى مجرى أن يكون آتيا به وحاملا له
وله صوت، ولا يخفى أن جواب أبي هريرة للرجل يأبى هذا التأويل.
وقيل: إن المعاني تظهر في صور جسمانية يوم القيامة كما يؤذن
بذلك خبر مجيء الموت في صورة كبش وتلقي القرآن صاحبه في صورة
الرجل الشاحب حين ينشق عنه القبر إلى غير ذلك.
وقد ذكر غير واحد أنه لا يبعد ظهور الأعمال من الطاعات
والمعاصي بصور تناسبها فحينئذ يمكن أن يقال: إن معصية كل غال
تظهر يوم القيامة في صورة غلوله فيأتي بها هناك، وعليه تكون
الأخبار على ظاهرها من غير حاجة إلى ارتكاب التمثيل، وجواب أبي
هريرة لا يأباه، وإلقاؤه في النار أيضا غير مشكل وأهل الظاهر
لعلهم يقولون: إنه يلقى من غير تعذيب، وبتقديره لا محذور أيضا
فيه لأن الله تعالى لا يجب عليه شيء،
وقد ورد في بعض الأخبار أنه تعالى يخلق خلقا حين قول جهنم:
هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق: 30] فيضعهم فيها
ومع هذا وتسليم صحة الخبر لا بد من القول باستثناء بعض الغلول
عن الإلقاء إذ قد يكون الغلول مصحفا ولا أظن أحدا يتجاسر على
القول بإلقائه ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي
تعطى كل نفس مكلفة جزاء ما عملت من خير أو شر تاما وافيا، ففي
الكلام مضاف محذوف أو أنه أقيم المكسوب مقام جزائه، وفي تعليق
التوفية بكل مكسوب مع أن المقصود بيان حال الغال عند إتيانه
بما غل يوم
(2/322)
القيامة من الدلالة على فخامة شأن اليوم
والمبالغة في بيان فظاعة حال الغال ما لا يخفى فإنه إذا كان كل
كاسب مجزيا بعمله لا ينقص منه شىء وإن كان جرمه في غاية القلة
والحقارة، فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى، وهذا سبب العدول عما
يقتضيه الظاهر من نحو ثم يوفى ما كسب لأنه اللائق بما قبله
وقيل: يحتمل أن يكون المراد ثم توفى منه كل نفس لها حق في تلك
الغنيمة ما كسبت من نقصان حقها من غله فحينئذ يكون النظم على
مقتضى الظاهر وكلمة ثُمَّ للتفاوت بين حمله ما غل وبين جزائه،
أو للتراخي الزماني أي بعد حمله ما غله بمدة مديدة وجعله
منتظرا فيما بين الناس مفتضحا حاملا ما غله توفى منه كل نفس،
ولا يخفى أن مثل هذا الاحتمال مما يصان عنه كلام الملك
المتعال، فالحق الذي لا ينبغي العدول عنه هو القول الأول
المتضمن لنكتة العدول وأمر ثُمَّ عليه ظاهر سواء جعلت للتراخي
الزماني، أو التراخي الرتبي.
أما الأول فلأن الإتيان بما غل عند قيامه من القبر على ما هو
الظاهر والجزاء بعد ذلك بكثير.
وأما الثاني فلأن جزاء الغال وعقوبته أشدّ فظاعة من حمل ما غله
والفضيحة به بل لا يبعد أن يكون ذلك الحمل كالعلاوة على الحمل
بل يكاد أن يكون نعيما بالنسبة إلى ما يلقى بعد، والجملة على
كل تقدير معطوفة على الجملة الشرطية وَهُمْ أي كل الناس
المدلول عليهم بكل نفس لا يُظْلَمُونَ أي لا ينقص بمقتضى
الحكمة والعدل ثواب مطيعهم ولا يزاد عقاب عاصيهم أَفَمَنِ
اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ أي سعى في تحصيله وانتحى نحوه
كَمَنْ باءَ أي رجع بِسَخَطٍ أي غضب عظيم جدا وهو بفتحتين مصدر
قياسي، ويقال: بضم فسكون وهو غير مقيس والجار متعلق بالفعل
قبله، وجوز أن يكون حالا فيتعلق بمحذوف أي رجع مصاحبا لسخط.
مِنَ اللَّهِ أي كائن منه تعالى.
وفي المراد من الآية أقوال: أحدها أن المعنى أَفَمَنِ اتَّبَعَ
رِضْوانَ اللَّهِ تعالى في العمل بالطاعة كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ
منه سبحانه في العمل بالمعصية- وهو المروي عن ابن إسحاق-
ثانيها أن معناه أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ في ترك
الغلول كالنبي ومن يسير بسيرته كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ
اللَّهِ تعالى بفعل الغلول، وروي ذلك عن الحسن والضحاك واختاره
الطبري لأنه أوفق بالمقام، ثالثها أن المراد أَفَمَنِ اتَّبَعَ
رِضْوانَ اللَّهِ تعالى بالجهاد في سبيله كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ
منه جل جلاله في الفرار عنه، ونقل ذلك عن الجبائي والزجاج،
قيل: وهو المطابق لما
حكي في سبب النزول أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما
أمر بالخروج إلى أحد قعد عنه جماعة من المنافقين واتبعه
المؤمنون فأنزل الله تعالى هذه الآية-
وفيه بعد- وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لما مر غير مرة
وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ أي مصيره ذلك، وفي الجملة احتمالان،
الأول أن تكون مستأنفة مسوقة لبيان حال من باء بسخط ويفهم من
مقابله أن من اتبع الرضوان كان مأواه الجنة ولم يذكر ذلك ليكون
أبلغ في الزجر، وقيل: لم يذكر مع الرضوان الجنة لأن رضوان الله
تعالى أكبر وهو مستلزم لكل نعيم وكون السخط مستلزما لكل عقاب
فيقتضي أن تذكر معه جهنم في حيز المنع لسبق الجمال الجلال
فافهم، والثاني أنها داخلة في حيز الموصول فتكون معطوفة على
باءَ بِسَخَطٍ عطف الصلة الاسمية على الصلة الفعلية، وعلى كلا
الاحتمالين لا محل لها من الإعراب وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إما
تذييل، أو اعتراض، أو معطوف على الصلة بتقدير، ويقال: في حقهم
ذلك، وأيّا ما كان فالمخصوص بالذم محذوف أي جهنم، والْمَصِيرُ
اسم مكان، ويحتمل المصدرية وفرقوا بينه وبين المرجع بأن المصير
يقتضي مخالفة ما صار إليه من جهنم لما كان عليه في الدنيا لأن
الصيرورة تقتضي الانتقال من حال إلى حال أخرى كصار الطين خزفا،
والمرجع انقلاب الشيء إلى حال قد كان عليها كقولك: مرجع ابن
آدم إلى التراب، وأما قولهم مرجع
(2/323)
العباد إلى الله تعالى فباعتبار أنهم
ينقلبون إلى حال لا يملكون فيها لأنفسهم شيئا كما كان قبل ما
ملكوا هُمْ عائد على الموصولين باعتبار المعنى وهو مبتدأ،
وقوله تعالى: دَرَجاتٌ خبره والمراد هم متفاوتون إطلاقا
للملزوم على اللازم، أو شبههم بالدرج في تفاوتهم علوا وسفلا
على سبيل الاستعارة أو جعلهم نفس الدرجات مبالغة في التفاوت
فيكون تشبيها بليغا بحذف الأداة، وقيل: إن الكلام على حذف مضاف
ولا تشبيه أي هُمْ ذوو درجات أي منازل، أو أحوال متفاوتة، وهذا
معنى قول مجاهد والسدي: لهم درجات، وذهب بعضهم أن في الآية
حينئذ تغليب الدرجات على الدركات إذ الأول للأول، والثاني
للثاني عِنْدَ اللَّهِ أي في علمه وحكمه، والظرف متعلق بدرجات
على المعنى، أو بمحذوف وقع صفة لها.
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ من الأعمال ودرجاتها
فيجازيهم بحسبها- والبصير- كما قال حجة الإسلام هو الذي يشاهد
ويرى حتى لا يعزب عنه ما تحت الثرى وإبصاره أيضا منزه عن أن
يكون بحدقة وأجفان، ومقدس عن أن يرجع إلى انطباع الصور
والألوان في ذاته كما ينطبع في حدقة الإنسان، فإن ذلك من
التغيير والتأثر المقتضي للحدثان وإذا نزه عن ذلك كان البصر في
حقه تعالى عبارة عن الصفة التي ينكشف بها كمال نعوت المبصرات
وذلك أوضح وأجلى مما نفهمه من إدراك البصر القاصر على ظواهر
المرئيات انتهى، ويفهم منه أن البصر صفة زائدة على العلم- وهو
الذي ذهب إليه الجمهور منا، ومن المعتزلة والكرامية قالوا:
لأنا إذا علمنا شيئا علما جليا ثم أبصرناه نجد فرقا بين
الحالتين بالبديهة، وإن في الحالة الثانية حالة زائدة هي
الإبصار.
وقال الفلاسفة والكعبي وأبو الحسين البصري والغزالي عند بعض
وادعى أن كلامه هذا مشير إليه أن بصره تعالى عبارة عن علمه
تعالى بالمبصرات، ومثل هذا الخلاف في السمع، والحق أنهما
زائدان على صفة العلم وأنهما لا يكيفان ولا يحدّان والإقرار
بهما واجب كما وصف بهما سبحانه نفسه، وإلى ذلك ذهب السلف
الصالح وإليه ينشرح الصدر لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ أي أنعم وتفضل،
وأصل المنّ القطع وسميت النعمة منة لأنه يقطع بها عن البلية
وكذا الاعتداد بالصنيعة منا لأنه قطع لها عن وجوب الشكر عليها،
والجملة جواب قسم محذوف أي والله لقد منّ الله عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ أي من قومه أو من العرب مطلقا أو من الأنس-
وخير الثلاثة الوسط- وإليه ذهبت عائشة رضي الله تعالى عنها:
فقد أخرج البيهقي وغيره عنها أنها قالت هذه للعرب خاصة- والأول
خير من الثالث- وأيّا ما كان فالمراد بهم على ما قال الأجهوري:
المؤمنون من هؤلاء في علم الله تعالى أو الذين آل أمرهم إلى
الإيمان إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ أي بينهم رَسُولًا عظيم القدر
جليل الشأن مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي من نسبهم، أو من جنسهم عربيا
مثلهم أو من بني آدم لا ملكا ولا جنيا وإِذْ ظرف- لمن- وهو وإن
كان بمعنى الوقت لكن وقع في معرض التعليل كما نص عليه معظم
المحققين، والجار إما متعلق ب «بعث» أو بمحذوف وقع صفة-
لرسولا- والامتنان بذلك إما لحصول الأنس بكونه من الإنس فيسهل
التلقي منه وتزول الوحشة والنفرة الطبيعية التي بين الجنسين
المختلفين، وإما ليفهموا كلامه بسهولة ويفتخروا على سائر أصناف
نوع بني آدم، وإما ليفهموا ويفتخروا ويكونوا واقفين على أحواله
في الصدق والأمانة فيكون ذلك أقرب إلى تصديقه والوثوق به صلى
الله تعالى عليه وسلم، وتخصيص المؤمنين بالامتنان مع عموم نعمة
البعثة كما يدل عليه قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا
رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] لمزيد انتفاعهم على
اختلاف الأقوال فيهم بها، ونظير ذلك قوله تعالى: هُدىً
لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] وقرئ- «لمن منّ الله» - بمن الجارة
ومنّ المشددة النون على أنه خبر لمبتدأ محذوف مثل منه أو بعثه
وحذف لقيام الدلالة، وجوز الزمخشري أن تكون إذ في محل الرفع
كإذا في قولك: أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما بمعنى لمن
منّ الله تعالى على المؤمنين وقت
(2/324)
بعثه، ولا يخفى عليك أن هذا يقتضي أن تكون
إِذْ مبتدأ والجار والمجرور خبرا «وقد اعترض ذلك» بأنه لم يعلم
أن أحدا من النحويين قال بوقوع إِذْ كذلك، وما في المثال إذا
لا إذ، وهي أيضا فيه ليست مبتدأ أصلا، وإنما جوزوا فيها وجهين:
النصب على أن الخبر محذوف وهي سادّة مسدّه. والرفع على أنها هي
الخبر، وعلى الأول يكون الكلام من باب جد جده لأن الأمير أخطب
في حال القيام لا كونه، وعلى الثاني من باب نهاره صائم والوجه
الأول هو المشهور، وجوز الثاني عبد القاهر تمسكا بقول بعضهم:
أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة بالرفع فكأن الزمخشري قاس إذ
على إذا والمبتدأ على الخبر.
وانتصر بعضهم للزمخشري، بأنه قد صرح جماعة من محققي النحاة
بخروج إذ عن الظرفية فتكون مفعولا به، وبدلا من المفعول وهذا
في قوة تصريحهم بوقوعها مبتدأ وخبرا مثلا إذ هو قول بتصرفها،
ومتى قيل به كانت جميع الأحوال مستوية في جواز الإقدام عليها
من غير تفرقة بين حال وحال إلا لمانع يمنع من ذلك الحال فيها
وفي غيرها من سائر الأسماء وهو أمر آخر وراء ما نحن فيه، نعم
حكى الشلوبين في شرح الجزولية عن بعضهم أن مأخذ التصرف في
الظروف هو السماع فإن كان هذا حكم أصل التصرف فقط دون أنواعه
ارتفع الغبار عما قاله الزمخشري بناء على ما ذكرنا بلا خفاء
وإن كان حكم الأنواع أيضا كذلك فلا يقدم على الفاعلية بمجرد
ثبوت المفعولية ولا على الابتدائية بمجرد ثبوت الخبرية مثلا
إلا بورود سماع في ذلك، ففي صحة كلام الزمخشري تردد بيّن لأن
مجرد تصريحهم حينئذ بوقوع إِذْ مفعولا وبدلا وبوقوع إذا خبرا
مثلا لا يجدي نفعا لجواز ورود السماع بذلك دون غيره كما لا
يخفى، وفي قراءة رسول الله وفاطمة صلى الله تعالى عليه وعليها
وسلم مِنْ أَنْفُسِهِمْ بفتح الفاء أي من أشرفهم لأنه صلّى
الله عليه وسلم من أشرف القبائل وبطونها وهو أمر معلوم غني عن
البيان ينبغي اعتقاده لكل مؤمن.
وقد سئل الشيخ ولي الدين العراقي هل العلم بكونه صلّى الله
عليه وسلم بشرا ومن العرب شرط في صحة الإيمان أو من فروض
الكفاية؟ فأجاب بأنه شرط في صحة الإيمان، ثم قال: فلو قال شخص:
أو من برسالة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إلى جميع الخلق
لكن لا أدري هل هو من البشر أو من الملائكة أو من الجن، أولا
أدري هل هو من العرب أو العجم؟ فلا شك في كفره لتكذيبه القرآن
وجحده ما تلقته قرون الإسلام خلفا عن سلف وصار معلوما بالضرورة
عند الخاص والعام- ولا أعلم في ذلك خلافا- فلو كان غبيا لا
يعرف ذلك وجب تعليمه إياه فإن جحده بعد ذلك حكمنا بكفره انتهى،
وهل يقاس اعتقاد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم من أشرف القبائل
والبطون على ذلك فيجب ذلك في صحة الإسلام أو لا يقاس فحينئذ
يصح إيمان من لم يعرف ذلك لكنه منزه تلك الساحة العلية عن كل
وصمة؟ فيه تأمل، والظاهر الثاني وهو الأوفق بعوام المؤمنين.
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ إما صفة أو حال أو مستأنفة وفيه
بعد أي يتلو عليهم ما يوحى إليه من القرآن بعد ما كانوا أهل
جاهلية لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي أو بعد ما كان بعضهم كذلك
وبعضهم متشوفا متشوقا إليه حيث أخبر كتابه الذي بيده بنزوله
وبشر به وَيُزَكِّيهِمْ أي يدعوهم إلى ما يكونون به زاكين
طاهرين مما كان فيهم من دنس الجاهلية، أو من خبائث الاعتقادات
الفاسدة كالاعتقادات التي كان عليها مشركو العرب وأهل
الكتابين، أو يشهد بأنهم أزكياء في الدين، أو يأخذ منهم الزكاة
التي يطهرهم بها قاله الفراء- ولا يخفى بعده ومثله القريب إليه
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ قد تقدم الكلام في
ذلك.
وهذا التعليم معطوف على ما قبله مترتب على التلاوة وإنما وسط
بينهما التزكية التي هي عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة
العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية
الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة
(2/325)
|