روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني هَا أَنْتُمْ
هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ
مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ
إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ
عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ
إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ
بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ
عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ
يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا
يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ
تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) لَا
خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ
بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ
نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ
مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ
جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ
لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا
إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ
نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ
وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ
آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ
اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ
اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ
وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا
(120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ
عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ
بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ
يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ
نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ
وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ
خَلِيلًا (125)
حفيظا- كما قال الحسن- أو عالما لا يعزب
عنه شيء ولا يفوت- كما قال غيره- وعلى القولين الإحاطة هنا
مجاز ونظمها البعض في سلك المتشابه.
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
خطاب للذابين مؤذن بأن تعديد جناياتهم يوجب مشافهتهم بالتوبيخ
والتقريع، والجملة مبتدأ وخبر، وقوله سبحانه: جادَلْتُمْ
عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
جملة مبينة لوقوع أولاء خبرا فهو بمعنى المجادلين وبه تتم
الفائدة، ويجوز أن يكون أولاء اسما موصولا كما هو مذهب بعض
النحاة في كل اسم إشارة، وجادَلْتُمْ
(3/136)
صلته، فالحمل حينئذ ظاهر، والمجادلة أشد
المخاصمة وأصلها من الجدل وهو شدة الفتل، ومنه قيل للصقر: أجدل
والمعنى هبوا أنكم بذلتم الجهد في المخاصمة عمن أشارت إليه
الأخبار في الدنيا.
فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
أي فمن يخاصمه سبحانه عنهم يوم لا يكتمون حديثا ولا يغني عنهم
من عذاب الله تعالى شيء أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ
يومئذ وَكِيلًا
أي حافظا ومحاميا من بأس الله تعالى وعقابه، وأصل معنى الوكيل
الشخص الذي توكل الأمور له وتسند إليه، وتفسيره بالحافظ
المحامي مجاز من باب استعمال الشيء في لازم معناه، وأَمْ
هذه منقطعة كما قال السمين، وقيل: عاطفة كما نقله في الدر
المصون، والاستفهام كما قال الكرخي: في الموضعين للنفي أي لا
أحد يجادل عنهم ولا أحد يكون عليهم وكيلا.
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
أي شيئا يسوء به غيره كما فعل بشير برفاعة أو طعمة باليهودي
أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
بما يختص به كالإنكار، وقيل: السوء ما دون الشرك، والظلم
الشرك، وقيل: السوء الصغيرة، والظلم الكبيرة. ثُمَّ
يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
بالتوبة الصادقة ولو قبل الموت بيسير يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً
لما استغفره منه كائنا ما كان رَحِيماً
متفضلا عليه، وفيه حث لمن فيهم نزلت الآية من المذنبين على
التوبة والاستغفار، قيل: وتخويف لمن لم يستغفر ولم يتب بحسب
المفهوم فإنه يفيد أن من لم يستغفر حرم من رحمته تعالى وابتلي
بغضبه وَمَنْ يَكْسِبْ
أي يفعل إِثْماً
ذنبا من الذنوب فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
بحيث لا يتعدى ضرره إلى غيرها فليحترز عن تعريضها للعقاب
والوبال وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً
بكل شيء ومنه الكسب حَكِيماً
في كل ما قدر وقضى، ومن ذلك لا تحمل وازرة وزر أخرى، وقيل:
عَلِيماً
بالسارق حَكِيماً
في إيجاب القطع عليه، والأول أولى وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً
أي صغيرة، أو ما لا عمد فيه من الذنوب.
وقرأ معاذ بن جبل يَكْسِبْ
بكسر الكاف والسين المشددة وأصله يكتسب أَوْ إِثْماً
أي كبيرة، أو ما كان عن عمد، وقيل: الخطيئة الشرك والإثم ما
دونه، وفي الكشاف: الإثم الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب،
والهمزة فيه بدل من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها بإحباطه،
وفي الكشف كأن هذا أصله، ثم استعمل في مطلق الذنب في نحو قوله
تعالى: كَبائِرَ الْإِثْمِ [الشورى: 37، النجم: 32] ، ومن هذا
يعلم ضعف ما ذكره صاحب القيل ثُمَّ يَرْمِ بِهِ
أي يقذف به ويسنده، وتوحيد الضمير لأنه عائد على أحد الأمرين
لا على التعيين كأنه قيل: ثُمَّ يَرْمِ
بأحد الأمرين، وقيل: إنه عائد على إِثْماً
فإن المتعاطفين- بأو- يجوز عود الضمير فيما بعدهما على المعطوف
عليه نحو إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا
إِلَيْها [الجمعة: 11] وعلى المعطوف نحو وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها
[التوبة: 34] ، وقيل: إنه عائد على الكسب على حد اعْدِلُوا
هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: 8] ، وقيل: في الكلام حذف
أي- يرم بها وبه- وثُمَ
للتراخي في الرتبة، وقرىء بهما بَرِيئاً
مما رماه به ليحمله عقوبة العاجلة كما فعل من عنده الدرع بلبيد
بن سهل، أو بأبي مليك فَقَدِ احْتَمَلَ
بما فعل من رمي البريء، وقصده تحميل جريرته عليه وهو أبلغ من
حمل، وقيل: افتعل بمعنى فاقتدر وقدر بُهْتاناً
وهو الكذب على الغير بما يبهت منه ويتحير عند سماعه لفظاعته،
وقيل: هو الكذب الذي يتحير في عظمه، والماضي- بهت- كمنع، ويقال
في المصدر:
بهتا وبهتا وبهتا وَإِثْماً مُبِيناً
أي بينا لا مرية فيه ولا خفاء وهو صفة- لإثما- وقد اكتفي في
بيان عظم البهتان بالتنكير التفخيمي على أن وصف الإثم بما ذكر
بمنزلة وصف البهتان به لأنهما عبارة عن أمر واحد هو رمي البريء
بجناية نفسه.
وعبر عنه بهما تهويلا لأمره وتفظيعا لحاله فمدار العظم
والفخامة كون المرمي به للرامي فإن رمي البريء بجناية
(3/137)
ما خطيئة كانت أو إثما بهتان وإثم في نفسه،
أما كونه بهتانا فظاهر، وأما كونه إثما فلأن كون الذنب بالنسبة
إلى من فعله خطيئة لا يلزم منه كونه بالنسبة إلى من نسبه إلى
البريء منه أيضا كذلك، بل لا يجوز ذلك قطعا كيف لا وهو كذب
محرم في سائر الأديان فهو في نفسه بهتان وإثم لا محالة، وبكون
تلك الجناية للرامي يتضاعف ذلك شدة ويزداد قبحا لكن لا لانضمام
جنايته المكسوبة إلى رمي البريء وإلا لكان الرمي بغير جنايته
مثله في العظم، ولا لمجرد اشتماله على تبرئة نفسه الخاطئة وإلا
لكان الرمي بغير جنايته مع تبرئة نفسه مثله في العظم بل
لاشتماله على قصد تحميل جنايته على البريء وإجراء عقوبتها عليه
كما ينبىء عنه إيثار الاحتمال على الاكتساب ونحوه لما فيه من
الإيذان بانعكاس تقديره مع ما فيه من الإشعار بثقل الوزر
وصعوبة الأمر على ما يقتضيه ظاهر صيغة الافتعال، نعم بما ذكر
من انضمام كسبه وتبرئة نفسه إلى رمي البريء تزداد الجناية قبحا
لكن تلك الزيادة وصف للمجموع لا للإثم فقط- كذا قاله شيخ
الإسلام- ولا يخفى أنه أولى مما يفهم من ظاهر كلام الكشاف من
أن في التنزيل لفا ونشرا غير مرتب حيث قال إثر قوله تعالى:
فَقَدِ احْتَمَلَ
إلخ: لأنه بكسبه الإثم آثم، وبرميه البريء باهت فهو جامع بين
الأمرين لخلوه عما يلزمه، وإن أجيب عنه فافهم.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ
بإعلامك بما هم عليه بالوحي وتنبيهك على الحق، وقيل: لولا فضله
بالنبوة ورحمته بالعصمة، وقيل: لولا فضله بالنبوة ورحمته
بالوحي وقيل: المراد لولا حفظه لك وحراسته إياك.
لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ
أي من الذين يختانون، والمراد بهم أسير بن عروة وأصحابه أو
الذابون عن طعمة المطلعون على كنه القصة العالمون بحقيقتها،
ويجوز أن يكون الضمير راجعا إلى الناس، والمراد بالطائفة الذين
انتصروا للسارق أو المودع الخائن، وقيل: المراد بهم وفد ثقيف،
فقد روي عن جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
«أنهم قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: يا
محمد جئناك نبايعك على أن لا نكسر أصنامنا بأيدينا وعلى أن
نتمتع بالعزى سنة، فلم يجبهم صلّى الله عليه وسلّم وعصمه الله
تعالى من ذلك فنزلت» .
وعن أبي مسلم أنهم المنافقون هموا بما لم ينالوا من إهلاك
النبي صلّى الله عليه وسلّم فحفظه الله تعالى منهم وحرسه بعين
عنايته أَنْ يُضِلُّوكَ
أي بأن يضلوك عن القضاء بالحق، أو عن اتباع ما جاءك في أمر
الأصنام، أو بأن يهلكوك، وقد جاء الإضلال بهذا المعنى، ومنه
على ما قيل: قوله تعالى: وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي
الْأَرْضِ [السجدة: 10] والجملة جواب لَوْلا
وإنما نفى همهم مع أن المنفي إنما هو تأثيره فقط إيذانا
بانتفاء تأثيره بالكلية، وقيل: المراد هو الهم المؤثر ولا ريب
في انتفائه حقيقة.
وقال الراغب: إن القوم كانوا مسلمين ولم يهموا بإضلاله صلّى
الله عليه وسلّم أصلا وإنما كان ذلك صوابا عندهم وفي ظنهم وجوز
أبو البقاء أن يكون الجواب محذوفا والتقدير- ولولا فضل الله
عليك ورحمته لأضلوك- ثم استأنف بقوله سبحانه: لَهَمَّتْ
أي لقد همت بذلك وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
أي ما يزيلون عن الحق إلا أنفسهم، أو ما يهلكون إلا إياها لعود
وبال ذلك وضرره عليهم، والجملة اعتراضية، وقوله تعالى: وَما
يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
عطف عليه وعطفه على أَنْ يُضِلُّوكَ
وهم محض ومِنْ
صلة، والمجرور في محل النصب على المصدرية أي وما يضرونك شيئا
من الضرر لما أنه تعالى عاصمك عن الزيغ في الحكم، وأما ما خطر
ببالك فكان عملا منك بظاهر الحال ثقة بأقوال القائلين من غير
أن يخطر لك أن الحقيقة على خلاف ذلك، أو لما أنه سبحانه عاصمك
عن المداهنة والميل إلى آراء الملحدين والأمر بخلاف ما أنزل
الله تعالى عليك، أو لما أنه جل شأنه وعدك العصمة من الناس
وحجبهم عن التمكن منك وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ
أي القرآن الجامع بين العنوانين، وقيل: المراد
(3/138)
بالحكمة السنة، وقد تقدم الكلام في تحقيق
ذلك، والجملة على ما قال الأجهوري: في موضع التعليل لما قبلها،
وإلى ذلك أشار الطبرسي وهو غير مسلم على ما ذهب إليه أبو مسلم.
وَعَلَّمَكَ
بأنواع الوحي ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
أي الذي لم تكن تعلمه من خفيات الأمور وضمائر الصدور، ومن
جملتها وجوه إبطال كيد الكائدين، أو من أمور الدين وأحكام
الشرع- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- أو من الخير
والشر- كما قال الضحاك- أو من أخبار الأولين والآخرين- كما
قيل- أو من جميع ما ذكر- كما يقال..
ومن الناس من فسر الموصول بأسرار الكتاب والحكمة أي إنه سبحانه
أنزل عليك ذلك وأطلعك على أسراره وأوقفك على حقائقه فتكون
الجملة الثانية كالتتمة للجملة الأولى، واستظهر في البحر
العموم.
وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
لا تحويه عبارة ولا تحيط به إشارة، ومن ذلك النبوة العامة
والرئاسة التامة والشفاعة العظمى يوم القيامة لا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ أي الذين يختانون، واختار جمع أن
الضمير للناس، وإليه يشير كلام مجاهد، والنجوى- في الكلام كما
قال الزجاج: ما يتفرد به الجماعة، أو الاثنان، وهل يشترط فيه
أن يكون سرا أم لا؟ قولان: وتكون بمعنى التناجي، وتطلق على
القوم المتناجين- كإذ هم نجوى- وهو إما من باب رجل عدل، أو على
أنه جمع نجي- كما نقله الكرماني- والظرف الأول خبر لا والثاني
في موضع الصفة للنكرة أي كائن مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ
أَمَرَ أي إلا في نجوى من أمر بِصَدَقَةٍ فالكلام على حذف
مضاف، وبه يتصل الاستثناء، وكذا إن أريد بالنجوى المتناجون على
أحد الاعتبارين، ولا يحتاج إلى ذلك التقدير حينئذ، ويكفي في
صحة الاتصال صحة الدخول وإن لم يجزم به فلا يرد ما توهمه عصام
الدين من أن مثل جاءني كثير من الرجال إلا زيدا لا يصح فيه
الاتصال لعدم الجزم بدخول زيد في الكثير، ولا الانقطاع لعدم
الجزم بخروجه، ولا حاجة إلى ما تكلف في دفعه- بأن المراد لا
خير في كثير من نجوى واحد منهم إلا نجوى من أمر إلخ، فإنه في
كثير من نجواه خير- فإنه على ما فيه لا يتأتى مثله على احتمال
الجمع، وجوز رحمه الله تعالى، بل زعم أنه الأولى أن يجعل
إِلَّا مَنْ أَمَرَ متعلقا بما أضيف إليه النجوى بالاستثناء أو
البدل، ولا يخفى أنه إن سلم أن له معنى خلاف الظاهر، وجوز غير
واحد أن يكون الاستثناء منقطعا على معنى لكن من أمر بصدقة وإن
قلّت ففي نجواه الخير أَوْ مَعْرُوفٍ وهو كل ما عرفه الشرع
واستحسنه، فيشمل جميع أصناف البر كقرض وإغاثة ملهوف، وإرشاد
ضال إلى غير ذلك، ويراد به هنا ما عدا الصدقة وما عدا ما أشير
إليه بقوله تعالى: أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وتخصيصه
بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع، وتخصيص الصدقة فيما تقدم
بالصدقة الواجبة مما لا داعي إليه وليس له سند يعول عليه، وخص
الصدقة والإصلاح بين الناس بالذكر من بين ما شمله هذا العام
إيذانا بالاعتناء بهما لما في الأول من بذل المال الذي هو شقيق
الروح، وما في الثاني من إزالة فساد ذات البين- وهي الحالقة
للدين- كما في الخبر، وقدم الصدقة على الإصلاح لما أن الأمر
بها أشق لما فيه من تكليف بذل المحبوب، والنفس تنفر عمن يكلفها
ذلك، ولا كذلك الأمر بالإصلاح، وذكر الإمام الرازي أن السر في
إفراد هذه الأقسام الثلاثة بالذكر أن عمل الخير المتعدي إلى
الناس، إما لإيصال المنفعة أو لدفع المضرة، والمنفعة إما
جسمانية كإعطاء المال، وإليه الإشارة بقوله تعالى: إِلَّا مَنْ
أَمَرَ بِصَدَقَةٍ وإما روحانية وإليه الإشارة بالأمر
بالمعروف، وإما رفع الضرر فقد أشير إليه بقوله تعالى: أَوْ
إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ولا يخفى ما فيه، والمراد من الإصلاح
بين الناس التأليف بينهم بالمودة إذا تفاسدوا من غير أن يجاوز
في ذلك حدود الشرع الشريف، نعم أبيح الكذب لذلك،
فقد أخرج الشيخان وأبو داود عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ليس الكذاب بالذي يصلح
بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا، وقالت: لم أسمعه يرخص في
شيء مما يقوله الناس إلا في
(3/139)
ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث
الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها» .
وعد غير واحد الإصلاح من الصدقة، وأيد بما
أخرجه البيهقي عن أبي أيوب «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال
له: يا أبا أيوب ألا أدلك على صدقة يرضى الله تعالى ورسوله
موضعها؟ قال: بلى قال: تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم
إذا تباعدوا» ،
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم: «أفضل الصدقة إصلاح ذات البين»
وهذا الخبر ظاهر في أن الإصلاح أفضل من الصدقة بالمال.
ومثله ما
أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه عن أبي الدرداء قال: «قال
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألا أخبركم بأفضل من درجة
الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى قال: إصلاح ذات البين»
ولا يخفى أن هذا ونحوه مخرّج مخرج الترغيب، وليس المراد ظاهره
إذ لا شك أن الصيام المفروض والصلاة المفروضة والصدقة كذلك
أفضل من الإصلاح اللهم إلا أن يكون إصلاح يترتب على عدمه شر
عظيم وفساد بين الناس كبير. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي المذكور
من الصدقة وأخويها والكلام تذييل للاستثناء، وكان الظاهر ومن
يأمر بذلك ليكون مطابقا للمذيل إلا أنه رتب الوعد على الفعل
إثر بيان خيرية الآمر لما أن المقصود الترغيب في الفعل وبيان
خيرية الآمر به للدلالة على خيريته بالطريق الأولى، وجوز أن
يكون عبر عن الأمر بالفعل إذ هو يكنى به عن جميع الأشياء كما
إذا قيل: حلفت على زيد وأكرمته وكذا وكذا فتقول: نعم ما فعلت،
ولعل نكتة العدول عن يأمر إلى يَفْعَلْ حينئذ الإشارة إلى أن
التسبب لفعل الغير الصدقة والإصلاح والمعروف بأي وجه كان كاف
في ترتب الثواب، ولا يتوقف ذلك على اللفظ، ويجوز جعل ذلك إشارة
إلى الأمر فيكون معنى من أمر وَمَنْ يَفْعَلْ الأمر واحدا،
وقيل: لا حاجة إلى جعله تذييلا ليحتاج إلى التأويل تحصيلا
للمطابقة، بل لما ذكر لآمر استطراد ذكر ممتثل أمره كأنه قيل:
ومن يمتثل ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي لأجل طلب رضاء الله
تعالى فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ بنون العظمة على الالتفات، وقرأ أبو
عمرو وحمزة وقتيبة عن الكسائي وسهل وخلف بالياء أَجْراً
عَظِيماً لا يحيط به نطاق الوصف، قيل: وإنما قيد الفعل
بالابتغاء المذكور لأن الأعمال بالنيات، وإن من فعل خيرا لغير
ذلك لم يستحق به غير الحرمان، ولا يخفى أن هذا ظاهر في أن
الرياء محبط لثواب الأعمال بالكلية وهو ما صرح به ابن عبد
السلام والنووي وقال الغزالي: إذا غلب الإخلاص فهو مثاب وإلا
فلا، وقيل:
هو مثاب غلب الإخلاص أم لا لكن على قدر الإخلاص، وفي دلالة
الآية- على أن غير المخلص لا يستحق غير الحرمان- نظر لأنه
سبحانه أثبت فيها للمخلص أجرا عظيما وهو لا ينافي أن يكون
لغيره ما دونه، وكون العظمة بالنسبة إلى أمور الدنيا خلاف
الظاهر وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أي يخالفه- من الشق فإن
كلّا من المتخالفين في شق غير شق الآخر، ولظهور الانفكاك بين
الرسول- ومخالفة فك الإدغام هنا، وفي قوله سبحانه في [الأنفال:
13] مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
- رعاية لجانب المعطوف، ولم يفك في قوله تعالى في [الحشر: 4]
وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ.
وقال الخطيب: في حكمة الفك والإدغام أن أل في الاسم الكريم
لازمة بخلافها في الرسول، واللزوم يقتضي الثقل فخفف بالإدغام
فيما صحبته الجلالة بخلاف ما صحبه لفظ الرسول، وفي آية الأنفال
صار المعطوف والمعطوف عليه كالشيء الواحد، وما ذكرناه أولى،
والتعرض لعنوان الرسالة لإظهار كمال شناعة ما اجترءوا إليه من
المشاقة والمخالفة، وتعليل الحكم الآتي بذلك، والآية نزلت كما
قدمناه في سارق الدرع أو مودعها، وقيل: في قوم طعمة لما ارتدوا
بعد أن أسلموا، وأيا ما كان فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص
السبب فيندرج فيه ذلك وغيره من المشاقين مِنْ بَعْدِ ما
تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أي ظهر له الحق فيما حكم به النبي صلّى
الله عليه وسلّم أو فيما يدعيه عليه الصلاة والسلام بالوقوف
على المعجزات الدالة على نبوته وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ أي غير ما هم مستمرون عليه من عقد
(3/140)
وعمل فيعم الأصول والفروع والكل والبعض
نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى أي نجعله واليا لما تولاه من الضلال
ويؤول إلى أنا نضله، وقيل: معناه نخل بينه وبين ما اختاره
لنفسه، وقيل: نكله في الآخرة إلى ما اتكل عليه وانتصر به في
الدنيا من الأوثان وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ أي ندخله إياها، وقد
تقدم.
وقرىء بفتح النون من صلاه وَساءَتْ مَصِيراً أي جهنم أو
التولية، واستدل الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه على حجية
الإجماع بهذه الآية، فعن المزني أنه قال: كنت عند الشافعي يوما
فجاءه شيخ عليه لباس صوف وبيده عصا فلما رآه ذا مهابة استوى
جالسا وكان مستندا لإسطوانة وسوى ثيابه فقال له: ما الحجة في
دين الله تعالى؟ قال:
كتابه، قال: وماذا؟ قال: سنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم قال:
وماذا؟ قال: اتفاق الأمة، قال: من أين هذا الأخير أهو في كتاب
الله تعالى؟
فتدبر ساعة ساكتا، فقال له الشيخ: أجلتك ثلاثة أيام بلياليهنّ
فإن جئت بآية، وإلا فاعتزل الناس فمكث ثلاثة أيام لا يخرج وخرج
في اليوم الثالث بين الظهر والعصر وقد تغير لونه فجاءه الشيخ
وسلم عليه وجلس، وقال: حاجتي، فقال:
نعم أعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن
الرحيم قال الله عز وجل: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ
بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ إلخ لم يصله جهنم على خلاف المؤمنين
إلا واتباعهم فرض، قال: صدقت، وقام وذهب، وروي عنه أنه قال:
قرأت القرآن في كل يوم وفي كل ليلة ثلاث مرات حتى ظفرت بها
ونقل الإمام عنه أنه سئل عن آية من كتاب الله تعالى تدل على أن
الإجماع حجة فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتى وجد هذه الآية.
واعترض ذلك الراغب بأن سبيل المؤمنين الإيمان كما إذا قال اسلك
سبيل الصائمين والمصلين أي في الصوم والصلاة، فلا دلالة في
الآية على حجية الإجماع، ووجوب اتباع المؤمنين في غير الإيمان،
ورده في الكشف بأنه تخصيص بما يأباه الشرط الأول، ثم إنه إذا
كان مألوف الصائمين الاعتكاف مثلا تناول الأمر باتباعهم ذلك
أيضا فكذلك يتناول ما هو مقتضى الإيمان فيما نحن فيه، فسبيل
المؤمنين هنا عام على ما أشرنا إليه.
واعترض بأن المعطوف عليه مقيد بتبين الهدى فيلزم في المعطوف
ذلك فإذا لم يكن في الإجماع فائدة لأن الهدى عام لجميع
الهداية، ومنها دليل الإجماع وإذا حصل الدليل لم يكن للمدلول
فائدة، وأجيب بمنع لزوم القيد في المعطوف، وعلى تقدير التسليم
فالمراد بالهداية الدليل على التوحيد والنبوة، فتفيد الآية أن
مخالفة المؤمنين بعد دليل التوحيد والنبوة حرام، فيكون الإجماع
مفيدا في الفروع بعد تبين الأصول، وأوضح القاضي وجه الاستدلال
بها على حجية الإجماع وحرمة مخالفته بأنه تعالى رتب فيها
الوعيد الشديد على المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين، وذلك إما
لحرمة كل واحد منهما، أو أحدهما، أو الجمع بينهما، والثاني
باطل إذ يقبح أن يقال: من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحدّ،
وكذا الثالث لأن المشاقة محرمة ضم إليها غيرها أو لم يضم، وإذا
كان اتباع غير سبيلهم محرما كان اتباع سبيلهم واجبا لأن ترك
اتباع سبيلهم ممن عرف سبيلهم اتباع غير سبيلهم.
«فإن قيل» : لا نسلم أن ترك اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه
اتباع لغير سبيل المؤمنين لأنه لا يمتنع أن لا يتبع سبيل
المؤمنين ولا غير سبيل المؤمنين «أجيب» بأن المتابعة عبارة عن
الإتيان بمثل فعل الغير فإذا كان من شأن غير المؤمنين أن لا
يقتدوا في أفعالهم بالمؤمنين فكل من لم يتبع من المؤمنين سبيل
المؤمنين فقد أتى بفعل غير المؤمنين واقتفى أثرهم فوجب أن يكون
متبعا لهم، وبعبارة أخرى إن ترك اتباع سبيل المؤمنين اتباع
لغير سبيل المؤمنين لأن المكلف لا يخلو من اتباع سبيل البتة،
واعترض أيضا بأن هذا الدليل غير قاطع لأن «غير سبيل المؤمنين»
يحتمل وجوها من التخصيص لجواز أن يراد سبيلهم في متابعة الرسول
أو في مناصرته أو في الاقتداء به عليه الصلاة والسلام أو فيما
صاروا به مؤمنين، وإذا قام الاحتمال كان غايته الظهور، والتمسك
بالظاهر إنما يثبت بالإجماع ولولاه
(3/141)
لوجب العمل بالدلائل المانعة من اتباع الظن
فيكون إثباتا للإجماع بما لا يثبت حجيته إلا به فيصير دورا،
واستصعب التفصي عنه، وقد ذكره ابن الحاجب في المختصر، وقريب
منه قول الأصفهاني، في اتباع سبيلهم لما احتمل ما ذكر وغيره
صار عاما، ودلالته على فرد من أفراده غير قطعية لاحتمال تخصيصه
بما يخرجه مع ما فيه من الدور، وأجاب عن الدور بأنه إنما يلزم
لو لم يقم عليه دليل آخر، وعليه دليل آخر، وهو أنه مظنون يلزم
العمل به لأنا إن لم نعمل به وحده فإما أن نعمل به وبمقابله أو
لا نعمل بهما، أو نعمل بمقابله، وعلى الأول يلزم الجمع بين
النقيضين، وعلى الثاني ارتفاعهما، وعلى الثالث العمل بالمرجوح
مع وجود الراجح والكل باطل، فيلزم العمل به قطعا، واعترض أيضا
بمنع حرمة اتباع غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مطلقا بل بشرط
المشاقة، وأجاب عنه القوم بما لا يخلو عن ضعف وبأن الاستدلال
يتوقف على تخصيص المؤمنين بأهل الحل والعقد في كل عصر،
والقرينة عليه غير ظاهرة، وبأمور أخر ذكرها الآمدي والتلمساني
وغيرهما، وأجابوا عما أجابوا عنه منها، وبالجملة لا يكاد يسلم
هذا الاستدلال من قيل وقال، وليست حجية الإجماع موقوفة على ذلك
كما لا يخفى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ قد مر تفسيره فيما
سبق وكرر للتأكيد، وخص هذا الموضع به ليكون كالتكميل لقصة من
سبق بذكر الوعد بعد ذكر الوعيد في ضمن الآيات السابقة فلا يضر
بعد العهد، أو لأن للآية سببا آخر في النزول،
فقد أخرج الثعلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن شيخا
من العرب جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني
شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله تعالى منذ عرفته
وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا ولم أوقع المعاصي جراءة وما
توهمت طرفة عين أني أعجز الله تعالى هربا وإني لنادم تائب، فما
ترى حالي عند الله تعالى؟» فنزلت.
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شيئا من الشرك، أو أحدا من الخلق،
وفي معنى الشرك به تعالى نفي الصانع، ولا يبعد أن يكون من
أفراده فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً عن الحق، أو عن الوقوع
ممن له أدنى عقل، وإنما جعل الجزاء على ما قيل هنا فَقَدْ
ضَلَّ إلخ، وفيما تقدم فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً
[النساء: 48] لما أن تلك كانت في أهل الكتاب وهم مطلعون من
كتبهم على ما لا يشكون في صحته من أمر الرسول صلّى الله عليه
وسلّم ووجوب اتباع شريعته وما يدعو إليه من الإيمان بالله
تعالى ومع ذلك أشركوا وكفروا فصار ذلك افتراء واختلافا وجراءة
عظيمة على الله تعالى، وهذه الآية كانت في أناس لم يعلموا
كتابا ولا عرفوا من قبل وحيا ولم يأتهم سوى رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم بالهدى ودين الحق فأشركوا بالله عز وجل وكفروا
وضلوا مع وضوح الحجة وسطوع البرهان فكان ضلالهم بعيدا، ولذلك
جاء بعد تلك أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ
أَنْفُسَهُمْ [النساء: 49] وقوله سبحانه: انْظُرْ كَيْفَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النساء: 50] وجاء بعد
هذه قوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً
أي ما يعبدون، أو ما ينادون لحوائجهم من دون الله تعالى إلا
أصناما، والجملة مبينة لوجه ما قبلها ولذا لم تعطف عليه، وعبر
عن الأصنام بالإناث لما روي عن الحسن أنه كان لكل حي من أحياء
العرب صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان لأنهم يجعلون عليه
الحلي وأنواع الزينة كما يفعلون بالنسوان، أو لما أن أسماءها
مؤنثة- كما قيل- وهم يسمون ما اسمه مؤنث أنثى كما في قوله:
وما ذكر فإن يكبر فأنثى ... شديد اللزم ليس له ضروس
فإنه عنى القراد، وهو ما دام صغيرا يسمى قرادا فإذا كبر سمي
حلمة كثمرة، واعترض بأن من الأصنام ما اسمه مذكر- كهبل وودّ
وسواع وذي الخلصة- وكون ذلك باعتبار الغالب غير مسلم، وقيل:
إنها جمادات وهي كثيرا ما تؤنث لمضاهاتها الإناث لانفعالها،
ففي التعبير عنها بهذا الاسم تنبيه على تناهي جهلهم وفرط
حماقتهم حيث يدعون ما ينفعل ويدعون الفعال لما يريد، وقيل:
المراد بالإناث الأموات، فقد أخرج ابن جرير وغيره عن الحسن أن
الأنثى كل
(3/142)
ميت ليس فيه روح مثل الخشبة اليابسة والحجر
اليابس، ففي التعبير بذلك دون أصناما التنبيه السابق أيضا إلا
أن الظاهر أن وصف الأصنام بكونهم أمواتا مجاز، وقيل: سماها
الله تعالى إناثا لضعفها وقلة خيرها وعدم نصرها، وقيل:
لاتضاع منزلتها وانحطاط قدرها بناء على أن العرب تطلق الأنثى
على كل ما اتضعت منزلته من أي جنس كان، وقيل:
كان في كل صنم شيطانة تتراءى للسدنة وتكلمهم أحيانا فلذلك أخبر
سبحانه أنهم ما يعبدون من دون إلا إناثا وروي ذلك عن أبيّ بن
كعب، وقيل: المراد الملائكة لقولهم: الملائكة بنات الله عز
اسمه، وروي ذلك عن الضحاك، وهو جمع أنثى- كرباب وربي- في لغة
من كسر الراء.
وقرىء- إلا أنثى- على التوحيد- وإلا أنثى- بضمتين كرسل، وهو
إما صفة مفردة مثل امرأة جنب، وإما جمع أنيث كقليب وقلب، وقد
جاء حديد أنيث، وإما جمع إناث كثمار وثمر، وقرىء- وثنا وأثنا-
بالتخفيف والتثقيل، وتقديم الثاء على النون- جمع وثن- كقولك:
أسد وأسد، وأسد ووسد، وقلبت الواو ألفا كأجوه في وجوه.
وأخرج ابن جرير أنه كان في مصحف عائشة رضي الله تعالى عنها-
إلا أوثانا- وَإِنْ يَدْعُونَ أي وما يعبدون بعبادة تلك
الأوثان إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً إذ هو الذي أمرهم بعبادتها
وأغراهم فكانت طاعتهم له عبادة. فالكلام محمول على المجاز فلا
ينافي الحصر السابق، وقيل: المراد من يدعون يطيعون فلا منافاة
أيضا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أنه قال: «ليس من صنم إلا فيه
شيطان» والظاهر أن المراد من الشيطان هنا إبليس، وهو المروي عن
مقاتل وغيره، والمريد والمارد والمتمرد: العاتي الخارج عن
الطاعة، وأصل مادة- م ر د- للملامسة والتجرد، ومنه رْحٌ
مُمَرَّدٌ
[النمل: 44] وشجرة مرداء للتي تناثر ورقها، ووصف الشيطان بذلك
إما لتجرده للشر أو لتشبيهه بالأملس الذي لا يعلق به شيء،
وقيل: لظهور شره كظهور ذقن الأمرد وظهور عيدان الشجرة المرداء
لَعَنَهُ اللَّهُ أي طرده وأبعده عن رحمته، وقيل: المراد
باللعنة فعل ما يستحقها به من الاستكبار عن السجود كقولهم:
أبيت اللعن أي ما فعلت ما تستحقه به، والجملة في موضع نصب صفة
ثانية لشيطان.
وجوز أبو البقاء أن تكون مستأنفة على الدعاء فلا موضع لها من
الإعراب.
وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً عطف
على الجملة المتقدمة، والمراد شيطانا مريدا جامعا بين لعنة
الله تعالى وهذا القول الشنيع الصادر منه عند اللعن، وجوز أن
تكون في موضع الحال بتقدير قد أي وقد قال، وأن تكون مستأنفة
مستطردة كما أن ما قبلها اعتراضية في رأي، والجار والمجرور إما
متعلق بالفعل، وإما حال مما بعده، واختاره البعض، والاتخاذ أخذ
الشيء على وجه الاختصاص، وأصل معنى الفرض القطع. وأطلق هنا على
المقدار المعين لاقتطاعه عما سواه، وهو كما أخرج ابن أبي حاتم
عن الضحاك، وابن المنذر عن الربيع من كل ألف تسعمائة وتسعة
وتسعون، والظاهر أن هذا القول وقع نطقا من اللعين، وكأنه عليه
اللعنة لما نال من آدم عليه السلام ما نال طمع في ولده، وقال
ذلك ظنا، وأيد بقوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ
إِبْلِيسُ ظَنَّهُ [سبأ: 20] ، وقيل: إنه فهم طاعة الكثير له
مما فهمت منه الملائكة حين قالوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ
يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: 30] وادعى بعضهم
أن هذا القول حالي كما في قوله:
امتلأ الحوض. وقال: قطني ... مهلا رويدا قد ملأت بطني
وفي هذه الجمل ما ينادي على جهل المشركين وغاية انحطاط درجتهم
عن الانخراط في سلك العقلاء على أتم وجه وأكمله، وفيها توبيخ
لهم كما لا يخفى وَلَأُضِلَّنَّهُمْ عن الحق
وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ الأماني الباطلة، وأقول لهم:
ليس وراءكم بعث ولا نشر ولا جنة. ولا نار ولا ثواب ولا عقاب
فافعلوا ما شئتم وقيل: أمنيهم بطول البقاء في الدنيا
(3/143)
فيسوفون العمل، وقيل: أمنيهم بالأهواء
الباطلة الداعية إلى المعصية وأزين لهم شهوات الدنيا وزهراتها
وأدعو كلّا منهم إلى ما يميل طبعه إليه فأصده بذلك عن الطاعة،
وروى الأول عن الكلبي وَلَآمُرَنَّهُمْ بالتبتيك- كما قال أبو
حيان- أو بالضلال كما قال غيره فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ
الْأَنْعامِ أي
فليقطعنها من أصلها كما روي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى
عنه،
أو ليشقنها- كما قال الزجاج- بموجب أمري من غير تلعثم في ذلك
ولا تأخير كما يؤذن بذلك الفاء، وهذا إشارة إلى ما كانت
الجاهلية تفعله من شق أو قطع أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن
وجاء الخامس ذكرا وتحريم ركوبها. والحمل عليها وسائر وجوه
الانتفاع بها وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ ممتثلين به
بلا ريث خَلْقَ اللَّهِ عن نهجه صورة أو صفة، ويندرج فيه ما
فعل من فقء عين فحل الإبل إذا طال مكثه حتى بلغ نتاج نتاجه،
ويقال له الحامي وخصاء العبيد والوشم والوشر واللواطة والسحاق
ونحو ذلك وعبادة الشمس والقمر والنار والحجارة مثلا. وتغيير
فطرة الله تعالى التي هي الإسلام واستعمال الجوارح والقوى فيما
لا يعود على النفس كمالا ولا يوجب لها من الله سبحانه زلفى.
وورد عن السلف الاقتصار على بعض المذكورات وعموم اللفظ بمنع
الخصاء مطلقا، وروي النهي عنه عن جمع من الصحابة رضي الله
تعالى عنهم،
وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم عن خصاء الخيل والبهائم» ،
وادعى عكرمة أن الآية نزلت في ذلك، وأجاز بعضهم ذلك في
الحيوان، وأخرج ابن المنذر عن عروة أنه خصى بغلا له، وعن طاوس
أنه خصى جملا، وعن محمد بن سيرين أنه سئل عن خصاء الفحول،
فقال: لا بأس به، وعن الحسن مثله، وعن عطاء أنه سئل عن خصاء
الفحل فلم ير به عند عضاضه وسوء خلقه بأسا.
وقال النووي: لا يجوز خصاء حيوان لا يؤكل في صغره ولا في كبره
ويجوز إخصاء المأكول في صغره لأن فيه غرضا وهو طيب لحمه، ولا
يجوز في كبره، والخصاء في بني آدم محظور عند عامة السلف
والخلف، وعند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه يكره شراء الخصيان
واستخدامهم وإمساكهم لأن الرغبة فيهم تدعو إلى إخصائهم، وخص من
تغيير خلق الله تعالى الختان والوشم لحاجة وخضب اللحية وقص ما
زاد منها على السنة ونحو ذلك، وعن قتادة أنه قرأ الآية، ثم
قال: ما بال أقوام جهلة يغيرون صبغة الله تعالى ولونه سبحانه،
ولا يكاد يسلم له إن أراد ما يعم الخضاب المسنون كالخضاب
بالحناء بل وبالكتم أيضا لإرهاب العدو، وقد صح عن جمع من
الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنهم فعلوا ذلك منهم أبو بكر
الصديق رضي الله تعالى عنه، وحديث النهي محمول على غير ذلك
وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ
بإيثار ما يدعو إليه على ما أمر الله تعالى به ومجاوزته عن
طاعة الله تعالى إلى طاعته، وقيد مِنْ دُونِ اللَّهِ لبيان أن
اتباعه ينافي متابعة أمر الله تعالى وليس احترازيا كما يتوهم،
وأما ما قيل: من أنه ما من مخلوق لله تعالى إلا ولك فيه ولاية
لو عرفتها، ولك في وجوده منفعة لو طلبتها، فلهذا قيدت الولاية
بكونها من دون الله تعالى فناشىء من الغفلة عن تحقيق معنى
الولاية فافهم فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً أي ظاهرا،
وأيّ خسران أعظم من استبدال الجنة بالنار؟ وأي صفقة أخسر من
فوات رضا الرحمن برضا الشيطان؟ يَعِدُهُمْ ما لا يكاد ينجزه،
وقيل: النصر والسلامة، وقيل: الفقر والحاجة إن أنفقوا، وقرأ
الأعمش يَعِدُهُمْ بسكون الدال وهو تخفيف لكثرة الحركات.
وَيُمَنِّيهِمْ الأماني الفارغة، وقيل: طول البقاء في الدنيا
ودوام النعيم فيها، وجوز أن يكون المعنى في الجملتين يفعل لهم
الوعد ويفعل التمنية على طريقة: فلان يعطي ويمنع، وضمير الجمع
المنصوب في يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ راجع إلى- من- باعتبار
معناها كما أن ضمير الرفع المفرد في يَتَّخِذِ وخَسِرَ راجع
إليها باعتبار لفظها، وأخبر سبحانه عن وقوع الوعد والتمنية مع
وقوع غير ذلك مما أقسم عليه اللعين أيضا لأنهما من الأمور
الباطنة
(3/144)
وأقوى أسباب الضلال وحبائل الاحتيال وَما
يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً وهو إيهام النفع فيما
فيه الضرر، وهذا الوعد والأمر عندي مثله إما بالخواطر الفاسدة،
وإما بلسان أوليائه، واحتمال أن يتصور بصورة إنسان فيفعل ما
يفعل بعيد، وغُرُوراً إما مفعول ثان للوعد، أو مفعول لأجله، أو
نعت لمصدر محذوف أي وعدا ذا غرور، أو غارا، أو مصدرا على غير
لفظ المصدر لأن يَعِدُهُمْ في قوة يغرهم بوعده كما قال السمين،
والجملة اعتراض وعدم التعرض للتمنية لأنها من باب الوعد، وفي
البحر أنهما متقاربان فاكتفي بأولهما أُولئِكَ إشارة إلى من
اتخذ الشيطان وليا باعتبار معناه، وما فيه من معنى البعد
للإيذان ببعد منزلتهم في الخسران مَأْواهُمْ ومستقرهم جميعا
جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً أي معدلا ومهربا،
وهو اسم مكان، أو مصدر ميمي من حاص يحيص إذا عدل وولى، ويقال:
محيص ومحاص، وأصل معناه كما قيل: الروغان، ومنه وقعوا في حيص
بيص، وحاص باص أي في أمر يعسر التخلص منه، ويقال: حاص يحوص
أيضا وحوصا وحياصا، وعَنْها متعلق بمحذوف وقع حالا من محيصا.
ولم يجوزوا تعلقه ب يَجِدُونَ لأنه لا يتعدى بعن، ولا بمحيصا
لأنه إن كان اسم مكان فهو لا يعمل لأنه ملحق بالجوامد، وإن كان
مصدرا فمعمول المصدر لا يتقدم عليه، ومن جوز تقدمه إذا كان
ظرفا أو جارا ومجرورا جوزه هنا. وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مبتدا خبره قوله تعالى:
سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها أَبَداً وجوز أبو البقاء أن يكون الموصول في
موضع نصب بفعل محذوف يفسره ما بعده ولا يخفى مرجوحيته، وهذا
وعد للمؤمنين إثر وعيد الكافرين، وإنما قرنهما سبحانه وتعالى
زيادة لمسرة أحبائه ومساءة أعدائه وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي
وعدهم وعدا وأحقه حقا، فالأول مؤكد لنفسه كله على ألف عرفا فإن
مضمون الجملة السابقة لا تحتمل غيره إذ ليس الوعد إلا الإخبار
عن إيصال المنافع قبل وقوعه، والثاني مؤكد لغيره كزيد قائم حقا
فإن الجملة الخبرية بالنظر إلى نفسها وقطع النظر عن قائلها
تحتمل الصدق والكذب والحق والباطل، وجوز أن ينتصب وعد على أنه
مصدر ل سَنُدْخِلُهُمْ على ما قال أبو البقاء من غير لفظه لأنه
في معنى نعدهم إدخال جنات، ويكون حَقًّا حالا منه.
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا تذييل للكلام السابق مؤكد
له، فالواو اعتراضية، والقيل- مصدر قال ومثله القال.
وعن ابن السكيت: أنهما اسمان لا مصدران، ونصبه على التمييز،
ولا يخفى ما في الاستفهام وتخصيص اسم الذات الجليل الجامع،
وبناء أفعل، وإيقاع القول تمييزا من المبالغة، والمقصود معارضة
مواعيد الشيطان الكاذبة لقرنائه التي غرتهم حتى استحقوا الوعيد
بوعد الله تعالى الصادق لأوليائه الذي أوصلهم إلى السعادة
العظمى، ولذا بالغ سبحانه فيه وأكده حثا على تحصيله وترغيبا
فيه، وزعم بعضهم أن الواو عاطفة والجملة معطوفة على محذوف أي
صدق الله وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا أي صدق ولا أصدق
منه، ولا يخفى أنه تكلف مستغنى عنه، وكأن الداعي إليه الغفلة
عن حكم الواو الداخلة على الجملة التذييلة، وتجويز أن تكون
الجملة مقولا لقول محذوف أي وقائلين: من أصدق من الله قيلا،
فيكون عطفا على خالِدِينَ أدهى وأمر.
وقرأ الكوفي غير عاصم وورش بإشمام الصاد الزاي لَيْسَ
بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ الخطاب
للمؤمنين، والأماني بالتشديد والتخفيف- وبهما قرىء- جمع أمنية
على وزن أفعولة، وهي كما قال الراغب: الصورة الحاصلة في النفس
من تمني الشيء أي تقديره في النفس وتصويره فيها، ويقال: منى له
الماني أي قدر له المقدر، ومنه قيل: منية أي مقدرة، وكثيرا ما
يطلق التمني على تصور ما لا حقيقة له، ومن هنا يعبر به عن
الكذب لأنه تصور
(3/145)
ما ذكر، وإيراده باللفظ فكأن التمني مبدأ
له فلهذا صح التعبير به عنه، ومنه قول عثمان رضي الله تعالى
عنه: ما تعنيت ولا تمنيت منذ أسلمت، والباء في بِأَمانِيِّكُمْ
مثلها في- زيد بالباب- وليست زائدة والزيادة محتملة، ونفاها
البعض واسم لَيْسَ مستتر فيها عائد على الوعد بالمعنى المصدري،
أو بمعنى الموعود فهو استخدام كما قال السعد وقيل: عائد على
الموعود الذي تضمنه عامل وعد الله، أو على إدخال الجنة أو
العمل الصالح، وقيل: عائد على الإيمان المفهوم من الذين آمنوا
وقيل على الأمر المتحاور فيه بقرينة سبب النزول.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: التقى ناس من
المسلمين واليهود والنصارى، فقال اليهود للمسلمين: نحن خير
منكم، ديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم،
ونحن على دين إبراهيم ولَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ
كانَ هُوداً [البقرة: 111] ، وقالت النصارى مثل ذلك، فقال
المسلمون: كتابنا بعد كتابكم ونبينا صلّى الله عليه وسلّم بعد
نبيكم، وديننا بعد دينكم وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم
فنحن خير منكم نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ولن يدخل
الجنة إلا من كان على ديننا، فأنزل الله تعالى لَيْسَ
بِأَمانِيِّكُمْ، وقوله سبحانه وَمَنْ أَحْسَنُ إلخ أي ليس وعد
الله تعالى، أو ما وعده سبحانه من الثواب أو إدخال الجنة، أو
العمل الصالح، أو الإيمان، أو ما تحاورتم فيه حاصلا بمجرد
أمانيكم أيها المسلمون ولا أماني اليهود والنصارى، وإنما يحصل
بالسعي والتشمير عن ساق الجد لامتثال الأمر، ويؤيد عود الضمير
على الإيمان المفهوم مما قبله، أنه
أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن موقوفا «ليس الإيمان بالتمني ولكن
ما وقر في القلب وصدقه العمل إن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى
خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظن بالله تعالى
وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل»
وأخرج البخاري في تاريخه عن أنس مرفوعا «ليس الإيمان بالتمني
ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب فأما علم القلب فالعلم
النافع وعلم اللسان حجة على بني آدم» .
وروي عن مجاهد وابن زيد أن الخطاب لأهل الشرك فإنهم قالوا:
لانبعث ولا نعذب كما قال أهل الكتاب لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ
إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى وأيد بأنه لم يجر
للمسلمين ذكر في الأماني وجرى للمشركين ذكر في ذلك أي ليس
الأمر بأماني المشركين وقولهم: لا بعث ولا عذاب، ولا بأماني
أهل الكتاب وقولهم ما قالوا: وقرر سبحانه ذلك بقوله عز من
قائل: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ عاجلا أو آجلا،
فقد أخرج الترمذي وغيره عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه
قال: «كنت عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا أبا بكر ألا أقرئك
آية نزلت علي؟ فقلت: بلى يا رسول الله فأقرأنيها فلا أعلم إلا
أني وجدت انقصاما في ظهري حتى تمطأت لها فقال رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم: ما لك يا أبا بكر؟ قلت: بأبي أنت وأمي يا
رسول الله وأينا لم يعمل السوء وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما أنت وأصحابك يا أبا
بكر المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله تعالى ليس
عليكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزون يوم
القيامة» .
وأخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة قال: «لما نزلت هذه الآية شق
ذلك على المسلمين وبلغت منهم ما شاء الله تعالى فشكوا ذلك إلى
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: سددوا وقاربوا فإن في كل
ما أصاب المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها»
والأحاديث بهذا المعنى أكثر من أن تحصى، ولهذا أجمع عامة
العلماء على أن الأمراض والأسقام ومصائب الدنيا وهمومها وإن
قلّت مشقتها يكفر الله تعالى بها الخطيئات، والأكثرون على أنها
أيضا يرفع بها الدرجات وتكتب الحسنات وهو الصحيح المعول عليه،
فقد صح في غير ما طريق
«ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت
عنه بها خطيئة» .
(3/146)
وحكى القاضي عن بعضهم أنها تكفر الخطايا
فقط ولا ترفع درجة، وروي عن ابن مسعود- الوجع لا يكتب به أجر
لكن يكفر به الخطايا- واعتمد على الأحاديث التي فيها التكفير
فقط ولم تبلغه الأحاديث الصحيحة المصرحة برفع الدرجات وكتب
الحسنات، بقي الكلام في أنها هل تكفر الكبائر أم لا؟، وظاهر
الأحاديث- ومنها خبر أبي بكر رضي الله تعالى عنه- أنها تكفرها،
وقد جاء في خبر حسن عن عائشة أن العبد ليخرج بذلك من ذنوبه كما
يخرج التبر الأحمر من الكير،
وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن يزيد بن أبي حبيب قال: «قال
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا يزال الصداع والمليلة
بالمرء المسلم حتى يدعه مثل الفضة البيضاء»
إلى غير ذلك.
ولا يخفى أن إبقاء ذلك على ظاهره مما يأباه كلامهم، وخص بعضهم
الجزاء بالآجل، ومن بالمشركين وأهل الكتاب، وروي ذلك عن الحسن
والضحاك وابن زيد قالوا: وهذا كقوله تعالى: وَهَلْ نُجازِي
إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ:
17] ، وقيل: المراد من السوء هنا الشرك، وأخرجه ابن جريج عن
ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن جبير، وكلا القولين خلاف
الظاهر، وفي الآية ردّ على المرجئة القائلين: لا تضر مع
الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة وَلا يَجِدْ لَهُ
مِنْ دُونِ اللَّهِ أي مجاوزا لولاية الله تعالى ونصرته
وَلِيًّا يلي أمره ويحامي عنه ويدفع ما ينزل به من عقوبة الله
تعالى وَلا نَصِيراً ينصره وينجيه من عذاب الله تعالى إذا حل
به، ولا مستند في الآية لمن منع العفو عن العاصي إذ العموم
فيها مخصص بالتائب إجماعا، وبعد فتح باب التخصيص لا مانع من أن
نخصصه أيضا بمن يتفضل الله تعالى بالعفو عنه على ما دلت عليه
الأدلة الأخر وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الأعمال الصَّالِحاتِ أي
بعضها وشيئا منها لأن أحدا لا يمكنه عمل كل الصالحات وكم من
مكلف لا حج عليه ولا زكاة ولا جهاد، «فمن» تبعيضية، وقيل: هي
زائدة.
واختاره الطبرسي وهو ضعيف، وتخصيص الصالحات بالفرائض كما روي
عن ابن عباس خلاف الظاهر، وقوله سبحانه مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثى في موضع الحال من ضمير يَعْمَلْ ومَنْ بيانية.
وجوز أن يكون حالا مِنَ الصَّالِحاتِ ومَنْ ابتدائية أي كائنة
مِنْ ذَكَرٍ إلخ، واعترض بأنه ليس بسديد من جهة المعنى، ومع
هذا الأظهر تقدير كائنا لا كائنة لأنه حال من شيئا منها. وكون
المعنى- الصالحات الصادرة من الذكر والأنثى- لا يجدي نفعا لما
في ذلك من الركاكة. ولعل تبيين العامل بالذكر والأنثى لتوبيخ
المشركين في إهلاكهم إناثهم، وجعلهن محرومات من الميراث، وقوله
تعالى: وَهُوَ مُؤْمِنٌ حال أيضا، وفي اشتراط اقتران العمل بها
في استدعاء الثواب الذي تضمنه ما يأتي تنبيه على أنه لا اعتداد
به دونه، وفيه دفع توهم أن العمل الصالح ينفع الكافر حيث قرن
بذكر العمل السوء المضر للمؤمن والكافر والتذكير لتغليب الذكر
على الأنثى كما قيل، وقد مر لك قريبا ما ينفعك فتذكر
فَأُولئِكَ إشارة إلى من بعنوان اتصافه بالعمل الصالح
والإيمان، والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد السابق
باعتبار لفظها، وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة.
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ جزاء عملهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو
وأبو جعفر يَدْخُلُونَ مبنيا للمفعول من الإدخال وَلا
يُظْلَمُونَ نَقِيراً أي لا ينقصون شيئا حقيرا من ثواب
أعمالهم، فإن النقير علم في القلة والحقارة، وأصله نقرة في ظهر
النواة منها تنبت النخلة، ويعلم من نفي تنقيص ثواب المطيع نفي
زيادة عقاب العاصي من باب الأولى لأن الأذى في زيادة العقاب
أشد منه في تنقيص الثواب، فإذا لم يرض بالأول- وهو أرحم
الراحمين- فكيف يرضى بالثاني- وهو السر في تخصيص عدم تنقيص
الثواب بالذكر دون ذكر عدم زيادة العقاب- مع أن المقام مقام
ترغيب في العمل الصالح فلا يناسبه إلا هذا، والجملة تذييل لما
قبلها، أو عطف عليه.
(3/147)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ
وَجْهَهُ لِلَّهِ أي أخلص نفسه له تعالى لا يعرف لها ربا سواه،
وقيل: أخلص توجهه له سبحانه، وقيل: بذل وجهه له عزّ وجلّ في
السجود، والاستفهام إنكاري وهو في معنى النفي، والمقصود مدح من
فعل ذلك على أتم وجه، ودِيناً نصب على التمييز من أحسن منقول
من المبتدأ والتقدير: ومن دينه أحسن من دين من أسلم إلخ، فيؤول
الكلام إلى تفضيل دين على دين، وفيه تنبيه على أن صرف العبد
نفسه بكليتها لله تعالى أعلى المراتب التي تبلغها القوة
البشرية، ومِمَّنْ متعلق بأحسن وكذا الاسم الجليل، وجوز فيه أن
يكون حالا من وَجْهَهُ وَهُوَ مُحْسِنٌ أي آت بالحسنات تارك
للسيئات، أو آت بالأعمال الصالحة على الوجه اللائق الذي هو
حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي، وقد صح
أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الإحسان فقال عليه الصلاة
والسلام: «أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه
يراك» ،
وقيل: الأظهر أن يقال: المراد وَهُوَ مُحْسِنٌ في عقيدته، وهو
مراد من قال: أي وهو موحد، وعلى هذا فالأولى أن يفسر إسلام
الوجه لله تعالى بالانقياد إليه سبحانه بالأعمال، والجملة في
موضع الحال من فاعل أَسْلَمَ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ
الموافقة لدين الإسلام المتفق على صحتها، وهذا عطف على
أَسْلَمَ وقوله سبحانه: حَنِيفاً أي مائلا عن الأديان الزائفة
حال من إِبْراهِيمَ.
وجوز أن يكون حالا من فاعل اتَّبَعَ وَاتَّخَذَ اللَّهُ
إِبْراهِيمَ خَلِيلًا تذييل جيء به للترغيب في اتباع ملته عليه
السلام، والإيذان بأنه نهاية في الحسن، وإظهار اسمه عليه
السلام تفخيما له وتنصيصا على أنه الممدوح، ولا يجوز العطف
خلافا لمن زعمه على وَمَنْ أَحْسَنُ إلخ سواء كان استطرادا أو
اعتراضا، وتوكيدا لمعنى قوله تعالى:
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وبيانا لأن الصالحات ما هي؟
وأن المؤمن من هو لفقد المناسبة، والجامع بين المعطوف والمعطوف
عليه وأدائه ما يؤديه من التوكيد والبيان، ولا على صلة مَنْ
لعدم صلوحه لها وعدم صحة عطفه على وَهُوَ مُحْسِنٌ أظهر من أن
يخفى، وجعل الجملة حالية بتقدير قد خلاف الظاهر، والعطف على
حَنِيفاً لا يصح إلا بتكلف، والخليل مشتق من الخلة بضم الخاء،
وهي إما من الخلال بكسر الخاء فإنها مودة تتخلل النفس وتخالطها
مخالطة معنوية، فالخليل من بلغت مودته هذه المرتبة كما قال:
قد تخللت مسلك الروح مني ... ولذا سمي الخليل خليلا
فإذا ما نطقت كنت حديثي ... وإذا ما سكت كنت الغليلا
وإما من الخلل كما قيل: على معنى أن كلّا من الخليلين يصلح خلل
الآخر، وإما من الخلة بالفتح، وهو الطريق في الرمل لأنهما
يتوافقان على طريقة، وإما من الخلة بفتح الخاء إما بمعنى
الخصلة والخلق لأنهما يتوافقان في الخصال والأخلاق، وقد جاء-
المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل- أو بمعنى الفقر
والحاجة لأن كلّا منهما محتاج إلى وصال الآخر غير مستغن عنه،
وإطلاقه على إبراهيم عليه السلام قيل: لأن محبة الله تعالى قد
تخللت نفسه وخالطتها مخالطة تامة، أو لتخلقه بأخلاق الله
تعالى، ومن هنا كان يكرم الضيف ويحسن إليه ولو كان كافرا، فإن
من صفات الله تعالى الإحسان إلى البر والفاجر، وفي بعض الآثار-
ولست على يقين في صحته- أنه عليه السلام نزل به ضيف من غير أهل
ملته فقال له: وحد الله تعالى حتى أضيفك وأحسن إليك، فقال: يا
إبراهيم من أجل لقمة أترك ديني ودين آبائي فانصرف عنه. فأوحى
الله تعالى: إليه يا إبراهيم صدقك لي سبعون سنة أرزقه وهو يشرك
بي، وتريد أنت منه أن يترك دينه ودين آبائه لأجل لقمة فلحقه
إبراهيم عليه السلام وسأله الرجوع إليه ليقريه واعتذر إليه
فقال له المشرك: يا إبراهيم ما بدا لك؟ فقال: إن ربي عاتبني
فيك، وقال: أنا أرزقه منذ سبعين سنة على كفره بي وأنت تريد أن
يترك دينه ودين آبائه لأجل لقمة فقال المشرك: أو قد وقع هذا؟!
مثل هذا ينبغي أن يعبد فأسلم ورجع مع
(3/148)
إبراهيم عليه السلام إلى منزله ثم عمت بعد
كرامته خلق الله تعالى من كل وارد ورد عليه. فقيل له في ذلك
فقال:
تعلمت الكرم من ربي رأيته لا يضيع أعداءه فلا أضيعهم أنا فأوحى
الله تعالى إليه أنت خليلي حقا،
وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم: يا جبريل لم اتخذ الله تعالى إبراهيم خليلا؟
قال: لإطعامه الطعام يا محمد» ،
وقيل- واختاره البلخي والفراء- لإظهاره الفقر والحاجة إلى الله
تعالى وانقطاعه إليه وعدم الالتفات إلى من سواه كما يدل على
ذلك
قوله لجبريل عليه السلام حين قال له يوم ألقي في النار: ألك
حاجة؟ أما إليك فلا، ثم قال:
حسبي الله تعالى ونعم الوكيل،
وقيل: في وجه تسميته عليه السلام خليل الله غير ذلك، والمشهور
أن الخليل دون الحبيب.
وأيد بما
أخرجه الترمذي وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
قال: «جلس ناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ينتظرونه
فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم وإذا بعضهم
يقول: إن الله تعالى اتخذ من خلقه خليلا فإبراهيم خليله وقال
آخر: ماذا بأعجب من أن كلم الله تعالى موسى تكليما، وقال آخر:
فعيسى روح الله تعالى وكلمته وقال آخر: آدم اصطفاه الله تعالى
فخرج عليهم فسلم فقال: قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل
الله تعالى وهو كذلك. وموسى كليمه وعيسى روحه وكلمته وآدم
اصطفاه الله تعالى وهو كذلك ألا وإني حبيب الله تعالى ولا فخر،
وأنا أول شافع ومشفع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة
فيفتحها الله تعالى فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر،
وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر» ،
وأخرج الترمذي في نوادر الأصول والبيهقي في الشعب وضعفه وابن
عساكر والديلمي قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
اتخذ الله تعالى إبراهيم خليلا وموسى نجيا واتخذني حبيبا، ثم
قال وعزتي لأوثرون حبيبي على خليلي ونجيي» ،
والظاهر من كلام المحققين أن الخلة مرتبة من مراتب المحبة، وأن
المحبة أوسع دائرة، وأن من مراتبها ما لا تبلغه أمنية الخليل
عليه السلام، وهي المرتبة الثابتة له صلّى الله عليه وسلّم،
وأنه قد حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام من مقام الخلة ما لم
يحصل لأبيه إبراهيم عليه السلام، وفي الفرع ما في الأصل
وزيادة، ويرشدك إلى ذلك أن التخلق بأخلاق الله تعالى الذي هو
من آثار الخلة عند أهل الاختصاص أظهر وأتم في نبينا صلّى الله
عليه وسلّم منه في إبراهيم عليه السلام، فقد صح أن خلقه
القرآن،
وجاء عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «بعثت لأتمم مكارم
الأخلاق»
وشهد الله تعالى له بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ
[القلم: 4] ومنشأ إكرام الضيف الرحمة وعرشها المحيط رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم كما يؤذن بذلك قوله تعالى: وَما
أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء:
107] ولهذا كان الخاتم عليه الصلاة والسلام.
وقد روى الحاكم وصححه عن جندب «أنه سمع النبي صلّى الله عليه
وسلّم يقول قبل أن يتوفى: إن الله تعالى اتخذني خليلا كما اتخذ
إبراهيم خليلا،
والتشبيه على حدّ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ
عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 183] في رأي، وقيل:
إن يتوفى لا دلالة فيه على أن مقام الخلة بعد مقام المحبة كما
لا يخفى.
وفي لفظ الحب والخلة ما يكفي العارف في ظهور الفرق بينهما،
ويرشده إلى معرفة أن أي الدائرتين أوسع، وذهب غير واحد من
الفضلاء إلى أن الآية من باب الاستعارة التمثيلية لتنزهه تعالى
عن صاحب وخليل، والمراد اصطفاه وخصصه بكرامة تشبه كرامة الخليل
عند خليله، وأما في الخليل وحده فاستعارة تصريحية على ما نص
عليه الشهاب إلا أنه صار بعد علما على إبراهيم عليه الصلاة
والسلام.
وادعى بعضهم أنه لا مانع من وصف إبراهيم عليه الصلاة والسلام
بالخليل حقيقة على معنى الصادق، أو من أصفى المودة وأصحها أو
نحو ذلك، وعدم إطلاق الخليل على غيره عليه الصلاة والسلام مع
أن مقام الخلة بالمعنى
(3/149)
المشهور عند العارفين غير مختص به بل كل
نبي خليل الله تعالى، إما لأن ثبوت ذلك المقام له عليه الصلاة
والسلام على وجه لم يثبت لغيره- كما قيل- وإما لزيادة التشريف
والتعظيم كما نقول، واعترض بعض النصارى بأنه إذا جاز إطلاق
الخليل على إنسان تشريفا فلم لم يجز إطلاق الابن على آخر لذلك؟
أجيب بأن الخلة لا تقتضي الجنسية بخلاف النبوة فإنها تقتضيها
قطعا، والله تعالى هو المنزه عن مجانسة المحدثات.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يحتمل أن
يكون متصلا بقوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ
علبى أنه كالتعليل لوجوب العمل، وما بينهما من قوله سبحانه:
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً اعتراض أي إن جميع ما في العلو والسفل
من الموجودات له تعالى خلقا وملكا لا يخرج من ملكوته شيء منها
فيجازي كلّا بموجب أعماله إن خيرا فخير وإن شرا فشر وأن يكون
متصلا بقوله جل شأنه: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إلخ بناء على أن
معناه اختاره واصطفاه أي هو مالك لجميع خلقه فيختار من يريده
منهم كإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهو لبيان أن اصطفاءه عليه
الصلاة والسلام بمحض مشيئته تعالى.
وقيل: لبيان أن اتخاذه تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام
خليلا ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك لشأن من شؤونه كما هو دأب
المخلوقين، فإن مدار خلتهم افتقار بعضهم إلى بعض في مصالحهم،
بل لمجرد تكرمته وتشريفه، وفيه أيضا إشارة إلى أن خلته عليه
السلام لا تخرجه عن العبودية لله تعالى.
وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً إحاطة علم وقدرة بناء
على أن حقيقة الإحاطة في الأجسام، فلا يوصف الله تعالى بذلك
فلا بدّ من التأويل وارتكاب المجاز على ما ذهب إليه الخلف،
والجملة تذييل مقرر لمضمونه ما قبله على سائر وجوهه.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي
الْأَرْضِ أي سافرتم في أرض الاستعداد لمحاربة عدو النفس، أو
لتحصيل أحوال الكمالات فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ
تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ أي تنقصوا من الأعمال البدنية إِنْ
خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي حجبوا عن
الحق من قوى الوهم والتخيل، وحاصله الترخيص لأرباب السلوك عند
خوف فتنة القوى أن ينقصوا من الأعمال البدنية ويزيدوا في
الأعمال القلبية كالفكر والذكر ليصفوا القلب ويشرق نوره على
القوى فتقل غائلتها فتركوا عند ذلك الأعمال البدنية، ولا يجوز
عند أهل الاختصاص ترك الفرائض لذلك كما زعمه بعض الجهلة وَإِذا
كُنْتَ فِيهِمْ ولم تكن غائبا عنهم بسيرك في غيب الغيب وجلال
المشاهدة وعائما في بحار
«لي مع الله تعالى وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل»
فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ أي الأعمال البدنية فَلْتَقُمْ
طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وليفعلوا كما تفعل وَلْيَأْخُذُوا
أَسْلِحَتَهُمْ من قوى الروح ويجمعوا حواسهم ليتأتى لهم
المشابهة، أو ليقفوا على ما في فعلك من الأسرار فلا تضلهم
الوسائس فَإِذا سَجَدُوا وبلغوا الغاية في معرفة ما أقمته لهم
وأتوا به على وجهه فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ ذابين عنكم
اعتراض الجاهلين، أو قائمين بحوائجكم الضرورية وَلْتَأْتِ
طائِفَةٌ أُخْرى منهم لَمْ يُصَلُّوا بعد فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ
وليفعلوا فعلك وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ كما
أخذا الأولون أسلحتهم، وإنما أمر هؤلاء بأخذ الحذر أيضا حثا
لهم على مزيد الاحتياط لئلا يقصروا فيها يراد منهم اتكالا على
الأخذ بعد ممن أخذ أولا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وحاصل هذا الإشارة إلى أن تعليم الشرائع والآداب للمريدين
ينبغي أن يكون لطائفة طائفة منهم ليتمكن ذلك لديهم أتم تمكن،
وقيل: الطائفة الأولى إشارة إلى الخواص، والثانية إلى العوام
ولهذا اكتفي في الأول بالأمر بأخذ الأسلحة، وفي الثاني أمر
الحذر أيضا وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم قوى النفس الأمارة
لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وهي
(3/150)
قوى الروح وَأَمْتِعَتِكُمْ وهي المعارف
الإلهية فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً ويرمونكم
بنبال الآفات والشكوك ويهلكونكم وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ
كانَ بِكُمْ أَذىً بأن أصابكم شؤبوب مِنْ مَطَرٍ يعني مطر
سحائب التجليات أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى بحمى الوجد والغرام
وعجزتم عن أعمال القوى الروحانية أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ
وتتركوا أعمال تلك القوى حتى يتجلى ذلك السحاب وينقطع المطر
وتهتز أرض قلوبكم بأزهار رحمة الله تعالى وتطفأ حمى الوجد
بمياه القرب وَخُذُوا حِذْرَكُمْ عند وضع أسلحتكم واحفظوا
قلوبكم من الالتفات إلى غير الله تعالى إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ
لِلْكافِرِينَ من القوى النفسانية عَذاباً مُهِيناً أي مذلا
لهم وذلك عند حفظ القلب وتنور الروح فَإِذا قَضَيْتُمُ
الصَّلاةَ أي أديتموها فَاذْكُرُوا اللَّهَ في جميع الأحوال
قِياماً في مقام الروح بالمشاهدة وَقُعُوداً في محل القلب
بالمكاشفة وَعَلى جُنُوبِكُمْ أي تقلباتكم في مكان النفس
بالمجاهدة فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ ووصلتم إلى محل البقاء
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فأدوها على الوجه الأتم لسلامة القلب
حينئذ عن الوساوس النفسانية التي هي بمنزلة الحدث عند أهل
الاختصاص إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً
مَوْقُوتاً فلا تسقط عنهم ما دام العقل والحياة وَلا تَهِنُوا
فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ الذين يحاربونكم وهم النفس وقواها
فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ منكم لمنعكم لهم عن شهواتهم كَما
تَأْلَمُونَ منهم لمعارضتهم لكم عن السير إلى الله تعالى
وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ أي تأملون منه سبحانه ما لا
يَرْجُونَ لأنكم ترجون التنعم بجنة القرب والمشاهدة، ولا يخطر
ذلك لهم ببال، أو تخافون القطيعة وهم لا يخافونها وَكانَ
اللَّهُ عَلِيماً فيعلم أحوالكم وأحوالهم حَكِيماً فيفيض على
القوابل حسب القابليات إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ
أي علم تفاصيل الصفات وأحكام تجلياتها بِالْحَقِّ متلبسا ذلك
الكتاب بالصدق أو قائما أنت بالحق لا بنفسك لِتَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ خواصهم وعوامهم بِما أَراكَ اللَّهُ أي بما علمك الله
سبحانه من الحكمة وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ الذين لم يؤدوا
أمانة الله تعالى التي أودعت عندهم في الأزل مما ذكر في
استعدادهم من إمكان طاعته وامتثال أمره خَصِيماً تدفع عنهم
العقاب وتسلط الخلق عليهم بالذل والهوان، أو تقول لله تعالى:
يا رب لم خذلتهم وقهرتهم فإنهم ظالمون، ولله تعالى الحجة
البالغة عليهم.
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ من الميل الطبيعي الذي اقتضته الرحمة
التي أحاطت بك إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً فيفعل ما
تطلبه منه وزيادة وَلا تُجادِلْ
أحدا عن الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
بتضييع حقوقها إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً
لنفسه أَثِيماً
مرتكبا الإثم ميالا مع الشهوات يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
بكتمان رذائلهم وصفات نفوسهم وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
بإزالتها وقلعها وَهُوَ مَعَهُمْ
محيط بظواهرهم وبواطنهم إِذْ يُبَيِّتُونَ
أي يدبرون في ظلمة عالم النفس والطبيعة ما لا يَرْضى مِنَ
الْقَوْلِ
من الوهميات والتخيلات الفاسدة وَكانَ اللَّهُ بِما
يَعْمَلُونَ مُحِيطاً
فيجازيهم حسب أعمالهم وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
بظهور صفة من صفات نفسه أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
بنقص شيء من كمالاتها ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
ويطلب منه ستر ذلك بالتوجه إليه والتذلل بين يديه يَجِدِ
اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
فيستر ويعطى ما يقتضيه الاستعداد وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً
بإظهار بعض الرذائل أَوْ إِثْماً
بمحو ما في الاستعداد ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
بأن يقول: حملني الله تعالى على ذلك، أو حملني فلان عليه
فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً
حيث فعل ونسب فعله إلى الغير ولو لم تكن مستعدة لذلك طالبة له
بلسان الاستعداد في الأزل لم يفض عليه ولم يبرز إلى ساحة
الوجود، ولذا أفحم إبليس اللعين أتباعه بما قص الله تعالى لنا
من قوله: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ إلى أن
قال: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ، وَلَوْلا
فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ
أي توفيقه وإمداده لسلوك طريقه وَرَحْمَتُهُ
حيث وهب لك الكمال المطلق لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ
يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
لعود ضرره عليهم،
(3/151)
وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ مُحِيطًا (126) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ
اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا
تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ
تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) وَإِنِ
امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا
وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ
تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ
تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا
تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ
وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا
رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا
مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ
وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ
اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا
(132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ
بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ
كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا
(134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ
الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ
فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا
الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ
الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا
كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا
لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ
بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ
الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ
فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ
بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ
إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي
جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ
فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ
نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا
أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا
إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا
يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ
بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ
تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ
النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا
الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ
وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ
إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا
عَلِيمًا (147)
وحفظك في قلاع استعدادك عن أن ينالك شيء من
ذلك وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ
الجامع لتفاصيل العلم وَالْحِكْمَةَ
التي هي أحكام تلك التفاصيل مع العمل وَعَلَّمَكَ ما لَمْ
تَكُنْ تَعْلَمُ
من علم عواقب الخلق وعلم ما كان وما سيكون وَكانَ فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
حيث جعلك أهلا لمقام قاب قوسين أو أدنى ومنّ عليك بما لا يحيط
به سوى نطاق الوجود لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ وهو
ما كان من جنس الفضول، والأمر الذي لا يعني إِلَّا نجوى مَنْ
أَمَرَ بِصَدَقَةٍ وأرشد إلى فضيلة السخاء الناشئ من العفة،
أَوْ مَعْرُوفٍ قولي كتعلم علم، أو فعلي كإغاثة ملهوف أَوْ
إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ الذي هو من باب العدل وَمَنْ
يَفْعَلْ ذلِكَ ويجمع بين تلك الكمالات ابْتِغاءَ مَرْضاتِ
اللَّهِ لا للرياء والسمعة من كل ما يعود به الفضيلة رذيلة
فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ الله تعالى أَجْراً عَظِيماً ويدخله جنات
الصفات وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أي يخالف ما جاء به النبي
صلّى الله عليه وسلّم، أو العقل المسمى عندهم بالرسول النفسي
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أي غير ما عليه
أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن اقتفى أثرهم من الأخيار
أو القوى الروحانية نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ
جَهَنَّمَ الحرمان وَساءَتْ مَصِيراً لمن يصلاها إِنْ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وهي الأصنام المسماة
بالنفوس إذ كل من يعبد غير الله تعالى فهو عابد لنفسه مطيع
لهواها، أو المراد بالإناث الممكنات لأن كل ممكن محتاج ناقص من
جهة إمكانه منفعل متأثر عند تعينه فهو أشبه كل شيء بالأنثى
وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً وهو شيطان الوهم
حيث قبلوا إغواءه وأطاعوه لَعَنَهُ اللَّهُ أي أبعده عن رياض
قربه وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً
وهم غير المخلصين الذين استثنوا في آية أخرى
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ عن الطريق الحق وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ
الأماني الفاسدة من كسب اللذات الفانية وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ أي فليقطعن آذان نفوسهم عن
سماع ما ينفعهم وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ
اللَّهِ وهي الفطرة التي فطر الناس عليها من التوحيد
وَالَّذِينَ آمَنُوا ووحدوا وعملوا الصالحات واستقاموا
سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ جنة الأفعال وجنة الصفات وجنة الذات
لَيْسَ أي حصول الموعود بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ
الْكِتابِ بل لا بد من السعي فيما يقتضيه، وفي المثل إن التمني
رأس مال المفلس، وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً أي حالا مِمَّنْ
أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وسلم نفسه إليه وفني فيه وَهُوَ
مُحْسِنٌ مشاهد للجمع في عين التفصيل سالك طريق الإحسان
بالاستقامة في الأعمال وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ في
التوحيد حَنِيفاً مائلا عن السوي وَاتَّخَذَ اللَّهُ
إِبْراهِيمَ خَلِيلًا حيث تخللت المعرفة جميع أجزائه من حيث ما
هو مركب فلم يبق جوهر فرد إلا وقد حلت فيه
معرفة ربه عزّ وجلّ فهو عارف به بكل جزء منه، ومن هنا قيل: إن
دم الحلاج لما وقع على الأرض انكتب بكل قطرة منه الله وأنشد:
ما قدّ لي عضو ولا مفصل ... إلا وفيه لكم ذكر
(3/152)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ لأن كل ما برز في الوجود فهو شأن من شؤونه سبحانه
وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً من حيث إنه الذي أفاض
عليه الجود، وهو رب الكرم والجود، لا رب غيره، ولا يرجى إلا
خيره وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ أي يطلبون منك تبيين
المشكل من الأحكام في النساء مما يجب لهن وعليهن مطلقا فإنه
عليه الصلاة والسلام قد سئل عن أحكام كثيرة مما يتعلق بهن فما
بين فيما سلف أحيل بيانه على ما ورد في ذلك من الكتاب وما لم
يبين بعد بين هنا، وقال غير واحد: إن المراد يَسْتَفْتُونَكَ
في ميراثهن، والقرينة الدالة على ذلك سبب النزول،
فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جبير قال: كان لا يرث
إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم في المال ويعمل فيه ولا يرث
الصغير ولا المرأة شيئا، فلما نزلت المواريث في سورة النساء شق
ذلك على الناس، وقالوا: أيرث الصغير الذي لا يقوم في المال
والمرأة التي هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل؟! فرجوا أن يأتي في
ذلك حدث من السماء فانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا
لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بدّ، ثم قالوا: سلوا فسألوا النبي
صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: كان أهل الجاهلية لا يورّثون
النساء ولا الصبيان شيئا كانوا يقولون لا يغزون ولا يغنمون
خيرا فنزلت، وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما نحوه، وإلى الأول مال شيخ الإسلام: قُلِ اللَّهُ
يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ أي يبين لكم حكمه فيهن، والإفتاء إظهار
المشكل على السائل، وفي البحر يقال: أفتاه إفتاء، وفتيا وفتوى،
وأفتيت فلانا رؤياه عبرتها له.
وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ في ما ثلاثة احتمالات:
الرفع والنصب والجر، وعلى الأول: إما أن تكون مبتدأ والخبر
محذوف أي- وما يتلى عليكم في القرآن يفتيكم ويبين لكم- وإيثار
صيغة المضارع للإيذان بدوام التلاوة واستمرارها، وفي الكتاب
متعلق- بيتلى- أو بمحذوف وقع حالا من المستكن فيه أي يتلى
كائنا في الكتاب، وإما أن تكون مبتدأ، وفِي الْكِتابِ خبره،
والمراد بالكتاب حينئذ اللوح المحفوظ إذ لو أريد به معناه
المتبادر لم يكن فيه فائدة إلا أن يتكلف له، والجملة معترضة
مسوقة لبيان عظم شأن المتلو، وما يتلى متناول لما تلي وما
سيتلى، وإما أن تكون معطوفة على الضمير المستتر في يُفْتِيكُمْ
وصح ذلك للفصل، والجمع بين الحقيقة والمجاز في المجاز العقلي
سائغ شائع، فلا يرد أن الله تعالى فاعل حقيقي للفعل، والمتلو
فاعل مجازي له، والإسناد إليه من قبيل الإسناد إلى السبب فلا
يصح العطف، ونظير ذلك أغناني زيد وعطاؤه، وإما أن تكون معطوفة
على الاسم الجليل، والإيراد أيضا غير وارد، نعم المتبادر أن
هذا العطف من عطف المفرد على المفرد، ويبعده إفراد الضمير كما
لا يخفى، وعلى الثاني تكون مفعولا لفعل محذوف أي ويبين لكم ما
يتلى، والجملة إما معطوفة على جملة يُفْتِيكُمْ وإما معترضة،
وعلى الثالث إما أن تكون في محل الجر على القسم المنبئ عن
تعظيم المقسم به وتفخيمه كأنه قيل:
قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وأقسم- بما يتلى عليكم في
الكتاب- وإما أن تكون معطوفة على الضمير المجرور كما نقل عن
محمد بن أبي موسى، وما عند البصريين ليس بوحي فيجب اتباعه، نعم
فيه اختلال معنوي لا يكان ينفعه، وإما أن تكون معطوفة على
النساء كما نقله الطبرسي عن بعضهم، ولا يخفى ما فيه، وقوله
سبحانه: فِي يَتامَى النِّساءِ متعلق- بيتلى- في غالب
الاحتمالات أي ما يتلى عليكم في شأنهن ومنعوا ذلك على تقدير
كون ما مبتدأ، وفِي الْكِتابِ خبره لما يلزم عليه من الفصل
بالخبر بين أجزاء الصلة، وكذا على تقدير القسم إذ لا معنى
لتقييده بالمتلو بذلك ظاهرا، وجوزوا أن يكون بدلا من فِيهِنَّ
وأن يكون صلة أخرى- ليفتيكم- ومتى لزم تعلق حرفي جر بشيء واحد
بدون اتباع يدفع بالتزام كونهما ليسا بمعنى، والممنوع تعلقهما
كذلك إذا كانا بمعنى واحد، وفي الثاني
(3/154)
هنا سببية كما
في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن امرأة دخلت النار في هرة»
فالكلام إذا مثل جئتك في يوم الجمعة في أمر زيد أي بسببه،
وإضافة اليتامى إلى النساء بمعنى من لأنها إضافة الشيء إلى
جنسه، وجعلها أبو حيان بمعنى اللام ومعناها الاختصاص، وادعي
أنه الأظهر وليس بشيء- كما قال الحلبي وغيره- وقرىء- ييامى-
بياءين على أنه جمع أيم والعرب تبدل الهمزة ياء كثيرا
اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ أي ما فرض لهن
من الميراث وغيره على ما اختاره شيخ الإسلام، أو ما فرض لهن من
الميراث فقط على ما روي عن ابن عباس وابن جبير ومجاهد رضي الله
تعالى عنه، واختاره الطبري، أو ما وجب لهن من الصداق على ما
روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها، واختاره الجبائي، وقيل:
ما كُتِبَ لَهُنَّ من النكاح فإن الأولياء كانوا يمنعوهن من
التزوج.
وروي ذلك عن الحسن وقتادة والسدي وإبراهيم وَتَرْغَبُونَ عطف
على صلة اللَّاتِي أو على المنفي وحده، وجوز أن يكون حالا من
فاعل تُؤْتُونَهُنَّ فإن قلنا بجواز اقتران الجملة المضارعية
الحالية بالواو: فظاهر، وإذا قلنا بعدم الجواز: التزم تقدير
مبتدأ أي وأنتم ترغبون أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ أي في أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ أو عن أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ فإن أولياء اليتامى-
كما ورد في غير ما خبر- كانوا يرغبون فيهن إن كن جميلات
ويأكلون ما لهن، وإلا كانوا يعضلوهن طمعا في ميراثهن، وحذف
الجار هنا لا يعد لبسا، بل إجمال، فكل من الحرفين مراد على
سبيل البدل، واستدل بعض أصحابنا بالآية على جواز تزويج اليتيمة
لأنه ذكر الرغبة في نكاحها فاقتضى جوازه، والشافعية يقولون:
إنه إنما ذكر ما كانت تفعله الجاهلية على طريق الذم فلا دلالة
فيها على ذلك مع أنه لا يلزم من الرغبة في نكاحها فعله في حال
الصغر، وهذا الخلاف في غير الأب والجدّ، وأما هما فيجوز لهما
تزويج الصغير بلا خلاف وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ
عطف على يتامى النساء، وكانوا لا يورثونهم كما لا يورثون
النساء كما تقدّم آنفا.
وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ عطف على ما قبله، وإن
جعل في يتامى بدلا، فالوجه النصب في هذا، والْمُسْتَضْعَفِينَ
عطفا على محل فيهن ومنعوا العطف على البدل، بناء على أن المراد
بالمستضعفين الصغار مطلقا الذين منعوهم عن الميراث ولو ذكورا،
ولو عطف على البدل لكان بدلا، ولا يصح فيه غير بدل الغلط وهو
لا يقع في فصيح الكلام، وجوز في أَنْ تَقُومُوا الرفع على أنه
مبتدأ، والخبر محذوف أي خير ونحوه، والنصب بإضمار فعل أي
ويأمركم- أن تقوموا، وهو خطاب للأئمة أن ينظروا لهم ويستوفوا
حقوقهم، أو للأولياء والأوصياء بالنصفة في حقهم وَما
تَفْعَلُوا في حقوق المذكورين مِنْ خَيْرٍ حسبما أمرتم به أو
ما تفعلوه من خير على الإطلاق ويندرج فيه ما يتعلق بهؤلاء
اندراجا أوليا.
فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً فيجازيكم عليه، واقتصر على
ذكر الخير لأنه الذي رغب فيه، وفي ذلك إشارة إلى أن الشر مما
لا ينبغي أن يقع منهم أو يخطر ببال وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ
شروع في بيان أحكام لم تبين قبل،
وأخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال: «خشيت سودة رضي الله
تعالى عنها أن يطلقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت:
يا رسول الله لا تطلقني واجعل يومي لعائشة ففعل» ونزلت هذه
الآية،
وأخرج الشافعي رضي الله تعالى عنه عن ابن المسيب أن ابنة محمد
بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا إما كبرا أو
غيره، فأراد طلاقها فقالت: لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك
فاصطلحا على صلح فجرت السنة بذلك ونزل القرآن، وأخرج ابن جرير
عن مجاهد أنها نزلت في أبي السائب أي وإن خافت امرأة خافت، فهو
من باب الاشتغال، وزعم الكوفيون أن امْرَأَةٌ مبتدأ وما بعده
الخبر وليس بالمرضي، وقدر بعضهم هنا- كانت- لاطراد حذف كان بعد
إن، ولم يجعله من الاشتغال وهو مخالف للمشهور بين الجمهور،
والخوف إما على حقيقته، أو بمعنى التوقع أي وإن امرأة توقعت
لما ظهر لها من المخايل
(3/155)
مِنْ بَعْلِها أي زوجها، وهو متعلق- بخافت-
أو بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى: نُشُوزاً أي استعلاء
وارتفاعا بنفسه عنها إلى غيرها لسبب من الأسباب، ويطلق على كل
من صفة أحد الزوجين أَوْ إِعْراضاً أي انصرافا بوجهه أو ببعض
منافعه التي كانت لها منه، وفي البحر: النشوز أن يتجافى عنها
بأن يمنعها نفسه ونفقته والمودة التي بينهما، وأن يؤذيها بسب
أو ضرب مثلا، والإعراض أن يقلل محادثتها ومؤانستها لطعن في سن،
أو دمامة، أو شين في خلق، أو خلق، أو ملال، أو طموح عين إلى
أخرى، أو غير ذلك وهو أخف من النشوز فَلا جُناحَ أي فلا حرج
ولا إثم «عليهما» أي الامرأة وبعلها حينئذ.
أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً أي في أن يصلحا بينهما بأن
تترك المرأة له يومها كما فعلت سودة رضي الله تعالى عنها مع
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو تضع عنه بعض ما يجب لها من
نفقة، أو كسوة، أو تهبه المهر، أو شيئا منه، أو تعطيه مالا
لتستعطفه بذلك وتستديم المقام في حباله، وصدر ذلك بنفي الجناح
لنفي ما يتوهم من أن ما يؤخذ كالرشوة فلا يحل، وقرأ غير أهل
الكوفة- يصالحا- بفتح الياء وتشديد الصاد وألف بعدها، وأصله
يتصالحا فأبدلت التاء صادا وأدغمت، وقرأ الجحدري- يصلحا-
بالفتح والتشديد من غير ألف وأصله يصطلحا فخفف بإبدال الطاء
المبدلة من تاء الافتعال صادا وأدغمت الأولى فيها لا أنه أبدلت
التاء ابتداء صادا وأدغم- كما قال أبو البقاء- لأن تاء
الافتعال يجب قلبها طاء بعد الأحرف الأربعة.
وقرىء يصطلحا- وهو ظاهر، وصُلْحاً على قراءة أهل الكوفة إما
مفعول به على معنى يوقعا الصلح، أو بواسطة حرف أي يصلح،
والمراد به ما يصلح به، وبَيْنَهُما ظرف ذكر تنبيها على أنه
ينبغي أن لا يطلع الناس على ما بينهما بل يسترانه عنهم أو حال
من صُلْحاً أي كائنا بينهما، وإما مصدر محذوف الزوائد، أو من
قبيل أَنْبَتَها الله نَباتاً [آل عمران: 37] وبَيْنَهُما هو
المفعول على أنه اسم بمعنى التباين والتخالف، أو على التوسع في
الظرف لا على تقدير ما بينهما كما قيل، ويجوز أن يكون
بَيْنَهُما ظرفا، والمفعول محذوف أي حالهما ونحوه، وعلى قراءة
غيرهم يجوز أن يكون واقعا موقع تصالحا واصطلاحا، وأن يكون
منصوبا بفعل مترتب على المذكور أي فيصلح حالهما صُلْحاً
واحتمال هذا في القراءة الأولى بعيد وجوز أن يكون منصوبا على
إسقاط حرف الجر أي يصالحا أو يصلحا بصلح أي بشيء تقع بسببه
المصالحة وَالصُّلْحُ خَيْرٌ أي من الفرقة وسوء العشرة أو من
الخصومة، فاللام للعهد، وإثبات الخيرية للمفضل عليه على سبيل
الفرض والتقدير أي إن يكن فيه خير فهذا أخير منه وإلا فلا
خيرية فيما ذكر، ويجوز أن لا يراد بخير التفضيل بل يراد به
المصدر أو الصفة أي إنه خير من الخيور فاللام للجنس وقيل: إن
اللام على التقديرين تحتمل العهدية والجنسية، والجملة
اعتراضية، وكذا قوله تعالى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ
ولذلك اغتفر عدم تجانسهما إذ الأولى اسمية، والثانية فعلية ولا
مناسبة معنى بينهما، وفائدة الأولى الترغيب في المصالحة،
والثانية تمهيد العذر في المماكسة والمشاقة كما قيل، وحضر متعد
لواحد وأحضر لاثنين، والأول هو الْأَنْفُسُ القائم مقام الفاعل
والثاني الشُّحَّ، والمراد أحضر الله تعالى الْأَنْفُسُ
الشُّحَّ وهو البخل مع الحرص، ويجوز أن يكون القائم مقام
الفاعل هو الثاني أي إن الشح جعل حاضرا لها لا يغيب عنها أبدا،
أو أنها جعلت حاضرة له مطبوعة عليه فلا تكاد المرأة تسمح
بحقوقها من الرجل ولا الرجل يكاد يجود بالإنفاق وحسن المعاشرة
مثلا على التي لا يريدها، وذكر شيخ الإسلام أن في ذلك تحقيقا
للصلح وتقريرا له بحث كل من الزوجين عليه لكن لا بالنظر إلى
حال نفسه فإن ذلك يستدعي التمادي في الشقاق بل بالنظر إلى حال
صاحبه، فإن شح نفس الرجل وعدم ميلها عن حالتها الجبلية بغير
استمالة مما يحمل المرأة على بذل بعض حقوقها إليه لاستمالته،
وكذا شح
(3/156)
نفسها بحقوقها مما يحمل الرجل على أن يقنع
من قبلها بشيء يسير ولا يكلفها بذل الكثير فيتحقق بذلك الصلح
الذي هو خير وَإِنْ تُحْسِنُوا في العشرة مع النساء
وَتَتَّقُوا النشوز والإعراض وإن تظافرت الأسباب الداعية
إليهما وتصبروا على ذلك ولم تضطروهن على فوت شيء من حقوقهن، أو
بذل ما يعز عليهن. فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من
الإحسان والتقوى، أو بجميع ما تعملون، ويدخل فيه ما ذكر دخولا
أوليا خَبِيراً فيجازيكم ويثيبكم على ذلك، وقد أقام سبحانه
كونه عالما مطلعا أكمل اطلاع على أعمالهم مقام مجازاتهم
وإثابتهم عليها الذي هو في الحقيقة جواب الشرط إقامة السبب
مقام المسبب، ولا يخفى ما في خطاب الأزواج بطريق الالتفات،
والتعبير عن رعاية حقوقهن بالإحسان، ولفظ التقوى المنبئ عن كون
النشوز والإعراض مما يتوقى منه، وترتيب الوعد الكريم على ذلك
من لطف الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة وَلَنْ
تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ أي لا تقدروا
البتة على العدل بينهن بحيث لا يقع ميل ما إلى جانب في شأن من
الشؤون كالقسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والممالحة
والمفاكهة والمؤانسة وغيرها مما لا يكاد الحصر يأتي من ورائه.
وأخرج البيهقي عن عبيدة أنه قال: لن تستطيعوا ذلك في الحب
والجماع، وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قال: في الجماع،
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن وابن جرير عن مجاهد أنهما قالا:
في المحبة، وأخرجا عن أبي مليكة أن الآية نزلت في عائشة رضي
الله تعالى عنها وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبها
أكثر من غيرها،
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم عنها أنها قالت: «كان
النبي صلّى الله عليه وسلّم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول:
اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك»
وعنى صلّى الله عليه وسلّم «بما تملك» المحبة وميل القلب الغير
الاختياري وَلَوْ حَرَصْتُمْ على إقامة ذلك وبالغتم فيه فَلا
تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ أي فلا تجوروا على المرغوب عنها كل
الجور فتمنعوها حقها من غير رضا منها واعدلوا ما استطعتم فإن
عجزكم عن حقيقة العدل لا يمنع عن تكليفكم بما دونها من المراتب
التي تستطيعونها، وانتصاب «كل» على المصدرية فقد تقرر أنها
بحسب ما تضاف إليه من مصدر أو ظرف أو غيره فَتَذَرُوها أي
فتدعوا التي ملتم عنها كَالْمُعَلَّقَةِ وهي كما قال ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما: التي ليست مطلقة ولا ذات بعل، وقرأ أبي-
كالمسجونة- وبذلك فسر قتادة المعلقة، والجار والمجرور متعلق
بمحذوف وقع حالا من الضمير المنصوب في فَتَذَرُوها وجوز السمين
كونه في موضع المفعول الثاني لتذر على أنه بمعنى تصير، وحذف
نون فَتَذَرُوها إما للناصب وهو أن المضمرة في جواب النهي، إما
للجازم بناء على أنه معطوف على الفعل قبله، وفي الآية ضرب من
التوبيخ،
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله
تعالى عنه قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من كانت له امرأتان فمال
إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط» ،
وأخرج غير واحد عن جابر بن زيد أنه قال:- كانت لي امرأتان فلقد
كنت أعدل بينهما حتى أعدّ القبل، وعن مجاهد قال: كانوا يستحبون
أن يسووا بين الضرائر حتى في الطيب يتطيب لهذه كما يتطيب لهذه،
وعن ابن سيرين في الذي له امرأتان يكره أن يتوضأ في بيت
إحداهما دون الأخرى. وَإِنْ تُصْلِحُوا ما كنتم تفسدون من
أمورهن وَتَتَّقُوا الميل الذي نهاكم الله تعالى عنه فيما
يستقبل فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً فيغفر لكم ما مضى من
الحيف رَحِيماً فيتفضل عليكم برحمته وَإِنْ يَتَفَرَّقا أي
المرأة وبعلها، وقرىء- يتفارقا- أي وإن لم يصطلحا ولم يقع
بينهما وفاق بوجه ما من الصلح وغيره ووقعت بينهما الفرقة بطلاق
يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا منهما أي يجعله مستغنيا عن الآخر ويكفه
ما أهمه، وقيل: يغني الزوج بامرأة أخرى والمرأة بزوج آخر مِنْ
سَعَتِهِ أي من غناه وقدرته، وفي ذلك تسلية لكل من الزوجين بعد
الطلاق، وقيل: زجر لهما عن المفارقة، وكيفما كان فهو مقيد
بمشيئة الله تعالى وَكانَ اللَّهُ واسِعاً أي غنيا
(3/157)
وكافيا للخلق، أو مقتدرا أو عالما حَكِيماً
متقنا في أفعاله وأحكامه.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فلا يتعذر
عليه الإغناء بعد الفرقة، ولا الإيناس بعد الوحشة- ولا ولا-
وفيه من التنبيه على كمال سعته وعظم قدرته ما لا يخفى، والجملة
مستأنفة جيء بها- على ما قيل- لذلك وَلَقَدْ وَصَّيْنَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي أمرناهم بأبلغ
وجه، والمراد بهم اليهود والنصارى ومن قبلهم من الأمم، والكتاب
عام للكتب الإلهية، ولا ضرورة تدعو إلى تخصيص الموصول باليهود
والكتاب بالتوراة، بل قد يدعى أن التعميم أولى بالغرض المسوق
له الكلام وهو تأكيد الأمر بالإخلاص، ومِنْ متعلقة- بوصينا-
أو- بأوتوا- وَإِيَّاكُمْ عطف على الموصول وحكم الضمير المعطوف
أن يكون منفصلا ولم يقدم ليتصل لمراعاة الترتيب الوجودي أَنِ
اتَّقُوا اللَّهَ أي وصينا كلا منهم ومنكم بأن اتقوا الله
تعالى على أن أَنِ مصدرية بتقدير الجار ومحلها نصب أو جر على
المذهبين، ووصلها بالأمر- كالنهي وشبهه- جائز كما نص عليه
سيبويه، ويجوز أن تكون مفسرة للوصية لأن فيها معنى القول،
وقوله تعالى:
وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما
فِي الْأَرْضِ عطف على وَصَّيْنَا بتقدير قلنا- أي وصينا وقلنا
لكم ولهم إن تكفروا فاعلموا أنه سبحانه مالك الملك والملكوت لا
يضره كفركم ومعاصيكم، كما أنه لا ينفعه شكركم وتقواكم وإنما
وصاكم وإياهم لرحمته لا لحاجته- وفي الكلام تغليب للمخاطبين
على الغائبين، ويشعر ظاهر كلام البعض أن العطف على اتَّقُوا
اللَّهَ وتعقب بأن الشرطية لا تقع بعد أن المصدرية، أو المفسرة
فلا يصح عطفها على الواقع بعدها سواء كان إنشاء أم إخبارا،
والفعل وَصَّيْنَا أو أمرنا أو غيره، وقيل: إن العطف المذكور
من باب:
علفتها تبنا وماء باردا.
وجوز أبو حيان أن تكون جملة مستأنفة خوطب بها هذه الأمة وحدها،
أو مع الذين أوتوا الكتاب وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا بالغنى
الذاتي عن الخلق وعبادتهم حَمِيداً أي محمودا في ذاته حمدوه أم
لم يحمدوه، والجملة تذييل مقرر لما قبله، وقيل: إن قوله
سبحانه: ولِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ إلخ تهديد على الكفر أي
إنه تعالى قادر على عقوبتكم بما يشاء، ولا منجى عن عقوبته فإن
جميع ما في السّماوات والأرض له، وقوله عز وجل: وَكانَ اللَّهُ
غَنِيًّا حَمِيداً للإشارة إلى أنه جل وعلا لا يتضرر بكفرهم،
وقوله سبحانه: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ يحتمل أن يكون كلاما مبتدأ مسوقا للمخاطبين توطئة
لما بعده من الشرطية أي له سبحانه ما فيهما من الخلائق خلقا
وملكا يتصرف في ذلك كيفما يشاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة،
ويحتمل أن يكون كالتكميل للتذييل ببيان الدليل فإن جميع
المخلوقات تدل لحاجتها وفقرها الذاتي على غناه وبما أفاض
سبحانه عليها من الوجود والخصائص والكمالات على كونه حميدا
وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا تذييل لما قبله، والوكيل هو القيم،
والكفيل بالأمر الذي يوكل إليه، وهذا على الإطلاق هو الله
تعالى، وفي النهاية يقال: وكل فلان فلانا إذا استكفاه أمره ثقة
أو عجزا عن القيام بأمر نفسه، والوكيل في أسماء الله تعالى هو
القيم بأرزاق العباد، وحقيقته أنه يستقل بالأمر الموكول إليه،
ولا يخفى أن الاقتصار على الأرزاق قصور فعمم، وتوكل على الله
تعالى، وادعى البيضاوي- بيض الله تعالى غرة أحواله- أن هذه
الجملة راجعة إلى قوله سبحانه: يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ
سَعَتِهِ فإنه إذا توكلت وفوضت فهو الغنى لأن من توكل على الله
عز وجل كفاه، ولما كان ما بينهما تقريرا له لم يعد فاصلا، ولا
يخفى أنه على بعده لا حاجة إليه إِنْ يَشَأْ إن يرد إذهابكم
وإيجاد آخرين يُذْهِبْكُمْ يفنكم ويهلككم.
أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ أي يوجد مكانكم دفعة
قوما آخرين من البشر، فالخطاب لنوع من الناس،
وقد
(3/158)
أخرج سعيد بن منصور وابن جرير من حديث أبي
هريرة رضي الله تعالى عنه «أنه لما نزل قوله تعالى وَإِنْ
تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [محمد: 38] ضرب
النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده على ظهر سلمان الفارسي رضي
الله تعالى عنه، وقال:
إنهم قوم هذا»
وفيه نوع تأييد لما ذكر في هذه الآية، وما نقل عن العراقي أن
الضرب كان عند نزولها وحينئذ يتعين ما ذكر سهو على ما نص عليه
الجلال السيوطي وجوز الزمخشري وابن عطية ومقلدوهما أن يكون
المراد خلقا آخرين أي جنسا غير جنس الناس، وتعقبه أبو حيان
بأنه خطأ وكونه من قبيل المجاز- كما قيل- لا يتم به المراد
لمخالفته لاستعمال العرب فإن- غيرا- تقع على المغاير في جنس أو
وصف،- وآخر- لا يقع إلا على المغايرة بين أبعاض جنس واحد.
وفي درّة الغواص في أوهام الخواص أنهم يقولون: ابتعت عبدا
وجارية أخرى فيوهمون فيه لأن العرب لم تصف بلفظي آخر، وأخرى
وجمعهما إلا ما يجانس المذكور قبله كما قال تعالى:
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ
الْأُخْرى [النجم: 19، 20] وقوله سبحانه: فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ
عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 185]
فوصف جل اسمه- مناة- بالأخرى لما جانست- العزى، واللات- ووصف
الأيام بالأخر لكونها من جنس الشهر، والأمة ليست من جنس العبد
لكونها مؤنثة وهو مذكر فلم يجز لذلك أن يتصف بلفظ أخرى كما لا
يقال: جاءت هند ورجل آخر، والأصل في ذلك أن آخر من قبيل أفعل
الذي يصحبه من، ويجانس المذكور بعده كما يدل على ذلك أنك إذا
قلت: قال: الفند الزماني، وقال آخر: كان تقدير الكلام، وقال
آخر: من الشعراء وإنما حذفت لفظة من لدلالة الكلام عليها،
وكثرة استعمال آخر في النطق، وفي الدر المصون: إن هذا غير متفق
عليه، وإنما ذهب إليه كثير من النحاة وأهل اللغة وارتضاه نجم
الأئمة الرضي إلا أنه يردّ على الزمخشري ومن معه أن آخرين صفة
موصوف محذوف، والصفة لا تقوم مقام موصوفها إلا إذا كانت خاصة
نحو مررت بكاتب، أو إذا دل الدليل على تعيين الموصوف- وهنا
ليست بخاصة- فلا بد أن يكون من جنس الأول لتدل على المحذوف
وقال ابن يسعون والصقلي وجماعة: إن العرب لا تقول: مررت برجلين
وآخر لأنه إنما يقابل آخر ما كان من جنسه تثنية وجمعا،
وإفرادا، وقال ابن هشام هذا غير صحيح لقول ربيعة بن يكدم:
ولقد شفعتهما بآخر ثالث ... وأبى الفرار إلى الغداة تكرمي
وقال أبو حية النميري:
وكنت أمشي على ثنتين معتدلا ... فصرت أمشي على أخرى من الشجر
وإنما يعنون بكونه من جنس ما قبله أن يكون اسم الموصوف بآخر في
اللفظ، أو التقدير يصح وقوعه على المتقدم الذي قوبل بآخر على
جهة التواطؤ ولذلك لو قلت: جاءني زيد وآخر كان سائغا لأن
التقدير ورجل آخر، وكذا جاءني زيد وأخرى تريد نسمة أخرى وكذا
اشتريت فرسا ومركوبا آخر سائغ، وإن كان المركوب الآخر جملا
لوقوع المركوب عليهما بالتواطؤ فإن كان وقوع الاسم عليهما على
جهة الاشتراك المحض فإن كانت حقيقتهما واحدة جازت المسألة نحو
قام أحد الزيدين وقعد الآخر، وإن لم تكن حقيقتهما واحدة لم تجز
لأنه لم يقابل به ما هو من جنسه نحو رأيت المشتري والمشتري
الآخر تريد بأحدهما الكوكب، وبالآخر مقابل البائع، وهل يشترط
مع التواطؤ اتفاقهما في التذكير؟ فيه خلاف، فذهب المبرد إلى
عدم اشتراطه فيجوز جاءتني جاريتك وإنسان آخر، واشترطه ابن جني،
والصحيح ما ذهب إليه المبرد بدليل قول عنترة:
والخيل تقتحم الغبار عوابسا ... من بين منظمة وآخر ينظم
(3/159)
وما ذكر من أن آخر يقابل به ما تقدمه من
جنسه هو المختار، وإلا فقد يستعملونه من غير أن يتقدمه شيء من
جنسه، وزعم أبو الحسن أن ذلك لا يجوز إلا في الشعر، فلو قلت:
جاءني آخر من غير أن تتكلم قبله بشيء من صنفه لم يجز، ولو قلت:
أكلت رغيفا، وهذا قميص آخر لم يحسن، وأما قول الشاعر:
صلى على عزة الرحمن وابنتها ... ليلى وصلى على جاراتها الأخر
فمحمول على أنه جعل ابنتها جارة لها لتكون الأخرى من جنسها،
ولولا هذا التقدير لما جاز أن يعقب ذكر البنت بالجارات، بل كان
يقول وصلى على بناتها الأخر، وقد قوبل في البيت أيضا- أخر- وهو
جمع بابنتها وهو مفرد، وزعم السهيلي أن- أخرى- في قوله تعالى:
وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: 20] استعملت من غير
أن يتقدمها شيء من صنفها لأنه غير مَناةَ الطاغية التي كانوا
يهلون إليها بقديد فجعلها ثالثة اللات والعزى، وأخرى لمناة
التي كان يعبدها عمرو بن الجموح وغيره من قومه مع أنه لم يتقدم
لها ذكر، والصواب أنه جعلها أخرى بالنظر إلى اللات والعزى،
وساغ ذلك لأن الموصوف بالأخرى، وهو الثالثة يصح وقوعه على
اللات والعزى، ألا ترى أن كل واحدة منهنّ ثالثة بالنظر إلى
صاحبتها؟ وإنما اتجه ذلك لما ذكره أبو الحسن من أن استعمال آخر
وأخرى من غير أن يتقدمهما صنفهما لا يجوز إلا في الشعر انتهى.
وهو تحقيق نفيس إلا أنه سيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الكلام
في الآية الآتي ذكرها، وفي المسائل الصغرى للأخفش في باب عقده
لتحقيق هذه المسألة أن العرب لا تستعمل آخر إلا فيما هو من صنف
ما قبله، فلو قلت: أتاني صديق لك وعدو لك آخر لم يحسن لأنه لغو
من الكلام، وهو يشبه- سائر وبقية وبعض- في أنه لا يستعمل إلا
في جنسه، فلو قلت: ضربت رجلا وتركت سائر النساء لم يكن كلاما،
وقد يجوز ما امتنع بتأويل كرأيت فرسا وحمارا آخر نظرا إلى أنه
دابة قال امرؤ القيس:
إذا قلت: هذا صاحبي ورضيته ... وقرت به العينان بدلت آخرا
وفي الحديث «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجد خفة في
مرضه فقال: انظروا من أتكىء عليه فجاءت بريرة ورجل آخر فاتكأ
عليهما» .
وحاصل هذا أنه لا يوصف بآخر إلا ما كان من جنس ما قبله لتتبين
مغايرته في محل يتوهم فيه اتحاده ولو تأويلا، وحينئذ لا يكون
ما ذكره الزمخشري نصا في الخطأ ومخالفة استعمال العرب المعول
عليه عند الجمهور وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ أي إفنائكم بالمرة
وإيجاد آخرين قَدِيراً بليغ القدرة لكنه سبحانه لم يفعل
وأبقاكم على ما أنتم عليه من العصيان لعدم تعلق مشيئته لحكمة
اقتضت ذلك لا لعجزه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا مَنْ كانَ
يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة
والمنافع الدنيوية.
فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ جزاء الشرط
بتقدير الإعلام والإخبار أي مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ
الدُّنْيا فأعلمه وأخبره أن عند الله تعالى ثواب الدارين فما
له لا يطلب ذلك كمن يقول: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا
حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [البقرة: 201] ، أو يطلب
الأشرف وهو ثواب الآخرة فإن من جاهد مثلا خالصا لوجه الله
تعالى لم تخطه المنافع الدنيوية وله في الآخرة ما هي في جنبه
كلا شيء،
وفي مسند أحمد عن زيد بن ثابت «سمعت رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم يقول: من كان همه الآخرة جمع الله تعالى شمله وجعل غناه
في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا فرق
الله تعالى عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا
إلا ما كتب له»
وجوز أن يقدر الجزاء من جنس الخسران، فيقال: من كان يريد ثواب
الدنيا فقط فقد خسر وهلك، فعند الله تعالى ثواب الدنيا والآخرة
له إن أراده،
(3/160)
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى
عنه قال: «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: أول الناس
يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها
قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت قال: كذبت
ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل: ثم أمر به فسحب على وجهه
حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به
فعرفه نعمه فعرفها قال: فما فعلت فيها؟ قال: تعلمت العلم
وعلمته وقرأت فيك القرآن قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال: عالم،
وقرأت ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى
ألقي في النار، ورجل وسع الله تعالى عليه وأعطاه من أصناف
المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال:
ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها، قال: كذبت
ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه
حتى ألقي في النار» ،
وقيل: إنه الجزاء إلا أنه مؤول بما يجعله مرتبا على الشرط لأن
مآله أنه ملوم موبخ لتركه الأهم الأعلى الجامع لما أراده مع
زيادة لكن من يشترط العائد في الجزاء يقدره كما أشرنا إليه،
وقيل:
المراد أنه تعالى عنده ثواب الدارين فيعطي كلا ما يريده كقوله
تعالى. مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي
حَرْثِهِ [الشورى: 20] الآية وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً
تذييل لمعنى التوبيخ أي كيف يرائي المرائي وأن الله تعالى سميع
بما يهجس في خاطره وما تأمر به دواعيه بصير بأحواله كلها
ظاهرها وباطنها فيجازيه على ذلك، وقد يقال: ذيل بذلك لأن إرادة
الثواب إما بالدعاء وإما بالسعي، والأول مسموع، والثاني مبصر،
وقيل: السمع والبصر عبارتان عن اطلاعه تعالى على غرض المريد
للدنيا أو الآخرة وهو عبارة عن الجزاء، ولا يخفى أنه وإن كان
لا يخلو عن حسن إلا أنه يوهم إرجاع صفة السمع والبصر إلى العلم
وهو خلاف المقرر في الكلام يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
أي مواظبين على العدل في جميع الأمور مجتهدين في ذلك كل
الاجتهاد لا يصرفكم عنه صارف.
وعن الراغب أنه سبحانه نبه بلفظ القوّامين على أن مراعاة
العدالة مرة أو مرتين لا تكفي بل يجب أن تكون على الدوام،
فالأمور الدينية لا اعتبار بها ما لم تكن مستمرة دائمة، ومن
عدل مرة أو مرتين لا يكون في الحقيقة عادلا أي لا ينبغي أن
يطلق فيه ذلك شُهَداءَ بالحق لِلَّهِ بأن تقيموا شهاداتكم لوجه
الله تعالى لا لغرض دنيوي، وانتصاب شُهَداءَ على أنه خبر ثان
لكونوا ولا يخفى ما في تقديم الخبر الأول من الحسن.
وجوز أن يكون على أنه حال من الضمير المستكن فيه، وأيد بما روي
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في معنى الآية: أي
كونوا قوّالين بالحق في الشهادة على من كانت ولمن كانت من قريب
وبعيد، وقيل: إنه صفة قَوَّامِينَ، وقيل: إنه خبر كُونُوا
وقوّامين حال وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي ولو كانت الشهادة
على أنفسكم، وفسرت الشهادة ببيان الحق مجازا فتشمل الإقرار
المراد هاهنا، والشهادة بالمعنى الحقيقي المراد فيما بعد فلا
يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، وقيل: الكلام خارج مخرج
المبالغة وليس المقصود حقيقته فلا حاجة إلى القول بعموم المجاز
ليشمل الإقرار حيث إن شهادة المرء على نفسه لم تعهد، والجار-
على ما أشير إليه- ظرف مستقر وقع خبرا لكان المحذوفة وإن كان
في الأصل صلة الشهادة لأن متعلق المصدر قد يجعل خبرا عنه فيصير
مستقرا مثل الحمد لله ولا يجوز ذلك في اسم الفاعل ونحوه، ويجوز
أن يكون ظرفا لغوا متعلقا بخبر محذوف أي ولو كانت الشهادة
وبالا على أنفسكم، وعلقه أبو البقاء بفعل دل عليه شُهَداءَ أي
لو شهدتم على أنفسكم وجوز تعلقه- بقوّامين- وفيه بعد، وَلَوْ
إما على أصلها أو بمعنى إن وهي وصلية، وقيل: جوابها مقدر أي
لوجب أن تشهدوا عليها أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ أي
ولو كانت على والديكم وأقرب الناس إليكم أو ذوي قرابتكم، وعطف
الأول- بأو- لأنه مقابل للأنفس وعطف الثاني عليه بالواو لعدم
المقابلة إِنْ يَكُنْ أي المشهود عليه غَنِيًّا يرجى في العادة
ويخشى أَوْ
(3/161)
فَقِيراً
يترحم عليه في الغالب ويحنى، وقرأ عبد الله- إن يكن غني أو
فقير- بالرفع على أن كان تامة، وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله
تعالى: فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما أي فلا تمتنعوا عن الشهادة على
الغني طلبا لرضاه أو على الفقير شفقة عليه لأن الله تعالى أولى
بالجنسين وأنظر لهما من سائر الناس، ولولا أن حق الشهادة مصلحة
لهما لما شرعها فراعوا أمر الله تعالى فإنه أعلم بمصالح العباد
منكم، وقرأ أبيّ «فالله أولى بهم» بضمير الجمع وهو شاهد على أن
المراد جنسا الغني والفقير وأن ضمير التثنية ليس عائدا على
الغني والفقير المذكورين لأن الحكم في الضمير العائد على
المعطوف- بأو- الإفراد كما قيل: لأنها لأحد الشيئين أو
الأشياء، وقيل: إن أَوِ بمعنى الواو، والضمير عائد إلى
المذكورين، وحكي ذلك عن الأخفش، وقيل: إنها على بابها وهي هنا
لتفصيل ما أبهم في الكلام، وذلك مبني على أن المراد بالشهادة
ما يعم الشهادة للرجل والشهادة عليه، فكل من المشهود له
والمشهود عليه يجوز أن يكون غنيا وأن يكون فقيرا فقد يكونان
غنيين، وقد يكونان فقيرين، وقد يكون أحدهما فقيرا والآخر غنيا،
فحيث لم تذكر الأقسام أتي- بأو- لتدل على ذلك، فضمير التثنية
على المشهود له والمشهود عليه على أي وصف كانا عليه، وقيل: غير
ذلك، وقال الرضي: الضمير الراجع إلى المذكور المتعدد الذي عطف
بعضه على بعض- بأو- يجوز أن يوحد وأن يطابق المتعدد، وذلك يدور
على القصد، فيجوز: جاءني زيد أو عمرو وذهب، أو وهما ذاهبان إلى
المسجد، وعلى هذا لا حاجة إلى التوجيه لعدم صحة التثنية ووجوب
الإفراد في مثل هذا الضمير، نعم قيل: إن الظاهر الإفراد دون
التثنية، وإن جاز كل منهما فيحتاج العدول عن الظاهر إلى نكتة.
وادعى بعضهم أنها تعميم الأولوية ودفع توهم اختصاصها بواحد،
فتأمل فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أي هوى أنفسكم أَنْ تَعْدِلُوا
من العدول والميل عن الحق، أو من العدل مقابل الجور وهو في
موضع المفعول له، إما للاتباع المنهي عنه أو للنهي،
فالاحتمالات أربعة: الأول أن يكون بمعنى العدول وهو علة للمنهي
عنه، فلا حاجة إلى تقدير، والثاني أن يكون بمعنى العدل وهو علة
للمنهي عنه فيقدر مضاف أي كراهة أن تعدلوا، والثالث أن يكون
بمعنى العدول وهو علة للنهي فيحتاج إلى التقدير كما في
الاحتمال الثاني أي أنهاكم عن اتباع الهوى كراهة العدول عن
الحق، والرابع أن يكون بمعنى العدل وهو علة للنهي فلا يحتاج
إلى التقدير كما في الاحتمال الأول، أي أنهاكم عن اتباع الهوى
للعدل وعدم الجور وَإِنْ تَلْوُوا ألسنتكم عن الشهادة بأن
تأتوا بها على غير وجهها الذي تستحقه كما روي ذلك عن ابن زيد
والضحاك، وحكي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه وهو الظاهر،
وقيل: اللي المطل في أدائها، ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما.
أَوْ تُعْرِضُوا أي تتركوا إقامتها رأسا وهو خطاب للشهود،
وقيل: إن الخطاب للحكام، واللي الحكم بالباطل، والإعراض عدم
الالتفات إلى أحد الخصمين، ونسب هذا إلى السدي، وروي عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا، وقرأ حمزة وَإِنْ تَلْوُوا
بضم اللام وواو ساكنة وهو من الولاية بمعنى مباشرة الشهادة،
وقيل: إن أصله تلووا بواوين أيضا نقلت ضمة الواو بعد قلبها
همزة، أو ابتداء إلى ما قبلها ثم حذفت لالتقاء الساكنين، وعلى
هذا فالقراءتان بمعنى فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ
من اللي والإعراض، أو من جميع الأعمال التي من جملتها ما ذكر
خَبِيراً عالما مطلعا فيجازيكم على ذلك، وهو وعيد محض على
القراءة الأولى، وعلى القراءة الأخيرة يحتمل أن يكون كذلك وأن
يكون متضمنا للوعد، والآية كما أخرج ابن جرير عن السدي نزلت في
النبي صلّى الله عليه وسلّم اختصم إليه رجلان غني وفقير فكان
خلقه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني فأبى الله تعالى
إلا أن يقول بالقسط في الغني والفقير، وهي متضمنة للشهادة على
من ذكره الله تعالى، ولا تعرض فيها للشهادة لهم على ما هو
الظاهر، وحملها
(3/162)
بعضهم على ما يشمل القسمين، وروي ذلك عن
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أشرنا إليه فيجوز عنده
شهادة الولد لوالده والوالد لولده.
وحكي عن ابن شهاب الزهري أنه قال: كان سلف المسلمين على ذلك
حتى ظهر من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم فتركت شهادة من
يتهم، ولا يخفى أن حمل الآية على ذلك بعيد جدا، وأبعد منه
بمراحل- بل ينبغي أن يكون من باب الإشارة- كون المراد منها
كونوا شُهَداءَ لِلَّهِ تعالى بوحدانيته وكمال صفاته وحقيقة
أحكامه ولو كان ذلك مضرا لأنفسكم أو لوالديكم وأقربيكم بأن
توجب الشهادة ذهاب حياة هؤلاء أو أموالهم أو غير ذلك إِنْ
يَكُنْ أي الشاهد غَنِيًّا تضر شهادته بغناه أَوْ فَقِيراً تسد
شهادته باب دفع الحاجة عليه فَاللَّهُ تعالى أَوْلى بِهِما من
أنفسهما، فينبغي أن يرجحا الله تعالى على أنفسهما، واستدل
بالآية على أن العبد لا مدخل له في الشهادة إذ ليس قوّاما بذلك
لكونه ممنوعا من الخروج إلى القاضي وعلى وجوب التسوية بين
الخصمين على الحاكم، وهو ظاهر على رأي، ووجه مناسبتها لما تقدم
على ما في البحر أنه تعالى لما ذكر النساء والنشوز والمصالحة
عقبه بالقيام لأداء الحقوق، وفي الشهادة حقوق، أو لأنه سبحانه
لما بين أن طالب الدنيا ملوم وأشار إلى أن طالب الأمرين أو
أشرفهما هو الممدوح بين أن كمال ذلك أن يكون قول الإنسان وفعله
لله تعالى، أو لأنه تعالى شأنه لما ذكر في هذه السورة وَإِنْ
خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى [النساء: 3]
والإشهاد عند دفع أموالهم إليهم وأمر ببذل النفس والمال في
سبيل الله تعالى وذكر قصة الخائن واجتماع قومه على الكذب
والشهادة بالباطل وندب للمصالحة عقب ذلك بأن أمر عباده
المؤمنين بالقيام بالعدل والشهادة لوجه الله تعالى يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا خطاب للمسلمين كافة فمعنى قوله تعالى:
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ
عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ
أثبتوا على الإيمان بذلك وداوموا عليه، وروي هذا عن الحسن،
واختاره الجبائي، وقيل: الخطاب لهم، والمراد ازدادوا في
الإيمان طمأنينة ويقينا، أو آمَنُوا بما ذكر مفصلا بناء على أن
إيمان بعضهم إجمالي، وأيا ما كان فلا يلزم تحصيل الحاصل، وقيل:
الخطاب للمنافقين المؤمنين ظاهرا فمعنى آمَنُوا أخلصوا
الإيمان، واختاره الزجاج وغيره.
وقيل: لمؤمني اليهود خاصة، ويؤيده ما
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن عبد الله بن سلام
وأسد وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس وابن أخت عبد الله بن سلام
ويامين بن يامين أتوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وقالوا: نؤمن بك وبكتابك وبموسى وبالتوراة وعزير ونكفر بما
سواه من الكتب والرسل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
بل آمنوا بالله تعالى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم وبكتابه
القرآن وبكل كتاب كان قبله فقالوا: لا نفعل» فنزلت فآمنوا
كلهم،
وقيل: لمؤمني أهل الكتابين، وروي ذلك عن الضحاك، وقيل:
للمشركين المؤمنين باللات والعزى، وقيل: لجميع الخلق لإيمانهم
يوم أخذ الميثاق حين قال لهم سبحانه: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قالُوا بَلى [الأعراف: 172] والكتاب الأول القرآن، والمراد من
الكتاب الثاني الجنس المنتظم لجميع الكتب السماوية، ويدل عليه
قوله تعالى فيما بعد: وَكُتُبِهِ والمراد بالإيمان بها الإيمان
بها في ضمن الإيمان بالكتاب المنزل على الرسول صلّى الله عليه
وسلّم على معنى أن الإيمان بكل واحد منها مندرج تحت الإيمان
بذلك الكتاب، وأن أحكام كل منها كانت حقة ثابتة يجب الأخذ بها
إلى ورود ما نسخها، وأن ما لم ينسخ منها إلى الآن من الشرائع
والأحكام ثابتة من حيث إنها من أحكام ذلك الكتاب الذي لا ريب
فيه ولا تغيير يعتريه.
ومن هنا يعلم أن أمر مؤمني أهل الكتاب بالإيمان بكتابهم بناء
على أن الخطاب لهم ليس على معنى الثبات لأن هذا النحو من
الإيمان غير حاصل لهم وهو المقصود، ولا حاجة إلى القول بأن
متعلق الأمر حقيقة هو الإيمان بما عداه كأنه قيل: آمنوا بالكل
ولا تخصوه بالبعض، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو- نزل،
وأنزل- على البناء
(3/163)
للمفعول، واستعمال- نزل- أولا وأَنْزَلَ
ثانيا لأن القرآن نزل مفرقا بالإجماع، وكان تمامه في ثلاث
وعشرين سنة على الصحيح ولا كذلك غيره من الكتب فتذكر.
وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي بشيء من ذلك فإن الحكم
المتعلق بالأمور المتعاطفة بالواو- كما قال العلامة الثاني- قد
يرجع إلى كل واحد، وقد يرجع إلى المجموع، والتعويل على
القرائن، وهاهنا قد دلت القرينة على الأول لأن الإيمان بالكل
واجب والكل ينتفي بانتفاء البعض ومثل هذا ليس من جعل الواو
بمعنى أو في شيء، وجوز بعضهم رجوعه إلى المجموع لوصف الضلال
بغاية البعد في قوله تعالى: فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً
ويستفاد منه أن الكفر بأي بعض كان ضلال متصف- ببعد- والمشهور
أن المراد- بالضلال البعيد- الضلال البعيد عن المقصد بحيث لا
يكاد يعود المتصف به إلى طريقه، ويجوز أن يراد ضَلالًا
بَعِيداً عن الوقوع، والجملة الشرطية تذييل للكلام السابق
وتأكيد له، وزيادة- الملائكة واليوم الآخر- في جانب الكفر على
ما ذكره شيخ الإسلام لما أن بالكفر بأحدهما لا يتحقق الإيمان
أصلا، وجمع الكتب والرسل لما أن الكفر بكتاب أو رسول كفر
بالكل، وتقديم الرسول فيما سبق لذكر الكتاب بعنوان كونه منزلا
عليه، وتقديم الملائكة والكتب على الرسل لأنهم وسائط بين الله
عز وجل وبين الرسل في إنزال الكتب، وقيل: اختلاف الترتيب في
الموضعين من باب التفنن في الأساليب والزيادة في الثاني لمجرد
المبالغة، وقرىء بكتابه على إرادة الجنس إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ
ازْدادُوا كُفْراً هم قوم تكرر منهم الارتداد وأصروا على الكفر
وازدادوا تماديا في الغي، وعن مجاهد وابن زيد أنهم أناس
منافقون أظهروا الإيمان، ثم ارتدوا، ثم أظهروا، ثم ارتدوا، ثم
ماتوا على كفرهم، وجعلها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عامة
لكل منافق في عهده صلّى الله عليه وسلّم في البر والبحر، وعن
الحسن أنهم طائفة من أهل الكتاب أرادوا تشكيك أصحاب رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم فكانوا يظهرون الإيمان بحضرتهم، ثم
يقولون قد عرضت لنا شبهة أخرى فيكفرون، ثم يظهرون، ثم يقولون:
قد عرضت لنا شبهة أخرى فيكفرون، ويستمرون على الكفر إلى الموت،
وذلك معنى قوله تعالى: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا
وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
[آل عمران: 72] ، وقيل: هم اليهود آمنوا بموسى عليه السلام، ثم
كفروا بعبادتهم العجل حين غاب عنهم، ثم آمنوا عند عوده إليهم،
ثم كفروا بعيسى عليه السلام، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلّى الله
عليه وسلّم، وروي ذلك عن قتادة، وقال الزجاج والفراء: إنهم
آمنوا بموسى عليه السلام ثم كفروا بعده، ثم آمنوا بعزير، ثم
كفروا بعيسى عليه السلام، ثم ازدادوا كفرا بنبينا عليه الصلاة
والسلام، وأورد على ذلك بأن الذين ازدادوا كفرا بمحمد صلّى
الله عليه وسلّم ليسوا بمؤمنين بموسى عليه السلام، ثم كافرين
بعبادة العجل أو بشيء آخر، ثم مؤمنين بعوده إليهم أو بعزير، ثم
كافرين بعيسى عليه السلام بل هم إما مؤمنون بموسى عليه السلام
وغيره، أو كفار لكفرهم بعيسى عليه السلام والإنجيل.
وأجيب بأنه لم يرد على هذا قوم بأعيانهم بل الجنس، ويحصل
التبكيت على اليهود الموجودين باعتبار عد ما صدر من بعضهم كأنه
صدر من كلهم، والذي يميل القلب إليه أن المراد قوم تكرر منهم
الارتداد أعم من أن يكونوا منافقين أو غيرهم، ويؤيده ما
أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه
قال في المرتد: إن كنت لمستتيبه ثلاثا، ثم قرأ هذه الآية
وإلى رأي الإمام كرم الله تعالى وجهه ذهب بعض الأئمة فقال:
يقتل المرتد في الرابعة ولا يستتاب، وكأنه أراد أنه لا فائدة
في الاستتابة إذ لا منفعة، وعليه فالمراد من قوله سبحانه: لَمْ
يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ
سَبِيلًا أنه سبحانه لا يفعل ذلك أصلا وإن تابوا، وعلى القول
المشهور الذي عليه الجمهور:
المراد من نفي المغفرة والهداية نفي ما يقتضيهما وهو الإيمان
الخالص الثابت ومعنى نفيه استبعاد وقوعه فإن من تكرر
(3/164)
منهم الارتداد وازدياد الكفر والإصرار عليه
صاروا بحيث قد ضربت قلوبهم بالكفر وتمرنت على الردة وكان
الإيمان عندهم أدون شيء وأهونه فلا يكادون يقربون منه قيد شبر
ليتأهلوا للمغفرة وهداية سبيل الجنة لا أنهم لو أخلصوا الإيمان
لم يقبل منهم ولم يغفر لهم.
وخص بعضهم عدم الاستتابة بالمتلاعب المستخف إذا قامت قرينة على
ذلك، وخبر كان في أمثال هذا الموضع محذوف وبه تتعلق اللام كما
ذهب إليه البصريون أي ما كان الله تعالى مريدا للغفران لهم،
ونفي إرادة الفعل أبلغ من نفيه.
وذهب الكوفيون إلى أن اللام زائدة والخير هو الفعل وضعف بأن ما
بعدها قد انتصب فإن كان النصب باللام نفسها فليست بزائدة، وإن
كان- بأن- ففاسد لما فيه من الإخبار بالمصدر عن الذات وأجيب
باختيار الشق الأول، وأنه لا مانع من العمل مع الزيادة كما في
حروف الجر الزائدة، وباختيار الشق الثاني وامتناع الإخبار
بالمصدر عن الذات لعدم كونه دالا بصيغته على فاعل وعلى زمان
دون زمان، والفعل المصدر- بأن- يدل عليهما فيجوز الإخبار به-
وإن لم يجز بالمصدر- ولا يخفى ما فيه، فإن الإخبار على هذا
بالفعل لا بالمصدر وإن أول المصدر باسم الفاعل كان الإخبار
باسم الفاعل لا به أيضا فافهم واختار قوم في القوم ما ذهب إليه
مجاهد. وأيد ذلك بقوله تعالى: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ
لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ووضع فيه بَشِّرِ موضع أنذر تهكما
بهم، ففي الكلام استعارة تهكمية وقيل:
موضع أخبر فهناك مجاز مرسل تهكمي.
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ في موضع
النصب، أو الرفع على الذم على معنى أريد بهم الذين أو هم
الذين، ويجوز أن يكون منصوبا على اتباع المنافقين ولا يمنع منه
وجود الفاصل فقد جوزه العرب، والمراد بالكافرين قيل: اليهود،
وقيل: مشركو العرب، وقيل: ما يعم ذلك والنصارى، وأيد الأول بما
روي أنه كان يقول بعضهم لبعض:
إن أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم لا يتم فتولوا اليهود.
مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي متجاوزين ولاية المؤمنين، وهو
حال من فاعل يَتَّخِذُونَ أَيَبْتَغُونَ أي المنافقون
عِنْدَهُمُ أي الكافرين الْعِزَّةَ أي القوة والمنعة وأصلها
الشدة، ومنه قيل: للأرض الصلبة: عزاز، والاستفهام للإنكار،
والجملة معترضة مقررة لما قبلها، وقيل: للتهكم، وقيل: للتعجب.
فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أي إنها مختصة به تعالى
يعطيها من يشاء وقد كتبها سبحانه لأوليائه فقال عز شأنه:
وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والجملة
تعليل لما يفيده الاستفهام الإنكاري من بطلان رأيهم وخيبة
رجائهم.
وقيل: بيان لوجه التهكم، أو التعجب، وقيل: إنها جواب شرط محذوف
أي إن يبتغوا العزة من هؤلاء فَإِنَّ الْعِزَّةَ إلخ، وهي على
هذا التقدير قائمة مقام الجواب لا أنها الجواب حقيقة،
وجَمِيعاً قيل: حال من الضمير في الجار والمجرور لاعتماده على
المبتدأ، وليس في الكلام مضاف أي لأولياء كما زعمه البعض،
وقوله سبحانه: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ خطاب للمنافقين بطريق
الالتفات مفيد لتشديد التوبيخ الذي يستدعيه تعديد جناياتهم.
وقرأ- ما عدا عاصما- ويعقوب نَزَّلَ بالبناء لما لم يسم فاعله،
والجملة حال من ضمير يَتَّخِذُونَ مفيدة أيضا لكمال قباحة
حالهم ببيان أنهم فعلوا ما فعلوا من موالاة أعداء الله تعالى
مع تحقق ما يمنعهم عن ذلك، وهو ورود النهي عن المجالسة
المستلزم للنهي عن الموالاة على آكد وجه وأبلغه إثر بيان
انتفاء ما يدعوهم إليه بالجملة المعترضة كأنه قيل: تتخذونهم
أولياء والحال أنه تعالى نَزَّلَ عَلَيْكُمْ قبل هذا بمكة فِي
الْكِتابِ أي القرآن العظيم الشأن.
(3/165)
أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ
يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ
حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وذلك قوله تعالى:
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ
عَنْهُمْ [الأنعام: 68] الآية، وهذا يقتضي الانزجار عن
مجالستهم في تلك الحالة القبيحة، فكيف بموالاتهم والاعتزاز
بهم؟! وأَنْ هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر أي
إنه إذا سمعتم، وقدره بعضهم ضمير المخاطبين أي إنكم، وكون
المخففة لا تعمل في غير ضمير الشأن إلا لضرورة- كما قال أبو
حيان- في حيز المنع، وقد صحح غير واحد جواز ذلك من غير ضرورة،
والجملة الشرطية خبر وهي تقع خبرا في كلام العرب، وأَنْ وما
بعدها في موضع النصب على أنه مفعول به- لنزل- وهو القائم مقام
الفاعل على القراءة الثانية، واحتمال أنه قد يجعل القائم مقامه
عليكم، وتكون أَنْ مفسرة لأن التنزيل في معنى القول لا يلتفت
إليه، ويُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ في موضع الحال من الآيات
جيء بهما لتقييد النهي عن المجالسة، فإن قيد القيد قيد،
والمعنى لا تقعدوا معهم وقت كفرهم واستهزائهم بالآيات، وإضافة
الآيات إلى الاسم الجليل لتشريفها وإبانة خطرها وتهويل أمر
الكفر بها، والضمير في مَعَهُمْ للكفرة المدلول عليهم ب
يُكْفَرُ وَيُسْتَهْزَأُ والضمير في غيره راجع إلى تحديثهم
بالكفر والاستهزاء، وقيل: الكفر والاستهزاء لأنهما في حكم شيء
واحد، وقوله تعالى:
إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ تعليل للنهي غير داخل تحت التنزيل
وإِذا ملغاة لأن شرط علمها النصب في الفعل أن تكون في صدر
الكلام فلذا لم يجيء بعدها فعل، ومثل- خبر عن ضمير الجمع وصح
مع إفراده لأنه في الأصل مصدر، فيستوي فيه الواحد المذكر
وغيره، وقيل: لأنه كالمصدر في الوقوع على القليل والكثير أو
لأنه مضاف لجمع فيعم، وقد يطابق ما قبله كقوله تعالى: ثُمَّ لا
يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد: 38] ، والجمهور على رفعه، وقرىء
شاذا بالنصب، فقيل: إنه منصوب على الظرفية لأن معنى قولك: زيد
مثل عمرو في أنه حال مثله، وقيل: إنه إذا أضيف إلى مبني اكتسب
البناء ولا يختص ذلك بما المصدرية كما توهم بل يكون فيها مثل
مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الصافات: 92] ، وفي غيرها
كقوله:
فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم ... إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر
وابن مالك يشترط لاكتساب البناء أن لا يقبل المضاف التثنية
والجمع- كدون وغير وبين- ولم يصحح ذلك في- مثل- وأعربه حالا من
الضمير المستتر في- حق- في قوله تعالى: إِنَّهُ لَحَقٌّ
مِثْلَ- ما- أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ، وقوله تعالى: إِنَّ
اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ
جَمِيعاً تعليل لكونهم مثلهم في الكفر ببيان ما يستلزمه من
شركتهم لهم في العذاب، والمراد من المنافقين إما المخاطبون،
وأقيم المظهر مقام المضمر تسجيلا لنفاقهم وتعليلا للحكم بمأخذ
الاشتقاق، وإما للجنس وهم داخلون دخولا أوليا وتقديمهم لتشديد
الوعيد على المخاطبين وانتصابه على الحال طرز ما مر، واستشكل
كون الخطاب للمنافقين بأنهم مثل الكافرين في الكفر من غير
سببية القعود معهم فلا وجه لترتب الجزاء على الشرط، والعدول عن
كون المماثلة في الكفر إلى المماثلة في المجاهرة به لا يحسن
معه كون جملة إِنَّ اللَّهَ إلخ تعليلا لكونهم مثلهم بتلك
المماثلة بالطريق الذي ذكر، وأيضا الذين نهوا عن مجالسة
الكافرين والمستهزئين بمكة هم المؤمنون المخلصون لا المنافقون
لأن نجم النفاق إنما ظهر بالمدينة، فكيف يذكر المنافقون فيها
بنهي نزل في مكة قبل أن يكونوا؟.
وأجيب عن هذا بأنه إن سلم أن المنزل على النبي صلّى الله عليه
وسلّم وإن خوطب به خاصة منزل على الأمة مخلصهم ومنافقهم إلى
قيام الساعة، صح دخول المنافقين وإن لم يكونوا وقت النزول وإن
لم يسلم ذلك فإن ادعي الاقتصار على النبي صلّى الله عليه وسلّم
لم يدخل المؤمنون المخلصون أيضا، وإن ادّعي دخولهم فقط دون
المنافقين الذين هم مؤمنون ظاهرا
(3/166)
فلا دليل عليه، كيف وجميع الأحكام متعلقة
بالمؤمنين كيف كانوا ولسنا مكلفين بأن نشق على قلوب العباد، بل
لنا الظاهر والله تعالى يتولى السرائر، على أنه قد قام الدليل
على أن الأحكام الشرعية التي كانت صدر الإسلام ولم تنسخ مخاطب
بها من نطق بالكلمة الطيبة وبلغته قبل يوم الساعة، فقد قال
الله تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19]
ولهذه الدغدغة قال بعض المحققين: إن المقصود من الخطاب هنا
المؤمنون الصادقون، والمراد بمن يكفر ويستهزىء أعم من
المنافقين والكافرين، وضمير مَعَهُمْ للمفهوم من الفعلين،
ويؤيد ذلك ما نقل عن الواحدي أنه قال: كان المنافقون يجلسون
إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن فنهى الله تعالى المسلمين
عن مجالستهم، والمراد من المماثلة في الجزاء المماثلة في الإثم
لأنهم قادرون على الإعراض والإنكار لا عاجزون كما في مكة، أو
في الكفر على معنى إن رضيتم بذلك وهو مبني على أن الرضا بكفر
الغير كفر من غير تفصيل، وهي رواية عن أبي حنيفة رضي الله
تعالى عنه عثر عليها صاحب الذخيرة.
وقال شيخ الإسلام خواهر زاده: الرضا بكفر الغير إنما يكون كفرا
إذا كان يستجيز الكفر أو يستحسنه أما إذا لم يكن كذلك ولكن أحب
الموت، أو القتل على الكفر لمن كان مؤذيا حتى ينتقم الله تعالى
منه فهذا لا يكون كفرا، ومن تأمل قوله تعالى: رَبَّنَا اطْمِسْ
[يونس: 88] الآية يظهر له صحة هذه الدعوى وهو المنقول عن
الماتريدي، وقول بعضهم: إن من جاءه كافر ليسلم فقال: اصبر حتى
أتوضأ أو أخره يكفر لرضاه بكفره في زمان موافق لما روي عن
الإمام لكن يدل على خلافه ما
روي في الحديث الصحيح في فتح مكة أن ابن أبي سرح أتى به عثمان
رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا
رسول الله بايعه فكف صلّى الله عليه وسلّم يده ونظر إليه ثلاث
مرات
وهو معروف في السير، وهو يدل بظاهره على أن التوقف مطلقا ليس
كما قالوه كفرا.
واستدل بعضهم بالآية على تحريم مجالسة الفساق والمبتدعين من أي
جنس كانوا، وإليه ذهب ابن مسعود وإبراهيم وأبو وائل، وبه قال
عمر بن عبد العزيز، وروى عنه هشام بن عروة أنه ضرب رجلا صائما
كان قاعدا مع قوم يشربون الخمر، فقيل له في ذلك: فتلا الآية،
وهي أصل لما يفعله المصنفون من الإحالة على ما ذكر في مكان
آخر، والتنبيه عليه والاعتماد على المعنى، ومن هنا قيل: إن
مدار الإعراض عن الخائضين فيما يرضي الله تعالى هو العلم
بخوضهم، ولذلك عبر عن ذلك تارة بالرؤية وأخرى بالسماع، وأن
المراد بالإعراض إظهار المخالفة بالقيام عن مجالستهم لا
الإعراض بالقلب أو بالوجه فقط، وعن الجبائي أن المحذور
مجالستهم من غير إظهار كراهة لما يسمعه أو يراه، وعلى هذا-
الذي ذهب إليه بعض المحققين- يحتمل أن يراد بالمنافقين
والكافرين في جملة التعليل ما أريد بضمير معهم، وصرح بهذا
العنوان لما أشرنا إليه قبل، ويحتمل أن يراد الجنس ويدخل أولئك
فيه دخولا أوليا، والخطاب في قوله تعالى: الَّذِينَ
يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ للمؤمنين الصادقين بلا خلاف، والموصول
إما بدل من- الذين يتخذون- أو صفة للمنافقين فقط إذ هم
المتربصون دون الكافرين.
وجوز أبو البقاء وغيره كونه صفة لهما أو مرفوع أو منصوب على
الذم، وجعله مبتدأ خبره الجملة شرطية لا يخلو من تكلف، والتربص
الانتظار، والظاهر من كلام البعض أن مفعوله مقدر والجار
والمجرور متعلق به أي ينتظرون وقوع أمر بكم وكلام الراغب يقتضي
أنه يتعدى بالباء لأنه من انتظر بالسلعة غلاء السعر، والفاء في
قوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ لترتيب
مضمونه على ما قبلها فإن حكاية تربصهم مستتبعة لحكاية ما يقع
بعد ذلك أي فإن اتفق لكم فتح وظفر على الأعداء قالُوا أي لكم
أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ نجاهد عدوكم فأعطونا نصيبا من الغنيمة
وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ أي حظ من الحرب، فإنها سجال
قالُوا أي المنافقون للكفار أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ أي
ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم، أو ألم
نغلبكم بالتفضل ونطلعكم على أسرار محمد صلّى الله عليه وسلّم
(3/167)
وأصحابه ونكتب إليكم بأخبارهم حتى غلبتم
عليهم وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ندفع عنكم صولة
المؤمنين بتخذيلنا إياهم وتثبيطنا لهم وتوانينا في مظاهرتهم
وإلقائنا عليهم ما ضعفت به قلوبهم عن قتالكم فاعرفوا لنا هذا
الحق عليكم وهاتوا نصيبنا مما أصبتم: وقيل: المعنى ألم نغلبكم
على رأيكم بالموالاة لكم وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الدخول في جملة
الْمُؤْمِنِينَ وهو خلاف الظاهر، وأصل الاستحواذ الاستيلاء،
وكان القياس فيه استحاذ يستحيذ استحاذة بالقلب لكن صحت فيه
الواو وكثر ذلك فيه. وفي نظائر له حتى ألحق بالمقيس وعدّ
فصيحا، وقال أبو زيد: إنه قياسي، وعلى كل حال لا يرد على فصاحة
القرآن كما حقق في موضعه. وقرىء وَنَمْنَعْكُمْ بالنصب بإضمار
أن، والتقدير لم يكن منا الاستحواذ والمنع كقولك: لا تأكل
السمك وتشرب اللبن، سمي ظفر المسلمين فتحا وما للكافرين نصيبا
لتعظيم شأن المسلمين وتخسيس حظ الكافرين، وقيل: سمي الأول فتحا
إشارة إلى أنه من مداخل فتح دار الإسلام بخلاف ما للكافرين
فإنه لا فتح لهم في استيلائهم بل سينطفئ ضياء ما نالوا
فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فيثيب
أحباءه ويعاقب أعداءه، وأما في الدنيا فأنتم وهم سواء في
العصمة بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإذا قالوها فقد
عصموا مني دماءهم وأموالهم» وفي الكلام قيل: تغليب، وقيل: حذف
أي بينكم وبينهم وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا أي
يوم القيامة وحين الحكم كما قد يجعل ذلك في الدنيا ابتلاء
واستدراجا، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه
وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو في الدنيا أي لم يجعل لهم
على المؤمنين سلطانا تاما بالاستئصال، أو حجة قائمة عليهم
مفحمة لهم، وحكي ذلك عن السدي، ويجوز إبقاء الكلام على إطلاقه
ليشمل الدنيا والآخرة ولعله الأولى، واحتج الشافعية بالآية على
فساد شراء الكافر العبد المسلم لأنه لو صح لكان له عليه يد
وسبيل بتملكه، ونحن نقول: يصح ولكن يمنع من استخدامه والتصرف
فيه إلا بالبيع والإخراج عن ملكه فلم يحصل له سبيل عليه، واحتج
بظاهرها بعض الأصحاب على وقوع الفرقة بين الزوجين بردة الزوج
لأن عقد النكاح يثبت للزوج سبيلا في إمساكها في بيته وتأديبها
ومنعها من الخروج وعليها طاعته فيما يقتضيه عقد النكاح،
والمؤمنين والكافرين شامل للإناث وكذا الكافر إذا أسلمت زوجته،
وضعف بأن الارتداد لا ينفي أن يكون النكاح إذا عاد إلى الإيمان
قبل مضي العدة، واعترض بأنه حين الكفر لا سبيل له ونفي السبيل
بوقوع الفرقة وبعد وقوع الفرقة لا بد لحدوث العلقة من موجب-
وهو ظاهر- فإن كان العود يكون الارتداد كالطلاق الرجعي، والعود
كالرجعة فلا ضعف فيه.
وأنت تعلم أنه إذا كان نفي السبيل في الآخرة أو في الدنيا
بالاستئصال، أو السبيل بمعنى الحجة لا متمسك في الآية لأصحابنا
ولا الشافعية فلا تغفل إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ
اللَّهَ
أي يفعلون ما يفعل المخادع فيظهرون الإيمان ويضمرون نقيضه، وعن
الحسن- واختاره الزجاج- أن المراد يخادعون النبي صلّى الله
عليه وسلّم على حد إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10]
وَهُوَ خادِعُهُمْ
أي فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع حيث تركهم في الدنيا
معصومي الدماء والأموال وأعد لهم في الآخرة الدرك الأسفل من
النار، وقيل: خداعه تعالى لهم أن يعطيهم سبحانه نورا يوم
القيامة يمشون به مع المسلمين ثم يسلبهم ذلك النور ويضرب بينهم
بسور. وروي ذلك عن الحسن، أيضا- والسدي- واختاره جماعة من
المفسرين- وقد مر تحقيق ذلك، ولله تعالى الحمد.
والجملة في محل نصب على الحال أو معطوفة على خبر إِنَ
أو مستأنفة كالأولى.
وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
أي متثاقلين متباطئين لا نشاط لهم ولا رغبة كالمكره على الفعل
لأنهم لا يعتقدون ثوابا في فعلها ولا عقابا على تركها، وقرىء
بفتح الكاف وهما جمعا كسلان.
يُراؤُنَ النَّاسَ
ليحسبوهم مؤمنين، والمراءاة مفاعلة من الرؤية إما بمعنى
التفعيل لأن فاعل بمعنى فعل وارد
(3/168)
في كلامهم- كنعم وناعم- وقراءة عبد الله
وإسحاق- يروون- تدل على ذلك، أو للمقابلة لأنهم لفعلهم في
مشاهد الناس يرون الناس والناس يرونهم وهم يقصدون أن ترى
أعمالهم والناس يستحسنونها، فالمفاعلة في الرؤية متحدة وإنما
الاختلاف في متعلق الإراءة، فلا يرد على هذا الشق أن المفاعلة
لا بد في حقيقتها من اتحاد الفعل ومتعلقه، والجملة إما استئناف
مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل: فماذا يريدون بقيامهم
هذا؟ فقيل: يُراؤُنَ
إلخ، أو حال من ضمير قامُوا
أو من الضمير في كسالى.
وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
عطف على يُراؤُنَ
، وقيل: حال من فاعله أي ولا يذكرونه سبحانه مطلقا إلا زمانا
قليلا، أو إلا ذكرا قليلا إذ المرائي لا يفعل إلا بحضرة من
يرائيه وهو أقل أحواله، أو لأن ذكرهم باللساني قليل بالنسبة
إلى الذكر بالقلب، وقيل: إنما وصف بالقلة لأنه لم يقبل وكل ما
لم يقبله الله تعالى قليل وإن كان كثيرا، وروي ذلك عن قتادة،
وأخرج البيهقي وغيره عن الحسن ما بمعناه.
وأخرج ابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال:- لا يقل
عمل مع تقوى وكيف يقل ما يتقبل-
وقيل:
المراد بالذكر الذكر الواقع في الصلاة نحو التكبير والتسبيح،
وإليه ذهب الجبائي، وأيد بما
أخرجه مسلم وأبو داود عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم: تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت
بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله تعالى فيها إلا
قليلا» ،
وقيل: الذكر بمعنى الصلاة لأن الكلام فيها لا بمعناه المتبادر
منه، وجوز أن يراد بالقلة العدم، واستشكل توجيه الاستثناء
حينئذ.
وأجيب بأن المعنى لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
تعالى إِلَّا
ذكرا ملحقا بالعدم لأنه لا ينفعهم فلا إشكال، ولا يخفى ما فيه
فإن القلة بمعنى العدم مجاز، وجعل العدم بمعنى ما لا نفع فيه
مجاز آخر، ومع ذلك ليس في الكلام ما يدل عليه، وقال بعض
المحققين: في توجيه الكلام على ذلك التقدير إن المعنى حينئذ لو
صح أن يعد عدم الذكر ذكرا فذلك ذكرهم على طريقة قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وفيه- وإن كان أهون من الأول- ما فيه، واستدل بالآية على
استحباب دخول الصلاة بنشاط، وعلى كراهة قول الإنسان كسلت، أخرج
ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يكره أن
يقول الرجل إني كسلان ويتأول هذه الآية مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ
ذلِكَ حال من فاعل يُراؤُنَ
أو من فاعل يَذْكُرُونَ
وجوز أن يكون حالا من فاعل قامُوا
أو منصوب على الذم بفعل مقدر، وذلك إشارة إلى الإيمان والكفر
المدلول عليه بذكر المؤمنين والكافرين، ولذا أضيف بَيْنَ إليه،
وروي هذا عن ابن زيد ويصح أن يكون إشارة إلى المؤمنين
والكافرين فيكون ما بعده تفسيرا له على حد قوله:
الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا
والمعنى مرددين بينهما متحيرين قد ذبذبهم الشيطان، وأصل
الذبذبة كما قال الراغب: صوت الحركة للشيء المعلق، ثم استعير
لكل اضطراب وحركة، أو تردد بين شيئين، والذال الثانية أصلية
عند البصريين، ومبدلة من باء عند الكوفيين، وهو خلاف معروف
بينهم، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مُذَبْذَبِينَ بكسر
الذال الثانية ومفعوله على هذا محذوف أي- مذبذبين قلوبهم، أو
دينهم، أو رأيهم- ويحتمل أن يجعل لازما على أن فعلل بمعنى
تفعلل كما جاء صلصل بمعنى تصلصل أي متذبذبين، ويؤيده ما في
مصحف ابن مسعود متذبذبين.
وقرىء بالدال غير المعجمة وهو مأخوذ من- الدبة- بضم الدال
وتشديد الباء بمعنى الطريقة والمذهب كما
(3/169)
في النهاية، ويقال: هو على دبتي أي طريقتي
وسمتي، وفي حديث ابن عباس «اتبعوا دبة قريش ولا تفارقوا
الجماعة» والمعنى حينئذ أنهم أخذ بهم تارة طريقا وأخرى أخرى لا
إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ أي لا منسوبين إلى المؤمنين
حقيقة لإضمارهم الكفر، ولا إلى الكافرين لإظهارهم الإيمان، أو
لا صائرين إلى الأولين ولا إلى الآخرين، ومحله النصب على أنه
حال من ضمير مُذَبْذَبِينَ أو على أنه بدل منه، ويحتمل أن يكون
بيانا وتفسيرا له وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ لعدم استعداده
للهداية والتوفيق فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا موصلا إلى الحق
والصواب فضلا عن أن تهديه إليه، والخطاب لكل من يصلح له وهو
أبلغ في التفظيع.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ
أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ نهي المؤمنين الصادقين
عن موالاة الكفار اليهود فقط- كما قيل- أو ما يعمهم وغيرهم كما
هو الظاهر بعد بيان حال المنافقين، أي لا تتخذوهم أولياء فإن
ذلك ديدن المنافقين ودينهم فلا تتشبهوا بهم، وقيل: المراد
بالذين آمنوا المنافقون وبالمؤمنين المخلصون، فالآية نهي
للمنافقين عن موالاة الكافرين دون المخلصين وقيل: المراد
بالموصول المخلصون، وبالكافرين المنافقون فكأنه قيل: قد بينت
لكم أخلاق هؤلاء المنافقين فلا تتخذوا منهم أولياء، وإلى ذلك
ذهب القفال، وفي كلا القولين بعد أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا
لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي حجة ظاهرة في
العذاب، وفيه دلالة على أن الله تعالى لا يعذب أحدا بمقتضى
حكمته إلا بعد قيام الحجة عليه، ويشعر بذلك كثير من الآيات،
وقيل: أتريدون بذلك أن تجعلوا له تعالى حجة بينة على أنكم
موافقون (1) فإن موالاة الكافرين أوضح أدلة النفاق.
ومن الناس من أبقى السلطان على معناه المعروف، لكن أخرج ابن
المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كل
سلطان في القرآن فهو حجة، وهو مما يجوز فيه التذكير والتأنيث
إجماعا، فتذكيره باعتبار البرهان أو باعتبار معناه المعروف،
والتأنيث باعتبار الحجة والتأنيث أكثر عند الفصحاء على ما قاله
الفراء إلا أنه لم يعتبر هنا، واعتبر التذكير لتحسن الفاصلة،
وادعى ابن عطية أن التذكير أشهر وهي لغة القرآن حيث وقع،
وعَلَيْكُمْ يجوز تعلقه بالجعل وبمحذوف وقع حالا من سُلْطاناً،
وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال: أتجعلون إلخ
للمبالغة في إنكاره وتهويل أمره ببيان أنه مما لا يصدر عن
العاقل إرادته فضلا عن صدور نفسه إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي
الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أي في الطبقة السفلى منها
وهو قعرها، ولها طبقات سبع تسمى الأولى كما قيل: جهنم،
والثانية لظى، والثالثة الحطمة والرابعة السعير، والخامسة سقر،
والسادسة الجحيم، والسابعة الهاوية. وقد تسمى النار جميعا باسم
الطبقة الأولى، وبعض الطبقات باسم بعض لأن لفظ النار يجمعها
وتسمية تلك الطبقات دركات لكونها متداركة متتابعة بعضها تحت
بعض، والدَّرْكِ كالدرج إلا أنه يقال باعتبار الهبوط، والدرج
باعتبار الصعود، وفي كون المنافق فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ
إشارة إلى شدة عذابه.
وقد أخرج ابن أبي الدنيا عن الأحوص عن ابن مسعود- أن المنافق
يجعل في تابوت من حديد يصمد عليه ثم يجعل في الدرك الأسفل-
وإنما كان أشدّ عذابا من غيره من الكفار لكونه ضم إلى الكفر
المشترك استهزاء بالإسلام وخداعا لأهله، وأما ما
روي في الصحيحين من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أربع من كنّ
فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من
النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا وعد غدر،
وإذا خاصم فجر»
فقد قال المحدثون فيه: إنه مخصوص بزمانه صلّى الله عليه وسلّم
لاطلاعه بنور الوحي على بواطن المتصفين بهذه الخصال فأعلم عليه
__________
(1) قوله: «موافقون» وقوله بعده في الحديث: «وإذا وعد غدر» كذا
بخطه.
(3/170)
الصلاة والسلام أصحابه رضي الله تعالى عنهم
بأماراتهم ليحترزوا عنهم، ولم يعينهم حذرا عن الفتنة وارتدادهم
ولحوقهم بالمحاربين، وقيل: ليس بمخصوص ولكنه مؤول بمن استحل
ذلك، أو المراد من اتصف بهذه فهو شبيه بالمنافقين الخلص، وأطلق
صلّى الله عليه وسلّم ذلك عليه تغليظا وتهديدا له، وهذا في حق
من اعتاد ذلك لا من ندر منه، أو هو منافق في أمور الدين عرفا
والمنافق في العرف يطلق على كل من أبطن خلاف ما يظهر مما يتضرر
به وإن لم يكن إيمانا وكفرا، وكأنه مأخوذ من النافقاء، وليس
المراد الحصر وهذا صدر منه صلّى الله عليه وسلّم باقتضاء
المقام، ولذا ورد في بعض الروايات «ثلاث» وفي بعضها «أربع» .
وقرأ الكوفيون الدَّرْكِ بسكون الراء وهو لغة كالسطر والسطر،
والفتح أكثر وأفصح لأنه ورد جمعه على أفعال، وأفعال في فعل
المحرك كثير مقيس، ووروده في الساكن نادر كفرخ وأفراخ، وزند
وأزناد.- وكونه استغني بجمع أحدهما عن الآخر جائز لكنه خلاف
الظاهر، فلا يندفع به الترجيح، والكلام مخرّج مخرج الحقيقة،
وزعم أبو القاسم البلخي أن لا طبقات في النار، وأن هذا إخبار
عن بلوغ الغاية في العقاب كما يقال: إن السلطان بلغ فلانا
الحضيض وفلانا العرش، يريدون بذلك انحطاط المنزلة وعلوها لا
المسافة، ولا يخفى أنه خلاف ما جاءت به الآثار، ومِنَ النَّارِ
في محل النصب على الحال وفي صاحبها وجهان: أحدهما أنه
الدَّرْكِ والعامل الاستقرار، والثاني أنه الضمير المستتر في
الْأَسْفَلِ لأنه صفة، فيتحمل الضمير أي حال كون ذلك من النار
وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً يخرجهم منه أو يخفف عنهم ما هم
فيه يوم القيامة حين يكونون في الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ وكون
المراد وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً في الدنيا لتكون الآية
وصفا لهم بأنهم خسروا الدنيا والآخرة ليس بشيء كما لا يخفى،
والخطاب لكل من يصلح له إِلَّا الَّذِينَ تابُوا عن النفاق وهو
استثناء من المنافقين، أو من ضميرهم في الخبر، أو من الضمير
المجرور في لهم، وقيل: هو في موضع رفع بالابتداء والخبر ما بعد
الفاء ودخلت- لما- في الكلام من معنى الشرط وَأَصْلَحُوا ما
أفسدوا من نياتهم وأحوالهم في حال النفاق، وقيل: ثبتوا على
التوبة في المستقبل، والأول أولى وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ أي
تمسكوا بكتابه، أو وثقوا به وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ لا
يريدون بطاعتهم إلا وجهه ورضاه سبحانه لا رياء الناس، ودفع
الضرر كما في النفاق،
وأخرج أحمد والترمذي وغيرهما عن أبي ثمامة قال: قال الحواريون
لعيسى عليه السلام: يا روح الله من المخلص لله؟ قال: الذي يعمل
لله تعالى لا يحب أن يحمده الناس عليه
فَأُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصفة
وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أي
المعهودين من الذين لم يصدر منهم نفاق أصلا منذ آمنوا، والمراد
أنهم معهم في الدرجات العالية من الجنة، أو معدودون من جملتهم
في الدنيا والآخرة وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
أَجْراً عَظِيماً لا يقادر قدره فيساهمونهم فيه ويقاسمونهم.
وفسر أبو حيان الأجر العظيم بالخلود، والتعميم أولى، والمراد
بالمؤمنين هاهنا ما أريد به فيما قبله. واعتبار المساهمة جرى
عليه غير واحد، ولولا تفسير الآية بذلك لم يكن لها في ذكر
أحوال من تاب من النفاق معنى ظاهر.
وذهب بعضهم إلى عدم اعتبارها، والمراد الإخبار بزيادة ثواب من
لم يسبق منه نفاق أصلا، وعمم بعض المؤمنين ليشمل من لم يتقدم
منه نفاق ومن تقدم منه وتاب عنه، والظاهر ما ذكرناه، ورسم
يُؤْتِ بغير ياء، وهو مضارع مرفوع فحق يائه أن تثبت لفظا وخطا
إلا أنها حذفت في اللفظ لالتقاء الساكنين، وجاء الرسم تبعا
للفظ والقراء يقفون عليه دونها اتباعا للرسم إلا يعقوب فإنه
يقف بالياء نظرا إلى الأصل.
وروي ذلك أيضا عن الكسائي وحمزة ونافع وادعى السمين أن الأولى
اتباع الرسم لأن الأطراف قد كثر حذفها
(3/171)
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ
شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ خطاب للمنافقين- وقيل: للمؤمنين، وضعف-
مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم وجودا وعدما إنما هو كفرهم لا شيء
آخر، فتكون الجملة مقررة لما قبلها من ثباتهم عند توبتهم، وما
استفهامية مفيدة للنفي على أبلغ وجه وآكده، وقيل: نافية والباء
سببية، وقيل: زائدة أي أيّ شيء يفعل الله سبحانه بسبب تعذيبكم
أيتشفى به من الغيظ؟ أم يدرك به الثأر؟ أم يستجلب نفعا؟ أو
يستدفع به ضررا كما هو شأن الملوك، وهو الغني المطلق المتعالي
عن أمثال ذلك؟ وإنما هو أمر يقتضيه مرض كفركم ونفاقكم فإذا
احتميتم عن النفاق ونقيتم نفوسكم بشربة الإيمان والشكر في
الدنيا برئتم وسلمتم وإلا هلكتم هلاكا لا محيص عنه بالخلود في
النار، وإنما قدم الشكر مع أن الظاهر تأخيره لأنه لا يعتد به
إلا بعد الإيمان لما أنه طريق موصل إليه في أول درجاته، فقد
ذكر العارف أبو إسماعيل الأنصاري أن الشكر في الأصل اسم لمعرفة
النعمة لأنها السبيل إلى معرفة المنعم وله ثلاث درجات لأنه إذا
نظر إلى النعمة كالرزق والخلق ينبغث منه شوق إلى معرفة المنعم
وهذه الحركة تسمى باليقظة والشكر القلبي والشكر المبهم لأن
منعمه لم يتضح له تعيينه، وإنما عرف منعما ما فهو منعم عليه
فإذا تيقظ لهذا وفق لنعمة أكبر منها، وهي المعرفة بأن المنعم
عليه هو الصمد الواسع الرحمة المثيب المعاقب فتتحرك جوارحه
لتعظيمه ويضيف إلى شكر الجنان شكر الأركان، ثم ينادي على ذلك
الجميل باللسان، ويقول:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا
فالمذكور في الآية هو الشكر المبهم وهو مقدم على الإيمان، فلا
حاجة إلى ما زعمه الإمام من أن الكلام على التقديم والتأخير أي
آمنتم وشكرتم، وأما القول: بأن هذا السؤال إنما هو على تقدير
أن تكون الواو للترتيب، وأما إذا لم تكن للترتيب فلا سؤال فمما
لا ينبغي أن يتفوه به من له أدنى ذوق في علم الفصاحة والبلاغة
لأن الواو وإن لم تفد الترتيب لكن تقديم ما ليس مقدما لا يليق
بالكلام الفصيح فضلا عن المعجز، ولذا تراهم يذكرون لما يخالفه
وجها ونكتة، وذكر النيسابوري وجها آخر في التقديم لكنه بناه
على إفادة الواو للترتيب فقال: لعل الوجه في ذلك أن الآية
مسوقة في شأن المنافقين ولا نزاع في إيمانهم ظاهرا وإنما
النزاع في بواطنهم وأفعالهم التي تصدر عنهم غير مطابقة للقول
اللساني، فكان تقديم الشكر هاهنا أهم لأنه عبارة عن صرف جميع
ما أعطاه الله تعالى فيما خلق لأجله حتى تكون أفعاله وأقواله
على نهج السداد وسنن الاستقامة انتهى، ولا يخفى أنه لم يحمل
الشكر في الآية على الشكر المبهم، ولا يخلو عن حسن.
وأوضح منه وأطيب ما حاك في صدري، ثم رأيت العلامة الطيبي عليه
الرحمة صرح به إن الذي يقتضيه النظم الفائق أن هذا الخطاب مع
المنافقين، وأن قوله سبحانه ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ
متصل بقوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ
الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إلخ،
وتنبيه لهم على أن الذي ورطهم في تلك الورطة كفرانهم نعم الله
تعالى وتهاونهم في شكر ما أوتوا وتفويتهم على أنفسهم بنفاقهم
البغية العظمى، وهو الإسعاد بصحبة أفضل الخلق صلّى الله عليه
وسلّم والانخراط في زمرة الذين مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ
وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ [الفتح: 29] فإذا تابوا وأصلحوا
واعتصموا بالله تعالى وأخلصوا دينهم له فأولئك حكمهم أن
ينتظموا في سلك أولئك السعداء من المؤمنين بعد ما كانوا
مستأهلين الدرجات السفلى من النيران، ثم التفت تعريضا لهم أن
ذلك العذاب كان منهم وبسبب تقاعدهم وكفرانهم تلك النعمة
الرفيعة وتفويتهم على أنفسهم تلك الفرصة السنية وإلا فإن الله
تعالى غني مطلق عن عذابهم فضلا على أن يوقعهم في تلك الورطات،
فقوله عز وجل: إِنْ شَكَرْتُمْ فذلكة لمعنى الرجوع عن الفساد
في الأرض إلى الإصلاح فيها، ومن اللجأ إلى الخلق إلى الاعتصام
بالله تعالى، ومن الرياء في الدين إلى الإخلاص فيه، فقوله عز
(3/172)
من قائل: وَآمَنْتُمْ تفسير له وتقرير
لمعناه أي وَآمَنْتُمْ الإيمان الذي هو حائز لتلك الخلال
الفواضل جامع لتلك الخصال الكوامل، فتقديم الشكر على الإيمان
وحقه التأخير في الأصل إعلام بأن الكلام فيه، وأن الآية
السابقة مسوقة لبيان كفران نعمة الله تعالى العظمى والكفر تابع
فإذا أخر الشكر أخل بهذه الأسرار واللطائف، ومن ثم ذيل سبحانه
الآية على سبيل التعليل بقوله جل وعلا:
وَكانَ اللَّهُ شاكِراً أي مثيبا على الشكر عَلِيماً بجميع
الجزئيات والكليات فلا يعزب عن علمه شيء فيوصل الثواب كاملا
إلى الشاكر، وإلى هذا ذهب الإمام، وقال غير واحد: الشاكر وكذا
الشكور من أسمائه تعالى هو الذي يجزي بيسير الطاعات كثير
الدرجات، ويعطي بالعمل في أيام معدودة نعما في الآخرة غير
محدودة، وعلى التقديرين يرجع إلى صفة فعلية، وقيل: معناه
المثنى على من تمسك بطاعته فيرجع إلى صفة كلامية.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : أما في قوله سبحانه:
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ إلى قوله عز وجل:
وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً فقد قال النيسابوري فيه: إن
النفس للروح كالمرأة للزوج، فِي يَتامَى النِّساءِ صفات
النفوس، وما كُتِبَ لَهُنَّ ما أوجب الله تعالى من الحقوق.
وحاصل المعنى إن نفسك مطيتك فارفق بها، وإليه الإشارة بقوله
تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ
فالروح تشح بترك حقوق الله تعالى، والنفس تشح بترك حظوظها فَلا
تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ في رفض حظوظ النفس، فقد جاء في
الخبر «إن لنفسك عليك حقا» فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ بين
العالم العلوي والعالم السفلي وَإِنْ يَتَفَرَّقا أي الروح
والنفس يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ فالروح يجتذب
بجذبة- خل نفسك وائتني إلى سعة غنى الله تعالى في عالم هويته-
فيستغنى عن مركب النفس بالوصول إلى المقصود، والنفس تجتذب
بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] إلى سعة غنى الله
تعالى في عالم فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي
[الفجر:
29، 30] انتهى، ولا يخفى أن باب التأويل واسع، وما ذكره ليس
بمتعين فيمكن أن تجعل الآية في شأن الشيخ والمريد وأما في قوله
تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا إلخ فنقول: إنه
سبحانه أمر المؤمنين بالتوحيد العلمي المريدين لثواب الدارين
أن يكونا ثابتين في مقام العدالة التي في أشرف الفضائل
قَوَّامِينَ بحقوقها بحيث تكون ملكة راسخة فيهم لا يمكن معها
جور في شيء ولا ظهور صفة نفس لاتباع هوى في جلب نفع دنيوي أو
رفع مضرة كذلك، ثم قال جل وعلا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
من حيث البرهان آمَنُوا من حيث البيان إلى أن تؤمنوا من حيث
العيان أو يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالإيمان التقليدي
آمَنُوا بالإيمان العيني، أو المراد يا أَيُّهَا المدعون تجريد
الإيمان لي من غير وساطة لا سبيل لكم إلى الوصول إلى عين
التجريد إلا بقبول الوسائط، فالآية إشارة إلى الفرق بعد الجمع
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالتقليد ثُمَّ كَفَرُوا إذ لم يكن
للتقليد أصل ثُمَّ آمَنُوا بالاستدلال العقلي ثُمَّ كَفَرُوا
إذ لم تكن عقولهم مشرقة بالنور الإلهي ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً
بالشبهات والاعتراضات، وقد يكون ذلك إشارة إلى وصف أهل التردد
في سلوك سبيل أولياء الله تعالى، والإيمان بأحوالهم حين هاجت
رغبتهم إلى رئاسة القوم. فلما جن عليهم ليل المجاهدات لم
يتحملوا وأنكروا ورجعوا إلى حظوظ أنفسهم، ولما رأوا نهاية
الأكابر وظنوا اللحوق بهم لو استقاموا آمنوا فلما لم يصلوا إلى
شيء من مقامات القوم وكراماتهم لعدم إخلاصهم وسوء استعدادهم
ارتدوا وصاروا منكرين عليهم وعلى مقاماتهم وازدادوا إنكارا على
إنكار حين رجعوا إلى اللذات والشهوات واختاروا الدنيا على
الآخرة وجعلوا يقولون للخلق: إن هؤلاء ليسوا على الحق فقد
سلكنا ما سلكوا وخضنا ما خاضوا فلم نر إلا سرابا بقيعة، وهذا
حال كثير من علماء السوء المنكرين على القوم قدس الله تعالى
أسرارهم ما كان الله ليغفر لهم
(3/173)
لمكان الريب الحاجب وفساد جوهر القلب وزوال
الاستعداد وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا إلى الحق ولا إلى
الكمال لعدم قبولهم ذلك الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ
أَوْلِياءَ لمناسبتهم إياهم وشبيه الشيء منجذب إليه مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ لعدم الجنسية أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ
الْعِزَّةَ أي أيطلبون التعزز بهم في الدنيا والتقوى بمالهم
وجاههم فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً فلا سبيل لهم
إليها إلا منه سبحانه عز وجل، ثم ذكر سبحانه من وصف المنافقين
أنهم- إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى- لعدم شوقهم إلى
الحضور ونفورهم عنه لعدم استعدادهم واستيلاء الهوى عليهم
يُراؤُنَ النَّاسَ
لاحتجابهم بهم عن رؤية الله تعالى وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
إِلَّا قَلِيلًا
لأنهم لا يذكرونه إلا باللسان وعند حضورهم بين الناس بخلاف
المؤمنين الصادقين فإنهم إذا قاموا إلى الصلاة يطيرون إليها
بجناحي الرغبة والرهبة بل يحنون إلى أوقاتها.
حنين أعرابية حنت إلى ... أطلال نجد فارقته ومرخه
ومن هنا
كان صلّى الله عليه وسلّم يقول لبلال: «أرحنا يا بلال»
يريد عليه الصلاة والسلام أقم لنا الصلاة لنصلي فنستريح بها لا
منها، وظن الأخير برسول الله صلّى الله عليه وسلّم كفر والعياذ
بالله تعالى وإذا عبدوا لا يرون إلا الله تعالى، وما قدر السوي
عندهم ليراؤوه؟ وإن كل جزء منهم يذكر الله تعالى، نعم إنهم قد
يشتغلون به عنه فهناك لا يتأتى لهم الذكر، وقد عد العارفون
الذكر لأهل الشهود ذنبا، ولهذا قال قائلهم:
بذكر الله تزداد الذنوب ... وتنكشف الرذائل والعيوب
وترك الذكر أفضل كل شيء ... وشمس الذات ليس لها مغيب
لكن ذكر بعضهم أنه لا يصل العبد إلى ذلك المقام إلا بكثرة
الذكر، وأشار إلى مقام عال من قال:
لا يترك الذكر إلا من يشاهده ... وليس يشهده من ليس يذكره
والذكر ستر على مذكوره ستر ... فحين أذكره في الحال يستره
فلا أزال على الأحوال أشهده ... ولا أزال على الأنفاس أذكره
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ
أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لئلا تتعدى إليكم ظلمة
كفرهم أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ
سُلْطاناً مُبِيناً حجة ظاهرة في عقابكم برسوخ الهيئة التي بها
تميلون إلى ولايتهم إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ
الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ لتحيرهم بضعف استعدادهم وَلَنْ
تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ينصرهم من عذاب الله تعالى لانقطاع
وصلتهم وارتفاع محبتهم مع أهل الله تعالى إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا رجعوا إلى الله تعالى ببقية نور الاستعداد وقبول مدد
التوفيق وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا من استعدادهم بقمع الهوى وكسر
صفات النفس ورفع حجاب القوى وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ بالتمسك
بأوامره والتوجه إليه سبحانه وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ
بإزالة خفايا الشرك وقطع النظر عن السوي فَأُولئِكَ مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ الصادقين وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ
الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً من مشاهدة تجليات الصفات
وجنات الأفعال ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ
شَكَرْتُمْ بالتوبة وإصلاح ما فسد والاعتصام بحبل الأوامر
والتوجه إلى الله عز وجل وإخلاص الدين له سبحانه وَآمَنْتُمْ
الإيمان الحائز لذلك وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً فيثبت
ويوصل الثواب كاملا، والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.
«تم والحمد لله الجزء الخامس من تفسير روح المعاني، ويتلوه
الجزء السادس إن شاء الله تعالى» أوله «لا يحب الله الجهر
بالسوء من القول» .
(3/174)
روح المعاني الجزء السادس
(3/175)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ
وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا
خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ
اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ
بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا
بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ
حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
بسم الله الرحمن الرحيم
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ عدم
محبته سبحانه لشيء كناية عن غضبه، والباء متعلقة بالجهر وموضع
الجار والمجرور نصب أو رفع، ومِنَ متعلقة بمحذوف وقع حالا من
السوء، والجهر بالشيء- الإعلان به، والإظهار كما يفهم من
القاموس، وفي الصحاح: جهر بالقول رفع صوته به، ولعل المراد هنا
الإظهار وإن لم يكن برفع صوت أي لا يحب الله سبحانه أن يعلن
أحد بالسوء كائنا من القول إِلَّا مَنْ ظُلِمَ أي إلا جهر من
ظلم فإنه غير مسخوط عنده تعالى، وذلك بأن يدعو على ظالمه أو
يتظلم منه ويذكره بما فيه من السوء وروي عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما وقتادة هو أن يدعو على من ظلمه، وعن مجاهد أن
المراد لا يحب الله سبحانه أن يذم أحد أحدا أو يشكوه إِلَّا
مَنْ ظُلِمَ فيجوز له أن يشكو ظالمه ويظهر أمره ويذكره بسوء ما
قد صنعه، وعن الحسن والسدي- وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله
تعالى عنه- المراد لا يحب الله تعالى الشتم في الانتصار إِلَّا
مَنْ ظُلِمَ فلا بأس له أن ينتصر ممن ظلمه بما يجوز الانتصار
به في الدين، وجوز الحسن للرجل إذا قيل له: يا زاني أن يقابل
القائل له بمثل ذلك، وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن رجلا ضاف قوما
فلم يطعموه فاشتكاهم فعوتب عليه فنزلت، وأنت تعلم أن العبرة
بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبيّ وابن جبير
والضحاك وعطاء أنهم قرؤوا إِلَّا مَنْ ظُلِمَ على البناء
للفاعل، فالاستثناء منقطع، والمعنى لكن الظالم يحبه أو لكنه
يفعل ما لا يحبه الله تعالى فيجهر بالسوء، والموصول في محل
نصب، وجوز الزمخشري أن يكون مرفوعا بالإبدال من فاعل يُحِبُّ
كأنه قيل: لا يحب الجهر بالسوء إلا الظالم على لغة من يقول: ما
جاءني زيد إلا عمرو بمعنى ما جاءني إلا عمرو، ومنه لا يَعْلَمُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ
[النمل: 65] وهي لغة تميمية، وعليها قول الشاعر:
عشية ما تغني الرماح مكانها ... ولا النبل إلا المشرفي المصمم
وقد نقل هذه اللغة سيبويه وأنكرها البعض، وكفى بنقل شيخ
الصناعة سندا للمثبت، ونقل عن أبي حيان أنه
(3/177)
ليس البيت كالمثال لأنه قد يتخيل فيه عموم
على معنى السلاح، وأما زيد فلا يتوهم فيه عموم ولا يمكن تصحيحه
إلا على أن أصله ما جاءني زيد ولا غيره، فحذف المعطوف لدلالة
الاستثناء وكذا الآية التي ذكرت، ورد- كما قال الشهاب- بأنه لو
كان التقدير ما ذكره في المثال لكان الاستثناء متصلا والمفروض
خلافه، وأن المراد- كما يفهمه كلام الطيبي- جعل المبدل منه
بمنزلة غير المذكور حتى كأن الاستثناء مفرغ والنفي عام إلا إنه
صرح بنفي بعض أفراد العام لزيادة اهتمام بالنفي عنه، أو لكونه
مظنة توهم الإثبات، فيقولون: ما جاءني زيد إلا عمرو، والمعنى
ما جاءني إلا عمرو فكذا هاهنا المعنى- لا يحب الجهر بالسوء إلا
الظالم- فأدخل لفظ اللَّهُ تأكيدا لنفي محبته تعالى يعني لله
سبحانه اختصاص في عدم محبته ليس لأحد غيره ذلك.
فإن قيل: ما بعد إِلَّا حينئذ لا يكون فاعلا وهو ظاهر فتعين
البدل وهو غلط، أجيب بأنه إنما يكون غلطا لو لم يكن هذا الخاص
في موقع العام، ولم يكن المعنى ما جاءني أحد إلا عمرو «فإن
قيل» : فيكون لفظ اللَّهُ مجازا عن أحد ولا سبيل إليه، أجيب
بأن لا يحب الله مؤول بلا يحب أحد، وواقع موقعه من غير تجوز في
لفظ اللَّهُ كذا قيل وتعقبه الشهاب بأن المستثنى منه إذا كان
عاما، فإما بتقدير لفظ- كما ذكره أبو حيان- وإما بالتجوز في
لفظ العلم، وكلاهما مرّ ما فيه، ولا طريق آخر للعموم، فما ذكره
المجيب لا بد من بيان طريقه اللهم إلا أن يقال: إن الاستثناء
من العلم يشترط فيه أن يكون صاحبه أحق بالحكم بحيث إذا نفي عنه
يعلم نفيه عن غيره بالطريق الأولى من غير تقدير ولا تجوز فيقال
هنا مثلا: إذا لم يحب الله سبحانه الجهر بالسوء وهو الغني عن
جميع الأشياء فغيره لا يحبه بطريق من الطرق، وأنت تعلم أن هذا
لا يشفي الغليل لأن الاشتراط المذكور مما لم يقم عليه دليل على
أن دعوى كون نفي حب الجهر بالسوء عنه تعالى يعلم منه نفيه عن
غيره بالطريق الأولى في غاية الخفاء، فالأولى ما ذكره بعد بأن
يقال يقدر في الكلام ما ذكر لكنه عد الاستثناء منقطعا بحسب
المتبادر، والنظر إلى الظاهر.
وجوّز على قراءة المعلوم أن يكون متعلقا بالسوء أي إلا سوء من
ظلم فيجب الجهر به ويقبله، وقيل: إنه متعلق بقوله تعالى: ما
يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ
فقد روي عن الضحاك بن مزاحم أنه كان يقول هذا على التقديم
والتأخير أي- ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم، إلا من
ظلم- وكان يقرأها كذلك، ولا يكاد يقبل هذا في تخريج كلام الله
تعالى العزيز وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بجميع المسموعات فيندرج
فيها كلام المظلوم والظالم عَلِيماً بجميع المعلومات التي من
جملتها حال المظلوم والظالم، والجملة تذييل مقرر لما يفيده
الاستثناء ولا يأبى ذلك التعميم كما توهم.
ووجه ربط هذه الآية بما قبلها- على ما قاله العلامة الطيبي-
أنه سبحانه لما فرغ من بيان إيراد رحمته وتقرير إظهار رأفته
جاء بقوله جل وعلا: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ
تتميما لذلك وتعليما للعباد التخلق بأخلاقه جل جلاله، وفيه أن
هذا مما لا محصل له ولا تتم به المناسبة، وزعم أن الآية الأولى
فيها أيضا إشارة إلى تعليم التخلق بالأخلاق العلية- كما قرره
عصام الملة- ورجا أن يكون من الملهمات، وحينئذ يشتركان في أن
كلا منهما متضمنا (1) التعليم المذكور ليس بشيء كما لا يخفى،
ومثل ذلك ما ذكره علي بن عيسى في وجه الاتصال وهو أنه تعالى
شأنه لما ذكر أهل النفاق، وهو إظهار خلاف ما يبطن بيّن جل وعلا
أن ما في النفس منه ما يجوز إبطانه ومنه ما يجوز إظهاره، وقال
شهاب الدين: الظاهر أنه لما ذكر الشكر على وجه علم منه رضاه
سبحانه به ومحبة إظهاره تممه
__________
(1) قوله: «متضمنا» كذا بخطه اهـ مصححه.
(3/178)
عز وجل بذكر ضده، فكأنه قيل: إنه يحب الشكر
وإعلانه ويكره السوء وإعلانه، وفيه احتباك بديع إِنْ تُبْدُوا
أي تظهروا خَيْراً أي خير كان من الأقوال والأفعال، وقيل
المراد إِنْ تُبْدُوا جميلا حسنا من القول فيمن أحسن إليكم
شكرا له على إنعامه عليكم، وقيل: المراد بالخير المال والمعنى
إن تظهروا التصدق أَوْ تُخْفُوهُ أي تفعلوه سرا، وقيل: تعزموا
على فعله أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ أي تصفحوا عمن أساء إليكم
مع ما سوّغ لكم من مؤاخذته وأذن فيها، والتنصيص على هذا مع
اندراجه في ابتداء الخير وإخفائه على أحد الأقوال للاعتداد به،
والتنبيه على منزلته وكونه من الخير بمكان، وذكر إبداء الخير
وإخفائه توطئة وتمهيدا له كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى فَإِنَّ
اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً فإن إيراد العفو في معرض جواب
الشرط يدل على أن العمدة العفو مع القدرة ولو كان إبداء الخير
وإخفاؤه أيضا مقصودا بالشرط لم يحسن الاقتصار في الجزاء على
كون الله تعالى عفوّا قديرا أي يكثر العفو عن العصاة مع كمال
قدرته على المؤاخذة، وقال الحسن: يعفو عن الجانين مع قدرته على
الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنة الله تعالى، وقال الكلبي: هو
أقدر على عفو ذنوبكم منكم على عفو ذنوب من ظلمكم، وقيل:
عَفُوًّا عمن عفا قَدِيراً على إيصال الثواب إليه، نقله
النيسابوري وغيره إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ
وَرُسُلِهِ أي على ما يؤدي إليه مذهبهم وتقتضيه آراؤهم لا أنهم
يصرحون بذلك كما ينبئ عنه قوله تعالى:
وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ في
الإيمان بأن يؤمنوا به عز وجل ويكفروا برسله عليهم الصلاة
والسلام، لكن لا يصرحون بالإيمان به تعالى وبالكفر بهم قاطبة،
بل بطريق الالتزام كما يحكيه قوله تعالى: وَيَقُولُونَ
نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ أي نؤمن ببعض الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام ونكفر ببعضهم كما فعل أهل الكتاب، وما
ذلك إلا كفر بالله تعالى وتفريق بين الله تعالى ورسله، لأنه عز
وجل قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
وما من نبي إلا وقد أخبر قومه بحقية دين نبينا صلّى الله عليه
وسلّم فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل وبالله تعالى أيضا من
حيث لا يشعر وَيُرِيدُونَ بهذا القول أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ
ذلِكَ أي الإيمان والكفر سَبِيلًا أي طريقا يسلكونه مع أنه لا
واسطة بينهما قطعا، إذ الحق لا يختلف، فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ
إِلَّا الضَّلالُ [يونس: 32] ! هذا ما ذهب إليه البعض في تفسير
الآية وهو الذي تؤيده الآثار، فقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير
عن قتادة أنه قال فيها أولئك أعداء الله تعالى اليهود
والنصارى، آمنت اليهود بالتوراة وموسى وكفروا بالإنجيل وعيسى
عليه السلام، وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى عليه السلام وكفروا
بالقرآن ومحمد صلّى الله عليه وسلّم، فاتخذوا اليهودية
والنصرانية وهما بدعتان ليستا من الله عز وجل وتركوا الإسلام
وهو دين الله تعالى الذي بعث به ورسله، وأخرج ابن جرير عن
السدي وابن جريج مثله، وقال بعضهم: الذين يكفرون بالله تعالى
رسله عليهم الصلاة والسلام هم الذين خلص كفرهم الصرف بالجميع
فنفوا الصانع مثلا وأنكروا النبوات، والذين يفرقون بينه تعالى
وبين رسله عليهم الصلاة والسلام هم الذين آمنوا بالله تعالى
وكفروا برسله عليهم الصلاة والسلام لا عكسه، وإن قيل: إنه
يتصور في النصارى لإيمانهم بعيسى عليه السلام وكفرهم بالله
تعالى حيث قالوا: إنه ثالث ثلاثة، والكفر بالله سبحانه شامل
للشرك والإنكار إذ لا يخفى ما فيه، والذين يؤمنون ببعض ويكفرون
ببعض هم الذين آمنوا ببعض الأنبياء عليهم السلام وكفروا ببعضهم
كاليهود، فهذه أقسام متقابلة كان الظاهر عطفها- بأو- لكن أتي
بالواو بدلها فهي بمعناها، وقيل: إن الموصول مقدر بناء على
جواز حذفه مع بقاء صلته، وقيل: إن قوله تعالى وَيُرِيدُونَ
أَنْ يُفَرِّقُوا إلخ عطف تفسيري على قوله سبحانه: يَكْفُرُونَ
لأن هذه الإرادة عين الكفر بالله تعالى لأن من كفر برسل الله
سبحانه فقد كفر بالله تعالى كالبراهمة، وأما قوله جل وعلا:
وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ إلخ فعطف على صلة الموصول
والواو بمعنى أو التنويعية، فالأولون فرقوا بين الإيمان بالله
(3/179)
وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ
أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ
سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا
اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ
ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ
الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى
سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ
بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا
وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا
مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ
مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ
الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ
بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ
إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى
مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا
قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ
وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا
لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا
قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ
وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ
طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا
عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ
وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
(161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ
وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا
أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ
وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا
عَظِيمًا (162) إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا
إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا
إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ
وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا
قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ
نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا
(164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ
اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ
بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ
وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا
(166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ
وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرًا (169)
تعالى ورسوله والآخرون فرقوا بين رسل الله
تعالى عليهم السلام فآمنوا ببعض وكفروا ببعض كاليهود، وعلى كل
تقدير فخبر إِنَّ قوله تعالى: أُولئِكَ أي الموصوفون بالصفات
القبيحة هُمُ الْكافِرُونَ الكاملون في الكفر لا عبرة بما
يدعونه ويسمونه إيمانا أصلا حَقًّا مصدر مؤكد لغيره وعامله
محذوف أي حق ذلك أي كونهم كاملين في الكفر حقا، وجوّزوا أن
يكون صفة لمصدر الكافرين، أي هم الذين كفروا كفرا حقا أي لا شك
فيه ولا ريب، فالعامل مذكور وحَقًّا بمعنى اسم المفعول، وليس
بمعنى مقابل الباطل، ولهذا صح وقوعه صفة صناعة ومعنى، واحتمال
الحالية- كما زعم أبو البقاء- بعيد، والآية على ما زعمه البعض
متعلقة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا
إلخ على أنها كالتعليل له وما توسط بين العلة والمعلول من
الجمل والآيات إما معترض أو مستطرد عند إمعان النظر
وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ أي لهم، ووضع المظهر موضع المضمر
تذكيرا بوصف الكفر الشنيع المؤذن بالعلية، وقد يراد جميع
الكفار وهم داخلون دخولا أوليا.
عَذاباً مُهِيناً يهينهم ويذلهم جزاء كفرهم الذي ظنوا به
العزة.
(3/180)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بأن يؤمنوا ببعض
ويكفروا بآخرين كما فعل الكفرة، ودخول بَيْنَ على أحد قد مرّ
الكلام فيه والموصول مبتدأ خبره جملة قوله: أُولئِكَ أي
المنعوتون بهذه النعوت الجليلة سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أي الله
تعالى أُجُورَهُمْ الموعودة لهم، فالإضافة للعهد.
وزعم بعضهم أن الخبر محذوف أي أضدادهم ومقابلوهم، والإتيان
بسوف لتأكيد الموعود الذي هو الإيتاء والدلالة على أنه كائن لا
محالة وإن تأخر لا الإخبار بأنه متأخر إلى حين، فعن الزمخشري
أن يفعل الذي للاستقبال موضوع لمعنى الاستقبال بصيغته فإذا دخل
عليه سوف أكد ما هو موضوع له من إثبات الفعل في المستقبل لا أن
يعطى ما ليس فيه من أصله فهو في مقابلة لن ومنزلته من يفعل
منزلة لن من لا يفعل لأن لا لنفي المستقبل فإذا وضع لن موضعه
أكد المعنى الثابت وهو نفي المستقبل فإذا كل واحد من- لن وسوف-
حقيقته التوكيد، ولهذا قال سيبويه: لن يفعل نفي سوف يفعل وكأنه
اكتفى سبحانه ببيان ما لهؤلاء المؤمنين عن أن يقال: أولئك هم
المؤمنون- حقا- مع استفادته مما دل على الضدية، وفي الآية
التفات من التكلم إلى الغيبة.
وقرأ نافع وابن كثير وكثير- نؤتيهم- بالنون فلا التفات وَكانَ
اللَّهُ غَفُوراً لمن هذه صفتهم ما سلف لهم من المعاصي والآثام
رَحِيماً بهم فيضاعف حسناتهم ويزيدهم على ما وعدوا يَسْئَلُكَ
يا محمد.
أَهْلُ الْكِتابِ الذين فرقوا بين الرسل أَنْ تُنَزِّلَ
عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فقالوا: إن موسى عليه
السلام جاء بالألواح من عند الله تعالى فأتنا بألواح من عنده
تعالى فطلبوا أن يكون المنزل جملة، وأن يكون بخط سماوي، وروي
ذلك عن محمد بن كعب القرظي والسدي.
وعن قتادة أنهم سألوا أن ينزل عليهم كتابا خاصا لهم، وقريب منه
ما أخرجه ابن جرير عن ابن جريج قال: إن اليهود قالوا لمحمد
صلّى الله عليه وسلّم: لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى
تأتينا بكتاب من عند الله تعالى من الله تعالى إلى فلان إنك
رسول الله وإلى فلان إنك رسول الله، وما كان مقصدهم بذلك إلا
التحكم والتعنت، قال الحسن: ولو سألوه ذلك استرشادا لا عنادا
لأعطاهم ما سألوا فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى عليه السلام شيئا أو
سؤلا.
(3/181)
أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ المذكور وأعظم، والفاء
في جواب شرط مقدر والجواب مؤول ليصح الترتيب. أي إن استكبرت
هذا وعرفت ما كانوا عليه تبين لك رسوخ عرقهم في الكفر، وقيل:
إنها سببية والتقدير لا تبال ولا تستكبر فإنهم قد سألوا موسى
عليه السلام ما هو أكبر، وهذه المسألة وإن صدرت عن أسلافهم
لكنهم لما كانوا على سيرتهم في كل ما يأتون ويذرون أسند إليهم،
وجعله بعض المحققين من قبيل إسناد ما للسبب للمسبب، وجوز أن
يكون من إسناد فعل البعض إلى الكل بناء على كمال الاتحاد نحو:
قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي
فيكون المراد بضمير سَأَلُوا جميع أهل الكتاب لصدور السؤال عن
بعضهم، وأن يكون المراد بأهل الكتاب أيضا الجميع فيكون إسناد
يَسْئَلُكَ إلى أهل الكتاب من ذلك الإسناد، وأن يكون المراد
بهم هذا النوع ويكون المراد بيان قبائح النوع فلا تكلف ولا
تجوّز لا في جانب الضمير ولا في المرجع.
وأنت تعلم أن إسناد فعل البعض إلى الكل مما ألف في الكتاب
العزيز، ووقع في نحو ألف موضع.
وقرأ الحسن أكثر بالمثلثة فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ الذي أرسلك
جَهْرَةً أي مجاهرين معاينين فهو في موضع الحال من المفعول
الأول- كما قال أبو البقاء- ويحتمل الحالية من المفعول الثاني
أي معاينا على صيغة المفعول ولا لبس فيه لاستلزام كل منهما
للآخر، فلا يقال: إنه يتعين كونه حالا من الثاني لقربه منه.
وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف هو الرؤية لا الإرادة لأن الجهرة
في كتب اللغة صفة للأول لا الثاني فيقال التقدير أَرِنَا نره
رؤية جهرة، وقيل: يقدر المصدر الموصوف سؤالا أي سؤالا جهرة،
وقيل: قولا أي قولا جهرة، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن جرير وابن
المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية:
إنهم إذا رأوه فقد رأوه إنما قالوا جَهْرَةً أَرِنَا اللَّهَ
تعالى فهو مقدم ومؤخر- وفيه بعد- والفاء تفسيرية
فَأَخَذَتْهُمُ أي أهلكتهم لما سألوا وقالوا ما قالوا
الصَّاعِقَةُ وهي نار جاءت من السماء.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: الصَّاعِقَةُ الموت أماتهم
الله تعالى قبل آجالهم عقوبة بقولهم ما شاء الله تعالى أن
يميتهم، ثم بعثهم، وفي ثبوت ذلك تردد.
وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه- الصعقة- بِظُلْمِهِمْ
أي بسبب ظلمهم وهو تعنتهم وسؤالهم لما يستحيل في تلك الحالة
التي كانوا عليها، وإنكار طلب الكفار للرؤية تعنتا لا يقتضي
امتناعها مطلقا، واستدل الزمخشري بالآية على الامتناع مطلقا،
وبنى ذلك على كون الظلم المضاف إليهم لم يكن إلا لمجرد أنهم
طلبوا الرؤية ثم قال: ولو طلبوا أمرا جائزا لما سموا به ظالمين
ولما أخذتهم الصاعقة، كما سأل إبراهيم عليه الصلاة والسلام
إحياء الموتى فلم يسمه ظالما ولا رماه بالصواعق، ثم أرعد وأبرق
ودعا على مدعي جواز الرؤية بما هو به أحق.
وأنت تعلم أن الرجل قد استولى عليه الهوى فغفل عن كون اليهود
إنما سألوا تعنتا ولم يعتبروا المعجز من حيث هو مع أن المعجزات
سواسية الإقدام في الدلالة ويكفيهم ذلك ظلما، والتنظير بسؤال
إبراهيم عليه الصلاة والسلام من العجب العجاب كما لا يخفى على
ذوي الألباب ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ وعبدوه.
مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي المعجزات التي
أظهرها لفرعون من العصا واليد البيضاء، وفلق البحر وغيرها، أو
الحجج الواضحة الدالة على ألوهيته تعالى ووحدته لا التوراة
لأنها إنما نزلت عليهم بعد الاتخاذ فَعَفَوْنا
(3/182)
عَنْ ذلِكَ
الاتخاذ حين تابوا، وفي هذا على ما قيل: استدعاء لهم إلى
التوراة كأنه قيل: إن أولئك الذين أجرموا تابوا فعفونا عنهم
فتوبوا أنتم أيضا حتى نعفو عنكم.
وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً أي تسلطا ظاهرا عليهم حين
أمرهم أن يقتلوا أنفسهم توبة عن اتخاذهم، وهذا على ما قيل: وإن
كان قبل العفو فإن الأمر بالقتل كان قبل التوبة لأن قبول القتل
كان توبة لهم، لكن الواو لا تقتضي الترتيب، واستظهر أن لا يجعل
التسلط ذلك التسلط بل تسلطا بعد العفو حيث انقادوا له ولم
يتمكنوا بعد ذلك من مخالفته وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ
وهو ما روي عن قتادة جبل كانوا في أصله فرفعه الله تعالى فجعله
فوقهم كأنه ظلة، وكان كمعسكرهم قدر فرسخ في فرسخ وليس هو- على
ما في البحر- الجبل المعروف بطور سيناء، والظرف متعلق- برفعنا-
وجوز أن يكون حالا من الطور أي رفعنا الطور كائنا فوقهم
بِمِيثاقِهِمْ أي بسبب ميثاقهم ليعطوه- على ما روي- أنهم
امتنعوا عن قبول شريعة التوراة فرفع عليهم فقبلوها، أو ليخافوا
فلا ينقضوا الميثاق- على ما روي- أنهم هموا بنقضه فرفع عليهم
الجبل فخافوا وأقلعوا عن النقض، قيل: وهو الأنسب بقوله تعالى:
وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [الأحزاب: 7] ، وزعم
الجبائي أن المراد بنقض ميثاقهم الذي أخذ عليهم بأن يعملوا بما
في التوراة فنقضوه بعبادة العجل، وفيه أن التوراة إنما نزلت
بعد عبادتهم العجل كما مر آنفا فلا يتأتى هذا، وقال أبو مسلم:
إنما رفع الله تعالى الجبل فوقهم إظلالا لهم من الشمس جزاء
لعهدهم وكرامة لهم، ولا يخفى أن هذا خرق لإجماع المفسرين، وليس
له مستند أصلا.
وَقُلْنا لَهُمُ على لسان يوشع عليه السلام بعد مضي زمان التيه
ادْخُلُوا الْبابَ قال قتادة فيما رواه ابن المنذر وغيره عنه:
كنا نتحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس، وقيل: هو إيلياء،
وقيل: أريحا، وقيل: هو اسم قرية، أو قُلْنا لَهُمُ على لسان
موسى عليه السلام والطور مظل عليهم ادْخُلُوا الْبابَ المذكور
إذا خرجتم من التيه، أو باب القبة التي كانوا يصلون إليها
لأنهم لم يخرجوا من التيه في حياته عليه السلام، والظاهر عدم
القيد سُجَّداً متطامنين خاضعين، وعن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما ركعا، وقيل: ساجدين على جباهكم شكرا لله تعالى وَقُلْنا
لَهُمُ على لسان داود عليه السلام لا تَعْدُوا أي لا تتجاوزوا
ما أبيح لكم أو لا تظلموا باصطياد الحيتان فِي السَّبْتِ
ويحتمل- كما قال القاضي بيض الله تعالى غرة أحواله- أن يراد
على لسان موسى عليه السلام حين ظلل الجبل عليهم فإنه شرع السبت
لكن كان الاعتداء فيه، والمسخ في زمن داود عليه السلام، وقرأ
ورش عن نافع لا تَعْدُوا بفتح العين وتشديد الدال، وروي عن
قالون تارة سكون العين سكونا محضا، وتارة إخفاء فتحة العين،
فأما الأول فأصلها- تعتدوا- لقوله تعالى: اعْتَدَوْا مِنْكُمْ
فِي السَّبْتِ [البقرة: 65] فإنه يدل على أنه من الاعتداء وهو
افتعال من العدوان. فأريد إدغام تائه في الدال فنقلت حركتها
إلى العين وقلبت دالا وأدغمت، وأما السكون المحض فشيء لا يراه
النحويون لأنه جمع بين ساكنين على غير حدّهما، وأما الإخفاء
والاختلاس فهو أخف من ذلك لما أنه قريب من الإتيان بحركة ما،
وقرأ الأعمش «تعتدوا» على الأصل، وأصل تَعْدُوا في القراءة
المشهورة- تعدووا- بواوين الأولى واو الكلمة والثانية ضمير
الفاعل فاستثقلت الضمة على لام الكلمة فحذفت فالتقى ساكنان
فحذف الأول- وهو الواو الأولى- وبقي ضمير الفاعل وَأَخَذْنا
مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أي عهدا وثيقا مؤكدا بأن يأتمروا
بأوامر الله تعالى وينتهوا عن مناهيه، قيل: هو قولهم: سمعنا
وأطعنا وكونه مِيثاقاً ظاهر، وكونه غَلِيظاً يؤخذ من التعبير
بالماضي، أو من عطف الإطاعة على السمع بناء على تفسيره بها،
وفي أخذ ذلك مما ذكر خفاء لا يخفى، وحكي أنهم بعد أن قبلوا ما
كلفوا به من الدين أعطوا الميثاق على أنهم إن هموا بالرجوع عنه
فالله
(3/183)
تعالى يعذبهم بأي أنواع العذاب أراد، فإن
صح هذا كانت وكادة الميثاق في غاية الظهور، وزعم بعضهم أن هذا
الميثاق هو الميثاق الذي أخذه الله تعالى على الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام بالتصديق بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والإيمان
به، وهو المذكور في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ
النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ [آل عمران: 81] الآية، وكونه
غَلِيظاً باعتبار أخذه من كل نبي نبي من الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام، وأخذ كل واحد واحد له من أمته فهو ميثاق مؤكد متكرر،
ولا يخفى أنه خلاف الظاهر الذي يقتضيه السياق فَبِما
نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ في الكلام مقدر والجار والمجرور متعلق
بمقدر أيضا، والباء للسببية وما مزيد لتوكيدها، والإشارة إلى
أنها سببية قوية، وقد يفيد ذلك الحصر بمعونة المقام كما يفيده
التقديم على العامل إن التزم هنا، وجوز أن تكون- ما- نكرة
تامة، ويكون نَقْضِهِمْ بدلا منهما أي فخالفوا ونقضوا ففعلنا
بهم ما فعلنا بنقضهم، وإن شئت أخرت العامل.
واختار أبو حيان عليه الرحمة تقدير لعناهم مؤخرا لوروده مصرحا
به كذلك في قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ
لَعَنَّاهُمْ [المائدة: 13] ، وجوز غير واحد تعلق الجار-
بحرمنا- الآتي على أن قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ بدل من قوله
سبحانه: فَبِما نَقْضِهِمْ، وإليه ذهب الزجاج، وتعقبه في البحر
بأن فيه بعدا لكثرة الفواصل بين البدل والمبدل منه، ولأن
المعطوف على السبب سبب فيلزم تأخر بعض أجزاء السبب الذي
للتحريم عن التحريم، فلا يمكن أن يكون جزء سبب أو سببا إلا
بتأويل بعيد، وبيان ذلك أن قولهم- على مريم بهتانا عظيما-
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ، متأخر في الزمان عن
تحريم الطيبات عليهم، واستحسنه السفاقسي، ثم قال: وقد يتكلف
لحله بأن دوام التحريم في كل زمن كابتدائه، وفيه بحث، وجعل
العلامة الثاني الفاء في فَبِظُلْمٍ على هذا التقدير تكرارا
للفاء في فَبِما نَقْضِهِمْ عطفا على أخذنا منهم، أو جزاء شرط
مقدر، واستبعده أيضا من وجهين: لفظي ومعنوي، وبين الأول بطول
الفصل وبكونه من إبدال الجار والمجرور مع حرف العطف، أو الجزاء
مع القطع بأن المعمول هو الجار والمجرور فقط، والثاني بدلالته
على أن تحريم بعض الطيبات مسبب عن مثل هذه الجرائم العظيمة
ومترتب عليه، ثم قال: ولو جعلت الفاء للعطف على فَبِما
نَقْضِهِمْ كما في قولك: بزيد وبحسنه، أو فبحسنه أو ثم حسنه
افتتنت لم يحتج إلى جعله بدلا، وجوز أبو البقاء وغيره التعلق
بمحذوف دل عليه قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها
بِكُفْرِهِمْ ورد بأن ذلك لا يصلح مفسرا ولا قرينة للمحذوف،
أما الأول فلتعلقه بكلام آخر لأنه رد وإنكار لقولهم قُلُوبُنا
غُلْفٌ، وأما الثاني فلأنه استطراد يتم الكلام دونه وكونه
قرينة لما هو عمدة في الكلام يوجب أن لا يتم دونه.
والحاصل أنه لا بد للقرينة من التعلق المعنوي بسابقتها حتى
تصلح لذلك، ومنه يعلم أنه لا مورد للنظر بأن الطبعين متوافقان
في العروض، أحدهما بالكفر، والآخر بالنقض، وقيل: هو متعلق بلا
يؤمنون، والفاء زائدة، وقيل: بما دل عليه ولا يخفى ردّ ذلك
وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ أي حججه الدالة على صدق أنبيائه
عليهم الصلاة والسلام والقرآن، أو ما في كتابهم لتحريفه
وإنكاره وعدم العمل به.
وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ كزكريا ويحيى
عليهما السلام وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ جمع غلاف بمعنى
الظرف، وأصله غلف بضمتين فخفف، أي أوعية للعلم فنحن مستغنون
بما فيها عن غيره، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعطاء،
وقال الكلبي: يعنون أن قلوبنا بحيث لا يصل إليها شيء إلا وعته
ولو كان في حديثك شيء لوعته أيضا، ويجوز أن يكون جمع أغلف أي
هي مغشاة بأغشية خلقية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمد صلّى
الله عليه وسلّم فيكون كقوله تعالى: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي
أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت: 5] .
بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ كلام معترض بين
المعطوفين جيء به على وجه الاستطراد مسارعة إلى رد
(3/184)
زعمهم الفاسد، أي ليس الأمر كما زعمتم من
أنها أوعية العلم فإنها مطبوع عليها محجوبة من العلم لم يصل
إليها شيء منه كالبيت المقفل المختوم عليه، والباء للسببية،
وجوز أن تكون للآلة، ويجوز أن يكون المعنى ليس عدم وصول الحق
إلى قلوبكم لكونها في أكنة وحجب خلقية كما زعمتم بل لأن الله
تعالى ختم عليها بسبب كفركم الكسبي، وهذا الطبع بمعنى الخذلان
والمنع من التوفيق للتدبر في الآيات والتذكر بالمواعظ عند
الكثير وطبع حقيقي عند البعض، وأيد بما
أخرجه البزار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلّى
الله عليه وسلّم قال: «الطابع معلق بقائمة العرش فإذا انتهكت
الحرمة وعمل بالمعاصي واجترأ على الله تعالى بعث الله تعالى
الطابع فطبع على قلبه فلا يعقل بعد ذلك شيئا» وأخرجه البيهقي
أيضا في الشعب
إلا أنه ضعفه.
فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا نصب على أنه نعت لمصدر محذوف
أي إلا إيمانا قليلا فهو كالتصديق بنبوّة موسى عليه السلام وهو
غير مفيد لأن الكفر بالبعض كفر بالكل كما مر، أو صفة لزمان
محذوف أي زمانا قليلا، أو نصب على الاستثناء من ضمير فَلا
يُؤْمِنُونَ أي إِلَّا قَلِيلًا منهم كعبد الله بن سلام
وأضرابه، ورده السمين بأن الضمير عائد على المطبوع على قلوبهم،
ومن طبع على قلبه بالكفر لا يقع منه إيمان، وأجيب بأن المراد
بما مر الإسناد إلى الكل ما هو للبعض باعتبار الأكثر.
وقال عصام الملة: كما يجب استثناء القليل من عدم الإيمان
المتفرع على الطبع على قلوبهم يجب استثناء قليل من القلوب من
قلوبهم، فكأن المراد بل طبع الله تعالى على أكثرها فليفهم
وَبِكُفْرِهِمْ عطف على- بكفرهم- الذي قبله، ولا يتوهم أنه من
عطف الشيء على نفسه ولا فائدة فيه لأن المراد بالكفر المعطوف
الكفر بعيسى عليه السلام والمراد بالكفر المعطوف عليه، إما
الكفر المطلق أو الكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم لاقترانه
بقوله تعالى: قُلُوبُنا غُلْفٌ، وقد حكى الله عنهم هذه المقالة
في مواجهتهم له عليه الصلاة والسلام في مواضع، ففي العطف إيذان
بصلاحية كل من الكفرين للسببية.
وقد يعتبر في جانب المعطوف المجموع، ومغايرته للمفرد المعطوف
عليه ظاهرة، أو عطف على فَبِما نَقْضِهِمْ ويجوز اعتبار عطف
مجموع هذا وما عطف عليه على مجموع ما قبله، ولا يتوهم المحذور،
وإن قلنا باتحاد الكفر أيضا لمغايرة المجموع للمجموع وإن لم
يغاير بعض أجزائه بعضا، وقد يقال بمغايرة الكفر في المواضع
الثلاثة بحمله في الأخيرين على ما أشرنا إليه، وفي الأول على
الكفر بموسى عليه السلام لاقترانه بنقض الميثاق، وتقدم حديث
العدو في السبت وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً
لا يقادر قدره حيث نسبوها- وحاشاها- إلى ما هي عنه في نفسها
بألف ألف منزل، وتمادوا على ذلك غير مكترثين بقيام المعجزة
بالبراءة، والبهتان الكذب الذي يتحير من شدته وعظمه، ونصبه على
أنه مفعول به- لقولهم- وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي قولا
بهتانا، وقيل:
هو مصدر في موضع الحال أي مباهتين وَقَوْلِهِمْ على سبيل
التبجح.
إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ
اللَّهِ ذكروه بعنوان الرسالة تهكما واستهزاء كما في قوله
تعالى حكاية عن الكفار: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ
الذِّكْرُ [الحجر: 6] إلخ، ويحتمل أن يكون ذلك منهم بناء على
قوله عليه الصلاة والسلام وإن لم يعتقدوه، وقيل: إنهم وصفوه
بغير ذلك من صفات الذم فغير في الحكاية، فيكون من الحكاية لا
من المحكي، وقيل: هو استئناف منه مدحا له عليه الصلاة والسلام
ورفعا لمحله وإظهارا لغاية جراءتهم في تصديهم لقتله ونهاية
وقاحتهم في تبجحهم وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ حال أو
اعتراض وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ روي عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما- أن رهطا من اليهود سبوه عليه السلام وأمه فدعا عليهم
فمسخوا قردة وخنازير فبلغ
(3/185)
ذلك يهوذا رأس اليهود فخاف فجمع اليهود
فاتفقوا على قتله فساروا إليه ليقتلوه فأدخله جبريل عليه
السلام بيتا ورفعه منه إلى السماء ولم يشعروا بذلك فدخل عليه
طيطانوس ليقتله فلم يجده وأبطأ عليهم وألقى الله تعالى عليه
شبه عيسى عليه السلام فلما خرج قتلوه وصلبوه.
وقال وهب بن منبه في خبر طويل رواه عنه ابن المنذر: «أتى عيسى
عليه السلام ومعه سبعة وعشرون من الحواريين في بيت فأحاطوا بهم
فلما دخلوا عليهم صيرهم الله تعالى كلهم على صورة عيسى عليه
السلام فقالوا لهم:
سحرتمونا ليبرزن لنا عيسى عليه السلام أو لنقتلنكم جميعا فقال
عيسى لأصحابه: من يشتري نفسه منكم اليوم بالجنة؟
فقال رجل منهم: أنا فخرج إليهم فقال: أنا عيسى فقتلوه وصلبوه
ورفع الله تعالى عيسى عليه السلام» ،
وبه قال قتادة والسدي ومجاهد وابن إسحاق، وإن اختلفوا في عدد
الحواريين ولم يذكر أحد غير وهب أن شبهه عليه السلام ألقي على
جميعهم بل قالوا: ألقي شبهه على واحد ورفع عيسى عليه السلام من
بينهم.
ورجح الطبري قول وهب، وقال: إنه الأشبه، وقال أبو علي الجبائي:
إن رؤساء اليهود أخذوا إنسانا فقتلوه وصلبوه على موضع عال ولم
يمكنوا أحدا من الدنو منه فتغيرت حليته، وقالوا: إنا قتلنا
عيسى ليوهموا بذلك على عوامهم لأنهم كانوا أحاطوا بالبيت الذي
به عيسى عليه السلام فلما دخلوه ولم يجدوه فخافوا أن يكون ذلك
سببا لإيمان اليهود ففعلوا ما فعلوا، وقيل: كان رجل من
الحواريين ينافق عيسى عليه السلام فلما أرادوا قتله قال: أنا
أدلكم عليه وأخذ على ذلك ثلاثين درهما فدخل بيت عيسى عليه
السلام فرفع عليه السلام وألقى شبهه على المنافق فدخلوا عليه
فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى عليه السلام، وقيل: غير ذلك،
وشُبِّهَ مسند إلى الجار والمجرور، والمراد وقع لهم تشبيه بين
عيسى عليه السلام ومن صلب، أو في الأمر- على قول الجبائي- أو
هو مسند إلى ضمير المقتول الذي دل عليه إنا قتلنا أي شُبِّهَ
لَهُمْ من قتلوه بعيسى عليه السلام، أو الضمير للأمر وشُبِّهَ
من الشبهة أي التبس عليهم الأمر بناء على ذلك القول، وليس
المسند إليه ضمير المسيح عليه الصلاة والسلام لأنه مشبه به لا
مشبه وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أي في شأن عيسى عليه
السلام فإنه لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس فقال بعضهم: إنه
كان كاذبا فقتلناه حقا، وتردد آخرون فقال بعضهم: إن كان هذا
عيسى فأين صاحبنا، وإن كان صاحبنا فأين عيسى؟! وقال بعضهم:
الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا، وقال من سمع منه- إن الله
تعالى يرفعني إلى السماء- إنه رفع إلى السماء، وقالت النصارى
الذين يدعون ربوبيته عليه السلام: صلب الناسوت وصعد اللاهوت،
ولهذا لا يعدون القتل نقيصة حيث لم يضيفوه إلى اللاهوت ويرد
هؤلاء أن ذلك يمتنع عنه اليعقوبية القائلين: إن المسيح قد صار
بالاتحاد طبيعة واحدة إذ الطبيعة الواحدة لم يبق فيها ناسوت
متميز عن لاهوت والشيء الواحد لا يقال: مات ولم يمت، وأهين ولم
يهن.
وأما الروم القائلون: بأن المسيح بعد الاتحاد باق على طبيعتين،
فيقال لهم: فهل فارق اللاهوت ناسوته عند القتل؟ فإن قالوا:
فارقه فقد أبطلوا دينهم، فلم يستحق المسيح الربوبية عندهم إلا
بالاتحاد، وإن قالوا: لم يفارقه فقد التزموا ما ورد على
اليعقوبية وهو قتل اللاهوت مع الناسوت، وإن فسروا الاتحاد
بالتدرع وهو أن الإله جعله مسكنا وبيتا ثم فارقه عند ورود ما
ورد على الناسوت أبطلوا إلهيته في تلك الحالة، وقلنا لهم: أليس
قد أهين؟ وهذا القدر يكفي في إثبات النقيصة إذ لم يأنف اللاهوت
لمسكنه أن تناله هذه النقائص، فإن كان قادرا على نفيها فقد
أساء مجاورته ورضي بنقيصته وذلك عائد بالنقص عليه في نفسه، وإن
لم يكن قادرا فذلك أبعد له عن عز الربوبية، وهؤلاء ينكرون
إلقاء الشبه، ويقولون: لا يجوز ذلك لأنه إضلال، ورده أظهر من
أن يخفى، ويكفي في إثباته أنه لو لم يكن ثابتا
(3/186)
لزم تكذيب المسيح، وإبطال نبوته بل وسائر
النبوات على أن قولهم في الفصل: إن المصلوب قال: إلهي إلهي لم
تركتني وخذلتني، وهو ينافي الرضا بمرّ القضا ويناقض التسليم
لأحكام الحكيم، وأنه شكا العطش وطلب الماء والإنجيل مصرح بأن
المسيح كان يطوي أربعين يوما وليلة إلى غير ذلك مما لهم فيه إن
صح مما ينادي على أن المصلوب هو الشبه كما لا يخفى.
فالمراد من الموصول ما يعم اليهود والنصارى جميعا لَفِي شَكٍّ
مِنْهُ أي لفي تردد، وأصل- الشك- أن يستعمل في تساوي الطرفين
وقد يستعمل في لازم معناه، وهو التردد مطلقا وإن لم يترجح أحد
طرفيه وهو المراد هنا ولذا أكده بنفي العلم الشامل لذلك أيضا
بقوله سبحانه: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ
الظَّنِّ والاستثناء منقطع، أي لكنهم يتبعون الظن.
وجوز أن يفسر الشك بالجهل، والعلم بالاعتقاد الذي تسكن إليه
النفس جزما كان أو غيره فالاستثناء حينئذ متصل، وإليه ذهب ابن
عطية إلا أنه خلاف المشهور، وما قيل: إن اتباع الظن ليس من
العلم قطعا فلا يتصور اتصاله فمدفوع بأن من قال به جعله بمعنى
الظن المتبع وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً الضمير لعيسى عليه السلام
كما هو الظاهر أي ما قتلوه قتلا يقينا، أو متيقنين، ولا يرد أن
نفي القتل المتيقن يقتضي ثبوت القتل المشكوك لأنه لنفي القيد
ولا مانع من أنه قتل في ظنهم فإنه يقتضي أنه ليس في نفس الأمر
كذلك فلا حاجة إلى التزام جعل يقينا مفعولا مطلقا لفعل محذوف،
والتقدير تيقنوا ذلك يقينا، وقيل: هو راجع إلى العلم وإليه ذهب
الفراء وابن قتيبة أي وما قتلوا العلم يَقِيناً من قولهم: قتلت
العلم والرأي، وقتلت كذا علما إذا تبالغ علمك فيه، وهو مجاز
كما في الأساس، والمعنى ما علموه يقينا، وقيل: الضمير للظن أي
ما قطعوا الظن يَقِيناً ونقل ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما والسدي، وحكى ابن الأنباري أن في الكلام تقديما وتأخيرا،
وأن يَقِيناً متعلق بقوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ
إِلَيْهِ أي بل رفعه سبحانه إليه يقينا، ورده في البحر بأنه قد
نص الخليل على أنه لا يعمل ما بعد بل فيما قبلها، والكلام ردّ
وإنكار لقتله وإثبات لرفعه عليه الصلاة والسلام، وفيه تقدير
مضاف عند أبي حيان أي إلى سمائه، قال: وهو حي في السماء
الثانية على ما صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث
المعراج، وهو هنالك مقيم حتى ينزل إلى الأرض يقتل الدجال
ويملؤها عدلا كما ملئت جورا ثم يحيا فيها أربعين سنة أو تمامها
من سنّ رفعه، وكان إذ ذاك ابن ثلاث وثلاثين سنة ويموت كما تموت
البشر ويدفن في حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو في بيت
المقدس، وقال قتادة: رفع الله تعالى عيسى عليه السلام إليه
فكساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار مع
الملائكة فهو معهم حول العرش فصار إنسيا ملكيا سماويا أرضيا،
وهذا الرفع على المختار كان قبل صلب الشبه، وفي إنجيل لوقا ما
يؤيده وأما رؤية بعض الحواريين له عليه السلام بعد الصلب فهو
من باب تطور الروح، فإن للقدسيين قوة التطور في هذا العالم وإن
رفعت أرواحهم إلى المحل الأسنى، وقد وقع التطور لكثير من
أولياء هذه الأمة، وحكاياتهم في ذلك يضيق عنها نطاق الحصر
وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً لا يغالب فيما يرده حَكِيماً في جميع
أفعاله فيدخل فيه تدبيراته سبحانه في أمر عيسى عليه السلام
وإلقاء الشبه على من ألقاه دخولا أوليا وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ أي اليهود خاصة كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما، أو هم والنصارى كما ذهب إليه كثير من
المفسرين وَإِنْ نافية بمعنى ما، وفي الجار والمجرور وجهان:
أحدهما أنه صفة لمبتدأ محذوف، وقوله تعالى: إِلَّا
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ جملة قسمية، والقسم مع
جوابه خبر المبتدأ ولا يرد عليه أن القسم إنشاء لأن المقصود
بالخبر جوابه وهو خبر مؤكد بالقسم، ولا ينافيه كون جواب القسم
لا محل له لأن ذلك من حيث كونه جوابا فلا يمتنع كونه له محل
باعتبار آخر لو سلم
(3/187)
أن الخبر ليس هو المجموع، والتقدير وما أحد
من أهل الكتاب إلا والله ليؤمنن به، والثاني أنه متعلق بمحذوف
وقع خبرا لذلك المبتدأ، وجملة القسم صفة له لا خبر، والتقدير
وإن أحد إلا ليؤمنن به كائن من أهل الكتاب ومعناه كل رجل يؤمن
به قبل موته من أهل الكتاب، وهو كلام مفيد، فالاعتراض على هذا
الوجه- بأنه لا ينتظم من أحد والجار والمجرور إسناد لأنه لا
يفيد- لا يفيد لحصول الفائدة بلا ريب، نعم المعنى على الوجه
الأول كل رجل من أهل الكتاب يؤمن به قبل موته، والظاهر أنه
المقصود، وأنه أتم فائدة، والاستثناء مفرغ من أعم الأوصاف،
وأهل الكوفة يقدرون موصولا بعد إلا، وأهل البصرة يمنعون حذف
الموصول وإبقاء صلته، والضمير الثاني راجع للمبتدأ المحذوف
أعني أحد والأول لعيسى عليه السلام فمفاد الآية أن كل يهودي
ونصراني يؤمن بعيسى عليه السلام قبل أن تزهق روحه
بأنه عبد الله تعالى ورسوله، ولا ينفعه إيمانه حينئذ لأن ذلك
الوقت لكونه ملحقا بالبرزخ لما أنه ينكشف عنده لكل الحق ينقطع
فيه التكليف، ويؤيد ذلك أنه قرأ أبي- ليؤمنن به قبل موتهم- بضم
النون وعود ضمير الجمع لأحد ظاهر لكونه في معنى الجمع، وعوده
لعيسى عليه السلام غير ظاهر.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه
فسر الآية كذلك فقيل له: أرأيت إن خرّ من فوق بيت؟ قال: يتكلم
به في الهواء، فقيل: أرأيت إن ضرب عنقه؟ قال: يتلجلج بها
لسانه.
وأخرج ابن المنذر أيضا عن شهر بن حوشب قال: قال لي الحجاج: يا
شهر آية من كتاب الله تعالى ما قرأتها إلا اعترض في نفسي منها
شيء قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وإني أوتى بالأسارى فأضرب
أعناقهم ولا أسمعهم يقولون شيئا فقلت: رفعت إليك على غير وجهها
إن النصراني إذا خرجت روحه- أي إذا قرب خروجها كما تدل عليه
رواية أخرى عنه- ضربته الملائكة من قبله ومن دبره، وقالوا: أي
خبيث إن المسيح الذي زعمت أنه الله تعالى، وأنه ابن الله
سبحانه، وأنه ثالث ثلاثة عبد الله وروحه وكلمته، فيؤمن به حين
لا ينفعه إيمانه، وأن اليهودي إذا خرجت نفسه ضربته الملائكة من
قبله ودبره، وقالوا: أي خبيث إن المسيح الذي زعمت أنك قتلته
عبد الله وروحه فيؤمن به حين لا ينفعه الإيمان، فإذا كان عند
نزول عيسى آمنت به أحياؤهم كما آمنت به موتاهم، فقال:
من أين أخذتها؟ فقلت: من محمد بن علي، قال: لقد أخذتها من
معدنها، قال شهر: وايم الله تعالى ما حدثنيه إلا أم سلمة،
ولكني أحببت أن أغيظه، والإخبار بحالهم هذه وعيد لهم وتحريض
إلى المسارعة إلى الإيمان به قبل أن يضطروا إليه مع انتفاء
جدواه، وقيل: الضميران لعيسى عليه السلام، وروي ذلك عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا وأبي مالك والحسن وقتادة وابن
زيد، واختاره الطبراني، والمعنى أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب
الموجودين عند نزول عيسى عليه السلام إلا ليؤمنن به قبل أن
يموت وتكون الأديان كلها دينا واحدا،
وأخرج أحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم: ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير
ويمحو الصليب وتجمع له الصلاة ويعطي المال حتى لا يقبل. ويضع
الخراج وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما»
قال: وتلا أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وقيل:
الضمير الأول لله تعالى ولا يخفى بعده، وأبعد من ذلك أنه لمحمد
صلّى الله عليه وسلّم، وروي هذا عن عكرمة، ويضعفه أنه لم يجر
له عليه الصلاة والسلام ذكر هنا، ولا ضرورة توجب رد الكناية
إليه، لا أنه- كما زعم الطبري- لو كان صحيحا لما جاز إجراء
أحكام الكفار على أهل الكتاب بعد موتهم لأن ذلك الإيمان إنما
هو في حال زوال التكليف فلا يعتد به وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
يَكُونُ أي عيسى عليه السلام عَلَيْهِمْ أي أهل الكتاب
شَهِيداً فيشهد على اليهود بتكذيبهم إياه وعلى النصارى بقولهم
فيه: إنه ابن الله تعالى، والظرف متعلق- بشهيدا- وتقديمه يدل
على جواز تقديم خبر كان مطلقا، أو إذا كان ظرفا أو مجرورا لأن
(3/188)
المعمول إنما يتقدم حيث يصح تقديم عامله،
وجوز أبو البقاء كون العامل فيه يكون.
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا أي تابوا من عبادة العجل،
والتعبير عنهم بهذا العنوان إيذان بكمال عظم ظلمهم بتذكير
وقوعه بعد تلك التوبة الهائلة إثر بيان عظمه بالتنوين التفخيمي
أي بسبب ظلم عظيم خارج عن حدود الأشياء والنظائر صادر عنهم
حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ولمن قبلهم
لا لشيء غيره كما زعموا، فإنهم كانوا كلما ارتكبوا معصية من
المعاصي التي اقترفوها يحرم عليهم نوع من الطيبات التي كانت
محللة لهم ولمن تقدمهم من أسلافهم عقوبة لهم، ومع ذلك كانوا
يفترون على الله تعالى الكذب ويقولون: لسنا بأول من حرمت عليه
وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعدهما عليهم الصلاة
والسلام حتى انتهى الأمر إلينا فكذبهم الله تعالى في مواقع
كثيرة وبكتهم بقوله سبحانه: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا
لِبَنِي إِسْرائِيلَ [آل عمران: 93] الآية، وقد تقدم الكلام
فيها، وذهب بعض المفسرين أن المحرم عليهم ما سيأتي إن شاء الله
تعالى في الأنعام مفصلا.
واستشكل بأن التحريم كان في التوراة ولم يكن حينئذ كفر بمحمد
صلّى الله عليه وسلّم، وبعيسى عليه السلام ولا ما أشار إليه
قوله تعالى: وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً أي
ناسا كثيرا، أو صدا، أو زمانا كثيرا وقيل في جوابه: إن المراد
استمرار التحريم فتدبر ولا تغفل، وهذا معطوف على الظلم وجعله،
وكذا ما عطف عليه في الكشاف بيانا له، وهو- كما قال بعض
المحققين- لدفع ما يقال: إن العطف على المعمول المتقدم ينافي
الحصر، ومن جعل الظلم بمعناه وجعل بِصَدِّهِمْ متعلقا بمحذوف
فلا إشكال عليه، ومن هذا يعلم تخصيص ما ذكره أهل المعاني من
أنه مناف للحصر بما إذا لم يكن الثاني بيانا للأول كما إذا
قلت: بذنب ضربت زيدا وبسوء أدبه، فإن المراد فيه لا بغير ذنب،
وكذا خصصوا ذلك بما إذا لم يكن الحصر مستفادا من غير التقديم،
وأعيدت الباء هنا ولم تعد في قوله تعالى:
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ لأنه فصل بين
المعطوف والمعطوف عليه بما ليس معمولا للمعطوف عليه، وحيث فصل
بمعموله لم تعد، وجملة وَقَدْ نُهُوا حالية، وفي الآية دلالة
على أن الربا كان محرما عليهم كما هو محرم علينا، وأن النهي
يدل على حرمة المنهي عنه، وإلا لما توعد سبحانه على مخالفته
وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ بالرشوة وسائر
الوجوه المحرمة وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ أي
للمصرين على الكفر لا لمن تاب وآمن من بينهم- كعبد الله بن
سلام وأضرابه- عَذاباً أَلِيماً سيذوقونه في الآخرة كما ذاقوا
في الدنيا عقوبة التحريم، وذكر في البحر أن التحريم كان عاما
للظالم وغيره، وأنه من باب وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:
25] دون العذاب، ولذا قال سبحانه: لِلْكافِرِينَ دون- لهم-
وإلى ذلك ذهب الجبائي أيضا فتدبر لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ مِنْهُمْ استدراك من قوله سبحانه: وَأَعْتَدْنا إلخ،
وبيان لكون بعضهم على خلاف حالهم عاجلا وآجلا، ومِنْهُمْ في
موضع الحال أي لكن الثابتون المتقنون منهم في العلم المستبصرون
فيه غير التابعين للظن كأولئك الجهلة، والمراد بهم عبد الله بن
سلام وأسيد وثعلبة وأضرابهم، وفي المذكورين نزلت الآية كما
أخرجه البيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
وَالْمُؤْمِنُونَ أي منهم، وإليه يشير كلام قتادة، وقد وصفوا
بالإيمان بعد ما وصفوا بما يوجبه من الرسوخ في العلم بطريق
العطف المبني على المغايرة بين المتعاطفين تنزيلا للاختلاف
العنواني منزلة الاختلاف الذاتي كما مر، وقوله سبحانه:
يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن وَما أُنْزِلَ
مِنْ قَبْلِكَ من الكتب على الأنبياء والرسل حال من- المؤمنون-
مبينة لكيفية إيمانهم، وقيل: اعتراض مؤكد لما قبله، وقوله
تعالى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ قال سيبويه وسائر البصريين:
نصب على المدح، وطعن فيه الكسائي بأن النصب على المدح إنما
يكون بعد تمام الكلام، وهنا ليس كذلك لأن الخبر سيأتي، وأجيب
بأنه لا دليل على أنه لا
(3/189)
يجوز الاعتراض بين المبتدأ وخبره، وحكى ابن
عطية عن قوم منع نصبه على القطع من أجل حرف العطف لأن القطع لا
يكون في العطف وإنما يكون في النعوت، ومن ادعى أن هذا من باب
القطع في العطف تمسك بما أنشده سيبويه للقطع مع حرف العطف من
قوله:
ويأوي إلى نسوة عطل ... وشعثا مراضيع مثل السعالي
وقال الكسائي: هو مجرور بالعطف على بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ على
أن المراد بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قيل: وليس
المراد بإقامة الصلاة على هذا أداؤها بل إظهارها بين الناس
وتشريعها ليكون وصفا خاصا، وقيل: المراد بالمقيمين الملائكة
لقوله تعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا
يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 20] ، وقيل: المسلمون بتقدير مضاف أي
وبدين المقيمين، وقال قوم: إنه معطوف على ضمير مِنْهُمْ، وقيل
ضمير إِلَيْكَ، وقيل: ضمير قَبْلِكَ والبصريون لا يجيزون هذه
الأوجه الثلاثة لما فيها من العطف على الضمير المجرور من غير
إعادة الجار، وقد تقدم الكلام في ذلك، وزعم بعض المتأخرين أن
الأشبه نصبه على التوهم لكون السابق مقام- لكن- المثقلة وضع
موضعها لكِنِ المخففة، ولا يخفى ما فيه، وبالجملة لا يلتفت إلى
من زعم أن هذا من لحن القرآن، وأن الصواب والمقيمون بالواو كما
في مصحف عبد الله، وهي قراءة مالك بن دينار والجحدري وعيسى
الثقفي إذ لا كلام في نقل النظم تواترا فلا يجوز اللحن فيه
أصلا، وأما ما روي أنه لما فرغ من المصحف أتى به إلى عثمان رضي
الله تعالى عنه فقال: قد أحسنتم وأجملتم أرى شيئا من لحن
ستقيمه العرب بألسنتها، ولو كان المملي من هذيل والكاتب من
قريش لم يوجد فيه هذا، فقد قال السخاوي: إنه ضعيف، والإسناد
فيه اضطراب وانقطاع فإن عثمان رضي الله تعالى عنه جعل للناس
إماما يقتدون به، فكيف يرى فيه لحنا ويتركه لتقيمه العرب
بألسنتها، وقد كتب عدة مصاحف وليس فيها اختلاف أصلا إلا فيما
هو من وجوه القراءات، وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع وهم هم
كيف يقيمه غيرهم؟! وتأول قوم اللحن في كلامه على تقدير صحته
عنه بأن المراد الرمز والإيماء كما في قوله:
منطق رائع وتلحن أحيا ... نا وخير الكلام ما كان لحنا
أي المراد به الرمز بحذف بعض الحروف خطا كألف الصابرين مما
يعرفه القراء إذا رأوه، وكذا زيادة بعض الحروف وقد قدمنا لك ما
ينفعك هنا فتذكر.
ثم الظاهر أن المقيمين على قراءة الرفع معطوف على سابقه وينزل
أيضا التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي، والعطف على ضمير
يُؤْمِنُونَ ليس بشيء وكذا الحال في قوله تعالى:
وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فإن المراد بالكل مؤمنو أهل الكتاب وصفوا
أولا بكونهم راسخين في علم الكتاب لا يعترضهم شك ولا تزلزلهم
شبهة إيذانا بأن ذلك موجب للإيمان وأن من عداهم إنما بقوا
مصرين لعدم رسوخهم فيه، بل هم كريشة في بيداء الضلال تقلبهم
زعازع الشكوك والأوهام، ثم بكونهم مؤمنين بجميع ما أنزل من
الكتاب على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم بكونهم عاملين
بما فيها من الأحكام، واكتفى من بينها بذكر إقامة الصلاة
وإيتاء الزكاة المستتبعين لسائر العبادات البدنية والمالية،
ولما أن في إقامة الصلاة على وجهها انتصابا بين يدي الحق جل
جلاله، وانقطاعا عن السوي، وتوجها إلى المولى كسا المقيمين حلة
النصب ليهون عليهم النصب وقطعهم عن التبعية، فيا ما أحيلى قطع
يشير إلى الاتصال بأعلى الرتب، ثم وصفهم بكونهم بالمبتدأ
والمعاد تحقيقا لحيازتهم الإيمان بقطريه، وإحاطتهم به من
طرفيه، وتعريضا بأن من عداهم من أهل الكتاب ليسوا مؤمنين بواحد
منهما حقيقة لأنهم قد مزجوا الشهد سما وغدوا عن اتباع الحق
الصرف عميا وصما أُولئِكَ إشارة إلى
(3/190)
الموصوفين بما تقدم من الصفات الجليلة
الشأن المحكمة البنيان، وهو مبتدأ وقوله تعالى: سَنُؤْتِيهِمْ
أَجْراً عَظِيماً خبره، والجملة خبر المبتدأ الذي هو الراسخون،
والسين لتوكيد الوعد كما قدمنا، وتنكير الأجر للتفخيم كما مر
غير مرة، ولا يخفى ما في هذا من المناسبة التامة بين طرفي
الاستدراك حيث أوعد الأولون بالعذاب الأليم، ووعد الآخرون
بالأجر العظيم، وجوز غير واحد من المفسرين كون خبر المبتدأ
الأول جملة يُؤْمِنُونَ وحمل المؤمنين على أصحاب النبي صلّى
الله عليه وسلّم ممن عدا أهل الكتاب والمناسبة عليه غير تامة،
وذهب بعضهم إلى أن الاستدراك إنما هو من قوله تعالى:
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ [النساء: 153] الآية كأنه قيل:
لكن هؤلاء لا يسألونك ما يسألك هؤلاء الجهال من إنزال كتاب من
السماء لأنهم قد علموا صدق قولك فيما قرؤوا من الكتب المنزلة
على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ووجوب اتباعك عليهم فلا
حاجة بهم أن يسألوك معجزة أخرى إذ قد علموا من أمرك بالعلم
الراسخ في قلوبهم ما يكفيهم عن ذلك، وروي هذا عن قتادة وتجاوب
طرفي الاستدراك عليه أتم منه على قول الجمهور. وقرأ حمزة
«سيؤتيهم» بالياء مراعاة لظاهر قوله تعالى: الْمُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ.
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ
وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا من السماء، واحتجاج
عليهم بأن شأنه في الوحي كشأن سائر الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام الذين لا ريب في نبوّتهم، وقيل: هو تعليل لقوله تعالى:
الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.
وأخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:
«قال سكين وعدي بن زيد: يا محمد ما نعلم الله تعالى أنزل على
بشر من شيء بعد موسى عليه السلام فأنزل الله تعالى هذه الآية»
والكاف في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي إيحاء مثل
إيحائنا إلى نوح عليه السلام، أو حال من ذلك المصدر المقدر
معرفا كما هو رأي سيبويه أي إنا أوحينا الإيحاء مشبها بإيحائنا
إلخ، وما في الوجهين مصدرية.
وجوّز أبو البقاء أن تكون موصولة فيكون الكاف مفعولا به أي
أوحينا إليك مثل الذي أوحيناه إلى نوح من التوحيد وغيره وليس
بالمرضي: ومِنْ بعده متعلق- بأوحينا- ولم يجوّزوا أن يكون حالا
من النبيين لأن ظروف الزمان لا تكون أحوالا للجثث، وبدأ سبحانه
بنوح عليه السلام تهديدا لهم لأنه أول نبي عوقب قومه، وقيل:
لأنه أول من شرع الله تعالى على لسانه الشرائع والأحكام، وتعقب
بالمنع، وقيل: لمشابهته بنبينا صلّى الله عليه وسلّم في عموم
الدعوة لجميع أهل الأرض، ولا يخلو عن نظر لأن عموم دعوته عليه
السلام اتفاقي لا قصدي، وعموم الفرق على القول به، وسيأتي إن
شاء الله تعالى تحقيقه ليس قطعي الدلالة على ذلك كما لا يخفى.
وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ عطف على أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ
داخل معه في حكم التشبيه أي كما أوحينا إلى إبراهيم
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وهم أولاد
يعقوب عليه السلام في المشهور، وقال غير واحد:
إن الأسباط في ولد إسحاق كالقبائل في أولاد إسماعيل، وقد بعث
منهم عدة رسل، فيجوز أن يكون أراد سبحانه بالوحي إليهم الوحي
إلى الأنبياء منهم كما تقول: أرسلت إلى بني تميم، وتريد أرسلت
إلى وجوههم، ولم يصح أن الأسباط الذين هم إخوة يوسف عليه
السلام كانوا أنبياء بل الذي صح عندي- وألف فيه الجلال السيوطي
رسالة- خلافه وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ
وَسُلَيْمانَ ذكروا مع ظهور انتظامهم في سلك النبيين تشريفا
لهم وإظهارا لفضلهم على ما هو المعروف في ذكر الخاص بعد العام
في مثل هذا المقام، وتكرير الفعل لمزيد تقرير الإيحاء والتنبيه
على أنهم طائفة خاصة مستقلة بنوع مخصوص من الوحي، وبدأ بذكر
إبراهيم بعد التكرير لمزيد شرفه ولأنه الأب الثالث للأنبياء
عليهم الصلاة والسلام كما نص عليه الأجهوري وغيره، وقدم عيسى
عليه السلام على من بعده تحقيقا
(3/191)
لنبوته وقطعا لما رآه اليهود فيه، وقيل:
ليكون الابتداء بواحد من أولي العزم بعد تغير صفة المتعاطفات
إفرادا وجمعا وكل هذه الأسماء- على ما ذكره أبو البقاء- أعجمية
إلا الأسباط، وفي ذلك خلاف معروف، وفي يُونُسَ لغات أفصحها ضم
النون من غير همز، ويجوز فتحها وكسرها مع الهمز وتركه
وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً عطف على أوحينا داخل في حكمه لأن
إيتاء الزبور من باب الإيحاء، وكما آتينا داود زبورا- وإيثاره
على أوحينا إلى داود- لتحقق المماثلة في أمر خاص، وهو إيتاء
الكتاب بعد تحققها في مطلق الإيحاء والزبور بفتح الزاي عند
الجمهور وهو فعول بمعنى مفعول- كالحلوب والركوب- كما نص عليه
أبو البقاء.
وقرأ حمزة وخلف زَبُوراً بضم الزاي حيث وقع، وهو جمع زبر بكسر
فسكون بمعنى مزبور أي مكتوب، أو زبر بالفتح والسكون كفلس
وفلوس، وقيل: إنه مصدر كالقعود والجلوس، وقيل: إنه جمع زبور
على حذف الزوائد، وعلى العلات جعل اسما للكتاب المنزل على داود
عليه السلام، وكان إنزاله عليه عليه السلام منجما وبذلك يحصل
الإلزام، وكان فيه- كما قال القرطبي- مائة وخمسون سورة ليس
فيها حكم من الأحكام، وإنما هي حكم ومواعظ والتحميد والتمجيد
والثناء على الله تعالى شأنه وَرُسُلًا نصب بمضمر أي أرسلنا
رسلا والقرينة عليه قوله سبحانه:
أَوْحَيْنا السابق لاستلزامه الإرسال، وهو معطوف عليه داخل معه
في حكم التشبيه، وقيل: القرينة قوله تعالى: قَدْ قَصَصْناهُمْ
عَلَيْكَ لا أنه منصوب- بقصصنا- بحذف مضاف أي قصصنا أخبار رسل،
ولا أنه منصوب بنزع الخافض أي كما أوحينا إلى نوح وإلى رسل-
كما قيل- لخلوه عما في الوجه الأول من تحقيق المماثلة بين شأنه
صلّى الله عليه وسلّم وبين شؤون من يعترفون بنبوته من الأنبياء
عليهم السلام في مطلق الإيحاء، ثم في إيتاء الكتاب، ثم في
الإرسال، فإن قوله سبحانه: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ منتظم
لمعنى آتَيْناكَ وأَرْسَلْناكَ حتما فكأنه قيل: إنا أوحينا
إليك كما أوحينا إلى فلان وفلان، وآتيناك مثل ما آتينا فلانا،
وأرسلناك مثل ما أرسلنا الرسل الذي قصصناهم وغيرهم ولا تفاوت
بينك وبينهم في حقيقة الإيحاء والإرسال فما للكفرة يسألونك
شيئا لم يعطه أحد من هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومعنى
قصصهم عليه عليه الصلاة والسلام حكاية إخبارهم له وتعريف شأنهم
وأمورهم مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذه السورة، أو اليوم، قيل:
قصصهم عليه صلّى الله عليه وسلّم بمكة في سورة الأنعام وغيرها،
وقال بعضهم: قصهم سبحانه عليه عليه الصلاة والسلام بالوحي في
غير القرآن ثم قصهم عليهم بعد في القرآن وَرُسُلًا لَمْ
نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ أي من قبل فلا تنافي الآية ما ورد في
الخبر من أن الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر، والأنبياء مائة ألف
وأربعة وعشرون ألفا، وعن كعب أنهم ألف ألف وأربعمائة ألف
وأربعة وعشرون ألفا لأن نفي قصهم من قبل لا يستلزم نفي قصهم
مطلقا فإن نفي الخاص لا يستلزم نفي العام، فيمكن أن يكون قصهم
عليه صلّى الله عليه وسلّم بعد فعلمهم، فأخبر بما أخبر على أن
القبلية تفهم من الكلام ولو لم تكن في القابل لأن لَمْ في
المشهور إذا دخلت على المضارع تقلب معناه للمضي على أن القص
ذكر الأخبار، ولا يلزم من نفي ذكر أخبارهم له صلّى الله عليه
وسلّم نفي ذكر عددهم مجردا من ذكر الأخبار والقصص، فيمكن أن
يقال: لم يذكر سبحانه له صلّى الله عليه وسلّم أخبارهم أصلا
لكن ذكر جل شأنه له عليه الصلاة والسلام أنهم كذا رجلا فاندفع
ما توهمه بعض المعاصرين من أن الآية نص في عدم علمه «وحاشاه
عليه الصلاة والسلام» عدة المرسلين عليهم الصلاة والسلام فيأخذ
بها ويرد الحديث وكأن الذي أوقعه في الوهم كلام بعض المحققين.
والأولى أن لا يقتصر على عدد الآية، فأخطأ في الفهم ومات في
ربقة التقليد نسأل الله تعالى العافية.
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى برفع الجلالة ونصب موسى، وعن إبراهيم
ويحيى بن وثاب أنهما قرآ على القلب.
تَكْلِيماً مصدر مؤكد رافع لاحتمال المجاز على ما ذكره غير
واحد، ونظر فيه الشهاب بأنه مؤكد للفعل
(3/192)
فيرفع المجاز عنه، وأما رفعه المجاز عن
الإسناد بأن يكون المكلم رسله من الملائكة كما يقال قال
الخليفة كذا إذا قاله وزيره فلا، مع أنه أكد الفعل، والمراد به
معنى مجازي كقول هند بنت النعمان في زوجها روح بن زنباع وزير
عبد الملك بن مروان.
بكى الخز من روح وأنكر جلده ... وعجت عجيجا من جذام المطارف
فأكدت «عجت» مع أنه مجاز لأن الثياب لا تعج وما نقل عن الفراء
من أن العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم
يؤكد بالمصدر. فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام لا يفي
بالمقصود إذ نهاية ما فيه رفع المجاز عن الفعل في هذه المادة،
ولا تعرض له لرفع المجاز عن الإسناد فللخصم أن يقول: التكليم
حقيقة إلا أن إسناده إلى الله تعالى مجاز ولا تقوم الآية حجة
عليه إلا بنفي ذلك الاحتمال، نعم إنها ظاهرة فيما ذهب إليه أهل
السنة. والجملة إما معطوفة على قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ عطف القصة على القصة لا على- آتينا- وما عطف عليه،
وإما حال بتقدير قد كما ينبئ عنه تغيير الأسلوب بالالتفات،
والمعنى أن التكليم بغير واسطة منتهى مراتب الوحي وأعلاها، وقد
خص به من بين الأنبياء الذين اعترفتم بنبوتهم موسى عليه السلام
ولم يقدح ذلك فيهم أصلا فكيف يتوهم أن نزول التوراة عليه جملة
قادح في نبوة من أنزل عليه الكتاب مفصلا مع ظهور حكمة ذلك.
هذا وقد تقدم لك كيفية سماع موسى عليه السلام لكلام الله عز
وجل، وقد وقع التكليم أيضا لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم
في الإسراء مع زيادة رفعة، بل ما من معجزة لنبي من الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام إلا لنبينا صلّى الله عليه وسلّم مثلها
مع زيادة شرف له شرفه الله تعالى، بل ما من ذرة نور شعث في
العالمين إلا تصدقت بها شمس ذاته صلّى الله عليه وسلّم، ولله
سبحانه در البوصيري حيث يقول:
وكل آي أتى الرسل الكرام بها ... فإنما اتصلت من نوره بهم
فصلى الله تعالى عليه وسلّم تسليما كثيرا رُسُلًا مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ نصب على المدح، أو بإضمار أرسلنا أو على الحال
من رُسُلًا الذي قبله، أو ضميره وهي حال موطئة والمقصود وصفها.
وضعف هذا بأنه حينئذ لا وجه للفصل بين الحال وذيها، وجوز أن
يكون نصبا على البدلية من رُسُلًا الأول، وضعف بأن اتحاد البدل
والمبدل منه لفظا بعيد، وإن كان المعتمد بالبدلية الوصف أي
مُبَشِّرِينَ من آمن وأطاع بالجنة والثواب وَمُنْذِرِينَ من
كفر وعصى بالنار والعقاب لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى
اللَّهِ حُجَّةٌ أي معذرة يعتذرون بها قائلين لَوْلا
أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا [طه: 134] فيبين لنا شرائعك
ويعلمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك لقصور القوى البشرية عن
إدراك جزئيات المصالح، وعجز أكثر الناس عن إدراك كلياتها.
فالآية ظاهرة في أنه لا بد من الشرع وإرسال الرسل وأن العقل لا
يغني عن ذلك، وزعم المعتزلة أن العقل كاف وأن إرسال الرسل إنما
هو للتنبيه عن سنة الغفلة التي تعتري الإنسان من دون اختيار،
فمعنى الآية عندهم لئلا يبقى للناس على الله حجة، وسيأتي ردّ
ذلك إن شاء الله تعالى مع تحقيق هذا المبحث.
وتسمية ما يقال عند ترك الإرسال حجة مع استحالة أن يكون لأحد
عليه سبحانه حُجَّةٌ مجاز بتنزيل المعذرة في القبول عنده تعالى
بمقتضى كرمه ولطفه منزلة الحجة القاطعة التي لا مردّ لها، فلا
يبطل قول أهل السنة إنه لا اعتراض لأحد على الله تعالى في فعل
من أفعاله بل له سبحانه أن يفعل بمن شاء ما شاء، واللام
متعلقة- بأرسلنا- المقدر، أو- بمبشرين ومنذرين- على التنازع،
وجوز أن تتعلق بما يدلان عليه، وحُجَّةٌ اسم كان وخبرها
لِلنَّاسِ، وعَلَى اللَّهِ حال من حُجَّةٌ ويجوز أن يكون الخبر
عَلَى اللَّهِ ولِلنَّاسِ حال، ولا يجوز أن
(3/193)
يتعلق على- بحجة- لأنها مصدر ومعموله لا
يتقدم عليه، ومن جوزه في الظرف جوزه هنا، وقوله تعالى: بَعْدَ
الرُّسُلِ- أي بعد إرسالهم وتبليغ الشريعة على ألسنتهم- ظرف
لحجة، وجوز أن يكون صفة لها لأن ظرف الزمان يوصف به المصادر
كما يخبر به عنها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً لا يغالب في أمر
يريده.
حَكِيماً في جميع أفعاله، ومن قضية ذلك الامتناع عن إجابة
مسألة المتعنتين، وقطع الحجة بإرسال الرسل وتنوع الوحي إليهم
والإعجاز، وقيل: عَزِيزاً في عقاب الكفار حَكِيماً في الأعذار
بعد تقدم الإنذار كأنه بعد أن سألوا إنزال كتاب الله تعالى
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بتخفيف النون ورفع الجلالة.
وقرأ السليمي بتشديد النون ونصب الجلالة، وهو استدراك عن مفهوم
ما قبله كأنهم لما سألوه صلّى الله عليه وسلّم إنزال كتاب من
السماء وتعنتوا ورد عليهم بقوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ إلخ قيل: إنهم لا يشهدون لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ.
وحاصل ذلك إن لم تلزمهم الحجة ويشهدوا لك فالله تعالى يشهد،
وقيل: إنه سبحانه لما شبه الإيحاء إليه صلّى الله عليه وسلّم
بالإيحاء إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أوهم ذلك التشبيه
مزية الإيحاء إليهم، فاستدرك عنه بأن للإيحاء إليك مزية شهادة
الله تعالى بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أي بحقية الذي أنزله إليك
وهو القرآن، فالجار والمجرور متعلق- بيشهد- والباء صلة
والمشهود به هو الحقية، ويجوز أن يكون المشهود به هو النبوة
وتعلق بما أنزل تعلق الآلية أي يشهد بنبوتك بسبب ما أنزل إليك
لدلالته بإعجازه على صدقك ونبوتك، ولعل مآل المعنى ومؤداه واحد
فإن شهادته سبحانه بحقية ما أنزله من القرآن بإظهار المعجز
المقصود منه إثبات نبوته صلّى الله عليه وسلّم،
وأخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما قال: «دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم فقال عليه الصلاة والسلام لهم: إني والله أعلم أنكم
تعلمون أني رسول الله فقالوا: ما نعلم ذلك فنزلت لكِنِ اللَّهُ
يَشْهَدُ» وفي رواية ابن جرير عنه «أنه لما نزل إِنَّا
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» ، قالوا: ما نشهد لك فنزل لكِنِ اللَّهُ
يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ»
وقرىء «أنزل» على البناء للمفعول أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ذكر
فيه أربعة أوجه: الأول أن يكون المعنى أنزله بعلمه الخاص به
الذي لا يعلمه غيره سبحانه، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز
عنه كل بليغ وصاحب بيان، واختاره جماعة من المفسرين، والثاني
أن يكون المعنى أَنْزَلَهُ وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك
لقيامك فيه بالحق ودعائك الناس إليه، واختاره الطبرسي، والثالث
أن يكون المعنى أَنْزَلَهُ بما علم من مصالح العباد مشتملا
عليه، والرابع أن يكون المعنى أَنْزَلَهُ وهو عالم به رقيب
عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة، والعلم على الوجه
الأول قيل: بمعنى المعلوم، والمراد به التأليف والنظم المخصوص
وليس من جعل العلم مجازا عن ذلك ولو جعل عليه العلم بمعناه
المصدري، والباء للملابسة ويكون تأليفه بيانا لتلبسه لا للعلم
نفسه صح لكن فيه تجوز من جهة أن التأليف ليس نفس التلبس بل
أثره، ويحتمل على هذا أن تكون الباء للآلية كما يقال: فعله
بعلمه إذا كان متقنا وعلى ما ينبغي، فيكون وصفا للقرآن بكمال
الحسن والبلاغة، وأما على الوجه الثاني والثالث فالعلم بمعناه،
أو هو في الثالث بمعنى المعلوم، والظرف حال من الفاعل أو
المفعول، ومتعلق العلم مختلف وهو أنك أهل لإنزاله أو مصالح
العباد، وظاهر كلام البعض أنه على الثاني حال من الفاعل، وعلى
الثالث من المفعول، وجوز أن يكون مفعولا مطلقا مطلقا أي إنزالا
متلبسا بعلمه، وموقع الجملة على الأول موقع الجملة المفسرة
لأنه بيان للشهادة على ما نص عليه الزمخشري، وعلى الوجهين موقع
التقرير والبيان للصلة وقيل: إنها في الأوجه الثلاثة كالتفسير-
لأنزل إليك- لأنها بيان لإنزاله على وجه مخصوص، وأما على الوجه
الرابع فقد ضمن العلم بمعنى الرقيب والحافظ، والظرف حال من
الفاعل، ويكون أَنْزَلَهُ تكريرا ليعلق به ما علق أو كما قيل،
ولم يعتبر بعضهم هذا الوجه لأنه لا مساس له بهذا المقام، وقيل:
إن فيه تعظيما لأمر القرآن بحفظه
(3/194)
من شياطين الجن المشعر بحفظه أيضا من
شياطين الإنس فتكون الجملة حينئذ كالتفسير للشهادة أيضا، وقرىء
نزله وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ أيضا بما شهد الله تعالى به
لأنهم تبع له سبحانه في الشهادة، والجملة عطف على ما قبلها،
وقيل: حال من مفعول أَنْزَلَهُ أي أنزله وَالْمَلائِكَةُ
يَشْهَدُونَ بصدقه وحقيته، وجعل بعضهم شهادة الملائكة على صدقه
صلّى الله عليه وسلّم في دعواه بإتيانهم لإعانته عليه الصلاة
والسلام في القتال ظاهرين كما كان في غزوة بدر، وأيّا ما كان-
فيشهدون- من الشهادة، وذكر أنه على الوجه الرابع من الشهود
للحفظ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على ما شهد به لك حيث نصب
الدليل وأوضح السبيل وأزال الشبه وبالغ في ذلك على وجه لا
يحتاج معه إلى شهادة غيره عز وجل.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : لا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ أي لا يحب أن يهتك العبد
ستره إذا صدرت منه هفوة أو اتفقت منه كبوة إِلَّا مَنْ ظُلِمَ
أي إلا جهر من ظلمته نفسه برسوخ الملكات الخبيثة فيه فإنه
مأذون له بإظهار ما فيه من تلك الملكات وعرضها على أطباء
القلوب ليصفوا له دواءها، وقيل: لا يُحِبُّ اللَّهُ تعالى
إفشاء سر الربوبية وإظهار مواهب الألوهية، أو كشف القناع من
مكنونات الغيب ومصونات غيب الغيب إِلَّا مَنْ ظُلِمَ بغلبات
الأحوال وتعاقب كؤوس الجلال والجمال فاضطر إلى المقال فقال
باللسان الباقي لا باللسان الفاني أنا الحق وسبحاني ما أعظم
شأني، وفي تسمية تلك الغلبة ظلما خفاء لا يخفى.
وفي ظاهر الآية بشارة عظيمة للمذنبين حيث بين سبحانه أنه لا
يرضى بهتك الستر إلا من المظلوم فكيف يرضى سبحانه من نفسه أن
يهتك ستر العاصين وليسوا بظالميه جل جلاله، وإنما ظلموا أنفسهم
كما نطق بذلك الكتاب إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ
وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ
وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ
بِبَعْضٍ هؤلاء قوم احتجبوا بالجمع عن التفصيل، فأنكروا الرسل
لتوهمهم وحدة منافية للكثرة وجمعا مباينا للتفصيل، ومن هنا
عطلوا الشرائع وأباحوا المحرمات وتركوا الصلوات وَيُرِيدُونَ
أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ أي الإيمان بالكل جمعا وتفصيلا
والكفر بالكل سَبِيلًا أي طريقا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ
المحجوبون حقا بذواتهم وصفاتهم لأن معرفتهم وهم وغلط، وتوحيدهم
زندقة وضلال، ولقتل واحد منهم أنفع من قتل ألف كافر حربي على
ما أشار إليه حجة الإسلام الغزالي قدس سره وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْهُمْ وهم المؤمنون جمعا وتفصيلا لا يحجبهم جمع عن تفصيل
ولا تفصيل عن جمع كالسادة الصادقين من أهل الوحدة أُولئِكَ
سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ من الجنات الثلاث وَكانَ
اللَّهُ غَفُوراً يستر ذواتهم وصفاتهم رَحِيماً يرحمهم بالوجود
الموهوب الحقاني والبقاء السرمدي يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ
أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ أي علما
يقينا بالمكاشفة من سماء الروح فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ
مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً أي طلبوا
المشاهدة ولا شك أنها أكبر وأعلى من المكاشفة فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ أي استولت عليهم نار الأنانية وأهلكت استعدادهم
بِظُلْمِهِمْ وهو طلبهم المشاهدة مع بقاء ذواتهم ثُمَّ
اتَّخَذُوا الْعِجْلَ أي عجل الشهوات الذي صاغه لهم سامري
النفس الأمارة مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ الرادعة
لهم عن ذلك وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً وهو سطوع نور
التجلي من وجهه حتى احتاج إلى أن يستر وجهه بالبرقع رحمة
بخفافيش أمته وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ أي جعلناه
مستوليا عليهم بِمِيثاقِهِمْ أي بسبب أن يعطوا الميثاق، وأشير
بالطور إلى موسى عليه السلام، أو إلى العقل ورفعه فوقهم تأييده
بالأنوار الإلهية وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ أي باب
السير والسلوك الموصل إلى حضيرة القدس وملك الموت سُجَّداً
خضعا متذللين، وقوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ
أشير به- على ما ذكره بعض القوم، والعهدة عليه- إلى اتصال روحه
عليه السلام بالعالم العلوي عند مفارقته للعالم السفلي، وذلك
الرفع عندهم إلى السماء الرابعة لأن مصدر فيضان روحه عليه
السلام
(3/195)
روحانية فلك الشمس الذي هو بمثابة قلب
العالم، ولما لم يصل إلى الكمال الحقيقي الذي هو درجة المحبة
لم يكن له بدّ من النزول مرة أخرى في صورة جسدانية، يتبع الملة
المحمدية لنيل تلك الدرجة العلية، وحينئذ يعرفه كل أحد فيؤمن
به أهل الكتاب أي أهل العلم العارفين بالمبدأ والمعاد كلهم عن
آخرهم قبل موته عليه السلام بالفناء بالله عز وجل، فإذا آمنوا
به يكون يوم القيامة أي يوم بروزهم عن الحجب الجسمانية
وانتباههم عن نوم الغفلة شهيدا، وذلك بأن يتجلى الحق عليهم في
صورته فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا وهو عبادتهم عجل
الشهوات واتخاذه إلها وامتناعهم عن دخول باب حضيرة القدس
واعتدائهم في السبت بمخالفة الشرع الذي هو المظهر الأعظم
والاحتجاب عن كشف توحيد الأفعال ونقضهم ميثاق الله تعالى
واحتجابهم عن توحيد الصفات الذي هو كفر بآيات الله تعالى إلى
غير ذلك من المساويء.
مساو لو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطلاق
حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ عظيمة جليلة وهي ما في الجنات
الثلاث أُحِلَّتْ لَهُمْ بحسب استعدادهم لولا هذه الموانع
وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي طريقه الموصلة إليه
سبحانه كَثِيراً أي خلقا كثيرا وهي القوى الروحانية
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وهو فضول العلم الرسمي الجدلي الذي هو
كشجرة الخلاف لا ثمرة له، وكاللذات البدنية والحظوظ النفسانية
وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ لما أنه الحجاب العظيم وَأَكْلِهِمْ
أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ أي استعمال علوم القوى
الروحانية في تحصيل الخسائس الدنيوية، أو أخذ ما في أيدي
العباد برذيلة الحرص والطمع لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
المستقيمون في السماع الخاص من الله سبحانه من غير معارضة
النفوس واضطراب الأسرار وَالْمُؤْمِنُونَ بالإيمان العياني حال
كونهم يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ من الأحكام الشرعية والأسرار الإلهية وَالْمُقِيمِينَ
الصَّلاةَ على أكمل وجه وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ ببذل قوامهم
في أصناف الطاعة وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ أي بالمبدأ والمعاد، والمراد من المتعاطفات طائفة
واحدة كما قدمنا أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً لا
يقادر قدره فيما أعدّ لهم من الجنات إِنَّا أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ الآية التشبيه على حد
التشبيه في قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ على قول رُسُلًا
مُبَشِّرِينَ بتجليات اللطف وَمُنْذِرِينَ بتجليات القهر
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ
الرُّسُلِ أي لئلا يكون لهم ظهور وسلطنة بعد ما محي ذلك بإمداد
الرسل وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً فيمحو صفاتهم ويفني ذواتهم
حَكِيماً فيفيض عليهم من صفاته ويبقيهم في ذاته حسبما تقتضيه
الحكمة لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ لتجليه
فيه سبحانه أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أي متلبسا بعلمه المحيط الذي
لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.
ومن هنا علم صلّى الله عليه وسلّم ما كان وما هو كائن
وَالْمَلائِكَةُ هم أصحاب النفوس القدسية يَشْهَدُونَ أيضا
لعدم احتجابهم وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً لأنه الجامع ولا
موجود غيره، والله تعالى الموفق للصواب.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بما أنزل إليك، أو بكل ما يجب
الإيمان به ويدخل ذلك فيه دخولا أوليا، والمراد بهم اليهود،
وكأن الجملة لبيان حكم الله سبحانه فيهم بعد بيان حالهم
وتعنتهم وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي دين الإسلام من
أراد سلوكه بإنكارهم نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقولهم:
لا نعرفه في كتابنا وأن شريعة موسى عليه السلام لا تنسخ، وأن
الأنبياء لا يكونون إلا من أولاد هارون وداود عليهما السلام.
وقرىء «صدوا» بالبناء للمفعول قَدْ ضَلُّوا بالكفر والصد
ضَلالًا بَعِيداً لأنهم جمعوا بين الضلال
(3/196)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ
فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا
حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي
دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ
إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ
وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ
انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ
سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا
(171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا
لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ
يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ
فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا
وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا
يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا
(173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ
فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ
إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ
اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ
لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ
وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ
كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ
وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ
مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ
تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
والإضلال ولأن المضل يكون أقوى وأدخل في
الضلال وأبعد عن الانقلاع عنه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بما
ذكر آنفا وَظَلَمُوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم بإنكار نبوته
وكتمان نعوته الجليلة، أو الناس بصدهم لهم عن الصراط المستقيم،
والمراد أن الذين جمعوا بين الكفر وهذا النوع من الظلم.
لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ لاستحالة تعلق المغفرة
بالكافر، والآية في اليهود على الصحيح، وقيل: إنها في المشركين
وما قبلها في اليهود، وزعم بعضهم أن المراد من الظلم ما ليس
بكفر من سائر أنواع الكبائر، وحمل الآية على معنى أن الذين كان
بعضهم كافرين، وبعضهم ظالمين أصحاب كبائر لَمْ يَكُنِ إلخ، ولا
يخفى أن ذلك عدول عن الظاهر لم يدع إليه إلا اعتقاد أن العصاة
مخلدون في النار تخليد الكفار، والآية تنبو عن هذا المعتقد،
فإنه قد جعل فيها الفعلان كلاهما صلة للموصول فيلزم وقوع
الفعلين جميعا من كل واحد من آحاده، ألا تراك إذا قلت:
الزيدون قاموا فقد أسندت القيام إلى كل واحد من آحاد الجمع،
فكذلك لو عطفت عليه فعلا آخر لزم فيه ذلك ضرورة، وسياق الآية
أيضا يأبى ذلك المعنى لكن لم يزل ديدن المعتزلة اتباع الهوى
فلا يبالون بأي واد وقعوا وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا
طَرِيقَ جَهَنَّمَ لعدم استعدادهم للهداية إلى الحق والأعمال
الصالحة التي هي طريق الجنة، والمراد من الهداية المفهومة من
الاستثناء بطريق الإشارة كما قال غير واحد: خلقه سبحانه
لأعمالهم السيئة المؤدية لهم إلى جهنم حسب استعدادهم، أو سوقهم
إلى جهنم يوم القيامة بواسطة الملائكة، وذكر بعضهم أن التعبير
بالهداية تهكم إن لم يرد بها مطلق الدلالة، والطريق على عمومه،
والاستثناء متصل كما اختاره أبو البقاء وغيره، وجوز السمين أن
يراد بالطريق شيء مخصوص وهو العمل الصالح والاستثناء منقطع
خالِدِينَ فِيها حال مقدرة من الضمير المنصوب لأن الخلود يكون
بعد إيصالهم إلى جهنم، ولو قدر يقيمون خالدين لم يلتئم، وقيل:
يمكن أن يستغنى عن جعله حالا مقدرة بأن هذا من الدلالة الموصلة
إلى جهنم، أو الدلالة إلى طريق يوصل إليها فهو حال عن المفعول
باعتبار الإيصال لا الدلالة فتدبر، وقوله تعالى: أَبَداً نصب
على الظرفية رافع احتمال أن يراد بالخلود المكث الطويل وَكانَ
ذلِكَ أي انتفاء غفرانه وهدايته سبحانه إياهم وطرحهم في النار
إلى الأبد عَلَى اللَّهِ يَسِيراً سهلا لا صارف له عنه، وهذا
تحقير لأمرهم وبيان لأنه تعالى لا يعبأ بهم ولا يبالي.
(3/197)
يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب لجميع المكلفين
بعد أن حكى سبحانه لرسوله صلّى الله عليه وسلّم تعلل اليهود
بالأباطيل واقتراحهم الباطل تعنتا، ورد جل شأنه عليهم بما رد
وأكد ذلك بما أكد، وفي توجيه الخطاب إليهم وأمرهم بالإيمان
مشفوعا بالوعد والوعيد بعد تنبيه على أن المحجة قد وضحت والحجة
قد لزمت فلم يبق لأحد عذر في القبول، وقيل:
الخطاب لأهل مكة لأن الخطاب- بيا أيها الناس- أينما وقع لهم،
ولا يخفى أن التعميم أولى، وما ذكر في حيز الاستدلال، وإن روي
عن بعض السلف أغلبي، وقيل: هو للكفار مطلقا إبقاء للأمر على
ظاهره، ولم يحتج إلى حمله على ما يعم الأحداث والثبات قَدْ
جاءَكُمُ الرَّسُولُ يعني به محمدا صلّى الله عليه وسلّم،
وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة لتأكيد وجوب طاعته
بِالْحَقِّ أي متلبسا به، وفسر بالقرآن، وبدين الإسلام وبشهادة
التوحيد، وجوز أن تكون الباء للتعدية أو للسببية متعلقة- بجاء-
أي جاءكم بسبب إقامة الحق، وقوله سبحانه: مِنْ رَبِّكُمْ متعلق
إما بالفعل أيضا أو بمحذوف وقع حالا من الحق أي جاءكم به من
عند الله تعالى، أو كائنا منه سبحانه، والتعرض لعنوان الربوبية
مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين للإيذان بأن ذلك لتربيتهم
وتبليغهم إلى كمالهم اللائق بهم ترغيبا لهم في الامتثال لما
بعد من الأمر كما أن في ذكر الجملة تمهيدا لما يعقبها من ذلك
وقيل: إنها تكرير للشهادة وتقرير للمشهود به وتمهيد لما ذكر
فَآمِنُوا أي بالرسول صلّى الله عليه وسلّم وبما جاء به من
الحق، والفاء للدلالة على إيجاب ما قبلها لما بعدها، وقوله
سبحانه: خَيْراً لَكُمْ منصوب بفعل محذوف وجوبا تقديره وافعلوا
أو ائتوا خيرا لكم، وإلى هذا ذهب الخليل وسيبويه، وذهب الفراء
إلى أنه نعت لمصدر محذوف أي إيمانا خيرا لكم، وأورد عليه أنه
يقتضي أن الإيمان ينقسم إلى خير وغيره، ودفع بأنه صفة مؤكدة،
وأن مفهوم الصفة قد لا يعتبر، وعلى القول باعتباره قد يقال: إن
ذكره تعريض بأهل الكتاب فإن لهم إيمانا ببعض ما يجب الإيمان به
كاليوم الآخر مثلا إلا أنه ليس خيرا حيث لم يكن على الوجه
المرضي.
وذهب الكسائي وأبو عبيد إلى أنه خبر كان مضمرة، والتقدير يكن
الإيمان خيرا لكم، ورد بأن كان تحذف مع اسمها دون خبرها إلا في
مواضع اقتضته، وأن المقدر جواب شرط محذوف فيلزم حذف الشرط
وجوابه إذ التقدير إن تؤمنوا يكن الإيمان خيرا، وأجيب بأن
تخصيص حذف كان واسمها في مواضع لا يسلمه هذا القائل وبأن لزوم
حذف الشرط وجوابه مبني على أن الجزم بشرط مقدر، وإن قلنا: بأنه
بنفس الأمر وأخواته كما هو مذهب لبعض النحاة لم يرد ذلك، ونقل
مكي عن بعض الكوفيين أنه منصوب على الحال وهو بعيد وَإِنْ
تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من
الموجودات سواء كانت داخلة في حقيقتهما وبذلك يعلم حال أنفسهما
على أبلغ وجه وآكده، أو خارجة عنهما مستقرة فيهما من العقلاء
وغيرهم ويدخل في ذلك المخاطبون دخولا أوليا أي كل ذلك له تعالى
خلقا
(3/198)
وملكا وتصرفا، ولا يخرج من ملكوته وقهره
ذرة فما دونها، والجملة دليل الجواب أقيم مقامه لأن مضمونها
مقرر قبل كفرهم فلا يصلح للجواب، والتقدير وإن تكفروا فهو
سبحانه قادر على تعذيبكم بكفرهم لأن له جل شأنه ما في السموات
والأرض، أو فهو غني عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع
بإيمانكم، وقال بعضهم: التقدير «وإن تكفروا» فقد كابرتم
عقولكم.
فَإِنَّ لِلَّهِ سبحانه ما له مما يدل على ما ينافي حالكم
واعتقادكم فكيف يتأتى الكفر به مع ذلك، وقيل:
التقدير وَإِنْ تَكْفُرُوا فإن عبيدا غيركم لا يكفرون بل
يعبدونه وينقادون لأمره، ولا يخلو عن بعد.
وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بأحوال، كل ويدخل في ذلك كفرهم دخولا
أوليا حَكِيماً في جميع أفعاله وتدبيراته، ويدخل في ذلك كذلك
تعذيب من كفر يا أَهْلَ الْكِتابِ تجريد للخطاب وتخصيص له
بالنصارى زجرا لهم عما هم عليه من الضلال البعيد، وإلى ذلك ذهب
أبو علي الجبائي وأبو مسلم وجماعة من المفسرين، وعن الحسن أنه
خطاب لهم ولليهود لأن الغلو أي مجاوزة الحد والإفراط المنهي
عنه في قوله تعالى:
لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وقع منهم جميعا، أما النصارى، فقال
بعضهم: عيسى عليه السلام ابن الله عز وجل، وبعضهم أنه الله
سبحانه، وآخرون ثالث ثلاثة وأما اليهود فقالوا: إنه عليه
السلام ولد لغير رشده، ورجح ما عليه الجماعة بأن قول اليهود قد
نعى فيما سبق وبأنه أوفق بما بعد وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ
إِلَّا الْحَقَّ أي لا تذكروا ولا تعتقدوا إلا القول الحق دون
القول المتضمن لدعوى الاتحاد والحلول واتخاذ الصاحبة والولد
والاستثناء مفرغ، وهو متصل عند الأكثرين.
وادعى بعض أن المراد من الحق هنا تنزيهه تعالى عن الصاحبة
والولد، والأشبه بالاستثناء الانقطاع لأن التنزيه لا يكون
مقولا عليه بل له وفيه لأن معنى قال عليه افترى وهو مخالف لما
عليه الأكثر في الاستثناء المفرغ فافهم إِنَّمَا الْمَسِيحُ
بالتخفيف، وقد مر معناه، وقرىء المسيح بكسر الميم وتشديد السين
كالسكيت وهو مبتدأ، وقوله تعالى:
عِيسَى بدل منه أو عطف بيان له- كما قال أبو البقاء وغيره-
وقوله تعالى:
ابْنُ مَرْيَمَ صفة له مفيدة بطلان ما زعموه فيه من نبوته عليه
السلام له عز وجل، وقوله سبحانه:
رَسُولُ اللَّهِ خبر المبتدأ والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل
النهي عن القول الباطل المستلزم للأمر بضده أي أنه عليه السلام
مقصور على رتبة الرسالة لا يتخطاها إلى ما تقولون وَكَلِمَتُهُ
عطف على رَسُولُ اللَّهِ ومعنى كونه «كلمة» أنه حصل بكلمة كن
من غير مادة معتادة، وإلى ذلك ذهب الحسن وقتادة.
وقال الغزالي قدس سره: لكل مولود سبب قريب وبعيد، فالأول المني
والثاني قول كن، ولما دل الدليل على عدم القريب في حق عيسى
عليه السلام أضافه إلى البعيد، وهو قول كن إشارة إلى انتفاء
القريب، وأوضحه بقوله سبحانه: أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أي
أوصلها إليها وحصلها فيها، فجعله كالمني الذي يلقى في الرحم
فهو استعارة، وقيل: معناه أنه يهتدي به كما يهتدي بكلام الله
تعالى، وروي ذلك عن أبي علي الجبائي، وقيل: معناه بشارة الله
تعالى التي بشر بها مريم عليها السلام على لسان الملائكة كما
قال سبحانه: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ
اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ [آل عمران: 45] وجملة أَلْقاها
حال على ما قيل: من الضمير المجرور في كَلِمَتُهُ بتقدير قد
والعامل فيها معنى الإضافة، والتقدير- وكملته ملقيا إياها-
وقيل: حال من ضميره عليه السلام المستكن فيما دل عليه
وَكَلِمَتُهُ من معنى المشتق الذي هو العامل فيها، وقيل: حال
من فاعل كان مقدرة مع إذ المتعلقة بالكلمة باعتبار أن المراد
بها المكون، والتقدير إذ كان أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ
مِنْهُ عطف على ما قبله وسمي عليه السلام
(3/199)
روحا لأنه حدث عن نفخة جبرائيل عليه السلام
في درع مريم عليها السلام بأمره سبحانه، وجاء تسمية النفخ روحا
في كلامهم، ومنه قول ذي الرمة في نار وأحيها بروحك. ومن-
متعلقة بمحذوف وقع صفة لروح، وهي لابتداء الغاية مجازا لا
تبعيضية كما زعمت النصارى.
يحكى أن طبيبا نصرانيا حاذقا للرشيد ناظر علي بن الحسين
الواقدي المروزي ذات يوم فقال له: إن في كتابكم ما يدل على أن
عيسى عليه السلام جزء منه تعالى، وتلا هذه الآية، فقرأ الواقدي
قوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية: 13] فقال: إذن يلزم أن
يكون جميع الأشياء جزءا منه سبحانه وتعالى علوا كبيرا فانقطع
النصراني فأسلم، وفرح الرشيد فرحا شديدا، ووصل الواقدي بصلة
فاخرة، وقيل: سمي روحا لأن الناس يحيون به كما يحيون بالأرواح،
وإلى ذلك ذهب الجبائي، وقيل: الروح هنا بمعنى الرحمة كما في
قوله تعالى:
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: 22] على وجه، وقيل:
أريد بالروح الوحي الذي أوحي إلى مريم عليها السلام بالبشارة،
وقيل: جرت العادة بأنهم إذا أرادوا وصف شيء بغاية الطهارة
والنظافة قالوا: إنه روح فلما كان عيسى عليه السلام متكونا من
النفخ لا من النطفة وصف بالروح، وقيل: أريد بالروح السر كما
يقال: روح هذه المسألة كذا أي أنه عليه السلام سر من أسرار
الله تعالى وآية من آياته سبحانه، وقيل: المراد ذو روح على حذف
المضاف، أو استعمال الروح في معنى ذي الروح، والإضافة إلى الله
تعالى للتشريف، ونظير ذلك ما في التوراة إن موسى عليه السلام
رجل الله وعصاه قضيب الله. وأورشليم بيت الله، وقيل: المراد من
الروح جبريل عليه السلام، والعطف على الضمير المستكن في
أَلْقاها والمعنى ألقاها الله تعالى وجبريل إلى مريم، ولا يخفى
بعده وعلى العلات لا حجة للنصارى على شيء مما زعموا في تشريف
عيسى عليه السلام بنسبة الروح إليه لغيره عليه السلام مشاركة
له في ذلك، ففي إنجيل لوقا قال يسوع لتلاميذه: إن أباكم
السماوي يعطي روح القدس الذين يسألونه، وفي إنجيل متى: إن
يوحنا المعمداني امتلأ من روح القدس وهو في بطن أمه، وفي
التوراة: قال الله تعالى لموسى عليه السلام اختر سبعين من قومك
حتى أفيض عليهم من الروح التي عليك فيحملوا عنك ثقل هذا النعت،
ففعل فأفاض عليهم من روحه فتبنوا لساعتهم، وفيها في حق يوسف
عليه السلام يقول الملك: هل رأيتم مثل هذا الفتى الذي روح الله
تعالى عز وجل فيه، وفيها أيضا: إن روح الله تعالى حلت على
دانيال إلى غير ذلك.
ولعل الروح في جميع ذلك أمر قدسي وسر إلهي يفيضه الله تعالى
على من يشاء من عباد حسبما يشاء وفي أي وقت يشاء، وإطلاق ذلك
على عيسى عليه السلام من باب المبالغة على حد ما قيل في زيد:
عدل، وليس المراد به الروح الذي به الحياة أصلا، وقد يظهر ذلك
بصورة كما يظهر القرآن بصورة الرجل الشاحب، والموت بصورة
الكبش، ويؤيد ذلك في الجملة ما في إنجيل متى في تمام الكلام
على تعميد عيسى عليه السلام: إن يسوع لما تعمد وخرج من الماء
انفتحت له أبواب السماء ونظر روح الله تعالى جاءت له في صفة
حمامة وإذا بصوت من السماء هذا ابن الحبيب الذي سرت به نفسي
فإنه على تقدير صحته يهدم ما يزعمه النصارى من أنه عليه السلام
تجسد بروح القدس في بطن أمه: وما فيه من وصفه عليه السلام
بالنبوة سيأتي إن شاء الله تعالى الجواب عنه.
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وخصوه بالألوهية وَرُسُلِهِ أجمعين ولا
تخرجوا أحدا منهم إلى ما يستحيل وصفه به من الألوهية وَلا
تَقُولُوا ثَلاثَةٌ أي الآلهة ثلاثة: الله سبحانه، والمسيح،
ومريم كما ينبىء عنه قوله تعالى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ
اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة:
116] إذ معناه «إلهين» غير الله تعالى فيكونون معه ثلاثة.
وحكي هذا التقدير عن الزجاج، أو الله سبحانه ثلاثة إن صح عنهم
أنهم يقولون: الله تعالى جوهر واحد ثلاثة
(3/200)
أقانيم، أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم
روح القدس، وأنهم يريدون بالأول الذات أو الوجود، وبالثاني
العلم أي الكلمة، وبالثالث الحياة كذا قيل، وتحقيق الكلام في
هذا المقام على ما ذكره بعض المحققين أن النصارى اتفقوا على أن
الله تعالى جوهر بمعنى قائم بنفسه غير متحيز. ولا مختص بجبهة،
ولا مقدر بقدر ولا يقبل الحوادث بذاته ولا يتصور عليه الحدوث
والعدم، وأنه واحد بالجوهرية، ثلاثة بالأقنومية، والأقانيم
صفات للجوهر القديم، وهي الوجود والعلم والحياة، وعبروا عن
الوجود بالأب والحياة بروح القدس والعلم بالكلمة.
ثم اختلفوا فذهب الملكانية أصحاب ملكا الذي ظهر بالروم واستولى
عليها إلى أن الأقانيم غير الجوهر القديم، وأن كل واحد منها
إله، وصرحوا بإثبات التثليث، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة
سبحانه وتعالى عما يشركون، وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح
وتدرعت بناسوته وامتزجت به امتزاج الماء بالخمر وانقلبت الكثرة
وحدة وأن المسيح ناسوت كلي لا جزئي وهو قديم أزلي، وأن مريم
ولدت إلها أزليا مع اختلافهم في مريم أنها إنسان كلي أو جزئي،
واتفقوا على أن اتحاد اللاهوت بالمسيح دون مريم، وأن القتل
والصلب وقع على الناسوت واللاهوت معا، وأطلقوا لفظ الأب على
الله تعالى، والابن على عيسى عليه السلام، وذهب نسطور الحكيم-
في زمان المأمون- إلى أن الله تعالى واحد والأقانيم الثلاثة
ليست غير ذاته ولا نفس ذاته، وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح لا
بمعنى الامتزاج بل بمعنى الإشراق أي أشرقت عليه كإشراق الشمس
من كوة على بلور.
ومن النسطورية من قال: إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة حي ناطق
موجود، وصرحوا بالتثليث كالملكانية، ومنهم من منع ذلك، ومنهم
من أثبت صفات أخر كالقدرة والإرادة ونحوها لكن لم يجعلوها
أقانيم، وزعموا أن الابن لم يزل متولدا من الأب وإنما تجسده
وتوحده بجسد المسيح حين ولد، والحدوث راجع إلى الناسوت،
فالمسيح إله تام وإنسان تام، وهما قديم وحادث، والاتحاد غير
مبطل لقدم القديم ولا لحدوث الحادث. وقالوا: إن الصلب ورد على
الناسوت دون اللاهوت، وذهب بعض اليعقوبية إلى أن الكلمة انقلبت
لحما ودما فصار الإله هو المسيح، وقالوا:
إن الله هو المسيح عيسى ابن مريم، ورووا عن يوحنا الإنجيلي أنه
قال في صدر إنجيله: إن الكلمة صارت جسدا وحلت فينا، وقال: في
البدء كانت الكلمة والكلمة عند الله والله تعالى هو الكلمة،
ومنهم من قال: ظهر اللاهوت بالناسوت بحيث صار هو هو وذلك كظهور
الملك في الصورة المشار إليه بقوله تعالى: فَتَمَثَّلَ لَها
بَشَراً سَوِيًّا
[مريم: 17] ومنهم من قال: جوهر الإله القديم وجوهر الإنسان
المحدث تركبا تركب النفس الناطقة مع البدن وصارا جوهرا واحدا،
وهو المسيح، وهو الإله، ويقولون صار الإله إنسانا وإن لم يصر
الإنسان إلها كما يقال في الفحمة الملقاة في النار صارت نارا،
ولا يقال: صارت النار فحمة، ويقولون: إن اتحاد اللاهوت
بالإنسان الجزئي دون الكلي، وإن مريم ولدت إلها وإن القتل
والصلب واقع على اللاهوت والناسوت جميعا إذ لو كان على أحدهما
بطل الاتحاد، ومنهم من قال: المسيح مع اتحاد جوهره قديم من
وجه، محدث من وجه، ومن اليعقوبية من قال: إن الكلمة لم تأخذ من
مريم شيئا وإنما مرت بها كمرور الماء بالميزاب، ومنهم من زعم
أن الكلمة كانت تداخل جسد المسيح فتصدر عنه الآيات التي كانت
تظهر عنه وتفارقه تارة فتحله الآفات والآلام، ومن النصارى من
زعم أن معنى اتحاد اللاهوت بالناسوت ظهور اللاهوت على الناسوت
وإن لم ينتقل من اللاهوت إلى الناسوت شيء ولا حل فيه، وذلك
كظهور نقش الطابع على الشمع والصورة المرئية في المرآة، ومنهم
من قال: إن الوجود والكلمة قديمان والحياة مخلوقة ومنهم من قال
إن الله تعالى واحد وسماه أبا وأن المسيح كلمة الله تعالى
وابنه على طريق الاصطفاء وهو مخلوق قبل العالم وهو خالق
للأشياء كلها.
(3/201)
وحكى المؤرخون وأصحاب النقل أن أريوس أحد
كبار النصارى كان يعتقد هو وطائفته توحيد الباري ولا يشرك معه
غيره ولا يرى في المسيح ما يراه النصارى بل يعتقد رسالته وأنه
مخلوق بجسمه وروحه ففشت مقالته في النصرانية فتكاتبوا واجتمعوا
بمدينة نيقية عند الملك قسطنطين وتناظروا فشرح أريوس مقالته،
فرد عليه الاكصيدروس بطريق الإسكندرية وشنع على مقالته عند
الملك، ثم تناظروا فطال تنازعهم فتعجب الملك من انتشار مقالتهم
وكثرة اختلافهم وقام لهم البترك وأمرهم أن يبحثوا عن القول
المرضي فاتفق رأيهم على شيء فحرروه وسموه بالأمانة وأكثرهم
اليوم عليها، وهي نؤمن بالله تعالى الواحد الأب صانع كل شيء.
مالك كل شيء، صانع ما يرى وما لا يرى، وبالرب الواحد المسيح
ابن الله تعالى الواحد بكر الخلائق كلها الذي ولد من أبيه قبل
العوالم كلها وليس بمصنوع، إله حق.
من إله حق، من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم وخلق كل شيء
الذي من أجلنا معاشر الناس، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء
وتجسد من روح القدس ومريم وصار إنسانا وحبل به وولد من مريم
البتول واتجع، وصلب أيام فيلاطس ودفن وقام في اليوم الثالث-
كما هو مكتوب- وصعد إلى السماء وجلس على يمين أبيه وهو مستعد
للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء، ونؤمن بروح
القدس الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه وبعمودية واحدة
لغفران الخطايا، والجماعة واحدة قدسية كاطولكية وبالحياة
الدائمة إلى أبد الآبدين انتهى.
وهذه جملة الأقاويل وما لهؤلاء الكفرة من الأباطيل وهي مع
مخالفتها للعقول ومزاحمتها للأصول مما لا مستند لها ولا معول
لهم فيها غير التقليد لأسلافهم والأخذ بظواهر ألفاظ لا يحيطون
بها علما على أن ما سموه أمانة لا أصل له في شرع الإنجيل ولا
مأخوذة من قول المسيح ولا من أقوال تلاميذه، وهو مع ذلك مضطرب
متناقض متهافت يكذب بعضه بعضا ويعارضه ويناقضه، وإذ قد علمت
ذلك فاستمع لما يتلى عليك في ردهم تتميما للفائدة وتأكيدا
لإبطال تلك العقائد الفاسدة، أما قولهم: بأن الله تعالى جوهر
بالمعنى المذكور فلا نزاع لنا معهم فيه من جهة المعنى بل من
جهة الإطلاق اللفظي سمعا، والأمر فيه هين، وأما حصرهم الأقانيم
في ثلاثة: صفة الوجود، وصفة الحياة، وصفة العلم فباطل لأنه بعد
تسليم أن صفة الوجود زائدة لو طولبوا بدليل الحصر لم يجدوا
إليه سبيلا سوى قولهم:
بحثنا فلم نجد غير ما ذكرناه وهو غير يقيني كما لا يخفى، ثم هو
باطل بما تحقق في موضعه من وجوب صفة القدرة والإرادة والسمع
والبصر فإن قالوا: الأقانيم هي خواص الجوهر وصفات نفسه، ومن
حكمها أن تلزم الجوهر ولا تتعداه إلى غيره وذلك متحقق في
الوجود والحياة إذ لا تعلق لوجود الذات القديمة وحياتها
بغيرها، وكذلك العلم إذ العلم مختص بالجوهر من حيث هو معلوم
به، وهذا بخلاف القدرة، والإرادة فإنهما لا اختصاص لهما بالذات
القديمة بل يتعلقان بالغير مما هو مقدور، ومراد، والذات
القديمة غير مقدورة ولا مرادة وأيضا فإن الحياة تجزيء عن
القدرة والإرادة من حيث إن الحي لا يخلو عنهما بخلاف العلم
فإنه قد يخلو عنه، ولأنه يمتنع أجزاء الحياة عن العلم لاختصاص
الحياة بامتناع جريان المبالغة والتفضيل بخلاف العلم، قلنا:
أما قولهم: إن الوجود والحياة مختصة بذات القديم- ولا تعلق
لهما بغيره- فمسلم، ولكن يلزم عليه أن لا يكون العلم أقنوما
لتعلقه بغير ذات القديم إذ هو معلوم به فلئن قالوا: العلم إنما
كان أقنوما من حيث كان متعلقا بذات القديم لا من حيث كان
متعلقا بغيره فيلزمهم أن يكون البصر أقنوما لتعلقه بذات القديم
من حيث إنه يرى نفسه ولم يقولوا به، ويلزمهم من ذلك أن يكون
بقاء ذات الله تعالى أقنوما لاختصاص البقاء بنفسه وعدم تعلقه
بغيره كما في الوجود والحياة، فلئن قالوا: البقاء هو نفس
الوجود فيلزم أن يكون الموجود في زمان حدوثه باقيا وهو محال.
وقولهم: بأن الإرادة تجزىء عن القدرة والإرادة إما أن يريدوا
به أن القدرة والإرادة نفس الحياة، أو أنهما
(3/202)
خارجتان عنها لازمتان لها لا تفارقانها،
فإن كان الأول فقد نقضوا مذهبهم حيث قالوا: إن الحياة أقنوم
لاختصاصها بجوهر القديم، والقدرة والإرادة غير مختصتين بذات
القديم تعالى، وذلك مشعر بالمغايرة ولا اتحاد معها، وإن قالوا:
إنها لازمة لها مع المغايرة فهو ممنوع فإنه كما يجوز خلو الحي،
عن العلم، فكذلك قد يجوز خلوه عن القدرة والإرادة كما في حالة
النوم والإغماء مثلا، وقولهم: إنه يمتنع اجزاء الحياة عن العلم
لاختصاص العلم بالمبالغة والتفضيل، فيلزم منه أن لا تكون مجزئة
عن القدرة أيضا لاختصاصها بهذا النوع من المبالغة والتفضيل،
وأما قولهم: بأن الكلمة حلت في المسيح وتدرعت به فهو باطل من
وجهين.
الأول أنه قد تحقق امتناع حلول صفة القديم في غيره، الثاني أنه
ليس القول بحلول الكلمة أولى من القول بحلول الروح وهي الحياة،
ولئن قالوا: إنما استدللنا على حلول العلم فيه لاختصاصه بعلوم
لا يشاركه فيها غيره، قلنا:
أولا لا نسلم ذلك. فقد روى النصارى أنه عليه السلام سئل عن
القيامة فلم يجب، وقال لا يعرفها إلا الله تعالى وحده، وثانيا
سلمنا لكنه قد اختص عندكم بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص
وبأمور لا يقدر عليها غيره من المخلوقين بزعمكم، والقدرة عندكم
في حكم الحياة إما بمعنى أنها عينها أو ملازمة لها فوجب أن
يقال: بحلول الحياة فيه ولم تقولوا به.
وأما قول الملكانية بالتثليث في الآلهة، وأن كل أقنوم إله فلا
يخلو إما أن يقولوا: إن كل واحد متصف بصفات الإله تعالى من
الوجود والحياة والعلم والقدرة وغير ذلك من الصفات أو ألا
يقولوا به، فإن قالوا به فهو خلاف أصلهم، وهو مع ذلك ممتنع
لقيام الأدلة على امتناع إلهين، وأيضا فإنهم إما أن يقولوا:
بأن جوهر القديم أيضا إله أو ألا يقولوا فإن كان الأول فقد
أبطلوا مذهبهم فإنهم مجمعون على الثالوث، وبقولهم هذا يلزم
التربيع، وإن كان الثاني لم يجدوا إلى الفرق سبيلا مع أن جوهر
القديم أصل والأقانيم صفات تابعة، فكان أولى أن يكون إلها، وإن
قالوا بالثاني فحاصله يرجع إلى منازعة لفظية، والمرجع فيها إلى
ورود الشرع بجواز إطلاق ذلك، وأما قولهم: بأن الكلمة امتزجت
بجسد المسيح فيبطله امتناع حلول صفات القديم بغير ذات الله
تعالى، ودعواهم الاتحاد ممتنعة من جهة الدلالة والإلزام، أما
الأول فإنهما عند الاتحاد إما أن يقال: ببقائهما أو بعدمهما أو
ببقاء أحدهما وعدم الآخر، أما على التقدير الأول فهما اثنان
كما كانا، وإن كان الثاني فالواحد الموجود غيرهما وإن كان
الثالث فلا اتحاد للاثنينية وعدم أحدهما، وأما على التقدير
الثاني فمن أربعة أوجه: الأول أنه إذا جاز أقنوم الجوهر القديم
بالحادث، فما المانع من اتحاد صفة الحادث بالجوهر القديم؟ فلئن
قالوا المانع أن اتحاد صفة الحادث بالجوهر القديم يوجب نقصه
وهو ممتنع، واتحاد صفة القديم بالحادث يوجب شرفه، وشرف الحادث
بالقديم غير ممتنع، قلنا: فكما أن ذات القديم تنقص باتحاد صفة
الحادث بها فالأقنوم القديم ينقص باتحاده بالناسوت الحادث
فليكن ذلك ممتنعا، الثاني أنه قد وقع الاتفاق على امتناع اتحاد
أقنوم الجوهر القديم بغير ناسوت المسيح فما الفرق بين ناسوت
وناسوت؟ فلئن قالوا: إنما اتحد بالناسوت الكلي دون الجزئي
رددناه بما ستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى، الثالث أن مذهبهم
أن الأقانيم زائدة على ذات الجوهر القديم مع اختصاصها به ولم
يوجب قيامها به الاتحاد فأن لا يوجب اتحاد الأقنوم بالناسوت
أولى.
الرابع أن الإجماع منعقد على أن أقنوم الجوهر القديم مخالف
للناسوت كما أن صفة نفس الجوهر تخالف نفس العرض، وصفة نفس
العرض تخالف الجوهر، فإن قالوا: بجواز اتحاد صفة الجوهر بالعرض
أو صفة العرض بالجوهر حتى أنه يصير الجوهر في حكم العرض والعرض
في حكم الجوهر، فقد التزموا محالا مخالفا لأصولهم، وإن قالوا:
بامتناع اتحاد صفة نفس الجوهر بالعرض ونفس العرض بالجوهر مع أن
العرض والجوهر أقبل للتبدل والتغير فلأن
(3/203)
يمتنع في القديم والحادث أولى، وقولهم إن
المسيح إنسان كلي باطل من أربعة أوجه: الأول أن الإنسان الكلي
لا اختصاص له بجزئي دون جزئي من الناس، وقد اتفقت النصارى أن
المسيح مولود من مريم عليهما السلام، وعند ذلك فإما أن يقال:
إن إنسان مريم أيضا كلي- كما حكي عن بعضهم- أو جزئي، فإن كان
كليا فإما أن يكون هو عين إنسان المسيح أو غيره، فإن كان عينه
لزم أن يولد الشيء من نفسه وهو محال، ثم يلزم أن يكون المسيح
مريم ومريم المسيح ولم يقل به أحد، وإن كان غيره فالإنسان
الكلي ما يكون عاما مشتركا بين جميع، وطبيعته جزء من معنى كل
إنسان، ويلزم من ذلك أن يكون إنسان المسيح بطبيعته جزء من
مفهوم إنسان مريم وبالعكس وذلك محال، وإن كان إنسان مريم جزئيا
فمن ضرورة كون المسيح مولودا عنها أن يكون الكلي الصالح
لاشتراك الكثرة منحصرا في الجزئي الذي لا يصلح لذاته وهو
ممتنع، الثاني أن النصارى مجمعون على أن المسيح كان مرئيا
ومشارا إليه، والكلي ليس كذلك.
الثالث أنهم قائلون: إن الكلمة حلت في المسيح إما بجهة الاتحاد
أولا بجهة الاتحاد. فلو كان المسيح إنسانا كليا لما اختص به
بعض أشخاص الناس دون البعض ولما كان المولود من مريم مختصا
بحلول الكلمة دون غيره ولم يقولوا به، الرابع أن الملكانية
متفقون على أن القتل وقع على اللاهوت والناسوت، ولو كان ناسوت
المسيح كليا لما تصور وقوع الجزئي عليه.
وأما ما ذهب إليه نسطور من أن الأقانيم ثلاثة، فالكلام معه في
الحصر على طرز ما تقدم، وقوله: ليست عين ذاته ولا غير ذاته فإن
أراد بذلك ما أراد به الأشعري في قوله: إن الصفات لا عين ولا
غير فهو حق، وإن أراد غيره فغير مفهوم وأما تفسيره العلم
بالكلمة، فالنزاع معه- في هذا الإطلاق- لفظي، ثم لا يخلو إما
أن يريد بالكلمة الكلام النفسي أو الكلام اللساني، والكلام في
ذلك معروف وقوله: إن الكلمة اتحدت بالمسيح بمعنى أنها أشرقت
عليه لا حاصل له لأنه إما أن يريد إشراق الكلمة عليه عليه
السلام ما هو مفهوم من مثاله، وهو أن يكون مطرحا لشعاعها عليه،
أو يريد أنها متعلقة به كتعلق العلم القديم بالمعلومات، أو
يريد غير ذلك فإن كان الأول يلزم أن تكون الكلمة ذات شعاع، وفي
جهة من مطرح شعاعها، ويلزم من ذلك أن تكون جسما، وأن لا تكون
صفة للجوهر القديم وهو محال، وإن كان الثاني فهو حق غير أن
تعلق الأقنوم بالمسيح بهذا التفسير لا يكون خاصة، وإن كان
الثالث فلا بدّ من تصويره ليتكلم عليه.
وأما قول بعض النسطورية: إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة إله
حي ناطق فهو باطل بأدلة إبطال التثليث، وأما من أثبت منهم لله
تعالى صفات أخر كالقدرة والإرادة ونحوهما فقد أصاب خلا أن
القول بإخراجها عن كونها من الأقانيم مع أنها مشاركة لها في
كونها من الصفات تحكم بحت، والفرق الذي يستند إليه باطل كما
علمت وأما قولهم: إن المسيح إنسان تام وإله تام، وهما جوهران:
قديم وحادث، فطريق ردّه من وجهين الأول التعرض لإبطال كون
الأقنوم المتحد بجسد المسيح إلها وذلك بأن يقال: إما أن
يقولوا: بأن ما اتحد بجسد المسيح هو إله فقط أو أن كل أقنوم
إله كما ذهبت إليه الملكانية، فإن كان الأول فهو ممتنع لعدم
الأولوية، وإن كان الثاني فهو ممتنع أيضا لما تقدم، الثاني أنه
إذا كان المسيح مشتملا على الأقنوم والناسوت الحادث فإما أن
يقولوا: بالاتحاد، أو بحلول الأقنوم في الناسوت، أو حلول
الناسوت في الأقنوم، أو أنه لا حلول لأحدهما في الآخر، فإن كان
الأول فهو باطل بما سبق في إبطال الاتحاد، وإن كان الثاني فهو
باطل بما يبطل حلول الصفة القديمة في غير ذات الله تعالى،
وحلول الحادث في القديم، وإن كان الثالث، فإما أن يقال:
بتجاورهما واتصالهما أولا، فإن قيل: بالأول فإما أن يقال:
بانفصال الأقنوم القديم عن الجوهر الحادث أو لا يقال به، فإن
قيل: بالانفصال فهو ممتنع لوجهين الأول ما يدل على إبطال
انتقال
(3/204)
الصفة عن الموصوف، الثاني أنه يلزم منه
قيام صفة حال مجاورتها للناسوت بنفسها وهو محال، وإن لم يقل
بانفصال الأقنوم عن الجوهر القديم يلزم منه أن يكون ذات الجوهر
القديم متصلة بجسد المسيح ضرورة اتصال أقنومها به، وعند ذلك
فليس اتحاد الأقنوم بالناسوت أولى من اتحاد الجوهر القديم به
ولم يقولوا بذلك، وإن لم يقل بتجاورهما واتصالهما فلا معنى
للاتحاد بجسد المسيح، وليس القول بالاتحاد مع عدم الاتصال بجسد
المسيح أولى من العكس، وأما قول من قال منهم: إن الإله واحد،
وإن المسيح ولد من مريم وإنه عبد صالح مخلوق إلا أن الله تعالى
شرفه بتسميته ابنا فهو كما يقول الموحدون، ولا خلاف معهم في
غير إطلاق اسم الابن، وأما قول بعض اليعقوبية: إن الكلمة
انقلبت لحما ودما وصار الإله هو المسيح فهو أظهر بطلانا مما
تقدم وبيانه من وجهين: الأول أنه لو جاز انقلاب الأقنوم لحما
ودما مع اختلاف حقيقتيهما لجاز انقلاب المستحيل ممكنا والممكن
مستحيلا والواجب ممكنا أو ممتنعا والممكن- أو الممتنع- واجبا،
ولم يبق لأحد وثوق بشيء من القضايا البديهية، ولجاز انقلاب
الجوهر عرضا والعرض جوهرا، واللحم والدم أقنوما، والأقنوم
ذاتا، والذات أقنوما، والقديم حادثا والحادث قديما، ولم يقل به
أحد من العقلاء، الثاني أنه لو انقلب الأقنوم لحما ودما، فإما
أن يكون هو عين الدم واللحم اللذين كانا للمسيح، أو زائدا عليه
منضما إليه، والأول ظاهر الفساد، والثاني لم يقولوا به وأما ما
نقل عن يوحنا من قوله: في البدء كانت الكلمة والكلمة عند الله
والله هو الكلمة، فهو مما انفرد به ولم يوجد في شيء من
الأناجيل، والظاهر أنه كذب، فإنه بمنزلة قول القائل: الدينار
عند الصيرفي والصيرفي هو الدينار، ولا يكاد يتفوه به عاقل،
وكذا قوله: إن الكلمة صارت جسدا وحلت فينا غير مسلم الثبوت،
وعلى تقدير تسليمه يحتمل التقديم والتأخير. أي إن الجسد الذي
صار بالتسمية كلمة حل فينا، وعنى بذلك الجسد عيسى عليه السلام،
ويحتمل أنه أشار بذلك إلى بطرس، كبير التلاميذ ووصي المسيح،
فإنه أقام بعده عليه السلام بتدبير دينه وكانت النصارى تفزع
إليه على ما تشهد به كتبهم، فكأنه يقول: إن ذهبت الكلمة أي
عيسى الذي سماه الله تعالى بذلك من بيننا فإنها لم تذهب حتى
صارت جسدا وحل فينا، يريد أن تدبيرها حاضر في جسد بيننا وهو
بطرس.
ومن الناس من خرج كلامه على إسقاط همزة الإنكار عند إخراجه من
العبراني إلى اللسان العربي، والمراد أصارت وفيه بعد، ومن
العجب العجيب أن يوحنا ذكر أن المسيح قال لتلاميذه: إن لم
تأكلوا جسدي وتشربوا دمي فلا حياة لكم بعدي لأن جسدي مأكل حق
ودمي مشرب حق، ومن يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأثبت فيه،
فلما سمع تلاميذه هذه الكلمة قالوا: ما أصعبها من يطيق سماعها
فرجع كثير منهم عن صحبته، فإن هذا مع قوله: إن الله سبحانه هو
الكلمة والكلمة صارت جسدا في غاية الإشكال إذ فيه أمر الحادث
بأكل الله تعالى القديم الأزلي وشربه، والحق أن شيئا من
الكلامين لم يثبت، فلا نتحمل مؤنة التأويل.
وأما قولهم: إن اللاهوت ظهر بالناسوت فصار هو هو، فإما أن
يريدوا به أن اللاهوت صار عين الناسوت كما يصرح به قولهم: صار
هو هو، فيرجع إلى تجويز انقلاب الحقائق وهو محال كما علمت وإما
أن يريدوا به أن اللاهوت اتصف بالناسوت فهو أيضا محال لما ثبت
من امتناع حلول الحادث بالقديم، أو أن الناسوت اتصف باللاهوت
وهو أيضا محال لامتناع حلول القديم بالحادث، وأما من قال منهم:
بأن جوهر الإله القديم وجوهر الإنسان المحدث تركبا وصارا جوهرا
واحدا هو المسيح فباطل من وجهين: الأول ما ذكر من إبطال
الاتحاد، الثاني أنه ليس جعل الناسوت لاهوتا بتركبه مع اللاهوت
أولى من جعل اللاهوت ناسوتا من جهة تركبه مع الناسوت ولم
يقولوا به، وأما جوهر الفحمة إذا ألقيت في النار فلا نسلم أنه
صار بعينه جوهر النار بل صار مجاورا لجوهر النار، وغايته أن
بعض صفات جوهر الفحمة وأعراضها بطلت بمجاورة جوهر النار، أما
إن جوهر أحدهما صار جوهر الآخر فلا.
(3/205)
وأما قولهم: إن الاتحاد بالناسوت الجزئي
دون الكلي فمحال لأدلة إبطال الاتحاد وحلول القديم بالحادث
وبذلك يبطل قولهم: إن مريم ولدت إلها، وقولهم: القتل وقع على
اللاهوت والناسوت معا على أنه يوجب موت الإله وهو بديهي
البطلان، وأما قول من قال: إن المسيح مع اتحاد جوهره قديم من
وجه محدث من وجه فباطل لأنه إذا كان جوهر المسيح متحدا لا كثرة
فيه، فالحدوث إما أن يكون لعين ما قيل بقدمه، أو لغيره فإن كان
الأول فهو محال وإلا لكان الشيء الواحد قديما لا أول له حادثا
له أول وهو متناقض، وإن كان الثاني فهو خلاف المفروض، وأما قول
من قال: إن الكلمة مرت بمريم كمرور الماء في الميزاب فيلزم منه
انتقال الكلمة وهو ممتنع كما لا يخفى، وبه يبطل قول من قال: إن
الكلمة كانت تدخل جسد المسيح تارة وتفارقه أخرى، وقولهم: إن ما
ظهر من صورة المسيح في الناسوت لم يكن جسما بل خيالا كالصورة
المرئية في المرآة باطل لأن من أصلهم أن المسيح إنما أحيا
الميت وأبرأ الأكمه والأبرص بما فيه من اللاهوت، فإذا كان ما
ظهر فيه من اللاهوت لا حقيقة له بل هو خيال محض لا يصلح لحدوث
ما حدث عن الإله عنه، والقول: بأن أقنوم الحياة مخلوق حادث ليس
كذلك لقيام الأدلة على قدم الصفات فهو قديم أزلي كيف وأنه لو
كان حادثا لكان الإله قبله غير حي، ومن ليس بحي لا يكون عالما
ولا ناطقا، وقول من قال: إن المسيح مخلوق قبل العالم وهو خالق
لكل شيء باطل لقيام الأدلة على أنه كان الله تعالى ولا شيء
غيره.
وأما الأمانة التي هم بها متقربون وبما حوته متعبدون فبيان
اضطرابها وتناقضها وتهافتها من وجوه: الأول أن قولهم: نؤمن
بالواحد الأب صانع كل شيء، يناقض قولهم: وبالرب الواحد المسيح
إلخ مناقضة لا تكاد تخفى، الثاني أن قولهم: إن يسوع المسيح ابن
الله تعالى بكر الخلائق مشعر بحدوث المسيح إذ لا معنى لكونه
ابنه إلا تأخره عنه إذ الوالد والولد لا يكونان معا في الوجود
وكونهما معا مستحيل ببداهة العقول لأن الأب لا يخلو إما أن
يكون ولد ولدا لم يزل أو لم يكن، فإن قالوا: ولد ولدا لم يزل،
قلنا: فما ولد شيئا إذ الابن لم يزل وإن ولد شيئا لم يكن،
فالولد حادث مخلوق وذلك مكذب لقولهم: إله حق من إله حق من جوهر
أبيه وأنه أتقن العوالم بيده وخلق كل شيء، الثالث أن قولهم:
إله حق من إله حق من جوهر أبيه يناقضه قول المسيح في الإنجيل:
وقد سئل عن يوم القيامة فقال: لا أعرفه ولا يعرفه إلا الأب
وحده، فلو كان من جوهر الأب لعلم ما يعلمه الأب على أنه لو جاز
أن يكون إله ثان من إله أول لجاز أن يكون إله ثالث من إله ثان
ولما وقف الأمر على غاية وهو محال، الرابع أن قولهم: إن يسوع
أتقن العوالم بيده وخلق كل شيء باطل مكذب لما في الإنجيل إذ
يقول متى: هذا مولد يسوع المسيح ابن داود، وأيضا خالق العالم
لا بد وأن يكون سابقا عليه وأنى يسبق المسيح وقد ولدته مريم؟!
وأيضا في الإنجيل إن إبليس قال للمسيح: اسجد لي وأعطيك جميع
العالم وأملكك كل شيء ولا زال يسحبه من مكان إلى مكان ويحول
بينه وبين مراده ويطمع في تعبده له فكيف يكون خالق العالم
محصورا في يد بعض العالم؟! نعوذ بالله تعالى من الضلالة.
الخامس أن قولهم: المسيح الإله الحق الذي نزل من السماء لخلاص
الناس وتجسد من روح القدس وصار إنسانا وحبل به وولد، فيه عدة
مفاسد: منها أن المسيح لا يخص مجرد الكلمة ولا مجرد الجسد بل
هو اسم يخص هذا الجسد الذي ولدته مريم عليها السلام ولم تكن
الكلمة في الأزل مسيحا فبطل أن يكون هو الذي نزل من السماء،
ومنها أن الذي نزل من السماء لا يخلو إما أن يكون الكلمة أو
الناسوت، فإن زعموا أن الذي نزل هو الناسوت فكذب صراح لأن
ناسوته من مريم، وإن زعموا أنه اللاهوت فيقال: لا يخلو إما أن
يكون الذات أو العلم المعبر عنه بالكلمة فإن كان الأول لزم
لحوق النقائص للباري عز اسمه، وإن كان الثاني لزم انتقال الصفة
وبقاء الباري بلا علم وذلك باطل.
(3/206)
ومنها أن قولهم: إنما نزل لخلاص معشر الناس
يريدون به أن آدم عليه السلام لما عصى أوثق سائر ذريته في
حبالة الشيطان وأوجب عليهم الخلود في النار فكان خلاصهم بقتل
المسيح وصلبه والتنكيل به وذلك دعوى لا دلالة عليها، هب أنا
سلمناها لهم لكن يقال: أخبرونا مم هذا الخلاص الذي تعنى الإله
الأزلي له وفعل ما فعل بنفسه لأجله؟
ولم خلصكم؟ وممن خلصكم؟ وكيف استقل بخلاصكم دون الأب والروح
والربوبية بينهم؟ وكيف ابتذل وامتهن في خلاصكم دون الأب
والروح؟ فإن زعموا أن الخلاص من تكاليف الدنيا وهمومها أكذبهم
الحس، وإن كان من تكاليف الشرع وأنهم قد حط عنهم الصلاة والصوم
مثلا أكذبهم المسيح والحواريون بما وضعوه عليهم من التكاليف،
وإن زعموا أنهم قد خلصوا من أحكام الدار الآخرة فمن ارتكب
محرما منهم لم يؤاخذ أكذبهم الإنجيل والنبوات إذ يقول المسيح
في الإنجيل: إني أقيم الناس يوم القيامة عن يميني وشمالي فأقول
لأهل اليمين: فعلتم كذا وكذا فاذهبوا إلى النعيم المعد لكم قبل
تأسيس الدنيا، وأقول لأهل الشمال: فعلتم كذا وكذا فاذهبوا إلى
العذاب المعدّ لكم قبل تأسيس العالم، السادس أن قولهم: وتجسد
من روح القدس باطل بنص الإنجيل إذ يقول: متى في الفصل الثاني
منه، إن يوحنا المعمداني حين عمد المسيح جاءت روح القدس إليه
من السماء في صفة حمامة وذلك بعد ثلاثين من عمره.
السابع أن قولهم: إن المسيح نزل من السماء وحملت به مريم وسكن
في رحمها مكذب بقول لوقا الإنجيلي إذ يقول في قصص الحواريين في
الفصل الرابع عشر منه: إن الله تعالى هو خالق العالم بما فيه
وهو رب السماء والأرض لا يسكن الهياكل ولا تناله أيدي الرجال
ولا يحتاج إلى شيء من الأشياء لأنه الذي أعطى الناس الحياة،
فوجودنا به وحياتنا وحركاتنا منه، فقد شهد لوقا بأن الباري
وصفاته لا تسكن الهياكل ولا تناله الرجال بأيديها، وهذا ينافي
كون الكلمة سكنت في هيكل مريم وتحولت إلى هيكل المسيح، الثامن
أن قولهم: إنه بعد أن قتل وصلب قام من بين الأموات وصعد إلى
السماء وجلس عن يمين أبيه من الكذب الفاحش المستلزم للحدوث،
التاسع أن قولهم: إن يسوع هذا الرب الذي صلب وقتل مستعد للمجيء
تارة أخرى لفصل القضاء بين الأموات والأحياء بمنزلة قول
القائل:
لألفينك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادا
إذ زعموا أنه في المرة الأولى عجز عن خلاص نفسه حتى تم عليه من
أعدائه ما تم فكيف يقدر على خلاصهم بجملتهم في المرة الثانية،
العاشر أن قولهم: ونؤمن بمعمودية واحدة لغفران الذنوب فيه
مناقضة لأصولهم، وذلك أن اعتقاد النصارى أنه لم تغفر خطاياهم
بدون قتل المسيح، ولذلك سموه جمل الله تعالى الذي يحمل عليه
الخطايا، ودعوه مخلص العالم من الخطيئة فإذا آمنوا بأن
المعمودية الواحدة هي التي تغفر خطاياهم وتخلص من ذنوبهم فقد
صرحوا بأنه لا حاجة إلى قتل المسيح لاستقلال المعمودية بالخلاص
والمغفرة فإن كان التعميد كافيا للمغفرة فقد اعترفوا أن وقوع
القتل عبث وإن كانت لا تحصل إلا بقتله فما فائدة التعميد وما
هذا الإيمان؟ فهذه عشرة وجوه كاملة في ردّ تلك الأمانة وإظهار
ما لهم فيها من الخيانة، ومن أمعن نظره ردّها بأضعاف ذلك. وقال
أبو الفضل المالكي بعد كلام:
بطلت أمانتهم فمن مضمونها ... ظهرت خيانتها خلال سطورها
بدؤوا بتوحيد الإله وأشركوا ... عيسى به، فالخلف في تعبيرها
قالوا: بأن إلههم عيسى الذي ... ذر الوجود على الخليقة كلها
خلق أمه قبل الحلول ببطنها ... ما كان أغنى ذاته عن مثلها
(3/207)
هل كان محتاجا لشرب لبانها ... أو أن يربى
في مواطن حجرها
جعلوه ربا جوهرا من جوهر ... ذهبوا لما لا يرتضيه أولو النهى
قالوا: وجاء من السماء عناية ... لخلاص آدم من لظاه وحرها
قد تاب آدم توبة مقبولة ... فضلا لهم جعل الفداء بغيرها
لو جاء في ظلل الغمام وحوله ... شرفا ملائكة السماء بأسرها
وفدى الذي بيديه أحكم طينه ... بالعفو عن كل الأمور وسترها
ثم اجتباه محببا ومفضلا ... ووقاه من غيّ النفوس وشرها
كنتم تحلون الإله مقامه ... فيما تراه نفوسكم من شركها
من غير أن يحتاج في تلخيصه ... كل الخلائق أن تبوء بضرها
ويشينه الأعداء بما لا يرتضي ... من كيدها وبما دهى من مكرها
هذي أمانتهم وهذا شرحها ... الله أكبر من معاني كفرها
ثم اعلم أنه لا حجة للنصارى القائلين بالتثليث بما روي عن متى
التلميذ أنه قال: إن المسيح عند ما ودعهم قال: اذهبوا وعمدوا
الأمم باسم الأب والابن وروح القدس، ومن هنا جعلوا مفتتح
الإنجيل ذلك كما أن مفتتح القرآن بسم الله الرحمن الرحيم،
ويوهم كلام بعض منا أن هذه التسمية نزلت من السماء كالبسملة
عندنا لأنا نقول- على تقدير صحة الرواية، ودونها خرط القتاد:
يحتمل أن يراد بالأب المبدأ، فإن القدماء كانوا يسمون المبادئ
بالآباء، ومن الابن الرسول، وسمي بذلك تشريفا وإكراما كما سمي
إبراهيم عليه السلام خليلا، أو باعتبار أنهم يسمون الآثار
أبناء،
وقد رووا عن المسيح عليه السلام أنه قال: إني ذاهب إلى أبي
وأبيكم، وقال: لا تعطوا صدقاتكم قدّام الناس لتراءوهم فإنه لا
يكون لكم أجر عند أبيكم الذي في السماء.
وربما يقال: إن الابن بمعنى الحبيب أو نحوه، ويشير إلى ذلك ما
رووه أنه عليه السلام قال عقيب وصية وصى بها الحواريين: لكي
تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء وتكونوا تامّين كما أن
أباكم الذي في السماء تام،
ويراد بروح القدس جبريل عليه السلام، والمعنى عمدوا ببركة الله
تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم والملك المؤيد للأنبياء
عليهم الصلاة والسلام على تبليغ أوامر ربهم، وفي كشف الغين عن
الفرق بين البسملتين للشيخ عبد الغني النابلسي قدس سره أن
بسملة النصارى مشيرة إلى ثلاث حضرات للأمر الإلهي الواحد
الأحد: الغيب المطلق، فالأب إشارة إلى الروح الذي هو أول مخلوق
لله تعالى كما في الخبر وهو المسمى بالعقل والقلم والحقيقة
المحمدية، ويضاف إلى الله تعالى فيقال: روح الله تعالى للتشريف
والتعظيم ك (ناقة الله) تعالى، وروح القدس إشارة إليه أيضا
باعتبار ظهوره بصورة البشر السوي النافخ في درع مريم عليها
السلام، والابن إشارة إلى عيسى عليه السلام وهو ابن لذلك الروح
باعتبار أن تكوّنه بسبب نفخه، والأب هو الابن، والابن هو روح
القدس في الحقيقة والغيب المطلق منزه مقدس عن هذه الثلاثة،
فإنه سبحانه من حيث هو لا شيء معه ولا يمكن أن يكون معه شيء،
فبسملة الإنجيل من مقام الصفات الإلهية والأسماء الربانية لا
من مقام الذات الأقدسية.
ثم لا يتوهمن أن كلمات ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم
تدندن حول كلمات النصارى كما يزعمه من لا اطلاع له على تحقيق
كلامهم ولا ذوق له في مشربهم، وذلك لأن القوم نفعنا الله تعالى
بهم مبرؤون عما نسبه
(3/208)
المحجوبون إليهم من اعتقاد التجسيم
والعينية والاتحاد والحلول، أما إنهم لم يقولوا بالتجسيم فلما
تقرر عندهم من أن الحق سبحانه هو الوجود المحض الموجود بذاته
القائم بذاته المتعين بذاته، وكل جسم فهو صورة في الوجود
المنبسط على الحقائق المعبر عنه بالعماء متعينة بمقتضى استعداد
ماهية المعدومة ولا شيء من الوجود المجرد من الماهية المتعين
بذاته بالصورة المتعينة في الوجود المنبسط بمقتضى الماهية
المعدومة فلا شيء من الجسم بالوجود المجرد عن الماهية المتعين
بذاته، وتنعكس إلى لا شيء من الوجود المجرد عن الماهية المتعين
بذاته بجسم وهو المطلوب، وأما إنهم لم يقولوا بالعينية، فلأن
الحق تعالى هو ما علمت من الوجود المحض، إلخ، والمخلوق هو
الصورة الظاهرة في الوجود المنبسط على الحقائق المتعين بحسب
ماهيته المعدومة ولا شيء من المجرد عن الماهية المتعين بذاته
بالمقترن بالماهية المتعين بحسبها، ومما يشهد لذلك قول الشيخ
الأكبر قدس سره في الباب الثامن والخمسين وخمسمائة من الفتوحات
في حضرة البديع بعد بسط: وهذا يدلك على أن العالم ما هو عين
الحق وإنما ظهر في الوجود الحق إذ لو كان عين الحق ما صح كونه
بديعا، وقوله في هذا الباب أيضا في قوله تعالى: وَعِنْدَهُ
مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الأنعام: 59]
انفرد سبحانه بعلمها ونفى العلم عن كل ما سواه. فأثبتك في هذه
الآية وأعلمك أنك لست هو إذ لو كنت هو لعلمت مفاتح الغيب
بذاتك، وما لا تعلمه إلا بموقف فلست عين الموقف، وكذا قال غير
واحد، وقال الشيخ شرف الدين إسماعيل بن سودكين في شرح التجليات
نقلا عن الشيخ قدس سره أيضا: لما ظهرت الممكنات بإظهار الله
تعالى لها وتحقق ذلك تحققا لا يمكن أن يزيل هذه الحقيقة أبدا
فبقي متواضعا لكبرياء الله خاشعا له وهذه سجدة الأبد وهي عبارة
عن معرفة العبد بحقيقته.
ومن هنا يعلم حقيقة
قوله سبحانه: «كنت سمعه وبصره» الحديث،
ولما لاح من هذا المشهد لبعض الضعفاء لائح قال: أنا الحق فسكر
وصاح ولم يتحقق لغيبته عن حقيقته انتهى، وأما أنهم لم يقولوا
بالاتحاد فلأن الاتحاد إما بصيرورة الوجود المحض المجرد
المتعين بذاته وجودا مقترنا بالماهية المعدومة متعينا بحسبها
أو بالعكس، وذلك محال بوجهيه لأن التجرد عن الماهية ذاتي للحق
تعالى والاقتران بها ذاتي للممكن وما بالذات لا يزول.
وفي كتاب المعرفة للشيخ الأكبر قدس سره إذا كان الاتحاد مصيّر
الذاتين واحدة فهو محال لأنه إن كان عين كل منهما موجودا في
حال الاتحاد فهما ذاتان وإن عدمت العين الواحدة وثبتت الأخرى
فليست إلا واحدة، وقال في كتاب الياء وهو كتاب ألهو الاتحاد
محال، وساق الكلام إلى أن قال: فلا اتحاد البتة لا من طريق
المعنى ولا من طريق الصورة، وقال في الباب الخامس من الفتوحات
خطابا من الحق تعالى للروح الكلي: وقد حجبتك عن معرفة كيفية
إمدادي لك بالأسرار الإلهية إذ لا طاقة لك بحمل مشاهدتها، إذ
لو عرفتها لاتحدت الإنية واتحاد الانية محال، فمشاهدتك لذلك
محال، هل ترجع إنية المركب البسيط؟ لا سبيل إلى قلب الحقائق،
وأما إنهم لم يقولوا بالحلول فلأنهم فسروا الحلول تارة بأنه
الحصول على سبيل التبعية، وتارة بأنه كون الموجود في محل قائما
به، ومن المعلوم أن الواجب تعالى- وهو الوجود المحض القائم
بذاته المتعين كذلك- يستحيل عليه القيام بغيره.
قال الشيخ الأكبر قدس سره في الباب الثاني والتسعين ومائتين من
الفتوحات: نور الشمس إذا تجلى في البدر يعطي من الحكم ما لا
يعطيه من الحكم بغير البدر لا شك في ذلك، كذلك الاقتدار الإلهي
إذا تجلى في العبد يظهر الأفعال عن الخلق فهو وإن كان
بالاقتدار الإلهي، لكن يختلف الحكم لأنه بواسطة هذا المجلى
الذي كان مثل المرآة لتجليه، وكما يعلم عقلا أن القمر في نفسه
ليس فيه من نور الشمس شيء وأن الشمس ما انتقلت إليها بذاتها
وإنما كان لها مجلى، كذلك العبد ليس فيه من خالقه شيء ولا حل
فيه وإنما هو مجلى له وخاصة ومظهر له انتهى.
(3/209)
وهذا نص في نفي الحلول ومنشأ غلط المحجوبين
المنكرين عدم الفهم لكلام هؤلاء السادة نفعنا الله تعالى بهم
على وجهه، وعدم التمييز بين الحلول والتجلي ولم يعلموا أن كون
الشيء مجلي لشيء ليس كونه محلا له، فإن الظاهر في المرآة خارج
عن المرآة بذاته قطعا بخلاف الحال في محل فإنه حاصل فيه
فالظهور غير الحلول فإن الظهور في المظاهر للواسع القدوس يجامع
التنزيه بخلاف الحلول، نعم وقع في كلامهم التعبير بالحلول
ومرادهم به الظهور، ومن ذلك قوله:
يا قبلتي قابليني بالسجود فقد ... رأيت شخصا لشخص فيه قد سجدا
لاهوته حل ناسوتي فقدسني ... إني عجبت لمثلي كيف ما عبدا
وكان الأولى بحسب الظاهر عدم التعبير بمثل ذلك ولكن للقوم
أحوال ومقامات لا تصل إليها أفهامنا، ولعل عذرهم واضح عند
المنصفين، إذا علمت ذلك وتحققت اختلاف النصارى في عقائدهم،
فاعلم أنه سبحانه إنما حكى في بعض الآيات قول بعض منهم، وفي
بعض آخر قول آخرين، وحكاية دعواهم ألوهية مريم عليها السلام
كدعواهم ألوهية عيسى عليه السلام مما نطق بها القرآن ولم يشع
ذلك عنهم صريحا لكن يلزمهم ذلك بناء على ما حققه الإمام الرازي
رحمه الله تعالى، والنصارى اليوم ينكرونه والله تعالى أصدق
القائلين، ويمكن أن يقال: إن مدعي ألوهيتها عليها السلام صريحا
طائفة منهم هلكت قديما كالطائفة اليهودية التي تقول عزير ابن
الله تعالى على ما قيل، ثم إنه سبحانه بالغ في زجر القائلين
فأردف سبحانه النهي بقوله عز من قائل: انْتَهُوا عن القول
بالتثليث خَيْراً لَكُمْ قد مر الكلام في أوجه انتصابه
إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ أي بالذات منزه عن التعدد بوجه
من الوجوه سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أي أسبحه
تسبيحا عن، أو من أن يكون له ولد، أو سبحوه عن، أو من ذلك لأن
الولد يشابه الأب ويكون مثله والله تعالى منزه عن التشبيه
والمثل، وأيضا الولد إنما يطلب ليكون قائما مقام أبيه إذا عدم
ولذا كان التناسل والله تعالى باق لا يتطرق ساحته العلية فناء
فلا يحتاج إلى ولد ولا حكمة تقتضيه، وقد علمت ما أوقع النصارى
في اعتقادهم أن عيسى عليه السلام ابن الله تعالى.
ومن الاتفاقات الغريبة ما نقله مولانا راغب باشا رحمه الله
تعالى ملخصا من تعريفات أبي البقاء قال: قال الإمام العلامة
محمد بن سعيد الشهير بالبوصيري نور الله تعالى ضريحه: إن بعض
النصارى انتصر لدينه وانتزع من البسملة الشريفة دليلا على
تقوية اعتقاده في المسيح عليه السلام وصحة يقينه به فقلب
حروفها ونكر معروفها وفرق مألوفها وقدّم فيها وأخر وفكر وقدّر.
فقتل كيف قدّر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر، فقال: قد انتظم من
البسملة المسيح ابن الله المحرر، فقلت له: حيث رضيت البسملة
بيننا وبينك حكما وحزت منها أحكاما وحكما فلتنصرن البسملة منا
الأخيار على الأشرار، ولتفضلن أصحاب الجنة على أصحاب النار إذ
قد قالت لك البسملة بلسان حالها: إنما الله المسيح راحم النحر
لأمم لها المسيح رب، ما برح الله راحم المسلمين، سل ابن مريم
أحل له الحرام، لا المسيح ابن الله المحرر، لا مرحم للئام
أبناء السحرة رحم حرّ مسلم أناب إلى الله، لله نبي مسلم حرم
الراح، ربح رأس مال كلمة الإيمان، فإن قلت: إنه عليه السلام
رسول صدقتك، وقالت: إيل أرسل الرحمة بلحم، وإيل من أسماء الله
تعالى بلسان كتبهم وترجمة بلحم ببيت لحم، وهو المكان الذي ولد
فيه عيسى عليه السلام إلى غير ذلك مما يدل على إبطال مذهب
النصارى، ثم انظر إلى البسملة قد تخبر أن من وراء حلها خيولا
وليوثا، ومن دون طلها سيولا وغيوثا، ولا تحسبني استحسنت كلمتك
الباردة فنسجت على منوالها وقابلت الواحدة بعشر أمثالها بل
أتيتك بما يغنيك فيبهتك ويسمعك ما يصمك عن الإجابة فيصمتك،
فتعلم أن هذه البسملة مستقر لسائر العلوم والفنون ومستودع
لجوهر سرها
(3/210)
المكنون، ألا ترى أن البسملة إذا حصلت
جملتها كان عددها سبعمائة وستة وثمانين فوافق جملها أن مثل
عيسى كآدم ليس لله من شريك بحساب الألف التي بعد لامي الجلالة
ولا أشرك بربي أحدا، يهدي الله لنوره من يشاء، بإسقاط ألف
الجلالة، فقد أجابتك البسملة بما لم تحط به خبرا، وجاءك ما لم
تستطع عليه صبرا انتهى.
وقد تقدم نظير ذلك في الباقي بعد إسقاط المكرر من حروف المعجم
في أوائل السور حيث رتب الشيعي منه ما ظنه مقويا لما هو عليه
أعني صراط على حقا نمسكه وقابلناه بما يبهته مرتبا من هذا
الحروف أيضا فتذكر، وقرأ الحسن «إن يكون» بكسر الهمزة ورفع
النون أي سبحانه ما يكون له ولد على أن الكلام جملتان.
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جملة مستأنفة
مسوقة لتعليل التنزيه، وبيان ذلك أنه سبحانه مالك لجميع
الموجودات علويها وسفليها لا يخرج من ملكوته شيء منها، ولو كان
له ولد لكان مثله في المالكية فلا يكون مالكا لجميعها، وقوله
تعالى: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا إشارة إلى دليل آخر لأن
الوكيل بمعنى الحافظ فإذا استقل سبحانه وتعالى في الحفظ لم
يحتج إلى الولد فإن الولد يعين أباه في حياته ويقوم مقامه بعد
وفاته والله تعالى منزه عن كل هذا فلا يتصور له ولد عقلا ويكون
افتراؤه حمقا وجهلا.
ْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ
استئناف مقرر لما سبق من التنزيه،
وروي أن وفد نجران قالوا لنبينا صلّى الله عليه وسلّم: «يا
محمد لم تعيب صاحبنا؟ قال: ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى عليه
السلام، قال: وأي شيء أقول فيه؟ قالوا تقول: إنه عبد الله
ورسوله فنزلت»
والاستنكاف استفعال من النكف، وأصله- كما قال الراغب- من نكفت
الشيء نحيته وأصله تنحية الدمع عن الخد بالأصبع، وقالوا: بحر
لا ينكف أي لا ينزح، ومنه قوله:
فبانوا ولولا ما تذكر منهم ... من الخلف لم ينكف لعينيك مدمع
وقيل: النكف قول السوء، ويقال: ما عليه في هذا الأمر نكف ولا
وكف، واستفعل فيه للسلب قاله المبرد، وفي الأساس استنكف ونكف
امتنع وانقبض أنفا وحمية.
وقال الزجاج: الاستنكاف تكبر في تركه أنفة وليس في الاستكبار
ذلك، والمعنى لن يأنف ولن يمتنع، وعن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما لن يستكبر المسيح نْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
أي عن، أو من أن يكون عبد الله تعالى مستمرا على عبادته تعالى
وطاعته حسبما هو وظيفة العبودية كيف وأن ذلك أقصى مراتب الشرف،
وقد أشار القاضي عياض إلى شرف العبودية بقوله:
ومما زادني عجبا وتيها ... وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك: يا عبادي ... وجعلك خير خلقك لي نبيا
والاقتصار على ذكر عدم استنكافه عليه السلام عن ذلك مع أن شأنه
عليه السلام المباهاة به كما تدل عليه أحواله وتفصح عنه أقواله
لوقوعه في موضع الجواب عما قاله الكفرة كما علمت آنفا. وهو
السر في جعل المستنكف منه كونه عليه السلام عبدا له تعالى دون
أن يقال: عن عبادة الله تعالى ونحو ذلك مع إفادته- كما قيل-
فائدة جليلة هي كمال نزاهته عليه السلام عن الاستنكاف بالكلية
لاستمرار هذا الوصف واستتباعه وصف العبادة فعدم الاستنكاف عنه
مستلزم لعدم استنكاف ذلك بخلاف وصف العبادة فإنها حالة متجددة
غير مستلزمة للدوام يكفي في اتصاف موصوفها بها تحققها مرة،
فعدم الاستنكاف عنها لا يستلزم عنها عدم الاستنكاف عن دوامها.
ومما يدل على عبوديته عليه السلام من كتب النصارى أن قولس قال
في رسالته الثانية: انظروا إلى هذا الرسول رئيس أحبارنا يسوع
المؤتمن من عند من خلقه مثل موسى عليه السلام في جميع أحواله
غير أنه أفضل من موسى عليه
(3/211)
السلام، وقال مرقس في إنجيله: قال يسوع: إن
نفسي حزينة حتى الموت، ثم خر على وجهه يصلي لله تعالى، وقال
أيها الأب كل شيء بقدرتك أخر عني هذا الكأس لكن كما تريد لا
كما أريد، ثم خرّ على وجهه يصلي لله تعالى، ووجه الدلالة في
ذلك ظاهر إذ هو سائل والله تعالى مسؤول، وهو مصل والله تعالى
مصلى له، وأي عبودية تزيد على ذلك، ونصوص الأناجيل ناطقة
بعبوديته عليه السلام في غير ما موضع، ولله تعالى در أبي الفضل
حيث يقول فيه:
هو عبد مقرب ونبيّ ... ورسول قد خصه مولاه
طهر الله ذاته وحباه ... ثم أتاه وحيه وهداه
وبكن خلقه بدا كلما الل ... هـ إلى مريم البتول براه
والأناجيل شاهدات وعنه ... إنما الله ربه لا سواه
هكذا شأن ربه خالق الخلق ... بكن خلقهم فنعم الإله
كان لله خاشعا مستكينا ... راغبا راهبا يرجى رضاه
ليس يحيا وليس يخلق إلا ... أن دعاه وقد أجاب دعاه
إنما فاعل الجميع هو الل ... هـ ولكن على يديه قضاه
ويكفي في إثبات عبوديته عليه السلام ما أشار الله تعالى إليه
بقوله: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا
يَأْكُلانِ الطَّعامَ [المائدة: 75] وفي التعبير بالمسيح ما
يشعر بالعبودية أيضا لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
عطف على المسيح كما هو الظاهر أي لا يستنكف الملائكة المقربون
أن يكونوا عبيدا لله تعالى، وقيل: إنه عطف على الضمير المستتر
في كُونَ
أوبْداً
لأنه صفة وليس بشيء، وتقدير متعلق الفعل لازم على ما ذهب إليه
الأكثرون، وقيل: أريد- بالملائكة- كل واحد منهم فلا حاجة إلى
التقدير، وزعم بعضهم أنه من عطف الجمل والتزم تقدير الفعل وهو
كما ترى واحتج بالآية القاضي أبو بكر، والحليمي والمعتزلة على
أن الملائكة أفضل من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأن الذي
يقتضيه السياق وقواعد المعاني وكلام العرب الترقي الفاضل إلى
الأفضل فيكون المعنى لا يستنكف المسيح ولا من هو فوقه، كما
يقال: لن يستنكف من هذا الأمر الوزير ولا السلطان دون العكس،
وأجيب بأن سوق الآية وإن كان ردا على النصارى لكنه أدمج فيه
الرد على عبدة الملائكة المشاركين لهم في رفع بعض المخلوقين عن
مرتبة العبودية إلى درجة المعبودية، وادعاء انتسابهم إلى الله
تعالى بما هو من شوائب الألوهية، وخصْ مُقَرَّبُونَ
لأنهم كانوا يعبدونهم دون غيرهم، ورد هذا الجواب بأن هذا لا
ينفي فوقية الثاني كما هو مقتضى علم المعاني قيل: ولا ورود له
لأنه يعلم من التقرير دفعه لأن المقصود بالذات أمر المسيح فلذا
قدم، ولو سلم أنه لا ينفي الفوقية فهو لا يثبتها كما إذا قلت:
ما فعل هذا زيد ولا عمرو، وهو يكفي لدفع حجة الخصم، وأما كون
السباق والسياق يخالفه فليس بشيء لأن المجيب قال: إنه إدماج،
واستطراد، وأجيب أيضا على تقدير تسليم اختصاص الرد بالنصارى
بأن الملائكة المقربون صيغة جمع تتناول مجموع الملائكة، فهذا
العطف يقتضي كون مجموع الملائكة أفضل من المسيح، ولا يلزم أن
يكون كل واحد منهم أفضل من المسيح، قال في الانتصاف: وفيه نظر
لأن مورده إذا بني على أن المسيح أفضل من كل واحد من آحاد
الملائكة فقد يقال: يلزمه القول بأنه أفضل من الكل كما أن
النبي صلّى الله عليه وسلّم لما كان أفضل من كل واحد من
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كان أفضل من كلهم، ولم يفرق بين
التفضيل على التفضيل، والتفضيل على الجملة أحد ممن صنف في هذا
المعنى.
وقد كان طار عن بعض الأئمة المعاصرين تفضيله بين التفضيلين،
ودعوى أنه لا يلزم منه على التفضيل تفضيل
(3/212)
على الجملة، ولم يثبت عنه هذا القول، ولو
قاله فهو مردود بوجه لطيف، وهو أن التفضيل المراد جل أماراته
رفع درجة الأفضل في الجنة، والأحاديث متظافرة بذلك، وحينئذ لا
يخلو إما أن ترتفع درجة واحد من المفضولين على من اتفق أنه
أفضل من كل واحد منهم، أو لا ترتفع درجة أحد منهم عليه لا سبيل
إلى الأول لأنه يلزم منه رفع المفضول على الفاضل فيتعين الثاني
وهو ارتفاع درجة الأفضل على درجات المجموع ضرورة فيلزم ثبوت
أفضليته على المجموع من ثبوت أفضليته على كل واحد منهم قطعا
انتهى.
قلت: فما شاع من الخلاف بين الحنفية والشافعية في أن النبي
صلّى الله عليه وسلّم هل هو أفضل من المجموع كما أنه أفضل من
الجميع أم أنه أفضل من الجميع فقط دون المجموع ليس في محله على
هذا فتدبر، وقيل في الجواب: إن غاية ما تدل عليه الآية تفضيل
المقربين من الملائكة وهم الكروبيون الذين حول العرش، أو من هم
أعلى رتبة منهم من الملائكة على المسيح من الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام، وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر
مطلقا وفيه النزاع ورد بأن المدعى أن في مثل هذا الكلام مقتضى
قواعد المعاني الترقي من الأدنى إلى الأعلى دون العكس أو
التسوية، وقد علم أن الحكم في الجمع المحلى بأل على الآحاد وأن
المدعى ليس إلا دلالة الكلام على أن الملك المقرب أفضل من عيسى
عليه السلام، وهذا كاف في إبطال القول بأن خواص البشر أفضل من
خواص الملك وزعم بعضهم أن عطف الملائكة على المسيح بالواو لا
يقتضي ترتيبا، وما يورد من الأمثلة لكون الثاني أعلى مرتبة من
الأول معارض بأمثلة لا تقتضي ذلك كقول القائل: ما أعانني على
هذا الأمر زيد ولا عمرو، وكقولك: لا تؤذ مسلما ولا ذميا بل لو
عكست في هذا المثال وجعلت الأعلى ثانيا لخرجت عن حد الكلام
وقانون البلاغة- كما قال في الانتصاف- ثم قال فيه: ولكن الحق
أولى من المراد وليس بين المثالين تعارض، ونحن نمهد تمهيدا
يرفع اللبس ويكشف الغطاء، فنقول: النكتة في الترتيب في
المثالين الموهوم تعارضهما واحدة وهي توجب في مواضع تقديم
الأعلى وفي مواضع تأخيره، وتلك النكتة أن مقتضى البلاغة
التنائي عن التكرار والسلامة عن النزول فإذا اعتمدت ذلك فهما
أدى إلى أن يكون آخر كلامك نزولا بالنسبة إلى أوله، أو يكون
الآخر مندرجا في الأول قد أفاده، وأنت مستغن عن الآخر فاعدل عن
ذلك إلى ما يكون ترقيا من الأدنى إلى الأعلى، واستئنافا لفائدة
لم يشتمل عليها الأول، مثاله الآية المذكورة فإنك لو ذهبت فيها
إلى أن يكون المسيح أفضل من الملائكة وأعلى رتبة لكان ذكر
الملائكة بعده كالمستغنى عنه لأنه إذا كان الأفضل وهو المسيح
على هذا التقدير عبدا غير مستنكف من العبودية لزم من ذلك أن ما
دونه في الفضيلة أولى أن لا يستنكف عن كونه عبدا لله تعالى وهم
الملائكة على هذا التقدير، فلم يتجدد إذن بقوله تعالى: لَا
الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
إلا ما سلف أول الكلام، وإذا قدرت المسيح مفضولا بالنسبة إلى
الملائكة فكأنك ترقيت من تعظيم الله تعالى بأن المفضول لا
يستنكف عن كونه عبدا له تعالى إلى أن الأفضل لا يستنكف عن ذلك،
وليس يلزم من عدم استنكاف المفضول عدم استنكاف الأفضل، فالحاجة
داعية إلى ذكر الملائكة إذ لم يستلزم الأول الآخر فصار الكلام
على هذا التقدير متجدد الفائدة متزائدها، ومتى كان كذلك تعين
أن يحمل عليه الكتاب العزيز لأنه الغاية في البلاغة.
وبهذه النكتة يجب أن تقول: لا تؤذ مسلما ولا ذميا، فتؤخر
الأدنى على عكس الترتيب في الآية لأنك إذا نهيته عن أذى المسلم
فقد يقال ذاك من خواصه احتراما لدين الإسلام، فلا يلزم من ذلك
نهيه عن أذى الكافر المسلوبة عنه هذه الخصوصية، فإذا قلت: ولا
ذميا فقد جددت فائدة لم تكن في الأول وترقيت من النهي عن بعض
أنواع الأذى إلى النهي عن أكثر منه، ولو رتبت هذا المثال
كترتيب الآية فقلت: لا تؤذ ذميا فهم المنهي أن أذى المسلم أدخل
في النهي إذ يساوي الذميّ في سبب الالتزام وهو الإنسانية مثلا،
ويمتاز عنه بسبب هو أجلّ وأعظم وهو الإسلام، فيقنعه هذا النهي
عن تجديد نهي آخر عن أذى المسلم، فإن قلت: ولا مسلما لم تجدد
له فائدة ولم تعلمه غير ما أعلمته
(3/213)
أولا، فقد علمت أنها نكتة واحدة توجب
أحيانا تقديم الأعلى وأحيانا تأخيره، ولا يميز لك ذلك إلا
السياق، وما أشك أن سياق الآية يقتضي تقديم الأدنى وتأخير
الأعلى، ومن البلاغة المرتبة على هذه النكتة قوله تعالى: فَلا
تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الإسراء: 23] استغناء عن نهيه عن ضربهما
فما فوقه بتقديم الأدنى، ولم يلق ببلاغة الكتاب العزيز أن يريد
نهيا عن أعلى من التأفيف والانتهار لأنه مستغنى عنه، وما يحتاج
المدبر لآيات القرآن مع التأييد شاهدا سواها، ولما اقتضى
الإنصاف تسليم اقتضاء الآية لتفضيل الملائكة، وكان القول
بتفضيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام اعتقادا لأكثر أهل السنة
والشيعة التزم حمل التفضيل في الآية على غير محل الخلاف، وذلك
تفضيل الملائكة في القوة وشدة البطش وسعة التمكن والاقتدار.
وهذا النوع من الفضيلة هو المناسب لسياق الآية لأن المقصود
الردّ على النصارى في اعتقادهم ألوهية عيسى عليه السلام
مستندين إلى كونه أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، وصدرت على
يديه آثار عظيمة خارقة، فناسب ذلك أن يقال: هذا الذي صدرت على
يديه هذه الخوارق لا يستنكف عن عبادة الله تعالى بل من هو أكثر
خوارقا وأظهر آثارا كالملائكة المقربين الذين من جملتهم جبريل
عليه السلام، وقد بلغ من قوته وإقدار الله تعالى له أن اقتلع
المدائن واحتملها على ريشة من جناحه فقلبها عاليها سافلها
فيكون تفضيل الملائكة إذن بهذا الاعتبار، ولا خلاف في أنهم
أقوى وأبطش وأن خوارقهم أكثر، وإنما الخلاف في التفضيل باعتبار
مزيد الثواب والكرامات ورفع الدرجات في دار الجزاء، وليس في
الآية عليه دليل، وقد يقال: لما كان أكثر ما لبس على النصارى
في ألوهية عيسى عليه السلام كونه موجودا من غير أب أنبأ الله
تعالى أن هذا الموجود من غير أب لا يستنكف من عبادة الله تعالى
ولا الملائكة الموجودون من غير أب ولا أم، فيكون تأخير ذكرهم
لأن خلقهم أغرب من خلق عيسى عليه السلام، ويشهد لذلك أن الله
تعالى نظر عيسى بآدم عليهما السلام، فنظر الغريب بالأغرب وشبه
العجيب من آثار قدرته بالأعجب إذ عيسى مخلوق من آدم عليهما
الصلاة والسلام وآدم عليه السلام من غير أب ولا أم، ولذلك قال
سبحانه: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
[آل عمران: 59] ومدار هذا البحث على النكتة التي أشير إليها.
فمتى استقام اشتمال المذكور ثانيا على فائدة لم يشتمل عليها
الأول بأي طريق كان من تفضيل أو غيره من الفوائد فقد طابق صيغة
الآية انتهى.
وبالجملة المسألة سمعية، وتفصيل الأدلة والمذاهب فيها حشو
الكتب الكلامية، والقطع فيها منوط بالنص الذي لا يحتمل تأويلا
ووجوده عسر.
وقد ذكر الآمدي في أبكار الأفكار بعد بسط كلام ونقض وإبرام أن
هذه المسألة ظنية لا حظ للقطع فيها نفيا وإثباتا، ومدارها على
الأدلة السمعية دون الأدلة العقلية، وقال أفضل المعاصرين صالح
أفندي الموصلي تغمده الله تعالى برحمته في تعليقاته على
البيضاوي: الأولى عندي التوقف في هذه المسألة بالنسبة إلى غير
نبينا صلّى الله عليه وسلّم إذ لا قاطع يدل على الحكم فيها
وليس معرفة ذلك ما كلفنا به، والباب ذو خطر لا ينبغي المجاذفة
فيه، فالوقف أسلم والله تعالى أعلم مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ
عِبادَتِهِ
أي طاعته فيشمل جميع الكفرة لعدم طاعتهم له تعالى وإنما جعل
المستنكف عنه هاهنا عبادته تعالى لا ما سبق- كما قال شيخ
الإسلام- لتعليق الوعيد بالوصف الظاهر الثبوت للكفرة فإن عدم
طاعتهم له تعالى مما لا سبيل لهم إلى إنكار اتصافهم به، وعبر
سبحانه عن عدم طاعتهم له بالاستنكاف مع أن ذلك كان منهم بطريق
إنكار كون الأمر من جهته تعالى لا بطريق الاستنكاف لأنهم كانوا
يستنكفون عن طاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا هو
الاستنكاف عن طاعة الله تعالى إذ لا أمر له صلّى الله عليه
وسلّم سوى أمره عز وجل مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ
اللَّهَ [النساء: 80] .
(3/214)
وقيل: التعبير بالاستنكاف من باب المشاكلة
يَسْتَكْبِرْ
أي عن ذلك، وأصل الاستكبار طلب الكبر من غير استحقاق لا بمعنى
طلب تحصيله مع اعتقاد عدم حصوله بل بمعنى عد نفسه كبيرا
واعتقاده كذلك وإنما عبر عنه بما يدل على الطلب للإيذان بأن
مآله محض بدون حصول المطلوب، ونظير ذلك على ما قيل: قوله
تعالى: يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً
[الأعراف: 45، هود: 19، إبراهيم: 3] ، والاستكبار على ما أشار
إليه الزجاج- وتقدم- دون الاستنكاف
وجاء في الحديث عنه صلّى الله عليه وسلّم: «لا يدخل الجنة من
كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل: يا رسول الله إن الرجل
يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة قال: إن الله جميل يحب
الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس» .
وللناس في تأويل الحديث أقوال ذكرها الإمام النووي في شرح
مسلم، منها أن المراد بالكبر المانع من دخول الجنة هو التكبر
على الإيمان، واختاره مولانا أفضل المعاصرين، ثم قال: وعليه
فالمنفي أصل الدخول كما هو الظاهر المتبادر، وتنكير الكبر
للنوعية، والمعرف في آخر الحديث هو جنس الكبر لا هذا النوع
بخصوصه وإن كان الغالب في إعادة النكرة معرفة إرادة عين الأول،
وإنما خص صلّى الله عليه وسلّم حكم ذلك النوع بالبيان ليكون
أبلغ في الزجر عن الكبر فإن جنسا يبلغ بعض أنواعه بصاحبه من
وخامة العاقبة وسوء المغبة، هذا المبلغ أعني الشقاء المؤبد
جدير بأن يحترز عنه غاية الاحتراز، ثم عرف صلّى الله عليه
وسلّم الكبر بما عرفه لئلا يتوهم انحصار الكبر المذموم في
النوع المذكور.
وبهذا التقرير اندفع استبعاد النووي رحمه الله تعالى لهذا
التأويل بأن الحديث ورد في سياق الزجر عن الكبر المعروف وهو
إنكار الحق واحتقار الناس، فحمل الكبر على ذلك خاصة خروج عن
مذاق الكلام ووجه اندفاعه غير خفي على ذوي الأفهام انتهى.
والظاهر أن ما في الحديث تعريف باللازم للمعنى اللغوي
سَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
أي المستنكفين ومقابليهم المدلول عليهم بذكر عدم استنكاف
المسيح والملائكة المقربين عليهم السلام، وقد ترك ذكر أحد
الفريقين في المفصل تعويلا على انباء التفصيل عنه وثقة بظهور
اقتضاء حشر أحدهما لحشر الآخر ضرورة عموم الحشر للخلائق أجمعين
كما ترك ذكر أحد الفريقين في التفصيل عند قوله تعالى: فَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ مع عموم
الخطاب لهما ثقة بمثل ذلك فلا يقال: التفصيل غير مطابق للمفصل
لأنه اشتمل على الفريقين والمفصل على فريق واحد، وقيل في توجيه
المطابقة: إن المقصود من الحشر المجازاة ويكون قوله تعالى:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ إلخ تفصيلا للجزاء كأنه قيل: ومن
يستنكف عن عبادته فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وبما
يصيبه من عذاب الله تعالى، فالضمير راجع إلى المستنكفين
المستكبرين لا غير وقد روعي لفظ من ومعناها.
وتعقب العلامة التفتازاني ذلك بأنه غير مستقيم لأن دخول أَمَّا
على الفريقين لا على قسمي الجزاء، وأورد هذا الفريق بعنوان
الإيمان والعمل الصالح لا بوصف عدم الاستنكاف المناسب لما قبله
وما بعده للتنبيه على أنه المستتبع لما يعقبه من الثمرات،
ومعنى توفيتهم أجورهم إيتاؤهم إياها من غير أن ينقص منها شيئا
أصلا، وقرىء «فسيحشرهم» بكسر الشين وهي لغة، وقرىء- فسنحشرهم-
بنون العظمة، وفيه التفات وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بتضعيف
أجورهم أضعافا مضاعفة وبإعطائهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت
ولا خطر على قلب بشر.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وأبو
نعيم في الحلية، والإسماعيلي في معجمه بسند ضعيف عن ابن مسعود
رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» قال:
يوفيهم أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة فيمن وجبت
لهم النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا»
وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا عن عبادة الله تعالى
وَاسْتَكْبَرُوا عنها فَيُعَذِّبُهُمْ بسبب ذلك عَذاباً
أَلِيماً لا يحيط به الوصف وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ
(3/215)
دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا
يلي أمورهم ويدبر مصالحهم وَلا نَصِيراً ينصرهم من بأسه تعالى
وينجيهم من عذابه سبحانه يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب لكافة
المكلفين إثر بيان بطلان ما عليه الكفرة من فنون الكفر والضلال
وإلزامهم بما تخر له صم الجبال، وفيه تنبيه لهم على أن الحجة
قد تمت فلم يبق بعد ذلك علة لمتعلل ولا عذر لمعتذر قَدْ
جاءَكُمْ أتاكم ووصل إليكم بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي حجة
قاطعة، والمراد بها المعجزات على ما قيل.
وأخرج ابن عساكر عن سفيان الثوري عن أبيه عن رجل لا يحفظ اسمه
إن المراد بالبرهان هو النبي صلّى الله عليه وسلّم، وروي ذلك
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعبر عنه عليه الصلاة
والسلام بذلك لما معه من المعجزات التي تشهد بصدقه صلّى الله
عليه وسلّم، وقيل: المراد بذلك دين الحق الذي جاء به النبي
صلّى الله عليه وسلّم، والتنوين للتفخيم، ومن- لابتداء الغاية
مجازا وهي متعلقة- بجاء- أو بمحذوف وقع صفة مشرفة- لبرهان-
مؤكدة لما أفاده التنوين، وجوز أن تكون تبعيضية بحذف المضاف أي
كائن من براهين ربكم، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإفاضة إلى
ضمير المخاطبين لإظهار اللطف بهم والإيذان بأن مجيء ذلك
لتربيتهم وتكميلهم.
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ بواسطة النبي صلّى الله عليه وسلّم،
وفي عدم ذكر الواسطة إظهار لكمال اللطف بهم ومبالغة في الأعذار
نُوراً مُبِيناً وهو القرآن- كما قاله قتادة ومجاهد والسدي
واحتمال إرادة الكتب السابقة الدالة على نبوته صلّى الله عليه
وسلّم بعيد غاية البعد، وإذا كان المراد من البرهان القرآن
أيضا فقد سلك به مسلك العطف المبني على تغاير الطرفين تنزيلا
للمغايرة العنوانية منزلة المغايرة الذاتية، وإطلاق البرهان
عليه لأنه أقوى دليل على صدق من جاء به، وإطلاق النور المبين
لأنه بيّن بنفسه مستغن في ثبوت حقيته وكونه من الله تعالى
بإعجازه غير محتاج إلى غيره، مبين لغيره من حقية الحق وبطلان
الباطل، مهدي للخلق بإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان،
وعبر عن ملابسته للمخاطبين تارة بالمجيء المسند إليه المنبئ عن
كمال قوته في البرهانية كأنه يجيء بنفسه فيثبت ما ثبت من غير
أن يجيء به أحد، ويجيء على شبه الكفرة بالإبطال والأخرى
بالإنزال الموقع عليه الملائم لحيثية كونه نورا توفيرا له
باعتبار كل واحد من عنوانيه حظه اللائق به، وإسناد إنزاله إليه
تعالى بطريق الالتفات لكمال تشريفه- قاله مولانا شيخ الإسلام-
والأمر على غير ذلك التقدير هين فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ حسبما يوجبه البرهان الذي جاءهم وَاعْتَصَمُوا بِهِ
أي عصموا به سبحانه أنفسهم مما يرديها من زيغ الشيطان وغيره.
وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج أن الضمير راجع إلى القرآن
أعني النور المبين، وهو خلاف الظاهر فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي
رَحْمَةٍ مِنْهُ أي ثواب عظيم قدره بإزاء إيمانهم وعملهم رحمة
منه سبحانه لا قضاء لحق واجب، وعن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما أن المراد بالرحمة الجنة، فعلى الأول التجوز في كلمة فِي
لتشبيه عموم الثواب وشموله بعموم الظرف، وعلى الثاني التجوز في
المجرور دون الجار- قاله الشهاب- والبحث في ذلك شهير ومِنْهُ
متعلق بمحذوف وقع صفة مشرفة لرحمة وَفَضْلٍ أي إحسان لا يقادر
قدره زائد على ذلك.
وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ أي إلى الله عز وجل، والمراد في
المشهور إلى عبادته سبحانه، وقيل: الضمير عائد على جميع ما
قبله باعتبار أنه موعود، وقيل: على الفضل صِراطاً مُسْتَقِيماً
هو الإسلام والطاعة في الدنيا، وطريق الجنة في الأخرى، وتقديم
ذكر الوعد بالإدخال في الرحمة الثواب أو الجنة على الوعد بهذه
الهداية للمسارعة إلى التبشير بما هو المقصد الأصلي.
وفي وجه انتصاب صِراطاً أقوال، فقيل: إنه مفعول ثان لفعل مقدر
أي يعرفهم صِراطاً، وقيل: إنه مفعول ثان ليهديهم باعتبار
تضمينه معنى يعرفهم، وقيل: مفعول ثان له بناء على أن الهداية
تتعدى إلى مفعولين حقيقة.
(3/216)
ومن الناس من جعل إِلَيْهِ متعلقا بمقدر أي
مقربين إليه، أو مقربا إياهم إليه على أنه حال من الفاعل أو
المفعول، ومنهم من جعله حالا من صِراطاً ثم قال: ليس لقولنا:
يَهْدِيهِمْ طريق الإسلام إلى عبادته كبير معنى، فالأوجه أن
يجعل صِراطاً بدلا من إِلَيْهِ وتعقبه عصام الملة والدين بأن
قولنا: يَهْدِيهِمْ طريق الإسلام موصلا إلى عبادته معناه واضح،
ولا وجه لكون صِراطاً بدلا من الجار والمجرور فافهم
يَسْتَفْتُونَكَ أي- في الكلالة- استغني عن ذكره لوروده في
قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ والجار
متعلق ب يُفْتِيكُمْ، وقال الكوفيون: ب يَسْتَفْتُونَكَ وضعفه
أبو البقاء بأنه لو كان كذلك لقال يفتيكم فيها في الكلالة، وقد
مر تفسير الكلالة في مطلع السورة، والآية نزلت في جابر بن عبد
الله كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وغيره.
وأخرج الشيخان وخلق كثير عنه قال: «دخل عليّ رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم وأنا مريض لا أعقل فتوضأ ثم صب عليّ فعقلت،
فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث؟ فنزلت آية
الفرائض»
وهي آخر آية نزلت، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن البراء قال:
آخر سورة نزلت كاملة براءة، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء،
والمراد من الآيات المتعلقة بالأحكام- كما نص على ذلك
المحققون، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى- وتسمى آية
الصيف،
أخرج مالك ومسلم عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: «ما سألت
النبي صلّى الله عليه وسلّم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة
حتى طعن بأصبعه في صدري، وقال: يكفيك آية الصيف التي في آخر
سورة النساء»
إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ استئناف مبين للفتيا، وارتفع امْرُؤٌ بفعل
يفسره المذكور على المشهور، وقوله تعالى: لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ
صفة له ولا يضر الفصل بالمفسر لأنه تأكيد، وقيل: حال منه،
واعترض بأنه نكرة، ومجيء الحال منها خلاف الظاهر إذ المتبادر
في الجمل الواقعة بعد النكرات أنها صفات، وقال الحلبي: يصح
كونه حالا منه وهَلَكَ، صفة له، وجعله أبو البقاء حالا من
الضمير المستكن في هَلَكَ وقيل عليه: إن المفسر غير مقصود حتى
ادعى بعضهم أنه لا ضمير فيه لأنه تفسير لمجرد الفعل بلا ضمير،
وإن رد بقوله تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ [الإسراء:
100] ، وقال أبو حيان: الذي يقتضيه النظم أن ذلك ممتنع، وذلك
لأن المسند إليه في الحقيقة إنما هو الاسم الظاهر المعمول
للفعل المحذوف فهو الذي ينبغي أن يكون التقييد له، أما الضمير
فإنه في جملة مفسرة لا موضع لها من الإعراب فصارت كالمؤكدة لما
سبق، وإذا دار الاتباع والتقييد بين مؤكد ومؤكد فالوجه أن يكون
للمؤكد بالفتح إذ هو معتمد الإسناد الأصلي، ووافقه الحلبي،
وقال السفاقسي: الأظهر أن هذا مرجح لا موجب، والمراد من-
الولد- على ما اختاره البعض الذكر لأنه المتبادر ولأن الأخت
وإن ورثت مع البنت- عند غير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
والإمامية- لكنها لا ترث النصف بطريق الفرضية، وتعقبه بعض
المحققين مختارا العموم بأنه تخصيص من غير مخصص، والتعليل بأن
الابن يسقط الأخت دون البنت ليس بسديد لأن الحكم تعيين النصف،
وهذا ثابت عند عدم الابن والبنت غير ثابت عند وجود أحدهما، أما
الابن فلأنه يسقط الأخت، وأما البنت فلأنها تصيرها عصبة فلا
يتعين لها فرض، نعم يكون نصيبها مع بنت واحدة النصف بحكم
العصوبة لا الفرضية فلا حاجة إلى تفسير الولد بالابن لا منطوقا
ولا مفهوما، وأيضا الكلام في الكلالة- وهو من لا يكون له ولد
أصلا- وكذا ما لا يكون له والد إلا أنه اقتصر على عدم ذكر
الولد ثقة بظهور الأمر والولد مشترك معنوي في سياق النفي فيعم،
فلا بد للتخصيص من مخصص وأنى به؟ فليفهم، وقوله تعالى: وَلَهُ
أُخْتٌ عطف على ليس له ولد، ويحتمل الحالية، والمراد بالأخت
الأخت من الأبوين والأب لأن الأخت من الأم فرضها السدس، وقد مر
بيانه في صدر السورة الكريمة.
فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ أي بالفرض والباقي للعصبة، أو لها
بالردّ إن لم يكن له عصبة، والفاء واقعة في جواب الشرط وَهُوَ
أي المرء المفروض يَرِثُها أي أخته المفروضة إن فرض هلاكها مع
بقائه، والجملة مستأنفة لا
(3/217)
موضع لها من الإعراب وقد سدت- كما قال أبو
البقاء- مسدّ جواب الشرط في قوله تعالى: إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها
وَلَدٌ ذكرا كان أو أنثى، فالمراد بإرثه لها إحراز جميع مالها
إذ هو المشروط بانتفاء الولد بالكلية لا إرثه لها في الجملة
فإنه يتحقق مع وجود بنتها، والآية كما لم تدل على سقوط الأخوة
بغير الولد لم تدل على عدم سقوطهم به، وقد دلت السنة على أنهم
لا يرثون مع الأب إذ صح
عنه صلّى الله عليه وسلّم «الحقوا الفرائض بأهلها فما بقي
فلأولى عصبة ذكر»
ولا ريب في أن الأب أولى من الأخ وليس ما ذكر بأول حكمين بين
أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ
فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ عطف على الشرطية الأولى،
والضمير لمن يرث بالأخوة وتثنيته محمولة على المعنى وحكم ما
فوق الاثنتين كحكمهما، واستشكل الإخبار عن ضمير التثنية
بالاثنتين لأن الخبر لا بد أن يفيد غير ما يفيده المبتدأ،
ولهذا لا يصح سيد الجارية مالكها، وضمير التثنية دال على
الاثنينية فلا يفيد الإخبار عنه بما ذكر شيئا، وأجيب عن ذلك أن
الاثنينية تدل على مجرد التعدد من غير تقييد بكبر أو صغر أو
غير ذلك من الأوصاف فكأنه قيل: إنهما يستحقان ما ذكر بمجرد
التعدد من غير اعتبار أمر آخر وهذا مفيد، وإليه ذهب الأخفش،
ورد بأن ضمير التثنية يدل على ذلك أيضا فعاد الإشكال، وروى مكي
عنه أنه أجاب بأن ذلك حمل على معنى من يرث، وأن الأصل والتقدير
إن كان من يرث بالأخوة اثنين، وإن كان من يرث ذكورا وإناثا
فيما يأتي وإنما قيل: كانَتَا وكانُوا لمطابقة الخبر كما قيل:
من كانت أمك، ورد بأنه غير صحيح وليس نظير المثال، لأنه صرح
فيه بمن وله لفظ ومعنى، فمن أنث راعى المعنى وهو الأم ولم يؤنث
لمراعاة الخبر، ومدلول الخبر فيه مخالف لمدلول الاسم بخلاف ما
نحن فيه فإن مدلولهما واحد.
وذكر أبو حيان لتخريج الآية وجهين: الأول أن ضمير كانَتَا لا
يعود على الأختين بل على الوارثين، وثم صفة محذوفة لاثنتين،
والصفة مع الموصوف هو الخبر، والتقدير فَإِنْ كانَتَا أي
الوارثتان اثْنَتَيْنِ من الأخوات فيفيد إذ ذاك الخبر ما لا
يفيده الاسم، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز، والثاني أن يكون
الضمير عائدا على الأختين- كما ذكروا- ويكون خبر «كان» محذوفا
لدلالة المعنى عليه وإن كان حذفه قليلا، ويكون اثْنَتَيْنِ
حالا مؤكدة، والتقدير فإن كانتا أي الأختان له أي للمرء
الهالك، ويدل على حذف له وَلَهُ أُخْتٌ.
وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أصله وإن كانوا إخوة وأخوات فغلب المذكر
بقرينة رِجالًا وَنِساءً الواقع بدلا، وقيل: فيه اكتفاء
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ حكم الكلالة أو أحكامه وشرائعه التي
من جملتها حكمها، وإلى هذا ذهب أبو مسلم أَنْ تَضِلُّوا أي
كراهة أن تضلوا في ذلك وهو رأي البصريين وبه صرح المبرد.
وذهب الكسائي والفراء وغيرهما من الكوفيين إلى تقدير اللام ولا
في طرفي إِنِ أي لئلا تضلوا، وقيل: ليس هناك حذف ولا تقدير
وإنما المنسبك مفعول يُبَيِّنُ أي يبين لكم ضلالكم، ورجح هذا
بأنه من حسن الختام والالتفات إلى أول السورة وهو يا أَيُّهَا
النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ فإنه سبحانه أمرهم بالتقوى وبين
لهم ما كانوا عليه في الجاهلية، ولما تم تفصيله قال عز وجل
لهم: إني بينت لكم ضلالكم فاتقوني كما أمرتكم فإن الشر إذا عرف
اجتنب، والخير إذا عرف ارتكب، واعترض بأن المبين صريحا هو الحق
والضلال يعلم بالمقايسة، فكان الظاهر يبين لكم الحق إلا أن
يقال: بيان الحق واضح وبيان الضلال خفي فاحتيج إلى التنبيه
عليه وفيه تأمل، وذكر الجلال السيوطي أن حسن الختام في هذه
السورة أنها ختمت بآية الفرائض، وفيها أحكام الموت الذي هو آخر
أمر كل حي وهي أيضا آخر ما نزل من الأحكام وَاللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها أحوالكم المتعلقة بمحياكم
ومماتكم عَلِيمٌ
(3/218)
مبالغ في العلم فيبين لكم ما فيه مصلحتكم
ومنفعتكم.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
ستروا ما اقتضاه استعدادهم وَصَدُّوا ومنعوا غيرهم عَنْ سلوك
سَبِيلِ اللَّهِ أي الطريق الموصلة إليه قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا
بَعِيداً لحرمانهم أنفسهم وغيرهم عما فيه النجاة إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا منعوا استعدادهم عن حقوقها من
الكمال بارتكاب الرذائل لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ
لبطلان استعدادهم وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً لجهلهم المركب
واعتقادهم الفاسد إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ وهي نيران أشواق
نفوسهم الخبيثة وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لانجذابهم
إليها بالطبيعة يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ
نهي لليهود، والنصارى عند الكثيرين من ساداتنا، وقد غلا
الفريقان في دينهم، أما اليهود فتعمقوا في الظواهر ونفي
البواطن فحطوا عيسى عليه السلام عن درجة النبوة والتخلق بأخلاق
الله تعالى، وأما النصارى فتعمقوا في البواطن ونفي الظواهر
فرفعوا عيسى عليه السلام إلى درجة الألوهية وَلا تَقُولُوا
عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ بالجمع بين الظواهر والبواطن
والجمع والتفصيل كما هو التوحيد المحمدي إِنَّمَا الْمَسِيحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ الداعي إليه
وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أي حقيقة من حقائقه
الدالة عليه وَرُوحٌ مِنْهُ أي أمر قدسي منزه عن سائر النقائص،
وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن سبب تخصيص عيسى عليه السلام بهذا
الوصف أن النافخ له من حيث الصورة الجبريلية هو الحق تعالى لا
غيره فكان بذلك روحا كاملا مظهرا لاسم الله تعالى صادرا من اسم
ذاتي ولم يكن صادرا من الأسماء الفرعية كغيره وما كان بينه
وبين الله تعالى وسائط كما في أرواح الأنبياء غيره عليهم
الصلاة والسلام فإن أرواحهم- وإن كانت من حضرة اسم الله تعالى-
لكنها بتوسط تجليات كثيرة من سائر الحضرات الاسمائية فما سمي
عيسى عليه السلام روح الله تعالى وكلمته إلا لكونه وجد من باطن
أحدية جمع الحضرة الإلهية ولذلك صدرت منه الأفعال الخاصة بالله
تعالى من إحياء الموتى وخلق الطير وتأثيره في الجنس العالي
والجنس الدون، وكانت دعوته عليه السلام إلى الباطن والعالم
القدسي فإن الكلمة إنما هي من باطن اسم الله تعالى وهويته
الغيبية، ولذلك طهر الله تعالى جسمه من الأقذار الطبيعية لأنه
روح متجسدة في بدن مثالي روحاني إلى آخر ما ذكره الإمام
الشعراني في الجواهر والدرر فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
بالجمع والتفصيل وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ لأن ذلك ينافي
التوحيد الحقيقي، وعيسى عليه السلام في الحقيقة فإن وجوده
بوجود الله تعالى وحياته عليه السلام بحياته جل شأنه وعلمه
عليه السلام بعلمه سبحانه إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ وهو
الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ
لَهُ وَلَدٌ أي أنزهه عن أن يكون موجود غيره متولد منه مجالس
له في الوجود لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي
ما في سموات الأرواح وأرض الأجساد لأنها مظاهر أسمائه وصفاته
عز شأنه نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً
لِلَّهِ
في مقام التفصيل إذ كل ما ظهر فهو ممكن والممكن لا وجود له
بنفسه فيكون عبدا محتاجا ذليلا مفتقرا غير مستنكف عن ذلة
العبودية لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
الذين هم أرواح مجردة وأنوار قدسية محضة، وأما في مقام الجمع،
فلا عيسى ولا ملك ولا قرب ولا بعد ولا ولا ...
مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ
بظهور أنانيته ويستكبر بطغيانه في الظهور بصفاته
سَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
بظهور نور وجهه وتجليه بصفة القهر حتى يفنوا بالكلية في عين
الجمع فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان الحقيقي بمحو الصفات
وطمس الذات وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وراعوا تفاصيل الصفات
وتجلياتها فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ من جنات صفاته
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
بالوجود الموهب لهم بعد الفناء وَأَمَّا الَّذِينَ
اسْتَنْكَفُوا وأظهروا الأنانية وَاسْتَكْبَرُوا وطغوا فقال
قائلهم: أنا ربكم الأعلى مع رؤيته نفسه فَيُعَذِّبُهُمْ
عَذاباً أَلِيماً باحتجابهم وحرمانهم
(3/219)
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ
بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وهو التوحيد الذاتي وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً وهو التفصيل في عين الجمع فالأول
إشارة إلى القرآن، والثاني إلى الفرقان فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ ولم يلتفتوا إلى الأغيار
من حيث إنها أغيار فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وهي
جنات الأفعال وَفَضْلٍ وهو جنات الصفات وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ
صِراطاً مُسْتَقِيماً وهو الفناء في الذات، أو- الرحمة- جنات
الصفات، والفضل- جنات الذات والهداية إليه صراطا مستقيما-
الاستقامة على الوحدة في تفاصيل الكثرة، ولا حجر على أرباب
الذوق، فكتاب الله تعالى بحر لا تنزفه الدلاء، والله تعالى
الهادي إلى سواء السبيل، ونسأله التوفيق لفهم كلامه، وشرح
صدورنا بعوائد إحسانه وموائد إنعامه لا رب غيره ولا يرجى إلا
خيره.
(3/220)
|