روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة المائدة
وتسمى أيضا العقود والمنقذة، قال ابن الفرس: لأنها تنقذ صاحبها
من ملائكة العذاب وهي مدنية في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة،
وقال أبو جعفر بن بشر والشعبي: إنها مدنية إلا قوله تعالى:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] فإنه نزل
بمكة.
وأخرج أبو عبيد عن محمد القرظي قال: «نزلت سورة المائدة على
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع فيما بين مكة
والمدينة وهو على ناقته فانصدعت كتفها فنزل عنها رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم وذلك من ثقل الوحي»
وأخرج غير واحد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: المائدة
آخر سورة نزلت، وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عمر أن آخر سورة
المائدة والفتح، وقد تقدم آنفا عن البراء أن آخر سورة نزلت
براءة، ولعل كلا ذكر ما عنده، وليس في ذلك شيء مرفوع إلى النبي
صلّى الله عليه وسلّم، نعم
أخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا: «قال رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم: المائدة من آخر القرآن تنزيلا
فأحلوا حلالها وحرموا حرامها»
وهو غير واف بالمقصود لمكان «من» .
واستدل قوم بهذا الخبر على أنه لم ينسخ من هذه السورة شيء،
وممن صرح بعدم النسخ عمرو بن شرحبيل والحسن رضي الله تعالى
عنهما، كما أخرج ذلك عنهما أبو داود، وأخرج عن الشعبي أنه لم
ينسخ منها إلا قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ
وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ
[المائدة: 2] ، وأخرج ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال:
نسخ من هذه السورة آيتان آية القلائد وقوله سبحانه: فَإِنْ
جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة:
42] وادعى بعضهم أن فيها تسع آيات منسوخات، وسيأتي الكلام على
ذلك إن شاء الله تعالى.
وعدة آيها مائة وعشرون عند الكوفيين، وثلاث وعشرون عند
البصريين، واثنان وعشرون عند غيرهم، ووجه اعتلاقها بسورة
النساء- على ما ذكره الجلال السيوطي عليه الرحمة- أن سورة
النساء قد اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا، فالصريح عقود
الأنكحة وعقد الصداق وعقد الحلف وعقد المعاهدة والأمان،
والضمني عقد الوصية والوديعة والوكالة والعارية والإجارة، وغير
ذلك الداخل في عموم قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ
أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النساء: 58] فناسب
أن تعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود فكأنه قيل: يا
أيها الناس أوفوا بالعقود التي فرغ من ذكرها في السورة التي
تمت، وإن كان في هذه السورة أيضا عقود، ووجه أيضا تقديم النساء
وتأخير المائدة بأن أول تلك يا أَيُّهَا النَّاسُ [النساء: 1]
وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بتنزيل المكي، وأول هذه
يا أَيُّهَا
(3/221)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ
بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ
مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ
مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا
شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ
وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا
حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ
أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا
عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ
وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ
إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ
تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ
يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ
وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ
مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ
مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ
فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ
اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ
الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ
وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ
وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا
مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ
حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
الَّذِينَ آمَنُوا
[المائدة: 1] وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بخطاب
المدني، وتقديم العام وشبه المكي أنسب.
ثم إن هاتين السورتين في التلازم والاتحاد نظير البقرة وآل
عمران، فتانك اتحدا في تقرير الأصول من الوحدانية والنبوة
ونحوهما، وهاتان في تقرير الفروع الحكمية.
وقد ختمت المائدة في صفة القدرة كما افتتحت النساء بذلك،
وافتتحت النساء ببدء الخلق، وختمت المائدة بالمنتهى من البعث
والجزاء، فكأنهما سورة واحدة اشتملت على الأحكام من المبدأ إلى
المنتهى، ولهذه السورة أيضا اعتلاق بالفاتحة والزهراوين كما لا
يخفى على المتأمل.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الوفاء حفظ ما يقتضيه العقد
والقيام بموجبه، ويقال: وفى ووفى وأوفى بمعنى، لكن في المزيد
مبالغة ليست في المجرد، وأصل العقد الربط محكما. ثم تجوز به عن
العهد الموثوق، وفرق الطبرسي بين العقد والعهد، بأن العقد فيه
معنى الاستيثاق والشد ولا يكون إلا بين اثنين، والعهد قد يتفرد
به واحد، واختلفوا في المراد بهذه العقود على أقوال: أحدها أن
المراد به العهود التي أخذ الله تعالى على عباده بالإيمان به
وطاعته فيما أحل لهم أو حرم عليهم وهو مروي عن ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما، وثانيهما العقود التي يتعاقدها الناس بينهم
كعقد الايمان وعقد النكاح وعقد البيع. ونحو ذلك وإليه ذهب ابن
زيد وزيد بن
(3/222)
أسلم، وثالثها العهود التي كانت تؤخذ في
الجاهلية على النصرة والمؤازرة على من ظلم، وروي ذلك عن مجاهد،
والربيع وقتادة وغيرهم ورابعها العهود التي أخذها الله تعالى
على أهل الكتاب بالعمل بما في التوراة والإنجيل مما يقتضيه
التصديق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وبما جاء به، وروي ذلك عن
ابن جريج وأبي صالح، وعليه فالمراد من الَّذِينَ آمَنُوا مؤمنو
أهل الكتاب وهو خلاف الظاهر، واختار بعض المفسرين أن المراد
بها ما يعم جميع ما ألزمه الله تعالى عباده وعقد عليهم من
التكاليف والأحكام الدينية، وما يعقدونه فيما بينهم من عقود
الأمانات والمعاملات ونحوهما مما يجب الوفاء به، أو يحسن دينا،
ويحمل الأمر على مطلق الطلب ندبا أو وجوبا، ويدخل في ذلك
اجتناب المحرمات والمكروهات لأنه أوفق بعموم اللفظ إذ هو جمع
محلى باللام وأوفى بعموم الفائدة.
واستظهر الزمخشري كون المراد بها عقود الله تعالى عليهم في
دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه لما فيه- كما في الكشف- من
براعة الاستهلال والتفصيل بعد الإجمال، لكن ذكر فيه أن مختار
البعض أولى لحصول الغرضين وزيادة التعميم، وأن السور الكريمة
مشتملة على أمهات التكاليف الدينية في الأصول والفروع. ولو لم
يكن إلا تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى واعْدِلُوا
هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: 8] لكفى، وتعقب بما لا
يخلو عن نظر.
وزعم بعضهم أن فيه نزع الخف قبل الوصول إلى الماء، وما استظهره
الزمخشري خال عن ذلك. والأمر فيه هين، وفي القول بالعموم رغب
الراغب- كما هو الظاهر- فقد قال: العقود باعتبار المعقود،
والعاقد ثلاثة أضرب، عقد بين الله تعالى وبين العبد، وعقد بين
العبد ونفسه، وعقد بينه وبين غيره من البشر، وكل واحد باعتبار
الموجب له ضربان: ضرب أوجبه العقل وهو ما ركز الله تعالى
معرفته في الإنسان فتوصل إليه إما ببديهة العقل، وإما بأدنى
نظر دل عليه قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي
آدَمَ [الأعراف: 172] الآية، وضرب أوجبه الشرع وهو ما دلنا
عليه كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم فذلك ستة
أضرب، وكل واحد من ذلك إما أن يلزم ابتداء أو يلزم بالتزام
الإنسان إياه، والثاني أربعة أضرب: فالأول واجب الوفاء كالنذور
المتعلقة بالقرب نحو أن يقول: عليّ أن أصوم إن عافاني الله
تعالى، والثاني مستحب الوفاء به ويجوز تركه كمن حلف على ترك
فعل مباح فإن له أن يكفر عن يمينه ويفعل ذلك، والثالث يستحب
ترك الوفاء به، وهو ما
قال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حلف أحدكم على شيء فرأى غيره
خيرا منه فليأت الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه» ،
والرابع واجب ترك الوفاء به نحو أن يقول: عليّ أن أقتل فلانا
المسلم، فيحصل من ضرب ستة في أربعة أربعة وعشرون ضربا وظاهر
الآية يقتضي كل عقد سوى ما كان تركه قربة أو واجبا فافهم ولا
تغفل أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ شروع في تفصيل
الأحكام التي أمر بإيفائها، وبدأ سبحانه بذلك لأنه مما يتعلق
بضروريات المعاش، والبهيمة- من ذوات الأرواح ما لا عقل له
مطلقا، وإلى ذلك ذهب الزجاج، وسمي «بهيمة» لعدم تمييزه وإبهام
الأمر عليه.
ونقل الإمام الشعراني عن شيخه علي الخواص قدس سره أن سبب تسمية
البهائم بهائم ليس إلا لكون أمر كلامها وأحوالها أبهم على غالب
الخلق لا أن الأمر أبهم عليها، وذكر ما يدل على عقلها وعلمها،
وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.
وقال غير واحد: البهيمة اسم لكل ذي أربع من دواب البر والبحر،
وإضافته إلى الأنعام للبيان كثوب خز أي أحل لكم أكل البهيمة من
الأنعام، وهي الأزواج الثمانية المذكورة في سورتها، واعترض بأن
البهيمة اسم جنس، والأنعام نوع منه، فإضافتها إليه كإضافة
حيوان إنسان وهي مستقبحة، وأجيب بأن إضافة العام إلى الخاص إذا
صدرت من بليغ وقصد بذكره فائدة فحسنة- كمدينة بغداد- فإن لفظ
بغداد لما كان غير عربي لم يعهد معناه أضيف إليه مدينة لبيان
(3/223)
مسماه وتوضيحه- وكشجر الأراك- فإنه لما كان
الأراك يطلق على قضبانه أضيف لبيان المراد وهكذا وإلا فلغو
زائد مستهجن، وهنا لما كان الأنعام قد يختص بالإبل إذ هو أصل
معناه على ما قيل، ولذا لا يقال: النعم إلا لها أضيف إليه
بهيمة إشارة إلى ما قصد به، وذكر البهيمة وإفرادها لإرادة
الجنس، وجمع الأنعام ليشمل أنواعها وألحق بها الظباء وبقر
الوحش، وقيل: هما المراد بالبهيمة ونحوهما مما يماثل الأنعام
في الاجترار وعدم الأنياب، وروي ذلك عن الكلبي والفراء،
وإضافتها إلى الأنعام حينئذ لملابسة المشابهة بينهما، وجوز بعض
المحققين في إضافة المشبه للمشبه به كونها بمعنى اللام على جعل
ملابسة المشبه اختصاصا بينهما، أي بمعنى من البيانية على جعل
المشبه نفس المشبه به، وفائدة هذه الإضافة هنا الإشعار بعلة
الحكم المشتركة بين المتضايفين كأنه قيل: أحلت لكم البهيمة
المشبهة بالأنعام التي بين إحلالها فيما سبق لكم المماثلة لها
في مناط الحكم، وقيل:
المراد ببهيمة الأنعام ما يخرج من بطونها من الأجنة بعد ذكاتها
وهي ميتة، وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر- وهو المروي عن أبي
جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهم-
فيكون مفاد الآية صريحا حل أكلها، وبه قال الشافعي، واستدل
عليه بغير ما خبر، ويفهم منها حل الأنعام، وتقديم الجار
والمجرور على القائم مقام الفاعل لإظهار العناية بالمقدم لما
فيه من تعجيل المسرة والتشويق إلى ذكر المؤخر.
وفي الآية ردّ على المجوس فإنهم حرموا ذبح الحيوانات وأكلها
قالوا: لأن ذبحها إيلام والإيلام قبيح خصوصا إيلام من بلغ في
العجز إلى حيث لا يقدر أن يدفع عن نفسه والقبيح لا يرضى به
الإله الرحيم الحكيم.
وزعموا لعنهم الله أن إيلام الحيوانات إنما يصدر من الظلمة دون
النور، والتناسخية لم يجوزوا صدور الآلام منه تعالى ابتداء
بوجه من الوجوه إلا بطريق المجازاة على ما سبق من اقتراف
الجرائم، والتزموا أن البهائم مكلفة عالمة بما يجري عليها من
الآلام وأنها مجازاة على فعلها ولولا ذلك لما تصور انزجارها
بالآلام عن العود إلى الجريمة بتقدير انتقالها إلى بدن أشرف.
وزعم البعض منهم أنه ما من جنس من البهائم إلا وفيهم نبي مبعوث
إليهم من جنسهم، بل زعم آخرون أن جميع الجمادات أحياء مكلفة
وأنها مجازاة على ما تقترفه من الخير والشر، ونسب نحوا من ذلك
الإمام الشعراني إلى السادة الصوفية، وأبى أهل الظاهر ذلك كل
الإباء، ولما أشكل على البكرية من المسلمين الجواب عن هذه
الشبهة على أصولهم واعتقدوا ورود الأمر بذبح الحيوانات من الله
تعالى زعموا أن البهائم لا تتألم وكذلك الأطفال الذين لا
يعقلون، ولا يخفى أن ذلك مصادم للبديهة ولا يقصر عن إنكار حياة
المذكورين وحركاتهم وحسهم وإدراكهم، وأجاب المعتزلة بما ردّه
أهل السنة، وأجابوا بأن الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله
تعالى في خالص ملكه فلا اعتراض عليه، والتحسين والتقبيح
العقليان قد طوي بساط الكلام فيهما في علم الكلام وكذا القول
بالنور والظلمة، وقال بعض المحققين: لما كان الإنسان أشرف
أنواع الحيوانات وبه تمت نسخة العالم لم يقبح عقلا جعل شيء مما
دونه غذاء له مأذونا بذبحه وإيلامه اعتناء بمصلحته حسبما
تقتضيه الحكمة التي لا يحلق إلى سرها طائر الأفكار، وقال بعض
الناس: الآية مجملة لاحتمال أن يكون المراد إحلال الانتفاع
بجلدها أو عظمها أو صوفها أو الكل، وفيه نظر لأن ظهور تقدير
الأكل مما لا يكاد ينتطح فيه كبشان، نعم ذكر ابن السبكي وغيره
أن قوله تعالى: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ مجمل للجهل بمعناه
قبل نزول مبينه، ويسري الإجمال إلى ما تقدم، ولكن ذاك ليس محل
النزاع، والاستثناء متصل من بَهِيمَةُ بتقدير مضاف محذوف م ما
يُتْلى أي إلا محرم ما يُتْلى عَلَيْكُمْ، وعني بالمحرم الميتة
وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ إلى آخر ما ذكر في الآية
الثالثة من السورة، أو من فاعل يُتْلى أي إِلَّا ما يُتْلى
عَلَيْكُمْ
(3/224)
آية تحريمه لتكون ما عبارة عن البهيمة
المحرمة لا اللفظ المتلو، وجوز اعتبار التجوز في الإسناد من
غير تقدير وليس بالبعيد وأما جعله مفرغا من الموجب في موقع
الحال أي إلا كائنة على الحالات المتلوة فبعيد- كما قال
الشهاب- جدا، وذهب بعضهم إلى أنه منقطع بناء على الظاهر لأن
المتلو لفظ، والمستثنى منه ليس من جنسه والأكثرون على الأول،
ومحل المستثنى النصب وجوز الرفع على ما حقق في النحو غَيْرَ
مُحِلِّي الصَّيْدِ حال من الضمير في لَكُمْ على ما عليه أكثر
المفسرين، والصَّيْدِ يحتمل المصدر والمفعول، وقوله تعالى:
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ حال عما استكن في «محل» والحرم جمع حرام وهو
المحرم، ومحصل المعنى أحلت لكم هذه الأشياء لا محلين الاصطياد،
أو أكل الصيد في الإحرام، وفسر الزمخشري عدم إجلال الصيد في
حالة الإحرام بالامتناع عنه وهم محرمون حيث قال: كأنه قيل:
أحللنا لكم بعض الأنعام في حالة امتناعكم عن الصيد وَأَنْتُمْ
حُرُمٌ لئلا يكون عليكم حرج، ولم يحمل الاحلال على اعتقاد الحل
ظنّا منه أن تقييد الإحلال بعدم اعتقاد الحل غير موجه، وقد
يقال:
إن الأمر كذلك لو كان المراد مطلق اعتقاد الحل أما لو كان
المراد عدم اعتقاد ناشئ من الشرع ومترتب منه فلا لأن حاله إن
لم يكن عين حال الامتناع فليس بالأجنبي عنه كما لا يخفى على
المتدبر، وأشار إليه شيخ مشايخنا جرجيس أفندي الاربلي رحمة
الله تعالى عليه.
واعترض في البحر على ما ذهب إليه الأكثرون بأنه يلزم منه تقييد
إحلال بهيمة الأنعام بحال انتفاء حل الصيد وهم حرم، وهي قد
أحلت لهم مطلقا فلا يظهر له فائدة إلا إذا أريد ببهيمة الأنعام
الصيود المشبهة بها كالظباء وبقر الوحش وحمره، ودفع بأنه مع
عدم اطراد اعتبار المفهوم يعلم منه غيره بالطريق الأولى لأنها
إذا أحلت في عدم الإحلال لغيرها وهم محرمون لدفع الحرج عنهم،
فكيف في غير هذه الحال؟ فيكون بيانا لإنعام الله تعالى عليهم
بما رخص لهم من ذلك وبيانا لأنهم في غنية عن الصيد وانتهاك
حرمة الحرم.
وعبارة الزمخشري كالصريحة في ذلك، ودفعه العلامة الثاني بأن
المراد من الْأَنْعامِ ما هو أعم من الإنسي والوحشي مجازا أو
تغليبا أو دلالة أو كيفما شئت، وإحلالها على عمومها مختص بحال
كونكم غير محلين الصيد في الإحرام إذ معه يحرم البعض وهو
الوحش، ولا يخفى أنه توجيه وحشي لا ينبغي لحمزة- غابة التنزيل-
أن يقصده من مراصد عباراته، وذهب الأخفش إلى أن انتصاب غَيْرَ
على الحالية من ضمير أَوْفُوا وضعف بأن فيه الفصل من الحال
وصاحبها بجملة ليست اعتراضية إذ هي مبينة، وتخلل بعض أجزاء
المبين بين أجزاء المبين مع ما يجب فيه من تخصيص العقود بما هو
واجب أو مندوب في الحج، وإلا فلا يبقى للتقييد بتلك الحال- مع
أنهم مأمورون بمطلق العقود مطلقا- وجه.
وزعم العلامة أنه أقرب من الأول معنى وإن كان أبعد لفظا،
واستدل عليه بما هو على طرف الثمام، ثم قال:
ومنهم من جعله حالا من فاعل أحللنا المدلول عليه بقوله تعالى:
أُحِلَّتْ لَكُمْ ويستلزم جعل وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أيضا حالا من
مقدر أي حال كوننا غير محلين الصيد في حال إحرامكم وليس ببعيد
إلا من جهة انتصاب حالين متداخلين من غير ظهور ذي الحال في
اللفظ.
وتعقبه أبو حيان بأنه فاسد لأنهم نصوا على أن الفاعل المحذوف
في مثل هذا يصير نسيا منسيا فلا يجوز وقوع الحال منه، فقد
قالوا: لو قلت: أنزل الغيث مجيبا لدعائهم على أن مجيبا حال من
فاعل الفعل المبني للمفعول لم يجز لا سيما على مذهب القائلين:
بأن المبني للمفعول صيغة أصلية ليست محولة عن المعلوم على أن
في التقييد أيضا مقالا، وجعله بعضهم حالا من الضمير المجرور في
عَلَيْكُمْ ويرده أن الذي يُتْلى لا يتقيد بحال انتفاء
(3/225)
إحلالهم الصيد وهم حرم، بل هو يتلى عليهم
في هذه الحال وفي غيرها، ونقل العلامة البيضاوي عن بعض أن
النصب على الاستثناء، وذكر أن فيه تعسفا، وبينه مولانا شيخ
الكل في الكل صبغة الله أفندي الحيدري عليه الرحمة بأنه لو كان
استثناء لكان إما من الضمير في لَكُمْ أو في أَوْفُوا إذ لا
جواز لاستثنائه من بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ وعلى الأول يجب أن
يخص البهيمة بما عدا الأنعام مما يماثلها، أو تبقى على العموم
لكن بشرط إدارة المماثل فقط في حيز الاستثناء، وأن يجعل قوله
تعالى: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ من تتمة المستثنى بأن يكون حالا عما
استكن في مُحِلِّي ليصح الاستثناء إذ لا صحة له بدون هذين
الاعتبارين، فسوق العبارة يقتضي أن يقال: وهم حرم لأن
الاستثناء أخرج المحلين من زمرة المخاطبين، واعتبار الالتفات
هنا بعيد لكونه رافعا فيما هو بمنزلة كلمة واحدة، وعلى الثاني
يجب تخصيص العقود بالتكاليف الواردة في الحج، وتأويل الكلام
الطلبي بما يلزمه من الخبر مع ما يلزمه من الفصل بين المستثنى
والمستثنى منه بالأجنبي، وكل ذلك تعسف أي تعسف انتهى، وكأنه
رحمه الله تعالى لم يذكر احتمال كون الاستثناء من الاستثناء،
مع أن القرطبي نقله عن البصريين لأن ذلك فاسد- كما قاله
القرطبي وأبو حيان- لا متعسف إذ يلزم عليه إباحة الصيد في
الحرم لأن المستثنى من المحرم حلال، نعم ذكر أبو حيان أنه
استثناء من بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ على وجه عينه وأنفه التكلف
والتعسف فقد قال رحمه الله تعالى: إنما عرض الإشكال في الآية
حتى اضطرب الناس في تخريجها من كون رسم مُحِلِّي بالياء فظنوا
أنه اسم فاعل من أحل، وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم الفاعل
المتعدي إلى المفعول، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة، وأصل
غير محلين الصيد.
والذي يزول به الإشكال ويتضح المعنى أن يجعل قوله تعالى:
غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ من باب قولهم: حسان النساء، والمعنى
النساء الحسان، وكذا هذا أصله غير الصيد المحل، والمحلّ صفة
للصيد لا للناس، ووصف الصيد بأنه محل، إما بمعنى داخل في الحل
كما تقول أحل الرجل أي دخل في الحل، وأحرم أي دخل في الحرم، أو
بمعنى صار ذا حل أي حلالا بتحليل الله تعالى، ومجيء أفعل على
الوجهين المذكورين كثير في لسان العرب، فمن الأول أعرق وأشأم
وأيمن وأنجد وأتهم، ومن الثاني أعشبت الأرض وأبقلت، وأغد
البعير، وإذا تقرر أن الصيد يوصف بكونه محلا باعتبار الوجهين
اتضح كونه استثناء ثانيا، ثم إن كان المراد ب بَهِيمَةُ
الْأَنْعامِ أنفسها فهو استثناء منقطع، أو الظباء ونحوها فمتصل
على تفسير المحل بالذي يبلغ الحل في حال كونهم محرمين، «فإن
قلت» ما فائدة هذا الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذي في
الحرم لا يحل أيضا؟.
قلت: الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم،
والقصد بيان تحريم ما يختص تحريمه بالمحرم.
فإن قلت: ما ذكرته من هذا التوجيه الغريب يعكر عليه رسمه في
المصحف بالياء والوقف عليه بها.
قلت: قد كتبوا في المصحف أشياء تخالف النطق نحو «لأذبحنه»
بالألف، والوقف اتبعوا فيه الرسم انتهى.
وتعقبه السفاقسي بمثل ما قدمناه من حيث زيادة الياء، وفيها
التباس المفرد بالجمع وهم يفرّون من زيادة أو نقصان في الرسم،
فكيف يزيدون زيادة ينشأ عنها لبس؟ ومن حيث إضافة الصفة للموصوف
وهو غير مقيس، وقال الحلبي: إن فيه خرقا للإجماع فإنهم لم
يعربوا غير إلا حالا، وإنما اختلفوا في صاحبها، ثم قال
السفاقسي: ويمكن فيه تخريجان: أحدهما أن يكون غير استثناء
منقطعا، ومُحِلِّي جمع على بابه، والمراد به الناس الداخلون حل
الصيد، أي لكن إن دخلتم حل الصيد فلا يجوز لكم الاصطياد،
والثاني أن يكون متصلا من بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ، وفي الكلام
حذف مضاف، أي أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا صيد الداخلين حل
الاصطياد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فلا يحل، ويحتمل أن يكون على بابه
من التحليل، ويكون الاستثناء متصلا والمضاف محذوف، أي إلا صيد
محلي الاصطياد وَأَنْتُمْ
(3/226)
حُرُمٌ
، والمراد بالمحلين الفاعلون فعل من يعتقد التحليل فلا يحل،
ويكون معناه أن صيد الحرم كالميتة لا يحل أكله مطلقا، ويحتمل
أن يكون حالا من ضمير لكم، وحذف المعطوف للدلالة عليه وهو
كثير، وتقديره غير محلي الصيد محليه كما قال تعالى: تَقِيكُمُ
الْحَرَّ [النحل: 81] أي والبرد، وهو تخريج حسن.
هذا ولا يخفى أن يد الله تعالى مع الجماعة، وأن ما ذكره غيرهم
لا يكاد يسلم من الاعتراض.
إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ من الأحكام حسبما تقتضيه
مشيئته المبنية على الحكم البالغة التي تقف دونها الأفكار،
فيدخل فيها ما ذكره من التحليل والتحريم دخولا أوليا، وضمن
يَحْكُمُ معنى يفعل، فعداه بنفسه وإلا فهو متعد بالياء يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ لما
بين سبحانه حرمة إحلال الحرم الذي هو من شعائر الحج عقب جل
شأنه ببيان إحلال سائر الشعائر، وهو جمع شعرة، وهي اسم لما
أشعر، أي جعل شعارا وعلامة للنسك من مواقف الحج ومرامي الجمار
والطواف والمسعى، والأفعال التي هي علامات الحاج يعرف بها من
الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر، وإضافتها إلى الله
تعالى لتشريفها وتهويل الخطب في إحلالها، والمراد منه التهاون
بحرمتها، وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها، وروي عن عطاء أنه
فسر الشعائر بمعالم حدود الله تعالى وأمره ونهيه وفرضه، وعن
أبي علي الجبائي أن المراد بها العلامات المنصوبة للفرق بين
الحل والحرم، ومعنى إحلالها عنده مجاوزتها إلى مكة بغير إحرام،
وقيل: هي الصفا والمروة، والهدي من البدن وغيرها، وروي ذلك عن
مجاهد وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ أي لا تحلوه بأن تقاتلوا فيه
أعداءكم من المشركين- كما روي عن ابن عباس وقتادة- أو بالنسيء
كما نقل عن القتيبي، والأول هو الأولى بحال المؤمنين.
واختلف في المراد منه فقيل: رجب، وقيل: ذو القعدة، وروي ذلك عن
عكرمة، وقيل: الأشهر الأربعة الحرم، واختاره الجبائي والبلخي،
وإفراده لإرادة الجنس وَلَا الْهَدْيَ بأن يتعرض له بالغصب أو
بالمنع من أن يبلغ محله، والمراد به ما يهدى إلى الكعبة من إبل
أو بقر أو شاء، وهو جمع هدية- كجدي وجدية- وهي ما يحشى تحت
السرج والرحل، وخص ذلك بالذكر بناء على دخوله في الشعائر لأن
فيه نفعا للناس، ولأنه مالي قد يتساهل فيه، وتعظيما له لأنه من
أعظمها وَلَا الْقَلائِدَ جمع قلادة وهي ما يقلد به الهدي من
نعل أو لحاء شجر أو غيرهما ليعلم أنه هدي فلا يتعرض له،
والمراد النهي عن التعرض لذوات القلائد من الهدي وهي البدن،
وخصت بالذكر تشريفا لها واعتناء بها، أو التعرض لنفس القلائد
مبالغة في النهي عن التعرض لذواتها كما في قوله تعالى: وَلا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور: 31] فإنهن إذا نهين عن إظهار
الزينة كالخلخال والسوار علم النهي عن إبداء محلها بالطريق
الأولى، ونقل عن أبي علي الجبائي أن المراد النهي عن إحلال نفس
القلائد، وإيجاب التصدق بها إن كانت لها قيمة، وروي ذلك عن
الحسن، وروي عن السدي أن المراد من القلائد أصحاب الهدي فإن
العرب كانوا يقلدون من لحاء شجر مكة يقيم الرجل بمكة حتى إذا
انقضت الأشهر الحرم، وأراد أن يرجع إلى أهله قلد نفسه وناقته
من لحاء الشجر فيأمن حتى يأتي أهله، وقال الفراء: أهل الحرم
كانوا يتقلدون بلحاء الشجر، وغير أهل الحرم كانوا يتقلدون
بالصوف والشعر وغيرهما، وعن الربيع وعطاء أن المراد نهي
المؤمنين أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم يقلدون به كما كان
المشركون يفعلونه في جاهليتهم وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ
الْحَرامَ أي ولا تحلوا أقواما قاصدين البيت الحرام بأن تصدوهم
عنه بأي وجه كان، وجوز أن يكون على حذف مضاف أي قتال قوم أو
أذى قوم آمِّينَ.
وقرىء- ولا آمي البيت الحرام- بالإضافة، والْبَيْتَ مفعول به
لا ظرف، ووجه عمل اسم الفاعل فيه ظاهر، وقوله تعالى:
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً حال من
المستكن في آمِّينَ، وجوز أن يكون صفة،
(3/227)
وضعف بأن اسم الفاعل الموصوف لا يعمل لضعف
شبهه بالفعل الذي عمل بالحمل عليه لأن الموصوفية تبعد الشبه
بأنها من خواص الأسماء، وأجيب بأن الوصف إنما يمنع من العمل
إذا تقدم المعمول، فلو تأخر لم يمنع لمجيئه بعد الفراغ من
مقتضاه كما صرح به صاحب اللب وغيره، وتنكير فَضْلًا
وَرِضْواناً للتفخيم، ومِنْ رَبِّهِمْ متعلق بنفس الفعل، أو
بمحذوف وقع صفة- لفضلا- مغنية عن وصف ما عطف عليه بها، أي فضلا
كائنا من ربهم ورضوانا كذلك، والتعرض لعنوان الربوبية مع
الإضافة إلى ضميرهم لتشريفهم والإشعار بحصول مبتغاهم، والمراد
بهم المسلمون خاصة، والآية محكمة.
وفي الجملة إشارة إلى تعليل النهي واستنكار المنهي عنه كذا
قيل، واعترض بأن التعرض للمسلمين حرام مطلقا سواء كانوا آمين
أم لا؟ فلا وجه لتخصيصهم بالنهي عن الإحلال، ولذا قال الحسن
وغيره: المراد بالآمين هم المشركون خاصة، والمراد من الفضل
حينئذ الربح في تجاراتهم، ومن الرضوان ما في زعمهم، ويجوز
إبقاء الفضل على ظاهره إذا أريد ما في الزعم أيضا لكنه لما
أمكن حمله على ما هو في نفس الأمر كان حمله عليه أولى، ويؤيد
هذا القول إن الآية نزلت- كما قال السدي وغيره- في رجل من بني
ربيعة يقال له الحطيم بن هند، وذلك
أنه أتى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وحده وخلف خيله خارج
المدينة فقال: إلام تدعو الناس؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم:
إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة،
فقال: حسن إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم، ولعلي أسلم
وآتي بهم، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه:
يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان ثم خرج من عنده، فلما خرج
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لقد دخل بوجه كافر وخرج
بعقبى غادر وما الرجل بمسلم، فمر بسرح المدينة فاستاقه وانطلق
به وهو يرتجز ويقول:
قد لفها بسواق حطم ... ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بخوار على ظهر قطم ... باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم ... مدملج الساقين ممسوح القدم
فطلبه المسلمون فعجزوا، فلما خرج رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم عام قضاء العمرة التي أحصر عنها سمع تلبية حجاج اليمامة
فقال صلّى الله عليه وسلّم: هذا الحطيم وأصحابه فدونكموه وكان
قد قلد ما نهب من السرح وجعله هديا فلما توجهوا لذلك نزلت
الآية فكفوا.
وروي عن ابن زيد «أنها نزلت يوم فتح مكة في فوارس يؤمون البيت
من المشركين يهلون بعمرة فقال المسلمون: يا رسول الله هؤلاء
المشركون مثل هؤلاء، دعنا نغير عليهم، فأنزل الله سبحانه
الآية»
واختلف القائلون بأن المراد من الآمين المشركون في النسخ
وعدمه، فعن ابن جريج أنه لا نسخ لأنه يجوز أن يبتدىء المشركون
في الأشهر الحرم بالقتال، وأنت تعلم أن الآية ليست نصا في
القتال على تقدير تسليم ما في حيز التعليم، وقال أبو مسلم:
إن الآية منسوخة بقوله تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ
الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة: 28] ، وقيل: بآية
السيف، وقيل:
بهما، وقيل: لم ينسخ من هذه الآية إلا القلائد، وروي ذلك عن
ابن أبي نجيح عن مجاهد، وادعى بعضهم أن المراد بالآمين كافة
المسلمين والمشركين وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ، والنسخ
حينئذ في حق المشركين خاصة.
وبعض الأئمة يسمي مثل ذلك تخصيصا كما حقق في الأصول، ولا بد
على هذا من تفسير الفضل والرضوان بما يناسب الفريقين، وقرأ
حميد بن قيس الأعرج تبتغون بالتاء على خطاب المؤمنين، والجملة
على ذلك حال من ضمير المخاطبين في لا تُحِلُّوا على أن المراد
بيان منافاة حالهم هذه للمنهي عنه لا تقييد النهي بها، واعترض
بأنه لو أريد خطاب المؤمنين لكان المناسب من ربكم وربهم وأجيب
بأن ترك التعبير بما ذكر للتخويف بأن ربهم يحميهم ولا يرضى بما
فعلوه وفيه بلاغة لا تخفى. وإشارة إلى ما مر من أن الله تعالى
رب العالمين لا المسلمين فقط، وقال
(3/228)
شيخ الإسلام: إن إضافة الرب إلى ضمير
آمِّينَ على قراءة الخطاب للإيماء إلى اقتصار التشريف عليهم
وحرمان المخاطبين عنه وعن نيل المبتغى، وفي ذلك من تعليل النهي
وتأكيده والمبالغة في استنكار المنهي عنه ما لا يخفى وَإِذا
حَلَلْتُمْ من الإحرام المشار إليه بقوله سبحانه: وَأَنْتُمْ
حُرُمٌ فَاصْطادُوا أي فلا جناح عليكم بالاصطياد لزوال المانع،
فالأمر للإباحة بعد الحظر ومثله لا تدخلن هذه الدار حتى تؤدي
ثمنها فإذا أديت فادخلها أي إذا أديت أبيح لك دخولها، وإلى كون
الأمر للإباحة بعد الحظر ذهب كثير.
وقال صاحب القواطع: إنه ظاهر كلام الشافعي في أحكام القرآن،
ونقله ابن برهان عن أكثر الفقهاء والمتكلمين لأن سبق الحظر
قرينة صارفة، وهو أحد ثلاثة مذاهب في المسألة، ثانيها أنه
للوجوب لأن الصيغة تقتضيه، ووروده بعد الحظر لا تأثير له، وهو
اختيار القاضي أبي الطيب والشيخ أبي إسحاق والسمعاني والإمام
في المحصول، ونقله الشيخ أبو حامد الأسفرايني في كتابه عن أكثر
الشافعية، ثم قال: وهو قول كافة الفقهاء وأكثر المتكلمين،
وثالثها الوقف بينهما، وهو قول إمام الحرمين مع كونه أبطل
الوقف في لفظه ابتداء من غير تقدم حظر، ولا يبعد على- ما قاله
الزركشي- أن يقال هنا برجوع الحال إلى ما كان قبل، كما قيل في
مسألة النهي الوارد بعد الوجوب. ومن قال: إن حقيقة الأمر
المذكور للإيجاب قال: إنه مبالغة في صحة المباح حتى كأنه واجب،
وقيل: إن الأمر في مثله لوجوب اعتقاد الحل فيكون التجوز في
المادة كأنه قيل: اعتقدوا حل الصيد وليس بشيء، وقرىء- أحللتم-
وهو لغة في حل، وعن الحسن أنه قرىء فَاصْطادُوا بكسر الفاء
بنقل حركة همزة الوصل عليها، وضعفت من جهة العربية بأن النقل
إلى المتحرك مخالف للقياس، وقيل: إنه لم يقرأ بكسرة محضة بل
أمال لإمالة الطاء، وإن كانت من المستعلية وَلا
يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يحملنكم كما فسره به قتادة، ونقل عن
ثعلب والكسائي وغيرهما، وأنشدوا له بقوله:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن تغضبا
فجرم على هذا يتعدى لواحد بنفسه، وإلى الآخر بعلى، وقال الفراء
وأبو عبيدة: المعنى لا يكسبنكم، وجرم جار مجرى كسب في المعنى،
والتعدي إلى مفعول واحد وإلى اثنين يقال: جرم ذنبا نحو كسبه،
وجرمته ذنبا نحو كسبته إياه خلا أن جرم يستعمل غالبا في كسب ما
لا خير فيه، وهو السبب في إيثاره هاهنا على الثاني، ومنه
الجريمة، وأصل مادته موضوعة لمعنى القطع لأن الكاسب ينقطع
لكسبه، وقد يقال: أجرمته ذنبا على نقل المتعدي إلى مفعول
بالهمزة إلى مفعولين كما يقال: أكسبته ذنبا، وعليه قراءة عبد
الله «لا يجرمنكم» بضم الياء شَنَآنُ قَوْمٍ بفتح النون وقرأ
ابن عامر وأبو بكر عن عاصم، وإسماعيل عن نافع بسكونها، وفيهما
احتمالان: الأول أن يكونا مصدرين بمعنى البغض أو شدته شذوذا
لأن فعلان بالفتح مصدر ما يدل على الحركة- كجولان- ولا يكون
لفعل متعد كما قال: س، وهذا متعد إذ يقال: شنئته، ولا دلالة له
على الحركة إلا على بعد، وفعلان بالسكون في المصادر قليل نحو-
لويته ليانا- بمعنى مطلته، والثاني أن يكونا صفتين لأن فعلان
في الصفات كثير كسكران، وبالفتح ورد فيها قليلا- كحمار قطوان
عسر السير، وتيس عدوان كثير العدو- فإن كان مصدرا فالظاهر أن
إضافته إلى المفعول أي إن تبغضوا قوما، وجوز أن تكون إلى
الفاعل أي إن يبغضكم قوم، والأول أظهر- كما في البحر- وإن كان
وصفا فهو بمعنى بغيض، وإضافته بيانية وليس مضافا إلى مفعوله أو
فاعله كالمصدر أي البغيض من بينهم أَنْ صَدُّوكُمْ بفتح الهمزة
بتقدير اللام على أنه علة- للشنآن- أي لأن صدوكم عام الحديبية،
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الهمزة على أن أَنْ شرطية، وما
قبلها دليل الجواب، أو الجواب على القول المرجوح بجواز تقدمه،
وأورد على ذلك أنه لا صد بعد فتح مكة.
(3/229)
وأجيب بأنه للتوبيخ على أن الصدّ السابق
على فتح مكة مما لا يصح أن يكون وقوعه إلا على سبيل الفرض،
وذلك كقوله تعالى: أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [الزخرف:
5] وجوز أن يكون بتقدير إن كانوا قد صدوكم، وأن يكون على ظاهره
إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ
أَنْ صَدُّوكُمْ بعد ظهور الإسلام وقوته، ويعلم منه النهي عن
ذلك باعتبار الصد السابق بالطريق الأولى عَنِ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ أي عن زيارته والطواف به للعمرة، وهذه- كما قال شيخ
الإسلام- آية بينة في عموم آمِّينَ للمشركين قطعا، وجعلها
البعض دليلا على تخصيصه بهم أَنْ تَعْتَدُوا أي عليهم، وحذف
تعويلا على الظهور، وإيماء إلى أن المقصد الأصلي منع صدور
الاعتداء من المخاطبين محافظة على تعظيم الشعائر لا منع وقوعه
على القوم مراعاة لجانبهم، وأن على حذف الجار أي على أن
تعتدوا، والمحل بعده إما جر، أو نصب على المذهبين أي لا
يحملنكم بغض قوم لصدهم إياكم عن المسجد الحرام على اعتدائكم
عليهم وانتقامكم منهم للتشفي، أو لا حذف، والمنسبك ثاني مفعولي
يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يكسبنكم ذلك اعتداؤكم، وهذا على
التقديرين وإن كان بحسب الظاهر نهيا للشنآن عما نسب إليه لكنه
في الحقيقة نهي لهم عن الاعتداء على أبلغ وجه وآكده، فإن النهي
عن أسباب الشيء ومبادئه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني
وإبطال للسببية، ويقال: لا أرينك هاهنا والمقصود نهي المخاطب
على الحضور.
ووجه العلامة الطيبي الاعتراض بقوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ
فَاصْطادُوا بين ما تقدم وبين هذا النهي المتعلق به ليكون
إشارة وإدماجا إلى أن القاصدين ما داموا محرمين مبتغين فضلا من
ربهم كانوا كالصيد عند المحرم فلا تتعرضوهم، وإذا حللتم أنتم
وهم فشأنكم وإياهم لأنهم صاروا كالصيد المباح أبيح لكم تعرضهم
حينئذ.
وقال شيخ الإسلام: لعل تأخير هذا النهي عن ذلك مع ظهور تعلقه
بما قبله للإيذان بأن حرمة الاعتداء لا تنتهي بالخروج عن
الإحرام كانتهاء حرمة الاصطياد به بل هي باقية ما لم تنقطع
علاقتهم عن الشعائر بالكلية، وبذلك يعلم بقاء حرمة التعرض
لسائر الآمّين بالطريق الأولى، ولعله الأولى وَتَعاوَنُوا
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى عطف على وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ من
حيث المعنى كأنه قيل: لا تعتدوا على قاصدي المسجد الحرام لأجل
أن صددتم عنه وتعاونوا على العفو والإغضاء، وقال بعضهم: هو
استئناف والوقف على أَنْ تَعْتَدُوا لازم، واختار غير واحد أن
المراد بالبر متابعة الأمر مطلقا، وبالتقوى اجتناب الهوى لتصير
الآية من جوامع الكلم وتكون تذييلا للكلام، فيدخل في البر
والتقوى جميع مناسك الحج، فقد قال تعالى: فَإِنَّها مِنْ
تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32] ويدخل العفو والإغضاء أيضا
دخولا أوليا، وعلى العموم أيضا حمل قوله تعالى: وَلا
تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ فيعم النهي كل ما هو
من مقولة الظلم والمعاصي، ويندرج فيه النهي عن التعاون على
الاعتداء والانتقام.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي العالية أنهما فسرا
الإثم بترك ما أمرهم به وارتكاب ما نهاهم عنه، والعدوان
بمجاوزة ما حده سبحانه لعباده في دينهم وفرضه عليهم في أنفسهم،
وقدمت التحلية على التخلية مسارعة إلى إيجاب ما هو المقصود
بالذات، وقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ أمر بالاتقاء في جميع
الأمور التي من جملتها مخالفة ما ذكر من الأوامر والنواهي،
ويثبت وجوب الاتقاء فيها بالطريق البرهاني.
إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن لا يتقيه، وهذا في موضع
التعليل لما قبله، وإظهار الاسم الجليل لما مر غير مرة
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ شروع في بيان المحرمات التي
أشير إليها بقوله سبحانه: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ والمراد
تحريم أكل الميتة، وهي ما فارقه الروح حتف أنفه من غير سبب
خارج عنه وَالدَّمُ أي المسفوح منه وكان أهل الجاهلية يجعلونه
في المباعر ويشوونه ويأكلونه، وأما الدم غير المسفوح كالكبد
فمباح، وأما الطحال فالأكثرون على
(3/230)
إباحته، وأجمعت الإمامية على حرمته،
ورويت الكراهة فيه عن علي كرم الله تعالى وجهه
وابن مسعود رضي الله تعالى عنه وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ إقحام
اللحم لما مر، وأخذ داود وأصحابه بظاهره فحرموا اللحم وأباحوا
غيره، وظاهر العطف أنه حرام حرمة غيره، وأخرج عبد الرزاق في
المصنف عن قتادة أنه قال: «من أكل لحم الخنزير عرضت عليه
التوبة فإن تاب وإلا قتل» وهو غريب، ولعل ذلك لأن أكله صار
اليوم من علامات الكفر كلبس الزنار، وفيه تأمل وَما أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي رفع الصوت لغير الله تعالى عند ذبحه،
والمراد بالإهلال هنا ذكر ما يذبح له- كاللات والعزى-
وَالْمُنْخَنِقَةُ قال السدي: هي التي يدخل رأسها بين شعبتين
من شجرة فتختنق فتموت، وقال الضحاك وقتادة: هي التي تختنق بحبل
الصائد فتموت.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان أهل الجاهلية يخنقون
البهيمة ويأكلونها فحرم ذلك على المؤمنين، والأولى أن تحمل على
التي ماتت بالخنق مطلقا وَالْمَوْقُوذَةُ أي التي تضرب حتى
تموت، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة والسدي، وهو
من وقذته بمعنى ضربته، وأصله أن تضربه حتى يسترخي، ومنه وقذه
النعاس أي غلب عليه وَالْمُتَرَدِّيَةُ أي التي تقع من مكان
عال أو في بئر فتموت وَالنَّطِيحَةُ أي التي ينطحها غيرها
فتموت، وتاؤها للنقل فلا يرد أن فعيل بمعنى مفعول لا يدخله
التاء، وقال بعض الكوفيين: إن ذلك حيث ذكر الموصوف مثل- كف
خضيب وعين كحيل- وأما إذا حذف فيجوز دخول التاء فيه، ولا حاجة
إلى القول بأنها للنقل، وقرىء والمنطوحة وَما أَكَلَ السَّبُعُ
أي ما أكل منه السبع فمات وفسر بذلك لأن ما أكله كله لا يتعلق
به حكم ولا يصح أن يستثنى منه قوله تعالى: إِلَّا ما
ذَكَّيْتُمْ أي إلا ما أدركتموه وفيه بقية حياة يضطرب اضطراب
المذبوح وذكيتموه
وعن السيدين السندين الباقر والصادق رضي الله تعالى عنهما أن
أدنى ما يدرك به الذكاة أن يدركه وهو يحرك الأذن أو الذنب أو
الجفن،
وبه قال الحسن وقتادة وإبراهيم وطاوس والضحاك وابن زيد، وقال
بعضهم: يشترط الحياة المستقرة وهي التي لا تكون على شرف الزوال
وعلامتها على ما قيل: أن يضطرب بعد الذبح لا وقته، وعن علي كرم
الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الاستثناء
راجع إلى جميع ما تقدم ذكره من المحرمات سوى ما لا يقبل الذكاة
من الميتة والدم والخنزير وما أكل السبع على تقدير إبقائه على
ظاهره، وقيل: هو استثناء من التحريم لا من المحرمات، والمعنى
حرم عليكم سائر ما ذكر لكن ما ذكيتم مما أحله الله تعالى
بالتذكية فإنه حلال لكم.
وروي ذلك عن مالك وجماعة من أهل المدينة، واختاره الجبائي،
والتذكية في الشرع قطع الحلقوم والمريء بمحدد، والتفصيل في
الفقه، واستدل بالآية على أن جوارح الصيد إذا أكلت مما صادته
لم يحل.
وقرأ الحسن: «السبع» بسكون الباء، وابن عباس رضي الله تعالى
عنهما- وأكيل السبع.. وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ جمع نصاب
كحمر وحمار، وقيل: واحد الأنصاب كطنب وأطناب، واختلف فيها فقيل
هي حجارة كانت حول الكعبة وكانت ثلاثمائة وستين حجرا، وكان أهل
الجاهلية يذبحون عليها- فعلى- على أصلها، ولعل ذبحهم عليها كان
علامة لكونه لغير الله تعالى وقيل: هي الأصنام لأنها تنصب
فتعبد من دون الله تعالى، وعَلَى إما بمعنى اللام، أو على
أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأصنام.
واعترض بأنه حينئذ يكون كالتكرار لقوله سبحانه: وَما أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ والأمر في ذلك هين، والموصول معطوف على
المحرمات، وقرىء النُّصُبِ بضم النون وتسكين الصاد تخفيفا،
وقرىء بفتحتين، وبفتح فسكون وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا
بِالْأَزْلامِ جمع زلم- كجمل- أو زلم- كصرد- وهو القدح، أي
وحرم عليكم الاستقسام بالأقداح
(3/231)
وذلك أنهم- كما روي عن الحسن وغيره- إذا
قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح، مكتوب على أحدها أمرني ربي،
وعلى الثاني نهاني ربي وأبقوا الثالث غفلا لم يكتب عليه شيء
فإن خرج الآمر مضوا لحاجتهم، وإن خرج الناهي تجنبوا، وإن خرج
الغفل أجالوها ثانيا، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم
دون ما لم يقسم بالأزلام، واستشكل تحريم ما ذكر بأنه من جملة
التفاؤل، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يحب الفأل.
وأجيب بأنه كان استشارة مع الأصنام واستعانة منهم كما يشير إلى
ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أنهم إذا
أرادوا ذلك أتوا بيت أصنامهم وفعلوا ما فعلوا فلهذا صار حراما،
وقيل: لأن فيه افتراء على الله تعالى إن أريد- بربي- الله
تعالى، وجهالة وشركا إن أريد به الصنم، وقيل: لأنه دخول في علم
الغيب الذي استأثر الله تعالى به، واعترض بأنا لا نسلم أن
الدخول في علم الغيب حرام، ومعنى استئثار الله تعالى بعلم
الغيب أنه لا يعلم إلا منه، ولهذا صار استعلام الخير والشر من
المنجمين والكهنة ممنوعا حراما بخلاف الاستخارة من القرآن فإنه
استعلام من الله تعالى، ولهذا أطبقوا على جوازها ومن ينظر في
ترتيب المقدمات أو يرتاض فهو لا يطلب إلا علم الغيب منه سبحانه
فلو كان طلب علم الغيب حراما لا نسد طريق الفكر والرياضة، ولا
قائل به.
وقال الإمام رحمه الله تعالى: لو لم يجز طلب علم الغيب لزم أن
يكون علم التعبير كفرا لأنه طلب للغيب، وأن يكون أصحاب
الكرامات المدعون للإلهامات كفارا، ومعلوم أن كل ذلك باطل،
وتعقب القول- بجواز الاستخارة بالقرآن- بأنه لم ينقل فعلها عن
السلف، وقد قيل: إن الإمام مالكا كرهها. وأما ما في فتاوى
الصوفية نقلا عن الزندوستي من أنه لا بأس بها وأنه قد فعلها
علي كرم الله تعالى وجهه ومعاذ رضي الله تعالى عنه.
وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال:- من أراد أن يتفاءل
بكتاب الله تعالى فليقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:
1] سبع مرات، وليقل ثلاث مرات: اللهم بكتابك تفاءلت، وعليك
توكلت، اللهم أرني في كتابك ما هو المكتوم من سرك المكنون في
غيبك، ثم يتفاءل بأول الصحيفة- ففي النفس منه شيء.
وفي كتاب الأحكام للجصاص أن الآية تدل على بطلان القرعة في عتق
العبيد لأنها في معنى ذلك بعينه إذا كان فيها إثبات ما أخرجته
القرعة من غير استحقاق كما إذا أعتق أحد عبيده عند موته على ما
بين في الفقه، ولا يرد أن القرعة قد جازت في قسمة الغنائم
مثلا، وفي إخراج النساء لأنا نقول: إنها فيما ذكر لتطييب
النفوس والبراءة من التهمة في إيثار البعض ولو اصطلحوا على ذلك
جاز من غير قرعة، وأما الحرية الواقعة على واحد من البعيد فيما
نحن فيه فغير جائز نقلها عنه إلى غيره، وفي استعمال القرعة
النقل، وخالف الشافعي في ذلك، فجوز القرعة في العتق كما جوزها
في غيره، وظواهر الأدلة معه، وتحقيق ذلك في موضعه.
والحق عندي أن الاستقسام الذي كان يفعله أهل الجاهلية حرام بلا
شبهة كما هو نص الكتاب، وأن حرمته ناشئة من سوء الاعتقاد، وأنه
لا يخلو عن تشاؤم، وليس بتقاؤل محض، وإن مثل ذلك ليس من الدخول
في علم الغيب أصلا بل هو من باب الدخول في الظن، وأن الاستخارة
بالقرآن مما لم يرد فيها شيء يعول عليه عن الصدر الأول، وتركها
أحب إليّ لا سيما وقد أغنى الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه
وسلّم عنها بما سن من الاستخارة الثابتة في غير ما خبر صحيح،
وأن تصديق المنجمين فيما ليس من جنس الخسوف والكسوف مما يخبرون
به من الحوادث المستقبلة محظور وليس من علم الغيب ولا دخولا
فيه، وإن زعمه الزجاج لبنائه على الأسباب، ونقل الشيخ محيي
الدين النووي في شرح مسلم عن القاضي كانت الكهانة في العرب
ثلاثة أضرب: أحدها أن يكون للإنسان رئي من الجن يخبره به بما
يسترقه من السمع من السماء، وهذا القسم بطل من حين بعث الله
تعالى نبينا صلّى الله عليه وسلّم الثاني أن يخبره بما يطرأ
ويكون في
(3/232)
أقطار الأرض وما خفي عنه مما قرب أو بعد،
وهذا لا يبعد وجوده، ونفت المعتزلة وبعض المتكلمين هذين
الضربين وأحالوهما، ولا استحالة في ذلك ولا بعد في وجوده لكنهم
يصدقون ويكذبون، والنهي عن تصديقهم والسماع منهم عام، الثالث
المنجمون وهذا الضرب بخلق الله تعالى في بعض الناس قوة ما لكن
الكذب فيه أغلب، ومن هذا الفن العرافة فصاحبها عرّاف وهو الذي
يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها بها- كالزجر
والطرق بالحصى- وهذه الأضراب كلها تسمى كهانة، وقد أكذبهم
الشرع ونهى عن تصديقهم وإتيانهم انتهى.
ولعل النهي عن ذلك لغلبة الكذب في كلامهم ولأن في تصديقهم فتح
باب يوصل إلى لظى إذ قد يجر إلى تعطيل الشريعة والطعن فيها لا
سيما من العوام، واستثناء ما هو من جنس الكسوف والخسوف لندرة
خطئهم فيه بل لعدمه إذا أمكنوا الحساب، ولا كذلك ما يخبرون به
من الحوادث إذ قد بنوا ذلك على أوضاع السيارات بعضها مع بعض،
أو مع بعض الثوابت ولا شك أن ذلك لا يكفي في الغرض والوقوف على
جميع الأوضاع، وما تقتضيه مما يتعذر الوقوف عليه لغير علام
الغيوب فليفهم، وقيل: المراد بالاستقسام استقسام الجزور
بالأقداح على الأنصباء المعلومة أي طلب قسم من الجزور أو ما
قسمه الله تعالى عنهم، ورجح بأنه يناسب ذكره مع محرمات الطعام،
وروي عن مجاهد أنه فسر الأزلام بسهام العرب وكعاب فارس التي
يتقامرون بها.
وعن وكيع أنها أحجار الشطرنج ذلِكُمْ أي الاستقسام بالأزلام،
ومعنى البعد فيه الإشارة إلى بعد منزلته في الشر فِسْقٌ أي ذنب
عظيم وخروج عن طاعة الله تعالى إلى معصيته لما أشرنا إليه، وعن
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ذلِكُمْ إشارة إلى تناول
جميع ما تقدم من المحرمات المعلوم من السياق الْيَوْمَ أي
الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الآتية، وقيل: يوم نزول
الآية، وروي ذلك عن ابن جريج ومجاهد وابن زيد، وكان- كما رواه
الشيخان عن عمر رضي الله تعالى عنه- عصر يوم الجمعة عرفة حجة
الوداع، وقيل: يوم دخوله صلّى الله عليه وسلّم مكة لثمان بقين
من رمضان سنة تسع، وقيل: سنة ثمان، وهو منصوب على الظرفية
بقوله تعالى: يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ
واليأس انقطاع الرجاء وهو ضد الطمع.
والمراد انقطع رجاؤهم من إبطال دينكم ورجوعكم عنه بتحليل هذه
الخبائث وغيرها، أو من أن يغلبوكم عليه لما شاهدوا أن الله
تعالى وفى بوعده حيث أظهره على الدين كله.
وروي أنه لما نزلت الآية نظر صلّى الله عليه وسلّم في الموقف
فلم ير إلا مسلما، ورجح هذا الاحتمال بأنه الأنسب بقوله
سبحانه: فَلا تَخْشَوْهُمْ أن يظهروا عليكم وهو متفرع عن اليأس
وَاخْشَوْنِ أن أحل بكم عقابي إن خالفتم أمري وارتكبتم معصيتي
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بالنصر والإظهار لأنهم
بذلك يجرون أحكام الدين من غير مانع وبه تمامه، وهذا كما تقول:
تم لي الملك إذا كفيت ما تخافه، وإلى ذلك ذهب الزجاج، وعن ابن
عباس والسدي أن المعنى اليوم أكملت لكم حدودي وفرائضي وحلالي
وحرامي بتنزيل ما أنزلت وبيان ما بينت لكم فلا زيادة في ذلك
ولا نقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم، وكان يوم عرفة عام حجة
الوداع، واختاره الجبائي والبلخي وغيرهما، وادعوا أنه لم ينزل
بعد ذلك شيء من الفرائض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في
تحليل ولا تحريم، وأنه عليه الصلاة والسلام لم يلبث بعد سوى
أحد وثمانين يوما، ومضى- روحي فداه- إلى الرفيق الأعلى صلّى
الله عليه وسلّم.
وفهم عمر رضي الله تعالى عنه لما سمع الآية نعي رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم،
فقد أخرج ابن أبي شيبة عن عنترة «أن عمر رضي الله تعالى عنه
لما نزلت الآية بكى فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما
يبكيك؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا كمل
فإنه لم يكمل شيء قط إلا نقص فقال عليه الصلاة والسلام: صدقت»
ولا يحتج بها على هذا القول على إبطال
(3/233)
القياس- كما زعم بعضهم- لأن المراد إكمال
الدين نفسه ببيان ما يلزم بيانه، ويستنبط منه غيره والتنصيص
على قواعد العقائد، والتوقيف على أصول الشرع وقوانين الاجتهاد،
وروي عن سعيد بن جبير وقتادة أن المعنى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ حجكم وأقررتكم بالبلد الحرام تحجونه دون المشركين-
واختاره الطبري- وقال: يرد على ما روي عن ابن عباس والسدي رضي
الله تعالى عنهم أن الله تعالى أنزل بعد ذلك آية الكلالة وهي
آخر آية نزلت، واعترض بالمنع، وتقديم الجار للإيذان من أول
الأمر بأن الإكمال لمنفعتهم ومصلحتهم، وفيه أيضا تشويق إلى ذكر
المؤخر كما في قوله تعالى: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وليس الجار فيه متعلقا- بنعمتي- لأن المصدر لا يتقدم عليه
معموله، وقيل: متعلق به ولا بأس بتقدم معمول المصدر إذا كان
ظرفا، وإتمام النعمة على المخاطبين بفتح مكة، ودخولها آمنين
ظاهرين، وهدم منار الجاهلية ومناسكها، والنهي عن حج المشركين
وطواف العريان، وقيل: بإتمام الهداية والتوفيق بإتمام سببهما،
وقيل: بإكمال الدين، وقيل: بإعطائهم من العلم والحكمة ما لم
يعطه أحدا قبلهم، وقيل: معنى أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
أنجزت لكم وعدي بقوله سبحانه: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً أي اخترته لكم
من بين الأديان، وهو الدين عند الله تعالى لا غير وهو المقبول
وعليه المدار.
وأخرج ابن جبير عن قتادة قال: «ذكر لنا أنه يمثل لأهل كل دين
دينهم يوم القيامة، فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله ويعدهم في
الخير حتى يجيء الإسلام فيقول: رب أنت السلام وأنا الإسلام،
فيقول: إياك اليوم أقبل وبك اليوم أجزي»
وقد نظر في الرضا معنى الاختيار ولذا عدي باللام، ومنهم من جعل
الجار- صفة لدين- قدم عليه فانتصب حالا، والْإِسْلامَ ودِيناً
مفعولا رَضِيتُ إن ضمن معنى صير، أو دِيناً منصوب على الحالية
من الإسلام، أو تمييز من لَكُمْ والجملة- على ما ذهب إليه
الكرخي- مستأنفة لا معطوفة على أَكْمَلْتُ وإلا كان مفهوم ذلك
أنه لم يرض لهم الإسلام قبل ذلك اليوم دينا، وليس كذلك إذ
الإسلام لم يزل دينا مرضيا لله تعالى وللنبي صلّى الله عليه
وسلّم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم منذ شرع والجمهور على
العطف، وأجيب عن التقييد بأن المراد برضاه سبحانه حكمه جل وعلا
باختياره حكما أبديا لا ينسخ وهو كان في ذلك اليوم.
وأخرج الشيعة عن أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت بعد أن قال
النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلي كرم الله تعالى وجهه في غدير
خم: من كنت مولاه فعلي مولاه فلما نزلت قال عليه الصلاة
والسلام: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضاء الرب
برسالتي وولاية علي كرم الله تعالى وجهه بعدي،
ولا يخفى أن هذا من مفترياتهم، وركاكة الخبر شاهدة على ذلك في
مبتدأ الأمر، نعم ثبت عندنا
أنه صلّى الله عليه وسلّم قال في حق الأمير كرم الله تعالى
وجهه هناك: من كنت مولاه فعلي مولاه
وزاد على ذلك- كما في بعض الروايات- لكن لا دلالة في الجميع
على ما يدعونه من الإمامة الكبرى والزعامة العظمى كما سيأتي إن
شاء الله تعالى غير بعيد.
وقد بسطنا الكلام عليه في كتابنا النفحات القدسية في رد
الإمامية ولم يتم إلى الآن ونسأل الله تعالى إتمامه، ورواياتهم
في هذا الفصل ينادي لفظها على وضعها، وقد أكثر منها يوسف إلا
والى عليه ما عليه فَمَنِ اضْطُرَّ متصل بذكر المحرمات وما
بينهما، وهو سبع جمل- على ما قال الطيبي- اعتراض بما يوجب
التجنب عنها، وهو أن تناولها فسق عظيم، وحرمتها من جملة الدين
الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضي، والاضطرار الوقوع في
الضرورة، أي فمن وقع في ضرورة تناول شيء من هذه المحرمات فِي
مَخْمَصَةٍ أي مجاعة تخمص لها البطون أن تضمر يخاف معها أو
مبادئه غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ أي غير مائل ومنحرف إليه
ومختار له بأن يأكل منها زائدا على ما يمسك رمقه، فإن ذلك
حرام- كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله تعالى عنهم-
وبه قال أهل العراق، وقال أهل
(3/234)
المدينة: يجوز أن يشبع عند الضرورة، وقيل:
المراد غير عاص بأن يكون باغيا، أو عاديا بأن ينتزعها من مضطر
آخر أو خارجا في معصيته، وروي هذا أيضا عن قتادة فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا يؤاخذه بأكله وهو الجواب في
الحقيقة، وقد أقيم سببه مقامه، وقيل: إنه مقدر في الكلام
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ شروع في تفصيل المحللات
التي ذكر بعضها على وجه الإجمال إثر بيان المحرمات،
أخرج ابن جرير والبيهقي في سننه وغيرهما عن أبي رافع قال: «جاء
جبريل عليه السلام إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فاستأذن
عليه فأذن له فأبطأ فأخذ رداءه فخرج إليه وهو قائم بالباب فقال
عليه الصلاة والسلام: قد أذنا لك قال: أجل ولكنا لا ندخل بيتا
فيه صورة ولا كلب فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو، قال أبو
رافع: فأمرني صلّى الله عليه وسلّم أن أقتل كل كلب بالمدينة
ففعلت، وجاء الناس فقالوا: يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه
الأمة التي أمرت بقتلها فسكت النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل
الله تعالى يسألونك الآية.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن السائل عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة
وعويم بن ساعدة، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن السائل عدي
بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيان، وقد ضمن السؤال معنى القول،
ولذا حكيت به الجملة كما تحكى بالقول، وليس معلقا لأنه وإن لم
يكن من أفعال القلوب لكنه سبب للعلم وطريق له، فيعلق كما يعلق
خلافا لأبي حيان، فاندفع ما قيل: إن السؤال ليس مما يعمل في
الجمل ويتعدى بحرف الجر، فيقال: سئل عن كذا، وادعى بعضهم لذلك
أنه بتقدير مضاف أي جواب ماذا، والأول مختار الأكثرين، وضمير
الغيبة دون ضمير المتكلم الواقع في كلامهم لما أن يسألون بلفظ
الغيبة كما تقول: أقسم زيد ليضربن، ولو قلت: لأضربن جاز،
والمسئول نظرا للكلام السابق ما أحل من المطاعم والمآكل، وقيل:
إن المسئول ما أحل من الصيد والذبائح قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّباتُ أي ما لم تستخبثه الطباع السليمة ولم تنفر عنه،
وإلى ذلك ذهب البلخي، وعن أبي علي الجبائي وأبي مسلم هي ما أذن
سبحانه في أكله من المأكولات والذبائح والصيد، وقيل: ما لم يرد
بتحريمه نص أو قياس، ويدخل في ذلك الإجماع إذ لا بد من استناده
لنص وإن لم نقف عليه، والطيب- على هذين القولين- بمعنى الحلال،
وعلى الأول بمعنى المستلذ، وقد جاء بالمعنيين وَما عَلَّمْتُمْ
مِنَ الْجَوارِحِ عطف على الطيبات بتقدير مضاف على أن ما
موصولة، والعائد محذوف أي وصيد ما علمتموه، قيل: والمراد مصدره
لأنه الذي أحل بعطفه على الطَّيِّباتُ من عطف الخاص على العام،
وقيل: الظاهر أنه لا حاجة إلى جعل الصيد بمعنى المصيد لأنه
الحل والحرمة مما يتعلق بالفعل، ويحتمل أن تكون ما شرطية
مبتدأ، والجواب فكلوا، والخبر الجواب، والشرط على المختار،
والجملة عطف على جملة أُحِلَّ لَكُمُ ولا يحتاج إلى تقدير
مضاف.
ونقل عن الزمخشري أنه قال بالتقدير فيه، وقال تقديره لا يبطل
كون ما شرطية لأن المضاف إلى اسم الشرط في حكم المضاف إليه-
كما تقول- غلام من يضرب أضرب- كما تقول- من يضرب أضرب، وتعقب
بأنه على ذلك التقدير يصير الخبر خاليا عن ضمير المبتدأ إلا أن
يتكلف بجعل مِمَّا أَمْسَكْنَ من وضع الظاهر موضع ضمير ما
عَلَّمْتُمْ فافهم، وجوز كونها مبتدأ على تقدير كونها موصولة
أيضا، والخبر كلوا، والفاء إنما دخلت تشبيها للموصول باسم
الشرط لكنه خلاف الظاهر، ومِنَ الْجَوارِحِ حال من الموصول، أو
من ضميره المحذوف، والْجَوارِحِ جمع جارحة، والهاء فيها- كما
قال أبو البقاء- للمبالغة، وهي صفة غالبة إذ لا يكاد يذكر معها
الموصوف، وفسرت بالكواسب من سباع البهائم والطير، وهو من
قولهم: جرح فلان أهله خيرا إذا أكسبهم، وفلان جارحة أهله أي
كاسبهم، وقيل: سميت جوارح لأنها تجرح الصيد غالبا.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما والسدي والضحاك- وهو
المروي عن أئمة أهل البيت بزعم الشيعة- أنها
(3/235)
الكلاب فقط
مُكَلِّبِينَ أي معلمين لها الصيد، والمكلب مؤدب الجوارح
ومضربها بالصيد، وهو مشتق من الكلب لهذا الحيوان المعروف لأن
التأديب كثيرا ما يقع فيه أو لأن كل سبع يسمى كلبا على ما قيل،
فقد أخرج الحاكم في المستدرك- وقال: صحيح الإسناد- من حديث أبي
نوفل قال: «كان لهب بن أبي لهب يسب النبي صلّى الله عليه
وسلّم، فقال صلّى الله عليه وسلّم:
اللهم سلط عليه كلبا من كلابك- أو كلبك- فخرج في قافلة يريد
الشام فنزلوا منزلا فيه سباع فقال: إني أخاف دعوة محمد صلّى
الله عليه وسلّم فجعلوا متاعه حوله وقعدوا يحرسونه فجاء أسد
فانتزعه وذهب به» ،
ولا يخفى أن في شمول ذلك لسباع الطير نظرا، ولا دلالة في تسمية
الأسد كلبا عليه.
وجوز أن يكون مشتقا من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة، يقال: هو
كلب بكذا إذا كان ضاريا به، وانتصابه على الحالية من فاعل
عَلَّمْتُمْ، وفائدتها المبالغة في التعليم لما أن المكلب لا
يقع إلا على النحرير في علمه، وعن ابن عباس وابن مسعود والحسن
رضي الله تعالى عنهم أنهم قرؤوا مُكَلِّبِينَ بالتخفيف من
أكلب، وفعل وأفعل قد يستعملان بمعنى واحد تُعَلِّمُونَهُنَّ
حال من ضمير مُكَلِّبِينَ أو استئنافية إن لم تكن ما شرطية
وإلا فهي معترضة، وجوز أن تكون حالا ثانية من ضمير عَلَّمْتُمْ
ومنع ذلك أبو البقاء بأن العامل الواحد لا يعمل في حالين وفيه
نظر، ولم يستحسن جعلها حالا من الْجَوارِحِ للفصل بينهما.
مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من الحيل وطرق التعليم والتأديب،
وذلك إما بالإلهام منه سبحانه، أو بالعقل الذي خلقه فيهم جل
وعلا، وقيل: المراد مما عرفكم سبحانه أن تعلموه من اتباع الصيد
بأن يسترسل بإرسال صاحبه وينزجر بزجره وينصرف بدعائه ويمسك
عليه الصيد ولا يأكل منه.
ورجح بدلالته على أن المعلم ينبغي أن يكون مكلبا فقيها أيضا،
ومن- أجلية، وقيل: تبعيضية أي بعض ما علمكم الله فَكُلُوا
مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ جملة متفرعة على بيان حل صيد
الجوارح المعلمة مبينة للمضاف المقدر ومشيرة إلى نتيجة التعليم
وأثره، أو جواب للشرط، أو خبر للمبتدأ، ومن- تبعيضية إذ من
الممسك ما لا يؤكل كالجلد والعظم وغير ذلك، وقيل: «زائدة على
رأي الأخفش وخروج ما ذكر بديهي وما موصولة أو موصوفة، والعائد
محذوف أي أمسكنه، وضمير المؤنث للجوارح، وعَلَيْكُمْ متعلق
بأمسكن، والاستعلاء مجازي والتقييد بذلك لإخراج ما أمسكنه على
أنفسهن، وعلامته أن يأكلن منه فلا يؤكل منه وقد أشار إلى ذلك
صلّى الله عليه وسلّم،
روى أصحاب السنن عن عدي بن حاتم قال: «سألت النبي صلّى الله
عليه وسلّم عن صيد الكلب المعلم فقال عليه الصلاة والسلام: إذا
أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله تعالى فكل مما أمسك عليك،
فإن أكل منه فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه»
وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه
والشعبي وعكرمة، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وأصحابه:
إذا أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم لا يؤكل صيده، ويؤكل صيد
البازي ونحوه وإن أكل، لأن تأديب سباع الطير إلى حيث لا تؤكل
متعذر، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج
عبد بن حميد عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا أكل الكلب
فلا تأكل وإذا أكل الصقر فكل، لأن الكلب تستطيع أن تضربه،
والصقر لا تستطيع أن تضربه، وعليه إمام الحرمين من الشافعية،
وقال مالك والليث: يؤكل وإن أكل الكلب منه، وقد روي عن سلمان
وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أنه إذا أكل
الكلب ثلثيه وبقي ثلثه وقد ذكرت اسم الله تعالى عليه فكل
وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ الضمير- لما علمتم- كما
يدل عليه الخبر السابق، والمعنى سموا عليه عند إرساله وروي ذلك
عن ابن عباس والحسن والسدي، وقيل:- لما أمسكن- أي سموا عليه
إذا أدركتم ذكاته، وقيل: للمصدر المفهوم من- كلوا- أي سموا
الله تعالى على الأكل- وهو بعيد- وإن استظهره أبو حيان، والأمر
(3/236)
للوجوب عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه،
وللندب عند الشافعي، وهو على القول الأخير للندب بالاتفاق
وَاتَّقُوا اللَّهَ في شأن محرماته، ومنها أكل صيد الجوارح
الغير المعلمة إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي سريع إتيان
حسابه، أو سريع إتمامه إذا شرع فيه، فقد جاء- أنه سبحانه يحاسب
الخلق كلهم في نصف يوم- والمراد على التقديرين أنه جل شأنه
يؤاخذكم على جميع الأفعال حقيرها وجليلها، وإظهار الاسم الجليل
لتربية المهابة وتعليل الحكم، ولعل ذكر هذا إثر بيان حكم الصيد
لحث متعاطيه على التقوى لما أنه مظنة التهاون والغفلة عن طاعة
الله تعالى فقد رأينا أكثر من يتعاطى ذلك يترك الصلاة ولا
يبالي بالنجاسة، والمحتاجون للصيد- الحافظون لدينهم- أعز من
الغراب الأبيض وهم مثابون فيه.
فقد أخرج الطبراني عن صفوان بن أمية «أن عرفطة بن نهيك التميمي
قال: يا رسول الله إني وأهل بيتي مرزوقون من هذا الصيد ولنا
فيه قسم وبركة وهو مشغلة عن ذكر الله تعالى، وعن الصلاة في
جماعة، وبنا إليه حاجة أفتحله أم تحرمه؟ قال صلّى الله عليه
وسلّم: أحله لأن الله تعالى قد أحله، نعم العمل والله تعالى
أولى بالعذر قد كانت قبلي رسل كلهم يصطاد أو يطلب الصيد ويكفيك
من الصلاة في جماعة إذا غبت عنها في طلب الرزق حبك الجماعة
وأهلها وحبك ذكر الله تعالى وأهله وابتغ على نفسك وعيالك
حلالها فإن ذلك جهاد في سبيل الله تعالى»
واعلم أن عون الله تعالى في صالح التجار، واستدل بالآية على
جواز تعليم الحيوان وضربه للمصلحة لأن التعليم قد يحتاج لذلك،
وعلى إباحة اتخاذ الكلب للصيد وقيس به الحراسة، وعلى أنه لا
يحل صيد الكلب المجوس، وإلى هذا ذهب ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما، فقد روي عنه في المسلم يأخذ كلب المجوسي أو بازه أو
صقره أو عقابه فيرسله أنه قال: لا تأكله وإن سميت لأنه من
تعليم المجوس، وإنما قال الله تعالى: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا
عَلَّمَكُمُ اللَّهُ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ
إعادة هذا الحكم للتأكيد والتوطئة لما بعده، وسبب ذكر اليوم
يعلم مما ذكر أمس.
وقال النيسابوري: فائدة الإعادة أن يعلم بقاء هذا الحكم عند
إكمال الدين واستقراره، والأول أولى. وَطَعامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ أي حلال، والمراد بالموصول
اليهود والنصارى حتى نصارى العرب عندنا،
وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه استثنى نصارى بني تغلب،
وقال: ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر،
وإلى ذلك ذهب ابن جبير، وحكاه الربيع عن الشافعي رضي الله
تعالى عنه والمراد بطعامهم ما يتناول ذبائحهم وغيرها من
الأطعمة- كما روي عن ابن عباس وأبي الدرداء وإبراهيم وقتادة
والسدي والضحاك ومجاهد رضوان الله عليهم أجمعين وبه قال
الجبائي والبلخي وغيرهم.
وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد به
الذبائح لأن غيرها لم يختلف في حله وعليه أكثر المفسرين، وقيل:
إنه مختص بالحبوب وما لا يحتاج فيه إلى التذكية وهو المروي عند
الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه،
وبه قال جماعة من الزيدية، فلا تحل ذبائحهم عند هؤلاء، وحكم
الصابئين حكم أهل الكتاب عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى
عنه، وقال صاحباه: الصابئة صنفان: صنف يقرؤون الزبور ويعبدون
الملائكة، وصنف لا يقرؤون كتابا ويعبدون النجوم، فهؤلاء ليسوا
من أهل الكتاب، وأما المجوس فقد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ
الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم لما
روى عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي من طريق الحسن بن محمد
بن علي قال: «كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى مجوس هجر
يعرض عليهم الإسلام فمن أسلم قبل ومن أصر ضربت عليه الجزية غير
ناكحي نسائهم»
وهو وإن كان مرسلا، وفي إسناده قيس بن الربيع- وهو ضعيف- إلا
أن إجماع أكثر المسلمين- كما قال البيهقي- عليه يؤكده، واختلف
العلماء في حل ذبيحة اليهودي والنصراني إذا ذكر عليها اسم
(3/237)
غير الله تعالى- كعزير وعيسى عليهما
السلام- فقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: لا تحل وهو قول
ربيعة، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنها تحل- وهو قول الشعبي
وعطاء- قالا: فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما
يقولون.
وقال الحسن: إذا ذبح اليهودي والنصراني فذكر اسم غير الله
تعالى وأنت تسمع فلا تأكل، فإذا غاب عنك فكل فقد أحل الله
تعالى لك وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ قال الزجاج وكثير من
المتأخرين: إن هذا خطاب للمؤمنين، والمعنى لا جناح عليكم أيها
المؤمنون أن تطعموا أهل الكتاب من طعامكم، فلا تصلح الآية
دليلا لمن يرى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لأن التحليل
حكم، وقد علقه سبحانه بهم فيها كما علق الحكم بالمؤمنين،
واعترض على ظاهره بأنه إنما يتأتى لو كان الإطعام بدل الطعام
فإن زعموا أن الطعام يقوم مقام الإطعام توسعا ورد الفصل بين
المصدر وصلته بخبر المبتدأ، وهو ممتنع فقد صرحوا بأنه لا يجوز
إطعام زيد حسن للمساكين وضربك شديد زيدا فكيف جاز وَطَعامُكُمْ
حِلٌّ لَهُمْ؟ وعن بعضهم فإن قيل: ما الحكمة في هذه الجملة وهم
كفار لا يحتاجون إلى بياننا؟ أجيب بأن المعنى انظروا إلى ما
أحل لكم في شريعتكم فإن أطعمكموه فكلوه ولا تنظروا إلى ما كان
محرما عليهم، فإن لحوم الإبل ونحوها كانت محرمة عليهم، ثم نسخ
ذلك في شريعتنا، فالآية بيان لنا لا لهم أي اعلموا أن ما كان
محرما عليهم مما هو حلال لكم قد أحل لكم أيضا ولذلك لو أطعمونا
خنزيرا أو نحوه وقالوا: هو حلال في شريعتنا، وقد أباح الله
تعالى لكم طعامنا كذبناهم وقلنا: إن الطعام الذي يحل لكم هو
الذي يحل لنا لا غيره، فحاصل المعنى طعامهم حل لكم إذا كان
الطعام الذي أحللته لكم، وهذا التفسير معنى قول السدي وغيره
فافهمه فقد أشكل على بعض المعاصرين. وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
الْمُؤْمِناتِ عطف على الطيبات أو مبتدأ والخبر محذوف لدلالة
ما تقدم عليه أي حل لكم أيضا، والجار والمجرور متعلق بمحذوف
وقع حالا من المحصنات، أو من الضمير فيها على ما قاله أبو
البقاء، والمراد بهن عند الحسن، والشعبي وإبراهيم العفائف،
وعند مجاهد الحرائر، واختاره أبو علي، وعند جماعة العفائف
والحرائر، وتخصيصهن بالذكر للبعث على ما هو أولى لا لنفي ما
عداهن، فإن نكاح الإماء المسلمات بشرطه صحيح بالاتفاق، وكذا
نكاح غير العفائف منهن، وأما الإماء الكتابيات فهن كالمسلمات
عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وإن كن حربيات
كما هو الظاهر، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا يجوز
نكاح الحربيات، وخص الآية بالذميات، واحتج له بقوله تعالى: لا
تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22]
والنكاح مقتض للمودة لقوله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ
بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم: 21] قال الجصاص: وهذا
عندنا إنما يدل على الكراهة، وأصحابنا يكرهون مناكحة أهل
الحرب، وذهبت الإمامية إلى أنه لا يجوز عقد نكاح الدوام على
الكتابيات لقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى
يُؤْمِنَّ [البقرة: 221] ولقوله سبحانه: وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: 10] . وأولوا هذه الآية بأن
المراد من المحصنات من الذين أوتوا الكتاب اللاتي أسلمن منهن،
والمراد من المحصنات من المؤمنات اللاتي كن في الأصل مؤمنات،
وذلك أن قوما كانوا يتحرجون من العقد على من أسلمت عن كفر فبين
الله تعالى أنه لا حرج في ذلك، وإلى تفسير المحصنات بمن أسلمن
ذهب ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أيضا، ولا يخفى أنه خلاف
الظاهر ويأباه النظم، ولذلك زعم بعضهم أن المراد هو الظاهر إلا
أن الحل مخصوص بنكاح المتعة وملك اليمين، ووطؤهن حلال بكلا
الوجهين عند الشيعة، وأنت تعلم أن هذا أدهى وأمر، ولذلك هرب
بعضهم إلى دعوى أن الآية منسوخة بالآيتين المتقدمتين آنفا
احتجاجا بما رواه الجارود عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه في
ذلك، ولا يصح ذلك من طريق أهل السنة، نعم
أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى
(3/238)
عنهما قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات وحرم
كل ذات دين غير الإسلام» .
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن جابر بن عبد الله «أنه سئل عن
نكاح المسلم اليهودية والنصرانية فقال:
تزوجناهن زمن الفتح ونحن لا نكاد نجد المسلمات كثيرا فلما
رجعنا طلقناهن.
وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه سئل أيتزوج الرجل المرأة من أهل
الكتاب؟ فقال: ما له ولأهل الكتاب وقد أكثر الله تعالى
المسلمات فإن كان لا بد فاعلا فليعمد إليها حصانا غير مسافحة،
قال الرجل: وما المسافحة؟ قال: هي التي إذا لمح الرجل إليها
بعينة اتبعته» إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن
وهي عوض الاستمتاع بهن- كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما وغيره- وتقييد الحل بإيتائها لتأكيد وجوبها لا للاحتراز،
ويجوز أن يراد بالإيتاء التعهد والالتزام مجازا، ولعله أقرب من
الأول، وإن كان المآل واحدا، و «إذا» ظرف لحل المحذوف، ويحتمل
أن تكون شرطية حذف جوابها أي إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ حللن لكم. مُحْصِنِينَ أي إعفاء بالنكاح وهو
منصوب على الحال من فاعل آتَيْتُمُوهُنَّ وكذا قوله تعالى:
غَيْرَ مُسافِحِينَ، وقيل: هو حال من ضمير مُحْصِنِينَ، وقيل:
صفة- لمحصنين- أي غير مجاهرين بالزنا، وَلا مُتَّخِذِي
أَخْدانٍ أي ولا مسرين به، والخدن الصديق يقع على الذكر
والأنثى، وقيل: الأول نهي عن الزنا، والثاني نهي عن مخالطتهنّ،
ومُتَّخِذِي يحتمل أن يكون مجرورا عطفا على مُسافِحِينَ وزيدت
لا لتأكيد النفي المستفاد من غير، ويحتمل أن يكون منصوبا عطفا
على غَيْرَ مُسافِحِينَ باعتبار أوجهه الثلاثة وَمَنْ يَكْفُرْ
بِالْإِيمانِ أي من ينكر المؤمن به، وهو شرائع الإسلام التي من
جملتها ما بين هنا من الأحكام المتعلقة بالحل والحرمة، ويمتنع
عن قبولها فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ أي الذي عمله واعتقد أنه
قربة له إلى الله تعالى. وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخاسِرِينَ أي الهالكين، والآية تذييل لقوله تعالى:
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ إلخ تعظيما لشأن ما
أحله الله تعالى وما حرمه، وتغليظا على من خالف ذلك، فحمل
الإيمان على المعنى المصدري وتقدير مضاف- كما قيل- أي بموجب
الإيمان، وهو الله تعالى ليس بشيء، وإن أشعر به كلام مجاهد،
وضمير الرفع مبتدأ، ومِنَ الْخاسِرِينَ خبره، وفِي متعلقة بما
تعلق به الخبر من الكون المطلق، وقيل: بمحذوف دلّ عليه المذكور
أي خاسرين في الآخرة، وقيل: بالخاسرين على أن أل معرفة لا
موصولة لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها، وقيل: يغتفر في الظرف
ما لا يغتفر في غيره كما في قوله:
ربيته (1) حتى إذا ما تمعددا ... كان جزائي بالعصا أن أجلدا
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا بالإيمان العلمي أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أي بعزائم
التكليف، وقال أبو الحسن الفارسي: أمر الله تعالى عباده بحفظ
النيات في المعاملات، والرياضات في المحاسبات، والحراسة في
الخطرات، والرعاية في المشاهدات، وقال بعضهم: أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ عقد القلب بالمعرفة، وعقد اللسان بالثناء، وعقد
الجوارح بالخضوع، وقيل: أول عقد عقد على المرء عقد الإجابة له
سبحانه بالربوبية وعدم المخالفة بالرجوع إلى ما سواه، والعقد
الثاني عقد تحمل الأمانة وترك الخيانة أُحِلَّتْ لَكُمْ
بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ أي أحل لكم جميع أنواع التمتعات والحظوظ
بالنفوس السليمة التي لا يغلب عليها السبعية والشره إِلَّا ما
يُتْلى عَلَيْكُمْ من
__________
(1) قوله: «ربيته» إلخ هكذا بخطه وليس بمستقيم الوزن كما هو
ظاهر لمن له إلمام بفن الشعر، فلعل «ما» زيدت من قلمه اه.
(3/239)
التمتعات المنافية للفضيلة والعدالة غَيْرَ
مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أي لا متمتعين بالحظوظ
في حال تجردكم للسلوك وقصدكم كعبة الوصال وتوجهكم إلى حرم صفات
الجمال والجلال إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ فليرض
السالك بحكمه ليستريح، ويهدي إلى سبيل رشده يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ من المقامات
والأحوال التي يعلم بها السالك إلى حرم ربه سبحانه من الصبر
والتوكل والشكر ونحوها أي لا تخرجوا عن حكمها وَلَا الشَّهْرَ
الْحَرامَ وهو وقت الحج الحقيقي وهو وقت السلوك إلى ملك
الملوك، وإحلاله بالخروج عن حكمه والاشتغال بما فيه وَلَا
الْهَدْيَ وهو النفس المستعدة المعدة للقربان عند الوصول إلى
الحضرة، وإحلالها باستعمالها بما يصرفها، أو تكليفها بما يكون
سبب مللها وَلَا الْقَلائِدَ وهي ما قلدته النفس من الأعمال
الشرعية التي لا يتم الوصول إلا بها، وإحلالها بالتطفيف بها
وعدم إيقاعها على الوجه الكامل وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ
الْحَرامَ وهم السالكون، وإحلالهم بتنفيرهم وشغلهم بما يصدهم
أو يكسلهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ بتجليات الأفعال
وَرِضْواناً بتجليات الصفات، وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا أي
إذا رجعتم إلى البقاء بعد الفناء فلا جناح عليكم في التمتع
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ
الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا أي لا يكسبنكم بغض
القوى النفسانية بسبب صدها إياكم عن السلوك أَنْ تَعْتَدُوا
عليها، وتقهروها بالكلية فتتعطل أو تضعف عن منافعها، أو لا
يكسبنكم بغض قوم من أهاليكم أو أصدقائكم بسبب صدهم إياكم أن
تعتدوا عليهم بمقتهم وإضرارهم وإرادة الشر لهم وَتَعاوَنُوا
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى بتدبير تلك القوى وسياستها، أو
بمراعاة الأهل والأصدقاء والإحسان إليهم وَلا تَعاوَنُوا عَلَى
الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ فإن ذلك يقطعكم عن الوصول، وعن سهل أن
الْبِرِّ الإيمان وَالتَّقْوى السنة والْإِثْمِ الكفر
وَالْعُدْوانِ البدعة،
وعن الصادق رضي الله تعالى عنه الْبِرِّ الايمان وَالتَّقْوى
الإخلاص وَالْإِثْمَ الكفر وَالْعُدْوانِ المعاصي،
وقيل: الْبِرِّ ما توافق عليه العلماء من غير خلاف وَالتَّقْوى
مخالفة الهوى وَالْإِثْمَ طلب الرخص وَالْعُدْوانِ التخطي إلى
الشبهات وَاتَّقُوا اللَّهَ في هذه الأمور إِنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعِقابِ فيعاقبكم بما هو أعلم حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وهي خمود الشهوة بالكلية فإنه رذيلة التفريط
المنافية للعفة وَالدَّمُ وهو التمتع بهوى النفس وَلَحْمُ
الْخِنْزِيرِ أي وسائر وجوه التمتعات بالحرص والشره وقلة
الغيرة وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ من الأعمال التي
فعلت رياء وسمعة وَالْمُنْخَنِقَةُ وهي الأفعال الحسنة صورة مع
كمون الهوى فيها، وَالْمَوْقُوذَةُ وهي الأفعال التي أجبر
عليها الهوى وَالْمُتَرَدِّيَةُ وهي الأفعال المائلة إلى
التفريط والنقصان وَالنَّطِيحَةُ وهي الأفعال التي تصدر خوف
الفضيحة وزجر المحتسب مثلا وَما أَكَلَ السَّبُعُ وهي الأفعال
التي هي من ملائمات القوة الغضبية من الأنفة والحمية النفسانية
إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ من الأفعال الحسنة التي تصدر بإرادة
قلبية لم يمازجها ما يشينها وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وهو
ما يفعله أبناء العادات لا لغرض عقلي أو شرعي وَأَنْ
تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ بأن تطلبوا السعادة والكمال
بالحظوظ والطوالع وتتركوا العمل وتقولوا: لو كان مقدرا لنا
لعملنا فإنه ربما كان القدر معلقا بالسعي ذلِكُمْ فِسْقٌ خروج
عن الدين الحق لأن فيه الأمر والنهي، والاتكال على المقدر
يجعلهما عبثا الْيَوْمَ وهو وقت حصول الكمال يَئِسَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ بأن يصدّوكم عن طريق الحق فَلا
تَخْشَوْهُمْ فإنهم لا يستولون عليكم بعد وَاخْشَوْنِ لتنالوا
ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ببيان ما بينت وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بذلك أو بالهداية إليّ وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلامَ أي الانقياد للانمحاء دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ إلى
تناول لذة في مخمصة، وهي الهيجان الشديد للنفس غَيْرَ
مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ غير منحرف لرذيلة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ فيستر ذلك ويرحم بمدد التوفيق.
(3/240)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ
وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ
وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ
الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
(7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ
قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ
أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ
يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ (11)
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ
أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ من الحقائق التي تحصل لكم بعقولكم
وقلوبكم وأرواحكم وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ وهي
الحواس الظاهرة والباطنة وسائر القوى والآلات البدنية
مُكَلِّبِينَ معلمين لها على اكتساب الفضائل تُعَلِّمُونَهُنَّ
مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من علوم الأخلاق والشرائع فَكُلُوا
مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ مما يؤدي إلى الكمال وَاذْكُرُوا
اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ بأن تقصدوا أنه أحد أسباب الوصول إليه
عز شأنه لا أنه لذة نفسانية وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وهو مقام الفرق والجمع وَطَعامُكُمْ
حِلٌّ لَهُمْ فلا عليكم أن تطعموهم منه بأن تضموا لأهل الفرق
جمعا، ولأهل الجمع فرقا وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ
وهي النفوس المهذبة الكاملة وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ أي حقوقهن من الكمال اللائق بهن وألحقتموهن
بالمحصنات من المؤمنات مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا
مُتَّخِذِي أَخْدانٍ
بل قاصدين تكميلهن واستيلاء الآثار النافعة منهن لا مجرد
الصحبة وإفاضة ماء المعارف من غير ثمرة وَمَنْ يَكْفُرْ
بِالْإِيمانِ بأن ينكر الشرائع والحقائق ويمتنع من قبولها
فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ بإنكاره الشرائع وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ
مِنَ الْخاسِرِينَ بإنكاره الحقائق، والظاهر عدم التوزيع،
والله تعالى أعلم بمراده، وهو الموفق للصواب.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شروع في بيان الشرائع المتعلقة
بدينهم بعد بيان ما يتعلق بدنياهم، ووجه التقديم والتأخير ظاهر
إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي إذا أردتم القيامة إليها
والاشتغال بها، فعبر عن إرادة الفعل بالفعل المسبب عنها مجازا،
وفائدة الإيجاز والتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن
يبادر إليها بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة، وقيل: يجوز أن
يكون المراد إذا قصدتم الصلاة، فعبر عن أحد لازمي الشيء بلازمه
الآخر وظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم
يكن محدثا نظرا إلى عموم الَّذِينَ آمَنُوا من غير اختصاص
بالمحدثين، وإن لم
(3/241)
يكن في الكلام دلالة على تكرار الفعل،
وإنما ذلك من خارج على الصحيح، لكن الإجماع على خلاف ذلك،
وقد أخرج مسلم وغيره «أنه صلّى الله عليه وسلّم صلّى الخمس
بوضوء واحد يوم الفتح فقال عمر رضي الله تعالى عنه: صنعت شيئا
لم تكن تصنعه، فقال عليه الصلاة والسلام: عمدا فعلته يا عمر؟؟»
يعني بيانا للجواز، فاستحسن الجمهور كون الآية مقيدة، والمعنى
إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ محدثين بقرينة دلالة الحال،
ولأنه اشترط الحدث في البدل وهو التيمم فلو لم يكن له مدخل في
الوضوء مع المدخلية في التيمم لم يكن البدل بدلا، وقوله تعالى:
فَلَمْ تَجِدُوا ماءً صريح في البدلية، وبعض المتأخرين أن في
الكلام شرطا مقدرا أي إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
فَاغْسِلُوا إلخ إن كنتم محدثين لأنه يلائمه كل الملاءمة عطف
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا عليه، وقيل: الأمر
للندب، ويعلم الوجوب للمحدث من السنة واستبعد لإجماعهم على أن
وجوب الوضوء مستفاد من هذه الآية مع الاحتياج إلى التخصيص بغير
المحدثين من غير دليل، وأبعد منه أنه ندب بالنسبة إلى البعض،
ووجوب بالنسبة إلى آخرين، وقيل: هو للوجوب، وكان الوضوء واجبا
على كل قائم أول الأمر ثم نسخ،
فقد أخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وابن خزيمة وابن حبان
والحاكم والبيهقي والحاكم (1) عن عبد الله بن حنظلة الغسيل «أن
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا
كان أو غير طاهر فلما شق ذلك عليه صلّى الله عليه وسلّم أمر
بالسواك عند كل صلاة ووضع عنه الوضوء إلا من حدث»
ولا يعارض ذلك
خبر أن المائدة آخر القرآن نزولا إلخ
لأنه ليس في القوة مثله حتى قال العراقي: لم أجده مرفوعا، نعم
الاستدلال على الوجوب على كل الأمة أولا، ثم نسخ الوجوب عنهم
آخرا بما يدل على الوجوب عليه عليه الصلاة والسلام أولا، ونسخه
عنه آخرا لا يخلو عن شيء كما لا يخفى.
وأخرج مالك والشافعي وغيرهما عن زيد بن أسلم أن تفسير الآية
إِذا قُمْتُمْ من المضاجع يعني النوم إِلَى الصَّلاةِ والأمر
عليه ظاهر، ويحكى عن داود: أنه أوجب الوضوء لكل صلاة لأن النبي
صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء من بعده كانوا يتوضؤون كذلك،
وكان علي كرم الله تعالى وجهه يتوضأ كذلك ويقرأ هذه الآية،
وفيه أن حديث عمر رضي الله تعالى عنه يأبى استمرار النبي عليه
الصلاة والسلام على ما ذكر، والخبر عن علي كرم الله تعالى وجهه
لم يثبت، وفعل الخلفاء لا يدل على أكثر من الندب والاستحباب،
وقد ورد «من توضأ على طهر كتب الله تعالى له عشر حسنات»
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ أي أسيلوا عليها الماء، وحد الإسالة
أن يتقاطر الماء ولو قطرة عندهما، وعند أبي يوسف رحمه الله
تعالى لا يشترط التقاطر، وأما الدلك فليس من حقيقة الغسل خلافا
لمالك فلا يتوقف حقيقته عليه، قيل:
ومرجعهم فيه قول العرب: غسل المطر الأرض، وليس في ذلك إلا
الإسالة، ومنع بأن وقعه من علو خصوصا مع الشدة والتكرر دلك أيّ
دلك. وهم لا يقولونه إلا إذا نظفت الأرض، وهو إنما يكون بدلك،
وبأنه غير مناسب للمعنى المعقول من شرعية الغسل، وهو تحسين
هيئة الأعضاء الظاهرة للقيام بين يدي الرب سبحانه وتعالى الذي
لا يتم بالنسبة إلى سائر المتوضئين إلا بالدلك.
وحكي عنه أن الدلك ليس واجبا لذاته، وإنما هو واجب لتحقق وصول
الماء فلو تحقق لم يجب- كما قاله ابن الحاج في شرح المنية- ومن
الغريب أنه قال: باشتراط الدلك في الغسل ولم يشترط السيلان
فيما لو أمر المتوضئ الثلج على العضو فإنه قال: يكفي ذلك وإن
لم يذب الثلج ويسيل، ووافقه عليه الأوزاعي مع أن ذلك لا يسمى
غسلا أصلا ويبعد قيامه مقامه، وحد الوجه عندنا طولا من مبدأ
سطح الجبهة إلى أسفل اللحيين، وعرضا ما بين
__________
(1) قوله: «والحاكم» كذا بخط المؤلف مكررا مع ما قبله فليحرر
اه.
(3/242)
شحمتي الأذن لأن المواجهة تقع بهذه الجملة
وهو مشتق منها، واشتقاق الثلاثي من المزيد- إذا كان المزيد
أشهر في المعنى الذي يشتركان فيه- شائع، وقال العلامة أكمل
الدين: إن ما ذكروا من منع اشتقاق الثلاثي من المزيد إنما هو
في الاشتقاق الصغير، وأما في الاشتقاق الكبير وهو أن يكون بين
كلمتين تناسب في اللفظ والمعنى فهو جائز، ويعطي ظاهر التحديد
وجوب إدخال البياض المعترض بين العذار والأذن بعد نباته، وهو
قولهما خلافا لأبي يوسف، ويعطي أيضا وجوب الاسالة على شعر
اللحية، وقد اختلفت الروايات فيه عن الإمام الأعظم رضي الله
تعالى عنه وغيره، فعنه يجب مسح ربعها، وعنه مسح ما يلاقي
البشرة، وعنه لا يتعلق به شيء، وهو رواية عن أبي يوسف، وعن أبي
يوسف يجب استيعابها، وعن محمد أنه يجب غسل الكل، قيل:- وهو
الأصح- وفي الفتاوى الظهيرية، وعليه الفتوى لأنه قام مقام
البشرة فتحول الفرض إليه كالحاجب.
وقال في البدائع عن ابن شجاع: إنهم رجعوا عما سوى هذا وكل هذا
في الكثة، أما الخفيفة التي ترى بشرتها فيجب إيصال الماء إلى
ما تحتها ولو أمرّ الماء على شعر الذقن ثم حلقه لا يجب غسل
الذقن، وفي البقال: لو قص الشارب لا يجب تخليله، وإن طال وجب
تخليله وإيصال الماء إلى الشفتين وكأن وجهه أن قطعة مسنون فلا
يعتبر قيامه في سقوط ما تحته بخلاف اللحية فإن إعفاءها هو
المسنون، وعد شيخ الإسلام المرغيناني في التجنيس إيصال الماء
إلى منابت شعر الحاجبين والشارب من الآداب من غير تفصيل، وأما
الشفة فقيل: تبع للفم وقال أبو جعفر: ما انكتم عند انضمامه تبع
له وما ظهر فللوجه، وروي هذا التحديد عن ابن عباس وابن عمر
والحسن وقتادة والزهري رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وغيرهم،
وقيل: الوجه كل ما دون منابت الشعر من الرأس إلى منقطع الذقن
طولا، ومن الأذن إلى الأذن عرضا ما ظهر من ذلك لعين الناظر،
وما بطن كداخل الأنف والفم، وكذا ما أقبل من الأذنين، وروي عن
أنس بن مالك وأم سلمة وعمار ومجاهد وابن جبير وجماعة فأوجبوا
غسل ذلك كله ولم أر لهم نصا في باطن العين، والظاهر عدم وجوب
غسله عندهم لمزيد الحرج وتوقع الضرر، ولهذا صرح البعض بعدم
سنية الغسل أيضا، بل قال بعضهم: يكره، نعم يخطر في الذهن رواية
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يوجب غسل باطن العين
في الغسل ويفعله، وأنه كان سببا في كف بصره رضي الله تعالى عنه
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ جمع مرفق بكسر ففتح افصح من
عكسه، وهو موصل الذراع في العضد، ولعل وجه تسميته بذلك أنه
يرتفق به أي يتكئ عليه من اليد، وجمهور الفقهاء على دخولها.
وحكي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: لا أعلم خلافا في
أن المرافق يجب غسلها، ولذلك قيل:
«إلى» بمعنى مع كما في قوله تعالى: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى
قُوَّتِكُمْ [هود: 52] ومَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آل
عمران:
52] [الصف: 14] ، وقيل: هي إنما تفيد معنى الغاية، ومن الأصول
المقررة أن ما بعد الغاية إن دخل في المسمى لولا ذكرها دخل
وإلا فلا، ولا شك أن المرافق داخلة في المسمى فتدخل، وما أورد
على هذا الأصل من أنه لو حلف لا يكلم فلانا إلى غد لا يدخل مع
أنه يدخل لو تركت الغاية غير قادح فيه لأن الكلام هنا في مقتضى
اللغة والأيمان تبنى على العرف، وجاز أن يخالف العرف اللغة.
وذكر بعض المحققين أن إِلَى جاءت وما بعدها داخل في الحكم فيما
قبلها، وجاءت وما بعدها غير داخل، فمنهم من حكم بالاشتراك،
ومنهم من حكم بظهور الدخول، ومنهم من حكم بظهور انتفاء الدخول،
وعليه النحويون، ودخول المرافق ثابت بالسنة، فقد صح عنه صلّى
الله عليه وسلّم أنه أدار الماء عليها.
ونقل أصحابنا حكاية عدم دخولها عن زفر، واستدل بتعارض الأشباه
وبأن في الدخول في المسمى اشتباها
(3/243)
أيضا فلا تدخل بالشك، وحديث الإدارة لا
يستلزم الافتراض لجواز كونه على وجه السنة كالزيادة في مسح
الرأس إلى أن يستوعبه، وأجيب بأنه لا تعارض مع غلبة الاستعمال
في الأصل المقرر، وأيضا على ما قال يثبت الإجمال في دخولها
فيكون اقتصاره صلّى الله عليه وسلّم على المرفق وقع بيانا
للمراد من اليد، فيتعين دخول ما أدخله- واغسل يدك للأكل- من
إطلاق اسم الكل على البعض اعتمادا على القرينة.
وقال العلامة ابن حجر: دل على دخولها الاتباع والإجماع، بل
والآية أيضا بجعل إِلَى غاية للترك المقدر بناء على أن اليد
حقيقة إلى المنكب كما هو الأشهر لغة، وكأنه عنى بالإجماع إجماع
أهل الصدر الأول وإلا فلا شك في وجود المخالف بعد، وعدوا داود-
وكذا الإمام مالك رضي الله تعالى عنه من ذلك- ولي في عد الأخير
تردد، فقد نقل ابن هبيرة إجماع الأئمة الأربعة على فرضية غسل
اليدين مع المرفقين، قيل: ويترتب على هذا الخلاف أن فاقد اليد
من المرفق يجب عليه إمرار الماء على طرف العظم عند القائل
بالدخول، ولا يجب عند المخالف لأن محل التكليف لم يبق أصلا كما
لو فقد اليد مما فوق المرفق، نعم يندب له غسل ما بقي من العضد
محافظة على التحجيل، هذا واستيعاب غسل المأمور به من الأيدي
فرض كما هو الظاهر من الآية، فلو لزق بأصل ظفره طين يابس أو
نحوه، أو بقي قدر رأس إبرة من موضع الغسل لم يجز ولا يجب نزع
الخاتم وتحريكه إذا كان واسعا، والمختار في الضيق الوجوب، وفي
الجامع الأصغر إن كان وافر الأظفار وفيها درن أو طين أو عجين
جاز في القروي والمدني على الصحيح المفتي به- كما قال الدبوسي-
وقيل: يجب إيصال الماء إلى ما تحتها إلا الدرن لتولده منه.
وقال الصفار: يجب الإيصال مطلقا إن طال الظفر، واستحسنه ابن
الهمام لأن الغسل وإن كان مقصورا على الظواهر لكن إذا طال
الظفر بمنزلة عروض الحائل كقطرة شمعة، وفي النوازل يجب في
المصري لا القروي لأن دسومة أظفار المصري مانعة من وصول الماء
بخلاف القروي، ولو طالت أظفاره حتى خرجت عن رؤوس الأصابع وجب
غسلها قولا واحدا، ولو خلق له يدان على المنكب فالتامة هي
الأصلية يجب غسلها، والأخرى زائدة فما حاذى منها محل الفرض وجب
غسله، وما لا فلا، ومن الغريب أن بعضا من الناس أوجب البداية
في غسل الأيدي من المرافق، فلو غسل من رؤوس الأصابع لم يصح
وضوءه.
وقد حكى ذلك الطبرسي في مجمع البيان، والظاهر أن هذا البعض من
الشيعة، ولا أجد لهم في ذلك متمسكا وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ،
قيل: الباء زائدة لتعدي الفعل بنفسه وقيل: للتبعيض، وقد نقل
ابن مالك عن أبي علي في التذكرة أنها تجيء لذلك، وأنشد:
شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج
وقيل: إن العرف نقلها إلى التبعيض في المتعدي، والمفروض في
المسح عندنا مقدار الناصية، وهو ربع الرأس من أي جانب كان فوق
الأذنين لما
روى مسلم عن المغيرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم توضأ فمسح
بناصيته
والكتاب مجمل في حق الكمية فالتحق بيانا له، والشافعي رضي الله
تعالى عنه يمنع ذلك، ويقول: هو مطلق لا مجمل فإنه لم يقصد إلى
كمية مخصوصة أجمل فيها، بل إلى الإطلاق فيسقط عنده بأدنى ما
يطلق عليه مسح الرأس على أن في حديث المغيرة روايتان: على
ناصيته وبناصيته، والأولى لا تقتضي استيعاب الناصية لجواز كون
ذكرها لدفع توهم أنه مسح على الفود، أو القذال، فلا يدل على
مطلوبكم ولو دل مثل هذا على الاستيعاب لدل- مسح على الخفين-
عليه أيضا، ولا قائل به هناك عندنا وعندكم، وإذا رجعنا إلى
الثانية كان محل النزاع في الباء كالآية، ويعود التبعيض، ومن
هنا قال بعضهم: الأولى أن يستدل
برواية أبي داود عن أنس رضي الله تعالى عنه «رأيت رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ وعليه عمامة
(3/244)
قطرية فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم
رأسه»
وسكت عليه أبو داود فهو حجة، وظاهره استيعاب تمام المقدم،
وتمام مقدم الرأس هو الربع المسمى بالناصية، ومثله ما
رواه البيهقي عن عطاء «أنه صلّى الله عليه وسلّم توضأ فحسر
العمامة ومسح مقدم رأسه، أو قال: ناصيته»
فإنه حجة وإن كان مرسلا عندنا، وكيف وقد اعتضد بالمتصل؟ بقي
شيء وهو أن ثبوت الفعل كذلك لا يستلزم نفي جواز الأقل فلا بد
من ضم الملازمة القائلة لو جاز الأقل لفعله مرة تعليما للجواز،
وقد يمنع بأن الجواز إذا كان مستفادا من غير الفعل لم يحتج
إليه فيه، وهنا كذلك نظرا إلى الآية فإن الباء فيها للتبعيض
وهو يفيد جواز الأقل فيرجع البحث إلى دلالة الآية، فيقال
حينئذ: إن الباء للإلصاق وهو المعنى المجمع عليه لها بخلاف
التبعيض، فإن الكثير من محققي أئمة العربية ينفون كونه معنى
مستقلا للباء بخلاف ما إذا كان في ضمن الإلصاق كما فيما نحن
فيه، فإن إلصاق الآلة بالرأس الذي هو المطلوب لا يستوعب الرأس،
فإذا ألصق فلم يستوعب خرج عن العهدة بذلك البعض، وحينئذ فتعين
الربع لأن اليد إنما تستوعب قدره غالبا فلزم.
وفي بعض الروايات أن المفروض مقدار ثلاث أصابع، وصححها بعض
المشايخ إلى أن الواجب إلصاق اليد والأصابع أصلها، ولذا يلزم
كمال دية اليد بقطعها والثلاث أكثرها، وللأكثر حكم الكل، ولا
يخفى ما فيه، وإن قيل:
إنه ظاهر الرواية، وذهب الإمام مالك رضي الله تعالى عنه
والإمام أحمد في أظهر الروايات عنه إلى أنه يجب استيعاب الرأس
بالمسح، والإمامية إلى ما ذهب إليه الشافعي رضي الله تعالى
عنه، ولو أصاب المطر قدر الفرض سقط عندنا، ولا يشترط إصابته
باليد لأن الآلة لم تقصد إلا للإيصال إلى المحل فحيث وصل
استغنى عن استعمالها، ولو مسح ببل في يده لم يأخذه من عضو آخر
جاز، وإن أخذه لا يجوز، ولو مسح بإصبع واحدة مدها قدر الفرض،
وكذا بإصبعين- على ما قيل- لا يجوز خلافا لزفر، وعللوه بأن
البلة صارت مستعملة وهو على إشكاله بأن الماء لا يصير مستعملا
قبل الانفصال ليستلزم عدم جواز مد الثلاث على القول بأنه لا
يجزىء أقل من الربع، والمشهور في ذلك الجواز، واختار شمس
الأئمة أن المنع في مد الأصبع والاثنتين غير معلل باستعمال
البلة بدليل أنه لو مسح بإصبعين في التيمم لا يجوز مع عدم شيء
يصير مستعملا خصوصا إذا تيمم على الحجر الصلد، بل الوجه عنده
أنا مأمورون بالمسح باليد والإصبعان منها لا تسميان يدا بخلاف
الثلاث لأنها أكثر ما هو الأصل فيها، وهو حسن- كما قال ابن
الهمام- لكنه يقتضي تعين الإصابة باليد وهو منتف بمسألة المطر،
وقد يدفع بأن المراد تعينها أو ما يقوم مقامها من الآلات عند
قصد الإسقاط بالفعل اختيارا غير أن لازمه كون تلك الآية التي
هي غير اليد مثلا قدر ثلاث أصابع من اليد حتى لو كان عودا مثلا
لا يبلغ ذلك القدر قلنا: بعدم جواز مده، وقد يقال: عدم الجواز
بالإصبع بناء على أن البلة تتلاشى وتفرغ قبل بلوغ قدر الفرض
بخلاف الإصبعين، فإن الماء يتحمل بين الإصبعين المضمومتين فضل
زيادة تحتمل الامتداد إلى قدر الفرض وهذا مشاهد أو مظنون، فوجب
إثبات الحكم باعتباره، فعلى اعتبار صحة الاكتفاء بقدر ثلاث
أصابع يجوز مد الإصبعين لأن ما بينهما من الماء يمتد قدر إصبع
ثالثة، وعلى اعتبار توقف الإجزاء على الربع لا يجوز لأن ما
بينهما لا يغلب على الظن إيعابه الربع إلا أن هذا يعكر عليه
عدم جواز التيمم بإصبعين فلو أدخل رأسه إناء ماء ناويا للمسح
جاز، والماء طهور عند أبي يوسف لأنه لا يعطى له حكم الاستعمال
إلا بعد الانفصال والذي لاقى الرأس من أجزائه لصق به فطهره،
وغيره لم يلاقه فلا يستعمل.
واتفقت الأئمة على أن المسح على العمامة غير مجزىء إلا أحمد
فإنه أجاز ذلك بشرط أن يكون من العمامة شيء تحت الحنك رواية
واحدة، وهل يشترط أن يكون قد لبسها على طهارة؟ فيه روايتان،
واختلفت الرواية عنه أيضا في مسح المرأة على قناعها المستدير
تحت حلقها، فروي عنه جواز المسح كعمامة الرجل ذات الحنك وروي
عنه
(3/245)
المنع، ونقل عن الأوزاعي والثوري جواز
المسح على العمامة، ولم أر حكاية الاشتراط ولا عدمه عنهما، وقد
ذكرنا دليل الجواز في كتاب الأجوبة العراقية عن الأسئلة
الإيرانية وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وهما العظمان
الناتئان من الجانبين عند مفصل الساق والقدم، ومنه الكاعب- وهي
الجارية التي تبدو ثديها للنهود- وروى هشام عن محمد أن الكعب
هو المفصل الذي في وسط القدم عند معترك الشراك لأن الكعب اسم
للمفصل، ومنه كعوب الرمح والذي في وسط القدم مفصل دون ما على
الساق، وهذا صحيح في المحرم إذا لم يجد نعلين فإنه يقطع خفيه
أسفل من الكعبين، ولعل ذلك مراد محمد، فأما في الطهارة فلا شك
أنه ما ذكرنا، وفي الأرجل ثلاث قراءات: واحدة شاذة واثنتان
متواترتان أما الشاذة فالرفع- وهي قراءة الحسن- وأما
المتواترتان فالنصب، وهي قراءة نافع وابن عامر وحفص والكسائي
ويعقوب، والجر وهي قراءة ابن كثير وحمزة وأبي عمرو وعاصم وفي
رواية أبي بكر عنه، ومن هنا اختلف الناس في غسل الرجلين
ومسحهما.
قال الإمام الرازي: فنقل القفال في تفسيره عن ابن عباس وأنس بن
مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر رضي الله
تعالى عنهم أن الواجب فيها المسح،
وهو مذهب الإمامية، وقال جمهور الفقهاء والمفسرين: فرضهما
الغسل، وقال داود: يجب الجمع بينهما، وهو قول الناصر للحق من
الزيدية، وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري: المكلف مخير
بين المسح والغسل وحجة القائلين بالمسح قراءة الجر فإنها تقتضي
كون الأرجل معطوفة على الرؤوس فكما وجب المسح فيها وجب فيها
والقول إنه جرّ بالجوار كما في قولهم:
هذا جحر ضب خرب، وقوله:
كان ثبيرا في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمل
باطل من وجوه: أولها أن الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي
قد يتحمل لأجل الضرورة في الشعر، وكلام الله تعالى يجب تنزيهه
عنه، وثانيها أن الكسر إنما يصار إليه حيث حصل الأمن من
الالتباس كما فيما استشهدوا به، وفي الآية الأمن من الالتباس
غير حاصل، وثالثها أن الجر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف،
وأما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب، وردوا قراءة النصب إلى
قراءة الجر فقالوا: إنها تقتضي المسح أيضا لأن العطف حينئذ على
محل الرؤوس لقربه فيتشاركان في الحكم وهذا مذهب مشهور للنحاة،
ثم قالوا أولا: يجوز رفع ذلك بالإخبار لأنها بأسرها من باب
الآحاد ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز، ثم قال الإمام: واعلم
أنه لا يمكن الجواب عن هذا إلا من وجهين: الأول أن الأخبار
الكثيرة وردت بإيجاب الغسل، والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس،
فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط، فوجب المصير إليه، وعلى هذا
الوجه يجب القطع بأن غسل الأرجل يقوم مقام مسحها، والثاني أن
فرض الأرجل محدود إلى الكعبين، والتحديد إنما جاء في الغسل لا
في المسح، والقوم أجابوا عنه من وجهين: الأول أن الكعب عبارة
عن العظم الذي تحت مفصل القدم، وعلى هذا التقدير يجب المسح على
ظهر القدمين، والثاني أنهم سلموا أن الكعبين عبارة عن العظمين
الناتئين من جانبي الساق، إلا أنهم التزموا أنه يجب أن يسمح
ظهور القدمين إلى هذين الموضعين وحينئذ لا يبقى هذا السؤال
انتهى.
ولا يخفى أن بحث الغسل والمسح مما كثر فيه الخصام، وطالما زلت
فيه أقدام، وما ذكره الإمام رحمه الله تعالى يدل على أنه راجل
في هذا الميدان، وضالع لا يطيق العروج إلى شاوي ضليع تحقيق
تبتهج به الخواطر والأذهان، فالنبسط الكلام في تحقيق ذلك رغما
لأنوف الشيعة السالكين من السبل كل سبيل حالك، فنقول وبالله
تعالى التوفيق، وبيده أزمة التحقيق: إن القراءتين متواترتان
بإجماع الفريقين بل بإطباق أهل الإسلام كلهم، ومن القواعد
الأصولية عند الطائفتين أن القراءتين المتواترتين إذا تعارضتا
في آية واحدة فلهما حكم آيتين، فلا بد لنا أن نسعى
(3/246)
ونجتهد في تطبيقهما أولا مهما أمكن لأن
الأصل في الدلائل الأعمال دون الإهمال كما تقرر عند أهل الأصول
ثم نطلب بعد ذلك الترجيح بينهما، ثم إذا لم يتيسر لها الترجيح
بينهما نتركهما ونتوجه إلى الدلائل الأخر من السنة، وقد ذكر
الأصوليون أن الآيات إذا تعارضت بحيث لا يمكن التوفيق، ثم
الترجيح بينهما يرجع إلى السنة فإنها لما لم يمكن لنا العمل
بها صارت معدومة في حقنا من حيث العمل وإن تعارضت السنة كذلك
نرجع إلى أقوال الصحابة وأهل البيت، أو نرجع إلى القياس عند
القائلين بأن قياس المجتهد يعمل به عند التعارض، فلما تأملنا
في هاتين القراءتين في الآية وجدنا التطبيق بينهما بقواعدنا من
وجهين: الأول أن يحمل المسح على الغسل كما صرح به أبو زيد
الأنصاري وغيره من أهل اللغة، فيقال للرجل إذا توضأ: تمسح
ويقال: مسح الله تعالى ما بك أي أزال عنك المرض، ومسح الأرض
المطر إذا غسلها فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس في قراءة الجر لا
يتعين كونها ممسوحة بالمعنى الذي يدعيه الشيعة.
واعترض ذلك من وجوه: أولها أن فائدة اللفظين في اللغة والشرع
مختلفة، وقد فرق الله تعالى بين الأعضاء المغسولة والممسوحة،
فكيف يكون معنى الغسل والمسح واحدا؟! وثانيها أن الأرجل إذا
كانت معطوفة على الرؤوس- وكان الفرض في الرؤوس المسح الذي ليس
بغسل بلا خلاف- وجب أن يكون حكم الأرجل كذلك، وإلا لزم الجمع
بين الحقيقة والمجاز، وثالثها أنه لو كان المسح بمعنى الغسل
يسقط الاستدلال على الغسل
بخبر «أنه صلّى الله عليه وسلّم غسل رجليه»
لأنه على هذا يمكن أن يكون مسحها فسمي المسح غسلا.
ورابعها أن استشهاد أبي زيد بقولهم: تمسحت للصلاة لا يجدي نفعا
لاحتمال أنهم لما أرادوا أن يخبروا عن الطهور بلفظ موجز، ولم
يجز أن يقولوا: تغسلت للصلاة لأن ذلك يوهم الغسل، قالوا بدله:
تمسحت لأن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضا، فتجوزوا بذلك تعويلا
على فهم المراد، وذلك لا يقتضي أن يكونوا جعلوا المسح من أسماء
الغسل، وأجيب عن الأول بأنّا لا ننكر اختلاف فائدة اللفظين لغة
وشرعا ولا تفرقة الله تعالى بين المغسول والممسوح من الأعضاء،
لكنا ندعي أن حمل المسح على الغسل في بعض المواضع جائز وليس في
اللغة والشرع ما يأباه، على أنه قد ورد ذلك في كلامهم، وعن
الثاني بأنا نقدر لفظ امسحوا قبل أرجلكم أيضا وإذا تعدد اللفظ
فلا بأس بأن يتعدد المعنى ولا محذور فيه، فقد نقل شارح زبدة
الأصول من الإمامية أن هذا القسم من الجمع بين الحقيقة والمجاز
جائز بحيث يكون ذلك اللفظ في المعطوف عليه بالمعنى الحقيقي وفي
المعطوف بالمعنى المجازي، وقالوا: في آية لا تَقْرَبُوا
الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ
وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ [النساء: 43] : إن الصلاة
في المعطوف عليه بالمعنى الحقيقي الشرعي- وهو الأركان
المخصوصة- وفي المعطوف بالمعنى المجازي- وهو المسجد- فإنه محل
الصلاة، وادعى ذلك الشارح أن هذا نوع من الاستخدام، وبذلك فسر
الآية جمع من مفسري الإمامية وفقهائهم، وعليه فيكون هذا العطف
من عطف الجمل في التحقيق، ويكون المسح المتعلق بالرؤوس بالمعنى
الحقيقي، والمسح المتعلق بالأرجل بالمعنى المجازي، على أن من
أصول الإمامية- كالشافعية- جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز،
وكذا استعمال المشترك في معنييه، ويحتمل هنا إضمار الجار تبعا
للفعل فتدبر ولا يشكل أن في الآية حينئذ إبهاما ويبعد وقوع ذلك
في التنزيل لأنا نقول: إن الآية نزلت بعد ما فرض الوضوء وعلمه
عليه الصلاة والسلام روح القدس إياه في ابتداء البعثة بسنين
فلا بأس أن يستعمل فيها هذا القسم من الإبهام، فإن المخاطبين
كانوا عارفين بكيفية الوضوء ولم تتوقف معرفتهم بها على
الاستنباط من الآية، ولم تترك الآية لتعليمهم بل سوقها لإبدال
التيمم من الوضوء والغسل في الظاهر، وذكر الوضوء فوق التيمم
للتمهيد والغالب فيما يذكر لذلك عدم البيان
(3/247)
المشبع، وعن الثالث بأن حمل المسح على
الغسل لداع لا يستلزم حمل الغسل على المسح بغير داع، فكيف يسقط
الاستدلال؟! سبحان الله تعالى هذا هو العجب العجاب.
وعن الرابع بأنا لا نسلم أن العدول عن تغسلت لإيهامه الغسل فإن
تمسحت يوهم ذلك أيضا بناء على ما قاله من أن المغسول من
الأعضاء ممسوح أيضا سلمنا ذلك لكنا لم نقتصر في الاستشهاد على
ذلك، ويكفي- مسح الأرض المطر- في الفرض.
والوجه الثاني أن يبقى المسح على الظاهر، وتجعل الأرجل على تلك
القراءة معطوفة على المغسولات كما في قراءة النصب، والجر
للمجاورة، واعترض أيضا من وجوه: الأول والثاني والثالث ما ذكره
الإمام من عد الجر بالجوار لحنا وأنه إنما يصار إليه عند أمن
الالتباس ولا أمن فيما نحن فيه، وكونه إنما يكون بدون حرف
العطف، والرابع أن في العطف على المغسولات سواء كان المعطوف
منصوب اللفظ أو مجروره الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة
أجنبية ليست اعتراضية وهو غير جائز عند النحاة، على أن الكلام
حينئذ من قبيل ضربت زيدا، وأكرمت خالدا وبكرا بجعل بكر عطفا
على زيد، أو إرادة أنه مضروب لا مكرم، وهو مستهجن جدا تنفر عنه
الطباع، ولا تقبله الأسماع، فكيف يجنح إليه أو يحمل كلام الله
تعالى عليه؟! وأجيب عن الأول بأن إمام النحاة الأخفش وأبا
البقاء وسائر مهرة العربية وأئمتها جوزوا جر الجوار، وقالوا
بوقوعه في الفصيح كما ستسمعه إن شاء الله تعالى، ولم ينكره إلا
الزجاج- وإنكاره مع ثبوته في كلامهم- يدل على قصور تتبعه، ومن
هنا قالوا: المثبت مقدم على النافي، وعن الثاني بأنا لا نسلم
أنه إنما يصار إليه عند أمن الالتباس ولا نقل في ذلك عن النحاة
في الكتب المعتمدة، نعم قال بعضهم:
شرط حسنه عدم الالتباس مع تضمن نكتة وهو هنا كذلك لأن الغاية
دلت على أن هذا المجرور ليس بممسوح إذ المسح لم يوجد مغيا في
كلامهم، ولذا لم يغي في آية التيمم، وإنما يغيا الغسل، ولذا
غيي في الآية حين احتيج إليه فلا يرد أنه لم يغي غسل الوجه
لظهور الأمر فيه، ولا قول المرتضى: إنه لا مانع من تغييه،
والنكتة فيه الإشارة إلى تخفيف الغسل حتى كأنه مسح، وعن الثالث
بأنهم صرحوا بوقوعه في النعت كما سبق من الأمثلة، وقوله تعالى:
عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ [هود: 84] بجر مُحِيطٍ مع أنه نعت
للعذاب، وفي التوكيد كقوله:
ألا بلغ ذوي الزوجات كلهم ... أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب
بجر- كلهم- على ما حكاه الفراء، وفي العطف كقوله تعالى:
وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [الواقعة:
22، 23] على قراءة حمزة والكسائي، وفي رواية المفضل عن عاصم
فإنه مجرور بجوار بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ ومعطوف على وِلْدانٌ
مُخَلَّدُونَ [الواقعة: 17] ، وقول النابغة:
لم يبق إلا أسير غير منفلت ... وموثق في حبال القد مجنوب
بجر- موثق- مع أن العطف على أسير، وقد عقد النحاة لذلك بابا
على حدة لكثرته ولما فيه من المشاكلة وقد كثر في الفصيح حتى
تعدوا عن اعتباره في الإعراب إلى التثنية والتأنيث وغير ذلك،
وكلام ابن الحاجب في هذا المقام لا يعبأ به، وعن الرابع بأن
لزوم الفصل بالجملة إنما يخل إذا لم تكن جملة وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ متعلقة بجملة المغسولات فإن كان معناها وامسحوا
الأيدي بعد الغسل برؤوسكم فلا إخلال- كما هو مذهب كثير من أهل
السنة- من جواز المسح ببقية ماء الغسل، واليد المبلولة من
المغسولات، ومع ذلك لم يذهب أحد من أئمة العربية إلى امتناع
الفصل بين الجملتين المتعاطفتين، أو معطوف ومعطوف عليه، بل صرح
الأئمة بالجواز، بل نقل أبو البقاء إجماع النحويين على ذلك،
نعم توسط الأجنبي في كلام البلغاء يكون لنكتة وهي هنا ما أشرنا
إليه، أو الإيماء إلى
(3/248)
الترتيب، وكون الآية من قبيل ما ذكر من
المثال في حيز المنع، وربما تكون كذلك لو كان النظم- وامسحوا
رؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين- والواقع ليس كذلك، وقد ذكر بعض
أهل السنة أيضا وجها آخر في التطبيق، وهو أن قراءة الجر محمولة
على حالة التخفيف، وقراءة النصب على حال دونه، واعترض بأن
الماسح على الخف ليس ماسحا على الرجل حقيقة ولا حكما، لأن الخف
اعتبر مانعا سراية الحدث إلى القدم فهي طاهرة، وما حل بالخف
أزيل بالمسح فهو على الخف حقيقة وحكما، وأيضا المسح على الخف
لا يجب إلى الكعبين اتفاقا، وأجيب بأنه يجوز أن يكون لبيان
المحل الذي يجزىء عليه المسح لأنه لا يجزىء على ساقه، نعم هذا
الوجه لا يخلو عن بعد، والقلب لا يميل إليه، وإن ادعى الجلال
السيوطي أنه أحسن ما قيل في الآية، وللإمامية في تطبيق
القراءتين وجهان أيضا- لكن الفرق بينهما وبين ما سبق من
الوجهين اللذين عند أهل السنة- أن قراءة النصب التي هي ظاهرة
في الغسل عند أهل السنة، وقراءة الجر تعاد إليها وعند الإمامية
بالعكس، الوجه الأول: أن تعطف الأرجل في قراءة النصب على محل
بِرُؤُسِكُمْ فيكون حكم الرؤوس والأرجل كليهما مسحا. الوجه
الثاني: أن الواو فيه بمعنى مع من قبيل استوى الماء والخشبة،
وفي كلا الوجهين بحث لأهل السنة من وجوه: الأول أن العطف على
المحل خلاف الظاهر بإجماع الفريقين، والظاهر العطف على
المغسولات والعدول عن الظاهر إلى خلافه بلا دليل لا يجوز وإن
استدلوا بقراءة الجر، قلنا: إنها لا تصلح دليلا لما علمت،
والثاني أنه لو عطف وَأَرْجُلَكُمْ على محل بِرُؤُسِكُمْ جاز
أن نفهم منه معنى الغسل، إذ من القواعد المقررة في العلوم
العربية أنه إذا اجتمع فعلان متغايران في المعنى- ويكون لكل
منهما متعلق- جاز حذف أحدهما وعطف متعلق المحذوف على متعلق
المذكور كأنه متعلقه، ومن ذلك قوله:
يا ليت بعلك قد غدا ... متقلدا سيفا ورمحا
فإن المراد وحاملا رمحا، ومنه قوله:
إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزجّجن الحواجب والعيونا
فإنه أراد وكحلن العيونا، وقوله:
تراه كان مولاه يجدع أنفه ... وعينيه إن مولاه كان له وفر
أي يفقئ عينيه إلى ما لا يحصى كثرة، والثالث أن جعل الواو
بمعنى مع بدون قرينة مما لا يكاد يجوز، ولا قرينة هاهنا على
أنه يلزم كما قيل: فعل المسحين معا بالزمان، ولا قائل به
بالاتفاق، بقي لو قال قائل: لا أقنع بهذا المقدار في الاستدلال
على غسل الأرجل بهذه الآية ما لم ينضم إليها من خارج ما يقوي
تطبيق أهل السنة فإن كلامهم وكلام الإمامية في ذلك عسى أن يكون
فرسا رهان، قيل له: إن سنة خير الورى صلّى الله عليه وسلّم
وآثار الأئمة رضي الله تعالى عنهم شاهدة على ما يدعيه أهل
السنة وهي من طريقهم أكثر من أن تحصى، وأما من طريق القوم، فقد
روى العياشي عن علي عن أبي حمزة قال: «سألت أبا هريرة عن
القدمين فقال: تغسلان غسلا» .
وروى محمد بن النعمان عن أبي بصير عن أبي عبد الله رضي الله
تعالى عنه قال: «إذا نسيت مسح رأسك حتى غسلت رجليك فامسح رأسك
ثم اغسل رجليك»
وهذا الحديث رواه أيضا الكلبي وأبو جعفر الطوسي بأسانيد صحيحة
بحيث لا يمكن تضعيفها ولا الحمل على التقية لأن المخاطب بذلك
شيعي خاص،
وروى محمد بن الحسن الصفار عن زيد بن علي عن أبيه عن جده أمير
المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه قال: «جلست أتوضأ فأقبل رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم فلما غسلت قدمي قال: يا علي خلل بين
الأصابع» .
(3/249)
ونقل الشريف الرضي عن أمير المؤمنين كرم
الله تعالى وجهه في نهج البلاغة حكاية وضوئه صلّى الله عليه
وسلّم وذكر فيه غسل الرجلين، وهذا يدل على أن مفهوم الآية كما
قال أهل السنة، ولم يدع أحد منهم النسخ ليتكلف لإثباته كما ظنه
من لا وقوف له، وما يزعمه الإمامية من نسبة المسح إلى ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما وأنس بن مالك وغيرهما كذب مفترى عليهم،
فإن أحدا منهم ما روي عنه بطريق صحيح أنه جوز المسح، إلا أن
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فإنه قال بطريق التعجب: «لا نجد
في كتاب الله تعالى إلا المسح ولكنهم أبوا إلا الغسل» ومراده
أن ظاهر الكتاب يوجب المسح على قراءة الجر التي كانت قراءته،
ولكن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لم يفعلوا إلا
الغسل، ففي كلامه هذا إشارة إلى قراءة الجر مؤولة متروكة
الظاهر بعمل الرسول صلّى الله عليه وسلّم والصحابة رضي الله
تعالى عنهم، ونسبة جواز المسح- إلى أبي العالية وعكرمة
والشعبي- زور وبهتان أيضا، وكذلك نسبة الجمع بين الغسل والمسح،
أو التخيير بينهما إلى الحسن البصري عليه الرحمة، ومثله نسبة
التخيير إلى محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ الكبير والتفسير
الشهير، وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلفة، ورواها
بعض أهل السنة ممن لم يميز الصحيح والسقيم من الأخبار بلا تحقق
ولا سند، واتسع الخرق على الراقع، ولعل محمد بن جرير القائل
بالتخيير هو محمد بن جرير بن رستم الشيعي صاحب الإيضاح للمترشد
في الإمامة لا أبو جعفر محمد بن جرير بن غالب الطبري الشافعي
الذي هو من أعلام أهل السنة، والمذكور في تفسير هذا هو الغسل
فقط لا المسح ولا الجمع ولا التخيير الذي نسبه الشيعة إليه،
ولا حجة لهم في دعوى المسح بما
روي عن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه «أنه مسح وجهه
ويديه، ومسح رأسه ورجليه، وشرب فضل طهوره قائما، وقال: إن
الناس يزعمون أن الشرب قائما لا يجوز، وقد رأيت رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم صنع مثل ما صنعت»
وهذا وضوء من لم يحدث لأن الكلام في وضوء المحدث لا في مجرد
التنظيف بمسح الأطراف كما يدل عليه ما في الخبر من مسح المغسول
اتفاقا، وأما ما
روي عن عباد بن تميم عن عمه بروايات ضعيفة أنه صلّى الله عليه
وسلّم توضأ ومسح على قدميه
فهو كما قال الحفاظ: شاذ منكر لا يصلح للاحتجاج مع احتمال حمل
القدمين على الخفين ولو مجازا واحتمال اشتباه القدمين
المتخففين بدون المتخففين من بعيد، ومثل ذلك عند من اطلع على
أحوال الرواة ما
رواه الحسين بن سعيد الأهوازي عن فضالة عن حماد بن عثمان عن
غالب بن هذيل قال: «سألت أبا جعفر رضي الله تعالى عنه عن المسح
على الرجلين فقال: هو الذي نزل به جبريل عليه السلام»
وما
روي عن أحمد بن محمد قال: «سألت أبا الحسن موسى بن جعفر رضي
الله تعالى عنه عن المسح على القدمين كيف هو؟
فوضع بكفيه على الأصابع ثم مسحهما إلى الكعبين فقلت له: لو أن
رجلا قال: بإصبعين من أصابعه هكذا إلى الكعبين أيجزئ؟ قال: لا
إلا بكفه كلها»
إلى غير ذلك مما روته الإمامية في هذا الباب، ومن وقف على
أحوال رواتهم لم يعول على خبر من أخبارهم.
وقد ذكرنا نبذة من ذلك في كتابنا- النفحات القدسية في رد
الإمامية- على أن لنا أن نقول: لو فرض أن حكم الله تعالى المسح
على ما يزعمه الإمامية من الآية فالغسل يكفي عنه ولو كان هو
الغسل لا يكفي عنه. فبالغسل يلزم الخروج عن العهدة بيقين دون
المسح وذلك لأن الغسل محصل لمقصود المسح من وصول البلل وزيادة،
وهذا مراد من عبر بأنه مسح وزيادة، فلا يرد ما قيل: من أن
الغسل والمسح متضادان لا يجتمعان في محل واحد كالسواد والبياض،
وأيضا كان يلزم الشيعة الغسل لأنه الأنسب بالوجة المعقول من
الوضوء وهو التنظيف للوقوف بين يدي رب الأرباب سبحانه وتعالى
لأنه الأحوط أيضا لكون سنده متفقا عليه للفريقين كما سمعت دون
المسح للاختلاف في سنده، وقال بعض المحققين: قد يلزمهم- بناء
على قواعدهم- أن يجوزوا الغسل والمسح ولا يقتصروا على المسح
(3/250)
فقط، وزعم الجلال السيوطي أنه لا إشكال في
الآية بحسب القراءتين عند المخيرين إلا أنه يمكن أن يدعى
لغيرهم أن ذلك كان مشروعا أولا ثم نسخ بتعيين الغسل، وبقيت
القراءتان ثابتتين في الرسم كما نسخ التخيير بين الصوم والفدية
بتعيين الصوم وبقي رسم ذلك ثابتا، ولا يخفى أنه أوهن من بيت
العنكبوت وإنه لأوهن البيوت.
هذا وأما قراءة الرفع فلا تصلح في الاستدلال للفريقين إذ لكل
أن يقدر ما شاء، ومن هنا قال الزمخشري فيها:
إنها على معنى وأرجلكم مغسولة أو ممسوحة، لكن ذكر الطيبي أنه
لا شك أن تغيير الجملة من الفعلية إلى الاسمية وحذف خبرها يدل
على إرادة ثبوتها وظهورها، وأن مضمونها مسلم الحكم ثابت لا
يلتبس، وإنما يكون كذلك إذا جعلت القرينة ما علم من منطوق
القراءتين ومفهومهما وشوهد وتعورف من فعل الرسول صلّى الله
عليه وسلّم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، وسمع منهم واشتهر
فيما بينهم.
وقد قال عطاء: والله ما علمت أن أحدا من أصحاب رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم مسح على القدمين، وكل ذلك دافع لتفسيره هذه
القراءة بقوله: وَأَرْجُلَكُمْ مغسولة أو ممسوحة على الترديد
لا سيما العدول من الإنشائية إلى الإخبارية المشعر بأن القوم
كأنهم سارعوا فيه وهو يخبر عنه انتهى، فالأولى أن يقدر ما هو
من جنس الغسل على وجه يبقى معه الإنشاء.
وبمجموع ما ذكرنا يعلم ما في كلام الإمام الرازي قدس الله
تعالى سره، ونقله مما قدمناه، فاعرف الرجال بالحق لا الحق
بالرجال، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
ثم اعلم أنهم اختلفوا في أن الآية هل تقتضي وجوب النية أم لا؟
فقال الحنفية: إن ظاهره لا يقتضي ذلك، والقول بوجوبها يقتضي
زيادة في النص، والزيادة فيه تقتضي النسخ، ونسخ القرآن بخبر
الواحد غير واقع بل غير جائز عند الأكثرين، وكذا بالقياس على
المذهب المنصور للشافعي رضي الله تعالى عنه- كما قاله المروزي-
فإذن لا يصح إثبات النية، وقال بعض الشافعية: إن الآية تقتضي
الإيجاب لأن معنى قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إذا أردتم القيام
وأنتم محدثون، والغسل وقع جزاء لذلك، والجزاء مسبب عن الشرط
فيفيد وجوب الغسل لأجل إرادة الصلاة، وبذلك يثبت المطلوب، وقال
آخرون- وعليه المعول عندهم- وجه الاقتضاء أن الوضوء مأمور به
فيها وهو ظاهر، وكل مأمور به يجب أن يكون عبادة وإلا لما أمر
به، وكل عبادة لا تصح بدون النية لقوله تعالى: وَما أُمِرُوا
إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ [البينة: 5] والإخلاص
لا يحصل إلا بالنية، وقد جعل حالا للعابدين، والأحوال شروط
فتكون كل عبادة مشروطة بالنية، وقاسوا أيضا الوضوء على التيمم
في كونهما طهارتين للصلاة، وقد وجبت النية في المقيس عليه فكذا
في المقيس، ولنا القول بموجب العلة يعني سلمنا أن كل عبادة
بنية، والوضوء لا يقع عبادة بدون لكن ليس كلامنا في ذلك بل في
أنه لم ينو حتى لم يقع عبادة سببا للثواب فهل يقع الشرط
المعتبر للصلاة حتى تصح به أو لا؟ ليس في الآية ولا في الحديث
المشهور الذي يوردونه في هذا المقام دلالة على نفيه ولا
إثباته، فقلنا: نعم لأن الشرط مقصود التحصيل لغيره لا لذاته،
فكيف حصل المقصود وصار كستر العورة؟! وباقي شروط الصلاة التي
لا يفتقر اعتبارها إلى أن ينوي، ومن ادعى- أن الشرط وضوء هو
عبادة- فعليه البيان، والقياس المذكور على التيمم فاسد، فإن من
المتفق عليه أن شرط القياس أن لا يكون شرعية حكم الأصل متأخرة
عن حكم الفرع، وإلا لثبت حكم الفرع بلا دليل وشرعية التيمم
متأخرة عن الوضوء فلا يقاس الوضوء على التيمم في حكمه، نعم إن
قصد الاستدلال بآية التيمم بمعنى أنه لما شرع التيمم بشرط
النية ظهر وجوبها في الوضوء وكان معنى القياس أنه لا فارق لم
يرد ذلك، وذكر بعض المحققين في الفرق بين الوضوء والتيمم
وجهين: الأول أن التيمم ينبئ لغة عن القصد فلا يتحقق بدونه
(3/251)
بخلاف الوضوء، والثاني أن التراب جعل طهورا
في حالة مخصوصة والماء طهور بنفسه كما يستفاد من قوله تعالى:
ماءً طَهُوراً [الفرقان: 48] وقوله سبحانه: لِيُطَهِّرَكُمْ
بِهِ [الأنفال: 11] فحينئذ يكون القياس فاسدا أيضا.
واعترض الوجه الأول بأن النية المعتبرة ليست نية نفس الفعل بل
أن ينوي المقصود به الطهارة والصلاة ولو صلاة الجنازة وسجدة
التلاوة على ما بين في محله، وإذا كان كذلك فإنما ينبئ عن قصد
هو غير المعتبر نية فلا يكون النص بذلك موجبا للنية المعتبرة،
ومن هنا يعلم ما في استدلال- بعض الشافعية بآية الوضوء على
وجوب النية فيه- السابق آنفا، وذلك لأن المفاد بالتركيب المقدر
إنما هو وجوب الغسل لأجل إرادة الصلاة مع الحدث لا إيجاب أن
يغسل لأجل الصلاة إذ عقد الجزاء الواقع طلبا بالشرط يفيد طلب
مضمون الجزاء إذا تحقق مضمون الشرط، وأن وجوبه اعتبر مسببا عن
ذلك، فأين طلبه على وجه مخصوص هو فعله على قصد كونه لمضمون
الشرط فتأمل، فقد خفي هذا على بعض الأجلة حتى لم يكافئه
بالجواب، والوجه الثاني بأنه إن أريد بالحالة المخصوصة حالة
الصلاة فهو مبني على أن الإرادة مرادة في الجملة المعطوفة
عليها جملة التيمم.
وأنت قد علمت الآن أن لا دلالة فيها على اشتراط النية، وإن
أريد حالة عدم القدرة على استعمال الماء فظاهر أن ذلك لا يقتضي
إيجاب النية ولا نفيها، واستفاد كون الماء طهورا بنفسه مما ذكر
بأن كون المقصود من إنزاله التطهير به، وتسميته طهورا لا يفيد
اعتباره مطهرا بنفسه أي رافعا للأمر الشرعي بلا نية، وهو
المطلوب بخلاف إزالته الخبث لأن ذلك محسوس أنه مقتضى طبعه ولا
تلازم بين إزالته حسا صفة محسوسة وبين كونه يرتفع عند استعماله
اعتبار شرعي، والمفاد من لِيُطَهِّرَكُمْ كون المقصود من
إنزاله التطهير به، وهذا يصدق مع اشتراط النية- كما قال
الشافعي رضي الله تعالى عنه- وعدمه كما قلنا ولا دلالة للأعم
على أخص بخصوصه كما هو المقرر فتدبر.
واختلفوا أيضا في أنها هل تقتضي وجوب الترتيب أم لا؟ فذهب
الحنفية إلى الثاني لأن المذكور فيها الواو وهي لمطلق الجمع
على الصحيح المعول عليه عندهم، والشافعية إلى الأول لأن الفاء
في- اغسلوا- للتعقيب فتفيد تعقيب القيام إلى الصلاة بغسل
الوجه، فيلزم الترتيب بين الوجه وغيره، فيلزم في الكل لعدم
القائل بالفصل.
وأجيب بأنا لا نسلم إفادتها تعقيب القيام به بل جملة الأعضاء
وتحقيقه أن المعقب طلب الغسل وله متعلقات وصل إلى أولها ذكرا
بنفسه وإلى الباقي بواسطة الحرف المشترك فاشتركت كلها فيه من
غير إفادة طلب تقديم تعليقه ببعضها على بعض في الوجود فصار
مؤدى التركيب طلب إعقاب غسل جملة الأعضاء، وهذا نظير قولك:
ادخل السوق فاشتر لنا خبزا ولحما حيث كان المفاد إعقاب الدخول
بشراء ما ذكر كيفما وقع.
وزعم بعضهم أن إفادة النظم للترتيب لأنه لو لم يرد ذلك لأوجب
تقديم الممسوح أو تأخيره عن المغسول، ولأنهم يقدمون الأهم
فالأهم، وفيه نظر لأن قصارى ما يدل عليه النظم أولوية الترتيب
ونحن لا ننكر ذلك، وقال آخرون: الدليل على الترتيب فعله صلّى
الله عليه وسلّم
فقد توضأ عليه الصلاة والسلام مرتبا، ثم قال: «هذا وضوء لا
يقبل الله تعالى الصلاة إلا به»
وفيه أن الإشارة كانت لوضوء مرتب موالى فيه فلو دل على فرضية
الترتيب لدل على فرضية الموالاة ولا قائل بها عند الفريقين،
نعم أقوى دليل لهم
قوله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع: «ابدؤوا بما بدأ
الله تعالى به»
بناء على أن الأمر للوجوب، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص
السبب، وأجيب عن ذلك بما أجيب إلا أن الاحتياط لا يخفى، وهذا
المقدار يكفي في الكلام على هذه الآية، والزيادة- على ذلك
ببيان سنن الوضوء ونواقضه وما يتعلق به- مما لا تفهمه الآية
كما فعل بعض المفسرين- فضول لا فضل، وإظهار علم يلوح من خلاله
الجهل وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً أي عند القيام إلى الصلاة
فَاطَّهَّرُوا أي فاغتسلوا على أتم وجه، وقرى «فأطهروا» أي
فطهروا أبدانكم، والمضمضة
(3/252)
والاستنشاق هنا فرض كغسل سائر البدن لأنه
سبحانه أضاف التطهير إلى مسمى الواو، وهو جملة بدن كل مكلف،
فيدخل كل ما يمكن الإيصال إليه إلا ما فيه حرج كداخل العينين
فيسقط للحرج ولا حرج في داخل الفم والأنف فيشملهما نص الكتاب
من غير معارض كما شملها
قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو داود: «تحت كل شعرة
جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة»
وكونهما من الفطرة كما
جاء في الخبر لا ينفي الوجوب لأنها الدين،
وهو أعم منه، وتشعر الآية بأنه لا يجب الغسل على الجنب فورا ما
لم يرد فعل ما لا يجوز بدونه ويؤيد ذلك ما صح أنه صلّى الله
عليه وسلّم خرج لصلاة الفجر ناسيا أنه جنب حتى إذا وقف تذكر
فانصرف راجعا فاغتسل وخرج ورأسه الشريف يقطر ماء وَإِنْ
كُنْتُمْ مَرْضى مرضا تخافون به الهلاك، أو ازدياده باستعمال
الماء.
أَوْ عَلى سَفَرٍ أي مستقرين عليه.
أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ
النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً
طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ- من-
لابتداء الغاية، وقيل: للتبعيض وهو متعلق- بامسحوا- وقرأ عبد
الله- فأموا صعيدا- وقد تقدم تفسير الآية في سورة النساء
فليراجع، ولعل التكرير ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة،
ولئلا يتوهم النسخ- على ما قيل- بناء على أن هذه السورة من آخر
ما نزل ما يُرِيدُ اللَّهُ بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم
إلى الصلاة والغسل من الجنابة، أو بالأمر بالتيمم لِيَجْعَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أي ضيق في الامتثال، والجعل- يحتمل أن
يكون بمعنى الخلق والإيجاد فيتعدى لواحد وهو مِنْ حَرَجٍ ومِنَ
زائدة، وعَلَيْكُمْ حينئذ متعلق- بالجعل- وجوز أن يتعلق- بحرج-
وإن كان مصدرا متأخرا، ويحتمل أن يكون بمعنى التصيير، فيكون
عَلَيْكُمْ هو المفعول الثاني وَلكِنْ يُرِيدُ أي بذلك
لِيُطَهِّرَكُمْ أي لينظفكم، فالطهارة لغوية، أو ليذهب عنكم
دنس الذنوب، فإن الوضوء يكفر الله تعالى به الخطايا،
فقد أخرج مالك ومسلم وابن جرير عن أبي هريرة رضي الله تعالى
عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا توضأ العبد
المسلم فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع
الماء- أو مع آخر قطر الماء- فإذا غسل يديه خرج من يديه كل
خطيئة بطشتها يداه مع الماء- أو مع آخر قطر الماء- فإذا غسل
رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء- أو مع آخر قطر
الماء- حتى يخرج نقيا من الذنوب»
فالطهارة معنوية بمعنى تكفير الذنوب لا بمعنى إزالة النجاسة،
لأن الحدث ليس نجاسة بلا خلاف، وإطلاق ذلك عليه باعتبار أنه
نجاسة حكمية بمعنى كونه مانعا من الصلاة لا بمعنى كونه بحيث
يتنجس الطعام أو الشراب الرطب بملاقاة المحدث أو تفسد الصلاة
بحمله، وأما تنجس الماء فيما شاع عن الإمام الأعظم رضي الله
تعالى عنه، وروي رجوعه عنه فلانتقال المانعية والآثام إليه
حكما، وقيل: المراد تطهير القلب عن دنس التمرد عن طاعة الله
تعالى.
وجوز أن يكون المراد ليطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهر
بالماء، والمراد بالتطهر رفع الحدث والمانع الحكمي، وأما ما
نقل عن بعض الشافعية- كإمام الحرمين- من أن القول: بأن التراب
مطهر قول ركيك، فمراده به منع الطهارة الحسية فلا يرد عليه أنه
مخالف
للحديث الصحيح «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»
والإرادة صفة ذات، وقد شاع تفسيرها، ومفعولها في الموضعين
محذوف كما أشير إليه، واللام للعلة، وإلى ذلك ذهب بعض
المحققين، وقيل: هي مزيدة والمعنى ما يريد الله أن يجعل عليكم
من حرج حتى لا يرخص لكم في التيمم «ولكن يريد أن يطهركم» وضعف
بأن ألا تقدر بعد المزيدة، وتعقب بأن هذا مخالف لكلام النحاة،
فقد قال الرضي: الظاهر أن تقدر أن بعد اللام الزائدة التي بعد
فعل الأمر والإرادة، وكذا في المغني. وغيره، ووقوع هذه اللام
بعد الأمر والإرادة في القرآن وكلام العرب شائع مقيس، وهو من
مسائل الكتاب قال فيه: سألته- أي الخليل- عن معنى أريد
(3/253)
لأن يفعل فقال: إنما تريد أن تقول: أريد
لهذا كما قال تعالى: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ
الْمُسْلِمِينَ [الزمر: 12] انتهى، واختلف فيه النحاة فقال
السيرافي: فيه وجهان: أحدهما- ما اختاره البصريون- أن مفعوله
مقدر أي أريد ما أريد لأن تفعل، فاللام تعليلية غير زائدة،
الثاني أنها زائدة لتأكيد المفعول، وقال أبو علي في التعليق عن
المبرد: إن الفعل دال على المصدر فهو مقدر أي أردت وإرادتي
لكذا فحذف إرادتي واللام زائدة وهو تكلف بعيد، والمذاهب ثلاثة:
أقربها الأول، وأسهلها الثاني- وهو من بليغ الكلام القديم-
كقوله:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل
البلاغة فيه مما يعرفه الذوق السليم قاله الشهاب وَلِيُتِمَّ
بشرعه ما هو مطهرة لأبدانكم نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ في الدين،
أو ليتم برخصة إنعامه عليكم بالعزائم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
نعمته بطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه، ومن لطائف الآية
الكريمة- كما قال بعض المحققين- إنها مشتملة على سبعة أمور
كلها مثنى: طهارتان أصل وبدل، والأصل اثنان: مستوعب وغير
مستوعب، وغير المستوعب- باعتبار الفعل- غسل ومسح، وباعتبار
المحل محدود وغير محدود، وأن آلتهما مائع وجامد، وموجبهما حدث
أصغر وأكبر، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، وأن
الموعود عليهما التطهير وإتمام النعمة، وزاد البعض مثنيات أخر،
فإن غير المحدود وجه ورأس، والمحدود يد ورجل، والنهاية كعب
ومرفق، والشكر قولي وفعلي.
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وهي نعمة الإسلام، أو
الأعم على إرادة الجنس، وأمروا بذلك ليذكرهم المنعم ويرغبهم في
شكره وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ أي عهده الذي أخذه
عليكم وقوله تعالى:
إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا ظرف- لواثقكم به- أو لمحذوف
وقع حالا من الضمير المجرور في بِهِ أو من ميثاقه أي كائنا وقت
قولكم: سَمِعْنا وَأَطَعْنا وفائدة التقييد به تأكيد وجوب
مراعاته بتذكير قولهم، والتزامهم بالمحافظة عليه، والمراد به
الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم النبي صلّى الله
عليه وسلّم في العقبة الثانية سنة ثلاث عشرة من النبوة على
السمع والطاعة في حال اليسر والعسر والمنشط والمكره كما أخرجه
البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت، وقيل: هو الميثاق
الواقع في العقبة الأولى سنة إحدى عشرة، أو بيعة الرضوان
بالحديبية، فإضافة الميثاق إليه تعالى مع صدوره عنه صلّى الله
عليه وسلّم لكون المرجع إليه سبحانه كما نطق في قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ
[الفتح: 10] .
وأخرج ابن جرير وابن حميد عن مجاهد قال: هو الميثاق الذي واثق
بني آدم حين أخرجهم من صلب أبيهم عليه السلام وفيه بعد
وَاتَّقُوا اللَّهَ في نسيان نعمته ونقض ميثاقه، أو في كل ما
تأتون وتذرون فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي مخفياتها الملابسة لها ملابسة
تامة مصححة لإطلاق الصاحب عليه فيجازيكم عليها، فما ظنكم
بجليات الأعمال؟؟ والجملة اعتراض وتعليل للأمر وإظهار الاسم
الجليل لما مر غير مرة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شروع في
بيان الشرائع المتعلقة لما يجري بينهم وبين غيرهم إثر ما يتعلق
بأنفسهم كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ أي كثيري القيام له
بحقوقه اللازمة، وقيل: أي ليكن من عادتكم القيام بالحق في
أنفسكم بالعمل الصالح، وفي غيركم بالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر ابتغاء مرضاة الله تعالى شُهَداءَ بِالْقِسْطِ أي
بالعدل، وقيل: دعاة لله تعالى مبينين عن دينه بالحجج الحقة
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يحملنكم شَنَآنُ قَوْمٍ أي شدة
بغضكم لهم عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا فلا تشهدوا في حقوقهم
بالعدل، أو فتعدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل اعْدِلُوا أيها
المؤمنون في أوليائكم وأعدائكم، واقتصر بعضهم على الأعداء بناء
على ما روي أنه لما فتحت مكة كلف الله
(3/254)
تعالى المسلمين بهذه الآية أن لا يكافئوا
كفار مكة بما سلف منهم، وأن يعدلوا في القول والفعل هُوَ راجع
إلى العدل الذي تضمنه الفعل، وهو إما مطلق العدل فيندرج فيه
العدل (1) الذي أشار إليه سبب النزول، وإما العدل مع الكفار
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي أدخل في مناسبتها لأن التقوى نهاية
الطاعة وهو أنسب الطاعات بها فالقرب بينهما على هذا مناسبة
الطاعة للطاعة، ويحتمل أن يكون أقربيته على التقوى باعتبار أنه
لطف فيها فهي مناسبة إفضاء السبب إلى المسبب وهو بمنزلة الجزء
الأخير من العلة، واللام مثلها في قولك: هو قريب لزيد للاختصاص
لا مكملة فإنه بمن أو إلى.
وتكلف الراغب في توجيه الآية فقال: فإن قيل: كيف ذكر سبحانه
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، وأفعل إنما يقال في شيئين اشتركا في أمر
واحد لأحدهما مزية وقد علمنا أن لا شيء من التقوى ومن فعل
الخير إلا وهو من العدالة؟ قيل:
إن أفعل وإن كان كما ذكرت فقد يستعمل على تقدير بناء الكلام
على اعتقاد المخاطب في الشيء في نفسه قطعا لكلامه وإظهارا
لتبكيته فيقال لمن اعتقد مثلا في زيد فضلا- وإن لم يكن فيه فضل
ولكن لا يمكنه أن ينكر أن عمرا أفضل منه- اخدم عمرا فهو أفضل
من زيد، وعلى ذلك جاء قوله تعالى: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا
يُشْرِكُونَ [النمل: 59] وقد علم أن لا خير فيما يشركون،
والجملة في موضع التعليل للأمر بالعدل، وصرح لهم به تأكيدا
وتشديدا، وأمر سبحانه بالتقوى بقوله جلّ وعلا: وَاتَّقُوا
اللَّهَ إثر ما بين أن العدل أقرب لها اعتناء بشأنها وتنبيها
على أنها ملاك الأمر كله إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما
تَعْمَلُونَ من الأعمال فيجازيكم بذلك، وقد تقدم نظير هذه
الآية في النساء، ولم يكتف بذلك لمزيد الاهتمام بالعدل
والمبالغة في إطفاء نائرة الغيظ، وقيل: لاختلاف السبب، فإن
الأولى نزلت في المشركين وهذه في اليهود، وذكر بعض المحققين
وجها لتقديم القسط هناك وتأخيره هنا، وهو أن آية النساء جيء
بها في معرض الإقرار على نفسه ووالديه وأقاربه فبدأ فيها
بالقسط الذي هو العدل من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة،
والتي هنا جيء بها في معرض ترك العداوة فبدأ فيها بالقيامة لله
تعالى لأنه أردع للمؤمنين، ثم ثني بالشهادة بالعدل فجيء في كل
معرض بما يناسبه وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ من الواجبات والمندوبات ومن جملتها العدل والتقوى
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ جملة مستأنفة مبينة لثاني
مفعول وَعَدَ المحذوف كأنه قيل: أي شيء وعده؟
فقيل لهم: مغفرة إلخ.
ويحتمل أن يكون المفعول متروكا والمعنى قدم لهم وعدا وهو ما
بين بالجملة المذكورة، وجوز أن تكون مفعول وعد باعتبار كونه
بمعنى قال، أو المراد حكايته لأنه يحكى بما هو في معنى القول
عند الكوفيين، ويحتمل أن يكون القول مقدرا أي وعدهم قائلا ذلك
لهم أي في حقهم فيكون إخبارا بثبوته لهم وهو أبلغ، وقيل: إن
هذا القول يقال لهم عند الموت تيسيرا لهم وتهوينا لسكرات الموت
عليهم.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا القرآنية التي من
جملتها ما تليت من النصوص الناطقة بالأمر بالعدل والتقوى، وحمل
بعضهم الآيات على المعجزات التي أيد الله تعالى بها نبيه صلّى
الله عليه وسلّم أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر أَصْحابُ
الْجَحِيمِ أي ملابسو النار الشديدة التأجج ملابسة مؤبدة،
والموصول مبتدأ أول، واسم الإشارة مبتدأ ثان وما بعده خبره،
والجملة خبر الأول، ولم يؤت بالجملة في سياق الوعيد كما أتي
بالجملة قبلها في سياق الوعد قطعا لرجائهم، وفي ذكر حال الكفرة
بعد حال المؤمنين كما هو السنة السنية القرآنية وفاء بحق
الدعوة، وتطييبا لقلوب المؤمنين
__________
(1) هكذا الأصل «فيه العدل مع الكفار الذي» إلخ ولا معنى له مع
ما سيأتي بعد.
(3/255)
بجعل أصحاب النار أعداءهم دونهم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ تذكير لنعمة الإنجاء من الشر إثر تذكير نعمة إيصاله
الخير الذي هو نعمة الإسلام وما يتبعها من الميثاق، أو تذكير
نعمة خاصة بعد تذكير النعمة العامة اعتناء بشأنها، وعَلَيْكُمْ
متعلق- بنعمة الله- أو بمحذوف وقع حالا منها، وقوله تعالى:
إِذْ هَمَّ قَوْمٌ على الأول ظرف لنفس النعمة، وعلى الثاني لما
تعلق به الظرف، ولا يجوز أن يكون ظرفا- لاذكروا- لتنافي
زمنيهما فإن إِذْ للمضي، واذْكُرُوا للمستقبل، أي اذكروا
إنعامه تعالى عَلَيْكُمْ، أو اذكروا نعمته تعالى كائنة
عَلَيْكُمْ وقت قصد قوم أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ
أَيْدِيَهُمْ أي بأن يبطشوا بكم بالقتل والإهلاك، يقال: بسط
إليه يده إذا بطش به، وبسط إليه لسانه إذا شتمه، والبسط في
الأصل مطلق المد، وإذا استعمل في اليد واللسان كان كناية عما
ذكر، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للمسارعة إلى
بيان رجوع ضرر البسط وغائلته إليهم حملا لهم من أول الأمر على
الاعتداد بنعمة دفعه فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ عطف على
هَمَّ وهو النعمة التي أريد تذكيرها، وذكر- الهم- للإيذان
بوقوعها عند مزيد الحاجة إليها، والفاء للتعقيب المفيد لتمام
النعمة وكمالها، وإظهار الأيدي لزيادة التقرير وتقديم المفعول
الصريح على الأصل أن منع أيديهم أي تمد إليكم عقيب همهم بذلك
وعصمكم منهم، وليس المراد أنه سبحانه كفها عنكم بعد أن مدوها
إليكم، وفي ذلك ما لا يخفى من إكمال النعمة ومزيد اللطف.
والآية إشارة إلى ما
أخرجه مسلم وغيره من حديث جابر أن المشركين رأوا أن رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم بعسفان
قاموا إلى الظهر معا صلوا ندموا إلا كانوا أكبوا عليهم، وهموا
أن يوقعوا بهم إذا قاموا إلى صلاة العصر، فردّ الله تعالى
كيدهم بأن أنزل صلاة الخوف،
وقيل: إشارة إلى ما
أخرجه أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما أن عمرو بن أمية الضمري حيث انصرف من بئر
معونة لقي رجلين كلابيين معهما أمان من رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم فقتلهما ولم يعلم أن معهما أمانا فواداهما رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم، ومضى إلى بني النضير ومعه أبو بكر
رضي الله تعالى عنه وعمر وعلي فتلقوه فقالوا: مرحبا يا أبا
القاسم لماذا جئت؟ قال: رجل من أصحابي قتل رجلين من كلاب معهما
أمان مني طلب مني ديّتهما فأريد أن تعينوني قالوا: نعم اقعد
حتى نجمع لك فقعد تحت الحصن وأبو بكر وعمر وعلي، وقد تآمر بنو
النضير أن يطرحوا عليه عليه الصلاة والسلام حجرا فجاء جبريل
عليه السلام فأخبره فقام ومن معه.
وقيل: إشارة إلى ما
أخرجه غير واحد من حديث جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم
نزل منزلا فتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها فعلق النبي
صلّى الله عليه وسلّم سلاحه بشجرة فجاء أعرابي إلى سيفه فأخذه
فسله، ثم أقبل على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: من يمنعك
مني؟ قال: الله تعالى- قالها الأعرابي مرتين، أو ثلاثا- والنبي
صلّى الله عليه وسلّم في كل ذلك يقول: الله تعالى، فشام
الأعرابي السيف فدعا النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه
فأخبرهم بصنيع الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه،
ولا يخفى أن سبب النزول يجوز تعدده، وأن القوم قد يطلق على
الواحد كالناس في قوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ
[آل عمران:
173] وأن ضرر الرئيس ونفعه يعودان إلى المرءوس وَاتَّقُوا
اللَّهَ عطف على اذْكُرُوا أي اتقوه في رعاية حقوق نعمته ولا
تخلوا بشكرها، أي في الأعم من ذلك ويدخل هو دخولا أوليا.
وَعَلَى اللَّهِ خاصة دون غيره استقلالا، أو اشتراكا
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فإنه سبحانه كاف في درء
المفاسد وجلب المصالح، والجملة تذييل مقرر لما قبله، وإيثار
صيغة أمر الغائب وإسنادها للمؤمنين لإيحاب التوكل على
المخاطبين بطريق برهاني ولإظهار ما يدعو إلى الامتثال، ويزع عن
الإخلال مع رعاية الفاصلة، وإظهار الأمر
(3/256)
وَلَقَدْ أَخَذَ
اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ
اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ
لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ
وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ
اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ
فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ
مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا
مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى
خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ
وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ
فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا
بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا
يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ
رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ
تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ
جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي
بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ
وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ
وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ
أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ
فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ
مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ
مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ
وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وَإِذْ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا
وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ
اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ
فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ
فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى
يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا
دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ
فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ
فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا
مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا
قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا
نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ
الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ
أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ
عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
الجليل لتعليل الحكم وتقوية استقلال الجملة
التذييلية- وقد مرت نظائره- وهذه الآية كما نقل عن الإمام
الشافعي رضي الله تعالى عنه- تقرأ سبعا صباحا وسبعا مساء لدفع
الطاعون.
(3/257)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي
إِسْرائِيلَ كلام مستأنف مشتمل على بيان بعض ما صدر من بني
إسرائيل مسوق لتقرير المؤمنين على ذكر نعمة الله تعالى ومراعاة
حق الميثاق، وتحذيرهم من نقضه، أو لتقرير ما ذكر من الهم
بالبطش، وتحقيقه بناء على أنه كان صادرا من أسلافهم ببيان أن
الغدر والخيانة فيهم شنشنة أخزمية، وإظهار الاسم الجليل هنا
لتربية المهابة، وتفخيم الميثاق وتهويل الخطب في نقضه مع ما
فيه من رعاية حق الاستئناف المستدعي للانقطاع عما قبله،
والالتفات في قوله تعالى: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ
نَقِيباً للجري على سنن الكبرياء، وتقديم المفعول الغير الصريح
على الصريح لما مر غير مرة من الاهتمام والتشويق، والنقيب-
قيل: فعيل بمعنى فاعل مشتقا من النقب بمعنى التفتيش، ومنه
فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ [ق: 36] وسمي بذلك لتفتيشه عن أحوال
القوم وأسرارهم، وقيل: بمعنى مفعول كأن القوم اختاروه على علم
منهم، وتفتيش على أحوالهم.
قال الزجاج: وأصله من النقب وهو الثقب الواسع والطريق في
الجبل، ويقال: فلان حسن النقيبة أي جميل الخليقة، ونقاب للعالم
بالأشياء الذكي القلب الكثير البحث عن الأمور، وهذا الباب كله
معناه التأثير في الشيء الذي له عمق، ومن ذلك نقبت الحائط أي
بلغت في النقب آخره.
روي أن بني إسرائيل لما فرغوا من أمر فرعون أمرهم الله تعالى
بالمسير إلى أريحا أرض الشام وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون،
وقال سبحانه لهم: إني كتبتها لكم دارا وقرارا فاخرجوا إليها
وجاهدوا من فيها فإني ناصركم، وأمر جل شأنه موسى عليه السلام
أن يأخذ من كل سبط كفيلا عليهم بالوفاء فيما أمروا به فأخذ
عليهم الميثاق، واختار منهم النقباء وسار بهم فلما دنا من أرض
كنعان بعث النقباء يتجسسون الأخبار ونهاهم أن يحدثوا قومهم
فرأوا أجراما عظاما وبأسا شديدا فهابوا، فرجعوا وحدثوا قومهم
إلا كالب بن يوقنا من سبط يهوذا ويوشع بن نون من سبط إفرائيم
بن يوسف عليه السلام، وعند ذلك قال بنو إسرائيل لموسى عليه
السلام: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا
قاعِدُونَ [المائدة: 24] .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أن النقباء لما دخلوا
على الجبارين وجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منهم ولا يحمل
عنقود عنبهم إلا خمس أنفس بينهم في خشبة، ويدخل في شطر الزمانة
إذا نزع حبها خمس أنفس أو أربع، وذكر البغوي أنه لقيهم رجل من
أولئك يقال له: عوج بن عنق، وكان طوله ثلاثة آلاف وثلاثمائة
وثلاثة وثلاثين ذراعا وثلث ذراع وكان يحتجز بالسحاب ويشرب منه
ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم
يأكله، ويروى أن الماء طبق ما على الأرض من جبل وما جاوز ركبتي
عوج، وعاش ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله تعالى على يد موسى
عليه السلام، وذلك أنه جاء وقور صخرة من الجبل على قدر عسكر
موسى
(3/258)
عليه السلام وكان فرسخا في فرسخ وحملها
ليطبقها عليهم فبعث الله تعالى الهدهد فقور الصخرة بمنقاره
فوقعت في عنقه فصرعته فأقبل موسى عليه السلام وهو مصروع فقتله.
وكانت أمه عنق إحدى بنات آدم عليه السلام، وكان مجلسها جريبا
من الأرض، فلما لقوا عوجا وعلى رأسه حزمة حطب أخذهم جميعا
وجعلهم في حزمته، وانطلق بهم إلى امرأته وقال: انظري إلى هؤلاء
الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا وطرحهم بين يديها، وقال: ألا
أطحنهم برجلي؟
فقالت امرأته: لا بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل
انتهى.
وأقول: قد شاع أمر عوج عند العامة ونقلوا فيه حكايات شنيعة،
وفي فتاوى العلامة ابن حجر قال الحافظ العماد ابن كثير: قصة
عوج وجميع ما يحكون عنه هذيان لا أصل له، وهو من مختلقات أهل
الكتاب، ولم يكن قط على عهد نوح عليه السلام ولم يسلم من
الكفار أحد، وقال ابن القيم: من الأمور التي يعرف بها كون
الحديث موضوعا أن يكون مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه-
كحديث عوج الطويل- وليس العجب من جرأة من وضع هذا الحديث وكذب
على الله تعالى إنما العجب ممن يدخل هذا الحديث في كتب العلم
من التفسير وغيره، ولا يبين أمره، ثم قال: ولا ريب في أن هذا
وأمثاله من وضع زنادقة أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء
والسخرية بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم انتهى.
وأورد ابن المنذر عن ابن عمر من قصته شيئا عجيبا، وتعقبه بعض
المصنفين بأن هذا مما يستحي الشخص من نسبته إلى ابن عمر رضي
الله تعالى عنهما، ومشى صاحب القاموس على أن أخباره موضوعة،
وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن حبان في كتاب العظمة فيه آثارا
قال الحفاظ في أطولها المشتمل على غرائب من أحواله: إنه باطل
كذب، وقال الحافظ السيوطي: والأقرب في خبر عوج أنه من بقية
عاد، وأنه كان له طول في الجملة مائة ذراع، أو شبه ذلك وأن
موسى عليه الصلاة والسلام، وهذا هو القدر الذي يحتمل قبوله
انتهى، ونعم ما قال، فإن بقاءه في الطوفان مع كفره الظاهر إذ
لم ينقل إيمانه، ودعوة نوح عليه السلام التي عمت الأرض مما لا
يكاد يقبله المنصف، وكذا بقاؤه بعد الطوفان مع قوله تعالى:
وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [الصافات: 77] مما لا
يسوغه العارف، وشبه الحوت بعين الشمس، مما لا يكاد يعقل- على
ما ذكره الحكماء- فقد ذكر الخلخالي أنهم ذهبوا إلى أن الشمس
ليست حارة وإلا لكان قلل الجبال أحر من الوهاد لقرب القلل إلى
الشمس- وبعد الوهاد عنها- بل الحرارة تحدث من وصول شعاع الشمس
إلى وجه الأرض وانعكاسه عنه ولذلك يرى الوهاد أحر لتراكم
الأشعة المنعكسة فيها فما وصل إليه الشعاع من وجه الأرض يصير
حارا وإلا فلا، وذكر نحو ذلك شارح حكمة العين، ولا يرد على هذا
أن بعض الناس روى أن كذا ملائكة ترمي الشمس بالثلج إذا طلعت،
ولولا ذلك لأحرقت أهل الأرض لأن ذلك مما لم يثبت عند الحفاظ،
وهو إلى الوضع أقرب منه إلى الصحة، ثم كان القائل بوجود عوج
هذا من الناس لا يقول بالطبقة الزمهريرية التي هي الطبقة
الثالثة من طبقات العناصر السبع، ولا بما فوقها وإلا فكيف يكون
الاحتجاز بالسحاب وهو كالرعد والبرق، والصاعقة إنما ينشأ من
تلك الطبقة الباردة التي لا يصل إليها أثر شعاع الشمس
بالانعكاس من وجه الأرض، وقد ذكروا أيضا أن فوقها طبقتين:
الأولى ما يمتزج مع النار وهي التي يتلاشى فيها الأدخنة
المرتفعة عن السفل، ويتكون فيها الكواكب ذوات الأذناب
والنيازك، والثانية ما يقرب من الخلوص إذ لا يصل إليه حرارة ما
فوقه ولا برودة ما تحته من الأرض والماء، وهي التي يحدث فيها
الشهب، فإذا احتجز هذا الرجل بالسحاب وصل رأسه على زعمهم إلى
إحدى تينك الطبقتين. فكيف يكون حاله مع ذلك البرد والحر؟! ولا
أظن بشرا- كيف كان- يقوى على ذلك، على أن أصل الاحتجاز مما لا
يمكن بناء على كلام الحكماء إذ قد علمت أن منشأ السحب الطبقة
الزمهريرية.
(3/259)
وفي كتاب نزهة القلوب- نقلا عن الحكيم أبي
نصر- أن غاية ارتفاعها اثني عشر فرسخا وستمائة ذراع، وعن
المتقدمين أنها ثمانية عشر فرسخا، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل
ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع انتهى.
واختلفوا أيضا في غاية انحطاطها، ولم يذكر أحد منهم أنها تنحط
إلى ما يتصور معه احتجاز الرجل الذي ذكروا من طوله ما ذكروا
بالسحاب. اللهم إلا أن يراد به سحاب لم يبلغ هذا الارتفاع ومع
هذا كله قد أخطؤوا في قولهم: ابن عنق، وإنما هو ابن عوق- كنوح-
كما نص على ذلك في القاموس، وهو أيضا اسم والده لا والدته كما
ذكر هناك أيضا فليحفظ.
وأخرج ابن حميد وابن جرير عن أبي العالية أنه قال في الآية:
أخذ الله تعالى ميثاق بني إسرائيل أن يخلصوا له ولا يعبدوا
غيره وبعث منهم اثني عشر كفيلا كفلوا عليهم بالوفاء لله تعالى
بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به ونهاهم عنه، واختاره
الجبائي،- والنقباء- حينئذ يجوز أن يكونوا رسلا، وأن يكونوا
قادة- كما قال البلخي- واختار أبو مسلم أنهم بعثوا أنبياء
ليقيموا الدين ويعلموا الأسباط التوراة ويأمروهم بما فرضه الله
تعالى عليهم، وأخرج الطيبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
أنهم كانوا وزراء وصاروا أنبياء بعد ذلك وَقالَ اللَّهُ أي-
للنقباء- عند الربيع، ورجحه السمين للقرب، وعند أكثر المفسرين-
لبني إسرائيل- ورجحه أبو حيان إذ هم المحتاجون إلى ما ذكر من
الترغيب والترهيب كما ينبئ عنه الالتفاف مع ما فيه من تربية
المهابة وتأكيد ما يتضمنه الكلام من الوعد إِنِّي مَعَكُمْ
أسمع كلامكم وأرى أعمالكم وأعلم ضمائركم فأجازيكم بذلك، وقيل:
مَعَكُمْ بالنصرة، وقيل: بالعلم، والتعميم أولى.
لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ
وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي أي بجميعهم، واللام موطئة للقسم
المحذوف، وتأخير الإيمان عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع
كونهما من الفروع المترتبة عليه لما أنهم- كما قال غير واحد-
كانوا معترفين بوجوبهما حسبما يراد منهم مع ارتكابهم تكذيب بعض
الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولمراعاة المقارنة بينه وبين قوله
تعالى: وَعَزَّرْتُمُوهُمْ، وقال بعضهم: إن جملة وَآمَنْتُمْ
بِرُسُلِي إلى آخره كناية إيمائية عن المجاهدة، ونصرة دين الله
تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام والإنفاق في سبيله كأنه قيل:
لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وجاهدتم في سبيل الله يدل عليه
قوله تعالى: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ
فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ [المائدة: 21] فإن المعنى لا ترتدوا
على أدباركم في دينكم لمخالفتكم أمر ربكم وعصيانكم نبيكم عليه
الصلاة والسلام، وإنما وقع الاهتمام بشأن هذه القرينة دون
الأولين، وأبرزت في معرض الكناية لأن القوم كانوا يتقاعدون عن
القتال ويقولون لموسى عليه السلام فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ
فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: 24] انتهى، ولا
يخلو عن نظر.
وقيل: إنما قدم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لأنها الظاهر من
أحوالهم الدالة على إيمانهم، والتعزير- أصل معناه المنع والذب،
وقيل: التقوية من العزر، وهو والأزر من واد واحد، ولا يخفى أن
في التقوية منعا لمن قويته عن غيره فهما متقاربان، ثم تجوز فيه
عن النصرة لما فيها من ذلك، وعن التأديب وهو في الشرع ما كان
دون الحدّ لأنه رادع ومانع عن ارتكاب القبيح، ولذا سمي في
الحديث نصرة،
فقد صح عنه صلّى الله عليه وسلّم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما،
فقال رجل: يا رسول الله انصره إذا كان مظلوما أفرأيت إن كان
ظالما كيف أنصره؟! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
تحجزه- أو تمنعه- عن الظلم فإن ذلك نصره» ،
وقال الراغب: التعزير النصرة مع التعظيم، وبالنصرة فقط- فسره
الحسن ومجاهد، وبالتعظيم فقط فسره ابن زيد وأبو عبيدة، وقرىء-
عزرتموهم- بالتخفيف وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ أي بالإنفاق في
سبيل الخير، وقيل: بالصدق بالصدقات وأيّا ما كان فهو استعارة
لأنه سبحانه لما وعد بجزائه والثواب عليه شبه بالقرض الذي
(3/260)
يقضي بمثله، وفي كلام العرب قديما الصالحات
قروض قَرْضاً حَسَناً وهو ما كان عن طيب نفس على ما قال
الأخفش، وقيل: ما لا يتبعه منّ ولا أذى، وقيل: ما كان من حلال.
وذكر غير واحد أن قرضا يحتمل المصدر والمفعول به
لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ دال على جواب الشرط
المحذوف وسادّ مسدّه معنى، وليس هو الجواب له خلافا لأبي
البقاء بل هو جواب للقسم، فقد تقرر أنه إذا اجتمع شرط وقسم
أجيب السابق منهما إلا أن يتقدمه ذو خبر، وجوز أن يكون هذا
جوابا لما تضمنه قوله تعالى: ولَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي
إِسْرائِيلَ [البقرة: 83، المائدة: 70] من القسم، وقيل: إن
جوابه لَئِنْ أَقَمْتُمُ فلا تكون اللام موطئة، أو تكون ذات
وجهين- وهو غريب- وجملة القسم المشروط وجوابه مفسرة لذلك
الميثاق المتقدم.
وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ عطف على ما قبله داخل معه في حكمه متأخر عنه في
الحصول ضرورة تقدم التخلية على التحلية فَمَنْ كَفَرَ أي برسلي
أو بشيء مما عدد في حيز الشرط، والفاء لترتيب بيان حكم من كفر
على بيان حكم من آمن تقوية للترغيب بالترهيب بَعْدَ ذلِكَ
الشرط المؤكد المعلق به الوعد العظيم أعني لَأُكَفِّرَنَّ،
وقيل: بعد الشرط المؤكد المعلق بالوعد العظيم أعني أني معكم
بناء على حمل المعية على المعية بالنصرة والإعانة، أو التوفيق
للخير فإن الشرط معلق به من حيث المعنى نحو أنا معتن بشأنك إن
خدمتني رفعت محلك، وقيل: المراد بعد ما شرطت هذا الشرط ووعدت
هذا الوعد وأنعمت هذا الإنعام، وقوله تعالى:
مِنْكُمْ متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل كَفَرَ، ولعل تغيير
السبك حيث لم يقل وإن كفرتم عطفا على الشرطية السابقة- كما قال
شيخ الإسلام- لإخراج كفر الكل عن حيز الاحتمال وإسقاط من كفر
عن رتبة الخطاب، ثم ليس المراد بالكفر إحداثه بعد الإيمان، بل
ما يعم الاستمرار عليه أيضا كأنه قيل: فمن اتصف بالكفر بعد ذلك
إلا أنه قصد بإيراد ما يدل على الحدوث بيان ترقيهم في مراتب
الكفر فإن الاتصاف بشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه، وإن كان
استمرارا عليه لكن بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث فَقَدْ
ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي وسط الطريق وحاقه ضلالا لا شبهة
فيه ولا عذر معه بخلاف من كفر قبل ذلك إذ ربما يمكن أن يكون له
شبهة ويتوهم عذر.
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ أي بسبب نقضهم ميثاقهم المؤكد
لا بشيء آخر استقلالا وانضماما، فالباء سببية، وما مزيدة
لتوكيد الكلام وتمكينه في النفس، أو بمعنى شيء كما قال أبو
البقاء، والجار متعلق بقوله تعالى:
لَعَنَّاهُمْ أي طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا عقوبة لهم- قاله
عطاء وجماعة- وعن الحسن ومقاتل أن المعنى مسخناهم قردة
وخنازير، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عذبناهم بضرب
الجزية عليهم، ولا يخفى أن ما قاله عطاء أقرب إلى المعنى
الحقيقي لأنه حقيقة اللعن في اللغة الطرد والإبعاد فاستعماله
في المعنيين الأخيرين مجاز باستعماله في لازم معناه، وهو
الحقارة بما ذكر لكنه لا قرينة في الكلام عليه، وتخصيص البيان
بما ذكر مع أن حقه أن يبين بعد بيان تحقق اللعن والنقض بأن
يقال مثلا: فنقضوا ميثاقهم فلعناهم ضرورة تقدم هلية الشيء
البسيطة على هليته المركبة- كما قال شيخ الإسلام- للإيذان بأن
تحققهما أمر جلي غني عن البيان، وإنما المحتاج إلى ذلك ما
بينهما من السببية والمسببية وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً
يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق ولا تلين- قاله ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما..
وقيل: المراد سلبناهم التوفيق واللطف الذي تنشرح به صدورهم
حتى- ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون- وهذا كما تقول لغيرك:
أفسدت سيفك إذا ترك تعاهده حتى صدىء، وجعلت أظافيرك سلاحك إذا
لم يقصها، وقال
(3/261)
الجبائي: المعنى بينا عن حال قلوبهم وما هي
عليه من القساوة وحكمنا بأنهم لا يؤمنون ولا تنفع فيهم موعظة،
ولا يخفى أنه خلاف الظاهر وما دعا إليه إلا الاعتزال، وقرأ
حمزة والكسائي قسية، وهي إما مبالغة قاسية لكونه على وزن فعيل،
أو بمعنى ردية من قولهم: درهم قسي إذا كان مغشوشا، وهو أيضا من
القسوة، فإن المغشوش فيه يبس وصلابة، وقيل: إن قسي غير عربي بل
معرب وقرىء- قسية- بكسر القاف للاتباع يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ
عَنْ مَواضِعِهِ استئناف لبيان مرتبة قساوة قلوبهم فإنه لا
مرتبة أعظم مما ينشأ عنه الاجتراء على تحريف كلام رب العالمين
والافتراء عليه عز وجل، والتعبير بالمضارع للحكاية واستحضار
الصورة، وللدلالة على التجدد والاستمرار، وجوز أن يكون حالا من
مفعول لَعَنَّاهُمْ، أو من المضاف إليه في قلوبهم وضعف بما
ضعف، وجعله حالا من القلوب، أو من ضميره في قاسِيَةً كما قيل،
لا يصح لعدم العائد منه إلى ذي الحال، وجعل القلوب بمعنى
أصحابها مما لا يلتفت إليه أصحابها وَنَسُوا حَظًّا أي وتركوا
نصيبا وافيا، واستعمال النسيان بهذا المعنى كثير مِمَّا
ذُكِّرُوا بِهِ من التوراة:
أو مما أمروا به فيها من اتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم
وقيل: حرفوا التوراة فسقطت بشؤم ذلك أشياء منها عن حفظهم،
وأخرج ابن المبارك وأحمد في الزهد عن ابن مسعود قال: إني لأحسب
الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها، وفي معنى ذلك قول
الشافعي رضي الله تعالى عنه:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ... ونور الله لا يهدى لعاصي
وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ أي خيانة كما
قرىء به على أنها مصدر على وزن فاعلة- كالكاذبة، واللاغية- أو
فعلة خائِنَةٍ أي ذات خيانة، وإلى ذلك يشير كلام ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما، أو فرقة خائِنَةٍ، أو نفس خائِنَةٍ، أو شخص
خائِنَةٍ على أنه وصف، والتاء للمبالغة لكنها في فاعل قليلة،
ومِنْهُمْ متعلق بمحذوف وقع صفة لها، خلا أن- من- على الوجهين،
الأولين ابتدائية أي على خيانة، أو فعلة ذات خيانة كائنة منهم
صادرة عنهم، وعلى الأوجه الأخر تبعيضية، والمعنى أن الغدر
والخيانة عادة مستمرة لهم ولأسلافهم كما يعلم من وصفهم
بالتحريف وما معه بحيث لا يكادون يتركونها أو يكتمونها فلا
تزال ترى ذلك منهم إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ استثناء من الضمير
المجرور في مِنْهُمْ والمراد بالقليل عبد الله بن سلام وأضرابه
الذين نصحوا لله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وجعله
بعضهم استثناء من خائِنَةٍ على الوجه الثاني، فالمراد بالقليل
الفعل القليل، ومن ابتدائية كما مر أي إلا فعلا قليلا كائنا
منهم، وقيل: الاستثناء من قوله تعالى: وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ
قاسِيَةً فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ أي إذا تابوا أو بذلوا
الجزية- كما روي عن الحسن وجعفر بن مبشر- واختاره الطبري،
فضمير عنهم راجع إلى ما رجع إليه نظائره، وعن أبي مسلم أنه
عائد على القليل المستثنى أي فاعف عنهم ما داموا على عهدك ولم
يخونوك، وعلى القولين فالآية محكمة، وقيل: الضمير عائد على ما
اختاره الطبري، وهي مطلقة إلا أنها نسخت بقوله تعالى: قاتِلُوا
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [التوبة: 29] الآية.
وروي ذلك عن قتادة، وعن الجبائي أنها منسوخة بقوله تعالى:
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ
عَلى سَواءٍ [الأنفال: 58] إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ تعليل للأمر وحث على الامتثال وتنبيه على أن
العفو على الإطلاق من باب الإحسان.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ أمر
بالتطهير لمن أراد الوقوف بين يدي الملك الكبير جل شأنه وعظم
سلطانه، وبدأ بالوجه- لأنه سبحانه وتعالى نقشه
(3/262)
بنقش خاتم صفاته، وفي الفتوحات لا خلاف في
أن غسل الوجه فرض وحكمه في الباطن المراقبة والحياء من الله
تعالى مطلقا، ثم اختلف الحكم في الظاهر في أن تحديد غسل الوجه
في الوضوء في ثلاثة مواضع: منها البياض الذي بين العذار
والأذن، والثاني ما سدل من اللحية، والثالث تخليل اللحية، فأما
البياض المذكور فمن قائل: إنه من الوجه، ومن قائل: إنه ليس من
الوجه، وأما ما انسدل من اللحية فمن قائل: بوجوب إمرار الماء
عليه، ومن قائل: بأنه لا يجب، وكذلك تخليل اللحية، فمن قائل:
بوجوبه، ومن قائل: بأنه لا يجب، وحكم ذلك في الباطن أما غسل
الوجه مطلقا من غير نظر إلى تحديد الأمر في ذلك فإن فيه ما هو
فرض، وفيه ما هو ليس بفرض، فأما الفرض فالحياء من الله تعالى
أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك، وأما السنة منه فالحياء
من الله تعالى أن تنظر إلى عورتك أو عورة امرأتك، وإن كان ذلك
قد أبيح لك، ولكن استعمال الحياء فيها أفضل وأولى فما يتعين
منه فهو فرض عليك، وما لا يتعين ففعلته فهو سنة واستحباب،
فيراقب الإنسان أفعاله ظاهرا وباطنا، ويراقب ربه في باطنه، فإن
وجه قلبه هو المعتبر، ووجه الإنسان على الحقيقة ذاته يقال: وجه
الشيء أي حقيقته وعينه وذاته، فالحياء خير كله،
و الحياء من الإيمان-
ولا يأتي إلا بخير، وأما البياض الذي بين العذار والأذن، وهو
الحد الفاصل بين الوجه والأذن فهو الحد بين ما كلف الإنسان من
العمل في وجهه والعمل في سماعه، فالعمل في ذلك إدخال الحد في
المحدود، فالأولى بالإنسان أن يصرف حياءه في سمعه كما صرفه في
بصره، فكما أن الحياء غض البصر كما قال تعالى: قُلْ
لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ [النور: 30] كذلك
يلزم الحياء من الله تعالى أن لا يسمع ما لا يحل له من غيبة
وسوء قول من متكلم بما لا ينبغي فإن ذلك البياض هو بين العذار
والأذن- وهو محل الشبهة- وهو أن يقول: أصغيت إليه لأرد عليه،
وهذا معنى العذار فإنه من العذر أي الإنسان يعتذر إذا قيل له:
لم أصغيت إلى هذا القول بأذنك؟ فيقول: إني أردت أن أحقق سماع
ما قال حتى أنهاه عنه، فكنى عنه بالعذار فمن رأى وجوب ذلك عليه
غسله، ومن لم ير وجوب ذلك إن شاء غسل وإن شاء ترك، وأما غسل ما
استرسل من اللحية وتخليلها فهي الأمور العوارض، فإن اللحية شيء
يعرض في الوجه وليست من أصله، فكل ما يعرض لك في وجه ذلك من
المسائل فأنت فيها بحكم ذلك العارض، فإن تعين عليك طهارة ذلك
العارض فهو قول من يقول بوجوب غسله، وإن لم يتعين عليك طهارته
فطرته استحبابا أو تركته لكونه ما تعين عليك فهو قول من لم يقل
بوجوب الطهارة فيه، وقد بين أن حكم الباطن يخالف الظاهر بأن
فيه وجها إلى الفريضة، ووجها إلى السنة والاستحباب، فالفرض من
ذلك لا بد من إتيانه، وغير الفرض عمله أولى من تركه، وذلك سار
في جميع العبادات انتهى.
وقال بعض العارفين: هذا خطاب للمؤمنين بالإيمان العلمي إذا
قاموا عن نوم الغفلة وقصدوا صلاة الحضور والمناجاة الحقيقية
والتوجه إلى الحق أن يطهروا وجوه قواهم بماء العلم النافع
الطاهر المطهر من علم الشرائع والأخلاق والمعاملات الذي يتعلق
بإزالة الموانع عن لوث صفات النفس، وأول هذا الأيدي في قوله
تعالى:
وَأَيْدِيَكُمْ بالقوى والقدر أي طهروا أيضا قواكم وقدركم عن
دنس تناول الشهوات والتصرفات في مواد الرجس إِلَى الْمَرافِقِ
أي قدر الحقوق والمنافع، وقال الشيخ الأكبر قدس سره: أجمع
الناس على غسل اليدين والذراعين، واختلفوا في إدخال المرافق في
هذا الغسل، فمن قائل: بوجوب إدخالهما، ومن قائل: بعدم الوجوب،
لكن لم ينازع بالاستحباب، وحكم الباطن في ذلك أن غسل اليدين
والذراعين إشارة إلى غسلهما بالكرم والجود والسخاء والهباة
والاعتصام والتوكل، فإن هذا وشبهه من نعوت اليدين والمعاصم
للمناسبة، بقي غسل المرافق وهي رؤية الأسباب التي يرتفق العبد
ويأنس بها لنفسه، فمن رأى إدخال المرافق في نفسه رأى أن
الأسباب إنما وضعها الله تعالى حكمة منه في
(3/263)
خلقه فلا يريد أن تعطل حكمة الله تعالى لا
على طريق الاعتماد عليها فإن ذلك يقدح في اعتماده على الله
تعالى، ومن رأى عدم إيجابها في الغسل رأى سكون النفس إلى
الأسباب، وأنه لا يخلص له مقام الاعتماد على الله تعالى مع
وجود رؤية الأسباب، وكل من يقول: بأنه لا يجب غسلها يقول:
يستحب كذلك رؤية الأسباب مستحبة عند الجميع وإن اختلفت أحكامهم
فيها، فإن الله تعالى ربط الحكمة في وجودها وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ قال بعض العارفين: أي بجهات أرواحكم عن قتام
كدورة القلب وغبار تغيره بالتوجه إلى العالم السفلي ومحبة
الدنيا بنور الهدى، فإن الروح لا يتكدر بالتعلق بل يحتجب نوره
عن القلب فيسود القلب ويظلم ويكفي في انتشار نوره صقل الوجه
العالي الذي يتوجه إليه، فإن القلب ذو وجهين: أحدهما إلى
الروح- والرأس- هنا إشارة إليه، والثاني إلى النفس وقواها،
وأحرى- بالرجل- أن تكون إشارة إليه.
وقال الشيخ الأكبر قدس الله سره بعد أن بين اختلاف العلماء في
القدر الذي يجب مسحه: وأما حكم مسح الرأس في الباطن فأصله من
الرياسة وهي العلو والارتفاع، ولما كان أعلا ما في البدن في
ظاهر العين وجميع البدن تحته سمي رأسا، فإن الرئيس فوق المرءوس
وله جهة فوق، وقد وصل الله تعالى نفسه بالفوقية على عباده بصفة
القهر، فقال سبحانه: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ
[الأنعام: 18، 61] فكان الرأس أقرب عضو في الجسد إلى الحق
تعالى لمناسبة الفوقية، ثم له الشرف الآخر في المعنى الذي به
رأس على البدن كله، وهو أنه محل جميع القوى كلها الحسية
والمعنوية، فلما كانت له هذه الرياسة من هذه الجهة سمي رأسا،
ثم إن العقل الذي جعله الله تعالى أشرف ما في الإنسان جعل محله
اليافوخ وهو أعلى موضع في الرأس فجعله سبحانه مما يلي جانب
الفوقية، ولما كان محلا لجميع القوى الظاهرة والباطنة ولكل قوة
حكم وسلطان وفخر يورثها ذلك عزة على غيرها، وكان محل هذه القوى
من الرأس مختلفة فعمت الرأس كله وجب مسح كله في هذه العبارة
لهذه الرياسة السارية فيه كله من جهة هذه القوى بالتواضع
والإقناع، فيكون لكل قوة مسح مخصوص من مناسبة دعواها، وهذا
ملحظ من يرى وجوب مسح جميع الرأس ومن رأى تفاوت القوى بالرياسة
فإن القوة المصورة مثلا لها سلطان على القوة الخيالية فهي
الرئيسة عليها، وإن كانت للقوة الخيالية رياسة قال: الواجب
عليه مسح بعض الرأس وهو المقسم بالأعلى، ثم اختلفوا في هذا
البعض، فكل عارف قال بحسب ما أعطاه الله تعالى من الإدراك في
مراتب هذه القوى فيمسح بحسب ما يرى، ومعنى المسح هو التذلل
وإزالة الكبرياء والشموخ بالتواضع والعبودية لأن المتوضئ بصدد
مناجاة ربه وطلب وصلته، والعزيز الرئيس إذا دخل على من ولاه
تلك العزة ينعزل عن عزته ورياسته بعز من دخل عليه فيقف بين
يديه وقوف العبيد في محل الإذلال لا بصفة الإذلال فمن غلب على
خاطره رئاسة بعض القوى على غيرها وجب عليه مسح ذلك البعض من
أجل الوصلة التي تطلب بهذه العبادة ولهذا لم يشرع مسح الرأس في
التيمم لأن وضع التراب على الرأس من علامات الفراق، فترى
الفاقد حبيبه بالموت يضع التراب على رأسه، وتفصيل رياسات القوى
معلوم عند أهل هذا الشأن، وأما التبعيض في اليد الممسوح بها،
واختلافهم في ذلك فاعمل فيه كما تعمل في الممسوح سواء، فإن
المزيل لهذه الرياسة أسباب مختلفة في القدرة على ذلك، ومحل ذلك
اليد، فمن مزيل بصفة القهر، ومن مزيل بسياسة وترغيب إلى آخر ما
قال: وَأَرْجُلَكُمْ أشير بها إلى القوى الطبيعية البدنية
المنهمكة في الشهوات والإفراط باللذات، وغسلها بماء علم
الأخلاق وعلم الرياضيات حتى ترجع إلى الصفاء الذي يستعد به
القلب للحضور والمناجاة.
وفي الفتوحات اختلفوا في صفة طهارتها بعد الاتفاق على أنها من
أعضاء الوضوء هل ذلك بالغسل أو بالمسح أو بالتخيير بينهما؟
ومذهبنا التخيير، والجمع أولى، وما من قول إلا وبه قائل،
والمسح بظاهر الكتاب، والغسل بالسنة،
(3/264)
ومحتمل الآية بالعدول عن الظاهر منها، وأما
حكم ذلك في الباطن فاعلم أن السعي إلى الجماعات وكثرة الخطا
إلى المساجد. والثبات يوم الزحف مما تظهر به الأقدام فلتكن
طهارة رجليك بما ذكرناه وأمثاله، ولا تتمثل بالنميمة بين الناس
ولا تمش مرحا واقصد في مشيك واغضض من صوتك، ومن هذا ما هو فرض
بمنزلة المرة الواحدة في غسل عضو الوضوء الرجل وغيره، ومنه ما
هو سنة وهو ما زاد على الفرض، وهو مشيك فيما ندبك الشرع إليه
وما أوجبه عليك، فالواجب عليك نقل الأقدام إلى مصلاك، والمندوب
والمستحب والسنة وما شئت فقل من ذلك نقل الأقدام إلى المساجد
من قرب وبعد، فإن ذلك ليس بواجب وإن كان الواجب من ذلك عند بعض
الناس مسجدا لا بعينه وجماعة لا بعينها فعلى هذا يكون غسل
رجليك في الباطن من طريق المعنى، واعلم أن الغسل يتضمن المسح
فمن غسل فقد أدرج المسح فيه كاندراج نور الكواكب في نور الشمس،
ومن مسح لم يغسل إلا في مذهب من يرى، وينقل عن العرب أن المسح
لغة في الغسل فيكون من الألفاظ المترادفة، والصحيح في المعنى
في حكم الباطن أن يستعمل المسح فيما يقتضي الخصوص من الأعمال،
والغسل فيما يقتضي العموم، ولهذا كان مذهبنا التخيير بحسب
الوقت، فإن الشخص قد يسعى لفضيلة خاصة في حاجة شخص بعينه فذلك
بمنزلة المسح، وقد يسعى لذلك في حاجة تعم الرعية فيدخل ذلك
الشخص في هذا العموم فذلك بمنزلة الغسل الذي اندرج فيه المسح
انتهى.
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا الجنابة غربة العبد عن
موطنه الذي يستحقه، وليس إلا العبودية. وتغريب صفة ربانية عن
موطنها وكل ذلك يوجب التطهير، وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضى إلخ قد تقدم نظيره.
وفي الفتوحات اختلف في حد الأيدي المذكورة في هذه الطهارة، فمن
قائل: حدها مثل حدها في الوضوء ومن قائل: هو الكف فقط- وبه
أقول- ومن قائل: إن الاستحباب إلى المرفقين والفرض الكفان، ومن
قائل: إن الفرض إلى المناكب، والاعتبار في ذلك أنه لما كان
التراب في الأرض أصل نشأة الإنسان وهو تحقيق عبوديته وذلته أمر
بطهارة نفسه من التكبر بالتراب، وهو حقيقة عبوديته ويكون ذلك
بنظره في أصل خلقه، ولما كان من جملة ما يدعيه الاقتدار
والعطاء مع أنه مجبول على العجز والبخل، وهذه الصفات من صفات
الأيدي قيل له عند هذه الدعوة ورؤية نفسه في الاقتدار الظاهر
منه، والكرم والعطاء: طهر نفسك من هذه الصفة بنظرك فيما جبلت
عليه من ضعفك ومن بخلك فقد قال تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ
[الروم: 54] وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ [الحشر: 9، التغابن:
16] وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [المعارج: 21] فإذا نظر
إلى هذا الأصل زكت نفسه وتطهرت من الدعوى، واختلفوا في عدد
الضربات على الصعيد للتيمم، فمن قائل: واحدة، ومن قائل:
اثنتان، والقائلون بذلك، منهم من قال: ضربة للوجه وضربة
لليدين، ومنهم من قال: ضربتان لليد وضربتان للوجه، ومذهبنا أنه
من ضرب واحدة أجزأه، ومن ضرب اثنتين أجزأه وحديث الضربة
الواحدة أثبت، والاعتبار في ذلك التوجه إلى ما يكون به هذه
الطهارة، فمن غلب التوحيد في الأفعال قال: بالضربة الواحدة،
ومن غلب حكم السبب الذي وضعه الله تعالى ونسب الفعل إلى الله
تعالى مع تعريته عنه مثل قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ
وَما تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] فأثبت ونفى قال: بالضربتين ومن
قال: إن ذلك في كل فعل قال: بالضربتين لكل عضو انتهى.
وقد أطال الشيخ قدس سره الكلام في أنواع الطهارة وأتى فيه
بالعجب العجاب. ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ
حَرَجٍ أي من ضيق ومشقة بكثرة المجاهدات وَلكِنْ يُرِيدُ
لِيُطَهِّرَكُمْ من الصفات الخبيثة، وعن سهل:
الطهارة على سبعة أوجه: طهارة العلم من الجهل وطهارة الذكر من
النسيان وطهارة اليقين من الشك وطهارة العقل من الحمق وطهارة
الظن من التهمة وطهارة الإيمان مما دونه وطهارة القلب من
الإرادات، وقال: إسباغ طهارة الظاهر
(3/265)
تورث طهارة الباطن، وإتمام الصلاة يورث
الفهم عن الله تعالى، والطهارة تكون في أشياء: في صفاء المطعم،
ومباينة الأنام وصدق اللسان وخشوع السر، وكل واحد من هذه
الأربع مقابل لما أمر الله تعالى بتطهيره وغسله من الأعضاء
الظاهرة.
وقال ابن عطاء: البواطن مواضع نظر الحق سبحانه
فقد روي عنه صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى لا ينظر إلى
صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم» ،
فموضع نظر الحق جل وعلا أحق بالطهارة، وذلك إنما يكون بإزالة
أنواع الخيانات والمخالفات وفنون الوساوس والغش والحقد والرياء
والسمعة وغير ذلك من المناهي، وليس شيء على العارفين أشد من
جمع الهم وطهارة السر، وفي إضافة التطهير إليه تعالى ما لا
يخفى من اللطف وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بالتكميل،
وقال بعض العارفين: إتمام النعمة لقوم نجاتهم بتقواهم، وعلى
آخرين نجاتهم عن تقواهم فشتان بين قوم وقوم ولَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ نعمة الكمال بالاستقامة والقيام بحق العدالة عند
البقاء بعد الفناء وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
بالهداية إلى طريق الوصول إليه، وَمِيثاقَهُ الَّذِي
واثَقَكُمْ بِهِ وهو عقود عزائمه المذكورة إِذْ قُلْتُمْ
سَمِعْنا وَأَطَعْنا أي إذا قبلتموها من معدن النبوة بصفاء
الفطرة، وقال بعضهم: المراد بنعمة الله تعالى هدايته سبحانه
السابقة في الأزل لأهل السعادة، وبالميثاق الميثاق الذي واثق
الله تعالى به عباده أن لا يشتغلوا بغيره عنه سبحانه، وقال أبو
عثمان: النعم كثيرة وأجلها المعرفة به سبحانه، والمواثيق كثيرة
وأجلها الإيمان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا
نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أي من قوى
نفوسكم المحجوبة وصفاتها أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ
أَيْدِيَهُمْ بالاستيلاء والقهر لتحصيل مآربها وملاذها فَكَفَّ
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ أي فمنعها عنكم بما أراكم من طريق
التطهير والتنزيه وَاتَّقُوا اللَّهَ واجعلوه سبحانه وقاية في
قهرها ومنعها وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
برؤية الأفعال كلها منه عز وجل وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ
نَقِيباً وهم في الأنفس الحواس الخمس الظاهرة، والخمس الباطنة
والقوة العاقلة النظرية والقوة العملية وذكر غير واحد من
ساداتنا الصوفية أن النقباء أحد أنواع: الأولياء: نفعنا الله
تعالى ببركاتهم ففي الفتوحات: ومنهم النقباء وهم اثنا عشر
نقيبا في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون على عدد بروج الفلك
الاثني عشر برجا، كل نقيب عالم بخاصية كل برج، وبما أودع الله
تعالى في مقامه من الأسرار والتأثيرات، وما يعطى للنزلاء فيه
من الكواكب السيارة والثوابت، فإن للثوابت حركات وقطعا في
البروج لا يشعر به في الحس لأنه لا يظهر ذلك إلا في آلاف من
السنين، وإعمار الرصد، تقصر عن مشاهدة ذلك واعلم أن الله تعالى
قد جعل بأيدي هؤلاء النقباء علوم الشرائع المنزلة، ولهم
استخراج خبايا النفوس وغوائلها ومعرفة مكرها وخداعها، وإبليس
مكشوف عندهم يعرفون منه ما لا يعرفه من نفسه وهم من العلم بحيث
إذا رأى أحدهم أثر وطأة شخص في الأرض علم أنها وطأة سعيد أو
شقي مثل العلماء بالآثار والقيافة، وبالديار المصرية منهم كثير
يخرجون الأثر في الصخور، وإذا رأوا شخصا يقولون:
هذا الشخص هو صاحب ذلك الأثر وليسوا بأولياء، فما ظنك بما
يعطيه الله تعالى لهؤلاء النقباء من علوم الآثار؟ انتهى.
وقد عد الشيخ قدس سره فيها أنواعا كثيرة، والسلفيون ينكرون
أكثر تلك الأسماء، ففي بعض فتاوى ابن تيمية، وأما الأسماء
الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي بمكة
والأوتاد الأربعة والأقطاب السبعة، والأبدال الأربعين،
والنجباء الثلاثمائة، فهي ليست موجودة في كتاب الله تعالى ولا
هي مأثورة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا بإسناد صحيح ولا
ضعيف محتمل إلا لفظ الأبدال،
فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي كرم الله تعالى
وجهه مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن
فيهم- يعني أهل الشام- الأبدال أربعين رجلا كلما مات رجل أبدل
الله تعالى مكانه رجلا»
ولا توجد أيضا في كلام السلف انتهى، وأنا أقول:
(3/266)
وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن
ترشد غزية أرشد
وقال الله تعالى: إِنِّي مَعَكُمْ بالتوفيق والإعانة لَئِنْ
أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وتحليتم بالعبادات البدنية وَآتَيْتُمُ
الزَّكاةَ وتخليتم عن الصفات الذميمة من البخل والشح فزهدتم
وآثرتم وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي جميعهم من العقل والإلهامات
والأفكار الصائبة والخواطر الصادقة من الروح والقلب وإمداد
الملكوت وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أي وعظتموهم بأن سلطتموهم على
شياطين الوهم وقويتموهم ومنعتموهم من الوساوس وإلقاء الوهميات
والخيالات والخواطر النفسانية وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً
حَسَناً بأن تبرأتم من الحول والقوة والعلم والقدرة، وأسندتم
كل ذلك إليه عز شأنه، بل ومن الأفعال والصفات جميعها، بل ومن
الذات بالمحو والفناء وإسلامها إلى باريها جل وعلا
لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ التي هي الحجب والموانع
لكم وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ مما عندي تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وهي أنهار علوم التوكل والرضاء والتسليم
والتوحيد، وتجليات الأفعال والصفات والذات فَمَنْ كَفَرَ
بَعْدَ ذلِكَ العهد وبعث النقباء منكم فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ
السَّبِيلِ وهلك مع الهالكين فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ
الذي وثقوه لَعَنَّاهُمْ وطردناهم عن الحضرة وَجَعَلْنا
قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً باستيلاء صفات النفس عليها وميلها إلى
الأمور الأرضية يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ حيث
حجبوا عن أنوار الملكوت والجبروت التي هي كلمات الله تعالى
واستبدلوا قوى أنفسهم بها واستعملوا وهمياتهم وخيالاتهم بدل
حقائقها وَنَسُوا حَظًّا نصيبا وافرا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ في
العهد اللاحق وهو ما أوتوه في العهد السابق من الكمالات
الكامنة في استعداداتهم الموجودة فيها بالقوة وَلا تَزالُ
تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ من نقض عهد ومنع أمانة
لاستيلاء شيطان النفس عليهم وقساوة قلوبهم إِلَّا قَلِيلًا
مِنْهُمْ وهو من جره استعداده إلى ما فيه صلاحه فَاعْفُ
عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ إلى
عباده باللطف والمعاملة الحسنة جعلنا الله تعالى وإياكم من
المحسنين.
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ
شروع في بيان قبائح النصارى وجناياتهم إثر بيان قبائح وجنايات
إخوانهم اليهود، وَمِنَ متعلقة- بأخذنا- وتقديم الجار
للاهتمام، ولأن ذكر إحدى الطائفتين مما يوقع في ذهن السامع أن
حال الأخرى ماذا؟ كأنه قيل: ومن الطائفة الأخرى أيضا أَخَذْنا
مِيثاقَهُمْ والضمير المجرور راجع إلى الموصول، أو عائد على
بني إسرائيل الذين عادت إليهم الضمائر السابقة، وهو نظير قولك:
أخذت من زيد ميثاق عمرو أي مثل ميثاقه.
وجوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع خبرا لمبتدأ محذوف أيضا،
وجملة أَخَذْنا صفة أي- ومن الذين قالوا إنا نصارى قوم أخذنا
منهم ميثاقهم- وقيل: المبتدأ المحذوف مِنَ الموصولة، أو
الموصوفة، ولا يخفى أن جواز حذف الموصول وإبقاء صلته لم يذهب
إليه سوى الكوفيين، وإنما قال سبحانه: قالُوا إِنَّا نَصارى
ولم يقل جل وعلا- ومن النصارى- كما هو الظاهر بدون إطناب
للإيماء كما قال بعضهم: إلى أنهم على دين النصرانية بزعمهم
وليسوا عليها في الحقيقة لعدم عملهم بموجبها ومخالفتهم لما في
الإنجيل من التبشير بنبينا صلّى الله عليه وسلّم، وقيل:
للإشارة إلى أنهم لقبوا بذلك أنفسهم على معنى أنهم أنصار الله
تعالى، وأفعالهم تقتضي نصرة الشيطان، فيكون العدول عن الظاهر
ليتصور تلك الحال في ذهن السامع ويتقرر أنهم ادعوا نصرة الله
تعالى وهم منها بمعزل، ونكتة تخصيص هذا الموضع بإسناد
النصرانية إلى دعواهم أنه لما كان المقصود في هذه الآية ذمهم
بنقض الميثاق المأخوذ عليهم في نصرة الله تعالى ناسب ذلك أن
يصدر الكلام بما يدل على أنهم لم ينصروا الله تعالى ولم يفوا
بما واثقوا عليه من النصرة وما كان حاصل أمرهم إلا التفوه
بالدعوى وقولها دون فعلها، ولا يخفى أن هذا مبني على أن وجه
تسميتهم
(3/267)
نصارى كونهم أنصار الله تعالى وهو وجه
مشهور، ولهذا يقال لهم أيضا: أنصار، وفي غير ما موضع أن عيسى
عليه السلام ولد في سنة أربع وثلاثمائة لغلبة الإسكندر في بيت
لحم من المقدس، ثم سارت به أمه عليها السلام إلى مصر، ولما بلغ
اثنتي عشرة سنة عادت به إلى الشام فأقام ببلدة تسمى الناصرة،
أو نصورية وبها سميت النصارى، ونسبوا إليها، وقيل: إنهم جمع
نصران كندامى وندمان- أو جمع نصرى- كمهرى ومهارى- والنصرانية
والنصرانة واحدة النصارى، والنصرانية أيضا دينهم، ويقال لهم:
نصارى وأنصار، وتنصر دخل في دينهم فَنَسُوا على إثر أخذ
الميثاق حَظًّا نصيبا وافرا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ في تضاعيف
الميثاق من الإيمان بالله تعالى وغير ذلك من الفرائض، وقيل:
هو ما كتب عليهم في الإنجيل من الإيمان بالنبي صلّى الله عليه
وسلّم فنبذوه وراء ظهورهم واتبعوا أهواءهم وتفرقوا إلى اثنتين
وسبعين فرقة فَأَغْرَيْنا أي ألزمنا وألصقنا، وأصله اللصوق
يقال: غريت بالرجل غرى إذا لصقت به قاله الأصمعي، وقال غيره:
غريت به غراء بالمد، وأغريت زيدا بكذا حتى غري به، ومنه الغراء
الذي يلصق به الأشياء، وقوله تعالى: بَيْنَهُمُ ظرف- لأغرينا-
أو متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعوله أي أغرينا الْعَداوَةَ
وَالْبَغْضاءَ كائنة بينهم.
قال أبو البقاء: ولا سبيل إلى جعله ظرفا لهما لأن المصدر لا
يعمل فيما قبله، وأنت تعلم أن منهم من أجاز ذلك إذا كان
المعمول ظرفا، وقوله تعالى: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إما غاية
للإغراء، أو للعداوة والبغضاء أي يتعادون ويتباغضون إلى يوم
القيامة حسبما تقتضيه أهواؤهم المختلفة وآراؤهم الزائغة
المؤدية إلى التفرق إلى الفرق الكثيرة، ومنها النسطورية:
واليعقوبية، والملكانية، وقد تقدم الكلام فيهم، فضمير
بَيْنَهُمُ إلى النصارى كما روي عن الربيع، واختاره الزجاج
والطبري، وعن الحسن وجماعة من المفسرين أنه عائد على اليهود
والنصارى وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا
يَصْنَعُونَ في الدنيا من نقض الميثاق ونسيان الحظ الوافر مما
ذكروا به، والكلام مساق للوعيد الشديد بالجزاء والعقاب
فالإنباء مجاز عن وقوع ذلك وانكشافه لهم، لا أن ثمت أخبارا
حقيقة، والنكتة في التعبير بالإنباء الإنباء بأنهم لا يعلمون
حقيقة ما يعملونه من الأعمال السيئة واستتباعها للعذاب، فيكون
ترتيب العذاب عليها في إفادة العلم بحقيقة حالها بمنزلة
الإخبار بها، والالتفات إلى ذكر الاسم الجليل لما مرّ مرارا،
والتعبير عن العمل بالصنع للإيذان برسوخهم فيه وَسَوْفَ لتأكيد
الوعيد يا أَهْلَ الْكِتابِ التفات إلى خطاب الفريقين من
اليهود والنصارى على أن الكتاب جنس صادق بالواحد والاثنين وما
فوقهما، والتعبير عنهم بعنوان أهلية الكتاب للتشنيع، فإن أهلية
الكتاب من موجبات مراعاته والعمل بمقتضاه وبيان ما فيه من
الأحكام، وقد فعلوا ما فعلوا وهم يعلمون قَدْ جاءَكُمْ
رَسُولُنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، والتعبير عنه بذلك مع
الإضافة إلى ضمير العظمة للتشريف والإيذان بوجوب اتباعه عليه
الصلاة والسلام يُبَيِّنُ لَكُمْ حال من رَسُولُنا وإيثار
الفعلية للدلالة على تجدد البيان أي حال كونه مبينا لكم على
سبيل التدريج حسبما تقتضيه المصلحة كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ
تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ أي التوراة والإنجيل، وذلك كنعت
النبي صلّى الله عليه وسلّم وآية الرجم وبشارة عيسى بأحمد
عليهما الصلاة والسلام،
وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنه قال: إن نبي الله تعالى صلّى الله
عليه وسلّم أتاه اليهود يسألونه عن الرجم فقال عليه الصلاة
والسلام: «أيكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صوريا فناشده بالذي أنزل
التوراة على موسى عليه السلام والذي رفع الطور وبالمواثيق التي
أخذت عليهم حتى أخذه أفكل (1) فقال: إنه لما كثر فينا جلدنا
مائة وحلقنا الرؤوس فحكم عليهم بالرجم فأنزل الله تعالى هذه
الآية»
وتأخير كَثِيراً عن الجار والمجرور لما مرّ غير مرة، والجمع
بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرارهم على الكتم
والإخفاء، ومِمَّا متعلق
__________
(1) أي رعدة اه منه.
(3/268)
بمحذوف وقع صفة- لكثيرا- وما موصولة اسمية
وما بعدها صلتها، والعائد محذوف، ومن الْكِتابِ حال من ذلك
المحذوف أي يبين لكم كثيرا من الذي تخفونه على الاستمرار حال
كونه من الكتاب الذي أنتم أهله والعاكفون عليه وَيَعْفُوا عَنْ
كَثِيرٍ أي ولا يظهر كثيرا مما تخفونه إذا لم تدع إليه داعية
دينية صيانة لكم عن زيادة الافتضاح، وقال الحسن: أي يصفح عن
كثير منكم ولا يؤاخذه إذا تاب واتبعه، وأخرج ابن حميد عن قتادة
مثله، واعترض أنه مخالف للظاهر لأن الظاهر أن يكون هذا الكثير
كالكثير السابق، وفيه نظر- كما قال الشهاب- لأن النكرة إذا
أعيدت نكرة فهي متغايرة، نعم اختار الأول الجبائي وجماعة من
المفسرين، والجملة معطوفة على الجملة الحالية داخلة في حكمها
قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ عظيم وهو نور الأنوار والنبي
المختار صلّى الله عليه وسلّم، وإلى هذا ذهب قتادة، واختاره
الزجاج، وقال أبو علي الجبائي: عنى بالنور القرآن لكشفه
وإظهاره طرق الهدى واليقين، واقتصر على ذلك الزمخشري، وعليه
فالعطف في قوله تعالى: وَكِتابٌ مُبِينٌ لتنزيل المغايرة
بالعنوان منزلة المغايرة بالذات، وأما على الأول فهو ظاهر،
وقال الطيبي: إنه أوفق لتكرير قوله سبحانه: قَدْ جاءَكُمْ بغير
عاطف فعلق به أولا وصف الرسول والثاني وصف الكتاب، وأحسن منه
ما سلكه الراغب حيث قال: بين في الآية الأولى والثانية النعم
الثلاث التي خص بها العباد النبوة والعقل، والكتاب، وذكر في
الآية الثالثة ثلاثة أحكام يرجع كل واحد إلى نعمة مما تقدم
فيهدي به إلى آخره ويرجع إلى قوله سبحانه: قَدْ جاءَكُمْ
رَسُولُنا ويخرجهم إلخ يرجع إلى قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ
مِنَ اللَّهِ نُورٌ ويهديهم يرجع إلى قوله عز شأنه: وَكِتابٌ
مُبِينٌ كقوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] انتهى.
وأنت تعلم أنه لا دليل لهذا الإرجاع سوى اعتبار الترتيب اللفظي
ولو أرجعت الأحكام الثلاثة إلى الأول لم يمتنع، ولا يبعد عندي
أن يراد بالنور والكتاب المبين النبي صلّى الله عليه وسلّم،
والعطف عليه كالعطف على ما قاله الجبائي، ولا شك في صحة إطلاق
كل عليه عليه الصلاة والسلام، ولعلك تتوقف في قبوله من باب
العبارة فليكن ذلك من باب الإشارة، والجار والمجرور متعلق
بجاء، ومِنَ لابتداء الغاية مجازا، أو متعلق بمحذوف وقع حالا
من نور، وتقديم ذلك على الفاعل للمسارعة إلى بيان كون المجيء
من جهته تعالى العالية والتشويق إلى الجائي، ولأن فيه نوع طول
يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم، والمبين من بان اللازم بمعنى
ظهر فمعناه الظاهر الإعجاز، ويجوز أن يكون من المتعدي فمعناه
المظهر للناس ما كان خافيا عليهم.
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ توحيد الضمير لاتحاد المرجع بالذات، أو
لكونهما في حكم الواحد، أو لكون المراد يهدي بما ذكر، وتقديم
المجرور للاهتمام نظرا إلى المقام وإظهار الاسم الجليل لإظهار
كمال الاعتناء بأمر الهداية، ومحل الجملة الرفع على أنها صفة
ثانية لكتاب، أو النصب على الحالية منه لتخصيصه بالصفة.
وجوز أبو البقاء أن تكون حالا من رَسُولُنا بدلا من يُبَيِّنُ
وأن تكون حالا من الضمير في يُبَيِّنُ، وأن تكون حالا من
الضمير في مُبِينٌ، وأن تكون صفة لنور مَنِ اتَّبَعَ
رِضْوانَهُ أي من علم الله تعالى أنه يريد اتباع رضا الله
تعالى بالإيمان به، ومَنِ موصولة أو موصوفة سُبُلَ السَّلامِ
أي طرق السلامة من كل مخافة- قاله الزجاج- فالسلام مصدر بمعنى
السلامة.
وعن الحسن والسدي أنه اسمه تعالى، ووضع المظهر موضع المضمر ردا
على اليهود والنصارى الواصفين له سبحانه بالنقائص تعالى عما
يقولون علوا كبيرا، والمراد حينئذ بسبله تعالى شرائعه سبحانه
التي شرعها لعباده عز وجل، ونصبها قيل: على أنها مفعول ثان
ليهدي على إسقاط حرف الجر نحو وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ
[الأعراف: 155] .
وقيل: إنها بدل من- رضوان- بدل كل من كل، أو بعض من كل، أو
اشتمال، والرضوان بكسر الراء وضمها
(3/269)
لغتان، وقد قرىء بهما، والسبل- بضم الباء
والتسكين لغة، وقد قرىء به وَيُخْرِجُهُمْ الضمير المنصوب عائد
إلى مَنِ والجمع باعتبار المعنى كما أن إفراد الضمير المرفوع
في اتَّبَعَ باعتبار اللفظ.
مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من فنون الكفر والضلال إلى
الإيمان بِإِذْنِهِ أي بإرادته أو بتوفيقه.
وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو دين الإسلام الموصل
إلى الله تعالى- كما قال الحسن- وفي إرشاد العقل السليم، وهذه
الهداية عين الهداية إلى سُبُلَ السَّلامِ وإنما عطفت عليها
تنزيلا للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي كما في قوله
تعالى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ
غَلِيظٍ [هود: 58] .
وقال الجبائي: المراد بالصراط المستقيم طريق الجنة لَقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ لا غير المسيح كما يقال: الكرم هو التقوى، وإن الله
تعالى هو الدهر أي الجالب للحوادث لا غير الجالب، فالقصر هنا
للمسند إليه على المسند بخلاف قولك: زيد هو المنطلق فإن معناه
لا غير زيد، والقائلون لذلك- على ما هو المشهور- هم اليعقوبية
المدعون بأن الله سبحانه قد يحل في بدن إنسان معين أو في روحه.
وقيل: لم يصرح بهذا القول أحد من النصارى، ولكن لما زعموا أن
فيه لاهوتا مع تصريحهم بالوحدة، وقولهم:
لا إله إلا واحد لزمهم أن الله سبحانه هو المسيح، فنسب إليهم
لازم قولهم توضيحا لجهلهم وتفضيحا لمعتقدهم، وقال الراغب: فإن
قيل: إن أحدا لم يقل الله تعالى هو المسيح وإن قالوا المسيح هو
الله تعالى وذلك أن عندهم أن المسيح من لاهوت وناسوت فيصح أن
يقال المسيح هو اللاهوت وهو ناسوت كما صح أن يقال: الإنسان هو
حيوان مع تركبه من العناصر، ولا يصح أن يقال: اللاهوت هو
المسيح كما لا يصح أن يقال: الحيوان هو الإنسان، قيل: إنهم
قالوا: هو المسيح على وجه آخر غير ما ذكرت، وهو ما روي عن محمد
بن كعب القرظي أنه لما رفع عيسى عليه الصلاة والسلام اجتمع
طائفة من علماء بني إسرائيل فقالوا: ما تقولون في عيسى عليه
الصلاة والسلام؟ فقال أحدهم: أو تعلمون أحدا يحيي الموتى إلا
الله تعالى؟ فقالوا: لا، فقال: أو تعلمون أحدا يبرىء الأكمه
والأبرص إلا الله تعالى؟
قالوا: لا، قالوا: فما الله تعالى إلا من هذا وصفه أي حقيقة
الإلهية فيه، وهذا كقولك: الكريم زيد أي حقيقة الكرم في زيد،
وعلى هذا قولهم: إن الله تعالى هو المسيح انتهى، وأنت تعلم أنه
مع دعوى أن القائلين بالاتحاد يقولون بانحصار المعبود في
المسيح كما هو ظاهر النظم لا يرد شيء قُلْ يا محمد تبكيتا لهم
وإظهارا لبطلان قولهم الفاسد وإلقاما لهم الحجر، وقد يقال:
الخطاب لكل من له أهلية ذلك، والفاء في قوله تعالى: فَمَنْ
يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً عاطفة على مقدر، أو جواب شرط
محذوف، ومِنَ استفهامية للإنكار والتوبيخ، والملك الضبط والحفظ
التام عن حزم، والمراد هنا- فمن يمنع، أو يستطيع- كما في قوله:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
ومِنَ اللَّهِ متعلق به على حذف مضاف أي ليس الأمر كذلك، أو إن
كان كما تزعمون فمن يمنع من قدرته تعالى وإرادته شيئا إِنْ
أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ومن حق من يكون إلها أن لا
يتعلق به، ولا بشأن من شؤونه، بل بشيء من الموجودات قدرة غيره
فضلا عن أن يعجز عن دفع شيء منها عند تعلقها بهلاكه، فلما كان
عجزه بينا لا ريب فيه ظهر كونه بمعزل عما تقولون فيه.
والمراد بالإهلاك الإماتة والإعدام مطلقا لا عن سخط وغضب،
وإظهار المسيح على الوجه الذي نسبوا إليه
(3/270)
الألوهية حيث ذكرت معه الصفة في مقام
الإضمار لزيادة التقرير والتنصيص على أنه من تلك الحيثية
بعينها داخل تحت قهره تعالى وملكوته سبحانه، وقيل: وصفه بذلك
للتنبيه على أنه حادث تعلقت به القدرة بلا شبهة لأنه تولد من
أم، وتخصيص الأم بالذكر مع اندراجها في عموم المعطوف لزيادة
تأكيد عجز المسيح، ولعل نظمها في سلك من فرض إهلاكهم مع تحقق
هلاكها قبل لتأكيد التبكيت وزيادة تقرير مضمون الكلام بجعل
حالها أنموذجا لحال بقية من فرض إهلاكه، وتعميم إرادة الإهلاك
مع حصول الغرض بقصرها على عيسى عليه الصلاة والسلام لتهويل
الخطب وإظهار كمال العجز ببيان أن الكل تحت قهره وملكوته تعالى
لا يقدر على دفع ما أريد به فضلا عما أريد بغيره، وللإيذان بأن
المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك كما أنه أسوة
لهم في العجز وعدم استحقاق الألوهية. قاله المولى أبو السعود،
وجَمِيعاً حال من المتعاطفات، وجوز أن يكون حالا من مِنَ فقط
لعمومها، وقوله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أي ما بين طرفي العالم الجسماني
فيتناول ما في السموات من الملائكة وغيرها، وما في أعماق الأرض
والبحار من المخلوقات، قيل: تنصيص على كون الكل تحت قهره تعالى
وملكوته إثر الإشارة إلى كون البعض كذلك أي له تعالى وحده ملك
جميع الموجودات والتصرف المطلق فيها إيجادا وإعداما، وإحياء
وإماتة لا لأحد سواه استقلالا ولا اشتراكا، فهو تحقيق لاختصاص
الألوهية به تعالى إثر بيان انتفائها عما سواه، وقيل: دليل آخر
على نفي ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام لأنه لو كان إلها كان
له ملك السموات والأرض وما بينهما، وقيل: دليل على نفي كونه
عليه الصلاة والسلام ابنا ببيان أنه مملوك لدخوله تحت العموم،
ومن المعلوم أن المملوكية تنافي البنوة، وقوله تعالى: يَخْلُقُ
ما يَشاءُ جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحكام الملك والألوهية
على وجه يزيح ما اعتراهم من الشبه في أمر المسيح عليه السلام
لولادته من غير أب وخلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص. وإحياء
الموتى، وما موصوفة محلها النصب على المصدرية أي يخلق أي خلق
يشاؤه، فتارة يخلق من غير أصل- كخلق السموات والأرض- مثلا،
وأخرى من أصل- كخلق بعض ما بينهما- وذلك متنوع أيضا، فطورا
ينشئ من أصل ليس من جنسه كخلق آدم، وكثير من الحيوانات- وتارة
من أصل يجانسه إما من ذكر وحده- كخلق حواء- أو من أنثى وحدها-
كخلق عيسى عليه الصلاة والسلام- أو منهما- كخلق سائر الناس،
ويخلق بلا توسط شيء من المخلوقات- ككثير من المخلوقات- وقد
يخلق بتوسط مخلوق آخر- كخلق الطير- على يد عيسى عليه السلام
معجزة له وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فينبغي أن ينسب
كل ذلك إليه تعالى لا من أجرى على يده قاله غير واحد.
وقيل: إن الجملة جيء بها هاهنا مبينة لما هو المراد من قوله
تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلخ بحسب
اقتضاء المقام، وما نصب على المصدرية أيضا، وقيل: يجوز أن تكون
موصولة ومحلها النصب على المفعولية أي يخلق الذي يشاء أن
يخلقه، والجملة مسوقة لبيان أن قدرته تعالى أوسع من عالم
الوجود، وعلى كل تقدير فقوله سبحانه: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مقرر لمضمون ما قبله وإظهار الاسم الجليل
لما مر من التعليل وتقوية استقلال الجملة وَقالَتِ الْيَهُودُ
وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ حكاية لما
صدر من الفريقين من الدعوى الباطلة لأنفسهم، وبيان لبطلانها
إثر ذكر ما صدر عن أحدهما من الدعوى الباطلة لغيره وبيان
بطلانها أي قال كل من الطائفتين هذا القول الباطل، ومرادهم-
بالأبناء المقربون- أي نحن مقربون عند الله تعالى قرب الأولاد
من والدهم، وبالأحباء- جمع حبيب بمعنى محب أو محبوب، ويجوز أن
يكون أرادوا من الأبناء الخاصة كما يقال:
أبناء الدنيا، وأبناء الآخرة، وأن يكون أرادوا أشياع من وصف
بالبنوة أي قالت اليهود نحن أشياع ابنه عزير، وقالت النصارى:
نحن أشياع ابنه المسيح عليهما السلام، وأطلق الأبناء على
الأشياع مجازا إما تغليبا أو تشبيها لهم بالأبناء
(3/271)
في قرب المنزلة، وهذا كما يقول أتباع
الملك: نحن الملوك، وكما أطلق على أشياع أبي خبيب عبد الله بن
الزبير الخبيبون في قوله:
قدني من نصر الخبيبين قدني على رواية من رواه بالجمع، فقد قال
ابن السكيت: يريد أبا خبيب ومن كان معه، فحيث جاز جمع خبيب
وأشياع أبيه فأولى أن يجوز جمع ابن الله عز اسمه وأشياع الابن
بزعم الفريقين، فاندفع ما قيل: إنهم لا يقولون ببنوة أنفسهم
ولم يحمل على التوزيع بمعنى أنفسنا الأحباء وأبناؤنا الأبناء
بجمع الابنين لمشاكلة الأحباء لأن خطاب بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ
يأباه ظاهرا ويدل على ادعائهم البنوة بأي معنى كان:
وقيل: الكلام على حذف المضاف أي نحن أبناء أنبياء الله تعالى
وهو خلاف الظاهر، وقائل ذلك من اليهود بعضهم ونسب إلى الجميع
لما مر غير مرة،
فقد أخرج ابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما قال: «أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نعمان
بن آصى وبحرى بن عمرو وشاش بن عدي فكلموه وكلمهم رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم ودعاهم إلى الله تعالى وحذرهم نقمته
فقالوا: ما تخوفنا يا محمد نحن والله أبناء الله وأحباؤه،
وقالت النصارى ذلك قبلهم فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.
وعن الحسن أن النصارى تأولوا ما في الإنجيل من قول المسيح: إني
ذاهب إلى أبي وأبيكم فقالوا ما قالوا.
وعندي أن إطلاق ابن الله تعالى على المطيع قد كان في الزمن
القديم،
ففي التوراة قال الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام: اذهب
إلى فرعون وقل له يقول لك الرب إسرائيل ابني بكري أرسله يعبدني
فإن أبيت أن ترسل ابني بكري قتلت ابنك بكرك، وفيها أيضا في قصة
الطوفان أنه لما نظر بنو الله تعالى إلى بنات الناس وهم حسان
جدا شغفوا بهن فنكحوا منهن ما أحبوا واختاروا فولدوا جبابرة
فأفسدوا فقال الله تعالى: لا تحل عنايتي على هؤلاء القوم،
وأريد بأبناء الله تعالى أولاد هابيل، وبأبناء الناس أبناء
قابيل، وكنّ حسانا جدا فصرفن قلوبهن عن عباده الله تعالى إلى
عبادة الأوثان، وفي المزامير أنت ابني سلني أعطك، وفيها أيضا
أنت ابني وحبيبي، وقال شعيا في نبوته عن الله تعالى:
تواصوا بي في أبنائي وبناتي يريد ذكور عباد الله تعالى
الصالحين وإناثهم، وقال يوحنا الإنجيلي في الفصل الثاني من
الرسالة الأولى- انظروا إلى محبة الأب لنا أن أعطانا أن ندعي
أبناء- وفي الفصل الثالث- أيها الأحباء الآن صرنا أبناء الله
تعالى فينبغي لنا أن ننزله في الإجلال على ما هو عليه فمن صح
له هذا الرجاء فليزك نفسه بترك لخطيئة والإثم، واعلموا أن من
لابس الخطيئة فإنه لم يعرفه- وقال المسيح: أحبوا أعدائكم،
وباركوا على لاعنيكم، وأحسنوا إلى من يبغضكم، وصلوا على من
طردكم، كيما تكونوا بني أبيكم المشرق شمسه على الأخيار
والأشرار، والممطر على الصديقين والظالمين، وقال يوحنا التلميذ
في قصص الحواريين: يا أحبائي إنا أبناء الله تعالى سمانا بذلك،
وقال بولس الرسول في رسالته إلى ملك الروم: إن الروح تشهد
لأرواحنا أننا أبناء الله تعالى وأحباؤه، إلى غير ذلك مما لا
يحصى كثرة، وقد جاء أيضا إطلاق الابن على العاصي ولكن بمعنى
الأثر ونحوه، ففي الرسالة الخامسة لبولس إياكم والسفه والسب
واللعب فإن الزاني والنجس كعابد الوثن لا نصيب له في ملكوت
الله تعالى واحذروا هذه الشرور فمن أجلها يأتي رجز الله على
الأبناء الذين لا يطيعونه، وإياكم أن تكونوا شركاء لهم فقد
كنتم قبل في ظلمة فاسعوا الآن سعي أبناء النور، ومقصود
الفريقين ب نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ هو المعنى
المتضمن مدحا، وحاصل دعواهم أن لهم فضلا ومزية عند الله تعالى
على سائر الخلق، فرد سبحانه عليهم ذلك، وقال لرسول الله صلّى
الله عليه وسلّم: قُلْ إلزاما لهم وتبكيتا فَلِمَ
يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي إن صح ما زعمتم فلأي شيء
يعذبكم يوم القيامة بالنار أياما بعدد أيام عبادتكم العجل،
(3/272)
وقد اعترفتم بذلك في غير ما موطن، وهذا
ينافي دعواكم القرب ومحبة الله تعالى لكم أو محبتكم له
المستلزمة لمحبته لكم كما قيل: ما جزاء من يحب إلا يحب، أو
فلأيّ شيء أذنبتم بدليل أنكم ستعذبون، وأبناء الله تعالى إنما
يطلق إن أطلق في مقام الافتخار على المطيعين كما نطقت به
كتبكم، أو إن صح ما زعمتم فلم عذبكم بالمسخ الذي لا يسعكم
إنكاره وعدّ بعضهم من العذاب البلايا والمحن كالقتل والأسر،
واعترض ذلك بأنه لا يصلح للإلزام فإن البلايا والمحن قد كثرت
في الصلحاء، وقد ورد «أشد الناس بلاء الأنبياء- عليهم السلام-
ثم الأمثل فالأمثل» ، وقال الشاعر:
ولكنهم أهل الحفائظ والعلا ... فهم لملمات الزمان خصوم
وقوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ عطف على مقدر ينسحب عليه
الكلام أي ليس الأمر كذلك بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ وإن شئت قدرت
مثل هذا في أول الكلام وجعلت الفاء عاطفة، وقوله سبحانه:
مِمَّنْ خَلَقَ متعلق بمحذوف وقع صفة بَشَرٌ أي بشر كائن من
جنس من خلقه الله تعالى من غير مزية لكم عليهم.
يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له من أولئك المخلوقين وهم
المؤمنون به تعالى وبرسله عليهم الصلاة والسلام وَيُعَذِّبُ
مَنْ يَشاءُ أن يعذبه وهم الذين كفروا به سبحانه وبرسله عليهم
السلام مثلكم، والذي دل على التخصيص قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ
لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48] إن قلنا بعمومه
كما هو المعروف المشهور، ومن الغريب ما في شرح مسلم للنووي أنه
يحتمل أن يكون مخصوصا بهذه الأمة وفيه نظر.
هذا وأورد بعض المحققين هنا إشكالا ذكر أنه قوي وهو أنه إذا
كان معنى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ تعالى أشياع بنيه فغاية
الأمر أن يكونوا على طريقة الابن تحقيقا للتبعية لكن من أين
يلزم أن يكونوا من جنس الأب كما صرح به الزمخشري في انتفاء فعل
القبائح، وانتفاء البشرية والمخلوقية ليحسن الرد عليهم بأنهم
بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ، نعم ما ذكروه في هذا المقام من استلزام
المحبة عدم العصيان والمعاقبة ربما يتمشى لأن من شأن المحب أن
لا يعصي الحبيب ولا يستحق منه المعاقبة ومن هنا قيل:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
وفيه مناقشة لأن هذا شأن المحبين والأحباء هم المحبون، وأجاب
عن إشكال إثبات البشرية بأنه ليس إثباتا لمطلق البشرية ليجب أن
يكون رد الدعوى بانتفائه بل هو إثبات أنهم بشر مثل سائر البشر،
ومن جنس سائر المخلوقين منهم العاصي والمطيع والمستحق للمغفرة
والعذاب لا كما ادعوا من أنهم الأشياع المخصوصون بمزيد قرب
واختصاص لا يوجد في سائر البشر ولذا وصف بشرا بقوله سبحانه
مِمَّنْ خَلَقَ حتى لا يبعد أن يكون يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ
أيضا في موقع الصفة على حذف العائد أي لمن يشاء منهم، وأما
إشكال الجنسية فقيل في جوابه: المراد أنكم لو كنتم أشياع بني
الله تعالى لكنتم على صفتهم في ترك القبائح وعدم استحقاق
العذاب لأن من شأن الأشياع والأتباع أن يكونوا على صفة
المتبوعين، والمتبوعون هنا هم الأبناء بالزعم، ومن شأن الأبناء
أن يكونوا على صفة الأب فمن شأن الأتباع أن يكونوا على صفة
الأب بالواسطة، وقيل: كلام من قال: يلزم أن يكونوا من جنس الأب
على حذف مضاف، أي لو كنتم أشياع بني الله تعالى لكنتم من جنس
أشياع الأب يعني أهل الله تعالى الذين لا يفعلون القبائح ولا
يستوجبون العقاب.
(3/273)
وفي الكشف إن قولهم: نَحْنُ أَبْناءُ
اللَّهِ تعالى فيه إثبات الابن، وأنهم من أشياعه مستوجبون محبة
الأب لذلك فينبغي أن يكون الرد مشتملا على هدم القولين فقيل:
من أسندتم إليه البنوة لا يصلح لها لإمكان القبيح عليه وصدوره
هفوة ومؤاخذته بالزلة ودعواكم المحبة كاذبة وإلا لما عذبتم،
وأيضا إذا بطل أن يكون له تعالى ابن بطل أن يكونوا أشياعه،
وكذلك المحبة المبنية على ذلك، ثم قال: وجاز أن يقال: إنه
لإبطال أن يكونوا أبناء حقيقة كما يفهم من ظاهر اللفظ أو مجازا
كما فسره الزمخشري اه.
وأنت تعلم أن كل ما ذكره ليس بشيء كما لا يخفى على من له أدنى
تأمل، وما ذكرناه كاف في الغرض.
نعم ذكر الشهاب عليه الرحمة توجيها لا بأس به، وهو أن اللائق
أن يكون مرادهم بكونهم أبناء الله تعالى أنه لما أرسل إليهم
الابن على زعمهم وأرسل لغيرهم رسل عباده دل ذلك على امتيازهم
عن سائر الخلق، وأن لهم مع الله تعالى مناسبة تامة وزلفى تقتضي
كرامة لا كرامة فوقها، كما أن الملك إذا أرسل لدعوة قوم أحد
جنده ولآخرين ابنه علموا أنه مريد لتقريبهم وأنهم آمنون من كل
سوء يطرق غيرهم، ووجه الرد أنكم لا فرق بينكم وبين غيركم عند
الله تعالى، فإنه لو كان كما زعمتم لما عذبكم وجعل المسخ فيكم،
وكذا على كونه بمعنى المقربين المراد قرب خاص فيطابقه الرد
ويتعانق الجوابان فافهمه انتهى، والجواب عن المناقشة التي
فعلها البعض يعلم ممّا أشرنا إليه سابقا فلا تغفل وَلِلَّهِ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما من تتمة الرد
أي كل ذلك له تعالى لا ينتمي إليه سبحانه شيء منه إلا
بالمملوكية والعبودية والمقهورية تحت ملكوته يتصرف فيه كيف
يشاء إيجادا وإعداما، إحياء وإماتة، وإثابة وتعذيبا فأنّى
لهؤلاء ادّعاء ما زعموا؟! وربما يقال: إن هذا مع ما تقدم ردّ
لكونهم أبناء الله تعالى بمعنى أشياع بنيه، فنفى أولا كونهم
أشياعا وثانيا وجود بنين له عز شأنه وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي
الرجوع في الآخرة لا إلى غيره استقلالا أو اشتراكا فيجازي كلّا
من المحسن والمسيء بما يستدعيه علمه من غير صارف يثنيه ولا
عاطف يلويه.
يا أَهْلَ الْكِتابِ تكرير للخطاب بطريق الالتفات ولطف في
الدعوة، وقيل: الخطاب هنا لليهود خاصة قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا
يُبَيِّنُ لَكُمْ على التدريج حسبما تقتضيه المصلحة- الشرائع
والأحكام النافعة معادا ومعاشا- المقرونة بالوعد والوعيد، وحذف
هذا المفعول اعتمادا على الظهور إذ من المعلوم أن ما يبينه
الرسول هو الشرائع والأحكام، ويجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم
أي يفعل البيان ويبذله لكم في كل ما تحتاجون فيه من أمور
الدين، وأما إبقاؤه متعديا مع تقدير المفعول كَثِيراً مِمَّا
كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ كما قيل، فقد قيل فيه: مع
كونه تكريرا من غير فائدة يرده قوله سبحانه: عَلى فَتْرَةٍ
مِنَ الرُّسُلِ فإن فتور الإرسال وانقطاع الوحي إنما يحوج إلى
بيان الشرائع والأحكام لا إلى بيان ما كتموه، وعَلى فَتْرَةٍ
متعلق- بجاءكم- على الظرفية كما في قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا
ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [البقرة:
102] أي «جاءكم» على حين فتور من الإرسال وانقطاع الوحي ومزيد
الاحتياج إلى البيان.
وجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من ضمير يُبَيِّنُ أو من
ضمير لَكُمْ أي يُبَيِّنُ لَكُمْ حال كونه على فترة، أو حال
كونكم على فترة. ومِنَ الرُّسُلِ صفة فَتْرَةٍ ومِنَ ابتدائية،
أي فترة كائنة من الرسل مبتدأة من جهتهم، والفترة فعلة من فتر
عن عمله يفتر فتورا إذا سكن، والأصل فيها الانقطاع عما كان
عليه من الجد في العمل، وهي عند جميع المفسرين انقطاع ما بين
الرسولين.
واختلفوا في مدتها بين نبينا صلّى الله عليه وسلّم وعيسى عليه
السلام، فقال قتادة: كان بينهما عليهما الصلاة والسلام خمسمائة
سنة وستون سنة، وقال الكلبي: خمسمائة وأربعون سنة، وقال ابن
جريج: خمسمائة سنة، وقال الضحاك:
أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة، وأخرج ابن عساكر عن سلمان رضي
الله تعالى عنه أنها ستمائة سنة، وقيل: كان بين
(3/274)
نبينا صلّى الله عليه وسلّم وأخيه عيسى
عليه السلام ثلاثة أنبياءهم المشار إليهم بقوله تعالى:
أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا
بِثالِثٍ [يس: 14] ، وقيل: بينهما عليهما الصلاة والسلام
أربعة: الثلاثة المشار إليهم، وواحد من العرب من بني عبس- وهو
خالد بن سنان عليه السلام- الذي
قال فيه صلّى الله عليه وسلّم: «ذلك نبي ضيعه قومه»
ولا يخفى أن الثلاثة الذين أشارت إليهم الآية رسل عيسى عليه
السلام ونسبة إرسالهم إليه تعالى بناء على أنه كان بأمره عزّ
وجلّ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك وأما خالد بن سنان
العبسي فقد تردد فيه الراغب في محاضراته، وبعضهم لم يثبته،
وبعضهم قال:
إنه كان قبل عيسى عليهما الصلاة والسلام لأنه
ورد في حديث: «لا نبي بيني وبين عيسى» صلّى الله عليه وسلّم،
لكن في التواريخ إثباته، وله قصة في كتب الآثار مفصلة، وذكر أن
بنته أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم وآمنت به، ونقش الشيخ
الأكبر قدس سره له فصا في كتابه فصوص الحكم، وصحح الشهاب أنه
عليه السلام من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنه قبل عيسى
عليهما الصلاة والسلام، وعلى هذا فالمراد ببنته الجائية إلى
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- إن صح الخبر- بنته بالواسطة
لا البنت الصلبية إذ بقاؤها إلى ذلك الوقت مع عدم ذكر أحد أنها
من المعمرين بعيد جدا، وكان بين موسى وعيسى عليهما الصلاة
والسلام ألف وسبعمائة سنة في المشهور، لكن لم يفتر فيها الوحي،
فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى بعث فيها ألف
بني من بني إسرائيل سوى من بعث من غيرهم أَنْ تَقُولُوا تعليل
لمجيء الرسول بالبيان أي كراهة أن تقولوا- كما قدره البصريون-
أو لئلا تقولوا- كما يقدر الكوفيون- معتذرين من تفريطكم في
أحكام الدين يوم القيامة ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ
وقد انطمست آثار الشريعة السابقة وانقطعت أخبارها، وزيادة مِنَ
في الفاعل للمبالغة في نفي المجيء، وتنكير بَشِيرٍ ونَذِيرٍ
على ما قال شيخ الإسلام: للتقليل وتعقيب- قد جاءكم- إلخ بهذا
يقتضي أن المقدر، أو المنوي فيما سبق هو الشرائع والأحكام لا
كيفما كانت بل مشفوعة بذكر الوعد والوعيد، والفاء في قوله
تعالى: فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ تفصح عن محذوف ما
بعدها علة له، والتقدير هنا لا تعتذروا فَقَدْ جاءَكُمْ وتسمى
الفاء الفصيحة، وتختلف عبارة المقدر قبلها، فتارة يكون أمرا أو
نهيا، وتارة يكون شرطا كما في قوله تعالى: فَهذا يَوْمُ
الْبَعْثِ [الروم: 56] ، وقول الشاعر:
فقد جئنا خراسانا
. وتارة معطوفا عليه كما في قوله تعالى: فَانْفَجَرَتْ
[البقرة: 60] وقد يصار إلى تقدير القول- كما في الفرقان- في
قوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ، وإن شئت قدرت هنا أيضا،
فقلنا: لا تعتذروا فقد إلخ، وقد صرح بعض علماء العربية أن
حقيقة هذه الفاء أنها تتعلق بشرط محذوف، ولا ينافي ذلك إضمار
القول لأنه إذا ظهر المحذوف لم يكن بدّ من إضمار ليرتبط
بالسابق فيقال: في البيت مثلا، وقلنا، أو فقلنا: إن صح ما
ذكرتم فقد جئنا خراسانا، وكذلك ما نحن فيه فقلنا: لا تعتذروا
فقد جاءكم، ثم إنه في المعنى جواب شرط مقدر سواء صرح بتقديره
أم لا لأن الكلام إذا اشتمل على مترتبين أحدهما على الآخر ترتب
العلية كان في معنى الشرط والجزاء، فلا تنافي بين التقادير
والتقارير المختلفة، ولو سلّم التنافي فهما وجهان ذكروا أحدهما
في موضع والآخر في آخر- كما حققه في الكشف- وقد مرت الإشارة من
بعيد إلى أمر هذه الفاء فتذكر، وتنوين بَشِيرٍ ونَذِيرٍ
للتفخيم وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على إرسال
الرسل تترى، وعلى الإرسال بعد الفترة.
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ جملة مستانفة مسوقة لبيان ما
فعلت بنو إسرائيل بعد أخذ الميثاق منهم، وتفصيل كيفية نقضهم له
مع الإشارة إلى انتفاء فترة الرسل عليهم الصلاة والسلام فيما
بينهم وإِذْ نصب على أنه مفعول لفعل محذوف خوطب به سيد
المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن
أهل الكتاب ليعدد عليهم ما سلف من بعضهم من الجنايات، أي واذكر
لهم يا محمد وقت قول موسى عليه السلام ناصحا ومستميلا لهم
بإضافتهم إليه
(3/275)
يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت أبلغ من توجيهه إلى
ما وقع فيه، وإن كان هو المقصود بالذات كما مرت الإشارة إليه،
وعَلَيْكُمْ متعلق إما بالنعمة إن جعلت مصدرا، وإما بمحذوف وقع
حالا منها إذا جعلت اسما أي اذكروا إنعامه عليكم بالشكر،
واذكروا نعمته كائنة عليكم، وكذا إِذْ في قوله تعالى: إِذْ
جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ متعلقة بما تعلق به الجار والمجرور
أي اذكروا إنعامه عليكم في وقت جعله، أو اذكروا نعمته تعالى
كائنة عليكم في وقت جعله فيما بينكم من أقربائكم أنبياء، وصيغة
الكثرة على حقيقتها كما هو الظاهر، والمراد بهم موسى وهارون
ويوسف وسائر أولاد يعقوب على القول بأنهم كانوا أنبياء، أو
الأولون، والسبعون الذين اختارهم موسى لميقات ربه، فقد قال ابن
السائب ومقاتل: إنهم كانوا أنبياء.
وقال الماوردي وغيره: المراد بهم الأنبياء الذين أرسلوا من بعد
في بني إسرائيل، والفعل الماضي مصروف عن حقيقته، وقيل: المراد
بهم من تقدم ومن تأخر ولم يبعث من أمة من الأمم ما بعث من بني
إسرائيل من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وَجَعَلَكُمْ
مُلُوكاً عطف على جَعَلَ فِيكُمْ وغير الأسلوب فيه لأنه لكثرة
الملوك فيهم أو منهم صاروا كلهم كأنهم ملوك لسلوكهم مسلكهم في
السعة والترفه، فلذا تجوز في إسناد الملك إلى الجميع بخلاف
النبوة فإنها وإن كثرت لا يسلك أحد مسلك الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام لأنها أمر إلهي يخص الله تعالى به من يشاء، فلذا لم
يتجوز في إسنادها، وقيل: لا مجاز في الإسناد، وإنما هو في لفظ
الملوك فإن القوم كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله
تعالى، فسمي ذلك الإنقاذ ملكا، وقيل: لا مجاز أصلا بل جعلوا
كلهم ملوكا على الحقيقة، والملك من كان له بيت وخادم كما جاء
عن زيد بن أسلم مرفوعا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم: كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم
ودابة وامرأة كتب ملكا.
وأخرج ابن جرير عن الحسن هل الملك إلا مركب وخادم ودار، وأخرج
البخاري عن عبد الله بن عمرو أنه سأله رجل فقال: ألسنا من
فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله: ألك زوجة تأوي إليها؟ قال:
نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال:
نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: فإن لي خادما، قال: فأنت من
الملوك، وقيل: الملك من له مسكن واسع فيه ماء جار، وقيل: من له
مال لا يحتاج معه إلى تكلف الأعمال وتحمل المشاق، وإليه ذهب
أبو علي الجبائي، وأنت تعلم أن الظاهر هنا القول بالمجاز وما
ذكر في معرض الاستدلال محتمل له أيضا وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ
أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من فلق البحر وإغراق العدو وتظليل
الغمام وانفجار الحجر وإنزال المنّ والسلوى وغير ذلك مما آتاهم
الله تعالى من الأمور المخصوصة، والخطاب لقوم موسى عليه السلام
كما هو الظاهر، وأل في الْعالَمِينَ للعهد، والمراد عالمي
زمانهم، أو للاستغراق، والتفضيل من وجه لا يستلزم التفضيل من
جميع الوجوه، فإنه قد يكون للمفضول ما ليس للفاضل، وعلى
التقديرين لا يلزم تفضيلهم على هذه الأمة المحمدية على نبيها
أفضل الصلاة وأكمل التحية، وإيتاء ما لم يؤت أحد وإن لم يلزم
منه التفضيل لكن المتبادر من استعماله ذلك، ولذا أول بما أول،
وعن سعيد بن جبير وأبي مالك أن الخطاب هنا لهذه الأمة وهو خلاف
الظاهر جدا ولا يكاد يرتكب مثله في الكتاب المجيد لأن الخطابات
السابقة واللاحقة لبني إسرائيل فوجود خطاب في الأثناء لغيرهم
مما يخل بالنظم الكريم، وكأن الداعي للقول به ظن لزوم التفضيل
مع عدم دافع له سوى ذلك، وقد علمت أنه من بعض الظن يا قَوْمِ
ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ كرر النداء مع الإضافة
التشريفية اهتماما بشأن الأمر، ومبالغة في حثهم على الامتثال
به.
والْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ هي- كما روي عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما والسدي وابن زيد- بيت المقدس، وقال
(3/276)
الزجاج: دمشق وفلسطين والأردن (1) ، وقال
مجاهد هي أرض الطور وما حوله، وعن معاذ بن جبل هي ما بين
الفرات وعريش مصر، والتقديس التطهير، ووصفت تلك الأرض بذلك إما
لأنها مطهرة من الشرك حيث جعلت مسكن الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام، أو لأنها مطهرة من الآفات، وغلبة الجبارين عليها لا
يخرجها عن أن تكون مقدسة، أو لأنها طهرت من القحط والجوع،
وقيل: سميت مقدسة لأن فيها المكان الذي يتقدس فيه من الذنوب.
الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي قدرها وقسمها لكم، أو كتب في
اللوح المحفوظ أنها تكون مسكنا لكم.
روي أن الله تعالى أمر الخليل عليه الصلاة والسلام أن يصعد جبل
لبنان فما انتهى بصره إليه فهو له ولأولاده فكانت تلك الأرض
مدى بصره، وعن قتادة والسدي أن المعنى التي أمركم الله تعالى
بدخولها وفرضه عليكم، فالكتب هنا مثله في قوله تعالى: كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [البقرة: 183] وذهب إلى الاحتمالين
الأولين كثير من المفسرين، والكتب على أولهما مجاز، وعلى
ثانيهما حقيقة، وقيدوه بإن آمنتم وأطعتم لقوله تعالى لهم بعد
ما عصوا: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة: 26]
وقوله سبحانه: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ
فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ فإن ترتيب الخيبة والخسران على
الارتداد يدل على اشتراط الكتب بالمجاهدة المترتبة على الإيمان
قطعا، والأدبار جمع دبر وهو ما خلفهم من الأماكن من مصر
وغيرها، والجار والمجرور حال من فاعل تَرْتَدُّوا أي لا ترجعوا
عن مقصدكم منقلبين خوفا من الجبابرة، وجوز أن يتعلق بنفس
الفعل، ويحتمل أن يراد بالارتداد صرف قلوبهم عما كانوا عليه من
الاعتقاد صرفا غير محسوس أي لا ترجعوا عن دينكم بالعصيان وعدم
الوثوق بالله تعالى، وإليه ذهب أبو علي الجبائي، وقوله تعالى:
فَتَنْقَلِبُوا إما مجزوم بالعطف وهو الأظهر، وإما منصوب في
جواب النهي، قال الشهاب: على أنه من قبيل لا تكفر تدخل النار،
وهو ممتنع خلافا للكسائي، وفيه نظر لا يخفى، والمراد بالخسران
خسران الدارين قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً
جَبَّارِينَ شديدي البطش متغلبين لا تتأتى مقاومتهم ولا تجز
لهم ناصية، والجبار صيغة مبالغة من جبر الثلاثي على القياس لا
من أجبره على خلافه- كالحساس- من الإحساس وهو الذي يقهر الناس
ويكرههم كائنا من كان على ما يريده كائنا ما كان، ومعناه في
البخل ما فات اليد طولا، وكان هؤلاء القوم من العمالقة بقايا
قوم عاد وكانت لهم أجسام ليست لغيرهم، أخرج ابن عبد الحكم في
فتوح مصر عن ابن حجيرة قال: استظل سبعون رجلا من قوم موسى عليه
السلام في قحف رجل من العمالقة، وأخرج البيهقي في شعب الإيمان
عن زيد بن أسلم قال: بلغني أنه رئيت ضبع وأولادها رابضة في
فجاج عين رجل منهم إلى غير ذلك من الأخبار، وهي عندي كأخبار
عوج بن عنق وهي حديث خرافة وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى
يَخْرُجُوا مِنْها بقتال غيرنا، أو بسبب يخرجهم الله تعالى به
فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها، وهذا امتناع عن القتال على
أتم وجه فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها بسبب من الأسباب التي لا
تعلق لنا بها فَإِنَّا داخِلُونَ فيها حينئذ، وأتوا بهذه
الشرطية- مع كون مضمونها مفهوما مما تقدم- تصريحا بالمقصود
وتنصيصا على أن امتناعهم من دخولها ليس إلا لمكانهم فيها،
وأتوا في الجزاء بالجملة الاسمية المصدرة- بإن- دلالة على تقرر
الدخول وثباته عند تحقق الشرط لا محالة وإظهارا لكمال الرغبة
فيه وفي الامتثال بالأمر قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ
يَخافُونَ أي يخافون الله تعالى، وبه قرىء، والمراد رجلان من
المتقين وهما- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
ومجاهد والسدي والربيع- يوشع بن نون وكالب بن يوقنا، وفي وصفهم
بذلك تعريض بأن من عداهما من القوم لا يخافونه تعالى بل يخافون
العدو، وقيل: المراد بالرجلين ما ذكر، ومِنَ الَّذِينَ
يَخافُونَ بنو إسرائيل
__________
(1) بضم الهمزة وسكون الراء المهملة وضم الدال كذلك وتشديد
النون وهي كورة بالشام اه منه.
(3/277)
والمراد يخافون العدو، ومعنى كون الرجلين
منهم أنهما منهم في النسب لا في الخوف، وقيل: في الخوف أيضا،
والمراد أنهما لم يمنعهما الخوف عن قول الحق، وأخرج ابن المنذر
عن ابن جبير أن الرجلين كانا من الجبابرة أسلما وصارا إلى موسى
عليه السلام، فعلى هذا يكون الَّذِينَ عبارة عن الجبابرة،
والواو ضمير بني إسرائيل، وعائد الموصول محذوف أي يخافونهم،
وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير
«يخافون» بضم الياء، وجعلها الزمخشري شاهدة على أن الرجلين من
الجبارين كأنه قيل: من المخوّفين أي يخافهم بنو إسرائيل، وفيها
احتمالان آخران: الأول أن يكون من الإخافة، ومعناه من الذين
يخوّفون من الله تعالى بالتذكير والموعظة أو يخوّفهم وعيد الله
تعالى بالعقاب، والثاني أن معنى يَخافُونَ يهابون ويوقرون،
ويرجع إليهم لفضلهم وخيرهم: ومع هذين الاحتمالين لا ترجيح في
هذه القراءة لكونهما من الجبارين، وترجيح ذلك بقوله تعالى:
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالإيمان والتثبيت غير ظاهر أيضا
لأنه صفة مشتركة بين يوشع وكالب وغيرهما، وكونه إنما يليق أن
يقال لمن أسلم من الكفار لا لمن هو مؤمن في حيز المنع، والجملة
صفة ثانية- لرجلين- أو اعتراض، وقيل: حال بتقدير قد من ضمير
يَخافُونَ أو من رَجُلانِ لتخصيصه بالصفة، أو من الضمير
المستتر في الجار والمجرور أي قالا مخاطبين لهم ومشجعين
ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ أي باب مدينتهم وتقديم
عَلَيْهِمُ عليه للاهتمام به لأن المقصود إنما هو دخول الباب
وهم في بلدهم أي فاجئوهم وضاغطوهم في المضيق ولا تمهلوهم
ليحصروا ويجدوا للحرب مجالا فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ عليهم الباب
فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ من غير حاجة القتال فإنا قد رأيناهم
وشاهدناهم أن قلوبهم ضعيفة وإن كانت أجسامهم عظيمة فلا تخشوهم
واهجموا عليهم في المضائق فإنهم لا يقدرون على الكر والفر،
وقيل: إنما حكما بالغلبة لما علماها من جهة موسى عليه السلام،
وقوله: الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، وقيل: من جهة غلبة
الظن، وما تبينا من عادة الله تعالى في نصرة رسله، وما عهدا من
صنع الله تعالى لموسى عليه السلام في قهر أعدائه، قيل: والأول
أنسب بتعليق الغلبة بالدخول وَعَلَى اللَّهِ تعالى خاصة
فَتَوَكَّلُوا بعد ترتيب الأسباب ولا تعتمدوا عليها فإنها لا
تؤثر من دون إذنه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالله تعالى،
والمراد بهذا الإلهاب والتهييج وإلا فإيمانهم محقق، وقد يراد
بالإيمان التصديق بالله تعالى وما يتبعه من التصديق بما وعده
أي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ به تعالى مصدقين لوعده فإن ذلك
مما يوجب التوكل عليه حتما قالُوا غير مبالين بهما وبمقالتهما
مخاطبين لموسى عليه السلام إظهارا لإصرارهم على القول الأول
وتصريحا بمخالفتهم له عليه السلام يا مُوسى إِنَّا لَنْ
نَدْخُلَها أي أرض الجبابرة فضلا عن الدخول عليهم وهم في بلدهم
أَبَداً أي دهرا طويلا، أو فيما يستقبل من الزمان كله ما
دامُوا فِيها أي في تلك الأرض، وهو بدل من أَبَداً بدل البعض
وقيل: بدل الكل من الكل، أو عطف بيان لوقوعه بين النكرتين
ومثله في الإبدال قوله:
وأكرم أخاك الدهر ما دمتما معا ... كفى بالممات فرقة وتنائيا
فإن قوله: «ما دمتما» بدل من الدهر فَاذْهَبْ أي إذا كان الأمر
كذلك فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا أي فقاتلاهم
وأخرجاهم حتى ندخل الأرض وقالوا ذلك استهانة واستهزاء به
سبحانه وبرسوله عليه الصلاة والسلام وعدم مبالاة، وقصدوا
ذهابهما حقيقة كما ينبئ عنه غاية جهلهم وقسوة قلوبهم،
والمقابلة بقوله تعالى إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ، وقيل: أرادوا
إرادتهما وقصدهما كما تقول: كلمته فذهب يجيبني كأنهم قالوا:
فأريدا قتالهم واقصداهم، وقال البلخي: المراد فَاذْهَبْ أَنْتَ
وَرَبُّكَ يعينك، فالواو للحال، وأَنْتَ مبتدأ حذف خبره وهو
خلاف الظاهر، ولا يساعده فَقاتِلا ولم يذكروا أخاه هارون
عليهما السلام ولا الرجلين اللذين قالا كأنهم لم يجزموا
بذهابهم أولم يعبؤوا بقتالهم، وأرادوا بالقعود عدم التقدم لا
عدم التأخر أيضا قالَ موسى عليه السلام لما رأى منهم ما رأى من
(3/278)
العناد على طريق البث والحزن والشكوى إلى
الله تعالى مع رقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل
النصرة، فليس القصد إلى الإخبار وكذا كل خبر يخاطب به علام
الغيوب يقصد به معنى سوى إفادة الحكم أو لازمه، فليس قوله ردا
لما أمر الله تعالى به ولا اعتذارا عن عدم الدخول رَبِّ إِنِّي
لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي هارون عليه السلام وهو عطف
على نَفْسِي أي لا يجيبني إلى طاعتك ويوافقني على تنفيذ أمرك
سوى نَفْسِي وَأَخِي ولم يذكر الرجلين اللذين أنعم الله تعالى
عليهما وإن كانا يوافقانه إذا دعا لما رأى من تلون القوم وتقلب
آرائهم فكأنه لم يثق بهما ولم يعتمد عليهما.
وقيل: ليس القصد إلى القصر بل إلى بيان قلة من يوافقه تشبيها
لحاله بحال من لا يملك إلا نفسه وأخاه، وجوز أن يراد- بأخي- من
يؤاخيني في الدين فيدخلان فيه ولا يتم إلا بالتأويل بكل مؤاخ
له في الدين، أو بجنس الأخ وفيه بعد، ويجوز في أَخِي وجوها أخر
من الإعراب: الأول أنه منصوب بالعطف على اسم- إن- الثاني أنه
مرفوع بالعطف على فاعل أَمْلِكُ للفصل، الثالث أنه مبتدأ خبره
محذوف، الرابع أنه معطوف على محل اسم- إن- البعيد لأنه بعد
استكمال الخبر، والجمهور على جوازه حينئذ، الخامس أنه مجرور
بالعطف على الضمير المجرور على رأي الكوفيين، ثم لا يلزم على
بعض الوجوه الاتحاد في المفعول بل يقدر للمعطوف مفعول آخر أي
وأخي إلا نفسه، فلا يرد ما قيل: إنه يلزم من عطفه على اسم- إن-
أو فاعل أَمْلِكُ أن موسى وهارون عليهما السلام لا يملكان إلا
نفس موسى عليه السلام فقط، وليس المعنى على ذلك كما لا يخفى،
وليس من عطف الجمل بتقدير ولا يملك أخي إلا نفسه كما توهم،
وتحقيقه أن العطف على معمول الفعل لا يقتضي إلا المشاركة في
مدلول ذلك ومفهومه الكلي لا الشخص المعين بمتعلقاته المخصوصة
فإن ذلك إلى القرائن فَافْرُقْ بَيْنَنا يريد نفسه وأخاه
عليهما الصلاة والسلام، والفاء لترتيب الفرق والدعاء به على ما
قبله، وقرىء «فافرق» بكسر الراء وَبَيْنَ الْقَوْمِ
الْفاسِقِينَ أي الخارجين عن طاعتك بأن تحكم لنا بما نستحقه،
وعليهم بما يستحقونه كما هو المروي عن ابن عباس والضحاك رضي
الله تعالى عنهم، وقال الجبائي: سأل عليه السلام ربه أن يفرق
بالتبعيد في الآخرة بأن يجعله وأخاه في الجنة ويجعلهم في
النار، وإلى الأول ذهب أكثر المفسرين، ويرجحه تعقيب الدعاء
بقوله تعالى: قالَ فَإِنَّها فإن الفاء فيه لترتيب ما بعدها
على ما قبلها من الدعاء فكان ذلك إثر الدعاء ونوع من المدعو
به،
وقد أخرج ابن جرير عن السدي قال: إن موسى عليه السلام غضب حين
قال له القوم ما قالوا فدعا- وكان ذلك عجلة منه عليه السلام
عجلها- فلما ضرب عليهم التيه ندم فأوحى الله تعالى عليه فَلا
تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ
والضمير المنصوب عائد إلى الأرض المقدسة أي فإنها لدعائك
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ لا يدخلونها ولا يملكونها، والتحريم
تحريم منع لا تحريم تعبد، ومثله قول امرئ القيس يصف فرسه:
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري ... إني امرؤ صرعي عليك حرام
يريد إني فارس لا يمكنك أن تصرعيني، وجوز أبو علي الجبائي-
وإليه يشير كلام البلخي- أن يكون تحريم تعبد والأول أظهر
أَرْبَعِينَ سَنَةً متعلق- بمحرمة- فيكون التحريم مؤقتا لا
مؤبدا فلا يكون مخالفا لظاهر قوله تعالى:
كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ والمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها
أحد منهم هذه المدة لكن- لا- بمعنى أن كلهم يدخلونها بعدها، بل
بعضهم ممن بقي حسبما
روي أن موسى عليه السلام سار بمن بقي من بني إسرائيل إلى الأرض
المقدسة، وكان يوشع بن نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ما شاء
الله تعالى ثم قبض عليه السلام، وروي ذلك عن الحسن ومجاهد،
وقيل: لم يدخلها أحد ممن قال: لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً وإنما
دخلها مع موسى عليه السلام النواشئ من
(3/279)
ذرياتهم، وعليه فالمؤقت بالأربعين في
الحقيقة تحريمها على ذرياتهم وإنما جعل تحريما عليهم لما
بينهما من العلاقة التامة، وقوله تعالى: يَتِيهُونَ فِي
الْأَرْضِ استئناف لبيان كيفية حرمانهم، وقيل: حال من ضمير
عَلَيْهِمْ، والتيه: الحيرة، ويقال: تاه يتيه ويتوه، وهو أتوه
وأتيه، فهو مما تداخل فيه الواو والياء، والمعنى يسيرون
متحيرين وحيرتهم عدم اهتدائهم للطريق.
وقيل: الظرف متعلق ب يَتِيهُونَ، وروي ذلك عن قتادة فيكون
التيه مؤقتا والتحريم مطلقا يحتمل التأبيد وعدمه، وكانت مسافة
الأرض التي تاهوا فيها ثلاثين فرسخا في عرض تسعة فراسخ كما قال
مقاتل، وقيل: اثني عشر فرسخا في عرض ستة فراسخ، وقيل: ستة في
عرض تسعة، وقيل: كان طولها ثلاثين ميلا في عرض ستة فراسخ وهي
ما بين مصر والشام، وذكر أنهم كانوا ستمائة ألف مقاتل وكانوا
يسيرون فيصبحون حيث يمسون ويمسون حيث يصبحون- كما قاله الحسن
ومجاهد- قيل: وحكمة ابتلائهم بالتيه أنهم لما قالوا: إِنَّا
هاهُنا قاعِدُونَ عوقبوا بما يشبه القعود، وكان أربعين سنة
لأنها غاية زمن يرعوي فيه الجاهل.
وقيل: لأنهم عبدوا العجل أربعين يوما فجعل عقاب كل يوم سنة في
التيه وليس بشيء، وكان ذلك من خوارق العادات إذ التحير في مثل
تلك المسافة على عقلاء كثيرين هذه المدة الطويلة مما تحيله
العادة، ولعل ذلك كان بمحو العلامات التي يستدل بها، أو بأن
ألقي شبه بعضها على بعض.
وقال أبو علي الجبائي: إنه كان بتحول الأرض التي هم عليها وقت
نومهم ويغني الله تعالى عن قبوله.
وروي أنه كان الغمام يظلهم من حر الشمس وينزل عليهم المنّ
والسلوى، وجعل معهم حجر موسى عليه السلام يتفجر منه الماء دفعا
لعطشهم،
قيل: ويطلع بالليل عمود من نور يضيء لهم ولا يطول شعرهم ولا
تبلى ثيابهم كما روي عن الربيع بن أنس، وكانت تشب معهم إذا
شبوا كما روي عن طاوس.
وذكر غير واحد من القصاص أنهم كانوا إذا ولد لهم مولود كان
عليه ثوب كالظفر يطول بطوله ولا يبلى إلى غير ذلك مما ذكروه.
والعادة تبعد كثيرا منه فلا يقبل إلا ما صح عن الله تعالى
ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولقد سألت بعض أحبار اليهود عن
لباس بني إسرائيل في التيه، فقال: إنهم خرجوا من مصر ومعهم
الكثير من ثياب القبط وأمتعتهم، وحفظها الله تعالى لكبارهم
وصغارهم فذكرت له حديث الظفر، فقال لم نظفر به وأنكره فقلت له:
هي فضيلة فهلا أثبتها لقومك؟ فقال: لا أرضى بالكذب ثوبا،
واستشكل معاملتهم بهذه النعم مع معاقبتهم بالحيرة، وأجيب بأن
تلك المعاقبة من كرمه تعالى، وتعذيبهم إنما كان للتأديب كما
يضرب الرجل ولده مع محبته له ولا يقطع عنه معروفه، ولعلهم
استغفروا من الكفر إذا كان قد وقع منهم، وأكثر المفسرين على أن
موسى وهارون عليهما السلام كانا معهم في التيه لكن لم ينلهما
من المشقة ما نالهم، وكان ذلك لهما روحا وسلامة كالنار
لإبراهيم عليه السلام، ولعل الرجلين أيضا كانا كذلك.
وروي أن هارون مات في التيه واتهم به موسى عليهما السلام
فقالوا: قتله لحبنا له فأحياه الله تعالى بتضرعه، فبرأه مما
يقولون، وعاد إلى مضجعه، ومات موسى عليه السلام بعده بسنة،
وقيل: بستة أشهر ونصف، وقيل: بثمانية أعوام، ودخل يوشع أريحا
بعده بثلاثة أشهر، وقال قتادة: بشهرين، وكان قد نبئ قبل بمن
بقي من بني إسرائيل ولم يبق المكلفون وقت الأمر منهم، قيل- ولا
يساعده النظم الكريم- فإنه بعد ما قبل دعوته عليه السلام على
بني إسرائيل وعذبهم بالتيه بعيد أن ينجو من نجا، ويقدر وفاة
النبيين عليهما السلام في محل العقوبة ظاهرا، وإن كان ذلك لهما
منزل روح وراحة، وأنت تعلم أن الأخبار بموتهما عليهما السلام
بالتيه كثيرة لا سيما الأخبار بموت هارون عليه
(3/280)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا
فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ
الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ
اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ
يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ
لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ
مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ
فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا
يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ
أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ
هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ
النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ
أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ
جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ
جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ
ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ
لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ
يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ
ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ
عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ
أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ
لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا
تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ
أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ
مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
السلام، ولا أرى للاستبعاد محلا، ولعل ذلك
أنكى لبني إسرائيل.
وقيل: إنهما عليهما السلام لم يكونا مع بني إسرائيل في التيه،
وأن الدعاء- وقد أجيب- كان بالفرق بمعنى المباعدة في المكان
بالدنيا، وأرى هذا القول مما لا يكاد يصح، فإن كثيرا من الآيات
كالنص في وجود موسى عليه السلام معهم فيه كما لا يخفى فَلا
تَأْسَ أي فلا تحزن لموتهم، أو لما أصابهم فيه من الأسى- وهو
الحزن- عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ الذين استجيب لك في
الدعاء عليهم لفسقهم، فالخطاب لموسى عليه السلام كما هو
الظاهر، وإليه ذهب أجلة المفسرين.
وقال الزجاج: إنه للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد- بالقوم
الفاسقين- معاصروه عليه الصلاة والسلام من بني إسرائيل كأنه
قيل: هذه أفعال أسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك
وردهم عليك فإنهم ورثوا ذلك عنهم.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ عطف على مقدر تعلق به قوله تعالى: وَإِذْ
قالَ موسى إلخ، وتعلقه به قيل: من حيث إنه تمهيد لما سيأتي إن
شاء الله تعالى من جنايات بني إسرائيل بعد ما كتب عليهم ما كتب
وجاءتهم الرسل بما جاءتهم به
(3/281)
من البينات وقيل: من حيث إن في الأول الجبن
عن القتل، وفي هذا الإقدام عليه مع كون كل منهما معصية، وضمير
عَلَيْهِمْ يعود على بني إسرائيل كما هو الظاهر إذ هم المحدث
عنهم أولا، وأمر صلّى الله عليه وسلّم بتلاوة ذلك عليهم إعلاما
لهم بما هو في غامض كتبهم الأول الذي لا تعلق للرسول عليه
الصلاة والسلام بها إلا من جهة الوحي لتقوم الحجة بذلك عليهم،
وقيل: الضمير عائد على هذه الأمة أي اتل يا محمد على قومك
نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ هابيل عليه الرحمة، وقابيل عليه ما
يستحقه، وكانا بإجماع غالب المفسرين ابني آدم عليه السلام
لصلبه.
وقال الحسن: كانا رجلين من بني إسرائيل- ويد الله تعالى مع
الجماعة- وكان من قصتهما ما
أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله تعالى
عنهم أجمعين أنه كان لا يولد لآدم عليه السلام مولود إلا ولد
معه جارية فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر
ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر، جعل افتراق
البطون بمنزلة افتراق النسب للضرورة إذ ذاك حتى ولد له ابنان
يقال لهما هابيل وقابيل، وكان قابيل صاحب زرع، وهابيل صاحب
ضرع، وكان قابيل أكبرهما، وكانت له أخت واسمها إقليما أحسن من
أخت هابيل، وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل فأبى عليه، وقال:
هي أختي ولدت معي وهي أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوج بها
فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى، فقال لهما: قربا قربانا فمن
أيكما قبل تزوجها، وإنما أمر بذلك لعلمه أنه لا يقبل من قابيل
لا أنه لو قبل جاز، ثم غاب عليه السلام عنهما آتيا مكة ينظر
إليها فقال آدم للسماء: احفظي ولدي بالأمانة فأبت، وقال للأرض:
فأبت، وقال للجبال: فأبت، فقال لقابيل: فقال نعم تذهب وترجع
وتجد أهلك كما يسرك فلما انطلق آدم عليه السلام قربا قربانا
فقرب هابيل جذعة، وقيل: كبشا، وقرب قابيل حزمة سنبل فوجد فيها
سنبلة عظيمة ففركها وأكلها فنزلت النار فأكلت قربان هابيل،
وكان ذلك علامة القبول، وكان أكل القربان غير جائز في الشرع
القديم وتركت قربان قابيل فغضب، وقال: لأقتلنك فأجابه بما قص
الله تعالى
بِالْحَقِّ متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر اتْلُ أي اتل تلاوة
متلبسة بالحق والصحة، أو حال من فاعل اتْلُ أو من مفعوله أي
متلبسا أنت أو نبأهما بالحق والصدق موافقا لما في زبر الأولين،
وقوله تعالى: إِذْ قَرَّبا قُرْباناً ظرف لنبأ، وعمل فيه لأنه
مصدر في الأصل، والظرف يكفي فيه رائحة الفعل، وجوز أن يكون
متعلقا بمحذوف وقع حالا منه، ورد بأنه حينئذ يكون قيدا في
عامله وهو اتْلُ المستقبل، وإِذْ لما مضى فلا يتلاقيان، ولذا
لم يتعلق به مع ظهوره، وقد يجاب بالفرق بين الوجهين فتأمل.
وقيل: إنه بدل من نَبَأَ على حذف المضاف ليصح كونه متلوا أي
اتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت، ورده في البحر بأن إِذْ لا
يضاف إليها إلا الزمان نحو يومئذ وحينئذ ونَبَأَ ليس بزمان،
وأجيب بالمنع، ولا فرق بين نبأ ذلك الوقت ونبأ إِذْ وكل منهما
صحيح معنى وإعرابا، ودعوى- جواز الأول سماعا دون الثاني- دون
إثباتها خرط القتاد، والقربان اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى
من ذبيحة أو غيرها- كالحلوان- اسم لما يحلى أي يعطى، وتوحيده
لما أنه في الأصل مصدر، وقيل: تقديره إذ قرب كل منهما قربانا
فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وهو هابيل وَلَمْ يُتَقَبَّلْ
مِنَ الْآخَرِ لأنه سخط حكم الله تعالى، وهو عدم جواز نكاح
التوأمة قالَ استئناف سؤال نشأ من الكلام السابق كأنه قيل:
فماذا قال من لم يتقبل قربانه؟ فقيل: قال لأخيه لفرط الحسد على
قبول قربانه ورفعة شأنه عند ربه عز وجل كما يدل عليه الكلام
الآتي، وقيل: على ما سيقع من أخذ أخته الحسناء لَأَقْتُلَنَّكَ
أي والله تعالى لَأَقْتُلَنَّكَ بالنون المشددة، وقرىء
بالمخففة قالَ استئناف كالذي قبله أي قال الذي تقبل قربانه لما
رأى جسد أخيه إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ أي القربان والطاعة
مِنَ الْمُتَّقِينَ في ذلك بإخلاص النية فيه لله تعالى لا من
غيرهم، وليس
(3/282)
المراد من التقوى التقوى من الشرك التي هي
أول المراتب كما قيل، ومراده من هذا الجواب أنك إنما أتيت من
قبل نفسك لانسلاخها عن لباس التقوى لا من قبلي، فلم تقتلني وما
لك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله تعالى التي هي
السبب في القبول؟! وهو جواب حكيم مختصر جامع لمعان.
وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره
ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظا لا في إزالة حظه
ونعمته، فإن اجتهاده فيما ذكر يضره ولا ينفعه، وقيل: مراده
الكناية عن أنه لا يمتنع عن حكم الله تعالى بوعيده لأنه متق
والمتقي يؤثر الامتثال على الحياة، أو الكناية عن أنه لا يقتله
دفعا لقتله لأنه متق فيكون ذلك كالتوطئة لما بعده، ولا يخفى
بعده وما أنعى هذه الآية على العاملين أعمالهم، وعن عامر بن
عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة، فقيل له: ما يبكيك، فقد
كنت وكنت؟ قال: إني أسمع الله تعالى يقول: إِنَّما يَتَقَبَّلُ
اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ
لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ
قيل: كان هابيل أقوى منه ولكن تحرج عن قتله واستسلم له خوفا من
الله تعالى لأن المدافعة لم تكن جائزة في ذلك الوقت، وفي تلك
الشريعة- كما روي عن مجاهد- وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج-
قال: كانت بنو إسرائيل قد كتب عليهم إذا الرجل بسط يده إلى
الرجل لا يمتنع منه حتى يقتله أو يدعه، أو تحريا لما هو الأفضل
الأكثر ثوابا وهو كونه مقتولا لا قاتلا بالدفع عن نفسه بناء
على جوازه إذ ذاك، قال بعض المحققين: واختلف في هذا الآن على
ما بسطه الإمام الجصاص فالصحيح من المذهب أنه يلزم الرجل دفع
الفساد عن نفسه وغيره وإن أدى إلى القتل، ولذا قال ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما وغيره: إن المعنى في الآية لَئِنْ
بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ على سبيل الظلم والابتداء
لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ على وجه
الظلم والابتداء، وتكون الآية على ما قاله مجاهد وابن جريج:
منسوخة، وهل نسخت قبل شريعتنا أم لا؟ فيه كلام، والدليل عليه
قوله تعالى: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ
[الحجرات: 9] وغيره من الآيات والأحاديث، وقيل: إنه لا يلزم
ذلك بل يجوز، واستدل بما
أخرجه ابن سعد في الطبقات عن خباب بن الأرت عنه صلّى الله عليه
وسلّم أنه ذكر «فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها
خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي فإن أدركت ذلك فكن
عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل»
وأولوه بترك القتال في الفتنة واجتنابها وأول الحديث يدل عليه،
وأما من منع ذلك الآن مستدلا
بحديث: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في
النار»
فقد رد بأن المراد به أن يكون كل منهما عزم على قتل أخيه وإن
لم يقاتله وتقابلا بهذا القصد انتهى بزيادة.
وعن السيد المرتضى أن الآية ليست من محل النزاع لأن اللام
الداخلة على فعل القتل لام كي وهي منبئة عن الإرادة والغرض،
ولا شبهة في قبح ذلك أولا وآخرا لأن المدافع إنما يحسن منه
المدافعة للظالم طلبا للتخلص من غير أن يقصد إلى قتله، فكأنه
قال له: لئن ظلمتني لم أظلمك وإنما قال سبحانه: ما أَنَا
بِباسِطٍ يَدِيَ في جواب لَئِنْ بَسَطْتَ للمبالغة في أنه ليس
من شأنه ذلك ولا ممن يتصف به، ولذلك أكد النفي بالباء ولم يقل
وما أنا بقاتل بل قال: بِباسِطٍ للتبري عن مقدمات القتل فضلا
عنه، وقدم الجار والمجرور المتعلق- ببسطت- إيذانا على ما قيل
من أول الأمر برجوع ضرر البسط وغائلته إليه، ويخطر لي أنه قدم
لتعجيل تذكيره بنفسه المنجر إلى تذكيره بالأخوة المانعة عن
القتل، وقوله تعالى: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ
تعليل للامتناع عن بسط يده ليقتله، وفيه إرشاد قابيل إلى خشية
الله تعالى على أتم وجه، وتعريض بأن القاتل لا يخاف الله تعالى
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ تعليل آخر
لامتناعه عن البسط، ولما كان كل منهما علة مستقلة لم يعطف
أحدهما على الآخر إيذانا بالاستقلال ودفعا لتوهم أن يكون جزء
علة لا علة تامة، وأصل البوء اللزوم، وفي النهاية: أبوء بنعمتك
علي وأبوء بذنبي أي ألتزم وأرجع
(3/283)
وأقر، والمعنى أني أريد باستسلامي وامتناعي
عن التعرض لك أن ترجع بإثمي أي تتحمله لو بسطت يدي إليك حيث
كنت السبب له، وأنت الذي علمتني الضرب والقتل، وإثمك حيث بسطت
إلي يدك، وهذا نظير ما
أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعا «المستبان ما قالا فعلى البادئ
ما لم يعتد المظلوم»
أي على البادئ إثم سبه، ومثل إثم سب صاحبه لأنه كان سببا فيه
إلا أن الإثم محطوط عن صاحبه معفو عنه لأنه مكافئ دافع عن
عرضه، ألا ترى إلى
قوله: «ما لم يعتد المظلوم»
لأنه إذا خرج من حدّ المكافأة واعتدى لم يسلم كذا في الكشاف،
قيل: وفيه نظر لأن حاصل ما قرره أن على البادئ إثمه ومثل إثم
صاحبه إلا أن يتعدى الصاحب فلا يكون هذا المجموع على البادئ،
ولا دلالة فيه على أن المظلوم إذ لم يتعد كان إثمه المخصوص
بسببه ساقطا عنه اللهم إلا بضميمة تنضم إليه، وليس في اللفظ ما
يشعر بها، ورده في الكشف بأنه كيف لا يدل على سقوطه عنه،
وقوله عليه الصلاة والسلام: «فعلى البادئ»
مخصص ظاهر، وقول الكشاف: «إلا أن الإثم محطوط» تفسير
لقوله: «فعلى البادئ»
وقوله: فعليه إثم سبه، ومثل إثم سب صاحبه تفسير لقوله: ما
قالا، فكما يدل على أن عليه إثما مضاعفا يدل على أن إثم صاحبه
ساقط.
هذا ثم قال: ولعل الأظهر في الحديث أن لا يضمر المثل، والمعنى
إثم سبابهما على البادئ، وكان ذلك لئلا يلتزم الجمع بين
الحقيقة والمجاز، والقول: بأنه إذا لم يكن لما قاله غير البادئ
إثم، فكيف يقال: إثم سبابهما، وكيف يضاف إليه الإثم مشترك
الإلزام؟ وتحقيقه أن لما قاله غير البادئ إثما وليس على
البادي، وليس بمناف لقوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرى [الأنعام: 164، الإسراء: 15، فاطر: 18، الزمر: 7] لأنه
بحمله عليه عد جانيا، وهذا كما ورد فيمن سن سنة حسنة أو سنة
سيئة، نعم فيما نحن فيه العامل لا إثم له إنما هو للحامل،
والحاصل أن سب غير البادئ يترتب عليه شيئان، أحدهما بالنسبة
إلى فاعله وهو ساقط إذا كان على وجه الدفع دون اعتداء، والثاني
بالنسبة إلى حامله عليه وهو غير ساقط أعني أنه يثبت ابتداء لا
أنه لا يعفى، وأورد في التحقيق أن ما ذكره من حط الإثم من
المظلوم لأنه مكافىء غير صحيح لأنه إذا سب شخص لم يستوف الجزاء
إلا بالحاكم، والجواب إن صريح الحديث يدل على ما ذكر في
الكشاف، والجمع بينه وبين الحكم الفقهي أن السب إما أن يكون
بلفظ يترتب عليه الحد شرعا فذلك سبيله الرفع إلى الحاكم، أو
بغير ذلك وحينئذ لا يخلو إما أن يكون كلمة إيحاش أو امتنان أو
تفاخر بنسب ونحوه مما يتضمن إزراء بنسب صاحبه من دون شتم- كنحو
الرمي بالكفر والفسق- فله أن يعارضه بالمثل، ويدل عليه حديث
زينب وعائشة رضي الله تعالى عنهما،
وقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة: «دونك فانتصري»
أو يتضمن شتما فذلك أيضا يرفع إلى الحاكم ليعزره، والحديث
محمول على القسم الذي يجري فيه الانتصار،
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما لم يعتد المظلوم»
يدل عليه لأنه إذا كان حقه الرفع إلى الحاكم فاشتغل بالمعارضة
عد متعديا انتهى، وهو تفصيل حسن، وقيل: معنى بِإِثْمِي بإثم
قتلي، ومعنى «بإثمك» إثمك الذي كان قبل قتلي، وروي ذلك عن ابن
عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما وقتادة ومجاهد والضحاك،
وأطلق هؤلاء الإثم الذي كان قبل، وعن الجبائي، والزجاج أنه
الإثم الذي من أجله لم يتقبل القربان وهو عدم الرضا بحكم الله
تعالى كما مر، وقيل:
معناه بإثم قتلي وَإِثْمِكَ الذي هو قتل الناس جميعا حيث سننت
القتل، وإضافة الإثم على جميع هذه الأقوال إلى ضمير المتكلم
لأنه نشأ من قبله، أو هو على تقدير مضاف ولا حاجة إلى تقدير
مضاف إليه كما قد قيل به أولا إلا أنه لا خفاء في عدم حسن
المقابلة بين التكلم والخطاب على هذا لأن كلا الإثمين إثم
المخاطب، والأمر فيه سهل، والجار والمجرور مع المعطوف عليه حال
من فاعل تَبُوءَ أي ترجع متلبسا بالإثمين حاملا لهما، ولعل
مراده بالذات إنما هو عدم ملابسته للإثم لا ملابسة أخيه إذ
إرادة الإثم من آخر غير جائزة، وقيل: المراد بالإثم ما يلزمه
ويترتب عليه من العقوبة، ولا يخفى أنه لا يتضح حينئذ تفريع
قوله تعالى: فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ على تلك
(3/284)
الإرادة، فإن كون المخاطب من أصحاب النار
إنما يترتب على رجوعه بالإثمين لا على ابتلاء بعقوبتهما وهو
ظاهر، وحمل العقوبة على نوع آخر يترتب عليه العقوبة النارية
يرده- كما قال شيخ الإسلام- قوله سبحانه: وَذلِكَ جَزاءُ
الظَّالِمِينَ فإنه صريح في أن كونه من أصحاب النار تمام
العقوبة وكمالها، والجملة تذييل مقرر لما قبله، وهي من كلام
هابيل على ما هو الظاهر، وقيل: بل هي إخبار منه تعالى للرسول
صلّى الله عليه وسلّم فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ
أَخِيهِ فسهلته له ووسعته من طاع له المرتع إذا اتسع، وترتيب
التطويع على ما قبله من مقالات هابيل مع تحققه قبل كما يفصح
عنه قوله: لَأَقْتُلَنَّكَ لما أن بقاء الفعل بعد تقرر ما
يزيله- وإن كان استمرارا عليه بحسب الظاهر- لكنه في الحقيقة
أمر حادث وصنع جديد، أو لأن هذه المرتبة من التطويع لم تكن
حاصلة قبل ذلك بناء على تردده في قدرته على القتل لما أن أخاه
كان أقوى منه، وأنها حصلت بعد وقوفه على استسلامه وعدم معارضته
له، والتصريح بأخوته لكمال تقبيح ما سولته نفسه، وقرأ الحسن-
فطاوعت- وفيها وجهان: الأول أن فاعل بمعنى فعل كما ذكره سيبويه
وغيره، وهو أوفق بالقراءة المتواترة، والثاني أن المفاعلة
مجازية بجعل القتل يدعو النفس إلى الإقدام عليه وجعلت النفس
تأباه، فكل من القتل والنفس كأنه يريد من صاحبه أن يطيعه إلى
أن غلب القتل النفس فطاوعته، ولَهُ للتأكيد والتبيين كما في
قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] .
والقول بأنه للاحتراز عن أن يكون طوعت لغيره أن يقتله ليس بشيء
فَقَتَلَهُ أخرج ابن جرير عن ابن مجاهد، وابن جريج أن قابيل لم
يدر كيف يقتل هابيل فتمثل له إبليس اللعين في هيئة طير فأخذ
طيرا فوضع رأسه بين حجرين فشدخه فعلمه القتل فقتله كذلك وهو
مستسلم،
وأخرج عن ابن مسعود، وناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن
قابيل طلب أخاه ليقتله فراغ منه في رؤوس الجبال فأتاه يوما من
الأيام وهو يرعى غنما له وهو نائم فرفع صخرة فشدخ بها رأسه
فمات فتركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن إلى أن بعث الله تعالى
الغراب،
وكان لهابيل لما قتل عشرون سنة، واختلف في موضع قتله، فعن عمر
الشعباني عن كعب الأحبار أنه قتل على جبل دير المران، وفي
رواية عنه أنه قتل على جبل قاسيون، وقيل: عند عقبة حراء، وقيل:
بالبصرة في موضع المسجد الأعظم،
وأخرج نعيم بن حماد عن عبد الرحمن بن فضالة أنه لما قتل قابيل
هابيل مسخ الله تعالى عقله وخلع فؤاده فلم يزل تائها حتى مات،
وروي أنه لما قتله اسود جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه،
فقال: ما كنت عليه وكيلا، قال: بل قتلته ولذلك اسود جسدك،
وأخرج ابن عساكر وابن جرير عن سالم بن أبي الجعد قال: إن آدم
عليه السلام لما قتل أحد ابنيه الآخر مكث مائة عام لا يضحك
حزنا عليه فأتى على رأس المائة، فقيل له: حياك الله تعالى
وبياك وبشر بغلام، فعند ذلك ضحك، وذكر محيي السنة أنه عليه
السلام ولد له بعد قتل ولده بخمسين سنة شيث عليه السلام،
وتفسيره- هبة الله- يعني أنه خلف من هابيل، وعلمه الله تعالى
ساعات الليل والنهار وعبادة الخلق من كل ساعة منها، وأنزل عليه
خمسين صحيفة، وصار وصي آدم وولي عهده،
وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لما قتل ابن
آدم عليه السلام أخاه بكى آدم عليه السلام ورثاه بشعر،
وأخرج نحو ذلك الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما وهو مشهور.
وروي عن ميمون بن مهران عن الحبر رضي الله تعالى عنه أنه قال:
من قال: إن آدم عليه السلام قال شعرا فقد كذب إن محمدا صلّى
الله عليه وسلّم والأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام في النهي
عن الشعر سواء، ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم بالسرياني
فلم يزل ينقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان، وكان يتكلم بالعربية
والسريانية، فنظر فيه فقدم وأخر وجعله شعرا عربيا، وذكر بعض
علماء العربية إن في ذلك الشعر لحنا، أو إقواء، أو ارتكاب
ضرورة، والأولى عدم
(3/285)
نسبته إلى يعرب أيضا لما فيه من الركاكة
الظاهرة.
فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ دنيا وآخرة،
أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تقتل نفس ظلما إلا
كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل» ،
وأخرج ابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله
تعالى عنهما قال: «إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار
قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم»
وورد أنه أحد الأشقياء الثلاثة،
وهذا ونحوه صريح في أن الرجل مات كافرا.
وأصرح من ذلك ما
روي أنه لما قتل أخاه هرب إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس
عليهما اللعنة، فقال: إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان
يخدمها ويعبدها فإن عبدتها أيضا حصل مقصودك فبنى بيت نار
فعبدها فهو أول من عبد النار،
والظاهر أن عليه أيضا وزر من يعبد النار بل لا يبعد أن يكون
عليه وزر من يعبد غير الله تعالى إلى يوم القيامة، واستدل
بعضهم بقول سبحانه: فَأَصْبَحَ على أن القتل وقع ليلا- وليس
بشيء- فإن من عادة العرب أن يقولوا:
أصبح فلان خاسر الصفقة إذا فعل أمرا ثمرته الخسران، ويعنون
بذلك الحصول مع قطع النظر عن وقت دون وقت، وإنما لم يقل
سبحانه- فأصبح خاسرا- للمبالغة وإن لم يكن حينئذ خاسر سواه
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ
كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ
أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عطية قال: لما قتله ندم فضمه
إليه حتى أروح وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمي به
فتأكله، وكره أن يأتي به آدم عليه الصلاة والسلام فيحزنه وتحير
في أمره إذ كان أول ميت من بني آدم عليه السلام، فبعث الله
تعالى غرابين قتل أحدهما الآخر وهو ينظر إليه ثم حفر له
بمنقاره وبرجله حتى مكن له ثم دفعه برأسه حتى ألقاه في الحفرة
ثم بحث عليه برجله حتى واراه،
وقيل: إن أحد الغرابين كان ميتا.
والغراب: طائر معروف، قيل: والحكمة في كونه المبعوث دون غيره
من الحيوان كونه يتشاءم به في الفراق والاغتراب وذلك مناسب
لهذه القصة، وقال بعضهم: إنه كان ملكا ظهر في صورة الغراب
والمستكن في- يريه- لله تعالى، أو للغراب، واللام على الأول
متعلقة- ببعث- حتما، وعلى الثاني- بيبحث- ويجوز تعلقها ببعث
أيضا، وكَيْفَ حال من الضمير في يُوارِي قدم عليه لأن له
الصدر، وجملة كَيْفَ يُوارِي في محل نصب مفعول ثان- ليرى-
البصرية المتعدية بالهمزة لاثنين وهي معلقة عن الثاني، وقيل:
إن- يريه- بمعنى يعلمه إذ لو جعل بمعنى الإبصار لم يكن لجملة
كَيْفَ يُوارِي موقع حسن، وتكون الجملة في موقع مفعولين له،
وفيه نظر، والبحث- في الأصل التفتيش عن الشيء مطلقا، أو في
التراب، والمراد به هنا الحفر، والمراد- بالسوأة- جسد الميت
وقيده الجبائي بالمتغير، وقيل: العورة لأنها تسوء ناظرها، وخصت
بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها لأن سترها
آكد، والأول أولى، ووجه التسمية مشترك، وضمير أَخِيهِ عائد على
المبحوث عنه لا على الباحث كما توهم، وبعثة الغراب كانت من باب
الإلهام إن كان المراد منه المتبادر، وبعثه حقيقة إن كان
المراد منه ملكا ظهر على صورته، وعلى التقديرين ذهب أكثر
العلماء إلى أن الباحث وارى جثته، وتعلم قابيل، ففعل مثل ذلك
بأخيه، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن مسعود
وغيرهما، وذهب الأصم إلى أن الله تعالى بعث من بعثه فبحث في
الأرض ووارى هابيل، فلما رأى قابيل ما أكرم الله تعالى به أخاه
قالَ يا وَيْلَتى كلمة جزع وتحسر، والويلة- كالويل- الهلكة كأن
المتحسر ينادي هلاكه وموته ويطلب حضوره بعد تنزيله منزلة من
ينادي، ولا يكون طلب الموت إلا ممن كان في حال أشدّ منه،
والألف بدل من ياء المتكلم أي- يا ويلتي- وبذلك قرأ الحسن
احضري فهذا أوانك أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا
الْغُرابِ تعجب من عجزه عن كونه مثله لأنه لم يهتد إلى ما
اهتدى إليه مع
(3/286)
كونه أشرف منه فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي
عطف على أَكُونَ وجعله في الكشاف منصوبا في جواب الاستفهام،
واعترضه كثير من المعربين، وقال أبو حيان: إنه خطأ فاحش لأن
شرط هذا النصب أن ينعقد من الجملة الاستفهامية، والجواب جملة
شرطية نحو أتزورني فأكرمك، فإن تقديره إن تزرني أكرمك، ولو قيل
هاهنا: 7 ن- أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أواري سوءة أخي- لم
يصح المعنى لأن المواراة تترتب على عدم العجز لا عليه، وأجاب
في الكشف بأن الاستفهام للإنكار التوبيخي، ومن باب أتعصي ربك
فيعفو عنك، بالنصب لينسحب الإنكار على الأمرين، وفيه تنبيه على
أنه في العصيان وتوقع العفو مرتكب خلاف المعقول، فإذا رفع كان
كلاما ظاهريا في انسحاب الإنكار، وإذا نصب جاءت المبالغة
للتعكيس حيث جعل سبب العقوبة سبب العفو، وفيما نحن فيه نعى على
نفسه عجزها فنزلها منزلة من جعل العجز سبب المواراة دلالة على
التعكيس المؤكد للعجز والقصور عما يهتدي إليه غراب، ثم قال:
فإن قلت: الإنكار التوبيخي إنما يكون على واقع أو متوقع،
فالتوبيخ على العصيان والعجز له وجه، أما على العفو والمواراة
فلا قلت: التوبيخ على جعل كل واحد سببا، أو تنزيله منزلة من
جعله سببا لا على العفو والمواراة فافهم انتهى، ولعل الأمر
بالفهم إشارة إلى ما فيه من البعد، وقيل في توجيه ذلك إن
الاستفهام للإنكار- وهو بمعنى النفي- وهو سبب، والمعنى إن لم
أعجز واريت، واعترض بأنه غير صحيح لأنه لا يكفي في النصب سببية
النفي بل لا بد من سببية المنفي قبل دخول النفي، ألا ترى أن ما
تأتينا فتحدثنا مفسر عندهم بأنه لا يكون منك إتيان فتحديث، قال
الشهاب:
والجواب عنه أنه فرق بين ما نصب في جواب النفي وما نصب في جواب
الاستفهام، والكلام في الثاني، فكيف يرد الأول نقضا، ولو جعل
في جواب النفي لم يرد ما ذكره أيضا لأنه لا حاجة إلى أخذ النفي
من الاستفهام الإنكاري مع وضوح تأويل- عجزت- بلم اهتد، وقد قال
في التسهيل: إنه ينتصب في جواب النفي الصريح والمؤول، وما نحن
فيه من الثاني حكمه فتأمل انتهى.
ولعل الأمر بالتأمل الإشارة أن ما في دعوى الفرق بين الاستفهام
الإنكاري الذي هو بمعنى النفي، والنفي من الخفاء، وكذا في
تأويل- عجزت- بلم أهتد هنا فليفهم، وقرىء «أعجزت» بكسر الجيم
وهو لغة شاذة في عجز، وقرىء- فأواري- بالسكون على أنه مستأنف
وهم يقدرون المبتدأ لإيضاح القطع عن العطف، أو معطوف إلا أنه
سكن للتخفيف كما قاله غير واحد، واعترضه في البحر بأن الفتحة
لا تستثقل حتى تحذف تخفيفا، وتسكين المنصوب عند النحويين ليس
بلغة كما زعم ابن عطية، وليس بجائز إلا في الضرورة فلا تحمل
القراءة عليها مع وجود محمل صحيح، وهو الاستئناف لها انتهى،
وعلى دعوى الضرورة منع ظاهر، فإن تسكين المنصوب في كلامهم
كثير، وادعى المبرد أن ذلك من الضرورات الحسنة التي يجوز مثلها
في النثر فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ أي صار معدودا من
عدادهم، وكان ندمه على قتله لما كابد فيه من التحير في أمره.
وحمله على رقبته أربعين يوما أو سنة أو أكثر على ما قيل.
وتلمذة الغراب فإنها إهانة ولذا لم يلهم من أول الأمر ما ألهم
واسوداد وجهه وتبري أبويه منه لا على الذنب إذ هو توبة مِنْ
أَجْلِ ذلِكَ أي ما ذكر في تضاعيف القصة، ومِنْ ابتدائية
متعلقة بقوله تعالى: كَتَبْنا أي قضينا، وقيل:
بالنادمين وهو ظاهر ما روي عن نافع، وكَتَبْنا استئناف،
واستبعده أبو البقاء وغيره.
والأجل- بفتح الهمزة وقد تكسر، وقرىء به- لكن بنقل الكسرة إلى
النون كما قرىء بنقل الفتحة إليها في الأصل- الجناية يقال: أجل
عليهم شرا إذا جنى عليهم جناية، وفي معناه جر عليهم جريرة، ثم
استعمل في تعليل الجنايات، ثم اتسع فيه فاستعمل لكل سبب أي من
ذلك ابتداء الكتب ومنه نشأ لا من غيره.
عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ وتخصيصهم بالذكر لما أن الحسد كان منشأ
لذلك الفساد وهو غالب عليهم.
(3/287)
وقيل: إنما ذكروا دون الناس لأن التوراة
أول كتاب نزل فيه تعظيم القتل، ومع ذلك كانوا أشد طغيانا فيه
وتماديا حتى قتلوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكأنه قيل:
بسبب هذه العظيمة كتبنا في التوراة تعظيم القتل، وشددنا عليهم
وهم بعد ذلك لا يبالون.
ومن هنا تعلم أن هذه الآية لا تصلح- كما قال الحسن والجبائي
وأبو مسلم- على أن ابني آدم عليه السلام كانا من بني إسرائيل،
على أن بعثة الغراب الظاهر في التعليم المستغنى عنه في وقتهم
لعدم جهلهم فيه بالدفن- تأبى ذلك أَنَّهُ أي الشأن مَنْ قَتَلَ
نَفْساً واحدة من النفوس الإنسانية بِغَيْرِ نَفْسٍ أي بغير
قتل نفس يوجب الاقتصاص، والباء للمقابلة متعلقة بقتل، وجوز أن
تتعلق بمحذوف وقع حالا أي متعديا ظالما أَوْ فَسادٍ فِي
الْأَرْضِ أي فساد فيها يوجب هدر الدم كالشرك مثلا، وهو عطف
على ما أضيف إليه- غير- والنفي هنا وارد على الترديد لأن إباحة
القتل مشروطة بأحد ما ذكر من القتل والفساد، ومن ضرورته اشتراط
حرمته بانتفائهما معا فكأنه قيل: من قتل نفسا بغير أحدهما
فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً لاشتراك الفعلين في هتك
حرمة الدماء والاستعصاء على الله تعالى والتجبر على القتل في
استتباع القود واستجلاب غضب الله تعالى العظيم.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود إن هذا التشبيه عند المقتول كما
أن التشبيه الآتي عند المستنقذ، والأول أولى وأنسب للغرض
المسوق له التشبيه، وقرىء- أو فسادا- بالنصب بتقدير أو عمل
فسادا- أو فسد فسادا وَمَنْ أَحْياها أي تسبب لبقاء نفس واحدة
موصوفة بعدم ما ذكر من القتل والفساد إما بنهي قاتلها عن قتلها
أو استنقاذها من سائر أسباب الهلكة بوجه من الوجوه فَكَأَنَّما
أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً، وقيل: المراد ومن أعان على استيفاء
القصاص فكأنما إلخ، وما في الموضعين كافة مهيئة لوقوع الفعل
بعدها، وجَمِيعاً حال من النَّاسَ أو تأكيد، وفائدة التشبيه
الترهيب والردع عن قتل نفس واحدة بتصويره بصورة قتل جميع
الناس، والترغيب والتحضيض على إحيائها بتصويره بصورة إحياء
جميع الناس وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ أي
الآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم تأكيدا لوجوب
مراعاته وتأييدا لتحتم المحافظة عليه.
والجملة مستقلة غير معطوفة على كَتَبْنا وأكدت بالقسم لكمال
العناية بمضمونها، وإنما لم يقل ولقد أرسلنا إليهم إلخ للتصريح
بوصول الرسالة إليهم فإنه أدل على تناهيهم في العتو والمكابرة.
ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ المذكور من الكتب
وتأكيد الأمر بالإرسال، ووضع اسم الإشارة موضع الضمير للإيذان
بكمال تميزه وانتظامه بسبب ذلك في سلك الأمور المشاهدة، وما
فيه من معنى البعد للإيماء إلى علو درجته وبعد منزلته في عظم
الشأن، وثُمَّ للتراخي في الرتبة والاستبعاد فِي الْأَرْضِ
متعلق بقوله تعالى:
لَمُسْرِفُونَ وكذا بعد فيما قبل، ولا تمنع اللام المزحلقة من
ذلك، والإسراف في كل أمر التباعد عن حدّ الاعتدال مع عدم
مبالاة به، والمراد مسرفون في القتل غير مبالين به ولما كان
إسرافهم في أمر القتل مستلزما لتفريطهم في شأن الإحياء وجودا
وعدما وكان هو أقبح الأمرين وأفظعهما اكتفى في ذكره في مقام
التشنيع المسوق له الآي، وعن الكلبي أن المراد مجاوزون حدّ
الحق بالشرك، وقيل: إن المراد ما هو أعم من الإسراف بالقتل
والشرك وغيرهما، وإنما قال سبحانه: وإِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ
لأنه عز شأنه على ما في الخازن علم أن منهم من يؤمن بالله
تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وهم قليل من كثير، وذكر
الْأَرْضِ مع أن الإسراف لا يكون إلا فيها للإيذان بأن إسراف
ذلك الكثير ليس أمرا مخصوصا بهم بل انتشر شره في الأرض وسرى
إلى غيرهم، ولما بين سبحانه عظم شأن القتل بغير حق استأنف بيان
حكم نوع من أنواع القتل وما يتعلق به من الفساد بأخذ المال
ونظائره وتعيين موجبه، وأدرج فيه بيان ما أشير إليه
(3/288)
إجمالا من الفساد المبيح للقتل، فقال جل
شأنه: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ ذهب أكثر المفسرين- كما قال الطبرسي، وعليه جملة
الفقهاء- إلى أنها نزلت في قطاع الطريق، والكلام- كما قال
الجصاص- على حذف مضاف أي يحاربون أولياء الله تعالى ورسوله
عليه الصلاة والسلام فهو كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب: 57] .
ويدل على ذلك أنهم لو حاربوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
لكانوا مرتدين بإظهار محاربته ومخالفته عليه الصلاة والسلام،
وقيل: المراد يحاربون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذكر
الله تعالى للتمهيد والتنبيه على رفعة محله عليه الصلاة
والسلام عنده عز وجل، ومحاربة أهل شريعته وسالكي طريقته من
المسلمين محاربة له صلّى الله عليه وسلّم فيعم الحكم من
يحاربهم بعد الرسول عليه الصلاة والسلام ولو بأعصار كثيرة
بطريق العبارة لا بطريق الدلالة أو القياس كما يتوهم، لأن ورود
النص ليس بطريق خطاب المشافهة حتى يختص بالمكلفين حين النزول
ويحتاج في تعميمه إلى دليل آخر على ما تحقق في الأصول، وقيل:
ليس هناك مضاف محذوف وإنما المراد محاربة المسلمين إلا أنه جعل
محاربتهم محاربة الله عز وجل ورسوله صلّى الله عليه وسلّم
تعظيما له وترفيعا لشأنهم، وجعل ذكر الرسول على هذا تمهيدا على
تمهيد وفيه ما لا يخفى، والحرب في الأصل السلب والأخذ، يقال:
حربه إذا سلبه، والمراد به هاهنا قطع الطريق وقيل: الهجوم جهرة
باللصوصية وإن كان في مصر وَيَسْعَوْنَ عطف على يحاربون، وبه
يتعلق قوله تعالى: فِي الْأَرْضِ، وقيل: بقوله سبحانه: فَساداً
وهو إما حال من فاعل يَسْعَوْنَ بتأويله بمفسدين، أو ذوي فساد،
أو لا تأويل قصدا للمبالغة كما قيل، وإما مفعول له أي لأجل
الفساد، وإما مصدر مؤكد- ليسعون- لأنه في معنى يفسدون،
وفَساداً إما مصدر حذف منه الزوائد أو اسم مصدر، وقوله تعالى:
إِنَّما جَزاءُ مبتدأ خبره المنسبك من قوله تعالى: أَنْ
يُقَتَّلُوا أي حدا من غير صلب إن أفردوا القتل، ولا فرق بين
أن يكون بآلة جارحة أو لا، والإتيان بصيغة التفعيل لما فيه من
الزيادة على القصاص من أنه لكونه حق الشرع لا يسقط بعفو الولي،
وكذا التصليب في قوله سبحانه: أَوْ يُصَلَّبُوا لما فيه من
القتل أي يصلبوا مع القتل إن جمعوا بين القتل والأخذ، وقيل:
صيغة التفعيل في الفعلين للتكثير، والصلب قبل القتل بأن يصلبوا
أحياء وتبعج بطونهم برمح حتى يموتوا، وأصح قولي الشافعي عليه
الرحمة أن الصلب ثلاثا بعد القتل، قيل: إنه يوم واحد.
وقيل: حتى يسيل صديده، والأولى أن يكون على الطريق في ممر
الناس ليكون ذلك زجرا للغير عن الإقدام على مثل هذه المعصية.
وفي ظاهر الرواية أن الإمام مخير إن شاء اكتفى بذلك وإن شاء
قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم وصلبهم أَوْ تُقَطَّعَ
أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أي تقطع مختلفة بأن
تقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى إن اقتصروا على أخذ المال
من مسلم أو ذمي إذ له ما لنا وعليه ما علينا وكان في المقدار
بحيث لو قسم عليهم أصاب كلّا منهم عشرة دراهم أو ما يساويها
قيمة، وهذا في أول مرة فإن عادوا قطع منهم الباقي، وقطع الأيدي
لأخذ المال، وقطع الأرجل لإخافة الطريق وتفويت أمنه أَوْ
يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ إن لم يفعلوا غير الإخافة والسعي
للفساد، والمراد بالنفي عندنا هو الحبس والسجن والعرب تستعمل
النفي بذلك المعنى لأن الشخص به يفارق بيته وأهله، وقد قال بعض
المسجونين:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأموات فيها ولا
الأحيا
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة ... عجبنا، وقلنا: جاء هذا من
الدنيا
(3/289)
ويعزرون أيضا لمباشرتهم إخافة الطريق
وإزالة أمنه، وعند الشافعي عليه الرحمة المراد به النفي من بلد
إلى بلد ولا يزال يطلب وهو هارب فرقا إلى أن يتوب ويرجع، وبه
قال ابن عباس والحسن والسدي رضي الله تعالى عنهم وابن جبير
وغيرهم، وإليه ذهب الإمامية، وعن عمر بن عبد العزيز وابن جبير
في رواية أخرى أنه ينفى عن بلده فقط، وقيل:
إلى بلد أبعد، وكانوا ينفونهم إلى- دهلك- وهو بلد في أقصى
تهامة- وناصع- وهو بلد من بلاد الحبشة، واستدل للأول بأن
المراد بنفي قاطع الطريق زجره ودفع شره فإذا نفي إلى بلد آخر
لم يؤمن ذلك منه، وإخراجه من الدنيا غير ممكن، ومن دار الإسلام
غير جائز فإن حبس في بلد آخر فلا فائدة فيه إذ بحبسه في بلده
يحصل المقصود وهو أشد عليه.
هذا ولما كانت المحاربة والفساد على مراتب متفاوتة ووجوه شتى
شرعت لكل مرتبة من تلك المراتب عقوبة معينة بطريق كما أشرنا
إليه- فأو- للتقسيم واللف والنشر المقدر على الصحيح، وقيل:
إنها تخييرية والإمام مخير بين هذه العقوبات في كل قاطع طريق،
والأول علم بالوحي وإلا فليس في اللفظ ما يدل عليه دون
التخيير، ولأن في الآية أجزية مختلفة غلظا وخفة فيجب أن تقع في
مقابلة جنايات مختلفة ليكون جزاء كل سيئة سيئة مثلها، ولأنه
ليس للتخيير في الأغلظ والأهون في جناية واحدة كبير معنى،
والظاهر أنه أوحي إليه صلّى الله عليه وسلّم هذا التنويع
والتفصيل، ويشهد له ما أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما، وزعم بعضهم أن التخيير أقرب وكونه
بين الأغلظ والأهون بالنظر إلى الأشخاص والأزمنة فإن العقوبات
للانزجار وإصلاح الخلق، وربما يتفاوت الناس في الانزجار فوكل
ذلك إلى رأي الإمام وفيه تأمل فتأمل ذلِكَ أي ما فصل من
الأحكام والأجزية، وهو مبتدأ، وقوله تعالى: لَهُمْ خِزْيٌ جملة
من خبر مقدم ومبتدأ في محل رفع خبر للمبتدأ، وقوله سبحانه: فِي
الدُّنْيا متعلق بمحذوف وقع صفا لخزي، أو متعلق به على
الظرفية، وقيل: خِزْيٌ خبر- لذلك- ولَهُمْ متعلق بمحذوف وقع
حالا من خِزْيٌ لأنه في الأصل صفة له فلما قدم انتصب حالا،
وفِي الدُّنْيا إما صفة- لخزي- أو متعلق به كما مر آنفا والخزي
الذل والفضيحة وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ لا
يقادر قدره وذلك لغاية عظم جنايتهم واقتصر في الدنيا على الخزي
مع أن لهم فيها عذابا أيضا، وفي الآخرة على العذاب مع أن لهم
فيها خزيا أيضا لأن الخزي في الدنيا أعظم من عذابها، والعذاب
في الآخرة أشد من خزيها، والآية أقوى دليل لمن يقول إن الحدود
لا تسقط العقوبة في الآخرة، والقائلون بالإسقاط يستدلون
بقوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «من ارتكب شيئا
فعوقب به كان كفارة له»
فإنه يقتضي سقوط الإثم عنه وأن لا يعاقب في الآخرة، وهو مشكل
مع هذه الآية، وأجاب النووي بأن الحد يكفر به عنه حق الله
تعالى، وأما حقوق العباد فلا، وهاهنا حقان لله تعالى والعباد،
ونظر فيه إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا
عَلَيْهِمْ استثناء مخصوص بما هو من حقوق الله تعالى كما ينبئ
عنه قوله تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
وأما ما هو من حقوق العباد- كحقوق الأولياء من القصاص ونحوه-
فيسقط بالتوبة وجوبه على الإمام من حيث كونه حدّا، ولا يسقط
جوازه بالنظر إلى الأولياء من حيث كونه قصاصا، فإنهم إن شاؤوا
عفوا، وإن أحبوا استوفوا.
وقال ناصر الدين البيضاوي: إن القتل قصاصا يسقط بالتوبة وجوبه
لا جوازه، وشنع عليه لضيق عبارة العلامة ابن حجر في كتابه
التحفة، وأفرد له تنبيها فقال- بعد نقله- وهو عجيب، أعجب منه
سكوت شيخنا عليه في حاشيته مع ظهور فساده لأن التوبة لا دخل
لها في القصاص أصلا إذ لا يتصور بقيد كونه قصاصا حالتا وجوب
وجواز لأنا إن نظرنا إلى الولي فطلبه جائز له لا واجب مطلقا،
أو للإمام فإن طلبه منه الولي وجب وإلا لم يجب من حيث كونه
(3/290)
قصاصا، وإن جاز أو وجب من حيث كونه حدا
فتأمله انتهى.
وتعقبه ابن قاسم فقال: ادعاؤه الفساد ظاهر الفساد فإنه لم يدع
ما ذكر وإنما ادعى أن لها دخلا في صفة القتل قصاصا وهي وجوبه،
وقوله: إذ لا يتصور إلخ قلنا: لم يدع أن له حالتي وجوب وجواز
بهذا القيد بل ادعى أن له حالتين في نفسه- وهو صحيح- على أنه
يمكن أن يكون له حالتان بذلك القيد لكن باعتبارين، اعتبار
الولي واعتبار الإمام إذا طلب منه، وقوله: لأنا إذا نظرنا إلخ
كلام ساقط، ولا شك أن النظر إليهما يقتضي ثبوت الحالتين قصاصا،
وقوله: فتأمله تأملنا فوجدنا كلامه ناشئا من قلة التأمل انتهى.
وجعل مولانا شيخ الكل في الكل صبغة الله تعالى الحيدري منشأ
تشنيع العلامة ما يتبادر من العبارة من كونها بيانا لتفويض
القصاص إلى الأولياء أما لو جعلت بيانا لسقوط الحد في قتل قاطع
الطريق بالتوبة قبل القدرة دون القتل قصاصا فلا يرد التشنيع
فتدبر، وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة يدل على أنها بعد
القدرة لا تسقط الحد وإن أسقطت العذاب، وذهب أناس إلى أن الآية
في المرتدين لا غير لأن محاربة الله تعالى ورسوله إنما تستعمل
في الكفار،
وقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أنس أن نفرا من عكل قدموا على
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلموا واجتووا المدينة،
فأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يأتوا إبل الصدقة
فيشربوا من أبوالها وألبانها فقتلوا راعيها واستاقوها فبعث
النبي صلّى الله عليه وسلّم في طلبهم قافة فأتى بهم فقطع
أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا،
فأنزل الله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية،
وأنت تعلم أن القول بالتخصيص قول ساقط مخالف لإجماع من يعتد به
من السلف والخلف، ويدل على أن المراد قطاع الطريق من أهل الملة
قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا إلخ، ومعلوم أن المرتدين
لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما
تسقطها عنهم قبل القدرة، وقد فرق الله تعالى بين توبتهم قبل
القدرة وبعدها، وأيضا إن الإسلام لا يسقط الحد عمن وجب عليه.
وأيضا ليست عقوبة المرتدين كذلك، ودعوى أن المحاربة إنما
تستعمل في الكفار يردها أنه ورد في الأحاديث إطلاقها على أهل
المعاصي أيضا، وسبب النزول لا يصلح مخصصا فإن العبرة- كما
تقرر- بعموم اللفظ لا بخصوص السبب،
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وغيرهما عن الشعبي قال:
كان حارثة بن بدر التيمي من أهل البصرة قد أفسد في الأرض
وحارب، فكلم رجالا من قريش أن يستأمنوا له عليا فأبوا فأتى
سعيد بن قيس الهمداني فأتى عليا فقال: يا أمير المؤمنين ما
جزاء الذين يحاربون الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم
ويسعون في الأرض الفساد؟ قال: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع
أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ثم قال: إِلَّا
الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فقال
سعيد: وإن كان حارثة بن بدر؟ قال: وإن كان حارثة بن بدر، فقال:
هذا حارثة بن بدر قد جاء تائبا فهو آمن؟ قال: نعم، فجاء به
إليه فبايعه، وقبل ذلك منه وكتب له أمانا، وروي عن أبي موسى
الأشعري ما هو بمعناه،
ثم إن السمل الذي فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم
يفعله في غير أولئك،
وأخرج مسلم والبيهقي عن أنس أنه قال: إنما سمل رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء،
وأخرج ابن جرير عن الوليد بن مسلم قال: ذاكرت الليث بن سعد ما
كان من سمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعينهم وتركه حسمهم
حتى ماتوا، فقال: سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية
على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معاتبة في ذلك وعلمه صلّى
الله عليه وسلّم عقوبة مثلهم من القتل والصلب والقطع والنفي،
ولم يسمل بعدهم غيرهم،
قال: وكان هذا القول ذكره لأبي عمر فأنكر أن تكون نزلت معاتبة
وقال: بل كانت تلك عقوبة أولئك النفر بأعيانهم، ثم نزلت هذه
الآية عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم فرفع عنهم السمل.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا
إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا
ذُكِّرُوا بِهِ
(3/291)
فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ
وَالْبَغْضاءَ أي ألزمناهم ذلك لتخالف دواعي قواهم باحتجابهم
عن نور التوحيد وبعدهم عن العالم القدسي إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ أي إلى وقت قيامهم بظهور نور الروح، أو القيامة
الكبرى بظهور نور التوحيد وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما
كانُوا يَصْنَعُونَ وذلك عند الموت وظهور الخسران بظهور
الهيئات القبيحة المؤذية الراسخة فيهم يا أَهْلَ الْكِتابِ
قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ بحسب الدواعي
والمقتضيات كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ عن الناس في
أنفسكم مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ إذا لم تدع
إليه داعية قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ أبرزته العناية
الإلهية من مكامن العماء وَكِتابٌ خطه قلم الباري في صحائف
الإمكان جامعا لكل كمال، وهما إشارة إلى النبي صلّى الله عليه
وسلّم، ولذلك وحد الضمير في قوله سبحانه: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ
أي بواسطته مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ أي من أراد ذلك سُبُلَ
السَّلامِ وهي الطرق الموصلة إليه عز وجل.
وقد قال بعض العارفين: الطرق إلى الله تعالى مسدودة إلا على من
اتبع النبي صلّى الله عليه وسلّم وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ
الظُّلُماتِ وهي ظلمات الشك والاعتراضات النفسانية والخطرات
الشيطانية إِلَى النُّورِ وهو نور الرضا والتسليم
وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو طريق الترقي في
المقامات العلية، وقد يقال: الجملة الأولى إشارة إلى توحيد
الأفعال، والثانية إلى توحيد الصفات، والثالثة إلى توحيد الذات
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ
ابْنُ مَرْيَمَ فحصروا الألوهية فيه وقيدوا الإله بتعينه- وهو
الوجود المطلق- حتى عن قيد الإطلاق قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ
اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ
مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فإن كل ذلك
من التعينات والشؤون والله من ورائهم محيط وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أي عالم الأرواح
وعالم الأجساد وعالم الصور يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويظهر ما أراد
من الشؤون وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ
اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ فادّعوا بنوة الاسرار والقرب من حضرة
نور الأنوار، وقد قال ذلك قوم من المتقدمين كما مرت الإشارة
إليه، وقال ما يقرب من ذلك بعض المتأخرين، فقال الواسطي: ابن
الأزل والأبد لكن هؤلاء القوم لم يعرفوا الحقائق ولم يذوقوا
طعم الدقائق فرد الله تعالى دعواهم بقوله سبحانه: قُلْ فَلِمَ
يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ والأبناء والأحباب لا يذنبون
فيعذبون، أو لا يمتحنون إذ قد خرجوا من محل الامتحان من حيث
الأشباح بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ كسائر عباد الله
تعالى لا امتياز لكم عليهم بشيء كما تزعمون يَغْفِرُ لِمَنْ
يَشاءُ منهم فضلا وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ منهم عدلا وَإِذْ
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ
مُلُوكاً بالولاية ومعرفة الصفات، أو بسلطنة الوجد وقوة الحال
وعزة علم المعرفة، أو مالكين أنفسكم بمنعها عن غير طاعتي،
والملوك عندنا الأحرار من رق الكونين وما فيه وَآتاكُمْ ما
لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ أي عالمي زمانكم، ومنه
اجتلاء نور التجلي من وجه موسى عليه السلام يا قَوْمِ
ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ وهي حضرة القلب الَّتِي
كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ في القضاء السابق حسب الاستعداد وَلا
تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ في الميل إلى مدينة البدن،
والإقبال عليه بتحصيل لذاته فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ لتفويتكم
أنوار القلب وطيباته قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً
جَبَّارِينَ وهي صفات النفس وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى
يَخْرُجُوا مِنْها بأن يصرفهم الله تعالى بلا رياضة منا ولا
مجاهدة، أو يضعفوا عن الاستيلاء بالطبع فَإِنْ يَخْرُجُوا
مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ حينئذ قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ
يَخافُونَ سوء عاقبة ملازمة الجسم أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمَا بالهداية إلى الصراط السوي- وهما العقل النظري
والعقل العملي- ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ أي باب قرية
القلب- وهو التوكل بتجلي الأفعال- كما أن باب قرية الروح هو
الرضا فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ بخروجكم عن
أفعالكم وحولكم، ويدل على أن الباب هو التوكل قوله تعالى:
وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
بالحقيقة وهو الإيمان عن
(3/292)
حضور، وأقل درجاته تجلي الأفعال قالُوا يا
مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا أولئك الجبارين عنا
وأزيلاهم لتخلو لنا الأرض إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ أي ملازمون
مكاننا في مقام النفس معتكفون على الهوى واللذات قالَ
فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً
يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أي أرض الطبيعة، وذلك مدة بقائهم في
مقام النفس، وكان ينزل عليهم من سماء الروح نور عقد المعاش
فينتفعون بضوئه وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ القلب
اللذين هما هابيل العقل وقابيل الوهم إِذْ قَرَّبا قُرْباناً
وذلك كما قال بعض العارفين: إن توأمة العقل البوذا العاقلة
العملية المدبرة لأمر المعاش والمعاد بالآراء الصالحة المقتضية
للأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة المستنبطة لأنواع الصناعات
والسياسات، وتوأمة الوهم إقليميا القوة المتخيلة المتصرفة في
المحسوسات والمعاني الجزئية لتحصيل الآراء الشيطانية، فأمر آدم
القلب بتزوج الوهم توأمة العقل لتدبره بالرياضات الإذعانية
والسياسات الروحانية وتصاحبه بالقياسات العقلية البرهانية
فتسخره للعقل، وتزويج لعقل توأمة الوهم ليجعلها صالحة ويمنعها
عن شهوات التخيلات الفاسدة وأحاديث النفس الكاذبة ويستعمل فيما
ينفع فيستريح أبوها وينتفع، فحسد قابيل الوهم هابيل العقل لكون
توأمته أجمل عنده وأحب إليه لمناسبتها إياه فأمرا عند ذلك
بالقربان، فقربا قربانا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وهو هابيل
العقل بأن نزلت نار
من السماء فأكلته، والمراد بها العقل الفعال النازل من سماء
عالم الأرواح، وأكله إفاضته النتيجة على الصورة القياسية التي
هي قربان العقل وعمله الذي يتقرب به إلى الله تعالى وَلَمْ
يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ وهو قابيل الوهم إذ يمتنع قبول
الصورة الوهمية لأنها لا تطابق ما في نفس الأمر قالَ
لَأَقْتُلَنَّكَ لمزيد حسده بزيادة قرب العقل من الله تعالى
وبعده عن رتبة الوهم في مدركاته وتصرفاته، وقتله إياه إشارة
إلى منعه عن فعله وقطع مدد الروح ونور الهداية الإلهية- الذي
به الحياة- عنه بإيراد التشكيكات الوهمية والمعارضات في تحصيل
المطالب النظرية قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ الذين يتخذون الله تعالى وقاية، أو يحذرون
الهيئات المظلمة البدنية والأهواء المردية والتسويلات المهلكة
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا
بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ أي أني لا أبطل أعمالك
التي هي سديدة في مواضعها إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعالَمِينَ أي لأني أعرف الله سبحانه فأعلم أنه خلقك لشأن
وأوجدك لحكمة، ومن جملة ذلك أن أسباب المعاش لا تحصل إلا
بالوهم ولولا الأمل بطل العمل إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ
بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ أي بإثم قتلي وإثم عملك من الآراء
الباطلة فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وهي نار الحجاب
والحرمان وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ الواضعين للأشياء في
غير موضعها كما وضع الأحكام الحسية موضع المعقولات فَطَوَّعَتْ
لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ بمنعه عن أفعاله
الخاصة وحجبه عن نور الهداية فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ
لتضرره باستيلائه على العقل فإن الوهم إذا انقطع عن معاضدة
العقل حمل النفس على أمور تتضرر منها فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً
وهو غراب الحرص يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ أي أرض النفس
لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ وهو العقل المنقطع
عن حياة الروح المشوب بالوهم والهوى المحجوب عن عالمه في ظلمات
أرض النفس قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ
هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي بإخفائها في ظلمة
النفس فأنتفع بها فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ عند ظهور
الخسران وحصول الحرمان مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي
إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ
فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً
لأن الواحد مشتمل على ما يشتمل عليه جميع أفراد النوع، وقيام
النوع بالواحد كقيامه بالجميع في الخارج، ولا اعتبار بالعدد
فإن حقيقة النوع لا تزيد بزيادة الأفراد ولا تنقص بنقصها،
ويقال في جانب الأحياء مثل ذلك إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ
يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي أولياءهما وَيَسْعَوْنَ
فِي الْأَرْضِ فَساداً بتثبيط السالكين أَنْ يُقَتَّلُوا بسيف
الخذلان أَوْ يُصَلَّبُوا بحبل الهجران على جذع الحرمان أَوْ
تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ عن أذيال الوصال وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ
خِلافٍ عن الاختلاف والتردد إلى السالكين أَوْ يُنْفَوْا مِنَ
(3/293)
الْأَرْضِ
أي أرض القربة والائتلاف فلا يلتفت إليهم السالك ولا يتوجه لهم
ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ وهوان فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم جنايتهم، وقد جاء- أن الله
تعالى يغضب لأوليائه كما يغضب الليث الحرب، ومن آذى وليا فقد
آذنته بالمحاربة- نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدين
والدنيا والآخرة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ لما ذكر سبحانه جزاء المحارب وعظم جنايته- وأشار في
تضاعيف ذلك إلى مغفرته تعالى لمن تاب- أمر المؤمنين بتقواه عز
وجل في كل ما يأتون ويذرون بترك ما يجب اتقاؤه من المعاصي التي
من جملتها المحاربة والفساد، وبفعل الطاعة التي من عدادها
التوبة والاستغفار ودفع الفساد وَابْتَغُوا إِلَيْهِ أي اطلبوا
لأنفسكم إلى ثوابه والزلفى منه الْوَسِيلَةَ هي فعيلة بمعنى ما
يتوسل به ويتقرب إلى الله عز وجل من فعل الطاعات وترك المعاصي
من وسل إلى كذا أي تقرب إليه بشيء، والظرف متعلق بها وقدم
عليها للاهتمام وهي صفة لا مصدر حتى يمتنع تقدم معموله عليه،
وقيل: متعلق بالفعل قبله، وقيل: بمحذوف وقع حالا منها أي كائنة
إليه، ولعل المراد بها الاتقاء المأمور به كما يشير إليه كلام
قتادة، فإنه ملاك الأمر كله والذريعة لكل خير والمنجاة من كل
ضير، والجملة حينئذ جارية مما قبلها مجرى البيان والتأكيد،
وقيل: الجملة الأولى أمر بترك المعاصي، والثانية أمر بفعل
الطاعات، وأخرج ابن الأنباري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما أن الوسيلة الحاجة، وأنشد له قول عنترة:
إن الرجال لهم إليك وسيلة ... أن يأخذوك تكحلي وتخضبي
وكأن المعنى حينئذ اطلبوا متوجهين إليه حاجكم فإن بيده عز شأنه
مقاليد السماوات والأرض ولا تطلبوها متوجهين إلى غيره فتكونوا
كضعيف عاذ بقرملة، وفسر بعضهم- الوسيلة- بمنزلة في الجنة،
وكونها بهذا المعنى غير ظاهر لاختصاصها بالأنبياء عليهم الصلاة
والسلام بناء على ما
رواه مسلم وغيره «أنها منزلة في الجنة جعلها الله تعالى لعبد
من عباده وأرجو أن أكون أنا فاسألوا لي الوسيلة»
وكون الطلب هنا للنبي صلّى الله عليه وسلّم مما لا يكاد يذهب
إليه ذهن سليم، وعليه يمتنع تعلق الظرف بها كما لا يخفى،
واستدل بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين
وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد والقسم على الله
تعالى بهم بأن يقال: اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا،
ومنهم من يقول للغائب أو الميت من عباد الله تعالى الصالحين:
يا فلان ادع الله تعالى ليرزقني كذا وكذا، ويزعمون أن ذلك من
باب ابتغاء الوسيلة،
ويروون عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال- إذا أعيتكم
الأمور فعليكم بأهل القبور، أو فاستغيثوا بأهل القبور-
وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل.
وتحقيق الكلام في هذا المقام أن الاستغاثة بمخلوق وجعله وسيلة
بمعنى طلب الدعاء منه لا شك في جوازه إن كان المطلوب منه حيا
ولا يتوقف على أفضليته من الطالب بل قد يطلب الفاضل من
المفضول،
فقد صح أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر رضي الله تعالى عنه
لما استأذنه في العمرة: «لا تنسنا يا أخي من دعائك»
وأمره أيضا أن يطلب من أويس القرني رحمة الله تعالى عليه أن
يستغفر له، وأمر أمته صلّى الله عليه وسلّم بطلب الوسيلة له
كما مر آنفا وبأن يصلوا عليه، وأما إذا كان المطلوب منه ميتا
أو غائبا فلا يستريب عالم أنه غير جائز وأنه من البدع التي لم
يفعلها أحد من السلف، نعم السلام على أهل القبور مشروع
ومخاطبتهم جائزة
فقد صح أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يعلم أصحابه إذا زاروا
القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين وإنا
إن شاء الله تعالى بكم لاحقون يرحم الله تعالى المستقدمين منا
ومنكم والمستأخرين نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية، اللهم لا
تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم»
ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم- وهم أحرص
الخلق على كل خير- أنه طلب من ميت شيئا، بل قد صح عن ابن عمر
رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول إذا دخل الحجرة النبوية
زائرا: السلام عليك يا رسول الله السلام عليك
(3/294)
يا أبا بكر السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف
ولا يزيد على ذلك ولا يطلب من سيد العالمين صلّى الله عليه
وسلّم أو من ضجيعيه المكرمين رضي الله تعالى عنهما شيئا- وهم
أكرم من ضمته البسيطة وأرفع قدرا من سائر من أحاطت به الأفلاك
المحيطة- نعم الدعاء في هاتيك الحضرة المكرمة والروضة المعظمة
أمر مشروع فقد كانت الصحابة تدعو الله تعالى هناك مستقبلين
القبلة ولم يرد عنهم استقبال القبر الشريف عند الدعاء مع أنه
أفضل من العرش، واختلف الأئمة في استقباله عند السلام، فعن أبي
حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يستقبل بل يستدبر ويستقبل
القبلة، وقال بعضهم: يستقبل وقت السلام، وتستقبل القبلة
ويستدبر وقت الدعاء، والصحيح المعول عليه أنه يستقبل وقت
السلام وعند الدعاء تستقبل القبلة، ويجعل القبر المكرم عن
اليمين أو اليسار، فإذا كان هذا المشروع في زيارة سيد الخليقة
وعلة الإيجاد على الحقيقة صلّى الله عليه وسلّم، فماذا تبلغ
زيارة غيره بالنسبة إلى زيارته عليه الصلاة والسلام ليزاد فيها
ما يزاد، أو يطلب من المزور بها ما ليس من وظيفة العباد؟؟!
وأما القسم على الله تعالى بأحد من خلقه مثل أن يقال: اللهم
إني أقسم عليك أو أسألك بفلان إلا ما قضيت لي حاجتي، فعن ابن
عبد السلام جواز ذلك في النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه سيد
ولد آدم، ولا يجوز أن يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء
والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته، وقد نقل ذلك عنه
المناوي في شرحه الكبير للجامع الصغير، ودليله في ذلك ما
رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح عن عثمان بن حنيف رضي الله
تعالى عنه أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم
فقال: ادع الله تعالى أن يعافيني، فقال: إن شئت دعوت وإن شئت
صبرت فهو خير لك، قال: فادعه فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء
ويدعو بهذا الدعاء اللهم إني أسألك وأتوجه بنبيك صلّى الله
عليه وسلّم نبي الرحمة يا رسول الله إني توجهت بك إلى ربي في
حاجتي هذه لتقضي لي اللهم فشفعه في، ونقل عن أحمد مثل ذلك.
ومن الناس من منع التوسل بالذات والقسم على الله تعالى بأحد من
خلقه مطلقا وهو الذي يرشح به كلام المجد ابن تيمية ونقله عن
الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأبي يوسف وغيرهما من
العلماء الأعلام، وأجاب عن الحديث بأنه على حذف مضاف أي بدعاء
أو شفاعة نبيك صلّى الله عليه وسلّم، ففيه جعل الدعاء وسيلة-
وهو جائز- بل مندوب، والدليل على هذا التقدير
قوله في آخر الحديث: «اللهم فشفعه في»
بل في أوله أيضا ما يدل على ذلك، وقد شنع التاج السبكي- كما هو
عادته- على المجد، فقال: ويحسن التوسل والاستغاثة بالنبي صلّى
الله عليه وسلّم إلى ربه ولم ينكر ذلك أحد من السلف والخلف حتى
جاء ابن تيمية فأنكر ذلك وعدل عن الصراط المستقيم وابتدع ما لم
يقله عالم وصار بين الأنام مثلة انتهى.
وأنت تعلم أن الأدعية المأثورة عن أهل البيت الطاهرين وغيرهم
من الأئمة ليس فيها التوسل بالذات المكرمة صلّى الله عليه
وسلّم، ولو فرضنا وجود ما ظاهره ذلك فمؤول بتقدير مضاف كما
سمعت، أو نحو ذلك- كما تسمع إن شاء الله تعالى- ومن ادعى النص
فعليه البيان، وما
رواه أبو داود في سننه وغيره «من أن رجلا قال لرسول الله صلّى
الله عليه وسلّم: إنا نستشفع بك إلى الله تعالى ونستشفع بالله
تعالى عليك، فسبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى رئي ذلك
في وجوه أصحابه، فقال: ويحك أتدري ما الله تعالى؟ إن الله
تعالى لا يشفع به على أحد من خلقه شأن الله تعالى أعظم من ذلك»
لا يصلح دليلا على ما نحن فيه حيث أنكر عليه قوله:
«إنا نستشفع بالله تعالى عليك»
ولم ينكر عليه الصلاة والسلام قوله:
«نستشفع بك إلى الله تعالى»
لأن معنى الاستشفاع به صلّى الله عليه وسلّم طلب الدعاء منه،
وليس معناه الإقسام به على الله تعالى، ولو كان الإقسام معنى
للاستشفاع فلم أنكر النبي صلّى الله عليه وسلّم مضمون الجملة
الثانية دون الأولى؟ وعلى هذا لا يصلح الخبر ولا ما قبله دليلا
لمن ادعى جواز الإقسام بذاته صلّى الله عليه وسلّم حيا وميتا،
وكذا بذات غيره من الأرواح المقدسة مطلقا قياسا عليه عليه
الصلاة
(3/295)
والسلام بجامع الكرامة، وإن تفاوت قوة
وضعفا، وذلك لأن ما في الخبر الثاني استشفاع لا إقسام، وما في
الخبر الأول ليس نصا في محل النزاع، وعلى تقدير التسليم ليس
فيه إلا الإقسام بالحي والتوسل به، وتساوي حالتي حياته ووفاته
صلّى الله عليه وسلّم في هذا الشأن يحتاج إلى نص، ولعل النص
على خلافه، ففي صحيح البخاري عن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله
تعالى عنه- كان إذا قحطوا استسقى بالعباس رضي الله تعالى عنه،
فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك صلّى الله عليه وسلّم
فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون- فإنه لو
كان التوسل به عليه الصلاة والسلام بعد انتقاله من هذه الدار
لما عدلوا إلى غيره، بل كانوا يقولون: اللهم إنا نتوسل إليك
بنبينا فاسقنا، وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس إلى
التوسل بعمه العباس، وهم يجدون أدنى مساغ لذلك، فعدولهم هذا-
مع أنهم السابقون الأولون، وهم أعلم منا بالله تعالى ورسوله
صلّى الله عليه وسلّم، وبحقوق الله تعالى ورسوله عليه الصلاة
والسلام، وما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، وهم في وقت ضرورة
ومخمصة يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل
طريق- دليل واضح على أن المشروع ما سلكوه دون غيره.
وما ذكر من قياس غيره من الأرواح المقدسة عليه صلّى الله عليه
وسلّم مع التفاوت في الكرامة- الذي لا ينكره إلا منافق- مما لا
يكاد يسلم، على أنك قد علمت أن الإقسام به عليه الصلاة والسلام
على ربه عز شأنه حيا وميتا مما لم يقم النص عليه لا يقال: إن
في خبر البخاري دلالة على صحة الإقسام به صلّى الله عليه وسلّم
حيا وكذا بغيره كذلك، أما الأول فلقول عمر رضي الله تعالى عنه
فيه: كنا نتوسل بنبيك صلّى الله عليه وسلّم، وأما الثاني
فلقوله: إنا نتوسل بعم نبيك لما قيل: إن هذا التوسل ليس من باب
الإقسام بل هو من جنس الاستشفاع، وهو أن يطلب من الشخص الدعاء
والشفاعة، ويطلب من الله تعالى أن يقبل دعاءه وشفاعته، ويؤيد
ذلك أن العباس كان يدعو وهم يؤمنون لدعائه حتى سقوا، وقد ذكر
المجد أن لفظ التوسل بالشخص والتوجه إليه وبه فيه إجمال
واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه
الدعاء والشفاعة فيكون التوسل والتوجه في الحقيقة بدعائه
وشفاعته، وذلك مما لا محذور فيه، وأما في لغة كثير من الناس
فمعناه أن يسأل الله تعالى بذلك ويقسم به عليه- وهذا هو محل
النزاع- وقد علمت الكلام فيه، وجعل من الإقسام الغير المشروع
قول القائل- اللهم أسألك بجاه فلان- فإنه لم يرد عن أحد من
السلف أنه دعا كذلك، وقال: إنما يقسم به تعالى وبأسمائه وصفاته
فيقال: أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت يا الله، المنان
بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم،
وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم
يكن له كفوا أحد، وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك الحديث،
ونحو ذلك من الأدعية المأثورة، وما يذكره بعض العامة من
قوله صلّى الله عليه وسلّم:- إذا كانت لكم إلى الله تعالى حاجة
فاسألوا الله تعالى بجاهي فإن جاهي عند الله تعالى عظيم-
لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو شيء في كتب الحديث، وما رواه
القشيري عن معروف الكرخي قدس سره- أنه قال لتلامذته:
إن كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فأقسموا عليه بي فإني الواسطة
بينكم وبينه جل جلاله- الآن لا يوجد له سند يعول عليه عند
المحدثين، وأما ما
رواه ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه
وسلّم في دعاء الخارج إلى الصلاة اللهم إني أسألك بحق السائلين
عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا
سمعة ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أن تنقذني من النار
وأن تدخلني الجنة،
ففي سنده العوفي- وفيه ضعف- وعلى تقدير أن يكون من كلام النبي
صلّى الله عليه وسلّم يقال فيه: إن حق السائلين عليه تعالى أن
يجيبهم، وحق الماشين في طاعته أن يثيبهم، والحق بمعنى الوعد
الثابت المتحقق الوقوع فضلا لا وجوبا كما في قوله تعالى: كانَ
حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الروم: 47] ،
وفي الصحيح من حديث معاذ- حق الله تعالى على عباده أن يعبدوه
ولا يشركوا به شيئا، وحقهم عليه
(3/296)
إن فعلوا ذلك أن لا يعذبهم-
فالسؤال حينئذ بالإثابة والإجابة وهما من صفات الله تعالى
الفعلية، والسؤال بها مما لا نزاع فيه فيكون هذا السؤال
كالاستعاذة في
قوله صلّى الله عليه وسلّم «أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من
عقوبتك، وأعوذ بك منك»
فمتى صحت الاستعاذة بمعافاته صح السؤال بإثابته وإجابته.
وعلى نحو ذلك يخرج سؤال الثلاثة لله عز وجل بأعمالهم، على أن
التوسل بالأعمال معناه التسبب بها لحصول المقصود، ولا شك أن
الأعمال الصالحة سبب لثواب الله تعالى لنا، ولا كذلك ذوات
الأشخاص أنفسها، والناس قد أفرطوا اليوم في الإقسام على الله
تعالى، فأقسموا عليه عز شأنه بمن ليس في العير ولا النفير وليس
عنده من الجاه قدر قطمير، وأعظم من ذلك أنهم يطلبون من أصحاب
القبور نحو إشفاء المريض وإغناء الفقير ورد الضالة وتيسير كل
عسير، وتوحي إليهم شياطينهم خبر- إذا أعيتكم الأمور- إلخ، وهو
حديث مفترى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإجماع
العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء، ولا يوجد في شيء من
كتب الحديث المعتمدة، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم: عن-
اتخاذ القبور مساجد ولعن على ذلك- فكيف يتصور منه عليه الصلاة
والسلام الأمر بالاستغاثة والطلب من أصحابها؟! سبحانك هذا
بهتان عظيم.
وعن أبي يزيد البسطامي قدس سره أنه قال: استغاثة المخلوق
بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون، ومن كلام السجاد رضي الله
تعالى عنه أن طلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة في
عقله، ومن دعاء موسى عليه السلام- وبك المستغاث-
وقال صلّى الله عليه وسلّم لابن عباس رضي الله تعالى عنهما:
«إذا استعنت فاستعن بالله تعالى، الخبر،
وقال تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
[الفاتحة: 5] .
وبعد هذا كله أنا لا أرى بأسا في التوسل إلى الله تعالى بجاه
النبي صلّى الله عليه وسلّم عند الله تعالى حيا وميتا، ويراد
من الجاه معنى يرجع إلى صفة من صفاته تعالى، مثل أن يراد به
المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته، فيكون معنى قول
القائل: إلهي أتوسل بجاه نبيك صلّى الله عليه وسلّم أن تقضي لي
حاجتي، إلهي اجعل محبتك له وسيلة في قضاء حاجتي، ولا فرق بين
هذا وقولك: إلهي أتوسل برحمتك أن تفعل كذا إذ معناه أيضا إلهي
اجعل رحمتك وسيلة في فعل كذا، بل لا أرى بأسا أيضا بالإقسام
على الله تعالى بجاهه صلّى الله عليه وسلّم بهذا المعنى،
والكلام في الحرمة كالكلام في الجاه، ولا يجري ذلك- في التوسل
والإقسام بالذات- البحت، نعم لم يعهد التوسل بالجاه والحرمة عن
أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
ولعل ذلك كان تحاشيا منهم عما يخشى أن يعلق منه في أذهان الناس
إذ ذاك- وهم قريبو عهد بالتوسل بالأصنام- شيء، ثم اقتدى بهم من
خلفهم من الأئمة الطاهرين، وقد ترك رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم هدم الكعبة وتأسيسها على قواعد إبراهيم لكون القوم حديثي
عهد بكفر كما ثبت ذلك في الصحيح، وهذا الذي ذكرته إنما هو لدفع
الحرج عن الناس والفرار من دعوى تضليلهم- كما يزعمه البعض- في
التوسل بجاه عريض الجاه صلّى الله عليه وسلّم لا للميل إلى أن
الدعاء كذلك أفضل من استعمال الأدعية المأثورة التي جاء بها
الكتاب وصدحت بها ألسنة السنة، فإنه لا يستريب منصف في أن ما
علمه الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ودرج عليه
الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وتلقاه من بعدهم بالقبول
أفضل وأجمع وأنفع وأسلم، فقد قيل ما قيل إن حقا وإن كذبا «بقي
هاهنا أمران» الأول أن التوسل بجاه غير النبي صلّى الله عليه
وسلّم لا بأس به أيضا إن كان المتوسل بجاهه مما علم أن له جاها
عند الله تعالى كالمقطوع بصلاحه وولايته، وأما من لا قطع في
حقه بذلك فلا يتوسل بجاهه لما فيه من الحكم الضمني على الله
تعالى بما لم يعلم تحققه منه عز شأنه، وفي ذلك جرأة عظيمة على
الله تعالى، الثاني أن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى
من الأولياء الأحياء منهم والأموات
(3/297)
وغيرهم، مثل يا سيدي فلان أغثني، وليس ذلك
من التوسل المباح في شيء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك
وأن لا يحوم حول حماه، وقد عدّه أناس من العلماء شركا وأن لا
يكنه، فهو قريب منه ولا أرى أحدا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد
أن المدعو الحي الغائب أو الميت المغيب يعلم الغيب أو يسمع
النداء ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى وإلا
لما دعاه ولا فتح فاه، وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم، فالحزم
التجنب عن ذلك وعدم الطلب إلا من الله تعالى القوي الغني
الفعال لما يريد (1) ومن وقف على سر ما رواه الطبراني في معجمه
من أنه كان في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم منافق يؤذي
المؤمنين فقال الصديق رضي الله تعالى عنه: قوموا بنا نستغيث
برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من هذا المنافق فجاؤوا إليه،
فقال: إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله تعالى» لم يشك في أن
الاستغاثة بأصحاب القبور- الذين هم بين سعيد شغله نعيمه وتقلبه
في الجنان عن الالتفات إلى ما في هذا العالم، وبين شقي ألهاه
عذابه وحبسه في النيران عن إجابة مناديه والإصاخة إلى أهل
ناديه- أمر يجب اجتنابه ولا يليق بأرباب العقول ارتكابه، ولا
يغرنك أن المستغيث بمخلوق قد تقضى حاجته وتنجح طلبته فإن ذلك
ابتلاء وفتنة منه عز وجل، وقد يتمثل الشيطان للمستغيث في صورة
الذي استغاث به فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به، هيهات هيهات
إنما هو شيطان أضله وأغواه وزين له هواه، وذلك كما يتكلم
الشيطان في الأصنام ليضل عبدتها الطغام، وبعض الجهلة يقول: إن
ذلك من تطور روح المستغاث به، أو من ظهور ملك بصورته كرامة له
ولقد ساء ما يحكمون، لأن التطور والظهور وإن كانا ممكنين لكن
لا في مثل هذه الصورة وعند ارتكاب هذه الجريرة، نسأل الله
تعالى بأسمائه أن يعصمنا من ذلك، ونتوسل بلطفه أن يسلك بنا
وبكم أحسن المسالك وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ مع أعدائكم بما
أمكنكم.
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بنيل نعيم الأبد والخلاص من كل نكد
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا كلام مبتدأ مسوق لتأكيد وجوب
الامتثال بالأوامر السابقة، وترغيب المؤمنين في المسارعة إلى
تحصيل الوسيلة إليه عز شأنه قبل انقضاء أوانه، ببيان استحالة
توسل الكفار يوم القيامة بما هو من أقوى الوسائل إلى النجاة من
العذاب فضلا عن نيل الثواب لَوْ أَنَّ لَهُمْ أي لكل واحد منهم
كقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ [يونس:
54] إلخ، وفيه من تهويل الأمر وتفظيع الحال ما ليس في قولنا:
لجميعهم ما فِي الْأَرْضِ أي من أصناف أموالها وذخائرها وسائر
منافعها قاطبة، وهو اسم إِنَّ ولَهُمْ خبرها ومحلها الرفع
عندهم خلا أنه عند سيبويه رفع على الابتداء لا حاجة فيه إلى
الخبر لاشتمال صلتها على المسند والمسند إليه، وقد اختصت من
بين سائر ما يؤول بالاسم بالوقوع بعد لَوْ، وقيل:
الخبر محذوف ويقدر مقدما أو مؤخرا قولان، وعند الزجاج والمبرد
والكوفيين رفع على الفاعلية أي لو ثبت لهم ما في الأرض، وقوله
تعالى: جَمِيعاً توكيد للموصول أو حال منه، وقوله سبحانه:
وَمِثْلَهُ بالنصب عطف عليه، وقوله عز وجل: مَعَهُ ظرف وقع
حالا من المعطوف، والضمير راجع إلى الموصول، وفائدة التصريح
بفرض كينونتهما لهم بطريق المعية لا بطريق التعاقب تحقيقا
لكمال فظاعة الأمر، واللام في قوله تعالى: لِيَفْتَدُوا بِهِ
متعلقة بما تعلق به خبر إِنَّ وهو الاستقرار المقدر في لَهُمْ
وبالخبر المقدر عند من يراه، وبالفعل المقدر بعد لَوْ عند
الزجاج ومن نحا نحوه، قيل: ولا ريب في أن مدار الاقتداء بما
ذكر هو كونه لهم لا ثبوت كونه لهم وإن كان مستلزما له، والباء
في بِهِ متعلقة بالافتداء، والضمير راجع إلى الموصول
وَمِثْلَهُ مَعَهُ وتوحيده لكونهما بالمعية شيئا واحدا، أو
لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة كما مرت الإشارة إلى ذلك،
وقيل: هو راجع إلى الموصول، والعائد إلى
__________
(1) هذا هو الحق وهو أنه يجتنب ذلك مطلقا، وما مال إليه المصنف
قبل من الجواز هو رأي له غير مقبول فتنبه.
(3/298)
المعطوف- أعني مثله- مثله، وهو محذوف كما
حذف الخبر من قيار في قوله:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب
وقد جوز أن يكون نصب، ومثله على أنه مفعول مَعَهُ ناصبه الفعل
المقدر بعد لَوْ تفريعا على رأي الزجاج ومن رأى رأيه، وأمر
توحيد الضمير حينئذ ظاهر إذ حكم الضمير بعد المفعول معه
الإفراد، وأجاز الأخفش أن يعطى حكم المتعاطفين فيثنى الضمير،
وقال بعض النحاة: الصحيح جوازه على قلة. واعترض هذا الوجه أبو
حيان بأنه يصير التقدير مع مثله مَعَهُ، وإذا كان ما في الأرض
مع مثله كان مثله معه ضرورة، فلا فائدة في ذكر مَعَهُ معه
لملازمة معية كل منهما للآخر، وأجاب الطيبي بأن مَعَهُ على هذا
تأكيد، وقال السفاقسي: جوابه أن التقدير ليس كالتصريح، والواو-
متضمنة معنى مع، وإنما يقبح لو صرح- بمع- وكثيرا ما يكون
التقدير بخلاف التصريح، كقولهم: رب شاة وسخلتها، ولو صرحت-
برب- فقلت: ورب سخلتها لم يجز، وأجاب الحلبي بأن الضمير في
مَعَهُ عائد على مِثْلَهُ ويصير المعنى مع مثلين وهو أبلغ من
أن يكون مع مثل واحد، نعم أن كون العامل ثبت ليس بصحيح لأن
العامل في المفعول معه هو العامل في المصاحب له كما صرحوا به،
وهو هنا ما أو ضميرها، وشيء منهما ليس عاملا فيه ثبت المقدر،
وأما صحته على تقدير جعله لهم، أو متعلقه على ما قيل، فممتنع
أيضا على ما نقل عن سيبويه أنه قال: وأما هذا لك وأباك فقبيح،
لأنه لم يذكر فعل ولا حرف فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم
بالفعل، فإن فيه تصريحا بأن اسم الإشارة وحرف الجر والظرف لا
تعمل في المفعول معه، وقوله تعالى: مِنْ عَذابِ يَوْمِ
الْقِيامَةِ متعلق بالافتداء أيضا أي لو أن ما في الأرض ومثله
ثابت لهم ليجعلوه فدية لأنفسهم من العذاب الواقع ذلك اليوم.
ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ ذلك، وهو جواب لَوْ وترتيبه- كما قال
شيخ الإسلام- على ذلك لهم لأجل افتدائهم به من غير ذكر
الافتداء بأن يقال: وافتدوا به، مع أن الرد والقبول إنما يترتب
عليه لا على مبادئه للإيذان بأنه أمر محقق الوقوع غني عن
الذكر، وإنما المحتاج إلى الفرض قدرتهم على ما ذكر، أو
للمبالغة في تحقق الرد، وتخييل أنه وقع قبل الافتداء على منهاج
ما في قوله تعالى: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ
إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ
[النمل: 40] حيث لم يقل فأتى به فلما رآه إلخ، وما في قوله
سبحانه: وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ
أَكْبَرْنَهُ [يوسف: 31] من غير ذكر خروجه عليه السلام عليهن
ورؤيتهن له، وقال بعض الأفاضل: إنما لم يكتف بقوله: إن الذين
كفروا لو يفتدون بما في الأرض جميعا من عذاب يوم القيامة ما
تقبل منهم، لأن ما في النظم الكريم يفيد أنهم لو حصلوا ما في
الأرض ومثله معه لهذه الفائدة وكانوا خائفين من الله تعالى
وحفظوا الفدية وتفكروا في الافتداء ورعاية أسبابه- كما هو شأن
من هو بصدد أمر- ما تقبل منهم فضلا عن أن يكونوا غافلين عن
تحصيل الفدية وقصدوا الفدية فجأة، ولهذا لم يقل لو أن لهم ما
في الأرض جميعا ومثله معه ويفتدون به ما تقبل إلخ، والجملة
الامتناعية بحالها خبر إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وهي كناية عن
لزوم العذاب لهم وأنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه، فإن لزوم
العذاب من لوازمه أن ما في الأرض جميعا ومثله معه لو افتدوا به
لم يتقبل منهم، فلما كانت هذه الجملة، بل هذه الملازمة لازمة
للزوم العذاب عبر عنها بها، وأطلق بعضهم على هذه الجملة
تمثيلا، ولعل مراده- على ما ذكره القطب- ما ذكره، وقال بعض
المحققين: لا يريد به الاستعارة التمثيلية بل إيراد مثال وحكم
يفهم منه لزوم العذاب لهم، أي لم يقصد بهذا الكلام إثبات هذه
الشرطية بل انتقال الذهن منه إلى هذا المعنى، وبهذا الاعتبار
يقال له: كناية، ويمكن تنزيله على التمثيل الاصطلاحي بأن يقال:
إن حالهم في حال التفصي عن العذاب بمنزلة حال من يكون له ذلك
الأمر الجسيم ويحاول به التخلص من
(3/299)
|