روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا
كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ
يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ
تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا
يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ
الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ
قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ
سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ
هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ
يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ
شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ
يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ
فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ
أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ
يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا
حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا
أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا
التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا
النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا
وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ
كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا
النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا
قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ
فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ
وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ
بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ
كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
العذاب فلا يتقبل منه ولا يتخلص وَلَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ قيل: محله النصب على الحالية، وقيل: الرفع عطفا
على خبر إن، وقيل: إنه معطوف على إِنَّ الَّذِينَ فلا محل له
من الإعراب مثله، وفائدة الجملة التصريح بالمقصود من الجملة
الأولى لزيادة تقريره وبيان هوله وشدته، وقيل: إن المقصود بها
الإيذان بأنه كما لا يندفع بذلك عذابهم لا يخفف بل لهم بعد
عذاب في كمال الإيلام، وكذلك قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ
يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ فإنه لإفادة أنه كما لا يندفع بذلك
الافتداء عذابهم لا يندفع دوامه ولا ينفصل، وهو على ما تقدم
استئناف مسوق لبيان حالهم في أثناء مكابدة العذاب مبني على
سؤال نشأ مما قبله، كأنه قيل: فكيف يكون حالهم، أو ماذا
يصنعون؟ فقيل: يُرِيدُونَ إلخ، وقد بين في تضاعيفه أن عذابهم
عذاب النار، والإرادة قيل: على معناها الحقيقي المشهور، وذلك
أنهم يرفعهم لهب النار فيريدون الخروج وأنى به، وروي ذلك عن
الحسن، وقال الجبائي: الإرادة بمعنى التمني أي يتمنون ذلك.
وقيل: المعنى يكادون يخرجون منها لقوتها وزيادة رفعها إياهم،
وهذا كقوله تعالى: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ
يَنْقَضَّ [الكهف: 77] أي يكاد ويقارب، لا يقال: كيف يجوز أن
يريدوا الخروج من النار مع علمهم بالخلود؟ لأنا نقول: الهول
يومئذ ينسيهم ذلك، وعلى تقدير عدم النسيان يقال: العلم بعدم
حصول الشيء لا يصرف عن إرادته كما أن العلم بالحصول كذلك، فإن
الداعي إلى الإرادة حسن الشيء والحاجة إليه.
وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها إما حال من فاعل يُرِيدُونَ أو
اعتراض، وأيا ما كان فإيثار الجملة الاسمية على الفعلية مصدرة-
بما- الحجازية الدالة بما في حيزها من الباء على تأكيد النفي
لبيان كمال سوء حالهم باستمرار عدم خروجهم منها، فإن الجملة
الاسمية الإيجابية- كما مرت الإشارة إليه- كما تفيد بمعونة
المقام دوام الثبوت، تفيد السلبية أيضا بمعونة دوام النفي لا
نفي الدوام، وقرأ أبو واقد أَنْ يَخْرُجُوا بالبناء لما لم يسم
فاعله من الإخراج، ويشهد لقراءة الجمهور قوله تعالى:
بِخارِجِينَ دون بمخرجين، وهذه الآية كما ترى في حق الكفار،
فلا تنافي القول بالشفاعة لعصاة المؤمنين في الخروج منها كما
لا يخفى على من له أدنى إيمان.
وقد أخرج مسلم وابن المنذر وابن مردويه عن جابر بن عبد الله
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يخرج من النار قوم
فيدخلون الجنة، قال يزيد الفقير: فقلت لجابر: يقول الله تعالى:
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ
بِخارِجِينَ مِنْها قال: اتل أول الآية إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً
وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ ألا إنهم الذين كفروا،
وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس رضي
الله تعالى عنهما: تزعم أن قوما يخرجون من النار وقد قال الله
تعالى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها فقال ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما: ويحك اقرأ ما فوقها هذه للكفار، ورواية أنه قال
له: يا أعمى البصر أعمى القلب تزعم إلخ حكاها الزمخشري وشنع
إثرها على أهل السنة ورماهم بالكذب والافتراء، فحقق ما قيل:
رمتني بدائها وانسلت، ولسنا مضطرين لتصحيح هذه الرواية ولا وقف
الله تعالى صحة العقيدة على صحتها، فكم لنا من حديث صحيح شاهد
على حقيقة ما نقول وبطلان ما يقوله المعتزلة تبا لهم وَلَهُمْ
عَذابٌ مُقِيمٌ تصريح بما أشير إليه من عدم تناهي مدة العذاب
بعد بيان شدته أي عذاب دائم ثابت لا يزول ولا ينتقل أبدا.
(3/300)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُما شروع في بيان حكم السرقة الصغرى بعد بيان أحكام
الكبرى، وقد تقدم بيان اقتضاء الحال لإيراد ما توسط بينهما من
المقال، والكلام جملتان- عند سيبويه- إذ التقدير فيما يتلى
عليكم- السارق والسارقة- أي حكمهما، وجملة عند المبرد، وقرأ
عيسى بن عمر بالنصب، وفضلها سيبويه على قراءة العامة لأجل
الأمر- لأن زيدا فاضربه أحسن من زيد فاضربه- قاله الزمخشري،
واتبعه من تبعه ومنهم ابن الحاجب.
وتعقبه العلامة أحمد في الانتصاف بكلام كله محاسن فلا بأس في
نقله برمته، فنقول: قال فيه: المستقرأ من وجوه القراءات أن
العامة لا تتفق فيها أبدا على العدول عن الأفصح، وجدير بالقرآن
أن يحرز أفصح الوجوه وأن لا يخلو من الأفصح ويشتمل عليه كلام
العرب الذي لم يصل أحد منهم إلى ذروة فصاحته ولم يتعلق
بأهدابها، وسيبويه يحاشي من اعتقاد عراء القرآن عن الأفصح
واشتمال الشاذ الذي لا يعدّ من القرآن عليه، ونحن نورد الفصل
من كلام سيبويه على هذه الآية ليتضح لسامعه براءة سيبويه من
عهدة هذا النقل، قال سيبويه في ترجمة باب الأمر والنهي بعد أن
ذكر المواضع التي يختار فيها النصب، وملخصها: أنه متى بني
الاسم على فعل الأمر فذاك موضع اختيار النصب، ثم قال كالموضح
لامتياز هذه الآية عما اختار فيه النصب: وأما قوله عزّ وجلّ:
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما وقوله
تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور: 2] فإن
هذا لم يبن على الفعل ولكنه جاء على مثال قوله عزّ وجلّ:
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [محمد: 15] ثم
قال سبحانه بعد: فِيها أَنْهارٌ منها كذا، يريد سيبويه تمييز
هذه
(3/301)
الآي عن المواضع التي بين اختيار النصب
فيها، ووجه التمييز أن الكلام حيث يختار النصب يكون الاسم فيه
مبنيا على الفعل، وأما في هذه الآي فليس بمبني عليه فلا يلزم
فيه اختيار النصب، ثم قال: وإنما وضع المثل للحديث الذي ذكره
بعده فذكر أخبارا وقصصا، فكأنه قال: ومن القصص- مثل الجنة- فهو
محمول على هذا الإضمار والله تعالى أعلم، وكذلك الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي لما قال جل ثناؤه: سُورَةٌ أَنْزَلْناها
وَفَرَضْناها [النور: 1] قال جل وعلا في جملة الفرائض:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ثم جاء فَاجْلِدُوا بعد أن مضى فيهما
الرفع- يريد سيبويه- لم يكن الاسم مبنيا على الفعل المذكور
بعد، بل بني على محذوف متقدم، وجاء الفعل طارئا، ثم قال: كما
جاء- وقائلة: خولان- فانكح فتاتهم، فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه
المضمر، وكذلك وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فيما فرض عليكم
السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ وإنما دخلت هذه الأسماء بعد قصص
وأحاديث، وقد قرأ أناس السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ بالنصب وهو
في العربية على ما ذكرت لك من القوة، ولكن أبت العامة إلا
الرفع، يريد أن قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنيا على الفعل
غير معتمد على متقدم، فكان النصب قويا بالنسبة إلى الرفع، حيث
يبنى الاسم على الفعل لا على متقدم، وليس يعني أنه قوي بالنسبة
إلى الرفع، حيث يعتمد الاسم على المحذوف المتقدم، فإنه قد بين
أن ذلك يخرجه عن الباب الذي يختار فيه النصب، فكيف يفهم عنه
ترجيحه عليه، والباب مع القرائن مختلف، وإنما يقع الترجيح بعد
التساوي في الباب، فالنصب أرجح من الرفع حيث يبنى الاسم على
الفعل، والرفع متعين- لا أقول أرجح- حيث يبنى الاسم على كلام
متقدم، وإنما التبس على الزمخشري كلام سيبويه من حيث اعتقد أنه
باب واحد عنده، ألا ترى إلى قوله: لأن زيدا فاضربه أحسن من زيد
فاضرب، كيف رجح النصب على الرفع، حيث يبنى الكلام في الوجهين
على الفعل، وقد صرح سيبويه بأن الكلام في الآية مع الرفع مبني
على كلام متقدم، ثم حقق هذا المقدار بأن الكلام واقع بعد قصص
وأخبار، ولو كان كما ظنه الزمخشري لم يحتج سيبويه إلى تقدير،
بل كان يرفعه على الابتداء، ويجعل الأمر خبره- كما أعربه
الزمخشري- فالملخص- على هذا- أن النصب على وجه واحد، وهو بناء
الاسم على فعل الأمر، والرفع على وجهين: أحدهما ضعيف وهو
الابتداء، وبناء الكلام على الفعل، والآخر قوي بالغ كوجه
النصب، وهو رفعه على خبر ابتداء محذوف دل عليه السياق، وإذا
تعارض لنا وجهان في الرفع، أحدهما قوي والآخر ضعيف تعين حمل
القراءة على القوي كما أعربه سيبويه رحمه الله تعالى ورضي عنه
انتهى.
والفاء إذا بني الكلام على جملتين سببية لا عاطفة، وقيل: زائدة
وكذا على الوجه الضعيف، فإن المبتدأ متضمن معنى الشرط إذ
المعنى والذي سرق والتي سرقت، وزعم بعض المحققين أن مثل هذا
التركيب لا يتوجه إلا بأحد أمرين: زيادة الفاء كما نقل عن
الأخفش، أو تقدير إما لأن دخول الفاء في خبر المبتدأ إما
لتضمنه معنى الشرط، وإما لوقوع المبتدأ بعد أما، ولما لم يكن
الأول وجب الثاني ولا يخفى ما فيه، وعلى قراءة عيسى بن عمر
يكون النصب على إضمار فعل يفسره الظاهر، والفاء أيضا- كما قال
ابن جني- لما في الكلام من معنى الشرط، ولذا حسنت مع الأمر
لأنه بمعناه، ألا تراه جزم جوابه لذلك إذ معنى أسلم تدخل الجنة
إن تسلم تدخل الجنة، والمراد كما يشير إليه بعض شروح الكشاف إن
أردتم حكم السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا إلخ، ولذا لم
يجز زيدا فضربته لأن الفاء لا تدخل في جواب الشرط إذا كان
ماضيا، وتقديره إن أردتم معرفة إلخ أحسن من تقديره إن قطعتم
لأن لا يدل على الوجوب المراد، وقال أبو حيان: إن الفاء في
جواب أمر مقدر أي تنبه لحكمهما فَاقْطَعُوا، وقيل: إنما دخلت
الفاء لأن حق المفسر أن يذكر عقب المفسر كالتفصيل بعد الإجمال
في قوله تعالى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 54] وليس بشيء، وبما ذكر صاحب الانتصاف
يعلم فساد ما قيل: إن سبب الخلاف السابق في
(3/302)
مثل هذا التركيب أن سيبويه والخليل يشترطان
في دخول الفاء الخبر كون المبتدأ موصولا بما يقبل مباشرة أداة
الشرط، وغيرهما لا يشترط ذلك، والظاهر أن سبب هذا عدم الوقوف
على المقصود فليحفظ، والسرقة أخذ مال الغير خفية، وإنما توجب
القطع إذا كان الأخذ من حرز، والمأخوذ يساوي عشرة دراهم فما
فوقها، مع شروط تكفلت ببيانها الفروع، ومذهب الشافعي والأوزاعي
وأبي ثور والإمامية رضي الله تعالى عنهم أن القطع فيما يساوي
ربع دينار فصاعدا، وقال بعضهم: لا تقطع الخمس إلا بخمسة دراهم،
واختاره أبو علي الجبائي، قيل: يجب القطع في القليل والكثير-
وإليه ذهب الخوارج- والمراد بالأيدي الأيمان- كما روي عن ابن
عباس والحسن والسدي وعامة التابعين رضوان الله عليهم أجمعين-
ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه- أيمانهما- ولذلك
ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما في قوله: فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُما [التحريم: 4] اكتفاء بتثنية المضاف إليه كذا
قالوا، قال الزجاج: وحقيقة هذا الباب أن ما كان في الشيء منه
واحد لم يثن، ولفظ به على الجمع لأن الإضافة تبينه، فإذا قلت:
أشبعت بطونهما علم أن للاثنين بطنين فقط.
وفرع الطيبي عليه عدم استقامة تشبيه ما في الآية هنا بما في
الآية الأخرى لأن لكل من السارق يدين فيجوز الجمع، وأن تقطع
الأيدي كلها من حيث ظاهر اللغة، وكذا قال أبو حيان، وفيه نظر
لأن الدليل قد دل على أن المراد من اليد يد مخصوصة وهي اليمين
فجرت مجرى القلب والظهر واليد اسم لتمام العضو، ولذلك ذهب
الخوارج إلى أن المقطع هو المنكب، والإمامية على
أنه يقطع من أصول الأصابع ويترك له الإبهام والكف، ورووه عن
علي كرم الله تعالى وجهه،
واستدلوا عليه أيضا بقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة: 79] إذ لا شك في
أنهم إنما يكتبونه بالأصابع، وأنت تعلم أن هذا لا يتم به
الاستدلال على ذلك المدعى، وحال روايتهم أظهر من أن تخفى،
والجمهور على أن المقطع هو الرسغ،
فقد أخرج البغوي وأبو نعيم في معرفة الصحابة من حديث الحارث بن
أبي عبد الله بن أبي ربيعة «أنه عليه الصلاة والسلام أتي بسارق
فأمر بقطع يمينه منه»
والمخاطب بقوله سبحانه:
فَاقْطَعُوا على ما في البحر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو
ولاة الأمور كالسلطان، ومن أذن له في إقامة الحدود، أو القضاة
والحكام، أو المؤمنون أقوال أربعة، ولم تدرج السارقة في السارق
تغليبا كما هو المعروف في أمثاله لمزيد الاعتناء بالبيان
والمبالغة في الزجر جَزاءً نصب على أنه مفعول له أي فاقطعوا
للجزاء، أو على أنه مصدر- لاقطعوا- من معناه، أو لفعل مقدر من
لفظه، وجوز أن يكون حالا من فاعل- اقطعوا- مجازين لهما بِما
كَسَبا بسبب كسبهما، أو ما كسباه من السرقة التي تباشر بالأيدي
وقوله تعالى: نَكالًا مفعول له أيضا- كما قال أكثر المعربين-
وقال السمين: منصوب كما نصب جَزاءً، واعترض الوجه الأول بأنه
ليس بجيد لأن المفعول له لا يتعدد بدون عطف واتباع لأنه على
معنى اللام، فيكون كتعلق حرفي جر بمعنى بعامل واحد وهو ممنوع،
ودفع بأن النكال نوع من الجزاء فهو بدل منه، وقال الحلبي وبعض
المحققين: إنه إنما ترك العطف إشعارا بأن القطع للجزاء والجزاء
للنكال والمنع عن المعاودة، وعليه يكون مفعولا له متداخلا
كالحال المتداخلة، وبه أيضا يندفع الاعتراض وهو حسن، وقال عصام
الملة:
إنما لم يعطف لأن العلة مجموعهما- كما في هذا خلو حامض-
والجزاء إشارة إلى أن فيه حق العبد، والنكال إشارة إلى أن فيه
حق الله تعالى، ولا يخفى ما فيه فتأمل، ونقل عن بعض النحاة أنه
أجاز تعدد المفعول له بلا أتباع وحينئذ لا يرد السؤال رأسا،
وقوله تعالى: مِنَ اللَّهِ متعلق بمحذوف وقع صفة لنكالا أي
نكالا كائنا منه تعالى وَاللَّهُ عَزِيزٌ في شرع الردع حَكِيمٌ
في إيجاب القطع، أو عَزِيزٌ في انتقامه من السارق وغيره من أهل
المعاصي حَكِيمٌ في فرائضه وحدوده، والإظهار في مقام الإضمار
لما مر غير مرة.
(3/303)
ومن الغريب أنه نقل عن أبيّ رضي الله تعالى
أنه قرأ- والسرق والسرقة- بترك الألف وتشديد الراء، فقال ابن
عطية: إن هذه القراءة تصحيف لأن السارق والسارقة قد كتبا في
المصحف بدون الألف، وقيل في توجيهها: إنهما جمع سارق وسارقة،
لكن قيل: إنه لم ينقل هذا الجمع في جمع المؤنث، فلو قيل: إنهما
صيغة مبالغة لكان أقرب، واعترض- الملحد- المعري على وجوب قطع
اليد بسرقة القليل، فقال:
يد بخمس مئين عسجد وديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار
تحكم: ما لنا إلا السكوت له ... وأن نعوذ بمولانا من النار
فأجابه- ولله دره- علم الدين السخاوي بقوله:
عز الأمانة: أغلاها وأرخصها ... ذل الخيانة، فافهم حكمة الباري
وفي الأحكام لابن عربي أنه كان جزاء السارق في شرع من قبلنا
استرقاقه، وقيل: كان ذلك إلى زمن موسى عليه الصلاة والسلام
ونسخ، فعلى الأول شرعنا ناسخ لما قبله، وعلى الثاني مؤكد للنسخ
فَمَنْ تابَ من السرّاق إلى الله تعالى مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ
الذي هو سرقته، والتصريح بذلك لبيان عظم نعمته تعالى بتذكير
عظم جنايته وَأَصْلَحَ أمره بالتفصي عن التبعات بأن يرد مال
السرقة إن أمكن أو يستحل لنفسه من مالكه أو ينفقه في سبيل الله
تعالى إن جهله، وقيل: المعنى وفعل الفعل الصالح الجميل بأن
استقام على التوبة كما هو المطلوب منه فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ
عَلَيْهِ يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة، وأما القطع فلا
يسقطه التوبة عندنا لأن فيه حق المسروق منه، ويسقطه عند
الشافعي رضي الله تعالى عنه في أحد قوليه، ولا يخفى ما في هذه
الجملة من ترغيب العاصي بالتوبة، وأكد ذلك بقوله سبحانه: إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وهو في موضع التعليل لما قبله، وفيه
إشارة إلى أن قبول التوبة تفضل منه تعالى أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الخطاب
للنبي صلّى الله عليه وسلّم، أو لكل أحد يصلح له، واتصاله بما
قبله على ما قاله الطبرسي: اتصال الحجاج، والبيان عن صحة ما
تقدم من الوعد والوعيد، وقال شيخ الإسلام: المراد به الاستشهاد
بذلك على قدرته تعالى- على ما سيأتي- من التعذيب والمغفرة على
أبلغ وجه وأتمه أي ألم تعلم أن الله تعالى له السلطان القاهر
والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي
فيهما وفيما اشتملا عليه إيجادا وإعداما إحياء وإماتة إلى غير
ذلك حسبما تقتضيه مشيئته، والجار والمجرور خبر مقدم، ومُلْكُ
السَّماواتِ مبتدأ، والجملة خبر أَنَّ وهي مع ما في حيزها سادّ
مسدّ مفعولي «تعلم» عند الجمهور، وتكرير الإسناد لتقوية الحكم،
وقوله تعالى: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ
إما تقرير لكون ملكوت السماوات والأرض له سبحانه، وإما خبر
آخر- لأن- وكان الظاهر
لحديث «سبقت رحمتي غضبي»
تقديم المغفرة على التعذيب، وإنما عكس هنا لأن التعذيب للمصر
على السرقة، والمغفرة للتائب منها، وقد قدمت السرقة في الآية
أولا ثم ذكرت التوبة بعدها فجاء هذا اللاحق على ترتيب السابق،
أو لأن المراد بالتعذيب القطع، وبالمغفرة التجاوز عن حق الله
تعالى، والأول في الدنيا، والثاني في الآخرة، فجيء به على
ترتيب الوجود أو لأن المقام مقام الوعيد، أو لأن المقصود وصفه
تعالى بالقدرة، والقدرة في تعذيب من يشاء أظهر من القدرة في
مغفرته لأنه لا إباء في المغفرة من المغفور، وفي التعذيب إباء
بين وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على ما ذكر من
التعذيب والمغفرة، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها، ووجه
الإظهار كالنهار يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ
الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ خوطب صلّى الله عليه
وسلّم بعنوان الرسالة للتشريف والإشعار بما يوجب عدم الحزن،
والمراد بالمسارعة في الشيء الوقوع فيه بسرعة ورغبة، وإيثار
كلمة فِي على- إلى- للإيذان بأنهم مستقرون في الكفر لا يبرحون،
وإنما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه وأحكامه
(3/304)
إلى بعض آخر منها، كإظهار موالاة المشركين
وإبراز آثار الكيد للإسلام ونحو ذلك.
والتعبير عنهم بالموصول للإشارة بما في حيز صلته إلى مدار
الحزن، وهذا وإن كان بحسب الظاهر نهيا للكفرة عن أن يحزنوه
صلّى الله عليه وسلّم بمسارعتهم في الكفر- لكنه في الحقيقة نهي
له عليه الصلاة والسلام عن التأثر من ذلك والمبالاة، والغرض
منه مجرد التسلية على أبلغ وجه وآكده، فإن النهي عن أسباب
الشيء ومبادئه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني وقطع له
من أصله.
وقرىء «يحزنك» بضم الياء وكسر الزاي من أحزن وهي لغة، وقرىء
«يسرعون» يقال أسرع فيه الشيب أي وقع فيه سريعا أي لا تحزن ولا
تبال بتهافتهم في الكفر بسرعة حذرا- كما قيل- من شرهم
وموالاتهم للمشركين فإن الله تعالى ناصرك عليهم، أو شفقة عليهم
حيث لم يوفقوا للهداية فإن الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من
يشاء مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ بيان
للمسارعين في الكفر، وقال أبو البقاء: إنه متعلق بمحذوف وقع
حالا من فاعل يُسارِعُونَ أو من الموصول أي كائنين مِنَ
الَّذِينَ إلخ، والباء متعلقة- بقالوا- لا- بآمنا- لظهور فساده
وتعلقها به على معنى- بذي أفواههم- أي يؤمنون بما يتفوهون به
من غير أن تلتف به قلوبهم مما لا ينبغي أن يلتفت إليه من له
أدنى تمييز وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ جملة حالية من ضمير
قالُوا، وقيل: عطف على قالُوا وقوله سبحانه وتعالى:
وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا عطف على مِنَ الَّذِينَ قالُوا وبه تم
تقسيم المسارعين إلى قسمين: منافقين ويهود، فقوله سبحانه
وتعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ خبر مبتدأ محذوف أي هم
سَمَّاعُونَ، والضمير للفريقين أو للذين يسارعون، وجوز أن
يكون- للذين هادوا- واعترض بأنه مخل بعموم الوعيد الآتي
ومباديه للكل- كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى- وكذا جعل غير
واحد وَمِنَ الَّذِينَ إلخ خبرا على أن سَمَّاعُونَ صفة لمبتدأ
محذوف، أي ومنهم قوم سماعون لأدائه إلى اختصاص ما عدد من
القبائح وما يترتب عليها من الغوائل الدنيوية والأخروية بهم،
على أنه قد قرىء- سماعين- بالنصب على الذم وهو ظاهر في أرجحية
العطف، فالوجه ذلك، واللام للتقوية كما في قوله تعالى:
فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [هود: 107، البروج: 16] وقيل: لتضمين
السماع معنى القبول أي قابلون لما يفتريه الأحبار من الكذب على
الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وتحريف كتابه، واعترضه
الشهاب بأن هذا يقتضي أنه إنما فسر بالقبول ليعديه اللام.
وقد قال الزجاج: يقال: لا تسمع من فلان أي لا تقبل، ومنه سمع
الله لمن حمده أي تقبل منه حمده، وكلام الجوهري يخالفه أيضا،
ويقتضي أنه ليس مبنيا على التضمين، وقال عصام الملة: إن القبول
أيضا متعد بنفسه ففي القاموس: قبله- كعمله- وتقبله بمعنى أخذه،
نعم يتعدى السماع بمعنى القبول باللام بمعنى من، كما في- سمع
الله لمن حمده- أي قبل الله تعالى ممن حمده، لكن هذه اللام
تدخل على المسموع منه لا المسموع.
وجوز أن تكون اللام للعلة، والمفعول محذوف أي سماعون كلامك
ليكذبوا عليك فيه بأن يمسخوه بالزيادة والنقصان والتبديل
والتغيير، أو كلام الناس الدائر فيما بينهم ليكذبوا بأن يرجفوا
بقتل المؤمنين وانكسار سراياهم، أو نحو ذلك مما فيه ضرر بهم،
وأيا ما كان فالجملة مستأنفة جارية- على ما قيل- مجرى التعليل
للنهي، أو مسوقة لمجرد الذم كما يقتضيه قراءة النصب، وقوله
تعالى شأنه: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ خبر
ثان للمبتدأ المقدر للأول، ومبين لما هو المراد بالكذب على
تقدير التقوية والتضمين، واللام هنا مثلها في- سمع الله لمن
حمده- والمعنى مبالغون في قبول كلام قوم آخرين، واختاره شيخ
الإسلام.
(3/305)
وجوز كونها لام التعليل أي سماعون كلامه
صلّى الله عليه وسلّم الصادر منه ليكذبوا عليه لأجل قوم آخرين،
والمراد أنهم عيون عليه عليه الصلاة والسلام لأولئك القوم،
وروي ذلك عن الحسن والزجاج واختاره أبو علي الجبائي، وليس في
النظم ما يأباه ولا بعد فيه، نعم ما قيل: من أنه يجوز أن تتعلق
اللام بالكذب على أن سَمَّاعُونَ الثاني مكرر للتأكيد بمعنى
سماعون ليكذبوا لقوم آخرين بعيد، وآخَرِينَ صفة لِقَوْمٍ وجملة
لَمْ يَأْتُوكَ صفة أخرى، والمعنى لم يحضروا عندك، وقيل: هو
كناية عن أنهم لم يقدروا أن ينظروا إليك، وفيه دلالة على شدة
بغضهم له صلّى الله عليه وسلّم، وفرط عداوتهم، واحتمال كونها
صفة سَمَّاعُونَ أي سَمَّاعُونَ لم يقصدوك بالإتيان بل قصدوا
السماع للإنهاء إلى قوم آخرين مما لا ينبغي أن يلتفت إليه،
وقوله سبحانه وتعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ
مَواضِعِهِ صفة أخرى لِقَوْمٍ وصفوا أولا بمغايرتهم للسماعين
تنبيها على استقلالهم وأصالتهم في الرأي، ثم بعدم حضورهم مجلس
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إيذانا بكمال طغيانهم في
الضلال، أو بعدم قدرتهم على النظر إليه عليه الصلاة والسلام
إيذانا بما تقدم ثم باستمرارهم على التحريف بيانا لإفراطهم في
العتو والمكابرة والاجتراء على الله تعالى، وتعيينا للكذب الذي
سمعه السماعون على بعض الوجوه كما هو الظاهر، وقيل: الجملة
مستأنفة لا محل لها من الإعراب ناعية عليهم شنائعهم، وقيل: خبر
مبتدأ محذوف راجع إلى القوم، وقيل: إلى الفريقين، والمعنى
يميلون ويزيلون التوراة، أو كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم
أو كليهما أو مطلق الكلم في قول عن المواضع التي وضع ذلك فيها
إما لفظا بإهماله، أو تغيير وضعه، وإما معنى بحمله على غير
المراد وإجرائه في غير مورده.
ومن هنا يعلم توجيه قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ دون عن
مواضعه، وقال عصام الملة: إن إدراج لفظ بَعْدِ للتنبيه على
تنزيل الكلم منزلة هي أدنى مما وضعت فيه لأنه إبطال النافع
بالضار لا بالنافع أو الأنفع، فكأن المحرف واقف في موضع هو
أدنى من موضع الكلمة يحرفها إلى موضعه، ولا يخفى بعده، وقال
بعضهم: إن مِنَ للابتداء، ولفظ بَعْدِ للإشارة إلى أن التحريف
مما بعد إلى موضع أبعد، وفيه من المبالغة في التشنيع ما لا
يخفى، وقرأ إبراهيم- يحرفون الكلام (1) عن مواضعه- وقوله
سبحانه وتعالى: يَقُولُونَ كالجملة السابقة في الوجوه، ويجوز
أن تكون حالا من ضمير يُحَرِّفُونَ وجوز كونها كالتي قبلها
صفة- لسماعون- أو حالا من الضمير فيه، وتعقبه شيخ الإسلام بأنه
مما لا سبيل إليه أصلا كيف لا وأن مقول القول ناطق بأن قائله
ممن لا يحضر مجلس الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمخاطب به ممن
يحضره، فكيف يمكن أن يقوله السماعون المترددون إليه عليه
الصلاة والسلام لمن لا يحوم حول حضرته قطعا، وادعاء قول
السماعين لأعقابهم المخالطين للمسلمين تعسف ظاهر مخل بجزالة
النظم الكريم، فالحق الذي لا محيد عنه- وعليه درج غالب
المفسرين- أن المحرفين والقائلين هم القوم الآخرون أي يقولون
لأتباعهم السماعين لهم إِنْ أُوتِيتُمْ من جهة الرسول صلّى
الله عليه وسلّم كما هو الظاهر هذا فَخُذُوهُ واعملوا بموجبه
فإنه موافق للحق وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ من جهته بل أوتيتم
غيره فَاحْذَرُوا قبوله وإياكم وإياه، أو فاحذروا رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم، وفي ترتيب الأمر بالحذر على مجرد عدم
إيتاء المحرف من المبالغة والتحذير ما لا يخفى،
أخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما أنه قال: إن طائفتين من اليهود قهرت إحداهما
الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته
العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا، وكل قتيل قتلته الذليلة
من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدم رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم المدينة فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم
رسول الله
__________
(1) قوله: «عن مواضعه» كذا بخط مؤلفه وحرر قراءة إبراهيم.
(3/306)
صلّى الله عليه وسلّم ورسول الله صلّى الله
عليه وسلّم يومئذ لم يظهر عليهم، فقتلت الذليلة من العزيزة
قتيلا، وأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق،
فقالت الذليلة: وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد ونسبهما
واحد وبلدهما واحد ودية بعضهم نصف دية بعض إنما أعطيناكم هذا
ضيما منكم لنا وقوة منكم، فأما إذ قدم محمد صلّى الله عليه
وسلّم فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهما ثم ارتضوا على
أن جعلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهما ففكرت العزيزة
فقال: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ولقد
صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيما وقهرا لهم، فدسوا إلى محمد صلّى
الله عليه وسلّم من يخبر لكم رأيه فإن أعطاكم ما تريدون
حكمتموه وإن لم يعطكموه حذرتموه فلم تحكموه، فدسوا إلى رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم ناسا من المنافقين ليختبروا لهم رأي
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما جاؤوا رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم أخبر الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام
بأمرهم كله وماذا أرادوا فأنزل يا أَيُّهَا الرَّسُولُ الآية،
وعلى هذا يكون أمر التحريف غير ظاهر الدخول في القصة.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه عن
أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت
المدارس حين قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة- وقد زنى
رجل بعد إحصانه بامرأة من يهود وقد أحصنت- فقالوا: ابعثوا بهذا
الرجل وبهذه المرأة إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم فاسألوه كيف
الحكم فيهما وولوه الحكم فيهما، فإن عمل فيهما عملكم من
التجبية- وهي الجلد بحبل من ليف مطلي بقار- ثم تسود وجوههما،
ثم يحملان على حمارين وجوههما من قبل دبر الحمار فاتبعوه،
فإنما هو ملك سيد قوم وإن حكم فيهما بغيره فإنه نبي فاحذروه
على ما في أيديكم أن يسلبكم إياه، فأتوه فقالوا: يا محمد هذا
رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت فاحكم فيهما فقد وليناك
الحكم فيهما، فمشى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أتى
أحبارهم في بيت المدارس فقال: يا معشر يهود اخرجوا إلى علمائكم
فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا وأبا ياسر بن أخطب ووهب بن
يهود، فقالوا: هؤلاء علماؤنا، فسألهم رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم، ثم حصل أمرهم إلى أن قالوا لعبد الله بن صوريا: هذا
أعلم من بقي بالتوراة، فخلا به رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم- وكان غلاما شابا من أحدثهم سنا- فألظ به رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم المسألة يقول: يا ابن صوريا أنشدك الله تعالى
وأذكرك أيامه عند بني إسرائيل هل تعلم أن الله تعالى حكم فيمن
زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟ فقال: اللهم نعم، أما والله
يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك نبي مرسل ولكنهم يحسدونك، فخرج
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمر بهما فرجما عند باب مسجده
ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا وجحد نبوة رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الرَّسُولُ إلخ.
وأخرج الحميدي في مسنده وأبو داود وابن ماجة عن جابر بن عبد
الله أنه قال: «زنى رجل من أهل فدك فكتبوا إلى ناس من اليهود
بالمدينة أن سلوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فإن أمركم
بالجلد فخذوه عنه وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه، فسألوه عن
ذلك فقال: أرسلوا إلى أعلم رجلين منكم، فجاؤوا برجل أعور يقال
له ابن صوريا وآخر، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لهما:
أليس عندكما التوراة فيها حكم الله تعالى؟ قالا: بلى، قال:
فأنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وظلل عليكم الغمام
ونجاكم من آل فرعون وأنزل التوراة على موسى عليه السلام وأنزل
المنّ والسلوى على بني إسرائيل ما تجدون في التوراة في شأن
الرجم، فقال أحدهما للآخر: ما أنشدت بمثله قط قالا: نجد ترداد
النظر ريبة والاعتناق ريبة والقبل ريبة، فإذا شهد أربعة أنهم
رأوه بيدي ويعيد كما يدخل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم،
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو كذلك فأمر به فرجم.
وفي جريان الإحصان الشرعي الموجب للرجم في الكافر ما هو مذكور
في الفروع، ولعل هذا عند من يشترط الإسلام- كالإمام أبي حنيفة
رضي الله تعالى عنه- كان على اعتبار شريعة موسى عليه الصلاة
والسلام، أو كان قبل نزول الجزية فليتدبر وَمَنْ يُرِدِ
اللَّهُ فِتْنَتَهُ أي عذابه كما روي عن الحسن وقتادة، واختاره
الجبائي وأبو مسلم، أو
(3/307)
إهلاكه كما روي عن السدي والضحاك، أو خزيه
وفضيحته بإظهار ما ينطوي عليه كما نقل عن الزجاج، أو اختياره
بما يبتليه به من القيام بحدوده فيدفع ذلك ويحرفه- كما قيل-
وليس بشيء، والمراد العموم ويندرج فيه المذكورون اندراجا
أوليا، وعدم التصريح بكونهم كذلك للإشعار بظهوره واستغنائه عن
الذكر فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ فلن تستطيع له مِنَ اللَّهِ
شَيْئاً في دفع تلك الفتنة، والفاء جوابية، ومِنَ اللَّهِ
متعلق- بتملك- أو بمحذوف وقع حالا من شَيْئاً لأنه صفته في
الأصل أي شيئا كائنا من لطف الله تعالى، أو بدل الله عز اسمه،
وشَيْئاً مفعول به- لتملك- وجوز بعض المعربين أن يكون مفعولا
مطلقا. والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها، أو مبينة لعدم انفكاك
أولئك عن القبائح المذكورة أبدا أُولئِكَ أي المذكورون من
المنافقين واليهود، وما في اسم الإشارة من معنى البعد لما مرت
الإشارة إليه مرارا، وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه: الَّذِينَ
لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ من رجس الكفر
وخبث الضلالة، والجملة استئنافية مبينة لكون إرادته تعالى
لفتنتهم منوطة بسوء اختيارهم المقتضي لها لا واقعة منه سبحانه
ابتداء، وفيها- كالتي قبلها على أحد التفاسير- دليل على فساد
قول المعتزلة: إن الشرور ليست بإرادة الله تعالى وإنما هي من
العباد، وقول بعضهم: إن المراد لم يرد تطهير قلوبهم من الغموم
بالذم والاستخفاف والعقاب، أو لم يرد أن يطهرها من الكفر
بالحكم عليها بأنها بريئة منه ممدوحة بالإيمان- كما قال
البلخي- لا يقدم عليه من له أدنى ذوق بأساليب الكلام.
ومن العجيب أن الزمخشري لما رأى ما ذكر خلاف مذهبه قال: معنى-
من يرد الله فتنته- من يرد تركه مفتونا وخذلانه فَلَنْ
تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فلن تستطيع له من لطف الله
تعالى وتوفيقه شيئا، ومعنى لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ
قُلُوبَهُمْ لم يرد أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم
لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أن ذلك لا ينجع فيهم ولا ينفع
انتهى.
وقد تعقبه ابن المنير بقوله: كم يتلجلج والحق أبلج، هذه الآية
كما تراها منطبقة على عقيدة أهل السنة في أن الله تعالى أراد
الفتنة من المفتونين ولم يرد أن يطهر قلوبهم من دنس الفتنة
ووضر الكفر، لا كما تزعم المعتزلة من أن الله تعالى ما أراد
الفتنة من أحد، وأراد من كل أحد الإيمان وطهارة القلب، وأن
الواقع من الفتن على خلاف إرادته سبحانه وأن غير الواقع من
طهارة قلوب الكفار مراد ولكن لم يقع، فحسبهم هذه الآية
وأمثالها لو أراد الله تعالى أن يطهر قلوبهم من وضر البدع
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ
أَقْفالُها [محمد: 24] ، وما أشنع صرف الزمخشري هذه الآية عن
ظاهرها بقوله: لم يرد الله تعالى أن يمنحهم ألطافه لعلمه أن
ألطافه لا تنجح تعالى الله سبحانه عما يقول الظالمون، وإذا لم
تنجع ألطاف الله تعالى ولم تنفع، فلطف من ينفع؟! وإرادة من
تنجع؟! وليس وراء الله للعبد مطمع انتهى، وتفصيهم عن ذلك عسير
لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أما المنافقون فخذيهم فضيحتهم
وهتك سترهم بظهور نفاقهم بين المسلمين، وازدياد غمهم بمزيد
انتشار الإسلام وقوة شوكته وعلو كلمته، وأما خزي اليهود فالذل
والجزية والافتضاح بظهور كذبهم في كتمان نص التوراة. وإجلاء
بني النضير من ديارهم، وتنكير خِزْيٌ للتفخيم وهو مبتدأ
ولَهُمْ خبره، وفِي الدُّنْيا متعلق بما تعلق به الخبر من
الاستقرار، والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ من أحوالهم
الموجبة للعقاب، كأنه قيل: فما لهم على ذلك من العقوبة؟ فقيل:
لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وكذا الحال في قوله تعالى:
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي مع الخزي الدنيوي عَذابٌ عَظِيمٌ
لا يقادر قدره وهو الخلود في النار مع أعد لهم فيها، وضمير
لَهُمْ في الجملتين- لأولئك- من المنافقين واليهود جميعا،
وقيل: لليهود خاصة، وقيل: لَهُمْ إن استأنفت بقوله سبحانه:
وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا وإلا فللفريقين،
(3/308)
والتكرير مع اتحاد المرجع لزيادة التقرير
والتأكيد، ولذلك كرر قوله سبحانه: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ،
وقيل: إن الظاهر أنه تعليل لقوله تعالى: لَهُمْ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ إلخ. أو توطئة لما بعده، أو المراد بالكذب هنا الدعوى
الباطلة وفيما مر ما يفتريه الأحبار، ويؤيده الفصل بينهما.
أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي الحرام من سحته إذا استأصلته، وسمي
الحرام سحتا- عند الزجاج- لأنه يعقب عذاب الاستئصال والبوار،
وقال الجبائي: لأنه لا بركة فيه لأهله فيهلك هلاك الاستئصال
غالبا، وقال الخليل: لأن في طريق كسبه عارا فهو يسحت مروءة
الإنسان، والمراد به هنا- على المشهور- الرشوة في الحكم، وروي
ذلك عن ابن عباس والحسن.
وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم: كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، قيل: يا
رسول الله وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم»
وأخرج عبد الرزاق عن جابر بن عبد الله قال: «قال رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم: هدايا الأمراء سحت»
وأخرج ابن المنذر عن مسروق قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله
تعالى عنه: أرأيت الرشوة في الحكم أمن السحت هي؟ قال: لا، ولكن
كفر، إنما السحت أن يكون للرجل عند السلطان جاه ومنزلة، ويكون
للآخر إلى السلطان حاجة فلا يقضي حاجته حتى يهدي إليه هدية،
وأخرج عبد بن حميد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه سئل عن
السحت فقال: الرشا، فقيل له في الحكم، قال: ذاك الكفر، وأخرج
البيهقي في سننه عن ابن مسعود نحو ذلك،
وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم: ست خصال من السحت:
رشوة الإمام- وهي أخبث ذلك كله- وثمن الكلب وعسب الفحل ومهر
البغي وكسب الحجام وحلوان الكاهن» ،
وعدّ ابن عباس رضي الله تعالى عنه في رواية ابن منصور والبيهقي
عنه أشياء أخر.
قيل: ولعظم أمر الرشوة اقتصر عليها من اقتصر،
وجاء من طرق عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أنه لعن الراشي
والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما» .
ولتفاقم الأمر في هذه الأزمان بالارتشاء صدر الأمر من حضرة
مولانا- ظل الله تعالى على الخليقة ومجدد نظام رسوم الشريعة
والحقيقة- السلطان العدلي محمود خان لا زال محاطا بأمان الله
تعالى- حيثما كان في السنة الرابعة والخمسين بعد الألف
والمائتين- بمؤاخذة المرتشي وأخويه على أتم وجه، وحد للهدية
حدا لئلا يتوصل بها إلى الارتشاء كما يفعله اليوم كثير من
الأمراء،
فقد أخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ستكون من بعدي ولاة يستحلون
الخمر بالنبيذ، والنجش بالصدقة، والسحت بالهدية، والقتل
بالموعظة يقتلون البريء ليوطئوا العامة يملي لهم فيزدادوا
إثما» .
هذا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب «السحت» بضمتين،
وهما لغتان- كالعنق والعنق.
وقرىء «السحت» بفتح السين على لفظ المصدر أريد به المسحوت
كالصيد بمعنى المصيد، و «السحت» بفتحتين و «السحت» بكسر السين
فَإِنْ جاؤُكَ خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والفاء فصيحة
أي إذا كان حالهم كما شرح فَإِنْ جاؤُكَ متحاكمين إليك فيما
شجر بينهم من الخصومات فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بما أراك الله
تعالى أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ غير مبال بهم ولا مكترث، وهذا
كما ترى تخيير له صلّى الله عليه وسلّم بين الأمرين، وهو معارض
لقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ
وتحقيق المقام على ما ذكر الجصاص- في كتاب الأحكام- أن العلماء
اختلفوا، فذهب قوم إلى أن التخيير منسوخ بالآية الأخرى، وروي
ذلك عن ابن عباس، وإليه ذهب أكثر السلف: قالوا: إنه صلّى الله
عليه وسلّم كان أولا مخيرا، ثم أمر عليه الصلاة والسلام بإجراء
الأحكام عليهم، ومثله لا يقال من قبل الرأي، وقيل: إن هذه
الآية فيمن لم
(3/309)
يعقد له ذمة، والأخرى في أهل الذمة فلا
نسخ، وأثبته بعضهم بمعنى التخصيص لأن من أخذت منه الجزية تجري
عليه أحكام الإسلام، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه
أيضا.
وقال أصحابنا: أهل الذمة محمولون على أحكام الإسلام في البيوع
والمواريث وسائر العقود إلا في بيع الخمر والخنزير فإنهم يقرون
عليه، ويمنعون من الزنا كالمسلمين فإنهم نهوا عنه، ولا يرجمون
لأنهم غير محصنين، وخبر الرجم السابق سبق توجيهه، واختلف في
مناكحتهم، فقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: يقرون عليها،
وخالفه- في بعض ذلك- محمد وزفر، وليس لنا عليهم اعتراض قبل
التراضي بأحكامنا، فمتى تراضوا بها وترافعوا إلينا وجب إجراء
الأحكام عليهم، وتمام التفصيل في الفروع وَإِنْ تُعْرِضْ
عَنْهُمْ بيان لحال الأمرين بعد تخييره صلّى الله عليه وسلّم
بينهما، وتقديم حال الإعراض للمسارعة إلى بيان أنه لا ضرر فيه
حيث كان مظنة لترتب العداوة المقتضية للتصدي للضرر، فمآل
المعنى إن تعرض عنهم ولم تحكم بينهم فعادوك وقصدوا ضررك فَلَنْ
يَضُرُّوكَ بسبب ذلك شَيْئاً من الضرر فإن الله تعالى يحفظك من
ضررهم وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي
بالعدل الذي أمرت به، وهو ما تضمنه القرآن واشتملت عليه شريعة
الإسلام، وما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه من أنه قال:- لو
ثنيت لي الوسادة لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل
بإنجيلهم- إن صح يراد منه لازم المعنى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ أي العادلين فيحفظهم عن كل مكروه ويعظم شأنهم
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها
حُكْمُ اللَّهِ تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به، والحال أن
الحكم منصوص عليه في كتابهم الذي يدعون الإيمان به، وتنبيه على
أن ذلك التحكيم لم يكن لمعرفة الحق وإنما هو لطلب الأهون، وإن
لم يكن ذلك حكم الله تعالى بزعمهم فقوله سبحانه:
وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ حال من فاعل يُحَكِّمُونَكَ، وقوله
تعالى: فِيها حُكْمُ اللَّهِ حال من التوراة إن جعلت مرتفعة
بالظرف وكون ذلك ضعيفا لعدم اعتماد الظرف سهو لأنه معتمد- كما
قال السمين- على ذي الحال لكن قال: جعل التوراة- مرفوعا بالظرف
المصدر بالواو- محل نظر، ولعل وجهه أنها تجعله جملة مستقلة غير
معتمدة، أو أنه لا يقرن بالواو، وإن جعلت مبتدأ فهو حال من
ضميرها المستكن في الخبر لأنه لا يصح مجيء الحال من المبتدأ عن
سيبويه.
وقيل: استئناف مسوق لبيان أن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم،
وأنثت التوراة معاملة لها- بعد التعريب- معاملة الأسماء
العربية الموازنة لها- كموماة ودوداة- ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ عطف
على يُحَكِّمُونَكَ داخل في حكم التعجيب لأن التحكيم مع وجود
ما فيه الحق المغني عن التحكيم، وإن كان محلا للتعجب
والاستبعاد لكن مع الإعراض عن ذلك أعجب، وثُمَّ للتراخي في
الرتبة، وجوز الأجهوري كون الجملة مستأنفة غير داخلة في حكم
التعجيب أي ثم هم يتولون أي عادتهم فيما إذا وضح لهم الحق أن
يعرضوا ويتولوا، والأول أولى، وقوله سبحانه: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
أي من بعد أن يحكموك تصريح بما علم لتأكيد الاستبعاد والتعجب،
وقوله عز وجل: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ تذييل مقرر
لفحوى ما قبله، ووضع اسم الإشارة موضع ضميرهم قصدا إلى إحضارهم
في الذهن بما وصفوا به من القبائح إيماء إلى علة الحكم مع
الإشارة إلى أنهم قد تميزوا بذلك عن غيرهم أكمل تميز حتى
انتظموا في سلك الأمور المشاهدة، أي وَما أُولئِكَ الموصوفون
بما ذكر بِالْمُؤْمِنِينَ بكتابهم لإعراضهم عنه المنبئ عن عدم
الرضا القلبي به أولا وعن حكمك الموافق له ثانيا، أو بك وبه،
وقيل: هذا إخبار منه تعالى عن أولئك اليهود أنهم لا يؤمنون
بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وبحكمه أصلا.
وقيل: المعنى- وما أولئك بالكاملين في الإيمان- تهكما بهم
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ كلام مستأنف سيق لتقرير مزيد
فظاعة حال أولئك اليهود ببيان علو شأن التوراة على أتم وجه
فِيها هُدىً أي إرشاد للناس إلى الحق وَنُورٌ
(3/310)
أي ضياء يكشف به ما تشابه عليهم وأظلم-
قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه-.
وقال الزجاج: فِيها هُدىً أي بيان للحكم الذي جاؤوا يستفتون
فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم وَنُورٌ أي بيان أن أمر النبي
عليه الصلاة والسلام حق، ولعل تعميم المهدي إليه كما في كلام
ابن عباس أولى، ويندرج فيه اندراجا أوليا ما ذكره الزجاج من
الحكم، وإطلاق النور على ما في التوراة مجاز، ولعل إطلاقه على
ذلك دون إطلاقه على القرآن بناء على أن النور مقول بالتشكيك،
وقد يقال: إن إطلاقه على ما به بيان أمر النبي صلّى الله عليه
وسلّم- بناء على ما قال الزجاج- باعتبار كون الأمر المبين
متعلقا بأول الأنوار الذي لولاه ما خلق الفلك الدوار صلّى الله
عليه وسلّم، وحينئذ يكون الفرق بين الإطلاقين مثل الصبح ظاهرا،
والظرف خبر مقدم، وهُدىً مبتدأ، والجملة حال من التَّوْراةَ أي
كائنا فيها ذلك، وكذا جملة يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ في
قول إلا أنها حال مقدرة، والأكثرون على أنها مستأنفة مبينة
لرفعة رتبة التوراة وسمو طبقتها، والمراد من النبيين من كان
منهم من لدن موسى إلى عيسى عليهما الصلاة والسلام على ما رواه
ابن أبي حاتم عن مقاتل، وكان بين النبيين عليهما السلام ألف
نبي.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن المراد بهم نبينا صلّى الله عليه
وسلّم ومن قبله من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام، وعلى هذا
بني الاستدلال بالآية من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم
ينسخ، وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر غير مرة،
والمراد يحكم بأحكامها النبيون الَّذِينَ أَسْلَمُوا صفة أجريت
على النبيين- كما قيل- على سبيل المدح، والظاهر لهم، ونظر فيه
ابن المنير بأن المدح إنما يكون غالبا بالصفات الخاصة التي
يتميز بها الممدوح عمن دونه، والإسلام أمر عام يتناول أمم
الأنبياء ومتبعيهم كما يتناولهم، ألا ترى أنه لا يحسن في مدح
النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقتصر على كونه رجلا مسلما فإن
أقل متبعيه كذلك، ثم قال: فالوجه- والله تعالى أعلم- أن الصفة
قد تذكر لتعظم في نفسها، ولينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر،
كما تذكر تنويها بقدر موصوفها، وعلى هذا الأسلوب جرى وصف
الأنبياء عليهم السلام بالصلاح في غير ما آية تنويها بمقدار
الصلاح إذ جعل صفة للأنبياء عليهم السلام، وبعثا لآحاد الناس
على الدأب في تحصيل صفته، وكذلك قيل في قوله تعالى: الَّذِينَ
يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا [غافر: 7] ، فأخبر سبحانه عن الملائكة المقربين
بالإيمان تعظيما لقدره، وبعثا للبشر على الدخول فيه ليساووا
الملائكة المقربين في هذه الصفة، وإلا فمن المعلوم أن الملائكة
مؤمنون ليس إلا، كيف لا؟! وهم- عند ربهم- كما في الخبر، ثم قال
جل وعلا: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني من البشر
لثبوت حق الأخوة في الإيمان بين القبيلتين، فلذلك- والله تعالى
أعلم- جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويها به، ولقد
أحسن القائل: أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف، وحسان الناظم في
مدحه عليه الصلاة والسلام بقوله:
ما إن مدحت محمدا بمقالتي ... لكن مدحت مقالتي بمحمد
والإسلام- وإن كان من أشرف الأوصاف، إذ حاصله معرفة الله تعالى
بما يجب له ويستحيل عليه ويجوز في حكمه- إلا أن النبوة أشرف
وأجل لاشتمالها على عموم الإسلام مع خواص المواهب التي لا
تسعها العبارة فلو لم نذهب إلى الفائدة المذكورة في ذكر
الإسلام بعد النبوة لخرجنا عن قانون البلاغة المألوف في الكتاب
العزيز وفي كلام العرب الفصيح، وهو الترقي من الأدنى إلى
الأعلى لا النزول على العكس، ألا ترى أن أبا الطيب كيف تزحزح
عن هذا المهيع في قوله:
شمس ضحاها هلال ليلتها ... در مقاصيرها زبرجدها
فنزل عن الشمس إلى الهلال، وعن الدر إلى الزبرجد فمضغت الألسن
عرض بلاغته ومزقت أديم صنعته؟ فعلينا
(3/311)
أن نتدبر الآيات المعجزات حتى يتعلق فهمنا
بأهداب علوها في البلاغة المعهودة لها، والله تعالى الموفق
للصواب انتهى.
وفي المفتاح: والتخليص إشارة إلى ما ذكره، وإيراد الطيبي عليه
ما أورده غير طيب، نعم قد يقال: إن القائل بكونها مادحة لمن
جرت عليه نفسه قد يدعي أن ذلك مما لا بأس به إذا قصد مع المدح
فوائد أخر كالتنويه بعلو مرتبة المسلمين هنا والتعريض باليهود
بأنهم بمعزل عن الإسلام، على أنه قد ورد في الفصيح- بل في
الأفصح- ذكر غير الأبلغ بعد الأبلغ من الصفات، ومن ذلك
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: 1 وغيرها] حيث كان متضمنا
نكتة، وقال عصام الملة: إن الإسلام للنبي كمال المدح لأن
الانقياد من المقتدي للخلائق التي لا تحصى وصف لا وصف فوقه،
ويمكن أن يكون الوصف به هنا إشعارا بمنشأ الحكم ليحافظ عليه
الأمة ولا يخرم، ولا يتوهم أن الحكم للنبوة، فغير النبي صلّى
الله عليه وسلّم خارج عن هذا المسلك انتهى، وفيه تأمل، إذ
الترقي من الأدنى إلى الأعلى لم يظهر بعد، ونهاية الأمر الرجوع
إلى نحو ما تقدم فافهم لِلَّذِينَ هادُوا أي تابوا من الكفر-
كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه- والمراد بهم اليهود-
كما قال الحسن- والجار إما متعلق- بيحكم- أي يحكمون فيما
بينهم، واللام إما لبيان اختصاص الحكم بهم أعم من أن يكون لهم
أو عليهم، كأنه قيل: لأجل الذين هادوا، وإما للإيذان بنفعه
للمحكوم عليه أيضا بإسقاط التبعة عنه، وإما للإشعار بكمال
رضاهم به وانقيادهم له كأنه أمر نافع لكلا الفريقين ففيه تعريض
بالمحرفين، وقيل: من باب سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل:
81] وإما متعلق- بأنزلنا- ولعل الفاصل ليس بالأجنبي ليضر،
وقيل: بأنزل على صيغة المبني للمفعول، وحذف لدلالة الكلام
عليه، وتكون الجملة حينئذ معترضة، وعلى هذا تكون الآية نصا في
تخصيص النبيين بأنبياء بني إسرائيل لأنه لا يلزم من إنزالها
لهم اختصاصها بهم، وقيل: الجار متعلق- بهدى ونور- وفيه فصل بين
المصدر ومعموله، وقيل: متعلق بمحذوف وقع صفة لهما أي هُدىً
وَنُورٌ كائنان لهما، وكلام الزجاج يحتمل هذا وما قبله
وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ أي العباد والعلماء قاله
قتادة، وقال مجاهد:
الرَّبَّانِيُّونَ العلماء الفقهاء وهم فوق الأحبار، وعن ابن
زيد الرَّبَّانِيُّونَ الولاة، وَالْأَحْبارُ العلماء،
والواحد:
حبر بالفتح والكسر، قال الفراء: وأكثر ما سمعت فيه الكسر، وهو
مأخوذ من التحبير والتحسين، فإن العلماء يحبرون العلم ويزينونه
ويبينونه، ومن ذلك الحبر- بكسر الحاء لا غير- لما يكتب به،
وهذا عطف على «النبيون» أي هم أيضا يحكمون بأحكامها، وتوسيط
المحكوم لهم- كما قال شيخ الإسلام- بين المتعاطفين للإيذان بأن
الأصل في الحكم بها، وحمل الناس على ما فيها هم النبيون، وإنما
الربانيون والأحبار خلفاء ونواب لهم في ذلك كما ينبئ عنه قوله
تعالى: بِمَا اسْتُحْفِظُوا أي بالذي استحفظوه من جهة النبيين
وهو التوراة حيث سألوهم أن يحفظوها من التغيير والتبديل على
الإطلاق، ولا ريب في أن ذلك منهم عليهم السلام مشعر باستخلافهم
في إجراء أحكامها من غير إخلال بشيء منها، والجار متعلق
«بيحكم» ، وما موصولة، وضمير الجمع عائد إلى الربانيين
والأحبار، وقوله تعالى:
مِنْ كِتابِ اللَّهِ بيان- لما- وفي الإبهام والبيان بذلك ما
لا يخفى من تفخيم أمر التوراة ذاتا وإضافة، وفيه أيضا تأكيد
إيجاب حفظها والعمل بما فيها، والباء الداخلة على الموصول
سببية فلا يلزم تعلق حرفي جر متحدي المعنى بفعل واحد أي ويحكم
الربانيون والأحبار أيضا بالتوراة بسبب ما حفظوه مِنْ كِتابِ
اللَّهِ حسبما وصاهم به أنبياؤهم وسألوهم أن يحفظوه، وليس
المراد بسببيته لحكمهم ذلك سببيته من حيث الذات بل من حيث كونه
محفوظا، فإن تعليق حكمهم بالموصول مشعر بسببية الحفظ المترتب
لا محالة على ما في حيز الصلة من الاستحفاظ له، وتوهم بعضهم أن
ما بمعنى أمر، ومِنْ لتبيين مفعول محذوف- لاستحفظوا- والتقدير
بسبب أمر اسْتُحْفِظُوا به
(3/312)
شيئا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وهو مما لا ينبغي
أن يخرج عليه كتاب الله تعالى، وقيل: الأولى أن تجعل ما مصدرية
ليستغني عن تقدير العائد، وحينئذ لا يتأتى القول بأن مِنْ بيان
لها، ومن الناس من جوز كون بِمَا بدلا من بها، وأعيد الجار
لطول الفصل وهو جائز أيضا وإن لم يطل، ومنهم من أرجع الضمير
المرفوع للنبيين ومن عطف عليهم، فالمستحفظ حينئذ هو الله
تعالى، وحديث الأنباء لا يتأتى إذ ذاك، وقيل: إن
الرَّبَّانِيُّونَ فاعل بفعل محذوف، والباء صلة له، والجملة
معطوفة على ما قبلها، أي ويحكم الربانيون والأحبار بحكم كتاب
الله تعالى الذي سألهم أنبياؤهم أن يحفظوه من التغيير وَكانُوا
عَلَيْهِ شُهَداءَ عطف على اسْتُحْفِظُوا ومعنى شُهَداءَ رقباء
يحمونه من أن يحوم حول حماه التغيير والتبديل بوجه من الوجوه،
أو شُهَداءَ عليه أنه حق.
ورجح على الأول بأنه يلزم عليه أن يكون الرَّبَّانِيُّونَ
وَالْأَحْبارُ رقباء على أنفسهم لا يتركونها أن تغير وتحرف
التوراة لأن المحرف لا يكون إلا منهم لا من العامة، وهو كما
ترى ليس فيه مزيد معنى، وإرجاع ضمير كانُوا للنبيين مما لا
يكاد يجوز، وقيل: عطف على يَحْكُمُ المحذوف المراد منه حكاية
الحال الماضية أي حكم الربانيون والأحبار بكتاب الله تعالى.
وكانوا شهداء عليه، ويجوز على هذا- بلا خفاء- أن تكون الشهادة
مستعارة للبيان أي مبينين ما يخفى منه، وأمر التعدي بعلى سهل،
ولعل المراد به شيء وراء الحكم، وقيل: الضمير المرفوع هنا
كسابقه عائد على النبيين وما عطف عليه، والعطف إما على
اسْتُحْفِظُوا أو على يَحْكُمُ وتوهم عبارة البعض- حيث قال
وبسبب كونهم شهداء- أن العطف على- ما- الموصولة فيؤوّل كانُوا
بالمصدر، وكأن المقصود منه تلخيص المعنى لكون ما ذكر ضعيفا
فيما لا يكون المعطوف عليه حدثا، وأما العطف على كتاب الله
بتقدير حرف مصدري ليكون المعطوف داخلا تحت الطلب فكما ترى،
وإرجاع ضمير عَلَيْهِ إلى حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم
بالرجم كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه مما تأباه
العربية في بعض الاحتمالات، وهو وإن جاز عربية في البعض الآخر
لكنه خلاف الظاهر ولا قرينة عليه، ولعل مراد الحبر بيان بعض ما
تضمنه الكتاب الذي هم شهداء عليه، وبالجملة احتمالات هذه الآية
كثيرة فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم
بطريق الالتفات كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه والسدي
والكلبي، ويتناول النهي غير أولئك المخاطبين بطريق الدلالة،
والفاء لجواب شرط محذوف أي إذا كان الشأن كما ذكر يا أيها
الأحبار فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ كائنا من كان، واقتدوا في
مراعاة أحكام التوراة وحفظها بمن قبلكم من النبيين والربانيين
والأحبار، ولا تعدلوا عن ذلك ولا تحرفوا خشية من أحد
وَاخْشَوْنِ في ترك أمري فإن النفع والضر بيدي، أو في الإخلال
بحقوق مراعاتها فضلا عن التعرض لها بسوء وَلا تَشْتَرُوا
بِآياتِي أي لا تستبدلوا بآياتي التي فيها بأن تخرجوها منها أو
تتركوا العمل بها وتأخذوا لأنفسكم ثَمَناً قَلِيلًا من الرشوة
والجاه وسائر الحظوظ الدنيوية، فإنه وإن جلت قليلة مسترذلة في
نفسها لا سيما بالنسبة إلى ما يفوتهم بمخالفة الأمر، وذهب
الحسن البصري إلى أن الخطاب للمسلمين وهو الذي ينبئ عنه كلام
الشعبي.
وعن ابن مسعود- وهو الوجه كما في الكشف- أنه عام، والفاء على
الوجهين فصيحة أي وحين عرفتم ما كان عليه النبيون والأحبار،
وما تواطأ عليه الخلوف من أمر التحريف والتبديل للرشوة
والخشية، فلا تخشوا الناس ولا تكونوا أمثال هؤلاء الخالفين،
والذي يقتضيه كلام بعض أئمة العربية أنها على الوجه فصيحة
أيضا، وقد تقدم الكلام على مثل هذا التركيب فتذكر وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ من الأحكام فَأُولئِكَ إشارة
إلى مِنْ والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في سابقه
باعتبار لفظها، وهو مبتدأ خبره جملة قوله سبحانه: هُمُ
الْكافِرُونَ ويجوز أن
(3/313)
يكون هُمُ ضمير فصل، والْكافِرُونَ هو
الخبر، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير وتحذير
عن الإخلال به أشد تحذير، واحتجت الخوارج بهذه الآية على أن
الفاسق كافر غير مؤمن، ووجه الاستدلال بها أن كلمة مِنْ فيها
عامة شاملة لكل من لم يحكم بما أنزل الله تعالى، فيدخل الفاسد
المصدق أيضا لأنه غير حاكم وعامل بما أنزل الله تعالى، وأجيب
بأن الآية متروكة الظاهر، فإن الحكم وإن كان شاملا لفعل القلب
والجوارح لكن المراد به هنا عمل القلب وهو التصديق، ولا نزاع
في كفر من لم يصدق بما أنزل الله تعالى، وأيضا إن المراد عموم
النفي بحمل ما على الجنس، ولا شك أن من لم يحكم بشيء مما أنزل
الله تعالى لا يكون إلا غير مصدق ولا نزاع في كفره، وأيضا أخرج
ابن منصور وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما قال: إنما أنزل الله تعالى- ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون- في اليهود خاصة،
وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال: الثلاث الآيات التي في
المائدة وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ إلخ ليس في أهل
الإسلام منها شيء هي في الكفار، وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة
وابن جرير عن الضحاك نحو ذلك، ولعل وصفهم بالأوصاف الثلاث
باعتبارات مختلفة، فلإنكارهم ذلك وصفوا- بالكافرين- ولوضعهم
الحكم في غير موضعه وصفوا- بالظالمين- ولخروجهم عن الحق وصفوا-
بالفاسقين- أو أنهم وصفوا بها باعتبار أطوارهم وأحوالهم
المنضمة إلى الامتناع عن الحكم، فتارة كانوا على حال تقتضي
الكفر، وتارة على أخرى تقتضي الظلم أو الفسق، وأخرج أبو حميد
وغيره عن الشعبي أنه قال: الثلاث الآيات التي في المائدة أولها
لهذه الأمة والثانية في اليهود والثالثة في النصارى، ويلزم على
هذا أن يكون المؤمنون أسوأ حالا من اليهود والنصارى إلا أنه
قيل: إن الكفر إذا نسب إلى المؤمنين حمل على التشديد والتغليظ،
والكافر إذا وصف بالفسق والظلم أشعر بعتوه وتمرده فيه.
ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الكفر الواقع في
أولى الثلاث: إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه إنه ليس كفرا
ينقل عن الملة كفر دون كفر، والوجه أن هذا كالخطاب عام لليهود
وغيرهم، وهو مخرج مخرج التغليظ، أو يلتزم أحد الجوابين،
واختلاف الأوصاف لاختلاف الاعتبارات، والمراد من الأخيرين منها
الكفر أيضا عند بعض المحققين، وذلك بحملهما على الفسق والظلم
الكاملين، وما أخرجه الحاكم وصححه وعبد الرزاق وابن جرير عن
حذيفة رضي الله تعالى عنه- أن الآيات الثلاث ذكرت عنده، فقال
رجل: إن هذا في بني إسرائيل، فقال حذيفة: نعم الأخوة لكم بنو
إسرائيل إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة، كلا والله لتسلكن
طريقهم قدّ الشراك- يحتمل أن يكون ذلك ميلا منه إلى القول
بالعموم، ويحتمل أن يكون كما قيل: ميلا إلى القول بأن ذلك في
المسلمين،
وروي الأول عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما إلا أنه
قال: كفر ليس ككفر الشرك وفسق ليس كفسق الشرك وظلم ليس كظلم
الشرك.
هذا وقد تكلم بعض العارفين على ما في بعض هذه الآيات من
الإشارة فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
أي اتقوه سبحانه بتزكية نفوسكم من الأخلاق الذميمة وَابْتَغُوا
إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ أي واطلبوا إليه تعالى الزلفى بتحليتها
بالأخلاق المرضية وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ بمحو الصفات
والفناء في الذات لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تفوزوا
بالمطلوب، وقيل: ابتغاء الوسيلة التقرب إليه بما سبق من إحسانه
وعظيم رحمته وهو على حد قوله:
أيا جود معن ناج معنا بحاجتي ... فليس إلى معن سواه شفيع
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ
أي ما في الجهة السفلية جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ
لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ الكبرى ما
تُقُبِّلَ مِنْهُمْ لأنه سبب زيادة الحجاب والبعد ولا ينجع ثمة
إلا ما في الجهة العلوية
(3/314)
من المعارف والحقائق النورية وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ أي المتناول من الأنفس والمتناولة من القوى
النفسانية للشهوات التي حرمت عليها فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما
أي امنعوهما بحسم قدرتهما بسيف المجاهدة وسكين الرياضة جَزاءً
بِما كَسَبا من تناول ما لا يحل تناوله لها نَكالًا أي عقوبة
من الله عز وجل سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ووساوس شيطان النفس
سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ وهم القوى النفسانية لَمْ
يَأْتُوكَ أي ينقادوا لكم، أو سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ يسنون
السنن السيئة يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ وهي التعينات الإلهية
مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ فيزيلونها عما هي من الدلالة على
الوجود الحقاني، أو يغيرون قوانين الشريعة بتمويهات الطبيعة-
كمن يؤوّل القرآن والأحاديث على وفق هواه- وليس ما نحن فيه من
هذا القبيل كما يزعمه المحجوبون لأن ذلك إنما يكون بإنكار أن
يكون الظاهر مرادا لله تعالى، وقصر مراده سبحانه على هذه
التأويلات، ونحن نبرأ إلى الله عز وجل من ذلك فإنه كفر صريح،
وإنما نقول: المراد هو الظاهر وبه تعبد الله تعالى خلقه لكن
فيه إشارة إلى أشياء أخر لا يكاد يحيط بها نطاق الحصر يوشك أن
يكون ما ذكر بعضا منها وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ
فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً قال ابن عطاء: من
يحجبه الله تعالى عن فوائد أوقاته لم يقدر أحد إيصاله إليه
أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ
قُلُوبَهُمْ أي بالمراقبة والمراعاة، وقال أبو بكر الوراق:
طهارة القلب في شيئين: إخراج الحسد والغش، وحسن الظن بجماعة
المسلمين أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وهو ما يأكلونه بدينهم فَإِنْ
جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ مداويا لدائهم إن رأيت التداوي
سببا لشفائهم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ إن تيقنت إعواز الشفاء
لشقائهم وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي
داوهم على ما يستحقون ويقتضيه داؤهم، والكلام في باقي الآيات
ظاهر والله تعالى الموفق.
وَكَتَبْنا عطف على أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ والمعنى قدرنا
وفرضنا عَلَيْهِمْ أي على الذين هادوا، وفي مصحف أبيّ وأنزلنا
على بني إسرائيل فِيها أي في التوراة، والجار متعلق بكتبنا،
وقيل: بمحذوف وقع حالا أي فرضنا هذه الأمور مبينة فيها، وقيل:
صفة لمصدر محذوف أي كَتَبْنا كتابة مبينة فِيها. أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ أي مأخوذة أو مقتولة أو مقتصة بها إذا
قتلتها بغير حق، ويقدر في كل مما في قوله تعالى: وَالْعَيْنَ
بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ
وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ما يناسبه كالفقء والجذع والصلم والقلع،
ومنهم من قدر الكون المطلق، وقال: إنه مرادهم أي يستقر أخذها
بالعين ونحو ذلك.
وقرأ الكسائي: الْعَيْنَ وما عطف عليه بالرفع، ووجهه أبو علي
الفارسي بأن الكلام حينئذ جمل معطوفة على جملة أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ لكن من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، فإن معنى-
كتبنا عليهم أن النفس بالنفس- قلنا لهم: النفس بالنفس، فالجملة
مندرجة تحت ما كتب على بني إسرائيل، وجعله ابن عطية على هذا
القول من العطف على التوهم وهو غير مقيس، وقيل: إنه محمول على
الاستئناف بمعنى أن الجمل اسمية معطوفة على الجملة الفعلية،
ويكون هذا ابتداء تشريع وبيان حكم جديد غير مندرج فيما كتب في
التوراة، وقيل: إنه مندرج فيه أيضا على هذا، والتقدير وكذلك-
العين بالعين- إلخ لتتوافق القراءتان.
وقال الخطيب: لا عطف، والاستئناف بمعناه المتبادر منه، والكلام
جواب سؤال كأنه قيل: ما حال غير النفس؟
فقال سبحانه: الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ إلخ، وقيل: إن العين وكذا
سائر المرفوعات معطوفة على الضمير المرفوع المستتر في الجار
والمجرور الواقع خبرا، والجار والمجرور بعدها حال مبينة
للمعنى، وضعف هذا بأنه يلزم العطف على الضمير المرفوع المتصل
من غير فصل ولا تأكيد، وهو لا يجوز عند البصريين إلا ضرورة.
وأجيب بأنه مفصول تقديرا إذ أصله النفس مأخوذة أو مقتصة هي
بالنفس إذ الضمير مستتر في المتعلق المقدم
(3/315)
على الجار والمجرور بحسب الأصل وإنما تأخر
بعد الحذف وانتقاله إلى الظرف كذا قيل، وهو يقتضي أن الفصل
المقدر يكفي للعطف وفيه نظر، ويقدر المتعلق على هذا عاما ليصح
العطف إذ لو قدر النفس مقتولة بالنفس والعين لم يستقم المعنى
كما لا يخفى فليفهم.
واعلم أن النفس في كلامهم إذا أريد منها الإنسان بعينه مذكر،
ويقال: ثلاثة أنفس على معنى ثلاثة أشخاص، وإذا أريد بها الروح
فهي مؤنثة لا غير، وتصغيرها نفيسة لا غير، والعين بمعنى
الجارحة المخصوصة مؤنثة، وإطلاق القول بالتأنيث لا يظهر له وجه
إذ لا يصح أن يقال: هذه عين هؤلاء الرجال، وأنت تريد الخيار،
والأذن مثلها، والأنف مذكر لا غير، والسن تؤنث ولا تذكر وإن
كانت السن من الكبر لكن ذكر ابن الشحنة أن السن تطلق على الضرس
والناب، وقد نصوا على أنهما مذكران وكذا الناجذ والضاحك
والعارض، ونص ابن عصفور على أن الضرس يجوز فيه الأمران، ونظم
ما يجوز فيه ذلك بقوله:
وهاك من الأعضاء ما قد عددته ... تؤنث أحيانا وحينا تذكر
لسان الفتى والإبط والعنق والقفا ... وعاتقه والمتن والضرس
يذكر
وعندي الذراع والكراع مع المعى ... وعجز الفتى ثم القريض
المحبر
كذا كل نحوي حكى في كتابه ... سوى سيبويه وهو فيهم مكبر
يرى أن تأنيث الذراع هو الذي ... أتى، وهو للتذكير في ذاك منكر
وقد شاع أن ما منه اثنان في البدن كاليد والضلع والرجل مؤنث،
وما منه واحد كالرأس والفم والبطن مذكر، وليس ذاك بمطرد فإن
الحاجب والصدغ والخد والمرفق والزند كل منها مذكر مع أن في
البدن منه اثنين، والكبد والكرش فإنهما مؤنثان وليس منهما في
البدن إلا واحد، وتفصيل ما يذكر ولا يؤنث وما يؤنث ولا يذكر من
الأعضاء يفضي إلى بسط يد المقال، والكف أولى بمقتضى الحال هذا
وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ بالنصب عطف على اسم إن، وقِصاصٌ هو الخبر،
ولكونه مصدرا كالقتال، وليس عين المخبر عنه يؤوّل بأحد
التأويلات المعروفة في أمثاله، والكسائي كما قرأ بالرفع فيما
قبل قرأ به هنا أيضا، وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وإن نصبوا
فيما تقدم رفعوا هنا على أنه إجمال لحكم الجراح بعد ما فصل حكم
غيرها من الأعضاء، وهذا الحكم فيما إذا كانت بحيث تعرف
المساواة كما فصل في الكتب الفقهية، واستدل بعموم أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ من قال: يقتل المسلم بالكافر والحر
بالعبد والرجل بالمرأة، ومن خالف استدل بقوله تعالى: الْحُرُّ
بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى
[البقرة: 178]
وبقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقتل مؤمن بكافر»
وأجاب بعض أصحابنا بأن النص تخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما
عداه، والمراد بما روى الحربي لسياقه ولا ذو عهد في عهده،
والعطف يقتضي المغايرة،
وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قتل مسلما بذمي،
وذكر ابن الفرس أن الآية في الأحرار المسلمين لأن اليهود
المكتوب عليهم ذلك في التوراة كانوا ملة واحدة ليسوا منقسمين
إلى مسلم وكافر، وكانوا كلهم أحرارا لا عبيد فيهم، لأن عقد
الذمة والاستعباد إنما أبيح للنبي صلّى الله عليه وسلّم من بين
سائر الأنبياء لأن الاستعباد من الغنائم، ولم تحل لغيره عليه
الصلاة والسلام، وعقد الذمة لبقاء الكفار ولم يقع ذلك في عهد
نبي بل كان المكذبون يهلكون جميعا بالعذاب، وآخر ذلك في هذه
الأمة رحمة انتهى.
وأنت تعلم أن اللفظ ظاهر في العموم لكن لم يبقوه على ذلك، فقال
قال الأصحاب: لا يقتل المسلم بالمستأمن ولا الذمي به لأنه غير
محقون الدم على التأبيد، وكذا كفره باعث على الحرب لأنه على
قصد الرجوع،
(3/316)
ولا المستأمن بالمستأمن استحسانا لقيام
المبيح، ويقتل قياسا للمساواة، ولا الرجل بابنه
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقاد الوالد بولده»
وهو بإطلاقه حجة على مالك في قوله: يقاد إذا ذبحه ذبحا، ولأنه
سبب لإحيائه، فمن المحال أن يستحق له إفناؤه، ولهذا لا يجوز له
قتله وإن وجده في صف الأعداء مقاتلا أو زانيا وهو محصن،
والقصاص يستحقه المقتول أولا ثم يخلفه وارثه، والجد من قبل
الرجال والنساء وإن علا في هذا بمنزلة الأب، وكذا الوالدة
والجدة من قبل الأم أو الأب قربت أو بعدت لما بينا، ولا الرجل
بعبده ولا مدبره ولا مكاتبه ولا بعبد ولده لأنه لا يستوجب
لنفسه على نفسه القصاص ولا ولده عليه، وكذا لا يقتل بعبد ملك
بعضه لأن القصاص لا يتجزأ فليفهم، واستدل بها على ما روي عن
الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه من أنه لا يقتل الجماعة
بالواحد لقوله تعالى فيها: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
بالإفراد، وأجيب بأن حكمة القصاص- وهو صون الدماء والأحياء-
اقتضت القتل، وصرف الآية عما ذكر فإنه لو كان كذلك قتلوا
مجتمعين حتى يسقط عنهم القصاص، وحينئذ تهدر الدماء ويكثر
الفساد كذا قيل فَمَنْ تَصَدَّقَ أي من المستحقين للقصاص بِهِ
أي بالقصاص أي فمن عفا عنه، والتعبير عن ذلك بالتصدق للمبالغة
في الترغيب فَهُوَ أي التصدق المذكور كَفَّارَةٌ لَهُ للمتصدق
كما أخرجه ابن أبي شيبة عن الشعبي وعليه أكثر المفسرين،
وأخرج الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم قرأ الآية فقال: «هو الرجل يكسر سنه أو
يجرح من جسده فيعفو فيحط عنه من خطاياه بقدر ما عفا عنه من
جسده، إن كان نصف الدية فنصف خطاياه، وإن كان ربع الدية فربع
خطاياه، وإن كان ثلث الدية فثلث خطاياه، وإن كان الدية كلها
فخطاياه كلها» .
وأخرج سعيد بن منصور وغيره عن عدي بن ثابت «أن رجلا هتم فم رجل
على عهد معاوية رضي الله تعالى عنه فأعطي دية فأبى إلا أن يقتص
فأعطي ديتين فأبى فأعطي ثلاثا فحدث رجل من أصحاب النبي صلّى
الله عليه وسلّم عن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: من
تصدق بدم فما دونه فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت»
وقيل: الضمير عائد إلى الجاني، وإلى ذلك ذهب ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما فيما أخرجه عنه ابن جرير ومجاهد وجابر فيما أخرجه
عنهما ابن أبي شيبة، ومعنى كون ذلك كفارة له على هذا التقدير
أنه يسقط به ما لزمه ويتعين عليه أن يكون خبر المبتدأ مجموع
الشرط والجزاء حيث لم يكن العائد إلا في الشرط، وإليه ذهب
العلامة الثاني، وقيل: إن في الجزاء عائدا أيضا باعتبار أن هو
بمعنى تصدقه فيشتمل بحسب المعنى على ضمير المبتدأ، فالتعين ليس
بمسلم، وقال بعضهم إنه يحتمل أن يكون معنى الآية أن كل من تصدق
واعترف بما يجب عليه من القصاص، وانقاد له فهو كفارة لما جناه
من الذنب، ويلائمه كل الملاءمة قوله تعالى:
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ فضمير له حينئذ عائد إلى المتصدق مرادا به
الجاني نفسه، وفيه بعد ظاهر، وقرأ أبيّ فهو كفارته له، فالضمير
المرفوع حينئذ للمتصدق لا للتصدق، وكذا الضميران المجروران
والإضافة للاختصاص واللام مؤكدة لذلك، أي فالمتصدق كفارته التي
يستحقها بالتصدق له لا ينقص منها شيء لأن بعض الشيء لا يكون
ذلك الشيء، وهو تعظيم لما فعل حيث جعل مقتضيا للاستحقاق اللائق
من غير نقصان، وفيه ترغيب في العفو، والآية نزلت- كما قال غير
واحد- لما اصطلح اليهود على أن لا يقتلوا الشريف بالوضيع
والرجل بالمرأة، فلم ينصفوا المظلوم من الظالم، وعن السيد
السند أن القصاص كان في شريعتهم متعينا عليهم فيكون التصدق مما
زيد في شريعتنا، وقال الضحاك: لم يجعل في التوراة دية في نفس
ولا جرح، وإنما كان العفو أو القصاص وهو الذي يقتضيه ظاهر
الآية.
(3/317)
وَقَفَّيْنَا عَلَى
آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ
هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا
جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ
جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
(48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ
بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ
ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى
أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ
بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا
أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ
الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ
فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ
أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ
يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ
لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا
نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ شروع في بيان
أحكام الإنجيل- كما قيل- إثر بيان أحكام التوراة، وهو عطف على
أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ وضمير الجمع المجرور- للنبيين الذين
أسلموا- كما قاله أكثر المفسرين، واختاره علي بن عيسى والبلخي
وقيل: للذين فرض عليهم الحكم الذي مضى ذكره، وحكي ذلك عن
الجبائي- وليس بالمختار- والتقفية الاتباع، ويقال: قفا فلان
أثر فلان إذا تبعه، وقفيته بفلان إذا أتبعته إياه، والتقدير
هنا أتبعناهم على آثارهم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فالفعل كما
قيل: متعد لمفعولين أحدهما بنفسه والآخر بالباء، والمفعول
الأول محذوف، وعَلى آثارِهِمْ كالساد مسده لأنه إذا قفا به على
آثارهم فقد قفاهم به، واعترض بأن الفعل قبل التضعيف كان متعديا
إلى واحد، وتعدية المتعدي إلى واحد لثان بالباء لا تجوز سواء
كان بالهمزة أو التضعيف، ورد بأن الصواب أنه جائز لكنه قليل،
(3/318)
وقد جاء منه ألفاظ قالوا: صك الحجر الحجر،
وصككت الحجر بالحجر، ودفع زيد عمرا ودفعت زيدا بعمرو أي جعلته
دافعا له.
وذهب بعض المحققين إلى أن التضعيف فيما نحن فيه ليس للتعدية،
وأن تعلق الجار بالفعل لتضمينه معنى المجيء أي جئنا يعيسى ابن
مريم على آثارهم قافيا لهم فهو متعد لواحد لا غير بالباء،
وحاصل المعنى أرسلنا عيسى عليه الصلاة والسلام وَآتَيْناهُ
الْإِنْجِيلَ عطف على قَفَّيْنا، وقرأ الحسن بفتح الهمزة، ووجه
صحة ذلك أنه اسم أعجمي فلا بأس بأن يكون على ما ليس في أوزان
العرب، وهو بأفعيل أو فعليل بالفتح، وأما إفعيل بالكسر فله
نظائر- كإبزيم وإحليل- وغير ذلك فِيهِ هُدىً وَنُورٌ كما في
التوراة، والجملة في موضع النصب على أنها حال من الإنجيل،
وقوله تعالى: وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
التَّوْراةِ عطف على الحال وهو حال أيضا، وعطف الحال المفردة
على الجملة الحالية وعكسه جائز لتأويلها بمفرد وتكرير هذا
لزيادة التقرير، وقوله عز وجل: وَهُدىً وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ عطف على ما تقدم منتظم معه في سلك الحالية،
وجعل كله هدى- بعد ما جعل مشتملا عليه- مبالغة في التنويه
بشأنه لما أن فيه البشارة بنبينا صلّى الله عليه وسلّم أظهر،
وتخصيص المتقين بالذكر لأنهم المهتدون بهداه والمنتفعون
بجدواه، وجوز نصب هُدىً وَمَوْعِظَةً على المفعول لها عطفا على
مفعول له آخر مقدر أي إثباتا لنبوته وَهُدىً إلخ، ويجوز أن
يكونا معللين لفعل محذوف عامل فيه أي وَهُدىً وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ آتيناه ذلك وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ
بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ أمر مبتدأ لهم بأن يحكموا ويعملوا
بما فيه من الأمور التي من جملتها دلائل رسالته صلّى الله عليه
وسلّم وما قررته شريعته الشريفة من أحكامه، وأما الأحكام
المنسوخة فليس الحكم بها حكما بما أنزل الله تعالى بل هو إبطال
وتعطيل له إذ هو شاهد بنسخها وانتهاء وقت العمل بها لأن شهادته
بصحة ما ينسخها من الشريعة الأحمدية شاهدة بنسخها، وأن أحكامه
ما قررته تلك الشريعة التي تشهد بصحتها- كما قرره شيخ الإسلام
قدس سره- واختار كونه أمرا مبتدأ الجبائي، وقيل: هو حكاية
للأمر الوارد عليهم بتقدير فعل معطوف على- آتيناه- أي وقلنا
ليحكم أهل الإنجيل، وحذف القول- لدلالة ما قبله عليه- كثير في
الكلام، ومنه قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ
عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: 23- 24]
واختار ذلك علي بن عيسى.
وقرأ حمزة وَلْيَحْكُمْ بلام الجر ونصب الفعل بأن مضمرة،
والمصدر معطوف على هُدىً وَمَوْعِظَةً على تقدير كونهما
معللين، وأظهرت اللام فيه لاختلاف الفاعل، فإن فاعل الفعل
المقدر ضمير الله تعالى، وفاعل هذا أهل الكتاب، وهو متعلق
بمحذوف على الوجه الأول في هُدىً وَمَوْعِظَةً أي وآتيناه
ليحكم إلخ، وإنما لم يعطف لعدم صحة عطف العلة على الحال، ومنهم
من جوز العطف بناء على أن الحال هنا في معنى العلة وهو ضعيف،
وقدر بعضهم في الكلام على تقدير التعليل عليه متعلقا- بأنزل-
ليصح كونه علة لإيتاء عيسى عليه الصلاة والسلام ما ذكر.
وعن أبي علي أنه قرأ- وأن ليحكم- على أن- أن- موصولة بالأمر
كما في قولك: أمرته بأن قم، ومعنى الوصل أن- أن- تتم بما بعدها
جزء كلام كالذي وأخواته، ووصل- أن- المصدرية بفعل الأمر مما
تكرر القول به في الكشاف، وذكر فيه نقلا عن سيبويه وقدر هنا
أمرنا، كأنه قيل: وآتيناه الإنجيل وأمرنا بأن يحكم، وأورد على
سيبويه ما دقق صاحب الكشف في الجواب عنه، وأتى بما يندفع به
كثير من الأسئلة على أن المصدرية والتفسيرية وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ
أي المتمردون الخارجون عن حكمه أو عن الإيمان، وقد مر تحقيقه،
والجملة تذييل مقرر لمضمون الجملة السابقة ومؤكدة لوجوب
الامتثال بالأمر. والآية تدل على أن الإنجيل مشتمل على
الأحكام، وأن عيسى عليه السلام كان مستقلا بالشرع مأمورا
بالعمل بما فيه من الأحكام قلت أو كثرت لا بما
(3/319)
في التوراة خاصة، ويشهد لذلك أيضا
حديث البخاري «أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها وأهل
الإنجيل الإنجيل فعملوا به»
وخالف في ذلك بعض الفضلاء، ففي الملل والنحل للشهرستاني جميع
بني إسرائيل كانوا متعبدين بشريعة موسى عليه السلام مكلفين
التزام أحكام التوراة والإنجيل النازل على المسيح عليه السلام
لا يحتضن أحكاما ولا يستبطن حلالا وحراما، ولكنه رموز وأمثال
ومواعظ وما سواها من الشرائع والأحكام محال على التوراة ولهذا
لم تكن اليهود لتنقاد لعيسى عليه الصلاة والسلام، وحمل المخالف
هذه الآية على وليحكموا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى فيه من
إيجاب العمل بأحكام التوراة، وهو خلاف الظاهر كتخصيص ما أنزل
فيه نبوة نبينا صلّى الله عليه وسلّم.
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أي الفرد الكامل الحقيق بأن
يسمى كتابا على الإطلاق لتفوقه على سائر الكتب السماوية- وهو
القرآن العظيم- فاللام للعهد، والجملة عطف على أَنْزَلْنا وما
عطف عليه، وقوله تعالى:
بِالْحَقِّ حال مؤكدة من الكتاب أي متلبسا بالحق والصدق، وجوز
أن يكون حالا من فاعل أَنْزَلْنا، وقيل: حال من الكاف في
إِلَيْكَ وقوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ حال من
الْكِتابَ أي حال كونه مصدقا لما تقدمه، وقد تقدم الكلام في
كيفية تصديقه لذلك، وزعم أبو البقاء عدم جواز كونه حالا مما
ذكر إذ لا يكون حالان لعامل واحد، وأوجب كونه حالا من الضمير
المستكن في الجار والمجرور قبله، وقوله سبحانه: مِنَ الْكِتابِ
بيان لِما واللام فيه للجنس بناء على ادعاء أن ما عدا الكتب
السماوية ليست كتابا بالنسبة إليها. ويجوز- كما قال غير واحد-
أن تكون للعهد نظرا إلى أنه لم يقصد إلى جنس مدلول لفظ الكتاب
بل إلى نوع مخصوص منه هو بالنظر إلى مطلق الكتاب معهود بالنظر
إلى وصف كونه سماويا غايته أن عهديته ليست إلى حد الخصوصية
الفردية بل إلى خصوصية نوعية أخص من مطلق الكتاب وهو ظاهر، ومن
الكتاب السماوي أيضا حيث خص بما عدا القرآن وَمُهَيْمِناً
عَلَيْهِ قال الخليل وأبو عبيدة: أي رقيبا على سائر الكتب
السماوية المحفوظة عن التغيير حيث يشهد لها بالصحة والثبات
ويقرر أصول شرائعها وما يتأبد من فروعها ويعين أحكامها
المنسوخة.
وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة رضي الله تعالى عنهم: أي
شاهدا عليه بأنه الحق، والعطف حينئذ للتأكيد وهاؤه أصلية،
وفعله هيمن، وله نظائر- بيطر وخيمر وسيطر- وزاد الزجاج: بيقر،
ولا سادس لها، وقيل: إنها مبدلة من الهمزة ومادته من الأمن-
كهراق- وقال المبرد وابن قتيبة: إن المهيمن أصله مؤمن وهو من
أسمائه تعالى، فصغر وأبدلت همزته هاء، وتعقبه السمين وغيره بأن
ذلك خطأ بل كفر أو شبيه به لأن أسماء الله تعالى لا تصغر، وكذا
كل اسم معظم شرعا، وعن ابن محيصن ومجاهد أنهما قرآ مُهَيْمِناً
بفتح الميم على بنية المفعول فضمير عَلَيْهِ على هذا يعود على
الكتاب الأول، والمعنى أنه حوفظ من التحريف والتبديل، والحافظ
له هو الله تعالى كما قال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ أي بين أهل الكتاب- كما قال ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما- والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإن كون
القرآن العظيم بذلك الشأن من موجبات الحكم المأمور به أي إذا
كان شأن القرآن كما ذكر فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ
اللَّهُ أي بما أنزله إليك فإنه الحق الذي لا محيص عنه،
والمشتمل على جميع الأحكام الشرعية الباقية في الكتب الإلهية،
وتقديم بَيْنَهُمْ للاعتناء بتعميم الحكم لهم، ووضع الموصول
موضع الضمير تنبيها على علية ما في حيز الصلة للحكم، وترهيبا
عن المخالفة، والالتفات بإظهار الاسم الجليل لما مر مرارا وَلا
تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ الزائغة.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يريد ما حرفوا وبدلوا من
أمر الرجم عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ الذي لا محيد عنه، وعن
متعلقة بلا تتبع على تضمين معنى العدول ونحوه كأنه قيل: لا
تعدل عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ
(3/320)
متبعا لأهوائهم، وقيل: بمحذوف وقع حالا من
فاعله أي لا تتبع أهواءهم عادلا عما جاءك، أو من مفعوله أي لا
تتبع أهواءهم عادلة عما جاءك، واعترض ذلك بأن ما وقع حالا لا
بد أن يكون فعلا عاما، ولعل القائل لا يسلم ذلك، ومِنَ كما قال
أبو البقاء: متعلقة بمحذوف وقع حالا من مرفوع جاءَكَ أو من ما،
ووضع الموصول موضع ضمير الموصول الأول للإيماء بما في حيز
الصلة إلى ما يوجب كمال الاجتناب عن اتباع الأهواء، والنهي
يجوز أن يكون لمن لا يتصور منه وقوع المنهي عنه، فلا يقال: كيف
نهى صلّى الله عليه وسلّم عن اتباع أهوائهم وهو عليه الصلاة
والسلام معصوم عن ارتكاب ما دون ذلك، وقيل: الخطاب له صلّى
الله عليه وسلّم والمراد سائر الأحكام لِكُلٍّ جَعَلْنا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً استئناف جيء به لحمل أهل الكتاب
من معاصريه صلّى الله عليه وسلّم على الانقياد لحكمه عليه
الصلاة والسلام بما أنزل الله تعالى إليه من الحق ببيان أنه هو
الذي كلفوا العمل به دون غيره مما في كتابهم، وإنما الذين
كلفوا العمل به من مضى قبل النسخ، والخطاب- كما قال جماعة من
المفسرين- للناس كافة الموجودين والماضين بطريق التغليب،
والشرعة- بكسر الشين، وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها الشريعة، وهي
في الأصل الطريق الظاهر الذي يوصل منه إلى الماء، والمراد بها
الدين، واستعمالها فيه لكونه سبيلا موصلا إلى ما هو سبب للحياة
الأبدية كما أن الماء سبب للحياة الفانية، أو لأنه طريق إلى
العمل الذي يطهر العامل عن الأوساخ المعنوية كما أن الشريعة
طريق إلى الماء الذي يطهر مستعمله عن الأوساخ الحسية.
وقال الراغب: سمي الدين شريعة تشبيها بشريعة الماء من حيث إن
من شرع في ذلك على الحقيقة روي وتطهر، وأعني بالري ما قال بعض
الحكماء: كنت أشرب فلا أروى فلما عرفت الله تعالى رويت بلا
شرب، وبالتطهر ما قال تعالى: وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً
[الأحزاب: 33] والمنهاج الطريق الواضح في الدين من نهج الأمر
إذا وضح، والعطف باعتبار جمع الأوصاف، وقال المبرد: الشرعة
ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستقيم، وقيل: هما بمعنى
واحد وهو الطريق، والتكرير للتأكيد، والعطف مثله في قول
الحطيئة: وهند أتى من دونها النأي والبعد. وقول عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
وقيل: الشرعة الطريق مطلقا سواء كان واضحا أم لا، وقيل:
المنهاج الدليل، وقيل: الشرعة النبي صلّى الله عليه وسلّم،
والمنهاج الكتاب، وقيل: الشرعة الأحكام الفرعية، والمنهاج
الأحكام الاعتقادية، وليس بشيء، واللام متعلقة- بجعلنا-
المتعدية لواحد، وهو إخبار بجعل ماض لا إنشاء، وتقديمها عليه
للتخصيص، ومِنْكُمْ متعلق بمحذوف وقع صفة لما عوض عنه تنوين-
كل- أي «ولكل أمة» كائنة مِنْكُمْ أيها الأمم الباقية،
والخالية عينا ووضعنا شِرْعَةً وَمِنْهاجاً خاصين بتلك الأمة
لا تكاد أمة تتخطى شرعتها، والأمة التي كانت من مبعث موسى إلى
مبعث عيسى عليهما الصلاة والسلام شرعتهم ما في الإنجيل، وأما
أنتم أيها الموجودون فشرعتكم ما في الفرقان ليس إلا فآمنوا به
واعملوا بما فيه، وأوجب أبو البقاء تعلق مِنْكُمْ بمحذوف
تقديره أعني، ولم يجوز الوصفية لما أن ذلك يوجب الفصل بين
الصفة والموصوف بالأجنبي الذي لا تسديد فيه للكلام، ويوجب أيضا
أن يفصل بين جَعَلْنا ومعموله وهو شرعة، وقال شيخ الإسلام: لا
ضير في توسط جَعَلْنا بين الصفة والموصوف كما في قوله تعالى:
أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ [الأنعام: 14] إلخ، والفصل بين الفعل ومفعوله لازم
على كل حال، وما ذكر من كون الخطاب للأمم هو الظاهر، وقيل: إنه
للأنبياء الذين أشير إليهم في الآيات قبل، ولا يخفى بعده،
وأبعد منه جعل الخطاب لهذه الأمة المحمدية ولا يساعده السباق
ولا اللحاق، واستدل بالآية من ذهب إلى أنا غير متعبدين بشرائع
من قبلنا لأن الخطاب كما علمت يعم الأمم، واللام للاختصاص،
فيكون لكل أمة دين يخصها، ولو كان متعبدا
(3/321)
بشريعة أخرى لم يكن ذلك الاختصاص.
وأجاب العلامة التفتازاني بعد تسليم دلالة اللام على الاختصاص
الحصري بمنع الملازمة لجواز أن نكون متعبدين بشريعة من قبلنا
مع زيادة خصوصيات في ديننا بها يكون الحصر، لما ذكر مع تقدم
الاختصاص، وفيه أنه لا حاجة في إفادة المتعلق، وأيضا الخصوصيات
المذكورة لا تنافي تعبدنا لأن القائلين به يدّعون أنه فيما لم
يعلم نسخه ومخالفة ديننا له لا مطلقا إذ لم يقل به أحد على
الإطلاق، ولذا جمع المحققون بين أضراب هذه الآية الدالة على
اختلاف الشرائع، وبين ما يخالفها نحو قوله تعالى: شَرَعَ
لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: 13] إلخ،
وقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ
اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] بأن كل آية دلت على عدم الاختلاف
محمولة على أصول الدين ونحوها، والتحقيق في هذا المقام أنا
متعبدون بأحكام الشرائع الباقية من حيث إنها أحكام شرعتنا لا
من حيث إنها شرعة للأولين وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ
أُمَّةً واحِدَةً أي جماعة متفقة على دين واحد في جميع
الأعصار، أو ذي ملة واحدة من غير اختلاف بينكم في وقت من
الأوقات في شيء من الأحكام الدينية ولا نسخ ولا تحويل- قاله
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- ومفعول شاءَ محذوف تعويلا على
دلالة الجزاء عليه، أي لو شاء الله تعالى أن يجعلكم أمة واحدة
لجعلكم إلخ، وقيل: المعنى ولو شاء الله تعالى اجتماعكم على
الإسلام لأجبركم عليه، وروي عن الحسن نحو ذلك، وقال الحسين بن
علي المغربي: المعنى لو شاء الله تعالى لم يبعث إليكم نبيا
فتكونون متعبدين بما في العقل وتكونون أمة واحدة وَلكِنْ
لِيَبْلُوَكُمْ متعلق بمحذوف يستدعيه النظام أي ولكن لم يشأ
ذلك الجعل بل شاء غيره ليعاملكم سبحانه معاملة من يبتليكم.
فِي ما آتاكُمْ من الشرائع المختلفة لحكم إلهية يقتضيها كل عصر
هل تعملون بها مذعنين لها معتقدين أن في اختلافها ما يعود نفعه
لكم في معاشكم ومعادكم، أو تزيغون عنها وتبتغون الهوى وتشترون
الضلالة بالهدى، وبهذا- كما قال شيخ الإسلام- اتضح أن مدار عدم
المشيئة المذكورة ليس مجرد الابتلاء، بل العمدة في ذلك ما أشير
إليه من انطواء الاختلاف على ما فيه مصلحتهم معاشا ومعادا كما
ينبىء عنه قوله عز وجل: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي إذا كان
الأمر كما ذكر فسارعوا إلى ما هو خير لكم في الدارين من
العقائد الحقة والأعمال الصالحة المندرجة في القرآن الكريم
وابتدروها انتهازا للفرصة وإحرازا لفضل السبق والتقدم،
فالسابقون السابقون أولئك المقربون، وقوله تعالى:
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً استئناف مسوق مساق
التعليل لاستباق الخيرات بما فيه من الوعد والوعيد، وجَمِيعاً
حال من الضمير المجرور، والعامل فيه إما المصدر المضاف المنحل
إلى فعل مبني للفاعل، أو لما لم يسم فاعله، وإما الاستقرار
المقدر في الجار، وقيل- وفيه بعد- إن الجملة واقعة جواب سؤال
مقدر كأنه قيل: كيف ما في ذلك من الحكم؟ فأجيب بأنكم سترجعون
إلى الله تعالى وتحشرون إلى دار الجزاء التي تنكشف فيها
الحقائق وتتضح الحكم فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ أي فيفعل بكم من الجزاء الفاصل بين الحق والباطل
ما لا يبقى لكم معه شائبة شك فيما كنتم فيه تختلفون في الدنيا
من أمر الدين، فالإنباء هنا مجاز عن المجازاة لما فيها من تحقق
الأمر.
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا
تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عطف على الكتاب، كأنه قيل: وأنزلنا
إليك الكتاب، وقولنا: احكم أي الأمر بالحكم لا الحكم لأن
المنزل الأمر بالحكم لا الحكم، ولئلا يلزم إبطال الطلب
بالكلية، ولك أن تقدر الأمر بالحكم من أول الأمر من دون إضمار
القول كما حققه في الكشف، وجوز أن يكون عطفا على الحق، وفي
المحل وجهان: الجر والنصب على الخلاف المشهور، وقيل: يجوز أن
يكون الكلام جملة اسمية بتقدير مبتدأ
(3/322)
أي وأمرنا أن احكم، وزعم بعضهم أن أَنِ هذه
تفسيرية، ووجهه أبو البقاء بأن يكون التقدير وأمرناك، ثم فسر
هذا الأمر باحكم، ومنع أبو حيان من تصحيحه بذلك بأنه لم يحفظ
من لسانهم حذف المفسر بأن والأمر كما ذكر، وقال الطيبي: ولو
جعل هذا الكلام عطفا على فَاحْكُمْ من حيث المعنى ليكون
التكرير لإناطة قوله سبحانه:
وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ
اللَّهُ إِلَيْكَ كان أحسن، ورد بأن أَنِ هي المانعة من ذلك
العطف، وأمر الإناطة ملتزم على كل حال، وقال بعضهم: إنما كرر
الأمر بالحكم لأن الاحتكام إليه صلّى الله عليه وسلّم كان
مرتين: مرة في زنا المحصن. ومرة في قتيل كان بينهم، فجاء كل
أمر في أمر، وحكي ذلك عن الجبائي والقاضي أبي يعلى، ونون أَنِ
فيها الضم والكسر، والمنسبك من أَنْ يَفْتِنُوكَ بدل من ضمير
المفعول بدل اشتمال، أي واحذر: فتنتهم لك وأن يصرفوك عَنْ
بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ- تعالى- إِلَيْكَ ولو كان أقل قليل
بتصوير الباطل بصورة الحق وقال ابن زيد:
بالكذب على التوراة في أن ذلك الحكم ليس فيها، وجوز أن يكون
مفعولا من أجله، أي احذرهم مخافة أَنْ يَفْتِنُوكَ وإعادة ما
أَنْزَلَ اللَّهُ- تعالى- إِلَيْكَ لتأكيد التحذير بتهويل
الخطب، ولعل هذا لقطع أطماعهم قاتلهم الله تعالى،
أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما أن أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد صلّى
الله عليه وسلّم لعلنا نفتنه عن دينه، فقالوا: يا محمد قد عرفت
أنا أحبار اليهود وإنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم. وإن
بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن
نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
فنزلت فَإِنْ تَوَلَّوْا
أي أعرضوا عن قبول الحكم بما أنزل الله تعالى إليك وأرادوا
غيره فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ
بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وهو ذنب التولي والإعراض، فهو بعض مخصوص
والتعبير عنه بذلك للإيذان بأن لهم ذنوبا كثيرة، وهذا مع كمال
عظمه واحد من جملتها، وفي هذا الإبهام تعظيم للتولي كما في
قوله:
ترّاك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها
يريد بالبعض نفسه أي نفسا كبيرة ونفسا أي نفس، وقال الجبائي:
ذكر البعض، وأريد الكل كما يذكر العموم ويراد به الخصوص، وقيل:
المراد بعض مبهم تغليظا للعقاب كأنه أشير إلى أنه يكفي أن
يؤخذوا ببعض ذنوبهم أي بعض كان، ويهلكوا ويدمر عليهم بذلك،
وزعم بعضهم أنه لا يصح إرادة الكل لأن المراد بهذه الإصابة
عقوبة الدنيا وهي تختص ببعض الذنوب دون بعض، والذي يعم إنما هو
عذاب الآخرة وهذه الإصابة- على ما روي عن الحسن- إجلاء بني
النضير، وقيل: قتل بني قريظة، وقيل: هي أعم من ذلك، وما عرى
بني قينقاع وأهل خيبر وفدك، ولعله الأولى وَإِنَّ كَثِيراً
مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ أي متمردون في الكفر مصرون عليه
خارجون من الحدود المعهودة، وهو اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما
قبله، وفيه من التسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم ما لا يخفى،
وقيل: إنه عطف على قوله تعالى:
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها يعني كتبنا حكم القصاص في التوراة
وقررناه في الإنجيل، وأنزلنا عليك الكتاب مصدقا لما فيهما
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ من الأحكام
الإلهية المقررة في الأديان ولا يخفى بعده، والمراد من الناس
العموم، وقيل: اليهود، وقوله سبحانه: أَفَحُكْمَ
الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ إنكار وتعجيب من حالهم وتوبيخ لهم،
والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي أيتولون عن قبول حكمك
بما أنزل الله تعالى إليك فيبغون حكم الجاهلية، وقيل: محل
الهمزة بعد الفاء، وقدمت أن لها الصدارة، وتقديم المفعول
للتخصيص المفيد لتأكيد الإنكار والتعجب لأن التولي عن حكم رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم وطلب حكم آخر منكر عجيب، وطلب حكم
الجاهلية أقبح وأعجب، والمراد بالجاهلية الملة الجاهلية التي
هي متابعة الهوى الموجبة للميل والمداهنة في الأحكام، أو الأمة
الجاهلية، وحكمهم:
ما كانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى، وقيل: الكلام على
حذف مضاف أي أهل الجاهلية، وحكمهم: ما ذكر،
(3/323)
فقد روي أن بني النضير لما تحاكموا إلى
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في خصومة قتيل وقعت بينهم وبين
بني قريظة طلب بعضهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن
يحكم بينهم بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل، فقال عليه
الصلاة والسلام:
«القتلى بواء فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بذلك» فنزلت،
وقرأ ابن عامر- تبغون- بالتاء، وهي إما على الالتفات لتشديد
التوبيخ، وإما بتقدير القول أي قل لهم أَفَحُكْمَ إلخ، وقرأ
ابن وثاب والأعرج وأبو عبد الرحمن وغيرهم أَفَحُكْمَ بالرفع
على أنه مبتدأ، ويَبْغُونَ خبره، والعائد محذوف، وقيل: الخبر
محذوف، والمذكور صفته أي حكم يبغون، واستضعف حذف العائد من
الخبر، وذكر ابن جني أنه جاء الحذف منه كما جاء الحذف من الصلة
والصفة كقوله:
قد أصبحت أم الخيار تدعي ... عليّ ذنبا كله لم أصنع
وقال أبو حيان وحسن الحذف في الآية شبه يَبْغُونَ برأس الفاصلة
فصار كالمشاكلة، وزعم- أن القراءة المذكورة خطأ- خطأ كما لا
يخفى، وقرأ قتادة «أفحكم» بفتح الفاء والحاء والكاف، أي
أفحاكما كحكام الجاهلية يَبْغُونَ وكانت الجاهلية تسمى من قبل-
كما أخرج ابن أبي حاتم عن عروة- عالمية حتى جاءت امرأة، فقالت
يا رسول الله كان في الجاهلية كذا وكذا فأنزل الله تعالى ذكر
الجاهلية وحكم عليهم بهذا العنوان وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللَّهِ حُكْماً إنكار لأن يكون أحد حكمه أحسن من حكم الله
تعالى، أو مساو له كما يدل عليه الاستعمال وإن كان ظاهر السبك
غير متعرض لنفي المساواة وإنكارها لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي عند
قوم، فاللام بمعنى عند، وإليه ذهب الجبائي، وضعفه في الدر
المصون، وصحح أنها للبيان متعلقة بمحذوف كما في هَيْتَ لَكَ
[يوسف: 23] وسقيا لك، أي تبين وظهر مضمون هذا الاستفهام
الإنكاري لقوم يتدبرون الأمور ويتحققون الأشياء بأنظارهم وأما
غيرهم فلا يعلمون أنه لا أحسن حكما من الله تعالى، ولعل من فسر
بعند أراد بيان محصل المعنى، وقيل: إن اللام على أصلها، وإنها
صلة أي حكم الله تعالى للمؤمنين على الكافرين أحسن الأحكام
وأعدلها، وهذه الجملة حالية مقررة لمعنى الإنكار السابق.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب يعم حكمه كافة المؤمنين من
المخلصين وغيرهم، وإن كان سبب وروده بعضا- كما ستعرفه إن شاء
الله تعالى- ووصفهم بعنوان الإيمان لحملهم من أول الأمر على
الانزجار عما نهوا عنه بقوله سبحانه وتعالى: لا تَتَّخِذُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ فإن تذكير اتصافهم بضد صفات
الفريقين من أقوى الزواجر عن موالاتهما أي لا يتخذ أحد منكم
أحدا منهم وليا بمعنى لا تصافوهم مصافاة الأحباب ولا
تستنصروهم.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: لما كانت وقعة أحد
اشتد على طائفة من الناس وتخوفوا أن تدال عليهم الكفار، فقال
رجل لصاحبه: أما أنا فألحق بذلك اليهودي فآخذ منه أمانا وأتهود
معه فإني أخاف أن تدال علينا اليهود، وقال الآخر: أما أنا
فألحق بفلان النصراني ببعض أرض الشام فآخذ منه أمانا وأتنصر
معه، فأنزل الله تعالى فيهما ينهاهما يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إلخ.
وأخرج ابن جرير وابن أبي شيبة عن عطية بن سعد قال: «جاء عبادة
بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم
وإني أبرأ إلى الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم من
ولاية يهود وأتولى الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام،
فقال عبد الله بن أبيّ: إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية
موالي» فنزلت
بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي بعض اليهود أولياء لبعض منهم،
وبعض النصارى أولياء لبعض منهم، وأوثر الإجمال لوضوح المراد
بظهور أن اليهود لا يوالون النصارى كالعكس، والجملة مستأنفة
تعليلا للنهي قبلها وتأكيدا لإيجاب اجتناب المنهي عنه أي بعضهم
أولياء بعض متفقون على كلمة واحدة في كل ما يأتون وما يذرون،
(3/324)
ومن ضرورة ذلك إجماع الكل على مضادتكم
ومضارتكم بحيث يسومونكم السوء ويبغونكم الغوائل، فكيف يتصور
بينكم وبينهم موالاة، وزعم الحوفي أن الجملة في موضع الصفة
لأولياء، والظاهر هو الأول وقوله تعالى:
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أي من
جملتهم، وحكمه حكمهم كالمستنتج مما قبله، وهو مخرج مخرج
التشديد والمبالغة في الزجر لأنه لو كان المتولي منهم حقيقة
لكان كافرا وليس بمقصود، وقيل: المراد وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ كافر مثلهم حقيقة، وحكي عن ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما، ولعل ذلك إذا كان توليهم من حيث كونهم يهودا
أو نصارى، وقيل: لا بل لأن الآية نزلت في المنافقين، والمراد
أنهم بالموالاة يكونون كفارا مجاهرين، وقوله سبحانه: إِنَّ
اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أنفسهم بموالاة
الكفار. أو المؤمنين بموالاة أعدائهم، تعليل آخر على ما قيل
يتضمن عدم نفع موالاة الكفرة بل ترتب الضرر عليها، وقيل: هو
تعليل لكون من يتولاهم منهم أي لا يهديهم إلى الإيمان بل
يخليهم وشأنهم فيقعون في الكفر والضلالة، وإنما وضع المظهر
موضع ضميرهم تنبيها على أن توليهم ظلم لما أنه تعريض للنفس
للعذاب الخالد ووضع للشيء في غير موضعه، وقوله تعالى: فَتَرَى
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي نفاق- كعبد الله بن أبيّ
وأضرابه- كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بيان لكيفية
توليتهم وإشعار بسببه وبما يؤول إليه أمرهم، والفاء للإيذان
بترتبه على عدم الهداية وهي للسببية المحضة.
وجوز الكرخي كونها للعطف على إِنَّ اللَّهَ إلخ من حيث المعنى،
والخطاب إما للرسول صلّى الله عليه وسلّم بطريق التلوين، وإما
لكل من له أهلية، والإتيان بالموصول دون ضمير القوم ليشار بما
في حيز الصلة إلى أن ما ارتكبوه من التولي بسبب ما كمن من
المرض والرؤية إما بصرية، وقوله تعالى: يُسارِعُونَ فِيهِمْ
حال من المفعول وهو الأنسب بظهور نفاقهم، وإما قلبية والجملة
في موضع المفعول الثاني، والمراد على التقديرين مسارعين في
موالاتهم إلا أنه قيل: فيهم مبالغة في بيان رغبتهم فيها
وتهالكهم عليها، وإيثار كلمة فِي على كلمة- إلى- للدلالة على
أنهم مستقرون في الموالاة، وإنما مسارعتهم من بعض مراتبها إلى
بعض آخر منها.
وفسر الزمخشري المسارعة بالانكماش لكثرة استعماله بفي، وعدل
عنه بعض المحققين لكونه تفسيرا بالأخفى. واختير أن تعدي
المسارعة هنا بإلى لتضمنها معنى الدخول، وقرىء- فيرى- بياء
الغيبة على أن الضمير- كما قال أبو البقاء- لله تعالى، وقيل:
لمن يصح منه الرؤية، وقيل: الفاعل هو الموصول، والمفعول هو
الجملة على حذف أن المصدرية، والرؤية قلبية أي فيرى القوم
الذين في قلوبهم مرض أن يسارعوا فيهم فلما حذفت أن انقلب الفعل
مرفوعا كما في قوله: ألا أي هذا الزاجري احضر الوغى. وقوله عز
وجل: يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ حال من فاعل
يسارعون، والدائرة- من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها
موصوفها، وأصلها داورة لأنها من دار يدور، ومعناها لغة- على ما
في القاموس- ما أحاط بالشيء، وفي شرح الملخص إن الدائرة سطح
مستو يحيط به خط مستدير يمكن أن يفرض في داخله نقطة يكون البعد
بينها وبينه واحدا في جميع الجهات، وقد تطلق الدائرة على ذلك
الخط المحيط أيضا انتهى، واختلف في أن أي المعنيين حقيقة،
فقيل: إنها حقيقة في الأول، مجاز في الثاني، وقيل:
بالعكس، قال البرجندي: وتحقيق ذلك أنه إذا ثبت أحد طرفي خط
مستقيم وأدير دورة تامة يحصل سطح دائرة يسمى بها لأن هيئة هذا
السطح ذات دور، على أن صيغة الفاعل للنسبة، وإذا توهم حركة
نقطة حول نقطة ثابتة دورة تامة بحيث لا يختلف بعد النقطة
المتحركة عن النقطة الثابتة يحصل محيط دائرة يسمى بها لأن
النقطة كانت دائرة فسمي ما حصل من دورانها دائرة فإن اعتبر
الأول ناسب أن يكون إطلاق الدائرة على السطح حقيقة وعلى المحيط
مجازا، وإذا اعتبر الثاني ناسب أن يكون الأمر بالعكس انتهى.
(3/325)
وتعقبه بعض الفضلاء بأنه لا يخفى ما فيه
لأن إطلاقها بالاعتبار الثاني على المحيط أيضا مجاز لأنه من
باب تسمية المسبب باسم السبب اللهم إلا أن يقال: إنه أراد بكون
إطلاقها على المحيط حقيقة أن إطلاقها عليه ليس مجازا بالوجه
الذي كان به مجازا في الاعتبار الأول، فإن وجه المجاز فيه
التسمية للمحيط باسم المحاط، وهاهنا ليس كذلك كما سمعت لكن هذا
تكلف بعيد، ولو قال في وجه التسمية في اللاحق لأن هيئة الخط
ذات دور على وفق قوله في وجه التسمية السابق لم يرد عليه هذا
فتدبر، وكيفما كان فقد استعيرت لنوائب الزمان بملاحظة إحاطتها،
وقولهم هذا كان اعتذارا عن الموالاة أي نخشى أن تدور علينا
دائرة من دوائر الدهر ودولة من دولة بأن ينقلب الأمر للكفار
وتكون الدولة لهم على المسلمين فنحتاج إليهم قاله مجاهد وقتادة
والسدي.
وعن الكلبي أن المعنى نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه- كالجدب
والقحط- فلا يميروننا ولا يقرضوننا، ولا يبعد من المنافقين
أنهم يظهرون للمؤمنين أنهم يريدون بالدائرة ما قاله الكلبي،
ويضمرون في دوائر قلوبهم ما قاله الجماعة المنبئ عن الشك في
أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد رد الله تعالى عليهم
عللهم الباطلة وقطع أطماعهم الفارغة وبشر المؤمنين بحصول
أمنيتهم بقوله سبحانه: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ
بِالْفَتْحِ فإن- عسى- منه عز وجل وعد محتوم لما أن الكريم إذا
أطمع أطعم فما ظنك بأكرم الأكرمين، والمراد بالفتح فتح مكة-
كما روي عن السدي- وقيل: فتح بلاد الكفار، واختاره الجبائي،
وقال قتادة ومقاتل: هو القضاء الفصل بنصره عليه الصلاة والسلام
على من خالفه وإعزاز الدين، وأن يأتي في تأويل المصدر، وهو
خبر- لعسى- على رأي الأخفش، ومفعول به على رأي سيبويه لئلا
يلزم الإخبار بالحدث عن الذات، والأمر في ذلك عند الأخفش سهل
أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ وهو القتل وسبي الذراري لبني قريظة،
والجلاء لبني النضير عند مقاتل، وقيل: إظهار نفاق المنافقين مع
الأمر بقتلهم، وروي عن الحسن والزجاج، وقيل: موت رأس النفاق،
وحكي ذلك عن الجبائي فَيُصْبِحُوا أي أولئك المنافقون، وهو عطف
على يَأْتِيَ داخل معه في حيز خبر عسى، وفاء السببية لجعلها
الجملتين كجملة واحدة مغنية عن الضمير العائد على الاسم،
والمراد فيصيروا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ من الكفر
والشك في أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم نادِمِينَ خبر- يصبح-
وبه يتعلق عَلى ما أَسَرُّوا وتخصيص الندامة به لا بما كانوا
يظهرونه من موالاة الكفرة لما أنه الذي كان يحملهم على تلك
الموالاة ويغريهم عليها، فدل ذلك على أن ندامتهم على التولي
بأصله وسببه.
وأخرج ابن منصور وابن أبي حاتم عن عمرو أنه سمع ابن الزبير
يقرأ- عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبح الفساق
على ما أسروا في أنفسهم نادمين- قال عمرو: لا أدري أكان ذلك
منه قراءة أم تفسيرا وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا كلام مستأنف
مسوق لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة.
وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر بغير واو على أنه استئناف بياني
كأنه قيل: فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ وقرأ أبو عمرو ويعقوب
«ويقول» بالنصب عطفا على «فيصبحوا» ، وقيل: على أَنْ يَأْتِيَ
بحسب المعنى كأنه قيل: عسى أن يأتي الله بالفتح وَيَقُولُ
الَّذِينَ آمَنُوا بإسناد يَأْتِيَ إلى الاسم الجليل دون
ضميره، واعتبر ذلك لأن العطف على خبر- عسى- أو مفعولها يقتضي
أن يكون فيه ضمير الله تعالى ليصح الإخبار به، أو ليجرى على
استعماله، ولا ضمير فيه هنا ولا ما يغني عنه، وفي صورة العطف
باعتبار المعنى تكون- عسى- تامة لإسنادها إلى أَنْ وما في
حيزها فلا حاجة حينئذ إلى ضمير، وهذا كما قيل: قريب من عطف
التوهم، وكأنهم عبروا عنه بذلك دونه تأدبا، وجوز بعضهم أن يكون
أَنْ يَأْتِيَ بدلا من الاسم الجليل، والعطف على البدل، وعسى-
تامة أيضا كما صرح به الفارسي، وبعضهم يجعل العطف على خبر-
عسى- ويقدر ضميرا أي وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا به، وذهب ابن
النحاس
(3/326)
إلى أن العطف على الفتح وهو نظير، ولبس
عباءة وتقر عيني.
واعترض بأن فيه الفصل بين أجزاء الصلة، وهو لا يجوز وبأن
المعنى حينئذ عسى الله تعالى أن يأتي بقول المؤمنين وهو ركيك
وأجيب عن الأول بالفرق بين الإجزاء بالفعل، والإجزاء بالتقدير،
وعن الثاني بأن المراد عسى الله سبحانه أن يأتي بما يوجب قول
المؤمنين من النصرة المظهرة لحالهم.
واختار شيخ الإسلام قدس سره ما قدمناه، ولا يحتاج إلى تكلف
مؤونة تقدير الضمير لأن- فتصبحوا- كما علمت معطوف على يَأْتِيَ
والفاء كافية فيه عن الضمير، فتكفي عن الضمير في المعطوف عليه
أيضا لأن المتعاطفين كالشيء الواحد، ولا حاجة مع هذا إلى القول
بأن العطف عليه بناء على أنه منصوب في جواب الترجي إجراء له
مجرى التمني- كما قال ابن الحاجب- لأن هذا إنما يجيزه الكوفيون
فقط بخلاف الوجه الذي ذكرناه، والمعنى ويقول الذين آمنوا
مخاطبين لليهود مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم
ويرجون دولتهم ويظهرون لهم غاية المحبة وعدم المفارقة عنهم في
السراء والضراء عند مشاهدتهم تخيبة رجائهم وانعكاس تقديرهم
لوقوع ضد ما كانوا يترقبونه، ويتعالون به تعجيبا للمخاطبين من
حالهم وتعريضا بهم.
أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ أي بالنصرة والمعونة- كما قالوه- فيما
حكي عنهم، وإن قوتلتم لننصرنكم، فاسم الإشارة مبتدأ وما بعده
خبره، والمعنى إنكار ما فعلوه واستبعاده وتخطئتهم في ذلك- قاله
شيخ الإسلام، وغيره، واختار غير واحد- أن المعنى يقول المؤمنون
الصادقون بعضهم لبعض أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ
تعالى لليهود إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ والخطاب على التقديرين
لليهود إلا أنه على الأول من جهة المؤمنين، وعلى الثاني من جهة
المقسمين، وفي البحر أن الخطاب على التقدير الثاني للمؤمنين أي
يقول الذين آمنوا بعضهم لبعض تعجبا من حال المنافقين إذ أغلظوا
بالأيمان لهم وأقسموا أنهم معكم وأنهم معاضدوكم على أعدائكم
اليهود فلما حل باليهود ما حل أظهروا ما كانوا يسرونه من
موالاتهم والتمالؤ على المؤمنين، وإليه يشير كلام عطاء وليس
بشيء كما لا يخفى، وجملة إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ لا محل لها من
الإعراب لأنها تفسير وحكاية لمعنى أقسموا لكن لا بألفاظهم وإلا
لقيل: إنا معكم، وذكر السمين وغيره أنه يجوز أن يقال: حلف زيد
لأفعلن وليفعلن، وجَهْدَ أَيْمانِهِمْ منصوب على أنه مصدر-
لأقسموا- من معناه، والمعنى أقسموا إقساما مجتهدا فيه، أو هو
حال بتأويل مجتهدين، وأصله يجتهدون جهد أيمانهم، فالحال في
الحقيقة الجملة، ولذا ساغ كونه حالا كقولهم: افعل ذلك جهدك مع
أن الحال حقها التنكير لأنه ليس حالا بحسب الأصل.
وقال غير واحد: لا يبالى بتعريف الحال هنا لأنها في التأويل
نكرة وهو مستعار من جهد نفسه إذا بلغ وسعها، فحاصل المعنى
أهؤلاء الذين أكدوا الأيمان وشددوها حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ
فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ يحتمل أن يكون هذا جملة مستأنفة مسوقة
من جهته تعالى لبيان مآل ما صنعوه من ادعاء الولاية والقسم على
المعية في كل حال إثر الإشارة إلى بطلانه بالاستفهام، وأن يكون
من جملة مقول المؤمنين بأن يجعل خبرا ثانيا لاسم الإشارة، وقد
قال بجواز نحو ذلك بعض النحاة، ومنه قوله سبحانه: فَإِذا هِيَ
حَيَّةٌ تَسْعى [طه: 20] ، أو يجعل هو الخبر والموصول مع ما في
حيز صلته صفة للمبتدأ، فالاستفهام حينئذ للتقرير، وفيه معنى
التعجب كأنه قيل: ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم، والمعنى بطلت
أعمالهم التي عملوها في شأن موالاتكم وسعوا في ذلك سعيا بليغا
حيث لم تكن لكم دولة كما ظنوا فينتفعوا بما صنعوا من المساعي
وتحملوا من مكابدة المشاق، وفيه من الاستهزاء بالمنافقين
والتقريع للمخاطبين ما لا يخفى- قاله شيخ الإسلام- وذهب بعضهم
إلى أنه إذا كانت من جملة المقول فهي في محل نصب بالقول بتقدير
أن
(3/327)
قائلا يقول: ماذا قال المؤمنون بعد كلامهم
ذلك؟ فقيل: قالوا: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ إلخ، والجملة إما
إخبارية، وشهادة المؤمنين بمضمونها على تقدير أن يكون المراد
به خسران دنيوي وذهاب الأعمال بلا نفع يترتب عليها هو ما أملوه
من دولة اليهود مما لا إشكال فيه، وعلى تقدير أن يكون المراد
أمرا أخرويا فيحتمل أن يكون باعتبار ما يظهر من حال المنافقين
في ارتكاب ما ارتكبوا، وأن تكون باعتبار إخبار النبي صلّى الله
عليه وسلّم بذلك، وإما جملة دعائية ولا ضير في الدعاء بمثل ذلك
على ما مرت الإشارة إليه، وأشعر كلام البعض أن في الجملة معنى
التعجب مطلقا سواء كانت من جملة المقول، أو من قول الله تعالى،
ولعله غير بعيد عند من يتدبر.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ
دِينِهِ شروع في بيان حال المرتدين على الإطلاق بعد أن نهى
سبحانه فيما سلف عن موالاة اليهود والنصارى، وبين أن موالاتهم
مستدعية للارتداد عن الدين، وفصل مصير من يواليهم من المنافقين
قيل: وهذا من الكائنات التي أخبر عنها القرآن قبل وقوعها،
فقد روي أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فرقة، ثلاث في عهد رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم بنو مدلج ورئيسهم ذو الخمار- وهو
الأسود العنسي- كان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده فأخرج
منها عمال النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكتب عليه الصلاة
والسلام إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن، فأهلكه الله تعالى
على يدي فيروز الديلمي بيته فقتله، وأخبر رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم بقتله ليلة قتل فسر به المسلمون وقبض عليه الصلاة
والسلام من الغد، وأتى خبره في شهر ربيع الأول، وبنو حنيفة قوم
مسيلمة الكذاب ابن حبيب تنبأ وكتب إلى رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم سلام عليك، أما بعد: فإني قد أشركت في الأمر معك
وإن لنا نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون، فقدم عليه عليه
الصلاة والسلام رسولان له بذلك فحين قرأ صلّى الله عليه وسلّم
كتابه، قال لهما: فما تقولان أنتما؟ قال: نقول كما قال، فقال
صلّى الله عليه وسلّم: أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت
أعناقكما، ثم كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول
الله إلى مسيلمة الكذاب السلام على من اتبع الهدى، أما بعد:
فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين،
وكان ذلك في سنة عشر فحاربه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بجنود
المسلمين وقتل على يدي وحشي قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهما
وكان يقول: قتلت في جاهليتي خير الناس وفي إسلامي شر الناس،
وقيل: اشترك في قتله هو وعبد الله بن زيد الأنصاري طعنه وحشي
وضربه عبد الله بسيفه، وهو القائل:
يسائلني الناس عن قتله ... فقلت: ضربت، وهذا طعن
في أبيات، وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث أبو بكر رضي
الله تعالى عنه خالد بن الوليد فانهزم بعد القتال إلى الشام،
فأسلم وحسن إسلامه، وارتدت سبع في عهد أبي بكر رضي الله تعالى
عنه، فزارة قوم عيينة بن حصين، وغطفان قوم قرة بن سلمة
القشيري، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد يا ليل، وبنو يربوع قوم
مالك بن نويرة، وبعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر الكاهنة
تنبأت وزوجت نفسها من مسيلمة في قصة شهيرة، وصح أنها أسلمت بعد
وحسن إسلامها، وكندة قوم الأشعث بن قيس، وبنو بكر بن وائل
بالبحرين قوم الحطم بن زيد، وكفى الله تعالى أمرهم على يدي أبي
بكر رضي الله تعالى عنه وفرقة واحدة في عهد عمر رضي الله تعالى
عنه- وهم غسان- قوم جبلة ابن الأيهم تنصر ولحق بالشام ومات على
ردته، وقيل: إنه أسلم، ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه كتب
إلى أحبار الشام لما لحق بهم كتابا فيه: إن جبلة ورد إلي في
سراة قومه فأسلم فأكرمته ثم سار إلى مكة فطاف فوطئ إزاره رجل
من بني فزارة فلطمه جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه، وفي رواية قلع
عينه فاستعدى الفزاري على جبلة إليّ، فحكمت إما بالعفو وإما
بالقصاص، فقال: أتقتص مني وأنا ملك، وهو سوقة؟! فقلت: شملك
وإياه الإسلام فما تفضله
(3/328)
إلا بالعافية، فسأل جبلة التأخير إلى الغد
فلما كان من الليل ركب مع بني عمه ولحق بالشام مرتدا، وروي أنه
ندم على ما فعله وأنشد:
تنصرت بعد الحق عارا للطمة ... ولم يك فيها لو صبرت لها ضرر
فأدركني منها لجاج حمية ... فبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... صبرت على القول الذي قاله عمر
هذا واعترض القول بأن هذا من الكائنات التي أخبر الله تعالى
عنها قبل وقوعها بأن من شرطية، والشرط لا يقتضي الوقوع إذ أصله
أن يستعمل في الأمور المفروضة، وأجيب بأن الشرط قد يستعمل في
الأمور المحققة تنبيها على أنها لا يليق وقوعها بل كان ينبغي
أن تدرج في الفرضيات وهو كثير، وقد علم من وقوع ذلك بعد هذه
الآية أن المراد هذا، وقرأ نافع وابن عامر- ومن يرتدد- بفك
الإدغام وهو الأصل لسكون ثاني المثلين، وهو كذلك في بعض مصاحف
الإمام، وقوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ جواب مَنْ
الشرطية الواقعة مبتدأ، واختلف في خبرها، فقيل:
مجموع الشرط والجزاء، وقيل: الجزاء فقط فعلى الأول لا يحتاج
الجزاء وحده إلى ضمير يربطه، وعلى الثاني يحتاج إليه وهو هنا
مقدر أي فسوف يأتي الله تعالى مكانهم بعد إهلاكهم بِقَوْمٍ
يُحِبُّهُمْ محبة تليق بشأنه تعالى على المعنى الذي أراده
وَيُحِبُّونَهُ أي يميلون إليه جل شأنه ميلا صادقا فيطيعونه في
امتثال أوامره واجتناب مناهيه، وهو معطوف على يُحِبُّونَهُ،
وجوز أن يكون حالا من الضمير المنصوب فيه أي وهم يحبونه، وفي
الكشاف محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته وأن لا يفعلوا
ما يوجب سخطه وعقابه، ومحبة الله تعالى لعباده أن يثيبهم أحسن
الثواب على طاعتهم ويعظمهم ويثني عليهم ويرضى عنهم، وأما ما
يعتقده أجهل الناس- وأعداهم للعلم وأهله وأمقتهم للشرع وأسوأهم
طريقة- وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء-
شيئا، وهم الفرقة المفتعلة المنفعلة من الصوف وما يدينون به من
المحبة والعشق والتغني على كراسيهم خربها الله تعالى وفي
مراقصهم عطلها الله تعالى بأبيات الغزل المقولة في المرد إن
الذين يسمونهم شهداء وصعقاتهم التي أين منها صعقة موسى عليه
السلام، ثم دك الطور فتعالى الله عنه علوا كبيرا، ومن كلماتهم
كما أنه بذاته يحبهم كذلك يحبون ذاته فإن الهاء راجعة إلى
الذات دون النعوت والصفات، ومنها الحب شرطه أن تلحقه سكرات
المحبة فإذا لم يكن ذلك لم يكن فيه حقيقة انتهى كلامه.
وقد خلط فيه الغث بالسمين فأطلق القول بالقدح الفاحش في
المتصوفة ونسب إليهم ما لا يعبأ بمرتكبه ولا يعد في البهائم
فضلا عن خواص البشر، ولا يلزم من تسمي طائفة بهذا الاسم غاصبين
له من أهله ثم ارتكابهم ما نقل عنهم بل وزيادة أضعاف أضعافه
مما نعلمه من هذه الطائفة في زماننا- مما ينافي حال المسمين به
حقيقة أن نؤاخذ الصالح بالطالح ونضرب رأس البعض بالبعض وَلا
تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164، الإسراء: 15،
فاطر: 18، الزمر: 7] .
وتحقيق هذا المقام على ما ذكره ابن المنير في الانتصاف أنه لا
شك أن تفسير محبة العبد لله تعالى بطاعته له سبحانه على خلاف
الظاهر وهو من المجاز الذي يسمى فيه المسبب باسم السبب،
والمجاز لا يعدل إليه عن الحقيقة إلا بعد تعذرها فليمتحن حقيقة
المحبة لغة بالقواعد لننظر أهي ثابتة للعبد متعلقة بالله تعالى
أم لا، فالمحبة لغة ميل المتصف بها إلى أمر ملذ واللذات
الباعثة على المحبة منقسمة إلى مدرك بالحس كلذة الذوق في
المطعوم.
ولذة النظر في الصور المستحسنة إلى غير ذلك، وإلى لذة مدركة
بالعقل كلذة الجاه والرياسة والعلوم وما يجري
(3/329)
مجراها، فقد ثبت أن في اللذات الباعثة على
المحبة ما لا يدركه إلا العقل دون الحس، ثم تتفاوت المحبة
ضرورة بحسب تفاوت البواعث عليها فليس اللذة برياسة الإنسان على
أهل قرية كلذته بالرياسة على أقاليم معتبرة، وإذا تفاوتت
المحبة بحسب تفاوت البواعث فلذات العلوم أيضا متفاوتة بحسب
تفاوت المعلومات، وليس معلوم أكمل ولا أجل من المعبود الحق،
فاللذة الحاصلة من معرفته ومعرفة جلاله وكماله تكون أعظم،
والمحبة المنبعثة عنها تكون أمكن، وإذا حصلت هذه المحبة بعثت
على الطاعات والموافقات، فقد تحصل من ذلك أن محبة العبد لربه
سبحانه ممكنة واقعة من كل مؤمن فهي من لوازم الإيمان وشروطه،
والناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم، وإذا كان كذلك وجب
تفسير محبة العبد لله عزّ وجلّ بمعناها الحقيقي لغة وكانت
الطاعات والموافقات كالمسبب عنها والمغاير لها، ألا ترى
إلى الأعرابي الذي سأل عن الساعة فقال النبي صلّى الله عليه
وسلّم: «ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كبير عمل ولكن حب
الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فقال عليه الصلاة
والسلام: المرء مع من أحب»
فهذا ناطق بأن المفهوم من المحبة لله تعالى غير الأعمال
والتزام الطاعات لأن الأعرابي نفاها وأثبت الحب، وأقره صلّى
الله عليه وسلّم على ذلك، ثم أثبت إجراء محبة العبد لله تعالى
على حقيقتها لغة والمحبة إذا تأكدت سميت عشقا، فهو المحبة
البالغة المتأكدة، والقول بأنه عبارة عن المحبة فوق قدر
المحبوب فيكفر من قال: أنا عاشق لله تعالى أو لرسوله صلّى الله
عليه وسلّم- كما قاله بعض ساداتنا الحنفية- في حيز المنع عندي،
والمعترفون بتصور محبة العبد لله عز شأنه بالمعنى الحقيقي
ينسبون المنكرين إلى أنهم جهلوا فأنكروا كما أن الصبي ينكر على
من يعتقد أن وراء اللعب لذة من جماع أو غيره، والمنهمك في
الشهوات والغرام بالنساء يظن أن ليس وراء ذلك لذة من رياسة أو
جاه أو نحو ذلك، وكل طائفة تسخر مما فوقها وتعتقد أنهم مشغولون
في غير شيء.
قال حجة الإسلام الغزالي روّح الله تعالى روحه: والمحبون الله
تعالى يقولون لمن أنكر عليهم ذلك: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا
فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ [هود: 38] انتهى،
مع أدنى زيادة ولم يتكلم على معنى محبة الله تعالى للعبد، وأنت
تعلم أن ذلك من المتشابه والمذاهب فيه مشهورة، وقد قدمنا طرفا
من الكلام في هذا المقام فتذكر.
والمراد بهؤلاء القوم في المشهور أهل اليمن،
فقد أخرج ابن أبي شيبة في مسنده، والطبراني والحاكم وصححه من
حديث عياض بن عمر الأشعري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما
نزلت أشار إلى أبي موسى الأشعري- وهو من صميم اليمن- وقال: هم
قوم هذا،
وعن الحسن وقتادة والضحاك أنهم أبو بكر وأصحابه رضي الله تعالى
عنهم الذين قاتلوا أهل الردة، وعن السدي أنهم الأنصار، وقيل:
هم الذين جاهدوا يوم القادسية ألفان من النخع وخمسة آلاف من
كندة وبجيلة وثلاثة آلاف من أفناء الناس، وقد حارب هناك سعد بن
أبي وقاص رستم الشقي صاحب جيش يزدجر،
وقال الإمامية: هم علي كرم الله تعالى وجهه وشيعته يوم وقعة
الجمل وصفين، وعنهم أنهم المهدي ومن يتبعه،
ولا سند لهم في ذلك إلا مروياتهم الكاذبة،
وقيل: هم الفرس لأنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عنهم فضرب يده
على عاتق سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، وقال: هذا وذووه،
وتعقبه العراقي قائلا: لم أقف على خبر فيه، وهو هنا وهم، وإنما
ورد ذلك في قوله تعالى:
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [محمد:
38] كما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه فمن
ذكره هنا فقد وهم أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عاطفين عليهم
متذللين لهم، جمع ذليل لا ذلول فإن جمعه ذلل، وكان الظاهر أن
يقال: أذلة للمؤمنين كما يقال تذلل له، ولا يقال: تذلل عليه
للمنافاة بين التذلل والعلو لكنه عدي بعلى لتضمينه معنى العطف
والحنو المتعدي بها، وقيل: للتنبيه على أنهم مع علو طبقتهم
وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم.
(3/330)
ولعل المراد بذلك أنه استعيرت عَلَى لمعنى
اللام ليؤذن بأنهم غلبوا غيرهم من المؤمنين في التواضع حتى
علوهم بهذه الصفة، لكن في استفادة هذا من ذاك خفاء، وكون
المراد به أنه ضمن الوصف معنى الفضل والعلو- يعني أن كونهم
أذلة ليس لأجل كونهم أذلاء في أنفسهم بل لإرادة أن يضموا إلى
علو منصبهم وشرفهم فضيلة التواضع- لا يخفى ما فيه، لأن قائل
ذلك قابله بالتضمين فيقتضي أن يكون وجها آخر لا تضمين فيه،
وكون الجار على ذلك متعلقا بمحذوف وقع صفة أخرى- لقوم- ومع علو
طبقتهم إلخ تفسير لقوله سبحانه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وخافضون
إلخ تفسير- لأذلة- مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وقيل: عديت
الذلة بعلى لأن العزة في قوله تعالى: أَعِزَّةٍ عَلَى
الْكافِرِينَ عديت بها كما يقتضيه استعمالها، وقد قارنتها
فاعتبرت المشاكلة، وقد صرحوا أنه يجوز فيها التقديم والتأخير،
وقيل: لأن العزة تتعدى بعلى، والذلة ضدها، فعوملت معاملتها لأن
النظير كما يحمل على النظير يحمل الضد على الضد كما صرح به ابن
جني وغيره، وجر «أذلة» و «أعزة» على أنهما صفتان- لقوم-
كالجملة السابقة، وترك العطف بينهما للدلالة على استقلالهم
بالاتصاف بكل منهما وفيه دليل على صحة تأخير الصفة الصريحة عن
غير الصريحة، وقد جاء ذلك في غير ما آية، ومن لم يجوزه جعل
الجملة هنا معترضة ولا يخفى أنه تكلف، ومعنى كونهم أَعِزَّةٍ
عَلَى الْكافِرِينَ أنهم أشداء متغلبون عليهم من عزه إذا غلبه،
ونص العلامة الطيبي أن هذا الوصف جيء به للتكميل لأن الوصف
قبله يوهم أنهم أذلاء محقرون في أنفسهم، فدفع ذلك الوهم
بالإتيان به على حد قوله:
جلوس في مجالسهم رزان ... وإن ضيف ألمّ فهم خفوف
وقرىء «أذلة» و «أعزة» بالنصب على الحالية من- قوم- لتخصيصه
بالصفة يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بالقتال لإعلاء كلمته
سبحانه وإعزاز دينه جل شأنه، وهو صفة أخرى- لقوم- مترتبة على
ما قبلها مبينة مع ما بعدها لكيفية عزتهم، وجوز أبو البقاء أن
يكون حالا من الضمير في أَعِزَّةٍ أي يعزون مجاهدين، وأن يكون
مستأنفا وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ فيما يأتون من الجهاد
أو في كل ما يأتون ويذرون، وهو عطف على يُجاهِدُونَ بمعنى أنهم
جامعون بين المجاهدة والتصلب في الدين، وفيه تعريض بالمنافقين،
وجوز أن يكون حالا من فاعل يُجاهِدُونَ أي يجاهدون وحالهم غير
حال المنافقين، والتعريض فيه حينئذ أظهر، وقيل: إنه على الأولى
لا تعريض فيه بل هو تتميم لمعنى يُجاهِدُونَ مفيد للمبالغة
والاستيعاب وليس بشيء، واعترض القول بالحالية بأنهم نصوا على
أن المضارع المنفي- بلا أو- ما- كالمثبت في عدم جواز دخول
الواو عليه، وأجيب بأن ذلك مبني على مذهب الزمخشري القائل
بجواز اقتران المضارع المنفي- بلا، وما- بالواو، فإن النحاة
جوزوه في المنفي- بلم، ولما- ولا فرق بينهما، واللومة- المرة
من اللوم أي الاعتراض وهو مضاف لفاعله، وأصل لائم لاوم فاعل
كقائم، وفي اللومة مع تنكير لائم مبالغتان على ما قيل، ووجه
ذلك العلامة الطيبي بأنه ينتفي بانتفاء الخوف من اللومة
الواحدة خوف جميع اللومات لأن النكرة في سياق النفي تعم، ثم
إذا انضم إليها تنكير فاعلها يستوعب انتفاء خوف جميع اللوّام،
فيكون هذا تتميما في تتميم أي لا يخافون شيئا من اللوم من أحد
من اللوّام.
وقيل عليه: بأنه كيف يكون لَوْمَةَ أبلغ من لوم مع ما فيها من
معنى الوحدة، فلو قيل: لوم لائم كان أبلغ وأجيب بأنها في الأصل
للمرة لكن المراد بها هنا الجنس، وأتي بالتاء للإشارة إلى أن
جنس اللوم عندهم بمنزلة لومة واحدة، وتعقب بأنه لا يدفع السؤال
لأنه لا قرينة على هذا التجوز مع بقاء الإبهام فيه، وقد يقال:
إن مقام المدح قرينة قوية على ذلك ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من
الأوصاف لا بعضها كما قيل، والإفراد لما تقدم، وكذلك ما فيه من
معنى البعد فَضْلُ اللَّهِ أي لطفه وإحسانه يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشاءُ إيتاءه إياه لا أنهم مستقلون في الاتصاف به وَاللَّهُ
(3/331)
واسِعٌ
كثير الفضل، أو جواد لا يخاف نفاد ما عنده سبحانه عَلِيمٌ
مبالغ في تعلق العلم في جميع الأشياء التي من جملتها من هو أهل
الفضل ومحله، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله،
وإظهار الاسم الجليل للإشعار بالعلة وتأكيد استقلال الجملة
الاعتراضية كما مر غير مرة.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات على ما قاله بعض العارفين: إنا
أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ يحتمل أن يكون الكتاب الأول
إشارة إلى علم الفرقان، والثاني إشارة إلى علم القرآن، والأول
هو ظهور تفاصيل الكمال، والثاني هو العلم الإجمالي الثابت في
الاستعداد، ومعنى كونه مُهَيْمِناً عَلَيْهِ حافظا عليه
بالإظهار، ويحتمل أن يكون الأول إشارة إلى ما بين أيدينا من
المصحف، والثاني إشارة إلى الجنس الشامل للتوراة التي دعوتها
للظاهر، والإنجيل الذي دعوته للباطن، وكتابنا مشتمل على
الأمرين حافظ لكل من الكتابين فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما
أَنْزَلَ اللَّهُ من العدل الذي هو ظل المحبة التي هي ظل
الوحدة التي انكشفت عليك وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ في تغليب
أحد الجانبين إما الظاهر، وإما الباطن لِكُلٍّ جَعَلْنا
مِنْكُمْ شِرْعَةً موردا كمورد النفس ومورد القلب، ومورد الروح
وَمِنْهاجاً طريقا كعلم الأحكام والمعارف التي تتعلق بالنفس
وسلوك طريق الباطن الموصل إلى جنة الصفات، وعلم التوحيد
والمشاهدة الذي يتعلق بالروح وسلوك طريق الفناء الموصل إلى جنة
الذات، وقال بعضهم: إن لله سبحانه بحارا للأرواح وأنهارا
للقلوب، وسواقي للعقول، ولكل واحد منها شرعة في ذلك ترد منها
كشرعة العلم.
وشرعة القدرة وشرعة الصمدية وشرعة المحبة إلى غير ذلك، وله عزّ
وجلّ طرق بعدد أنفاس الخلائق كما قال أبو يزيد قدس سره،
والمراد بها الطرق الشخصية لا مطلقا وكلها توصل إليه سبحانه،
وهذا إشارة إلى اختلاف مشارب القوم وعدم اتحاد مسالكهم، وقد
قال جلّ وعلا: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة:
60 الأعراف: 160] وفرق سبحانه بين الأبرار والمقربين في ذلك،
وقلما يتفق اثنان في مشرب ومنهج، ومن هنا ينحل الإشكال فيما
حكي عن حضرة الباز الأشهب مولانا الشيخ محيي الدين عبد القادر
الكيلاني قدس سره أنه قال:- لا زلت أسير في مهامه القدس حتى
قطعت الآثار فلاح لي أثر قدم من بعيد فكادت روحي تزهق فإذا
النداء هذا أثر قدم نبيك محمد صلّى الله عليه وسلّم فإن ظاهره
يقتضي سبقه للأنبياء والرسل أرباب التشريع عليهم الصلاة
والسلام ونحوهم من الكاملين وهو كما ترى، ووجهه أنه قدس سره
قطع الآثار في الطريق الذي هو فيه، وذلك يقتضي السبق على سالكي
ذلك الطريق لا غير، فيجوز أن يكون مسبوقا بمن ذكرنا من
السالكين طريقا آخر غير ذلك الطريق، وهذا أحسن ما يخطر لي في
الجواب عن ذلك الإشكال نظرا إلى مشربي، ومشارب القوم شتى
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً متفقين في
المشرب والطريق وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ أي
ليظهر عليكم ما آتاكم بحسب استعداداتكم على قدر قبول كل واحد
منكم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي الأمور الموصلة لكم إلى
كمالكم الذي قدر لكم بحسب الاستعدادات المقربة إياكم إليه
بإخراجه إلى الفعل «إلى الله مرجعكم» في عين جمع الوجود على
حسب المراتب فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ وذلك بإظهار آثار ما يقتضيه ذلك الاختلاف وَأَنِ
احْكُمْ بَيْنَهُمْ حسب ما تقتضيه الحكمة ويقبله الاستعداد
بِما أَنْزَلَ اللَّهُ إليك من القرآن الجامع للظاهر والباطن
وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ
عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ فتقصر على الظاهر البحت أو
الباطن المحض وتنفي الآخر فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ كذنب
حجب الأفعال لليهود وذنب حجب الصفات للنصارى وَإِنَّ كَثِيراً
مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ وأنواع الفسق مختلفة، ففسق اليهود
خروجهم عن حكم تجليات الأفعال الإلهية برؤية النفس أفعالها،
وفسق النصارى خروجهم عن حكم تجليات الصفات الحقانية برؤية
النفس صفاتها، والفسق الذي يعتري بعض هذه الأمة الالتفات
(3/332)
إلى ذواتهم والخروج عن حكم الوحدة الذاتية
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وهو الحكم الصادر عن مقام
النفس بالجهل لا عن علم إلهي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الحق فيحتجب ببعض الحجب
فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ في الأزل لا
لعلة وَيُحِبُّونَهُ كذلك ومرجع المحبة التي لا تتغير عند
الصوفية الذات دون الصفات كما قاله الواسطي، وطعن فيه- كما
قدمنا- الزمخشري، وحيث أحبهم- ولم يكونوا إلا في العلم- كان
المحب والمحبوب واحدا في عين الجمع.
وقال السلمي: إنهم بفضل حبه لهم أحبوه وإلا فمن أين لهم المحبة
لله تعالى وما للتراب ورب الأرباب؟! وشرط الحب- كما قال- أن
يلحقه سكرات المحبة، وإلا فليس بحب حقيقة، وقالت أعرابية في
صفة الحب: خفي أن يرى وجل أن يخفى فهو كامن ككمون النار في
الحجر إن قدحته أورى وإن تركته توارى وإن لم يكن شعبة من
الجنون فهو عصارة السحر، وهذا شأن حب الحادث فكيف شأن حب
القديم جل شأنه، والكلام في ذلك طويل أَذِلَّةٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ لمكان الجنسية الذاتية ورابطة المحبة الأزلية
والمناسبة الفطرية بينهم أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ
المحجوبين لضد ما ذكر يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بمحو
صفاتهم وإفناء ذواتهم التي هي حجب المشاهدة وَلا يَخافُونَ
لَوْمَةَ لائِمٍ لفرط حبهم الذي هو الرشاد الأعظم للمتصف به:
وإذا الفتى عرف الرشاد لنفسه ... هانت عليه ملامة العذال
بل إذا صدقت المحبة التذ المحب بالملامة كما قيل:
أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوّم
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ الذي لا يدرك شأواه يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشاءُ من عباده الذين سبقت لهم العناية الإلهية وَاللَّهُ
واسِعٌ الفضل عَلِيمٌ حيث يجعل فضله، نسأل الله تعالى أن يمنّ
علينا بفضله الواسع وجوده الذي ليس له مانع، ثم إنه سبحانه لما
قال: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ وعلله
بما علله، ذكر عقب ذلك من هو حقيق بالموالاة بطريق القصر، فقال
عزّ وجلّ: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا فكأنه قيل: لا تتخذوا أولئك أولياء لأن
بعضهم أولياء بعض وليسوا بأوليائكم إنما أولياؤكم الله تعالى
ورسوله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون فاختصوهم بالموالاة ولا
تتخطوهم إلى الغير، وأفرد الولي مع تعدده ليفيد كما قيل: إن
الولاية لله تعالى بالأصالة وللرسول عليه الصلاة والسلام
والمؤمنين بالتبع، فيكون التقدير إنما وليكم الله سبحانه وكذلك
رسوله صلّى الله عليه وسلّم والذين آمنوا، فيكون في الكلام أصل
وتبع لا أن وَلِيُّكُمُ مفرد استعمل استعمال الجمع كما ظن صاحب
الفرائد، فاعترض بأن ما ذكر بعيد عن قاعدة الكلام لما فيه من
جعل ما لا يستوي الواحد والجمع جمعا، ثم قال: ويمكن أن يقال:
التقدير إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أولياؤكم فحذف الخبر لدلالة السابق عليه، وفائدة الفصل
في الخبر هي التنبيه على أن كونهم أولياء بعد كونه سبحانه
وليا، ثم بجعله إياهم أولياء، ففي الحقيقة هو الولي انتهى.
ولا يخفى على المتأمل أن المآل متحد والمورد واحد، ومما تقرر
يعلم أن قول الحلبي، ويحتمل وجها آخر وهو أن وليا زنة فعيل،
وقد نص أهل اللسان أنه يقع للواحد والاثنين والجمع تذكيرا
وتأنيثا بلفظ واحد- كصديق- غير واقع موقعه لأن الكلام في سر
بياني وهو نكتة العدول من لفظ إلى لفظ، ولا يرد على ما قدمنا
أنه لو كان التقدير كذلك لنا في حصر الولاية في الله تعالى ثم
إثباتها للرسول صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين، لأن الحصر
باعتبار أنه سبحانه الولي أصالة وحقيقة، وولاية غيره إنما هي
بالإسناد إليه عز شأنه الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ بدل من الموصول الأول، أو صفة له
باعتبار إجرائه مجرى الأسماء لأن الموصول وصلة إلى وصف المعارف
بالجمل
(3/333)
والوصف لا يوصف إلا بالتأويل، ويجوز أن
يعتبر منصوبا على المدح، ومرفوعا عليه أيضا، وفي قراءة عبد
الله «- والذين يقيمون الصلاة» بالواو وَهُمْ راكِعُونَ حال من
فاعل الفعلين أي يعملون ما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة
وهم خاشعون ومتواضعون لله تعالى.
وقيل: هو حال مخصوصة بإيتاء الزكاة، والركوع ركوع الصلاة،
والمراد بيان كمال رغبتهم في الإحسان ومسارعتهم إليه، وغالب
الأخباريين على أنها نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه،
فقد أخرج الحاكم وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما بإسناد متصل قال: «أقبل ابن سلام ونفر من قومه
آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا:
يا رسول الله إن منازلنا بعيدة وليس لنا مجلس ولا متحدث دون
هذا المجلس وإن قومنا لما رأونا آمنا بالله تعالى ورسوله صلّى
الله عليه وسلّم وصدقناه رفضونا وآلوا على نفوسهم أن لا
يجالسونا ولا يناكحونا ولا يكلمونا فشق ذلك علينا، فقال لهم
النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنما وليكم الله ورسوله، ثم إنه
صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع
فبصر بسائل، فقال: هل أعطاك أحد شيئا؟ فقال: نعم خاتم من فضة،
فقال: من أعطاكه؟ فقال: ذلك القائم، وأومأ إلى علي كرم الله
تعالى وجهه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: على أي حال
أعطاك؟ فقال: وهو راكع، فكبر النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم
تلا هذه الآية» فأنشأ حسان رضي الله تعالى عنه يقول:
أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي ... وكل بطيء في الهدى ومسارع
أيذهب مدحيك المحبر ضائعا ... وما المدح في جنب الإله بضائع
فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعا ... زكاة فدتك النفس يا خير راكع
فأنزل فيك الله خير ولاية ... وأثبتها أثنا كتاب الشرائع
واستدل الشيعة بها على إمامته كرم الله تعالى وجهه، ووجه
الاستدلال بها عندهم أنها بالإجماع أنها نزلت فيه كرم الله
تعالى وجهه، وكلمة إِنَّما تفيد الحصر، ولفظ الولي بمعنى
المتولي للأمور والمستحق للتصرف فيها، وظاهر أن المراد هنا
التصرف العام المساوي للإمامة بقرينة ضم ولايته كرم الله تعالى
وجهه بولاية الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فثبتت
إمامته وانتفت إمامة غيره، وإلا لبطل الحصر، ولا إشكال في
التعبير عن الواحد بالجمع، فقد جاء في غير ما موضع وذكر علماء
العربية أنه يكون لفائدتين: تعظيم الفاعل وأن من أتى بذلك
الفعل عظيم الشأن بمنزلة جماعة كقوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ
كانَ أُمَّةً [النحل: 12] ليرغب الناس في الإتيان بمثل فعله،
وتعظيم الفعل أيضا حتى أن فعله سجية لكل مؤمن، وهذه نكتة سرية
تعتبر في كل مكان بما يليق به.
وقد أجاب أهل السنة عن ذلك بوجوه: الأول النقض بأن هذا الدليل
كما يدل بزعمهم على نفي إمامة الأئمة المتقدمين كذلك يدل على
سلب الإمامة عن الأئمة المتأخرين كالسبطين رضي الله تعالى
عنهما وباقي الاثني عشر رضي الله تعالى عنهم أجمعين بعين ذلك
التقرير، فالدليل يضر الشيعة أكثر مما يضر أهل السنة كما لا
يخفى، ولا يمكن أن يقال: الحصر إضافي بالنسبة إلى من تقدمه
لأنا نقول: إن حصر ولاية من استجمع تلك الصفات لا يفيد إلا إذا
كان حقيقيا، بل لا يصح لعدم استجماعها فيمن تأخر عنه كرم الله
تعالى وجهه، وإن أجابوا عن النقض بأن المراد حصر الولاية في
الأمير كرم الله تعالى وجهه في بعض الأوقات أعني وقت إمامته لا
وقت إمامة السبطين ومن بعدهم رضي الله تعالى عنهم «قلنا»
فمرحبا بالوفاق إذ مذهبنا أيضا أن الولاية العامة كانت له وقت
كونه إماما لا قبله وهو زمان خلافة الثلاثة، ولا بعده وهو زمان
خلافة من ذكر.
(3/334)
«فإن قالوا» إن الأمير كرم الله تعالى وجهه
لو لم يكن صاحب ولاية عامة في عهد الخلفاء يلزمه نقص بخلاف وقت
خلافة أشباله الكرام رضي الله تعالى عنهم فإنه لما لم يكن حيا
لم تصر إمامة غيره موجبة لنقص شرفه الكامل لأن الموت رافع
لجميع الأحكام الدنيوية «يقال» هذا فرار وانتقال إلى استدلال
آخر ليس مفهوما من الآية إذ مبناه على مقدمتين: الأول أن كون
صاحب الولاية العامة في ولاية الآخر- ولو في وقت من الأوقات-
غير مستقل بالولاية نقص له، والثانية أن صاحب الولاية العامة
لا يلحقه نقص ما بأي وجه وأي وقت كان، وكلتهما لا يفهمان من
الآية أصلا كما لا يخفى على ذي فهم، على أن هذا الاستدلال
منقوض بالسبطين زمن ولاية الأمير كرم الله تعالى وجهه، بل
وبالأمير أيضا في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، والثاني أنا
لا نسلم الإجماع على نزولها في الأمير كرم الله تعالى وجهه،
فقد اختلف علماء التفسير في ذلك،
فروى أبو بكر النقاش صاحب التفسير المشهور عن محمد الباقر رضي
الله تعالى عنه أنها نزلت في المهاجرين والأنصار،
وقال قائل: نحن سمعنا أنها نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه،
فقال: هو منهم يعني أنه كرم الله تعالى وجهه داخل أيضا في
المهاجرين والأنصار ومن جملتهم.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الملك بن أبي سليمان وعبد بن
حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الباقر رضي الله
تعالى عنه أيضا نحو ذلك، وهذه الرواية أوفق بصيغ الجمع في
الآية، وروى جمع من المفسرين عن عكرمة أنها نزلت في شأن أبي
بكر رضي الله تعالى عنه، والثالث أنا لا نسلم أن المراد بالولي
المتولي للأمور والمستحق للتصرف فيها تصرفا عاما، بل المراد به
الناصر لأن الكلام في تقوية قلوب المؤمنين وتسليها وإزالة
الخوف عنها من المرتدين وهو أقوى قرينة على ما ذكره، ولا يأباه
الضم كما لا يخفى على من فتح الله تعالى عين بصيرته، ومن أنصف
نفسه علم أن قوله تعالى فيما بعد: يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ
هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ آب عن حمل الولي على ما
يساوي الإمام الأعظم لأن أحدا لم يتخذ اليهود والنصارى والكفار
أئمة لنفسه وهم أيضا لم يتخذ بعضهم بعضا إماما، وإنما اتخذوا
أنصارا وأحبابا، وكلما إِنَّما المفيدة للحصر تقتضي ذلك المعنى
أيضا لأن الحصر يكون فيما يحتمل اعتقاد الشركة والتردد
والنزاع، ولم يكن بالإجماع وقت نزول هذه الآية تردد ونزاع في
الإمامة وولاية التصرف بل كان في النصرة والمحبة، والرابع أنه
لو سلّم أن المراد ما ذكروه فلفظ الجمع عام، أو مساو له- كما
ذكره المرتضى في الذريعة، وابن المطهر في النهاية- والعبرة
لعموم اللفظ لا لخصوص السبب كما اتفق عليه الفريقان، فمفاد
الآية حينئذ حصر الولاية العامة لرجال متعددين يدخل فيهم
الأمير كرم الله تعالى وجهه، وحمل العام على الخاص خلاف الأصل
لا يصح ارتكابه بغير ضرورة ولا ضرورة.
«فإن قالوا» : الضرورة متحققة هاهنا إذ التصدق على السائل في
حال الركوع لم يقع من أحد غير الأمير كرم الله تعالى وجهه
«قلنا» ليست الآية نصا في كون التصدق واقعا في حال ركوع الصلاة
لجواز أن يكون الركوع بمعنى التخشع والتذلل لا بالمعنى المعروف
في عرف أهل الشرع كما في قوله:
لا تهين الفقير علك أن ... تركع يوما والدهر قدر رفعه
وقد استعمل بهذا المعنى في القرآن أيضا كما قيل في قوله
سبحانه: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران: 43] إذ ليس
في صلاة من قبلنا من أهل الشرائع ركوع هو أحد الأركان
بالإجماع، وكذا في قوله تعالى: وَخَرَّ راكِعاً [ص: 24] وقوله
عزّ وجلّ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ
[المرسلات: 48] على ما بينه بعض الفضلاء، وليس
(3/335)
حمل الركوع في الآية على غير معناه الشرعي
بأبعد من حمل الزكاة المقرونة بالصلاة على مثل ذلك التصدق، وهو
لازم على مدعى الإمامية قطعا.
وقال بعض منا أهل السنة: إن حمل الركوع على معناه الشرعي وجعل
الجملة حالا من فاعل يُؤْتُونَ يوجب قصورا بينا في مفهوم
يُقِيمُونَ الصَّلاةَ إذ المدح والفضيلة في الصلاة كونها خالية
عما لا يتعلق بها من الحركات سواء كانت كثيرة أو قليلة، غاية
الأمر أن الكثيرة مفسدة للصلاة دون القليلة ولكن تؤثر قصورا في
معنى إقامة الصلاة البتة، فلا ينبغي حمل كلام الله تعالى
الجليل على ذلك انتهى.
وبلغني أنه قيل لابن الجوزي رحمه الله تعالى: كيف تصدّق علي
كرم الله تعالى وجهه بالخاتم وهو في الصلاة والظن فيه- بل
العلم الجازم- أن له كرم الله تعالى وجهه شغلا شاغلا فيها عن
الالتفات إلى ما لا يتعلق بها، وقد حكي مما يؤيد ذلك كثير،
فأنشأ يقول:
يسقي ويشرب لا تلهيه سكرته ... عن النديم ولا يلهو عن الناس
أطاعه سكره حتى تمكن من ... فعل الصحاة فهذا واحد الناس
وأجاب الشيخ إبراهيم الكردي قدس سره عن أصل الاستدلال بأن
الدليل قائم في غير محل النزاع، وهو كون علي كرم الله تعالى
وجهه إماما بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غير فصل لأن
ولاية الذين آمنوا على زعم الإمامية غير مرادة في زمان الخطاب،
لأن ذلك عهد النبوة، والإمامة نيابة فلا تتصور إلا بعد انتقال
النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإذا لم يكن زمان الخطاب مرادا
تعين أن يكون المراد الزمان المتأخر عن زمن الانتقال ولا حدّ
للتأخير فليكن ذلك بالنسبة إلى الأمير كرم الله تعالى وجهه بعد
مضي زمان الأئمة الثلاثة فلم يحصل مدعى الإمامية، ومن العجائب
أن صاحب إظهار الحق قد بلغ سعيه الغاية القصوى في تصحيح
الاستدلال بزعمه، ولم يأت بأكثر مما يضحك الثكلى وتفزع من
سماعه الموتى، فقال: إن الأمر بصحبة الله تعالى ورسوله صلّى
الله عليه وسلّم يكون بطريق الوجوب لا محالة، فالأمر بمحبة
المؤمنين المتصفين بما ذكر من الصفات وولايتهم أيضا كذلك إذ
الحكم في كلام واحد يكون موضعه متحدا أو متعددا أو متعاطفا لا
يمكن أن يكون بعضه واجبا وبعضه مندوبا وإلا لزم استعمال اللفظ
بمعنيين، فإذا كانت محبة أولئك المؤمنين وولايتهم واجبة وجوب
محبة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم امتنع أن يراد
منهم كافة المسلمين وكل الأمة باعتبار أن من شأنهم الاتصاف
بتلك الصفات لأن معرفة كل منهم ليحب ويوالي مما لا يمكن لأحد
من المكلفين بوجه من الوجوه، وأيضا قد تكون معاداة المؤمنين
لسبب من الأسباب مباحة بل واجبة فتعين أن يراد منهم البعض، وهو
على المرتضى كرم الله تعالى وجهه انتهى.
ويرد عليه أنه مع تسليم المقدمات أين اللزوم بين الدليل
والمدعى وكيف استنتاج المتعين من المطلق، وأيضا لا يخفى على من
له أدنى تأمل أن موالاة المؤمنين من جهة الإيمان أمر عام بلا
قيد ولا جهة، وترجع إلى موالاة إيمانهم في الحقيقة، والبغض
لسبب غير ضار فيها، وأيضا ماذا يقول في قوله سبحانه:
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ
بَعْضٍ [التوبة: 71] الآية، وأيضا ماذا يجاب عن معاداة الكفار
وكيف الأمر فيها وهم أضعاف المؤمنين؟؟ ومتى كفت الملاحظة
الإجمالية هناك فلتكف هنا. وأنت تعلم أن ملاحظة الكثرة بعنوان
الوحدة مما لا شك في وقوعها فضلا عن إمكانها، والرجوع إلى علم
الوضع يهدي لذلك، والمحذور كون الموالاة الثلاثة في مرتبة
واحدة وليس فليس إذ الأولى أصل، والثانية تبع والثالثة تبع
التبع، فالمحمول مختلف، ومثله الموضوع إذ الموالاة من الأمور
العامة وكالعوارض المشككة، والعطف موجب للتشريك في الحكم لا في
جهته، فالموجود في الخارج
(3/336)
الواجب والجوهر، والعرض مع أن نسبة الوجود
إلى كل غير نسبته إلى الآخر، والجهة مختلفة بلا ريب، وهذا قوله
سبحانه: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى
بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يونس: 108] مع أن الدعوة
واجبة على الرسول صلّى الله عليه وسلّم مندوبة في غيره، ولهذا
قال الأصوليون: القرآن في النظم لا يوجب القرآن في الحكم،
وعدوا هذا النوع من الاستدلال من المسالك المردودة، ثم انه
أجاب عن حديث عدم وقوع التردد مع اقتضاء إِنَّما له بأنه يظهر
من بعض أحاديث أهل السنة أن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم
التمسوا من حضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم الاستخلاف،
فقد روى الترمذي عن حذيفة «أنهم قالوا: يا رسول الله لو
استخلفت؟ قال: لو استخلفت عليكم فعصيتموه عذبتم ولكن ما حدثكم
حذيفة فصدقوه وما أقرأكم عبد الله فاقرؤوه»
وأيضا استفسروا منه عليه الصلاة والسلام عمن يكون إماما بعده
صلّى الله عليه وسلّم،
فقد أخرج أحمد عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: يا رسول الله
من نؤمر بعدك؟ قال: إن تؤمروا أبا بكر رضي الله تعالى عنه
تجدوه أمينا زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، وإن تؤمروا عمر
رضي الله تعالى عنه تجدوه قويا أمينا لا يخاف في الله لومة
لائم، وإن تؤمروا عليا- ولا أراكم فاعلين- تجدوه هاديا مهديا
يأخذ بكم الصراط المستقيم»
وهذا الالتماس والاستفسار يقتضي كل منهما وقوع التردد في حضوره
صلّى الله عليه وسلّم عند نزول الآية، فلم يبطل مدلول إِنَّما
انتهى، وفيه أن محض السؤال والاستفسار لا يقتضي وقوع التردد،
نعم لو كانوا شاوروا في هذا الأمر ونازع بعضهم بعضا بعد ما
سمعوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم جواب ما سألوه لتحقق
المدلول، وليس فليس، ومجرد السؤال والاستفسار غير مقتض- لإنما-
ولا من مقاماته بل هو من مقامات- إن- والفرق مثل الصبح ظاهر،
وأيضا لو سلمنا التردد، ولكن كيف العلم بأنه بعد الآية أو
قبلها منفصلا أو متصلا سببا للنزول أو اتفاقيا، ولا بد من
إثبات القبيلة والاتصال والسببية، وأين ذلك؟ والاحتمال غير
مسموع ولا كاف في الاستدلال.
وبعد هذا كله الحديث الثاني ينافي الحصر صريحا لأنه صلّى الله
عليه وسلّم في مقام السؤال عن المستحق للخلافة ذكر الشيخين،
فإن كانت الآية متقدمة لزم مخالفة الرسول صلّى الله عليه وسلّم
القرآن أو بالعكس لزم التكذيب، والنسخ لا يعقل في الأخبار على
ما قرر، ومع ذا تقدم كل على الآخر مجهول فسقط العمل.
فإن قالوا: الحديث خبر الواحد وهو غير مقبول في باب الإمامة
«قلنا» وكذلك لا يقبل في إثبات التردد والنزاع الموقوف عليه
التمسك بالآية، والحديث الأول يفيد أن ترك الاستخلاف أصلح
فتركه- كما تفهمه الآية بزعمهم- تركه، وهم لا يجوزونه فتأمل،
وذكر الطبرسي في مجمع البيان وجها آخر غير ما ذكره صاحب إظهار
الحق في أن الولاية مختصة، وهو أنه سبحانه قال: إِنَّما
وَلِيُّكُمُ اللَّهُ فخاطب جميع المؤمنين، ودخل في الخطاب
النبي صلّى الله عليه وسلّم وغيره، ثم قال تعالى: وَرَسُولُهُ
فأخرج نبيه عليه الصلاة والسلام من جملتهم لكونهم مضافين إلى
ولايته، ثم قال جل وعلا: وَالَّذِينَ آمَنُوا فوجب أن يكون
الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية، وإلا لزم أن يكون
المضاف هو المضاف إليه بعينه، وأن يكون كل واحد من المؤمنين
ولي نفسه وذلك محال انتهى.
وأنت تعلم أن المراد ولاية بعض المؤمنين بعضا لا أن يكون كل
واحد منهم ولي نفسه، وكيف يتوهم من قولك مثلا: أيها الناس لا
تغتابوا الناس أنه نهي لكل واحد من الناس أن يغتاب نفسه،
وفي الخبر أيضا «صوموا يوم يصوم الناس»
ولا يختلج في القلب أنه أمر لكل أحد أن يصوم يوم يصوم الناس،
ومثل ذلك كثير في كلامهم، وما قدمناه في سبب النزول ظاهر في أن
المخاطب بذلك ابن سلام وأصحابه، وعليه لا إشكال إلا أن ذلك لا
يعتبر مخصصا كما لا يخفى، فالآية على كل حال لا تدل على خلافة
الأمير كرم الله تعالى وجهه على الوجه الذي تزعمه الإمامية،
وهو ظاهر لمن تولى الله تعالى حفظ ذهنه عن غبار العصبية.
(3/337)
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أي ومن يتخذهم أولياء، وأوثر الإظهار على
الإضمار رعاية لما مر من نكتة بيان أصالته تعالى في الولاية
كما ينبئ عنه قوله تعالى: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ
الْغالِبُونَ حيث أضيف الحزب- أي الطائفة والجماعة مطلقا، أو
الجماعة التي فيها شدة- إليه تعالى خاصة وفي هذا- على رأي وضع
الظاهر موضع الضمير أيضا العائد إلى مَنْ أي فإنهم الغالبون
لكنهم جعلوا حزب الله تعالى- تعظيما لهم وإثباتا لغلبتهم
بالطريق البرهاني كأنه قيل: ومن يتول هؤلاء فإنهم حزب الله
تعالى وحزب الله تعالى هم الغالبون.
والجملة دليل الجواب عند كثير من المعربين يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً أخرج ابن إسحاق وجماعة عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت
وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا، وكان رجال من
المسلمين يوادّونهما فأنزل الله تعالى هذه الآية، ورتب سبحانه
النهي على وصف يعمهما وغيرهما تعميما للحكم وتنبيها على العلة
وإيذانا بأن من هذا شأنه جدير بالمعاداة فكيف بالموالاة،
والهزؤ- كما في الصحاح- السخرية، تقول: هزئت منه، وهزئت به- عن
الأخفش- واستهزأت به وتهزأت، وهزأت به أيضا هزؤا ومهزأة- عن
أبي زيد- ورجل هزأة بالتسكين أي يهزأ به، وهزأة بالتحريك يهزأ
بالناس، وذكر الزجاج أنه يجوز في هُزُواً أربعة أوجه: الأول-
«هزؤ» - بضم الزاي مع الهمزة وهو الأصل والأجود، والثاني-
«هزو» - بضم الزاي مع إبدال الهمزة واوا لانضمام ما قبلها،
والثالث- «هزأ» - بإسكان الزاي مع الهمزة، والرابع- هزى- كهدى،
ويجوز القراءة بما عدا الأخير، واللعب- بفتح أوله وكسر ثانيه
كاللعب، واللعب بفتح اللام وكسرها مع سكون العين، والتلعاب
مصدر لعب كسمع، وهو ضد الجد كما في القاموس، وفي مجمع البيان:
هو الأخذ على غير طريق الجد، ومثله العبث، وأصله من لعاب الصبي
يقال: لعب كسمع، ومنع إذا سال لعابه وخرج إلى غير جهة،
والمصدران: إما بمعنى اسم المفعول، أو الكلام على حذف مضاف أو
قصد المبالغة، وقوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
مِنْ قَبْلِكُمْ في موضع الحال من الَّذِينَ قبله، أو من فاعل-
اتخذوا- والتعرض لعنوان إيتاء الكتاب لبيان كمال شناعتهم وغاية
ضلالتهم لما أن إيتاء الكتاب وازع لهم عن اتخاذ دين المؤمنين
المصدقين بكتابهم هُزُواً وَلَعِباً وَالْكُفَّارَ أي
المشركين، وقد ورد بهذا المعنى في مواضع من القرآن وخصوا به
لتضاعف كفرهم، وهو عطف على الموصول الأول، وعليه لا تصريح
باستهزائهم هنا، وإن أثبت لهم في آية إِنَّا كَفَيْناكَ
الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: 95] إذ المراد بهم مشركو العرب،
ولا يكون النهي حينئذ بالنظر إليهم معللا بالاستهزاء بل نهوا
عن موالاتهم ابتداء، وقرأ الكسائي وأهل البصرة وَالْكُفَّارَ
بالجر عطفا على الموصول الأخير، ويعضد ذلك قراءة أبيّ- ومن
الكفار- وقراءة عبد الله «ومن الذين أشركوا» فهم أيضا من جملة
المستهزئين صريحا، وقوله تعالى: أَوْلِياءَ مفعول ثاني-
للاتتخذوا- والمراد جانبوهم كل المجانبة وَاتَّقُوا اللَّهَ في
ذلك بترك موالاتهم، أو بترك المناهي على الإطلاق فيدخل فيه ترك
موالاتهم دخولا أوليا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حقا فإن قضية
الإيمان توجب الاتقاء لا محالة وَإِذا نادَيْتُمْ أي دعا بعضكم
بعضا إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها أي الصلاة، أو المناداة
إليها هُزُواً وَلَعِباً.
أخرج البيهقي في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان منادي رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم إذا نادى بالصلاة فقام المسلمون إليها قالت اليهود:
قد قاموا لا قاموا، فإذا رأوهم ركعا وسجدا استهزؤوا بهم وضحكوا
منهم، وأخرج ابن جرير وغيره عن السدي قال: كان رجل من النصارى
بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي- أشهد أن محمدا رسول الله-
قال: حرق الكاذب، فدخلت خادمه ذات ليلة بنار وهو نائم وأهله
نيام فسقطت شرارة فأحرقت البيت وأحرق هو وأهله، والكلام مسوق
لبيان استهزائهم بحكم خاص من أحكام الدين بعد
(3/338)
قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ
أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ
مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ
الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ
شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا
بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ
يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ
السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا
يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ
الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا
يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ
مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا
بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا
وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ
وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ
أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا
أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ
فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ
مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
بيان استهزائهم بالدين على الإطلاق إظهارا
لكمال شقاوتهم ذلِكَ أي الاتخاذ المذكور بِأَنَّهُمْ أي بسبب
أنهم قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ فإن السفه يؤدي إلى الجهل بمحاسن
الحق والهزء به، ولو كان لهم عقل في الجملة لما اجترءوا على
تلك العظيمة، قيل: وفي الآية دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب
لا بالمنام وحده، واعترض بأن قوله سبحانه:
وَإِذا نادَيْتُمْ لا يدل على الأذان اللهم إلا أن يقال: حيث
ورد بعد ثبوته كان إشارة إليه فيكون تقريرا له، قال في الكشف:
أقول فيه: إن اتخاذ المناداة هُزُواً منكر من المناكير لأنها
من معروفات الشرع، فمن هذه الحيثية دل على أن المناداة التي
كانوا عليها حق مشروع منه تعالى، وهو المراد بثبوته بالنص بعد
أن ثبت ابتداء بالسنة، ومنام عبد الله بن زيد الأنصاري الحديث
بطوله، ولا ينافيه أن ذلك كان أول ما قدموا المدينة، والمائدة
من آخر القرآن نزولا، وقوله: لا بالمنام وحده ليس فيه ما يدل
على أن السنة غير مستقلة في الدلالة لأن الأدلة الشرعية معرفات
وأمارات لا مؤثرات وموجبات وترادف المعرفات لا ينكر انتهى،
ولأبي حيان في هذا المقام كلام لا ينبغي أن يلتفت إليه لما فيه
من المكابرة الظاهرة، وسمي الأذان مناداة لقول المؤذن فيه: حي
على الصلاة حي على الفلاح.
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ أمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم
بطريق تلوين الخطاب بعد نهي المؤمنين عن قول المستهزئين بأن
يخاطبهم ويبين أن الدين منزه عما يصحح صدور ما صدر منهم من
الاستهزاء ويظهر لهم سبب ما ارتكبوه ويلقمهم الحجر، ووصفوا
بأهلية الكتاب تمهيدا لما سيذكر سبحانه من تبكيتهم وإلزامهم
بكفرهم بكتابهم أي قل يا محمد لأولئك الفجرة هَلْ تَنْقِمُونَ
مِنَّا أي هل تنكرون وتعيبون منا، وهو من نقم منه كذا إذا
أنكره وكرهه من حد ضرب، وقرأ الحسن تَنْقِمُونَ بفتح القاف من
حدّ علم، وهي لغة قليلة، وقال الزجاج: يقال: نقم بالفتح
والكسر، ومعناه
(3/339)
بالغ في كراهة الشيء، وأنشد لعبد الله بن
قيس:
ما نقموا من بني أمية ... إلا أنهم يحلمون إن غضبوا
وفي النهاية يقال: نقم ينقم إذا بلغت به الكراهة حد السخط،
ويقال: نقم من فلان الإحسان إذا جعله مما يؤديه إلى كفر
النعمة، ومنه حديث الزكاة
«ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله تعالى»
أي ما ينقم شيئا من منع الزكاة إلا أن يكفر النعمة، فكأن غناه
أداه إلى كفر نعمة الله تعالى، وعن الراغب إن تفسير نقم بأنكر
وأعاب لأن النقمة معناها الإنكار باللسان أو بالعقوبة لأنه لا
يعاقب إلا على ما ينكر فيكون على حد قوله: ونشتم بالأفعال لا
بالتكلم.
وهو كما قال الشهاب: مما يعدى- بمن، وعلى- وقال أبو حيان: أصله
أن يتعدى بعلى، ثم افتعل المبني منه يعدى بمن لتضمنه معنى
الإصابة بالمكروه، وهنا فعل بمعنى افتعل ولم يذكر له مستندا في
ذلك إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا من
القرآن المجيد. وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل إنزاله من
التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ أي متمردون
خارجون عن دائرة الإيمان بما ذكر، فإن الكفر بالقرآن العظيم
مستلزم للكفر بسائر الكتب كما لا يخفى، والواو للعطف وما بعدها
عطف على أَنْ آمَنَّا.
واختار بعض أجلة المحققين أنه مفعول له- لتنتقمون- والمفعول به
الدين وحذف ثقة بدلالة ما قبل وما بعد عليه دلالة واضحة، فإن
اتخاذ الدين هزوا ولعبا عين نقمه وإنكاره، والإيمان بما فصل
عين الدين الذي نقموه، خلا أنه في معرض علة نقمهم له تسجيلا
عليهم بكمال المكابرة والتعكيس حيث جعلوه موجبا لنقمه مع كونه
في نفسه موجبا لقبوله وارتضائه، فالاستثناء على هذا من أعم
العلل أي ما تنقمون منا ديننا لعلة من العلل إلا لإيماننا
بالله تعالى وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل من كتبكم ولأن
أكثركم متمردون غير مؤمنين بشيء مما ذكر حتى لو كنتم مؤمنين
بكتابكم الناطق بصحة كتابنا لآمنتم به، وقدر بعضهم المفعول
المحذوف شيئا ولا أرى فيه بأسا، وقيل: العطف على أَنْ آمَنَّا
باعتبار كونه المفعول به لكن لا على أن المستثنى مجموع
المعطوفين إذ لا يعترفون أن أكثرهم فاسقون حتى ينكروه بل هو ما
يلزمهما من المخالفة، فكأنه قيل: هل تنكرون منا إلا أنا على
حال يخالف حالكم حيث دخلنا في الإسلام وخرجتم منه بما خرجتم،
وقيل: الكلام على حذف مضاف أي واعتقاد أن أكثركم فاسقون، وقيل:
العطف على المؤمن به أي هل تنقمون منا إلا إيماننا بالله وَما
أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وبأن أكثركم
كافرون، وهذا في المعنى كالوجه الذي قبله.
وقيل: العطف على علة محذوفة، وقد حذف الجار في جانب المعطوف،
ومحله إما جر أو نصب على الخلاف المشهور أي هل تنقمون منا إلا
الإيمان لقلة إنصافكم ولأن أكثركم فاسقون، وقيل: هو منصوب بفعل
مقدر منفي دل عليه المذكور أي ولا تنقمون إن أكثركم فاسقون،
وقيل: هو مبتدأ خبره محذوف، ويقدر مقدما عند بعض لأن أَنْ
المفتوحة لا يقع ما معها مبتدأ إلا إذا تقدم الخبر.
وقال أبو حيان: إن أَنْ لا يبتدأ بها متقدمة إلا بعد أما فقط،
وخالف الكثير من النحاة في هذا الشرط على أنه يغتفر في الأمور
التقديرية ما لا يغتفر في غيرها، والجملة على التقديرين حالية،
أو معترضة أي وفسقكم ثابت أو معلوم، وقيل: الواو بمعنى مع أي
هل تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم إلخ.
وتعقبه العلامة التفتازاني بأن هذا لا يتم على ظاهر كلام
النحاة من أنه لا بد في المفعول معه من المصاحبة في معمولية
الفعل، وحينئذ يعود المحذور وهو أنهم نقموا كون أكثرهم فاسقين،
نعم يصح على مذهب الأخفش حيث اكتفى في المفعول معه بالمقارنة
في الوجود مستدلا بقولهم: سرت والنيل وجئتك وطلوع الشمس، وبحث
فيه بأن
(3/340)
ذلك الاشتراط في المفعول معه لا يوجب
الاشتراط في كل واو بمعنى مع، فليكن الواو بمعنى مع من غير أن
يكون مفعولا معه لانتفاء شرطه وهو مصاحبته معمول الفعل بل يكون
للعطف.
وقيل: الواو زائدة «وأن أكثركم» إلخ في موضع التعليل أي هل
تنقمون منا إلا الإيمان لأن أكثركم فاسقون.
وقرأ نعيم بن ميسرة «وإن أكثركم» بكسر الهمزة، والجملة حينئذ
مستأنفة مبينة لكون أكثرهم متمردين، والمراد بالأكثر من لم
يؤمن وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: 40] قُلْ هَلْ
أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ تبكيت لأولئك الفجرة أيضا
ببيان أن الحقيق بالنقم والعيب حقيقة ما هم عليه من الدين
المحرف، وفيه نعي عليهم على سبيل التعريض بجناياتهم وما حاق
بهم من تبعاتها وعقوباتها، ولم يصرح سبحانه لئلا يحملهم
التصريح بذلك على ركوب متن المكابرة والعناد، وخاطبهم قبل
البيان بما ينبئ عن عظم شأن المبين، ويستدعي إقبالهم على تلقيه
من الجملة الاستفهامية المشوقة إلى المخبر به، والتنبئة
المشعرة بكونه أمرا خطرا لما أن النبأ هو الخبر الذي له شأن
وخطر، والإشارة إلى الدين المتقوم لهم، واعتبرت الشرّية
بالنسبة إليه- مع أنه خير محض منزه عن شائبة الشرّية بالكلية-
مجاراة معهم على زعمهم الباطل المنعقد على كمال شرّيته، وحاشاه
ليثبت أن دينهم شر، من كل شر، ولم يقل سبحانه بأنقم تنصيصا على
مناط الشرية لأن مجرد النقم لا يفيدها البتة لجواز كون العيب
من جهة العائب:
فكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم
وفي ذلك تحقيق لشرية ما سيذكر وزيادة تقرير لها، وقيل: إنما
قال: بِشَرٍّ لوقوعه في عبارة المخاطبين،
فقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير، وغيرهما عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما قال: أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم نفر من يهود
فيهم أبو ياسر بن أخطب ونافع بن أبي نافع وغازي بن عمرو وزيد
وخالد وإزار بن أبي إزار فسألوه عليه الصلاة والسلام عمن يؤمن
به من الرسل قال: أومن بالله تعالى وما أنزل إلى إبراهيم
وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى، وما
أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون،
فلما ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام جحدوا نبوته، وقالوا: لا
نؤمن بعيسى ولا نؤمن بمن آمن به، ثم قالوا- كما في رواية
الطبراني- لا نعلم دينا شرا من دينكم، فأنزل الله تعالى الآية،
وبهذا الخبر انتصر من ذهب إلى أن المخاطبين- بأنبئكم- هم أهل
الكتاب.
وقال بعضهم: المخاطب هم الكفار مطلقا، وقيل: هم المؤمنون، وكما
اختلف في الخطاب اختلف في المشار إليه بذلك، فالجمهور على ما
قدمناه، وقيل: الإشارة إلى الأكثر الفاسقين، ووحد الاسم إما
لأنه يشار به إلى الواحد وغيره، وليس كالضمير، أو لتأويله
بالمذكور ونحوه.
وقيل: الإشارة إلى الأشخاص المتقدمين الذين هم أهل الكتاب،
والمراد أن السلف شر من الخلف مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ أي
جزاء ثابتا عنده تعالى، وهو مصدر ميمي بمعنى الثواب، ويقال في
الخير والشر لأنه ما رجع إلى الإنسان من جزاء أعماله سمي به
بتصور أن ما عمله يرجع إليه كما يشير إليه قوله تعالى: فَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8] حيث لم يقل
سبحانه- ير جزاءه- إلا أن الأكثر المتعارف استعماله في الخير،
ومثله في ذلك المثوبة واستعمالها هنا في الشر على طريقة التحكم
كقوله: تحية بينهم ضرب وجيع. ونصبها على التمييز من بِشَرٍّ،
وقيل: يجوز أن تجعل مفعولا له- لأنبئكم- أي هل أنبئكم لطلب
مثوبة عند الله تعالى في هذا الإنباء، ويحتمل أن يصير سبب
مخافتكم ويفضي إلى هدايتكم، وعليه فالمثوبة في المتعارف من
استعمالها، وهو وإن كان له وجه لكنه خلاف الظاهر، وقرىء
«مثوبة» بسكون الثاء وفتح الواو، ومثلها مشورة. ومشورة خلافا
للحريري في إيجابه مشورة كمعونة، وقوله سبحانه: مَنْ لَعَنَهُ
اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ خبر لمبتدأ محذوف بتقدير مضاف قبله
(3/341)
مناسب لما أشير إليه بذلك أي دين من لعنه
الله إلخ، أو بتقدير مضاف قبل اسم الإشارة مناسب لمن أي بشر من
أهل ذلك، والجملة على التقديرين استئناف وقع جوابا لسؤال نشأ
من الجملة الاستفهامية- كما قال الزجاج- إما على حالها- أو
باعتبار التقدير فيها فكأنه قيل: ما الذي هو شر من ذلك؟ فقيل:
هو دين من لعنه إلخ، أو من الذي هو شر من أهل ذلك؟ فقيل: هو من
لعنه الله إلخ.
وجوز- ولا ينبغي أن يجوز عند التأمل- أن يكون بدلا من شر، ولا
بد من تقدير مضاف أيضا على نحو ما سبق آنفا، والاحتياج إليه
هاهنا- ليخرج من كونه بدل- غلط، وهو لا يقع في فصيح الكلام،
وأما في الوجه الأول فأظهر من أن يخفى، وإذا جعل ذلك إشارة إلى
الأشخاص لم يحتج الكلام إلى ذلك التقدير كما هو ظاهر، ووضع
الاسم الجليل موضع الضمير لتربية المهابة وإدخال الروعة وتهويل
أمر اللعن وما تبعه، والموصول عبارة عن أهل الكتاب حيث أبعدهم
الله تعالى عن رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي
بعد وضوح الآيات وسطوع البينات وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ
وَالْخَنازِيرَ أي مسخ بعضهم قردة- وهم أصحاب السبت- وبعضهم
خنازير- وهم كفار مائدة عيسى عليه الصلاة والسلام- وعن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما أن المسخين كانا في أصحاب السبت،
مسخت شبانهم قردة وشيوخهم خنازير، وضمير مِنْهُمُ راجع إلى-
من- باعتبار معناه كما أن الضميرين الأولين له باعتبار لفظه،
وكذا الضمير في قوله سبحانه: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ فإنه عطف
على صلة- من- كما قال الزجاج، وزعم الفراء أن في الكلام موصولا
محذوفا أي ومن عبد، وهو معطوف على منصوب جَعَلَ أي وجعل منهم
من عبد إلخ، ولا يخفى أنه لا يصلح إلا عند الكوفيين، والمراد
بالطاغوت- عند الجبائي- العجل الذي عبده اليهود، وعن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما والحسن أنه الشيطان، وقيل: الكهنة وكل من
أطاعوه في معصية الله تعالى، والعبادة فيما عدا القول الأول
مجاز عن الإطاعة، قال شيخ الإسلام: وتقديم أوصافهم المذكورة
بصدد إثبات شرية دينهم على وصفهم هذا مع أنه الأصل المستتبع
لها في الوجود وأن دلالته على شريته بالذات لأن عبادة الطاغوت
عين دينهم البين البطلان، ودلالتها عليها بطريق الاستدلال
بشرية الآثار على شرية ما يوجبها من الاعتقاد، والعمل إما
للقصد إلى تبكيتهم من أول الأمر بوصفهم بما لا سبيل لهم إلى
الجحود لا بشريته وفظاعته ولا باتصافهم به، وإما للإيذان
باستقلال كل من المقدم والمؤخر بالدلالة على ما ذكر من الشرية.
ولو روعي ترتيب الوجود، وقيل: من عبد الطاغوت ولعنه الله وغضب
عليه إلخ لربما فهم أن علية الشرية هو المجموع انتهى.
وأنت تعلم أن كون هذا الوصف أصلا غير ظاهر على ما ذهب إليه
الجبائي، وأن كون الاتصاف- باللعن والغضب مما لا سبيل لهم إلى
الجحود به- في حيز المنع، كيف وهم يقولون: نَحْنُ أَبْناءُ
اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:
18] إلا أن يقال: إن الآثار المترتبة على ذلك الدالة عليه في
غاية الظهور بحيث يكون إنكار مدلولها مكابرة، وقيل:
قدم وصفي اللعن والغضب لأنهما صريحان في أن القوم منقومون،
ومشيران إلى أن ذلك الأمر عظيم وعقبهما بالجعل المذكور ليكون
كالاستدلال على ذلك، وأردفه بعبادة الطاغوت الدالة على شرية
دينهم أتم دلالة ليتمكن في الذهن أتم تمكن لتقدم ما يشير إليها
إجمالا، وهذا أيضا غير ظاهر على مذهب الجبائي، ولعل رعايته غير
لازمة لانحطاط درجته في هذا المقام، والظاهر من عبارة شيخ
الإسلام أنه بنى كلامه على هذا المذهب حيث قال بعد ما قال:
والمراد من الطاغوت العجل، وقيل: الكهنة وكل من أطاعوه في
معصية الله تعالى، فيعم الحكم دين النصارى أيضا، ويتضح وجه
تأخير عبادته عن العقوبات المذكورة إذ لو قدمت عليها لزم
اشتراك الفريقين في تلك العقوبات انتهى، فتدبر حقه.
وفي الآية كما قال جمع: عدة قراءات اثنتان من السبعة وما
عداهما شاذ، فقرأ الجمهور غير حمزة «عبد» على
(3/342)
صيغة الماضي المعلوم، والطاغوت بالنصب وهي
القراءة التي بني التفسير عليها، وقرأ حمزة «وعبد الطاغوت»
بفتح العين وضم الباء وفتح الدال، وخفض الطاغوت على أن عَبَدَ
واحد مراد به الجنس وليس بجمع لأنه لم يسمع مثله في أبنيته بل
هو صيغة مبالغة، ولذا قال الزمخشري: معناه الغلو في العبودية،
وأنشد عليه قول طرفة:
أبني لبني إن أمكم ... أمة وإن أباكم عبد
أراد عبدا، وقد ذكر مثله ابن الأنباري والزجاج فقالا: ضمت
الباء للمبالغة، كقولهم، للفطن والحذر: فطن وحذر، بضم العين،
فطعن أبي عبيدة والفراء في هذه القراءة، ونسبة قارئها إلى
الوهم وهم، والنصب بالعطف على الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ
وقرىء وَعَبَدَ بفتح العين وضم الباء. وكسر الدال وجر الطاغوت
بالإضافة، والعطف على- من- بناء على أنه مجرور بتقدير المضاف،
أو بالبدلية على ما قيل، ولم يرتض.
وقرأ أبيّ «عبدوا» بضمير الجمع العائد على من باعتبار معناها،
والعطف مثله في قراءة الجمهور، وقرأ الحسن «عباد» جمع عبد
«وعبد» بالإفراد بجر «الطاغوت» ونصبه، والجر بالإضافة، والنصب
إما على أن الأصل «عبد» بفتح الباء، أو عبد بالتنوين فحذف
كقوله. ولا ذاكر الله إلا قليلا. بنصب الاسم الجليل والعطف
ظاهر، وقرأ الأعمش والنخعي وأبان «عبد» على صيغة الماضي
المجهول مع رفع «الطاغوت» على أنه نائب الفاعل، والعطف على
صلة- من- وعائد الموصول محذوف أي عَبَدَ فيهم أو بينهم وقرأ
بعض كذلك إلا أنه أنث، فقرأ «عبدت» بتاء التأنيث الساكنة،
والطاغوت: يذكر ويؤنث كما مر وأمر العطف والعائد على طرز
القراءة قبل.
وقرأ ابن مسعود «عبد» بفتح العين وضم الباء وفتح الدال مع رفع
الطاغوت على الفاعلية- لعبد- وهو كشرف كأن العبادة صارت سجية
له، أو أنه بمعنى صار معبودا كأمر أي صار أميرا، والعائد على
الموصول على هذا أيضا محذوف، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما «عبد» بضم العين والباء وفتح الدال، وجر «الطاغوت» فعن
الأخفش أنه جمع عبيد جمع عبد فهو جمع الجمع. أو جمع عابد-
كشارف وشرف- أو جمع عبد كسقف وسقف. أو جمع عباد- ككتاب وكتب-
فهو جمع الجمع أيضا مثل ثمار وثمر.
وقرأ الأعمش أيضا «عبّد» بضم العين وتشديد الباء المفتوحة وفتح
الدال وجر «الطاغوت» جمع عابد وعبد- كحطم وزفر- منصوبا مضافا
للطاغوت مفردا وقرأ ابن مسعود أيضا «عبّد» بضم العين وفتح
الباء المشددة وفتح الدال، ونصب «الطاغوت» على حد:
ولا ذاكر الله إلا قليلا بنصب الاسم الجليل، وقرىء «وعابد
الشيطان» بنصب عابد، وجر الشيطان بدل الطاغوت، وهو تفسير عند
بعض لا قراءة. وقرىء- «عباد» - كجهال- «وعباد» - كرجال جمع
عابد أو عبد، وفيه إضافة العباد لغير الله تعالى وقد منعه
بعضهم، وقرىء «عابد» بالرفع على أنه خبر مبتدأ مقدر، وجر
«الطاغوت» وقرىء «عابدوا» بالجمع والإضافة، وقرىء «عابد»
منصوبا، وقرىء «عبد الطاغوت» بفتحات مضافا على أن أصله عبدة
ككفرة فحذفت تاؤه للإضافة كقوله:
وأخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا أي عدته كإقام الصلاة، أو هو جمع
أو اسم جمع لعابد- كخادم وخدم- وقرىء «أعبد» كأكلب، وعبيد جمع
أو اسم جمع، «وعابدي» جمع بالياء، وقرأ ابن مسعود أيضا «ومن
عبدوا» أُولئِكَ أي الموصوفون بتلك القبائح
(3/343)
والفضائح وهو مبتدأ، وقوله سبحانه: شَرٌّ
خبره، وقوله تعالى: مَكاناً تمييز محول عن الفاعل، وإثبات
الشرارة لمكانهم ليكون أبلغ في الدلالة على شرارتهم، فقد صرحوا
أن إثبات الشرارة لمكان الشيء كناية عن إثباتها له كقولهم:
سلام على المجلس العالي والمجد بين برديه، فكأن شرهم أثر في
مكانهم، أو عظم حتى صار مجسما.
وجوّز أن يكون الإسناد مجازيا كجري النهر، وقيل: يجوز أن يكون
المكان بمعنى محل الكون والقرار الذي يكون أمرهم إلى التمكن
فيه أي شر منصرفا، والمراد به جهنم وبئس المصير، والجملة
مستأنفة مسوقة منه تعالى شهادة عليهم بكمال الشرارة والضلال،
وداخلة تحت الأمر تأكيدا للإلزام، وتشديدا للتبكيت، وجعلها-
جوابا للسؤال الناشئ من الجملة الاستفهامية ليستقيم احتمال
البدلية السابق- مما لا يكاد يستقيم.
وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ أي أكثر ضلالا عن طريق الحق
المعتدل، وهو دين الإسلام والحنيفية، وهو عطف على شَرٌّ مقرر
له، وفيه دلالة على كون دينهم شرا محضا بعيدا عن الحق لأن ما
يسلكونه من الطريق دينهم، فإذا كانوا أضل كان دينهم ضلالا
مبينا لا غاية وراءه، والمقصود من صيغتي التفضيل الزيادة مطلقا
من غير نظر إلى مشاركة غير في ذلك، وقيل: للتفضيل على زعمهم
وقيل: إنه بالنسبة إلى غيرهم من الكفار.
وقال بعضهم: لا مانع أن يقال: إن مكانهم في الآخرة شر من مكان
المؤمنين في الدنيا لما لحقهم فيه من مكاره الدهر وسماع الأذى
والهضم من جانب أعدائهم وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا نزلت-
كما قال قتادة والسدي- في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم فيظهرون له الإيمان والرضا بما جاء
به نفاقا، فالخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم، والجمع
للتعظيم، أو له عليه الصلاة وللسلام مع من عنده من أصحابه رضي
الله تعالى عنهم أي إذا جاؤوكم أظهروا لكم الإسلام.
وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ أي
يخرجون من عندك كما دخلوا لم ينتفعوا بحضورهم بين يديك ولم
يؤثر فيهم ما سمعوا منك، والجملتان في موضع الحال من ضمير
قالُوا على الأظهر.
وجوّز أبو البقاء أن يكونا حالين من الضمير في آمنا، وباء
بالكفر، وبِهِ للملابسة، والجار والمجرور حالان من فاعل
دَخَلُوا وخَرَجُوا والواو الداخلة على الجملة الاسمية الحالية
للحال، ومن منع تعدد الجملة الحالية من غير عطف يقول: إنها
عاطفة والمعطوف على الحال حال أيضا، ودخول قَدْ في الجملة
الحالية الماضوية- كما قال العلامة الثاني- لتقرب الماضي إلى
الحال فتكسر سورة استبعاد ما بين الماضي والحال في الجملة،
وإلا- فقد- إنما تقرب إلى حال التكلم، وهذا إشارة إلى ما أوضحه
السيد السند في حاشية المتوسط من أنه قيل: إن الماضي إنما يدل
على انقضاء زمان قبل زمان التكلم، والحال الذي يبين هيئة
الفاعل أو المفعول قيد لعامله، فإن كان العامل ماضيا كان الحال
أيضا ماضيا بحسب المعنى، وإن كان حالا كان حالا، وإن كان
مستقبلا كان مستقبلا، فما ذكروه غلط نشأ من اشتراك لفظ الحال
بين الزمان الحاضر- وهو الذي يقابل الماضي- وبين ما يبين
الحالة المذكورة، ثم قال: ويمكن أن يقال: إن الفعل إذا وقع
قيدا لشيء يعتبر كونه ماضيا أو حالا أو مستقبلا بالنظر إلى ذلك
المقيد، فإذا قيل: جاءني زيد ركب يفهم منه أن الركوب كان
متقدما على المجيء فلا بد من قد حتى يقربه إلى زمان المجيء
فيقارنه، وذكر نحو ذلك العلامة الكافيجي في شرح القواعد، ثم
قال: وأما الاعتذار بأن تصدير الماضي المثبت بلفظة قَدْ لمجرد
استحسان لفظي فإنما هو تسليم لذلك الاعتراض فليس بمقبول ولا
مرضي انتهى.
ولذلك زيادة تفصيل في محله، وقد ذكر لها معنى آخر في الآية غير
التقريب وهو التوقع فتفيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
كان يتوقع دخول أولئك الفجرة وخروجهم من خضيلة حضرته- أفرغ من
يد تفت البر- مع لم يعلق بهم شيء
(3/344)
مما سمعوا من تذكيره عليه الصلاة والسلام
بآيات الله عز وجل لظنه بما يرى من الأمارات اللائحة عليهم
نفاقهم الراسخ، ولذلك قال سبحانه: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما
كانُوا يَكْتُمُونَ وفيه من الوعيد ما لا يخفى، وفي الكشاف إن
أمارات النفاق كانت لائحة عليهم، وكان رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم متوقعا لإظهار الله تعالى ما كتموه، فدخل حرف
التوقع لذلك، واعترضه الطيبي بأن قَدْ موضوعة لتوقع مدخولها،
وهو هاهنا عين النفاق، فكيف يقال لإظهار الله تعالى ما كتموه؟
وأجاب بأنه لا شك أن المتوقع ينبغي أن لا يكون حاصلا، وكونهم
منافقين كان معلوما عنده صلوات الله تعالى وسلامه عليه بدليل
قوله: «إن أمارات النفاق» إلخ
فيجب المصير إلى المجاز، والقول بإظهار الله تعالى ما كتموه،
وقال في الكشف معرضا به: إن الدخول في الكفر والخروج به إظهار
له، فلذلك أدخل عليه حرف التوقع لا أنه عين النفاق ليحتاج إلى
تجوز في رجوع التوقع إلى إظهاره، وإن ظهور أماراته غير إظهار
الله تعالى إياه بإخباره سبحانه عنهم وأنهم متلبسون بالكفر
متقلبون فيه خروجا ودخولا انتهى فليتأمل، وإنما لم يقل سبحانه
وقَدْ خَرَجُوا على طرز الجملة الأولى إفادة لتأكيد الكفر حال
الخروج لأنه خلاف الظاهر إذ كان الظاهر بعد تنور أبصارهم برؤية
مطلع شمس الرسالة وتشنف أسماعهم بلآلئ كلمات بحر البسالة عليه
الصلاة والسلام أن يرجعوا عما هم عليه من الغواية ويحلوا جياد
قلوبهم العاطلة عن حلي الهداية، وأيضا أنهم إذا سمعوا قول
النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنكروه ازداد كفرهم وتضاعف ضلالهم
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ أي من أولئك اليهود- كما روي عن ابن
زيد- والخطاب لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من
يصلح للخطاب، والرؤية بصرية، وقيل: قلبية، وقوله تعالى:
يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ في موضع الحال من
كَثِيراً الموصوف بالجار والمجرور، وقيل: مفعول ثان- لترى-
والمسارعة مبادرة الشيء بسرعة، وإيثار فِي على إلى للإشارة إلى
تمكنهم فيما يسارعون إليه تمكن المظروف في ظرفه، وإحاطته
بأعمالهم، وقد مرت الإشارة إلى ذلك.
والمراد بالإثم الحرام، وقيل: الكذب مطلقا، وقيل: الكذب بقولهم
آمَنَّا لأنه إما إخبار أو إنشاء متضمن الإخبار بحصول صفة
الإيمان لهم، واستدل على التخصيص بقوله تعالى الآتي: عَنْ
قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ، وأنت تعلم أنه لا يقتضيه، وقيل: المراد
به الكفر، وروي ذلك عن السدي، ولعل الداعي لتخصيصه به كونه
الفرد الكامل، والمراد من العدوان الظلم، أو مجاوزة الحد في
المعاصي، وقيل: الإثم ما يختص بهم، والعدوان ما يتعدى إلى
غيرهم، والكلام مسوق لوصفهم بسوء الأعمال بعد وصفهم لسوء
الاعتقاد وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ أي الحرام مطلقا، وقال الحسن:
الرشوة في الحكم والتنصيص على ذلك بالذكر مع اندراجه في
المتقدم للمبالغة في التقبيح لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ
أي لبئس شيئا يعملونه هذه الأمور- فما- نكرة موصوفة وقعت
تمييزا لضمير الفاعل المستتر في- بئس- والمخصوص بالذم محذوف
كما أشرنا إليه، وجوز جعل ما موصولة فاعل- بئس- والجمع بين
صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار لَوْلا
يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ قال الحسن:
الربانيون علماء الإنجيل والأحبار علماء التوراة، وقال غيره:
كلهم في اليهود لأنه يتصل بذكرهم، ولَوْلا الداخلة على
المضارع- كما قرره ابن الحاجب وغيره- للتحضيض، والداخلة على
الماضي للتوبيخ، والمراد هنا تحضيض الذين يقتدي بهم أفناؤهم،
ويعلمون قباحة ما هم فيه وسوء مغبته على نهي أسافلهم.
عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ مع علمهم
بقبحها واطلاعهم على مباشرتهم لهما، وفي البحر إن هذا التحضيض
يتضمن توبيخهم على السكوت وترك النهي لَبِئْسَ ما كانُوا
يَصْنَعُونَ الكلام فيه كالكلام السابق في نظيره خلا أن هذا
أبلغ مما تقدم في حق العامة لما تقرر في اللغة والاستعمال أن
الفعل ما صدر عن الحيوان مطلقا، فإن
(3/345)
كان عن قصد سمي عملا ثم إن حصل بمزاولة
وتكرر حتى رسخ وصار ملكة له سمي صنعا وصنعة وصناعة، فلذا كان
الصنع أبلغ لاقتضائه الرسوخ، ولذا يقال للحاذق، صانع، وللثوب
الجيد النسج: صنيع- كما قاله الراغب- ففي الآية إشارة إلى أن
ترك النهي أقبح من الارتكاب، ووجه بأن المرتكب له في المعصية
لذة وقضاء وطر بخلاف المقر له، ولذا ورد أن جرم الديوث أعظم من
الزانيين.
واستشكل ذلك بأنه يلزم عليه أن ترك النهي عن الزنا والقتل أشد
إثما منهما وهو بعيد، وأجيب بأنه لا يبعد أن يكون إثم ترك
النهي ممن يؤثر نهيه كف المنهي عن فعل المنهي عنه أشد من إثم
المرتكب كيفما كان مرتكبه قتلا أو زنا، أو غيرهما، وقال
الشهاب: إن قيد الأشدية يختلف بالاعتبار، فكونه أشد باعتبار
ارتكاب ما لا فائدة له فيه لا ينافي كون المباشرة أكثر إثما
منه فتأمل، وفي الآية- مما ينعى على العلماء توانيهم في النهي
عن المنكرات- ما لا يخفى، ومن هنا قال الضحاك: ما أخوفني من
هذه الآية، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما في
القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية، وقرىء- لولا ينهاهم
الربانيون والأحبار عن قولهم العدوان وأكلهم السحت لبئس ما
كانوا يعملون وَقالَتِ الْيَهُودُ عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما، وعكرمة والضحاك قالوا: إن الله تعالى قد بسط لليهود
الرزق فلما عصوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كف عنهم
ما كان بسط لهم، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء رأس يهود
قينقاع، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما النباش بن
قيس يَدُ اللَّهِ عز وجل مَغْلُولَةٌ وحيث لم ينكر على القائل
الآخرون ورضوا به نسبت تلك العظيمة إلى الكل، ولذلك نظائر تقدم
كثير منها، وأرادوا بذلك- لعنهم الله تعالى- أنه سبحانه ممسك
ما عنده بخيل به تعالى عما يقولون علوا كبيرا فإن كلّا من غل
اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود، أو كناية عن ذلك، وقد
استعمل حيث لا تصح يد كقوله:
جاد الحمى بسط اليدين بوابل ... شكرت نداه تلاعه ووهاده
ولقد جعلوا للشمال يدا كما في قوله:
أضل صواره وتضيفته ... نطوف أمرها بيد الشمال
«وقول لبيد» :
وغداة ريح قد كشفت وقرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
ويقال: بسط اليأس كفيه في صدر فلان، فيجعل لليأس الذي هو من
المعاني لا من الأعيان كفان، قال الشاعر:
وقد رابني وهن المنى وانقباضها ... وبسط جديد اليأس كفيه في
صدري
وقيل: معناه أنه سبحانه فقير، كقوله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ
اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ
وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران: 181] ، وقيل: اليد هنا بمعنى
النعمة أي إن نعمته مقبوضة عنا، وعن الحسن أن المعنى أن يد
الله تعالى مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا بما يبر به قسمه
قدر ما عبد آباؤنا العجل، وكأنه حمل اليد على القدرة، والغل
على عدم التعلق.
وقيل: لا يبعد أن يقصدوا اليد الجارحة فإنهم مجسمة، وقد حكي
عنهم أنهم زعموا أن ربهم أبيض الرأس واللحية قاعد على كرسي،
وأنه فرغ من خلق السموات والأرض يوم الجمعة واستلقى على ظهره
واضعا إحدى رجليه على الأخرى وإحدى يديه على صدره للاستراحة
مما عراه من النصب في خلق ذلك تعالى الله سبحانه عما يقولون
علوا كبيرا، والأقوال كلها كما ترى، وكل العجب من الحسن رضي
الله تعالى عنه من قول ذلك وليته لم يقل غير
(3/346)
الحسن، ولعل نسبته إليه غير صحيحة، والذي
تقتضيه البلاغة ويشهد له مساق الكلام القول الأول، ولا يبعد من
قوم قالوا لموسى عليه الصلاة والسلام اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما
لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: 138] وعبدوا العجل- أن يعتقدوا اتصاف
الله عز وجل بالبخل ويقولوا ما قالوا، وقال أبو القاسم البلخي:
يجوز أن يكون اليهود قالوا قولا واعتقدوا مذهبا يؤدي معناه إلى
أن الله تعالى عز شأنه يبخل في حال ويجود في حال آخر، فحكي
عنهم على وجه التعجب منهم والتكذيب لهم.
وقال آخر: إنهم قالوا ذلك على وجه الهزء حيث لم يوسع سبحانه
على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى أصحابه ولا يخفى أن ما
روي في سبب النزول لا يساعد ذلك، وقيل: إنهم قالوا ذلك على
سبيل الاستفهام والاستغراب، والمراد يد الله سبحانه مغلولة عنا
حيث قتر المعيشة علينا، ولا يخفى بعده غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ
دعاء عليهم بالبخل المذموم- كما قال الزجاج- ودعاؤه بذلك عبارة
عن خلقه الشح في قلوبهم والقبض في أيديهم، ولا استحالة في ذلك
على مذهب أهل الحق، ويجوز أن يكون دعاء عليهم بالفقر والمسكنة،
وقيل: تغل الأيدي حقيقة، يغلون في الدنيا أسارى، وفي الآخرة
معذبين في أغلال جهنم، ومناسبة هذا لما قبله حينئذ من حيث
اللفظ فقط فيكون تجنيسا، وقيل: هي من حيث اللفظ وملاحظة أصل
المجاز كما تقول: سبني سب الله تعالى دابره، أي قطعه لأن السبب
أصله القطع، وإلى هذا ذهب الزمخشري، واستطيبه الطيبي، وقال: إن
هذه مشاكلة لطيفة بخلاف قوله:
قالوا: اقترح شيئا نجد لك طبخه ... قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا
واختار أبو علي الجبائي أن ذلك إخبار عن حالهم يوم القيامة أي
شدت أيديهم إلى أعناقهم في جهنم جزاء هذه الكلمة العظيمة،
وحكاه الطبرسي عن الحسن، ثم قال: فعلى هذا يكون الكلام بتقدير
الفاء أو الواو، فقد تم كلامهم واستؤنف بعده كلام آخر، ومن
عادتهم أن يحذفوا فيما يجري هذا المجرى، ومن ذلك قوله: وَإِذْ
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً [البقرة:
67] ، وأنت تعلم أن مثل هذا على الاستئناف البياني، ولا حاجة
فيه إلى تجشم مؤونة التقدير، على أن كلام الحسن- فيما نرى- ليس
نصا في كون الجملة إخبارية إذ قصارى ما قال: غُلَّتْ
أَيْدِيهِمْ في جهنم وهو محتمل لأن يكون دعاء عليهم بذلك
وَلُعِنُوا أي أبعدوا عن رحمة الله تعالى وثوابه بِما قالُوا
أي بسبب قولهم، أو بالذي قالوه من ذلك القول الشنيع، وهذا دعاء
ثان معطوف على الدعاء الأول، والقائل بخبريته قائل بخيريته،
وقرىء وَلُعِنُوا بسكون العين.
بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ عطف على مقدر يقتضيه المقام أي كلا
ليس الشأن كما زعموا بل في غاية ما يكون من الجود، وإليه- كما
قيل- أشير بتثنية اليد، فإن أقصى ما تنتهي إليه همم الأسخياء
أن يعطوا بكلتا يديهم، وقيل:
اليد هنا أيضا بمعنى النعمة، وأريد بالتثنية نعم الدنيا ونعم
الآخرة، أو النعم الظاهرة والنعم الباطنة أو ما يعطى للاستدراج
وما يعطى للإكرام، وقيل: وروي عن الحسن أنها بمعنى القدرة
كاليد الأولى، وتثنيتها باعتبار تعلقها بالثواب وتعلقها
بالعقاب، وقيل: المراد من التثنية التكثير كما في ارْجِعِ
الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: 4] والمراد من التكثير مجرد
المبالغة في كمال القدرة وسعتها لا أنها متعددة، ونظير ذلك قول
الشاعر:
فسرت أسرة طرتيه فغورت ... في الخصر منه وأنجدت في نجده
فإنه لم يرد أن لذلك الرشا طرتين إذ ليس للإنسان إلا طرة واحدة
وإنما أراد المبالغة.
وقال سلف الأمة رضي الله تعالى عنهم: إن هذا من المتشابه،
وتفويض تأويله إلى الله تعالى هو الأسلم، وقد صح عن النبي صلّى
الله عليه وسلّم أنه أثبت لله عز وجل يدين،
وقال: «وكلتا يديه يمين»
ولم يرو عن أحد من أصحابه صلّى الله عليه وسلّم وعليهم أنه
(3/347)
أول ذلك بالنعمة، أو بالقدرة بل أبقوها كما
وردت وسكتوا، ولئن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب لا سيما
في مثل هذه المواطن، وفي مصحف عبد الله- بل يداه بسطان- يقال:
يد بسط بالمعروف، ونحوه مشية سجح وناقة سرح يُنْفِقُ كَيْفَ
يَشاءُ جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده سبحانه لما فيها
من الدلالة على تعميم الأحوال المستفاد من كَيْفَ وفيها تنبيه
على سر ما ابتلوا به من الضيق الذي اتخذوه من غاية جهلهم
وضلالهم ذريعة إلى الاجتراء على كلمة ملأ الفضاء قبحها،
والمعنى أن ذلك ليس لقصور في فيضه بل لأن إنفاقه تابع لمشيئته
المبنية على الحكم الدقيقة التي عليها تدور أفلاك المعاش
والمعاد، وقد اقتضت الحكمة- إذ كفروا بآيات الله تعالى وكذبوا
رسوله صلّى الله عليه وسلّم- أن يضيق عليهم، وكَيْفَ ظرف-
ليشاء- والجملة في موضع نصب على الحالية من ضمير يُنْفِقُ أن
ينفق كائنا على أي حال يشاء أي على مشيئته أي مريدا، وقيل: إن
جملة يُنْفِقُ في موضع الحال من الضمير المجرور في يَداهُ
واعترض بأن فيه الفصل بالخبر وبأنه مضاف إليه، والحال لا يجيء
منه، ورد بأن الفصل بين الحال وذيها ليس بممتنع كما في قوله
تعالى حكاية: هذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: 72] إذ قيل: إن «شيخا»
حال من اسم الإشارة، والعامل فيه التنبيه، وأن الممنوع مجيء
الحال من المضاف إليه إذا لم يكن جزأ أو كجزء أو عاملا، وهاهنا
المضاف جزء من المضاف إليه، أو كجزء فليس بممتنع، وجوّز أن
تكون في موضع الحال من اليدين أو من ضميرهما، ورد بأنه لا ضمير
لهما فيها، وأجيب بأنه لا مانع من تقدير ضمير لهما أي ينفق
بهما، ومن هنا قيل: بجواز كونها خبرا ثانيا للمبتدأ، نعم
التقدير خلاف الأصل، والظاهر، وهو إنما يقتضي المرجوحية لا
الامتناع، وترك سبحانه ذكر ما ينفقه لقصد التعميم
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ وهم علماؤهم ورؤساؤهم، أو
المقيمون على الكفر منهم مطلقا ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن
المشتمل على هذه الآيات، وتقديم المفعول للاعتناء به مِنْ
رَبِّكَ متعلق- بأنزل- كما أن إِلَيْكَ كذلك، وتأخيره عنه مع
أن حق المبتدأ أن يقدم على المنتهى لاقتضاء المقام- كما قال
شيخ الإسلام- الاهتمام ببيان المنتهى لأن مدار الزيادة هو
النزول إليه صلّى الله عليه وسلّم، وفي التعبير بعنوان
الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى
من التشريف، والموصول فاعل- ليزيدن- والإسناد مجازي، وكَثِيراً
مفعوله الأول، ومِنْهُمْ
صفته، وقوله تعالى: طُغْياناً وَكُفْراً مفعوله الثاني أي
ليزيدنهم طغيانا على طغيانهم وكفرا على كفرهم القديمين، لأن
الزيادة تقتضي وجود المزيد عليه قبلها، وهذه الزيادة إما من
حيث الشدة والغلو، وإما من حيث الكم والكثرة إذ كلما نزلت آية
كفروا بها فيزداد طغيانهم وكفرهم بحسب المقدار، وهذا كما أن
الطعام للأصحاء يزيد المرضى مرضا، ويحتمل أن يراد- بما أنزل-
النعم التي منحها الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أي إنهم
كفروا وتمادوا على الكفر وقالوا ما قالوا حيث ضيق الله تعالى
عليهم وكف عنهم ما بسط لهم، فمتى رأوا مع ذلك بسط نعمائه
وتواتر آلائه على نبيه صلّى الله عليه وسلّم الذي هو أعدى
أعدائهم ازدادوا غيظا وحنقا على ربهم سبحانه، فضموا إلى
طغيانهم الأول طغيانا وإلى كفرهم كفرا وحينئذ تلائم الآية ما
قبلها أشد ملاءمة إلا أن ذلك لا يخلو عن بعد، ولم أر من ذكره.
وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ أي اليهود.
وقال في البحر: الضمير لليهود والنصارى لأنه قد جرى ذكرهم في
قوله سبحانه: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى ولشمول
قوله عز وجل: يا أَهْلَ الْكِتابِ للفريقين، وروي ذلك عن الحسن
ومجاهد.
الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فلا تكاد تتوافق قلوبهم ولا تتحد
كلمتهم، فمن اليهود جبرية ومنهم قدرية ومنهم مرجئة ومنهم
مشبهة، والْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ بين فرقة وفرقة قائمتان على
ساق، وكذا من النصارى الملكانية واليعقوبية
(3/348)
والنسطورية، وحالهم حالهم في ذلك، وحال
اليهود مع النصارى أظهر من أن تخفى، ورجح عود الضمير إلى
اليهود بأن الكلام فيهم، وفائدة هذا الإخبار هنا إزاحة ما عسى
أن يتوهم من ذكر طغيانهم وكفرهم من الاجتماع على أمر يؤدي إلى
الإضرار بالمسلمين، وقال أبو حيان بعد أن أرجع الضمير
للطائفتين: إن المعنى لا يزال اليهود والنصارى متباغضين
متعادين قلما توافق إحدى الطائفتين الأخرى، ولا تجتمعان على
قتالك وحربك، وفي ذلك إخبار بالغيب فإنه لم يجتمع لحرب
المسلمين جيش يهود ونصارى منذ سل سيف الإسلام.
وفرق السمين بين الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ بأن العداوة أخص من
البغضاء لأن كل عدو مبغض وقد يبغض من ليس بعدو إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ متعلق- بألقينا- وجوز أن يتعلق بالبغضاء أي إن
التباغض بينهم مستمر ما داموا، وليست حقيقة الغاية مرادة، ولم
يجوز أن يتعلق- بالعداوة- لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله
بأجنبي كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا
اللَّهُ تصريح بما أشير إليه من عدم وصول غائلة ما هم فيه إلى
المسلمين، والمراد كلما أرادوا محاربة الرسول صلّى الله عليه
وسلّم ورتبوا مباديها ردهم الله تعالى وقهرهم بتفرق آرائهم وحل
عزائمهم وإلقاء الرعب في قلوبهم، فإيقاد النار كناية عن إرادة
الحرب، وقد كانت العرب إذا تواعدت للقتال جعلوا علامتهم إيقاد
نار على جبل أو ربوة، ويسمونها نار الحرب، وهي إحدى نيران
مشهورة عندهم، وإطفاؤها عبارة عن دفع شرهم، وحكي في البحر
قولين في الآية: فعن قوم أن الإيقاد حقيقة، وكذا الإطفاء أي
إنهم كلما أوقدوا نارا للمحاربة ألقى عليهم الرعب فتقاعدوا
وأطفؤوها، وإضافة الإطفاء إليه تعالى إضافة المسبب إلى السبب
الأصلي.
وعن الجمهور أن الكلام مخرّج مخرج الاستعارة، والمراد من إيقاد
النار إظهار الكيد بالمؤمنين الشبيه بالنار في الإضرار، ومن
إطفائها صرف ذلك عن المؤمنين، ولعل القول بالكناية ألطف منهما،
وكون المراد من الحرب محاربة الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو
المروي عن الحسن ومجاهد، وقيل: هو أعم من ذلك أي كلما أرادوا
حرب أحد غلبوا، فإن اليهود لما خالفوا حكم التوراة سلط الله
تعالى عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلط سبحانه عليهم فطرس الرومي،
ثم أفسدوا فسلط جل شأنه عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط عليهم عز
وجل رسوله عليه الصلاة والسلام، فأباد خضراءهم واستأصل شأفتهم.
وفرق جمعهم وأذلهم فأجلى بني النضير وبني قينقاع، وقتل بني
قريظة وأسر أهل خيبر، وغلب على فدك، ودان له أهل وادي القرى،
وضرب على أهل الذمة الجزية وأبقاهم الله تعالى في ذل لا يعزون
بعده أبدا، وإطفاء النار- على هذا- عبارة عن الغلبة عليهم
قاتلهم الله تعالى، ولِلْحَرْبِ متعلق- بأوقدوا- واللام
للتعليل، أو متعلق بمحذوف وقع صفة لنار، وهو الأوفق بالتسمية
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي يجتهدون في الكيد
للإسلام وأهله، وإثارة الشر والفتنة فيما بينهم مما يغاير ما
عبر عنه بإيقاد نار الحرب كتغيير صفة النبي صلّى الله عليه
وسلّم وإدخال الشبه على ضعفاء المسلمين والمشي بالنميمة مع
الافتراء ونحو ذلك، وفَساداً إما مفعول له وعليه اقتصر أبو
البقاء، أو في موضع المصدر، أو حال من ضمير يَسْعَوْنَ أي
يسعون للفساد، أو سعي فساد، أو مفسدين.
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ بل يبغضهم، ولذلك أطفأ
نائرة فسادهم، واللام إما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا،
وإما للعهد، ووضع المظهر موضع ضميرهم للتعليل وبيان كونهم
راسخين في الإفساد.
والجملة ابتدائية مسوقة لإزاحة ما عسى أن يتوهم من تأثير
اجتهادهم شيئا من الضرر، وجعلها بعضهم في موضع الحال، وفائدتها
مزيد تقبيح حالهم وتفظيع شأنهم وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ
أي اليهود والنصارى على أن المراد بالكتاب الجنس الشامل
للتوراة والإنجيل، ويمكن أن يراد بهم اليهود فقط، وذكر الإنجيل
ليس نصا في اقتضاء العموم إلا أن الذي عليه عامة المفسرين
العموم، وذكروا بذلك العنوان تأكيدا للتشنيع عليهم، والمراد
بهم معاصر و
(3/349)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي ولو
أنهم مع صدور ما صدر منهم من فنون الجنايات قولا وفعلا آمَنُوا
بما نفي عنهم الإيمان، فيندرج فيه فرض إيمانهم برسول الله صلّى
الله عليه وسلّم، وحذف المتعلق ثقة بظهوره مما سبق من قوله
تعالى: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ
[المائدة: 59] إلخ، وما لحق من قوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّهُمْ
أَقامُوا التَّوْراةَ إلخ.
وتخصيص المفعول بالإيمان به عليه الصلاة والسلام يأباه- كما
قال شيخ الإسلام- المقام لأن ما ذكر فيما سبق وما لحق من كفرهم
به عليه الصلاة والسلام إنما ذكر مشفوعا بكفرهم بكتابهم أيضا
قصدا إلى الإلزام والتبكيت ببيان أن الكفر به صلّى الله عليه
وسلّم مستلزم للكفر بكتابهم، فحمل الإيمان هاهنا على الإيمان
به عليه الصلاة والسلام مخل بتجاوب النظم الكريم، وقدر قتادة
فيما أخرجه عنه ابن حميد وغيره، المتعلق بما أنزل الله، وهو
ميل إلى التعميم، وكذا عمم في قوله تعالى: وَاتَّقَوْا فقال:
أي ما حرم الله تعالى.
وقال شيخ الإسلام: ما عددنا من معاصيهم التي من جملتها مخالفة
كتابهم لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ التي اقترفوها
وسارعوا فيها وإن كانت في غاية العظمة، ولم نؤاخذهم بها،
وجمعها جمع قلة إما باعتبار الأنواع وإما باعتبار أنها وإن
كثرت قليلة بالنسبة إلى كرم الله تعالى، وقد أشرنا فيما تقدم
أن جمع القلة قد يقوم مقام جمع الكثرة إذا اقتضاه المقام
وَلَأَدْخَلْناهُمْ مع ذلك جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وجعل أبو حيان
تكفير السيئات في مقابلة الإيمان، وإدخال جنات النعيم في
مقابلة التقوى، وفسرها بامتثال الأوامر واجتناب النواهي،
فالآية من باب التوزيع، والظاهر عدمه، وتكرير اللام لتأكيد
الوعد، وفيه تنبيه على كمال عظم ذنوبهم وكثرة معاصيهم، وأن
الإسلام يجب ما قبله وإن جل وجاوز الحد، وفي إضافة الجنات إلى
النعيم تنبيه على ما يستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مالك بن دينار أنه قال:
جَنَّاتِ النَّعِيمِ بين جنات الفردوس وجنات عدن، وفيها جوار
خلقن من ورد الجنة، قيل: فمن يسكنها؟ قال: الذين هموا بالمعاصي
فلما ذكروا عظمة الله تعالى شأنه راقبوه، ولا يخفى أن مثل هذا
لا يقال من قبل الرأي، والذي يقتضيه الظاهر أن يقال لسائر
الجنات: جَنَّاتِ النَّعِيمِ وإن اختلفت مراتب النعيم فيها
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أي وفوا
حقهما بمراعاة ما فيهما من الأحكام التي من جملتها شواهد نبوته
صلّى الله عليه وسلّم ومبشرات بعثته، وليس المراد مراعاة جميع
ما فيها من الأحكام منسوخة كانت أو غيرها، فإن ذلك ليس من
الإقامة في شيء وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ من
القرآن المجيد المصدق لما بين يديه- كما روي عن ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما- واختاره الجبائي وغيره، وقيل: المراد
بالموصول كتب أنبياء بني إسرائيل- ككتاب شعيا وكتاب حزقيل
وكتاب حبقوق وكتاب دانيال- فإنها مملوءة بالبشائر بمبعثه صلّى
الله عليه وسلّم، واختاره أبو حيان، ويجوز أن يراد به ما يعم
ذلك والقرآن العظيم، وإنزال الكتاب إلى أحد مجرد وصوله إليه،
وإيجاب العمل به وإن لم يكن الوحي نازلا عليه، والتعبير عن
القرآن بذلك العنوان للإيذان بوجوب إقامته عليهم لنزوله إليهم
وللتصريح ببطلان ما كانوا يدعونه من عدم نزوله إلى بني
إسرائيل، وتقديم إِلَيْهِمْ لما مر آنفا، وفي إضافة الرب إلى
ضميرهم مزيد لطف بهم في الدعوة إلى الإقامة.
لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي
لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها وخيرها: كما قال
سبحانه: لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ [الأعراف: 96] قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد، وقيل:
المراد لانتفعوا بكثرة ثمار الأشجار وغلال الزروع، وقيل: بما
يهدل من الثمار من رؤوس الأشجار وما يتساقط منها على الأرض،
وقيل: بما يأتيهم من كبرائهم وملوكهم وما يعطيه لهم سفلتهم
وعوامهم، وقيل: المراد المبالغة في شرح السعة والخصب لا تعيين
الجهتين كأنه قيل: لأكلوا من كل جهة، وجعله الطبرسي نظير قولك:
فلان في الخير من
(3/350)
قرنه إلى قدمه أي يأتيه الخير من كل جهة
يلتمسه منها، والمراد بالأكل الانتفاع مطلقا، وعبر عن ذلك به
لكونه أعظم الانتفاعات ويستتبع سائرها، ومفعول- أكلوا- محذوف
لقصد التعميم أو للقصد إلى نفس الفعل كما في قولك: فلان يعطي
ويمنع، ومِنْ في الموضعين لابتداء الغاية.
وسنشير إن شاء الله تعالى في باب الإشارة إلى سر ذكر الأرجل،
وفي الشرطية الأولى ترغيب بأمر أخروي، وفي الثانية ترغيب بأمر
دنيوي وتنبيه على أن ما أصاب أولئك الفجرة من الضنك والضيق
إنما هو من شؤم جناياتهم لا لقصور في فيض الفياض، وتقديم
الترغيب بالأمر الأخروي لأنه أهم إذا به النجاة السرمدية
والنعيم المقيم، وخولف بين العبارتين، فقيل: أولا: آمَنُوا
وَاتَّقَوْا وثانيا أَقامُوا ذا وذا سلوكا لطريق البلاغة قيل:
ويشبه أن يكون ما في الشرطية الثانية إشارة إلى ما جرى على بني
قريظة وبني النضير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن
أوطانهم، فكأنه قيل في حقهم: لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا لأقاموا
في ديارهم وانتفعوا بنخيلهم وزروعهم لكنهم تعدوا عن الإقامة
فحرموا وتاهوا في مهامه الضنك إذ ظلموا، وفرق بعضهم بين
الشرطيتين بأن الأولى متحققة اللزوم في أهل الكتاب إلى يوم
القيامة إذ لا شبهة في أنه إذا آمن كتابي واتقى كفّر الله
تعالى عنه سيئاته وأدخله جل شأنه في رحمته سواء في ذلك معاصر
النبي صلّى الله عليه وسلّم وغيره، ولا كذلك الشرطية الثانية
فإن الظاهر اختصاص تحقق اللزوم في المعاصر إذ نرى كثيرا من أهل
الكتاب اليوم بمعزل عن الإقامة المذكورة قد وسع عليه أكثر مما
وسع على كثير ممن أقام، ونرى الكثير أيضا منهم يقيم التوراة
والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ويؤمن بالله تعالى ورسوله
صلّى الله عليه وسلّم على الوجه اللائق وهو في ضنك من العيش
قبل ولا يتغير حاله، وربما كان في رفاهية حتى إذا أقام وقفت به
سفينة العيش فوقع في حيص بيص، وجعلها كالشرطية الأولى، وحمل
التوسعة على ما هو أعم من التوسعة الصورية الظاهرة والتوسعة
المعنوية الباطنية- كأن يرزقهم سبحانه القناعة والرضا بما في
أيديهم فيكون عندهم كالكثير وإن كان قليلا- لا أظنه يأخذ محلا
من فؤادك ولا أحسبه حاسما لما يقال، والقول- بأنها كالأولى إلا
أن الملازمة بين إقامتهم بأسرهم ما تقدم وانتفاعهم كذلك أي لو
أنهم كلهم أقاموا التوراة إلخ لأكلوا كلهم من فوقهم إلخ لا لو
أقام بعضهم- لا أراه إلا منكرا من القول وزورا.
وذكر بعض المحققين أن بعضا فسر قوله سبحانه: لَأَكَلُوا إلخ
بقوله: لوسع عليهم الرزق، وفسر التوسعة بأوجه ذكرها، ولم يجعله
شاملا لرزق الدارين، ولو حمل على الترقي، وتفصيل ما أجمل في
الأول شرطا وجزاء لكان وجها انتهى، وبهذا الوجه أقول وإليه
أتوجه، وإني أراه كالمتعين إلا أن الشرطيتين عليه ليستا سواء،
والإشكال فيه باق من وجه ولا مخلص عنه على ما أرى إلا بالذهاب
إلى اختلاف الشرطيتين، ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى
تحقيق ما يتعلق بهذا المقام فتدبر مِنْهُمْ أُمَّةٌ
مُقْتَصِدَةٌ أي طائفة عادلة غير غالية ولا مقصرة- كما روي عن
الربيع- وهم الذين أسلموا منهم وتابعوا النبي صلّى الله عليه
وسلّم- كما قال مجاهد والسدي وابن زيد- واختاره الجبائي،
وأولئك- كعبد الله بن سلام وأضرابه من اليهود- وثمانية وأربعون
من النصارى، وقيل: المراد بهم النجاشي وأصحابه رضي الله تعالى
عنهم، والجملة مستأنفة مبنية على سؤال نشأ من مضمون الشرطيتين
المصدرتين بحرف الامتناع الدالتين على انتفاء الإيمان والاتقاء
والإقامة المذكورات كأنه قيل: هل كلهم مصروف على عدم الإيمان
وأخويه؟ فقيل: مِنْهُمْ إلخ، وتفسير الاقتصاد بالتوسط في
العداوة بعيد، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ وهم الأجلاف المتعصبون- ككعب
بن الأشرف وأشباهه والروم..
ساءَ ما يَعْمَلُونَ من العناد والمكابرة وتحريف الحق والإعراض
عنه.
(3/351)
وقيل: من الإفراط في العداوة وَكَثِيرٌ
مبتدأ، ومِنْهُمْ صفته، وساءَ كبئس للذم.
وعن بعض النحاة أن فيها معنى التعجب- كقضو زيد- أي ما أقضاه،
فالمعنى هنا ما أسوأ عملهم، وبعضهم يقول: هي لمجرد الذم
والتعجب مأخوذ من المقام، وتمييزها محذوف، وما موصولة فاعل لها
أي ساء عملا الذي يعملونه، ويجوز أن تكون ما نكرة في موضع
التمييز، والجملة الإنشائية خبر للمبتدأ، والكلام في ذلك شهير.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : إِنَّما وَلِيُّكُمُ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ أي صلاة الشهود والحضور الذاتي وَيُؤْتُونَ
الزَّكاةَ أي زكاة وجودهم وَهُمْ راكِعُونَ أي خاضعون في
البقاء بالله.
والآية عند معظم المحدثين نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه،
والإمامية- كما علمت- يستدلون بها على خلافته بعد رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم بلا فصل، وقد علمت منا ردهم- والحمد لله
سبحانه- رد كلام وكثير من الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم يشير
إلى القول بخلافته كرم الله تعالى وجهه بعد الرسول عليه الصلاة
والسلام بلا فصل أيضا إلا أن تلك الخلافة عندهم هي الخلافة
الباطنة التي هي خلافة الإرشاد والتربية والإمداد والتصرف
الروحاني لا الخلافة الصورية التي هي عبارة عن إقامة الحدود
الظاهرة وتجهيز الجيوش والذب عن بيضة الإسلام ومحاربة أعدائه
بالسيف والسنان، فإن تلك عندهم على الترتيب الذي وقع كما هو
مذهب أهل السنة، والفرق عندهم بين الخلافتين كالفرق بين القشر
واللب، فالخلافة الباطنة لب الخلافة الظاهرة، وبها يذب عن
حقيقة الإسلام، وبالظاهرة يذب عن صورته، وهي مرتبة القطب في كل
عصر، وقد تجتمع مع الخلافة الظاهرة كما اجتمعت في علي كرم الله
تعالى وجهه أيام إمارته، وكما تجتمع في المهدي أيام ظهوره، وهي
والنبوة رضيعا ثدي، وإلى ذلك الإشارة بما
يروونه عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: «خلقت أنا وعلي من
نور واحد»
وكانت هذه الخلافة فيه كرم الله تعالى وجهه على الوجه الأتم.
ومن هنا كانت سلاسل أهل الله عز وجل منتهية إليه إلا ما هو أعز
من بيض الأنوق، فإنه ينتهي إلى الصديق رضي الله تعالى عنه
كسلسلة ساداتنا النقشبندية نفعنا الله تعالى بعلومهم، ومع هذا
ترد عليه كرم الله تعالى وجهه أيضا، وبتقسيم الخلافة إلى هذين
القسمين جمع بعض العارفين بين الأحاديث المشعرة أو المصرحة
بخلافة الأئمة الثلاثة رضي الله تعالى عنهم بعد رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم على الترتيب المعلوم، وبين الأحاديث المشعرة
أو المصرحة بخلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه بعده عليه
الصلاة والسلام بلا فصل، فحمل الأحاديث الواردة في خلافة
الخلفاء الثلاثة على الخلافة الظاهرة، والأحاديث الواردة في
خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه على الخلافة الباطنة ولم
يعطل شيئا من الأخبار، وقال بحقيقة خلافة الأربعة رضي الله
تعالى عنهم أجمعين.
وأنت تعلم أن هذا مشعر بأفضلية الأمير كرم الله تعالى وجهه على
الخلفاء الثلاثة، وبعضهم يصرح بذلك، ويقول: بجواز خلافة
المفضول خلافة صورية مع وجود الفاضل لكن قد قدمنا عن الشيخ
الأكبر قدس الله تعالى سره أنه قال: ليس بين رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم وبين أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه رجل،
وليس مقصوده سوى بيان المرتبة في الفضل فافهم وَمَنْ يَتَوَلَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فإنه من حزب الله
تعالى أي أهل خاصته القائمين معه على شرائط الاستقامة فَإِنَّ
حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ على أعدائهم الأنفسية
والأفاقية،
وقد صح «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله سبحانه لا
يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم على ذلك»
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ
اتَّخَذُوا دِينَكُمْ أي حالكم الذي أنتم عليه في السير
والسلوك هُزُواً وَلَعِباً فطعنوا فيه مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وهم المقتصرون على الظاهر فقط-
كاليهود- أو على الباطن فقط- كالنصارى- وَالْكُفَّارَ
(3/352)
الذين حجبوا بأنفسهم عن الحق أَوْلِياءَ
للمباينة في الأحوال وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ به عز شأنه وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي
الحضور في حضرة الرب اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ الأسرار ولم يفهموا ما في
الصلاة من بلوغ الأوطار،
فقد صح «حبب لي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في
الصلاة»
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ وتنكرون مِنَّا
إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما
أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ فجمعنا بين الظاهر والباطن وطرنا بهذين
الجناحين إلى الحضرة القدسية وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ
وَالْخَنازِيرَ أي بدلنا صفاتهم بصفات هاتيك الحيوانات من
الحيل والحرص والشهوة وقلة الغيرة وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ وهو كل
ما يطغى مما سوى الله تعالى أي إنهم انقادوا إليه وخضعوا له،
ومن أولئك من هو عابد الدرهم والدينار أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً
لأنهم أبطلوا استعدادهم الفطري وضلوا ضلالا بعيدا وَتَرى
كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ
وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ أي يقدمون بسرعة على جميع الرذائل
لاعتيادهم لها وتدربهم فيها وكونها ملكات لنفوسهم، فالإثم
رذيلة القوة النطقية والعدوان رذيلة القوى الغضبية، وأكل السحت
رذيلة القوى الشهوية وَقالَتِ الْيَهُودُ لحرمانهم من الأسرار
التي لا يطلع عليها أهل الظاهر يَدُ اللَّهِ تعالى عما يقولون
مَغْلُولَةٌ فلا يفيض غير ما نحن فيه من العلوم الظاهرة
غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وحرموا إلى يوم القيامة عن تناول ثمار
أشجار الأسرار وَلُعِنُوا أي أبعدوا عن الحضرة الإلهية بِما
قالُوا من تلك الكلمة العظيمة بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ
يُنْفِقُ بهما كَيْفَ يَشاءُ فيفيض حسب الحكمة من أنواع العلوم
الظاهرة والباطنة على من وجده أهلا لذلك، وإلى الظاهر والباطن
أشار صلّى الله عليه وسلّم «بالليل والنهار» فيما
أخرجه البخاري وغيره «يد الله تعالى ملأى لا يغيضها سحاء الليل
والنهار»
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا الإيمان الحقيقي
وَاتَّقَوْا شرك أفعالهم وصفاتهم وذواتهم، ولو أنهم آمنوا
بالعلوم الظاهرة وَاتَّقَوْا الإنكار والاعتراض على من روى من
العلوم الباطنة وسلموا لهم أحوالهم كما قيل:
وإذا لم تر الهلال فسلم ... لأناس رأوه بالأبصار
لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ التي ارتكبوها
وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ في مقابلة إيمانهم
واتقائهم وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ بتحقق علوم
الظاهر والقيام بحقوق تجليات الأفعال والمحافظة على أحكامها في
المعاملات وَالْإِنْجِيلَ بتحقق علوم الباطن والقيام بحقوق
تجليات الصفات والمحافظة على أحكامها في المكاشفات وَما
أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ من علم المبدأ والمعاد
وتوحيد الملك والملكوت من عالم الربوبية الذي هو عالم الأسماء
لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ أي لرزقوا من العالم الروحاني
العلوم الإلهية والحقائق العقلية والمعارف الحقانية وَمِنْ
تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي من العالم السفلي الجسماني العلوم
الطبيعية والإدراكات الحسية، وبالأول يهتدون إلى معرفة الله
تعالى ومعرفة الملك والجبروت، وبالثاني يهتدون إلى معرفة عالم
الملك، فيعرفون الله تعالى إذا تم لهم الأمران باسمه الباطن
والظاهر بل بجميع الأسماء والصفات، وللطيبي هنا كلام طيب يصلح
لهذا الباب، فإنه قال بعد أن حكى عن البعض أنه قال في
لَأَكَلُوا إلخ: أي لوسع عليهم خير الدارين، وقلت: هذا في حق
من عدد سيئاتهم من أهل الكتاب إذا أقاموا مجرد حدود التوراة
والإنجيل، فما ظنك بالعارف السالك إذا قمع هوى النفس وانكمش من
هذا العالم إلى معالم القدس معتصما بحبل الله تعالى وسنة حبيبه
صلّى الله عليه وسلّم فإنه تعالى يفيض على قلبه سجال فضائله
وسحائب بركاته، فكمن فيه كمون الأمطار في الأرض، فتظهر ينابيع
الحكمة من قلبه على لسانه.
وفي تعليق الأكل من فوق ومن تحت الأرجل على الإقامة بما ذكر،
واختصاص مِنْ الابتدائية ما يلوح إلى معنى
قوله عليه الصلاة والسلام: «من عمل بما علم ورثه الله تعالى
علم ما لم يعلم»
لأنهم إذا أقاموا العمل بكتاب الله
(3/353)
يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ
لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى
شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا
مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا
وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ
وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا
جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا
كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا
تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ
بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ
قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ
الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي
وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ
اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ
قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ
إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا
يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ
وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا
الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ
الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ
انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا
وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا
تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ
وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى
لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا
عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ
عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ
(79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ
سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ
(80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا
أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ
كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
سبحانه استنزل ذلك من فوقهم البركات، فإذا
استجدوا العمل لتلك البركات المنزلة وقاموا عليها بثبات
أقدامهم الراسخة استنزل ذلك لهم من الله عز وجل بركات هي أزكى
من الأولى، فلا يزال العلم والعمل يتناوبان إلى أن ينتهي
السالك إلى مقام القرب ومنازل العارفين، وفي ذكر الأرجل إشارة
إلى حصول ثبات القدم ورسوخ العلم، وفي اقترانها مع تحت دلالة
على مزيد الثبات وأنهم من الراسخين المقتبسين علومهم من مشكاة
النبوة دون المتزلزلين الذين أخذوا علومهم من الأوهام، ولذا
كتب بعض العارفين بهذه الآية إلى الإمام إرشادا له إلى معرفة
طريق أهل الله عز شأنه انتهى.
وقد وجه بعض أهل العبارة ممن هو مني في موضع التاج من الرأس لا
زال باقيا ذكر الأرجل هنا بأنه للإشارة إلى أن المراد بقوله
سبحانه: مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ الأمور السفلية الحاصلة
بالسعي والاكتساب كما أن المراد بقوله تعالى: مِنْ فَوْقِهِمْ
الأمور الحاصلة بمجرد الفيض، وحينئذ يقوى الطباق بين
المتعاطفين.
ولعلك تستنبط مما ذكره الطيبي غير هذا الوجه مما يوافق أيضا
مشرب أهل الظاهر، فتدبر مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ، قيل:
عادلة واصلة إلى توحيد الأسماء والصفات وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ
ساءَ ما يَعْمَلُونَ وهم المحجوبون بالكلية الذين لن يصلوا إلى
توحيد الأفعال بعد فضلا عن توحيد الصفات، والله تعالى الهادي
إلى سواء السبيل.
(3/354)
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ إلى الثقلين كافة
وهو نداء تشريف لأن الرسالة منة الله تعالى العظمى وكرامته
الكبرى، وفي هذا العنوان إيذان أيضا بما يوجب الإتيان بما أمر
به صلّى الله عليه وسلّم من تبليغ ما أوحي إليه. بَلِّغْ أي
أوصل الخلق ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي جميع ما أنزل كائنا ما كان
مِنْ رَبِّكَ أي مالك أمرك ومبلغك إلى كمالك اللائق بك، وفيه
عدة ضمنية بحفظه عليه الصلاة والسلام وكلاءته أي بلغه غير
مراقب في ذلك أحدا ولا خائف أن ينالك مكروه أبدا وَإِنْ لَمْ
تَفْعَلْ أي ما أمرت به من تبليغ الجميع.
فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ أي فما أديت شيئا من رسالته لما أن
بعضها ليس أولى بالأداء من بعض، فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت
أداءها جميعا كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها
لإدلاء كل منها بما يدليه غيرها وكونها لذلك في حكم شيء واحد،
والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ مؤمنا به غير مؤمن به،
ولأن كتمان بعضها يضيع ما أدى منها كترك بعض أركان الصلاة فإن
غرض الدعوة ينتقض به، واعترض القول بنفي أولوية بعضها من بعض
بالأداء بأن الأولوية ثابتة باعتبار الوجوب قطعا وظنا وجلاء
وخفاء أصلا وفرعا، وأجاب في الكشف بأنه نفى الأولوية نظرا إلى
أصل الوجوب، وأيضا أن ذلك راجع إلى المبلغ، والكلام في التبليغ
وهو غير مختلف الوجوب لأنه شيء واحد نظرا إلى ذاته، ثم كتمان
البعض يدل على أنه لم ينظر إلى أنه مأمور بالتبليغ بل إلى ما
في المبلغ من المصلحة، فكأنه لم يتمثل هذا الأمر أصلا فلم
يبلغ، وإن أعلم الناس لم ينفعه لأنه مخبر إذ ذاك لا مبلغ،
ونوقش في التعليل الثاني بأن الصلاة اعتبرها الشارع أمرا واحدا
بخلاف التبليغ، وهي مناقشة غير واردة لأنه تعالى ألزمه عليه
الصلاة والسلام تبليغ الجميع، فقد جعلها كالصلاة بلا ريب.
ومما ذكرنا في تفسير الشرطية يعلم أن لا اتحاد بين الشرط
والجزاء، ومن ادّعاه بناء على أن المآل إن لم تبلغ الرسالة لم
تبلغ الرسالة- جعله نظير: أنا أبو النجم وشعري شعري. حيث جعل
فيه الخبر عين المبتدأ بلا مزيد في اللفظ، وأراد- وشعري شعري-
المشهور بلاغته والمستفيض فصاحته، ولكنه أخبر بالسكوت عن هذه
الصفات التي بها تحصل الفائدة أنها من لوازم شعره في أفهام
الناس السامعين لاشتهاره بها، وأنه غني عن ذكرها لشهرتها
وذياعها، وكذلك كما قال ابن المنير: أريد في الآية- لأن عدم
تبليغ الرسالة أمر معلوم عند الناس مستقر في الأفهام- أنه عظيم
شنيع ينعي على مرتكبه، ألا ترى أن عدم نشر العلم من العالم أمر
فظيع؟ فكيف كتمان الرسالة من الرسول؟! فاستغنى عن ذكر الزيادات
التي يتفاوت بها الشرط والجزاء للصوقها بالجزاء في الأفهام،
وأن كل من سمع عدم تبليغ الرسالة فهم ما وراءه من الوعيد
والتهديد، وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز بذكر الشرط عاما
حيث قال سبحانه: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ولم يقل: وإن لم تبلغ
الرسالة فما بلغت الرسالة ليتغايرا لفظا وإن اتحدا معنى، وهذا
أحسن رونقا وأظهر
(3/355)
طلاوة من تكرار اللفظ الواحد في الشرط
والجزاء، وهذه الذروة انحط عنها أبو النجم بذكر المبتدأ بلفظ
الخبر، وحق له أن تتضاءل فصاحته عند فصاحة المعجز، فلا معاب
عليه في ذلك، وقيل: إن المراد فإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان
الوحي كله، فوضع السبب موضع المسبب، ويعضده ما
أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله
تعالى عنه، وأخرجه أبو الشيخ وابن حبان في تفسيره من مرسل
الحسن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بعثني الله تعالى
بالرسالة فضقت بها ذرعا، فأوحى الله تعالى إن لم تبلغ رسالاتي
عذبتك وضمن لي العصمة فقويت» .
وقيل: إن المراد إن تركت تبليغ ما أنزل إليك حكم عليك بأنك لم
تبلغ أصلا، وقيل- وليته ما قيل- المراد بما أنزل القرآن، وبما
في الجواب بقية المعجزات، وقيل: غير ذلك، واستدل بالآية على
أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكتم شيئا من الوحي، ونسب إلى
الشيعة أنهم يزعمون أنه عليه الصلاة والسلام كتم البعض تقية.
وعن بعض الصوفية أن المراد تبليغ ما يتعلق به مصالح العباد من
الأحكام، وقصد بإنزاله اطلاعهم عليه، وأمّا ما خص به من الغيب
ولم يتعلق به مصالح أمته فله بل عليه كتمانه،
وروى السلمي عن جعفر رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى:
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم: 10] قال: أوحى بلا
واسطة فيما بينه وبينه سرا إلى قلبه، ولا يعلم به أحد سواه إلا
في العقبى حين يعطيه الشفاعة لأمته،
وقال الواسطي- ألقى إلى عبده ما ألقى- ولم يظهر ما الذي أوحى
لأنه خصه سبحانه به صلّى الله عليه وسلّم، وما كان مخصوصا به
عليه الصلاة والسلام كان مستورا، وما بعثه الله تعالى به إلى
الخلق كان ظاهرا، قال الطيبي: وإلى هذا ينظر معنى ما روينا في
صحيح البخاري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه
قال: حفظت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعاءين: فأما
أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع مني هذا البلعوم-
أراد عنقه- وأصل معناه مجرى الطعام، وبذلك فسره البخاري،
ويسمون ذلك علم الأسرار الإلهية وعلم الحقيقة، وإلى ذلك أشار
رئيس العارفين علي زين العابدين حيث قال:
إني لأكتم من علمي جواهره ... كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
وقد تقدم في هذا أبو حسن ... إلى الحسين، وأوصى قبله الحسنا
فرب جوهر علم لو أبوح به ... لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي ... يرون أقبح ما يأتونه حسنا
ومن ذلك علم وحدة الوجود، وقد نصوا على أنه طور ما وراء طور
العقل، وقالوا: إنه مما تعلمه الروح بدون واسطة العقل، ومن هنا
قالوا بالعلم الباطن على معنى أنه باطن بالنسبة إلى أرباب
الأفكار، وذوي العقول المنغمسين في أوحال العوائق والعلائق لا
المتجردين العارجين إلى حضائر القدس ورياض الأنوار.
وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني روح الله تعالى روحه في
كتابه الدرر المنثورة في بيان زبد العلوم المشهورة ما نصه:
وأما زبدة علم التصوف الذي وضع القوم فيه رسائلهم فهو نتيجة
العمل بالكتاب والسنة، فمن عمل بما علم تكلم كما تكلموا وصار
جميع ما قالوه بعض ما عنده، لأنه كلما ترقى العبد في باب الأدب
مع الله تعالى دق كلامه على الأفهام، حتى قال بعضهم لشيخه: إن
كلام أخي فلان يدق على فهمي، فقال: لأن لك قميصين وله قميص
واحد فهو أعلى مرتبة منك، وهذا هو الذي دعا الفقهاء ونحوهم من
أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بعلم الباطن، وليس ذلك بباطن
إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى، وأما جميع ما علمه الخلق
على اختلاف طبقاتهم فهو من علم الظاهر لأنه ظهر للخلق، فاعلم
ذلك انتهى.
(3/356)
وقد فهم بعضهم كون المراد تبليغ الأحكام
وما يتعلق بها من المصالح دون ما يشمل علم الأسرار من قوله
سبحانه: مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ دون ما تعرفنا به إليك،
وذكر أن علم الأسرار لم يكن منزلا بالوحي بل بطريق الإلهام
والمكاشفة، وقيل: يفهم ذلك من لفظ الرسالة، فإن الرسالة ما
يرسل إلى الغير، وقد أطال بعض الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم
الكلام في هذا المقام، والتحقيق عندي أن جميع ما عند النبي
صلّى الله عليه وسلّم من الأسرار الإلهية وغيرها من الأحكام
الشرعية قد اشتمل عليه القرآن المنزل. فقد قال سبحانه:
وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ
[النحل: 89] وقال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ
شَيْءٍ [الأنعام: 38] ،
وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الترمذي وغيره: «ستكون
فتن، قيل:
وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله تعالى فيه نبأ ما قبلكم وخبر
ما بعدكم وحكم ما فيكم» ،
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: أنزل في هذا
القرآن كل علم وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين
لنا في القرآن، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: جميع ما حكم
به النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو مما فهمه من القرآن، ويؤيد
ذلك ما
رواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها
قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لا أحل إلا ما
أحل الله تعالى في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم الله تعالى في
كتابه» ،
وقال المرسي: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط
بها علما حقيقة إلا المتكلم به، ثم رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم خلا ما استأثر به سبحانه، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات
الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة
ومثل ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، حتى قال: لو
ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى، ثم ورث عنهم
التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل
العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر
فنونه، فنوّعوا علومه، وقامت كل طائفة بفن من فنونه.
وقال بعضهم: ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه
الله تعالى حتى أن البعض استنبط عمر النبي صلّى الله عليه
وسلّم ثلاثا وستين سنة من قوله سبحانه في سورة المنافقين:
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها
[المنافقون:
11] فإنها رأس ثلاث وستين سورة، وعقبها- بالتغابن- ليظهر
التغابن في فقده بنفس ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا
مما لا يكاد ينتطح فيه كبشان، فإذا ثبت أن جميع ذلك في القرآن
كان تبليغ القرآن تبليغا له، غاية ما في الباب أن التوقيف على
تفصيل ذلك سرا سرا وحكما حكما لم يثبت بصريح العبارة لكل أحد،
وكم من سر وحكم نبهت عليهما الإشارة ولم تبينهما العبارة، ومن
زعم أن هناك أسرارا خارجة عن كتاب الله تعالى تلقاها الصوفية
من ربهم بأي وجه كان، فقد أعظم الفرية وجاء بالضلال ابن
السبهلل بلا مرية.
وقول بعضهم: أخذتم علمكم ميتا عن ميت ونحن أخذناه عن الحي الذي
لا يموت، لا يدل على ذلك الزعم لجواز أن يكون ذلك الأخذ من
القرآن بواسطة فهم قدسي أعطاه الله تعالى لذلك الآخذ، ويؤيد
هذا ما
صح عن أبي جحيفة، قال: قلت لعلي كرم الله تعالى وجهه: هل عندكم
كتاب خصكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: لا إلا
كتاب الله تعالى أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة-
وكانت متعلقة بقبضة سيفه- قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال:
العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر.
ويفهم منه- كما قال القسطلاني- جواز استخراج العالم من القرآن
بفهمه ما لم يكن منقولا عن المفسرين إذا وافق أصول الشريعة،
وما عند الصوفية- على ما أقول- كله من هذا القبيل إلا أن بعض
كلماتهم مخالف ظاهرها لما جاءت به الشريعة الغراء، لكنها مبنية
على اصطلاحات فيما بينهم إذا علم المراد منها يرتفع الغبار،
وكونهم ملامين على تلك الاصطلاحات
لقول علي كرم الله تعالى وجهه كما في صحيح البخاري- حدثوا
الناس بما يعرفون أتحبون
(3/357)
أن يكذب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه
وسلّم-
أو غير ملامين لوجود داع لهم إلى ذلك على ما يقتضيه حسن الظن
بهم بحث آخر لسنا بصدده.
وقريب من خبر أبي جحيفة ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عنترة، قال:
كنت عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فجاءه رجل، فقال: إن
ناسا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئا لم يبده رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم للناس، فقال: ألم تعلم أن الله تعالى قال: يا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ؟ والله ما ورّثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
سوداء في بيضاء، وحمل- وعاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي
لم يبثه على علم الأسرار- غير متعين لجواز أن يكون المراد منه
أخبار الفتن.
وأشراط الساعة وما أخبر به الرسول صلّى الله عليه وسلّم من
فساد الدين على أيدي أغيلمة من سفهاء قريش، وقد كان أبو هريرة
رضي الله تعالى عنه يقول: لو شئت أن أسميهم بأسمائهم لفعلت، أو
المراد الأحاديث التي فيها تعيين أسماء أمراء الجور وأحوالهم
وذمهم، وقد كان رضي الله تعالى عنه يكني عن بعض ذلك ولا يصرح
خوفا على نفسه منهم بقوله: أعوذ بالله سبحانه من رأس الستين
وإمارة الصبيان، يشير إلى خلافة يزيد الطريد لعنه الله تعالى
على رغم أنف أوليائه لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب
الله تعالى دعاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فمات قبلها
بسنة، وأيضا قال القسطلاني: لو كان كذلك لما وسع أبي هريرة
كتمانه مع ما أخرج عنه البخاري أنه قال: إن الناس يقولون: أكثر
أبو هريرة الحديث، ولولا آيتان في كتاب الله تعالى ما حدثت
حديثا ثم يتلو إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ
الْبَيِّناتِ وَالْهُدى إلى قوله تعالى: الرَّحِيمِ [البقرة:
159، 160] إلى آخر ما قال، فإن ما تلاه دال على ذم كتمان العلم
لا سيما العلم الذي يسمونه علم الأسرار فإن الكثير منهم يدعي
أنه لب ثمرة العلم، وأيضا إن أبا هريرة نفى بث ذلك الوعاء على
العموم من غير تخصيص، فكيف يستدل به لذلك، وأبو هريرة لم يكشف
مستوره فيما أعلم؟ فمن أين علم أن الذي علمه هو هذا؟! ومن ادعى
فعليه البيان، ودونه قطع الأعناق.
فالاستدلال بالخبر لطريق القوم فيه ما فيه، ومثله ما
روي عن زين العابدين رضي الله تعالى عنه، نعم للقوم متمسك غير
هذا مبين في موضعه
لكن لا يسلم لأحد كائنا من كان أن ما هم عليه مما خلا عنه كتاب
الله تعالى الجليل، أو أنه أمر وراء الشريعة، ومن برهن على ذلك
بزعمه فقد ضل ضلالا بعيدا، فقد قال الشعراني قدس سره في
الأجوبة المرضية عن الفقهاء والصوفية: سمعت سيدي عليا المرصفي
يقول: لا يكمل الرجل في مقام المعرفة والعلم حتى يري الحقيقة
مؤيدة للشريعة، وإن التصوف ليس بأمر زائد على السنة المحمدية،
وإنما هو عينها.
وسمعت سيدي عليا الخواص يقول مرارا: من ظن أن الحقيقة تخالف
الشريعة أو عكسه فقد جهل لأنه ليس عند المحققين شريعة تخالف
حقيقة أبدا، حتى قالوا: شريعة بلا حقيقة عاطلة وحقيقة بلا
شريعة باطلة، خلاف ما عليه القاصرون من الفقهاء والفقراء، وقد
يستند من زعم المخالفة بين الحقيقة والشريعة إلى قصة الخضر مع
موسى عليهما السلام، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك على
وجه لا يستطيع المخالف معه على فتح شفة.
ومما نقلنا عن القسطلاني في خبر أبي جحيفة يعلم الجواب عما قيل
في الاعتراض على الصوفية: من أن ما عندهم إن كان موافقا للكتاب
والسنة فهما بين أيدينا، وإن كان مخالفا لهما فهو ردّ عليهم،
وما بعد الحق إلا الضلال، والجواب باختيار الشق الأول وكون
الكتاب والسنة بين أيدينا لا يستدعي عدم إمكان استنباط شيء
منهما بعد، ولا يقتضي انحصار ما فيهما فيما علمه العلماء قبل،
فيجوز أن يعطي الله تعالى لبعض خواص عباده فهما يدرك به منهما
ما لم يقف عليه أحد من المفسرين والفقهاء المجتهدين في الدين،
وكم ترك الأول للآخر، وحيث سلم للأئمة الأربعة مثلا اجتهادهم
واستنباطهم من الآيات والأحاديث، مع مخالفة بعضهم بعضا فما
المانع من أن يسلم للقوم ما فتح لهم
(3/358)
من معاني كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلّى
الله عليه وسلّم وإن خالف ما عليه بعض الأئمة، لكن لم يخالف ما
انعقد عليه الإجماع الصريح من الأمة المعصومة، وأرى التفرقة
بين الفريقين مع ثبوت علم كل في القبول والرد تحكما بحتا كما
لا يخفى على المنصف، وزعمت الشيعة أن المراد «بما أنزل إليك»
خلافة علي كرم الله تعالى وجهه،
فقد رووا بأسانيدهم عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى
عنهما أن الله تعالى أوحى إلى نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن
يستخلف عليا كرم الله تعالى وجهه، فكان يخاف أن يشق ذلك على
جماعة من أصحابه فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعا له عليه
الصلاة والسلام بما أمره بأدائه.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: نزلت هذه الآية في علي
كرم الله تعالى وجهه حيث أمر سبحانه أن يخبر الناس بولايته
فتخوّف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقولوا حابى ابن عمه
وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله تعالى إليه هذه الآية فقام
بولايته يوم غدير خم، وأخذ بيده فقال عليه الصلاة والسلام: من
كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه،
وأخرج الجلال السيوطي في الدر المنثور عن أبي حاتم وابن مردويه
وابن عساكر راوين عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية على
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم غدير خم في علي بن أبي
طالب كرم الله تعالى وجهه،
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقرأ على عهد رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أن عليا ولي المؤمنين وَإِنْ
لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وخبر الغدير عمدة
أدلتهم على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه، وقد زادوا فيه
إتماما لغرضهم زيادات منكرة ووضعوا في خلاله كلمات مزورة
ونظموا في ذلك الأشعار وطعنوا على الصحابة رضي الله تعالى عنهم
بزعمهم أنهم خالفوا نص النبي المختار صلّى الله عليه وسلّم،
فقال إسماعيل بن محمد الحميري- عامله الله تعالى بعدله- من
قصيدة طويلة:
عجبت من قوم أتوا أحمدا ... بخطة ليس لها موضع
قالوا له: لو شئت أعلمتنا ... إلى من الغاية والمفزع
إذا توفيت وفارقتنا ... وفيهم في الملك من يطمع؟
فقال: لو أعلمتكم مفزعا ... كنتم عسيتم فيه أن تصنعوا
كصنع أهل العجل إذ فارقوا ... هارون فالترك له أورع
ثم أتته بعده عزمة ... من ربه ليس لها مدفع
أبلغ وإلا لم تكن مبلغا ... والله منهم عاصم يمنع
فعندها قام النبي الذي ... كان بما يأمره يصدع
يخطب مأمورا وفي كفه ... كف على نورها يلمع
رافعها، أكرم بكف الذي ... يرفع، والكف التي ترفع
من كنت مولاه فهذا له ... مولى فلم يرضوا ولم يقنعوا
وظل قوم غاظهم قوله ... كأنما آنافهم تجدع
حتى إذا واروه في لحده ... وانصرفوا عن دفنه ضيعوا
ما قال بالأمس وأوصى به ... واشتروا الضر بما ينفع
(3/359)
وقطعوا أرحامهم بعده ... فسوف يجزون بما
قطعوا
وأزمعوا مكرا بمولاهم ... تبا لما كانوا به أزمعوا
لا هم عليه يردوا حوضه ... غدا، ولا هو لهم يشفع
إلى آخر ما قال لا غفر الله تعالى له عثرته ولا أقال، وأنت
تعلم أن أخبار الغدير التي فيها الأمر بالاستخلاف غير صحيحة
عند أهل السنة ولا مسلمة لديهم أصلا، ولنبين ما وقع هناك أتم
تبيين ولنوضح الغث منه والسمين، ثم نعود على استدلال الشيعة
بالإبطال ومن الله سبحانه الاستمداد وعليه الاتكال، فنقول: إن
النبي صلّى الله عليه وسلّم في مكان بين مكة والمدينة عند
مرجعه من حجة الوداع قريب من الجحفة يقال له: غدير خم، فبين
فيها فضل علي كرم الله تعالى وجهه وبراءة عرضه مما كان تكلم
فيه بعض من كان معه بأرض اليمن بسبب ما كان صدر منه من المعدلة
التي ظنها بعضهم جورا وتضييقا وبخلا، والحق مع علي كرم الله
تعالى وجهه في ذلك، وكانت يوم الأحد ثامن عشر ذي الحجة تحت
شجرة هناك.
فروى محمد بن إسحاق عن يحيى بن عبد الله عن يزيد بن طلحة قال:
لما أقبل علي كرم الله تعالى وجهه من اليمن ليلقى رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم بمكة تعجل إلى رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم واستخلف على جنده الذين معه رجلا من أصحابه، فعمد ذلك
الرجل فكسا كل رجل حلة من البز الذي كان مع علي كرم الله تعالى
وجهه، فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم الحلل، قال: ويلك
ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس، قال:
ويلك انتزع قبل أن ننتهي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
قال: فانتزع الحلل من الناس فردها في البز، وأظهر الجيش شكواه
لما صنع بهم.
وأخرج عن زينب بنت كعب- وكانت عند أبي سعيد الخدري- عن أبي
سعيد قال: اشتكى الناس عليا كرم الله تعالى وجهه، فقام رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم فينا خطيبا فسمعته يقول: أيها الناس
لا تشكوا عليا فو الله إنه لأخشن في ذات الله تعالى- أو في
سبيل الله تعالى. ورواه الإمام أحمد،
وروي أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن بريدة الأسلمي
قال: غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم ذكرت عليا كرم الله تعالى وجهه،
فرأيت وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد تغير، فقال
بريدة: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله
قال: من كنت مولاه فعلي مولاه،
وكذا رواه النسائي بإسناد جيد قوى رجاله كلهم ثقات، وروي
بإسناد آخر تفرد به،
وقال الذهبي: إنه صحيح عن زيد بن أرقم قال: لما رجع رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات
فغممن، ثم قال: كأني قد دعيت فأجبت إني قد تركت فيكم الثقلين
كتاب الله تعالى وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما
فإنهما لم يفترقا حتى يردا على الحوض، الله تعالى مولاي وأنا
ولي كل مؤمن، ثم أخذ بيد علي كرم الله تعالى وجهه، فقال: من
كنت مولاه فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فما
كان في الدوحات أحد إلا رآه بعينه وسمعه بأذنيه.
وروى ابن جرير عن علي بن زيد وأبي هارون العبيدي وموسى بن
عثمان عن البراء قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
في حجة الوداع فلما أتينا على غدير خم كسح لرسول الله صلّى
الله عليه وسلّم تحت شجرتين ونودي في الناس الصلاة جامعة، ودعا
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا كرم الله تعالى وجهه وأخذ
بيده وأقامه عن يمينه، فقال: ألست أولى بكل امرئ من نفسه؟
قالوا:
بلى، قال: فإن هذا مولى من أنا مولاه اللهم وال من والاه وعاد
من عاداه، فلقيه عمر بن الخطاب فقال رضي الله تعالى عنه: هنيئا
لك أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة
- وهذا ضعيف- فقد نصوا أن علي بن زيد وأبا هارون وموسى ضعفاء
لا يعتمد على روايتهم، وفي السند أيضا- أبو إسحاق- وهو شيعي
مردود الرواية.
(3/360)
وروى ضمرة بإسناده عن أبي هريرة قال: لما
أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يد علي كرم الله تعالى
وجهه قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فأنزل الله تعالى
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] ثم قال
أبو هريرة: وهو يوم غدير خم، ومن صام يوم ثماني عشرة من ذي
الحجة كتب الله تعالى له صيام ستين شهرا،
وهو حديث منكر جدا، ونص في البداية والنهاية على أنه موضوع،
وقد اعتنى بحديث الغدير أبو جعفر بن جرير الطبري فجمع فيه
مجلدين أورد فيهما سائر طرقه وألفاظه، وساق الغث والسمين
والصحيح والسقيم على ما جرت به عادة كثير من المحدثين، فإنهم
يوردون ما وقع لهم في الباب من غير تمييز بين صحيح وضعيف،
وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم ابن عساكر أورد أحاديث كثيرة
في هذه الخطبة، والمعول عليه فيها ما أشرنا إليه، ونحوه مما
ليس فيه خبر الاستخلاف كما يزعمه الشيعة، وعن الذهبي أن
من كنت مولاه فعلي مولاه
متواتر يتيقن أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاله، وأما
اللهم وال من والاه،
فزيادة قوية الإسناد، وأما صيام ثماني عشرة ذي الحجة فليس
بصحيح- ولا والله نزلت تلك الآية إلا يوم عرفة قبل غدير خم
بأيام.
والشيخان لم يرويا خبر الغدير في صحيحهما لعدم وجدانهما له على
شرطهما، وزعمت الشيعة أن ذلك لقصور وعصبية فيهما وحاشاهما من
ذلك، ووجه استدلال الشيعة بخبر- من كنت مولاه فعلي مولاه- أن
المولى بمعنى الأولى بالتصرف، وأولوية التصرف عين الإمامة، ولا
يخفى أن أول الغلط في هذا الاستدلال جعلهم المولى بمعنى
الأولى، وقد أنكر ذلك أهل العربية قاطبة بل قالوا: لم يجىء
مفعل بمعنى أفعل أصلا، ولم يجوز ذلك إلا أبو زيد اللغوي متمسكا
بقول أبي عبيدة في تفسير قوله تعالى: هِيَ مَوْلاكُمْ [الحديد:
15] أي أولى بكم.
وردّ بأنه يلزم عليه صحة فلان مولى من فلان كما يصح فلان أولى
من فلان، واللازم باطل إجماعا فالملزوم مثله، وتفسير أبي عبيدة
بيان لحاصل المعنى، يعني النار مقركم ومصيركم. والموضع اللائق
بكم، وليس نصا في أن لفظ المولى ثمة بمعنى الأولى، والثاني أنا
لو سلمنا أن المولى بمعنى الأولى لا يلزم أن يكون صلته
بالتصرف، بل يحتمل أن يكون المراد أولى بالمحبة وأولى بالتعظيم
ونحو ذلك، وكم قد جاء الأولى في كلام لا يصح معه تقدير التصرف
كقوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:
68] على أن لنا قرينتين على أن المراد من الولاية من لفظ
المولى أو الأولى: المحبة، إحداهما ما رويناه عن محمد بن إسحاق
في شكوى الذين كانوا مع الأمير كرم الله تعالى وجهه في اليمن-
كبريدة الأسلمي وخالد بن الوليد وغيرهما- ولم يمنع صلّى الله
عليه وسلّم الشاكين بخصوصهم مبالغة في طلب موالاته وتلطفا في
الدعوة إليها كما هو الغالب في شأنه صلّى الله عليه وسلّم في
مثل ذلك، وللتلطف المذكور افتتح الخطبة صلّى الله عليه وسلّم
بقوله: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم،
وثانيهما
قوله عليه الصلاة والسلام على ما في بعض الروايات: اللهم وال
من والاه وعاد من عاداه،
فإنه لو كان المراد من المولى المتصرف في الأمور أو الأولى
بالتصرف لقال عليه الصلاة والسلام: اللهم وال من كان في تصرفه
وعاد من لم يكن كذلك، فحيث ذكر صلّى الله عليه وسلّم المحبة
والعداوة فقد نبه على أن المقصود إيجاب محبته كرم الله تعالى
وجهه والتحذير عن عداوته وبغضه لا التصرف وعدمه، ولو كان
المراد الخلافة لصرح صلّى الله عليه وسلّم بها.
ويدل لذلك ما رواه أبو نعيم عن الحسن المثنى بن الحسن السبط
رضي الله تعالى عنهما أنهم سألوه عن هذا الخبر، هل هو نص على
خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه؟ فقال: لو كان النبي صلّى
الله عليه وسلّم أراد خلافته لقال: أيها الناس هذا ولي أمري
والقائم عليكم بعدي فاسمعوا وأطيعوا، ثم قال الحسن: أقسم بالله
سبحانه أن الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم لو آثر عليا
لأجل هذا الأمر- ولم يقدم علي كرم الله تعالى وجهه عليه- لكان
أعظم الناس خطأ، وأيضا ربما يستدل على أن المراد بالولاية
المحبة بأنه لم يقع التقييد بلفظ بعدي، والظاهر حينئذ اجتماع
الولايتين في زمان واحد، ولا يتصور
(3/361)
الاجتماع على تقدير أن يكون المراد أولوية
التصرف بخلاف ما إذا كان المراد المحبة، وتمسك الشيعة في إثبات
أن المراد بالمولى الأولى بالتصرف باللفظ الواقع في صدر الخبر
على إحدى الروايات، وهو
قوله صلّى الله عليه وسلّم: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم،
ونحن نقول: المراد من هذا أيضا الأولى بالمحبة يعني ألست أولى:
بالمؤمنين من أنفسهم بالمحبة، بل قد يقال: الأولى هاهنا مشتق
من الولاية بمعنى المحبة، والمعنى ألست أحب إلى المؤمنين من
أنفسهم؟
ليحصل تلاؤم أجزاء الكلام ويحسن الانتظام، ويكون حاصل المعنى
هكذا: يا معشر المؤمنين إنكم تحبوني أكثر من أنفسكم، فمن يحبني
يحب عليا اللهم أحب من أحبه وعاد من عاداه، ويرشد إلى أنه ليس
المراد بالأولى- في تلك الجملة- الأولى بالتصرف أنها مأخوذة من
قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ
[الأحزاب: 6] وهو مسوق لنفي نسب الأدعياء ممن يتبنونهم، وبيانه
أن زيد بن حارثة لا ينبغي أن يقال: إنه ابن محمد صلّى الله
عليه وسلّم لأن نسبة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى جميع
المؤمنين كالأب الشفيق بل أزيد، وأزواجه عليه والسلام أمهاتهم،
والأقرباء في النسب أحق وأولى من غيرهم، وإن كانت الشفقة
والتعظيم للأجانب أزيد لكن مدار النسب على القرابة وهي مفقودة
في الأدعياء لا على الشفقة والتعظيم، وهذا ما «في كتاب الله»
تعالى أي في حكمه، ولا دخل لمعنى الأولى بالتصرف في المقصود
أصلا، فالمراد فيما نحن فيه هو المعنى الذي أريد في المأخوذ
منه، ولو فرضنا كون الأولى في صدر الخبر بمعنى الأولى بالتصرف
فيحتمل أن يكون ذلك لتنبيه المخاطبين بذلك الخطاب ليتوجهوا إلى
سماع كلامه صلّى الله عليه وسلّم كمال التوجه ويلتفتوا إليه
غاية الالتفات، فيقرر ما فيه من الإرشاد أتم تقرر، وذلك كما
يقول الرجل لأبنائه في مقام الوعظ والنصيحة: ألست أباكم؟ وإذا
اعترفوا بذلك يأمرهم بما قصده منهم ليقبلوا بحكم الأبوة
والبنوة ويعملوا على طبقهما، فقوله عليه الصلاة والسلام في هذا
المقام: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ مثل «ألست رسول الله
تعالى إليكم؟» أو لست نبيكم، ولا يمكن إجراء مثل ذلك فيما بعده
تحصيلا للمناسبة، ومن الشيعة من أورد دليلا على نفي معنى
المحبة، وهو أن محبة الأمير كرم الله تعالى وجهه أمر ثابت في
ضمن آية وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة: 71] فلو أفاد هذا الحديث ذلك
المعنى أيضا كان لغوا ولا يخفى فساده، ومنشؤه أن المستدل لم
يفهم أن إيجاب محبة أحد في ضمن العموم شيء، وإيجاب محبته
بالخصوص شيء آخر، والفرق بينهما مثل الشمس ظاهر، ومما يزيد ذلك
ظهورا أنه لو آمن شخص بجميع أنبياء الله تعالى، ورسله عليهم
الصلاة والسلام، ولم يتعرض لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم
بخصوصه بالذكر لم يكن إيمانه معتبرا، وأيضا لو فرضنا اتحاد
مضمون الآية والخبر لا يلزم اللغو، بل غاية ما يلزم التقرير
والتأكيد، وذلك وظيفة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد كان
عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يؤكد مضامين القرآن ويقررها، بل
القرآن نفسه قد تكررت فيه المضامين لذلك، ولم يقل أحد إن ذلك
من اللغو- والعياذ بالله تعالى- وأيضا التنصيص على إمامة
الأمير كرم الله تعالى وجهه تكرر مرارا عند الشيعة، فيلزم على
تقدير صحة ذلك القول اللغوي، ويجل كلام الشارع عنه، ثم إن ما
أشار إليه الحميري في قصيدته التي أسرف فيها من أن الصحابة رضي
الله تعالى عنهم بهذه الهيئة الاجتماعية جاؤوا النبي صلّى الله
عليه وسلّم وطلبوا منه تعيين الإمام بعده مما لم يذكره
المؤرخون وأهل السير من الفريقين فيما أعلم، بل هو محض زور
وبهتان نعوذ بالله تعالى منه.
ومن وقف على تلك القصيدة الشنيعة بأسرها وما يرويه الشيعة
فيها، وكان له أدنى خبرة رأى العجب العجاب وتحقق أن قعاقع
القوم كصرير باب أو كطنين ذباب، ثم إن الأخبار الواردة من طريق
أهل السنة الدالة على أن هذه الآية نزلت في علي كرم الله تعالى
وجهه- على تقدير صحتها وكونها بمرتبة يستدل بها- ليس فيها أكثر
من الدلالة
(3/362)
على فضله كرم الله تعالى وجهه وأنه ولي
المؤمنين بالمعنى الذي قررناه، ونحن لا ننكر ذلك وملعون من
ينكره، وكذا ما أخرجه ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله تعالى
عنه ليس فيه أكثر من ذلك، والتنصيص عليه كرم الله تعالى وجهه
بالذكر لما قدمنا، وقال بعض أصحابنا على سبيل التنزل: إن الآية
على خبر ابن مسعود وكذا خبر الغدير- على الرواية المشهورة- على
تقدير دلالتهما على أن المراد الأولى بالتصرف لا بد أن يقيدا
بما يدل على ذلك في المآل، وحينئذ فمرحبا بالوفاق لأن أهل
السنة قائلون بذلك حين إمامته، ووجهه تخصيص الأمير كرم الله
تعالى وجهه حينئذ بالذكر ما علمه عليه الصلاة والسلام بالوحي
من وقوع الفساد والبغي في زمن خلافته، وإنكار بعض الناس
لإمامته الحقة، وكون ذلك بعد الوفاة من غير فصل مما لا دليل
عليه، والخبر المصدر- بكأني قد دعيت فأجبت- ليس نصا في المقصود
كما لا يخفى، ومما يبعد دعوى الشيعة من أن الآية نزلت في خصوص
خلافة علي كرّم الله تعالى وجهه، وأن الموصول فيها خاص قوله
تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فإن الناس فيه وإن
كان عاما إلا أن المراد بهم الكفار، ويهديك إليه إِنَّ اللَّهَ
لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ فإنه في موضع التعليل
لعصمته عليه الصلاة والسلام، وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر أي
لأن الله تعالى لا يهديهم إلى أمنيتهم فيك، ومتى كان المراد
بهم الكفار بعد إرادة الخلافة، بل لو قيل: لم تصح لم يبعد لأن
التخوف الذي تزعمه الشيعة منه صلّى الله عليه وسلّم- وحاشاه في
تبليغ أمر الخلافة- إنما هو من الصحابة رضي الله تعالى عنهم،
حيث إن فيهم- معاذ الله تعالى- من يطمع فيها لنفسه، ومتى رأى
حرمانه منها لم يبعد منه قصد الإضرار برسول الله صلّى الله
عليه وسلّم، والتزام القول- والعياذ بالله عزّ وجلّ- بكفر من
عرضوا بنسبة الطمع في الخلافة إليه مما يلزمه محاذير كلية
أهونها تفسيق الأمير كرم الله تعالى وجهه وهو هو، أو نسبة
الجبن إليه- وهو أسد الله تعالى الغالب- أو الحكم عليه
بالتقية- وهو الذي لا تأخذه في الله تعالى لومة لائم ولا يخشى
إلا الله سبحانه- أو نسبة فعل الرسول الله صلّى الله عليه
وسلّم، بل الأمر الإلهي إلى العبث والكل كما ترى، لا يقال: إن
عندنا أمرين يدلان على أن المراد بالموصول الخلافة، أحدهما أنه
صلّى الله عليه وسلّم كان مأمورا بأبلغ عبارة بتبليغ الأحكام
الشرعية التي يؤمر بها حيث قال سبحانه مخاطبا له عليه الصلاة
والسلام: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ [الحجر: 94] فلو لم يكن المراد هنا فرد هو أهم
الأفراد وأعظمها شأنا- وليس ذلك إلا الخلافة إذ بها ينتظم أمر
الدين والدنيا- لخلا الكلام عن الفائدة، وثانيهما
أن ابن إسحاق ذكر في سيرته أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
خطب الناس في حجة الوداع خطبته التي بين فيها ما بين، فحمد
الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس اسمعوا قولي فإني
لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا، أيها
الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة
يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألنكم عن
أعمالكم، وقد بلغت، ثم أوصى صلّى الله عليه وسلّم بالنساء، ثم
قال عليه الصلاة والسلام:
فاعقلوا قولي فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به
فلن تضلوا أبدا كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلّى الله عليه
وسلّم- إلى أن قال: بأبي هو وأمي صلّى الله عليه وسلّم- اللهم
هل بلغت؟ قال ابن إسحاق: فذكر لي أن الناس قالوا: اللهم نعم،
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهم اشهد»
انتهى.
فإن هذه الرواية ظاهرة في أن الخطبة كانت يوم عرفة يوم الحج
الأكبر- كما في رواية يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير-
ويوم الغدير كان اليوم الثامن عشر من ذي الحجة بعد أن فرغ صلّى
الله عليه وسلّم من شأن المناسك وتوجه إلى المدينة المنوّرة،
وحينئذ يكون المأمور بتبليغه أمرا آخر غير ما بلغه صلّى الله
عليه وسلّم قبل، وشهد الناس على تبليغه، وأشهد الله تعالى على
ذلك، وليس هذا إلا الخلافة الكبرى والإمامة العظمى، فكأنه
سبحانه يقول: يا أيها الرسول بلغ كون علي كرم الله تعالى وجهه
خليفتك وقائما مقامك بعدك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ
رِسالَتَهُ وإن قال لك الناس حين قلت: اللهم هل
(3/363)
بلغت؟ اللهم نعم، لأنا نقول: إن الشرطية في
الأمر الأول- بعد غمض العين عما فيه- ممنوعة لجواز أن يراد
بالموصول في الآيتين الأحكام الشرعية المتعلقة بمصالح العباد
في معاشهم ومعادهم، ولا يلزم الخلو عن الفائدة إذ كم آية تكررت
في القرآن، وأمر ونهي ذكر مرارا للتأكيد والتقرير، على أن
بعضهم ذكر أن فائدة الأمر هنا إزالة توهم أن النبي صلّى الله
عليه وسلّم ترك ويترك تبليغ شيء من الوحي تقية، ويرد على الأمر
الثاني أمران: الأول أن كون يوم الغدير بعد يوم عرفة مسلم، لكن
لا نسلم أن الآية نزلت فيه ليكون المأمور بتبليغه أمرا آخر، بل
الذي يقتضيه ظاهر الخطبة
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها- اللهم هل بلغت-
أن الآية نزلت قبل يومي الغدير وعرفة، وما ورد في غير ما أثر-
من أن سورة المائدة نزلت بين مكة والمدينة في حجة الوداع لا
يصلح دليلا للبعدية ولا للقبلية إذ ليس فيه ذكر الإياب ولا
الذهاب، وظاهر حاله صلّى الله عليه وسلّم في تلك الحجة- من
إراءة المناسك ووضع الربا ودماء الجاهلية، وغير ذلك مما يطول
ذكره، وقد ذكره أهل السير- يرشد إلى أن النزول كان في الذهاب،
والثاني أنا لو سلمنا كون النزول يوم الغدير، فلا نسلم أن
المأمور بتبليغه أمر آخر لكنا لا نسلم أنه ليس إلا الخلافة،
وكم قد بلغ صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك غير ذلك من الآيات
المنزلة عليه عليه الصلاة والسلام، والذي يفهم من بعض الروايات
أن هذه الآية قبل حجة الوداع،
فقد أخرج ابن مردويه والضياء في مختاره عن ابن عباس قال: سئل
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي آية أنزلت من السماء أشد
عليك؟ فقال: «كنت بمنى أيام موسم واجتمع مشركو العرب وأفناء
الناس في الموسم فأنزل علي جبريل عليه السلام فقال: يا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ
الآية، قال: فقمت عند العقبة فناديت: يا أيها الناس من ينصرني
على أن أبلغ رسالات ربي ولكم الجنة، أيها الناس قولوا: لا إله
إلا الله وأنا رسول الله إليكم تفلحوا وتنجحوا ولكم الجنة، قال
عليه الصلاة والسلام: فما بقي رجل ولا امرأة ولا أمة ولا صبي
إلا يرمون علي بالتراب والحجارة، ويقولون: كذاب صابىء، فعرض
علي عارض فقال: يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو
عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك، فقال النبي صلّى الله
عليه وسلّم: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون وانصرني عليهم أن
يجيبوني إلى طاعتك، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه» .
قال الأعمش: فبذلك تفتخر بنو العباس، ويقولون: فيهم نزلت
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي
مَنْ يَشاءُ [القصص: 56] هوى النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا
طالب، وشاء الله تعالى عباس بن عبد المطلب، وأصرح من هذا ما
أخرجه أبو الشيخ وأبو نعيم في الدلائل وابن مردويه وابن عساكر
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «كان النبي صلّى الله
عليه وسلّم يحرس وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالا من
بني هاشم يحرسونه حتى نزلت وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ
فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه، فقال: يا عم إن الله عز وجل
قد عصمني»
فإن أبا طالب مات قبل الهجرة، وحجة الوداع بعدها بكثير،
والظاهر اتصال الآية، وعن بعضهم أن الآية نزلت ليلا بناء على
ما
أخرج عبد بن حميد والترمذي والبيهقي وغيرهم عن عائشة رضي الله
تعالى عنها قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يحرس حتى
نزلت وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ أخرج رأسه من القبة
فقال: «أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله تعالى»
ولا يخفى أنه ليس بنص في المقصود، والذي أميل إليه جمعا بين
الأخبار أن هذه الآية مما تكرر نزوله، والله تعالى أعلم،
والمراد بالعصمة من الناس حفظ روحه عليه الصلاة والسلام من
القتل والإهلاك، فلا يرد أنه صلّى الله عليه وسلّم شج وجهه
الشريف وكسرت رباعيته يوم أحد، ومنهم من ذهب إلى العموم وادعى
أن الآية إنما نزلت بعد أحد، واستشكل الأمران بأن اليهود سموه
عليه الصلاة والسلام حتى
قال: «لا زالت أكلة خيبر تعاودني
وهذا أوان قطعت أبهري وأجيب بأنه سبحانه وتعالى ضمن له العصمة
من القتل ونحوه بسبب تبليغ الوحي، وأما ما فعل به صلّى الله
عليه وسلّم وبالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فللذب عن الأموال
والبلاد والأنفس، ولا يخفى بعده.
(3/364)
وقال الراغب: عصمة الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام حفظهم بما خصوا به من صفاء الجوهر، ثم بما أولاهم من
الأخلاق والفضائل، ثم بالنصرة وتثبيت أقدامهم، ثم بإنزال
السكينة عليهم وبحفظ قلوبهم وبالتوفيق، وقيل: المراد بالعصمة
الحفظ من صدور الذنب، والمعنى بلغ والله تعالى يمنحك الحفظ من
صدور الذنب من بين الناس، أي يعصمك بسبب ذلك دونهم، ولا يخفى
أن هذا توجيه لم يصدر إلا ممن لم يعصمه الله تعالى من الخطأ،
ومثله ما نقل عن علي بن عيسى في قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ
حيث قال: لا يهديهم بالمعونة والتوفيق والألطاف إلى الكفر بل
إنما يهديهم إلى الإيمان، وزعم أن الذي دعاه إلى هذا التفسير
أن الله تعالى هدى الكفار إلى الإيمان بأن دلهم عليه ورغبهم
فيه وحذرهم من خلافه، وأنت قد علمت المراد بالآية على أن في
كلامه ما لا يخفى من النظر، وقال الجبائي: المراد لا يهديهم
إلى الجنة والثواب، وفيه غفلة عن كون الجملة في موضع التعليل،
وزعم بعضهم أن المراد أن عليك البلاغ لا الهداية، فمن قضيت
عليه بالكفر والوفاة عليه لا يهتدي أبدا- وهو كما ترى- فليفهم
جميع ما ذكرناه في هذه الآية وليحفظ فإني لا أظن أنك تجده في
كتاب.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «رسالاته» على الجمع،
وإيراد الآية في تضاعيف الآية الواردة في أهل الكتاب لما أن
الكل قوارع يسوء الكفار سماعها ويشق على الرسول صلّى الله عليه
وسلّم مشافهتهم بها، وخصوصا ما يتلوها من النص الناعي عليهم
كمال ضلالهم، ولذلك أعيد الأمر فقال سبحانه: قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ، والمراد بهم اليهود والنصارى- كما قال بعض
المفسرين- وقال آخرون: المراد بهم اليهود،
فقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنه قال: جاء رافع بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن
الصيف ورافع بن حريملة «فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة
إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها من الله
تعالى حق؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق
وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس فبرئت من إحداثكم.
قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا فإنا على الهدى والحق ولا نؤمن
بك ولا نتبعك» فأنزل الله تعالى فيهم قال يا أهل الكتاب
لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي دين يعتد به ويليق بأن يسمى شيئا
لظهور بطلانه ووضوح فساده، وفي هذا التعبير ما لا يخفى من
التحقير، ومن أمثالهم أقل من لا شيء حَتَّى تُقِيمُوا
التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أي تراعوهما وتحافظوا على ما فيهما
من الأمور التي من جملتها دلائل رسالة النبي صلّى الله عليه
وسلّم وشواهد نبوته، فإن إقامتهما وتوفية حقوقهما إنما تكون
بذلك لا بالعمل بجميع ما فيهما منسوخا كان أو غيره، فإن مراعاة
المنسوخ تعطيل لهما وردّ لشهادتهما وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
مِنْ رَبِّكُمْ أي القرآن المجيد، وإقامته بالإيمان به، وقدمت
إقامة الكتابين على إقامته- مع أنها المقصودة بالذات- رعاية
لحق الشهادة واستنزالا لهم عن رتبة الشقاق.
وقيل: المراد بالموصول كتب أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة
والسلام، وقيل: الكتب الإلهية، فإنها كلها ناطقة بوجوب الإيمان
بمن ادعى النبوة وأظهر المعجزة ووجوب طاعة من بعث إليهم له،
وقد مر تمام الكلام على مثل هذا النظم الكريم وكذا على قوله
تعالى:
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً والجملة مستأنفة- كما قال شيخ
الإسلام مبينة لشدة شكيمتهم وغلوهم في المكابرة والعناد وعدم
إفادة التبليغ نفعا، وتصديرها بالقسم لتأكيد مضمونها وتحقيقه
ونسبة الإنزال إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- مع نسبته
فيما مر إليهم- للإنباء عن انسلاخهم عن تلك النسبة، وإذا أريد
بالموصول النعم التي أعطيها صلّى الله عليه وسلّم فأمر النسبة
ظاهر جدا.
(3/365)
فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ
أي لا تأسف ولا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإن غائلة
ذلك موصولة بهم وتبعته عائدة إليهم، وفي المؤمنين غنى لك عنهم،
ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالرسوخ في الكفر،
وقيل: المراد لا تحزن على هلاكهم وعذابهم، ووضع الظاهر موضع
الضمير للتنبيه على العلة الموجبة لعدم الأسى، ولا يخلو عن بعد
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا كلام مستأنف مسوق للترغيب في الإيمان
والعمل الصالح.
وقد تقدم في آية البقرة الاختلاف في المراد- من الذين آمنوا-
والمروي عن الثوري أنهم الذين آمنوا بألسنتهم- وهم المنافقون-
وهو الذي اختاره الزجاج، واختار القاضي أن المراد بهم
المتدينون بدين محمد صلّى الله عليه وسلّم مخلصين كانوا أو
منافقين، وقيل: غير ذلك وَالَّذِينَ هادُوا أي دخلوا في
اليهودية وَالصَّابِئُونَ، وهم كما قال حسن جلبي وغيره: قوم
خرجوا عن دين اليهود والنصارى وعبدوا الملائكة وقد تقدم الكلام
على ذلك، وفي حسن المحاضرة في أخبار مصر القاهرة للجلال
السيوطي ما لفظه: ذكر أئمة التاريخ أن آدم عليه الصلاة والسلام
أوصى لابنه شيث- وكان فيه وفي بنيه النبوة والدين- وأنزل عليه
تسع وعشرون صحيفة وأنه جاء إلى أرض مصر، وكانت تدعى بايلون
فنزلها هو وأولاد أخيه، فسكن شيث فوق الجبل، وسكن أولاد قابيل
أسفل الوادي، واستخلف شيث ابنه أنوش واستخلف أنوش ابنه قونان،
واستخلف قونان ابنه مهلائيل، واستخلف مهلائيل ابنه يرد، ودفع
الوصية إليه وعلمه جميع العلوم وأخبره بما يحدث في العالم،
ونظر في النجوم وفي الكتاب الذي أنزل على آدم عليه الصلاة
والسلام، وولد ليرد أخنوخ- وهو إدريس عليه الصلاة والسلام-
ويقال له: هرمس، وكان الملك في ذلك الوقت محويل بن أخنوخ بن
قابيل، وتنبأ إدريس عليه الصلاة والسلام وهو ابن أربعين سنة،
وأراد به الملك سوءا فعصمه الله تعالى وأنزل عليه ثلاثين
صحيفة، ودفع إليه أبوه وصية جده والعلوم التي عنده وكان قد ولد
بمصر وخرج منها، وطاف الأرض كلها ورجع فدعا الخلق إلى الله
تعالى فأجابوه حتى عمت ملته الأرض، وكانت ملته الصابئة، وهي
توحيد الله تعالى والطهارة والصوم، وغير ذلك من رسوم التعبدات،
وكان في رحلته إلى المشرق قد أطاعه جميع ملوكها، وابتنى مائة
وأربعين مدينة أصغرها الرها، ثم عاد إلى مصر وأطاعه ملكها وآمن
به- إلى آخر ما قاله- ونقله عن التيفاشي، ويفهم منه قول في
الصابئة غير الأقوال المتقدمة وفي شذرات الذهب لعبد الحي بن
أحمد بن العماد الحنبلي في ترجمة أبي إسحاق الصابئي ما نصه:
والصابئي بهمز آخره، قيل: نسبة إلى صابئي بن متوشلخ بن إدريس
عليه الصلاة والسلام، وكان على الحنيفية الأولى، وقيل: الصابئي
بن ماوي، وكان في عصر الخليل عليه الصلاة والسلام، وقيل:
الصابئ عند العرب من خرج عن دين قومه انتهى وَالنَّصارى جمع
نصران، وقد مر تفصيله، ورفع الصَّابِئُونَ على الابتداء وخبره
محذوف لدلالة خبر- إن- عليه، والنية فيه التأخير عما في خبر
إِنَّ والتقدير إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا
وَالنَّصارى حكمهم كيت وكيت وَالصَّابِئُونَ كذلك بناء على أن
المحذوف في إن زيدا، وعمرو قائم خبر الثاني لا الأول كما هو
مذهب بعض النحاة، واستدل عليه بقول: صابئ بن الحارث البرجمي:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني، وقيار بها لغريب
فإن قوله: «لغريب» خبر إن، ولذا دخلت عليه اللام لأنها تدخل
على خبر «إن» لا على خبر المبتدأ إلا شذوذا، وقيل: إن «غريب»
فيه خبر عن الاسمين جميعا لأن فعيلا يستوي فيه الواحد وغيره
نحو وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: 4] ، ورده
الخلخالي بأنه لم يرد للاثنين، وإن ورد للجمع، وأجاب عنه ابن
هشام بأنهم قالوا في قوله تعالى:
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق: 17] : إن المراد
قعيدان، وهذا يدل على إطلاقه على الاثنين أيضا، فالصواب
(3/366)
منع هذا الوجه بأنه يلزم عليه توارد عاملين
على معمول واحد، ومثله لا يصح على الأصح خلافا للكوفيين، وبقول
بشر بن أبي حازم:
إذا جزت نواصي آل بدر ... فأدوها وأسرى في الوثاق
وإلا فاعلموا أنا وأنتم ... بغاة ما بقينا في شقاق
فإن قوله: «بغاة ما بقينا» خبر إن ولو كان خبر- أنتم- لقال: ما
بقيتم، وبغاة- جمع باغ بمعنى طالب، وقيل: إنه جمع باغي من
البغي والتعدي- وأنتم بغاة- جملة معترضة لأنه لا يقول في قومه
إنهم بغاة. وما بقينا في شقاق- خبر إن، وحينئذ لا يصلح البيت
شاهدا لما ذكر لأن ضمير المتكلم مع الغير في محله، وإنما وسطت
الجملة هنا بين إن وخبرها مع اعتبار نية التأخير ليسلم الكلام
عن الفصل بين الاسم والخبر، وليعلم أن الخبر ماذا دلالة- كما
قيل- على أن الصابئين- مع ظهور ضلالهم وزيغهم عن الأديان كلها
حيث قبلت توبتهم- إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح فغيرهم
أولى بذلك، ومن هنا قيل: إن الجملة كاعتراض دل به على ما ذكر،
وإنما لم تجعل اعتراضا حقيقة لأنها معطوفة على جملة إِنَّ
الَّذِينَ وخبرها، وأورد عليه ما قاله ابن هشام: من أن فيه
تقديم الجملة المعطوفة على بعض الجملة المعطوفة عليها، وإنما
يتقدم المعطوف على المعطوف عليه في الشعر، فكذا ينبغي أن يكون
تقديمه على بعض المعطوف عليه بل هو أولى منه بالمنع، وأما ما
أجاب به عنه بأن الواو واو الاستئناف التي تدخل على الجمل
المعترضة، كقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ
تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ [البقرة: 24] إلخ، وهذه الجملة
معترضة لا معطوفة، فلا يتمشى فيما نحن فيه لأنه يفوت نكتة
التقديم من تأخير التي أشير إليها لأنها إذا كانت معترضة لا
تكون مقدمة من تأخير، وبعض المحققين صرف الخبر المذكور إلى
قوله تعالى: وَالصَّابِئُونَ وجعل خبر إن محذوفا، وهو القول
الآخر للنحاة في مثل هذا التركيب، وهو موافق للاستعمال أيضا
كما في قوله:
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
فإن قوله- راض- خبر- أنت- وخبر- نحن- محذوف، ورجح بأن الإلحاق
بالأقرب أقرب، وبأنه خال عما يلزم على التوجيه الأول، نعم غاية
ما يرد عليه أن الأكثر الحذف من الثاني لدلالة الأول، وعكسه
قليل لكنه جائز، وعورض بأن الكلام فيما نحن فيه مسوق لبيان حال
أهل الكتاب، فصرف الخبر إليهم أولى، وفي توسيط بيان حال
الصابئين ما علمت من التأكيد، وأيضا في صرف الخبر إلى الثاني
فصل للنصارى عن اليهود وتفرقة بين أهل الكتاب لأنه حينئذ عطف
على قوله سبحانه: وَالصَّابِئُونَ قطعا، نعم لو صح أن
المنافقين واليهود أوغل المعدودين في الضلال، والصابئين
والنصارى أسهل حسن تعاطفهما وجعل المذكور خبرا عنهما، وترك
كلمة التحقيق المذكورة في الأولين دليلا على هذا المعنى، وقيل:
إن الصَّابِئُونَ عطف على محل إِنَّ واسمها، وقد أجازه بعضهم
مطلقا، وبعضهم منعه مطلقا، وفصل آخرون فقالوا: يمتنع قبل مضي
الخبر ويجوز بعده.
وذهب الفراء إلى أنه إن خفي إعراب الاسم جاز لزوال الكراهة
اللفظية نحو: إنك وزيد ذاهبان، وإلا امتنع، والمانع عند
الجمهور لزوم توارد عاملين، وهما إِنَّ والابتداء أو المبتدأ
على معمول واحد وهو الخبر، ولهذا ضعفوا هذا القول في الآي
وبنوا على مذهب الكوفيين، وكون خبر المعطوف فيها محذوفا-
وحينئذ لا يلزم التوارد- ليس بشيء لأن الجملة حينئذ تكون
معطوفة على الجملة، ولم يكن ذلك من العطف على المحل في شيء،
ومن قال: إن خبر إِنَّ مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخولها لم
يلزم عليه حديث التوارد.
ونقل عن الكسائي إن العطف على الضمير في هادُوا وخطأه الزجاج
بأنه لا يعطف على الضمير المرفوع
(3/367)
المتصل من غير فصل، وبأنه لو عطف على
الفاعل لكان التقدير- وهاد الصابئون- فيقتضي أنهم هود- وليس
كذلك- ولعل الكسائي يرى صحة العطف من غير فاصل فلا يرد عليه
الاعتراض الأول، وقيل: إِنَّ بمعنى نعم الجوابية ولا عمل لها
حينئذ، فما بعدها مرفوع المحل على الابتداء والمرفوع معطوف
عليه، وضعفه أبو حيان بأن ثبوت إِنَّ بمعنى نعم فيه خلاف بين
النحويين.
وعلى تقدير ثبوته فيحتاج إلى شيء يتقدمها تكون تصديقا له ولا
يجيء أول الكلام، والجواب بأن ثمة سؤالا مقدرا بعيد ركيك،
وقيل: إن- الصابئين- عطف على الصلة بحذف الصدر أي الذين هم
الصابئون، ولا يخفى بعده، وإن عدّ أحسن الوجوه، وقيل: إنه
منصوب بفتحة مقدرة على الواو والعطف حينئذ مما لا خفاء فيه،
واعترض بأن لغة- بلحارث وغيرهم- الذين جعلوا المثنى دائما
بالألف نحو- رأيت الزيدان. ومررت بالزيدان- وأعربوه بحركات
مقدرة، إنما هي في المثنى خاصة، ولم ينقل نحو ذلك عنهم في
الجمع خلافا لما تقتضيه عبارة أبي البقاء، والمسألة مما لا
يجري فيها القياس فلا ينبغي تخريج القرآن العظيم على ذلك، وقرأ
أبي وكذا ابن كثير «والصابئين» وهو الظاهر «والصابيون» بقلب
الهمزة ياء على خلاف القياس «والصابون» بحذفها من صبا بإبدال
الهمزة ألفا فهو كرامون من رمى، وقرأ عبد الله «يا أيها الذين
آمنوا والذين هادوا والصابئون» وقوله سبحانه وتعالى: مَنْ
آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً إما في
محل رفع على أنه مبتدأ خبره قوله تعالى: فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ
والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وجمع الضمائر الأخيرة
باعتبار معنى الموصول كما أن إفراد ما في صلته باعتبار لفظه،
والجملة خبر إن أو خبر المبتدأ، وعلى كل لا بد من تقدير العائد
أي من آمن منهم، وإما في محل النصب على أنه بدل من اسم إِنَّ
وما عطف عليه، أو ما عطف عليه فقط، وهو بدل بعض، ولا بد فيه من
الضمير كما تقرر في العربية فيقدر أيضا، وقوله تعالى: فَلا
خَوْفٌ إلخ خبر، والفاء كما في قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ
فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا
فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ [البروج: 10] الآية، والمعنى- كما
قال غير واحد- على تقدير كون المراد- بالذين آمنوا- المؤمنين
بألسنتهم وهم المنافقون من أحدث من هؤلاء الطوائف إيمانا خالصا
بالمبدأ والمعاد على الوجه اللائق لا كما يزعمه أهل الكتاب
فإنه بمعزل عن ذلك، وعمل عملا صالحا حسبما يقتضيه الإيمان فَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حين يخاف الكفار العقاب وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ حين يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب،
والمراد بيان انتفاء الأمرين لا انتفاء دوامهما على ما مرت
الإشارة إليه غير مرة وأما على تقدير كون المراد- بالذين
آمنوا- المتدينين بدين النبي صلّى الله عليه وسلّم مخلصين
كانوا أو منافقين، فالمراد بمن آمن من اتصف منهم بالإيمان
الخالص بما ذكر على الإطلاق سواء كان ذلك بطريق الثبات
والدوام- كما في المخلصين- أو بطريق الإحداث والإنشاء- كما هو
حال من عداهم من المنافقين. وسائر الطوائف- وليس هناك الجمع
بين الحقيقة والمجاز كما لا يخفى لأن الثبات على الإيمان
والإحداث فردان من مطلق الإيمان إلا أن في هذا الوجه ضم
المخلصين إلى الكفرة، وفيه إخلال بتكريمهم، وربما يقال: إن
فائدة ذلك المبالغة في ترغيب الباقين في الإيمان ببيان أن
تأخرهم في الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين
الأعلام وتمام الكلام قد مر في آية البقرة فليراجع لَقَدْ
أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ كلام مبتدأ مسوق لبيان بعض
آخر من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم، وجعله بعضهم
متعلقا بما افتتح الله تعالى به السورة، وهو قوله سبحانه:
أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] ولا يخفى بعده.
والمراد بالميثاق المأخوذ العهد المؤكد الذي أخذه أنبياؤهم
عليهم في الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وابتاعه فيما
يأتي ويذر، أو في التوحيد وسائر الشرائع والأحكام المكتوبة
عليهم في التوراة.
(3/368)
وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ذوي عدد
كثير، وأولي شأن خطير، يعرفونهم ذلك ويتعهدونهم بالعظة
والتذكير ويطلعونهم على ما يأتون ويذرون في دينهم كُلَّما
جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ أي بما لا تميل
إليه من الشرائع ومشاق التكاليف، والتعبير بذلك دون بما تكرهه
أنفسهم للمبالغة في ذمهم، وكلمة كُلَّما كما قال أبو حيان:
منصوبة على الظرفية لإضافتها إلى ما المصدرية الظرفية وليست
كلمة شرط، وقد أطلق ذلك عليها الفقهاء وأهل المعقول، ووجه ذلك
السفاقسي بأن تسميتها شرطا لاقتضائها جوابا كالشرط الغير
الجازم فهي مثل- إذا- ولا بعد فيه، وجوابها- كما قيل- قوله
تعالى: فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ.
وقيل: الجواب محذوف دل عليه المذكور، وقدره ابن المنير
استكبروا لظهور ذلك في قوله تعالى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ
رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ
فَفَرِيقاً [البقرة: 87] إلخ، والبعض ناصبوه لأنه أدخل في
التوبيخ على ما قابلوا به مجيء الرسول الهادي لهم، وأنسب بما
وقع في التفصيل مستقبحا غاية الاستقباح، وهو القتل على ما
سنشير إليه إن شاء الله تعالى، فإن الاستكبار إنما يفضى إليه
بواسطة المناصبة، وأما في الآية الأخرى فقد قصد إلى استقباح
الاستكبار نظرا إليه في نفسه لاقتضاء المقام، وادعى بعضهم أن
في الإتيان بالفاء في آية الاستكبار إشارة إلى اعتبار الواسطة
كأنه قيل: استكبرتم فناصبتم فَفَرِيقاً إلخ، وفيه نظر، والجملة
حينئذ استئناف لبيان الجواب، وجعل الزمخشري هذا القول متعينا
لأن الكلام تفصيل لحكم أفراد جمع الرسل الواقع قبل، أي- كلما
جاءهم رسول من الرسل- والمذكور بقوله سبحانه: فَرِيقاً
كَذَّبُوا إلخ يقتضي أن الجائي في كل مرة فريقان فبينهما
تدافع، وعلى تقدير قطع النظر عن هذا لا يحسن في مثل هذا المقام
تقديم المفعول مثل- إن أكرمت أخي، أخاك أكرمت- لأنه يشعر
بالاختصاص المستلزم للجزم بوقوع أصل الفعل مع النزاع في
المفعول، وتعليقه بالشرط يشعر بالشك في أصل الفعل، ولأن تقديم
المفعول على ما قيل: يوجب الفاء إما لجعله الفعل بعيدا عن
المؤثر فيحوجه إلى رابط، وإما لأنه بتقديم المفعول أشبه الجملة
الاسمية المفتقرة إلى الفاء، وقيل: فيه مانع آخر لأن المعنى
على أنهم كلما جاءهم رسول وقع أحد الأمرين لا كلاهما، فلو كان
جوابا لكان الظاهر أو بدل الواو، ومن جعل الجملة جوابا لم ينظر
إلى هذه الموانع، قال بعض المحققين: أما الأول فلأنه لقصد
التغليظ جعل قتل واحد كقتل فريق، وقيل: المراد بالرسول جنسه
الصادق بالكثير ويؤيده كُلَّما الدالة على الكثرة، وأما الثاني
فلأنه لا يقتضي قواعد العربية مثله، وما ذكر من الوجوه أوهام
لا يلتفت إليها ولا يوجد مثله في كتب النحو، ومنه يعلم دفع
الأخير، وتعقب ذلك مولانا شهاب الدين بأنه عجيب من المتبحر
الغفلة عن مثل هذا، وقد قال في شرح التسهيل: ويجوز أن ينطلق
خيرا يصب- خلافا للفراء- فقال شراحه: أجاز سيبويه، والكسائي
تقديم المنصوب بالجواب مع بقاء جزمه، وأنشد الكسائي:
وللخير أيام فمن يصطبر لها ... ويعرف لها أيامها الخير يعقب
تقديره يعقب الخير، ومنع ذلك الفراء مع بقاء الجزم، وقال: بل
يجب الرفع على التقديم والتأخير أو على إضمار الفاء، وتأول
البيت بأن الخير صفة للأيام، كأنه قال: أيامها الصالحة.
واختار ابن مالك هذا المذهب في بعض كتبه، ولما رأى الزمخشري
اشتراك المانع بين الشرط الجازم وما في معناه مال إليه خصوصا،
وقوة المعنى تقتضيه فهو الحق انتهى.
والجملة الشرطية صفة رُسُلًا والرابط محذوف أي رسول منهم، وإلى
هذا ذهب جمهور المعربين.
واختار مولانا شيخ الإسلام أن الجملة الشرطية مستأنفة وقعت
جوابا عن سؤال نشأ من الإخبار بأخذ الميثاق وإرسال الرسل كأنه
قيل: فماذا فعلوا بالرسل؟ فقيل: كلما جاءهم رسول من أولئك
الرسل بما لا تحبه أنفسهم
(3/369)
المنهمكة في الغي والفساد من الأحكام الحقة
والشرائع عصوه وعادوه، واعترض رحمه الله تعالى على ما ذهب إليه
الجمهور من القول بالوصفية بأنه لا يساعده المقام لأن الجملة
الخبرية إذا جعلت صفة أو صلة ينسخ ما فيها من الحكم، ويجعل
عنوانا للموصوف وتتمة له، ولذا وجب أن تكون معلومة الانتساب
له، ومن هنا قالوا: إن الصفات قبل العلم بها إخبار والإخبار
بعد العلم بها أوصاف، ولا ريب في أن ما سيق له النظم إنما هو
بيان أنهم جعلوا كل من جاءهم من الرسل عرضة للقتل والتكذيب
حسبما يفيده جعلها استئنافا على أبلغ وجه وآكده لا بيان أنه
أرسل إليهم رسلا موصوفين بكون كل منهم كذلك كما هو مقتضى جعلها
صفة انتهى.
وتعقبه الشهاب بأنه تخيل لا طائل تحته، فإن قوله سبحانه:
ولَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ إلخ مسوق لبيان
جناياتهم والنعي عليهم بذلك كما اعترف به المعترض وهو لا يفيده
إلا بالنظر إلى الصفة التي هي مرمى النظر كما في سائر القيود،
وأما كونها معلومة فلا ضير فيه فإنك إذا وبخت شخصا، وقلت له:
فعلت كيت وكيت وهو أعلم بما فعل لا يضر ذلك في تقريعه وتعييره
بل هو أقوى- كما لا يخفى- على الخبير بأساليب الكلام، فلا
تلتفت إلى مثل هذه الأوهام انتهى، ولا يخفى ما في قوله، وهو لا
يفيده إلا بالنظر إلى الصفة إلخ من المنع الظاهر، وكذا جعل ما
نحن فيه نظير قولك لشخص تريد توبيخه: فعلت كيت وكيت- وهو أعلم
بما فعل- فيه خفاء، والذي يحكم به الإنصاف بعد التأمل جواز
الأمرين، وأن ما ذهب إليه شيخ الإسلام أولى فتأمل وأنصف.
والتعبير- بيقتلون- مع أن الظاهر قتلوا ككذبوا لاستحضار الحال
الماضية من أسلافهم للتعجيب منها ولم يقصد ذلك في التكذيب
لمزيد الاهتمام بالقتل، وفي ذلك أيضا رعاية الفواصل، وعلل
بعضهم التعبير بصيغة المضارع فيه، بالتنبيه على أن ذلك ديدنهم
المستمر فهم بعد يحومون حول قتل رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم، واقتصر البعض على قصد حكاية الحال لقرينة ضمائر الغيبة،
وتقديم فَرِيقاً في الموضعين للاهتمام وتشويق السامع إلى ما
فعلوا به لا للقصر وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي ظن
بنو إسرائيل أن لا يصيبهم من الله تعالى مما فعلوا بلاء وعذاب
لزعمهم- كما قال الزجاج- أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه أو
لإمهال الله تعالى لهم أو لنحو ذلك، وعن مقاتل تفسير الفتنة
بالشدة والقحط، والأولى حملها على العموم، وعلى التقديرين ليس
المراد منها معناها المعروف.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب «أن لا تكون» بالرفع على
أن «أن» هي المخففة من الثقيلة، وأصله أنه لا تكون فخفف «أن»
وحذف ضمير الشأن- وهو اسمها- وتعليق فعل الحسبان بها، وهي
للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لكمال قوته، و «أن» بما في حيزها
سادّ مسد مفعوليه، وقيل: إن «حسب» هنا بمعنى علم، و «أن» لا
تخفف إلا بعد ما يفيد اليقين، وقيل: إن المفعول الثاني محذوف
أي وحسبوا عدم الفتنة كائنا، ونقل ذلك عن الأخفش، وتَكُونَ على
كل تقدير تامة، وقوله تعالى: فَعَمُوا عطف على حَسِبُوا والفاء
للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها أي أمنوا بأس الله
تعالى فتمادوا في فنون الغي والفساد. وعموا عن الدين بعد ما
هداهم الرسل إلى معالمه وبينوا لهم مناهجه وَصَمُّوا عن استماع
الحق الذي ألقوه إليهم، وهذا إشارة إلى المرة الأولى من مرتي
إفساد بني إسرائيل حين خالفوا أحكام التوراة وركبوا المحارم
وقتلوا شعيا، وقيل: حبسوا أرميا عليهما السلام ثُمَّ تابَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ حين تابوا ورجعوا عما كانوا عليه من الفساد
بعد ما كانوا ببابل دهرا طويلا تحت قهر بختنصر أسارى في غاية
الذل والمهانة، فوجه الله عز وجل ملكا عظيما من ملوك فارس إلى
بيت المقدس فعمره ورد من بقي من بني إسرائيل في أسر بختنصر إلى
وطنهم وتراجع من تفرق منهم في الأكناف فاستقروا وكثروا وكانوا
كأحسن ما كانوا عليه، وقيل:
لما ورث بهمن بن أسفنديار الملك من جده كاسف ألقى الله تعالى
في قلبه شفقة عليهم فردهم إلى الشام، وملك
(3/370)
عليهم دانيال عليه السلام فاستولوا على من
كان فيها من أتباع بختنصر فقامت فيه الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال، وذلك قوله
تعالى: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ [الإسراء:
6] ولم يسند سبحانه التوبة إليهم كسائر أحوالهم من الحسبان
والعمى والصمم تجافيا عن التصريح بنسبة الخير إليهم، وإنما
أشير إليها في ضمن بيان توبة الله تعالى عليهم تمهيدا لبيان
نقضهم إياها بقوله سبحانه: ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا وهو إشارة
إلى المرة الآخرة من مرتي إفسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا
ويحيى، وقصدهم قتل عيسى عليهم السلام، وجعل الزمخشري العمى
والصمم أولا إشارة إلى ما صدر منهم من عبادة العجل، وثانيا
إشارة إلى ما وقع منهم من طلبهم الرؤية، وفيه أن عبادة العجل
وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم لكنها في عصر
موسى عليه السلام، ولا تعلق لها بما حكي عنهم بما فعلوا بالرسل
الذين جاؤوهم بعده عليه السلام بأعصار، وكذا القول- على زعمه-
في طلب الرؤية على أن طلب الرؤية كان من القوم الذين مع موسى
عليه السلام حين توجه للمناجاة، وعبادة العجل كانت من القوم
المتخلفين فلا يتحقق تأخره عنها وحمل ثُمَّ للتراخي الرتبي دون
الزماني مما لا ضرورة إليه، وقيل: إن العمى والصمم أولا إشارة
إلى ما كان في زمن زكريا ويحيى عليهما السلام، وثانيا إشارة
إلى ما كان في زمن نبينا صلّى الله عليه وسلّم من الكفر
والعصيان، وبدأ بالعمى لأنه أول ما يعرض للمعرض عن الشرائع فلا
يبصر من أتى بها من عند الله تعالى ولا يلتفت إلى معجزاته، ثم
لو أبصره لم يسمع كلامه فيكون عروض الصمم بعد عروض العمى،
وقرىء عَمُوا وَصَمُّوا بالضم على تقدير عماهم الله تعالى
وصمهم أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم، كما يقال: نزكته إذا
ضربته بالنيزك، وركبته إذا ضربته بركبتك، وقوله تعالى: كَثِيرٌ
مِنْهُمْ بدل من الضمير في الفعلين، وقيل: هو فاعل والواو
علامة الجمع لا ضمير، وهذه لغة لبعض العرب يعبر عنها النحاة-
بأكلوني البراغيث- أو هو خبر مبتدأ محذوف أي العمى والصم كثير
منهم.
وقيل: أي العمى والصمم كثير منهم أي صادر ذلك منهم كثيرا وهو
خلاف الظاهر، وجوز أن يكون مبتدأ والجملة قبله خبره، وضعف بأن
الخبر الفعلي لا يتقدم على المبتدأ لالتباسه بالفاعل، ورد بأن
منع التقديم مشروط بكون الفاعل ضميرا مستترا إذ لا التباس فيما
إذا كان بارزا، والتباسه بالفاعل في لغة- أكلوني البراغيث- لم
يعتبروه مانعا لأن تلك اللغة ضعيفة لا يلتفت إليها، ومن هنا
صرح النحاة بجواز التقديم في مثل الزيدان قاما لكن صرحوا بعدم
جواز تقديم الخبر فيما يصلح المبتدأ أن يكون تأكيدا للفاعل،
نحو- أنا قمت- فإن أنا لو أخر لالتبس بتأكيد الفاعل، وما نحن
فيه مثله إلا أن الالتباس فيه بتابع آخر أعني البدل فتدبر،
وإنما قال سبحانه: كَثِيرٌ مِنْهُمْ لأن بعضا منهم لم يكونوا
كذلك وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي بما عملوا، وصيغة
المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورتها الفظيعة مع ما
في ذلك من رعاية الفواصل، والجملة تذييل أشير به إلى بطلان
حسبانهم المذكور ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا إشارة إجمالية
اكتفي بها تعويلا على ما فصل نوع تفصيل في سورة بني إسرائيل،
ولا يخفى موقع بَصِيرٌ هنا مع قوله سبحانه: عَمُوا. لَقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ شروع في تفصيل قبائح النصارى، وإبطال أقوالهم الفاسدة
بعد تفصيل قبائح اليهود، وقائل ذلك: طائفة منهم كما روي عن
مجاهد، وقد أشبعنا الكلام على تفصيل أقوالهم وطوائفهم فيما
تقدم فتذكر وَقالَ الْمَسِيحُ حال من فاعل قالُوا بتقدير قد
مفيدة لمزيد تقبيح حالهم ببيان تكذيبهم للمسيح وعدم انزجارهم
عما أصروا عليه بما أوعدهم به، أي قالوا ذلك، «و- قد- قال
المسيح» عليه السلام مخاطبا لهم يا بَنِي إِسْرائِيلَ
اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ فإني مربوب مثلكم
فاعبدوا خالقي وخالقكم إِنَّهُ أي الشأن مَنْ يُشْرِكْ
بِاللَّهِ أي شيئا في عبادته سبحانه، أو فيما
(3/371)
يختص به من الصفات والأفعال- كنسبة علم
الغيب وإحياء الموتى بالذات- إلى عيسى عليه السلام فَقَدْ
حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ لأنها دار الموحدين،
والمراد يمنع من دخولها كما يمنع المحرم عليه من المحرم،
فالتحريم مجاز مرسل، أو استعارة تبعية للمنع إذ لا تكليف ثمة،
وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتهويل الآمر وتربية
المهابة وَمَأْواهُ النَّارُ فإنها المعدة للمشركين، وهذا بيان
لابتلائهم بالعقاب إثر بيان حرمانهم الثواب، ولا يخفى ما في
هذه الجملة من الإشارة إلى قوة المقتضي لإدخاله النار وَما
لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أي ما لهم من أحد ينصرهم
بإنقاذهم من النار: وإدخالهم الجنة، إما بطريق المغالبة أو
بطريق الشفاعة، والجمع لمراعاة المقابلة بالظالمين.
وقيل: ليعلم نفي الناصر من باب أولى لأنه إذا لم ينصرهم الجم
الغفير، فكيف ينصرهم الواحد منهم؟!.
وقيل: إن ذلك جار على زعمهم أن لهم أنصارا كثيرة، فنفي ذلك
تهكما بهم، واللام إما للعهد والجمع باعتبار معنى من كما أن
إفراد الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها، وإما للجنس وهم يدخلون
فيه دخولا أوليا، ووضعه على الأول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم
بأنهم ظلموا بالإشراك، وعدلوا عن طريق الحق، والجملة تذييل
مقرر لما قبله، وهو إما من تمام كلام عيسى عليه السلام، وإما
وارد من جهته تعالى تأكيدا لمقالته عليه السلام وتقريرا
لمضمونها لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ
ثَلاثَةٍ شروع في بيان كفر طائفة أخرى منهم، وقد تقدم لك من
هم، وثالِثُ ثَلاثَةٍ لا يكون إلا مضافا كما قال الفراء، وكذا-
رابع أربعة- ونحوه، ومعنى ذلك أحد تلك الأعداد لا الثالث
والرابع خاصة، ولو قلت: ثالث اثنين ورابع ثلاثة مثلا جاز
الأمران: الإضافة والنصب.
وقد نص على ذلك الزجاج أيضا، وعنوا بالثلاثة- على ما روي عن
السدي- الباري عز اسمه، وعيسى وأمه عليهما السلام فكل من
الثلاثة إله بزعمهم، والإلهية مشتركة بينهم، ويؤكده قوله تعالى
للمسيح عليه السلام: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي
وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: 116] ، وهو
المتبادر من ظاهر قوله تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ
واحِدٌ أي والحال أنه ليس في الموجودات ذات واجب مستحق
للعبادة- لأنه مبدأ جميع الموجودات- إِلَّا إِلهٌ موصوف
بالوحدة متعال عن قبول الشركة بوجه، إذ التعدد يستلزم انتفاء
الألوهية- كما يدل عليه برهان التمانع- فإذا نافت الألوهية
مطلق التعدد، فما ظنك بالتثليث؟ ومِنْ مزيدة للاستغراق كما نص
على ذلك النحاة، وقالوا في وجهه: لأنها في الأصل مِنْ
الابتدائية حذف مقابلها إشارة إلى عدم التناهي، فأصل لا رجل:
لا مِنْ رجل إلى ما لا نهاية له.
وهذا حاصل ما ذكره صاحب الإقليد في ذلك، وقيل: إنهم يقولون،
الله سبحانه جوهر واحد، ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وأقنوم الابن،
وأقنوم روح القدس، ويعنون بالأول الذات، وقيل: الوجود وبالثاني
العلم، وبالثالث الحياة، وإن منهم من قال بتجسمها، فمعنى قوله
تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ لا إله بالذات
منزه عن شائبة التعدد بوجه من الوجوه التي يزعمونها، وقد مرّ
تحقيق هذا المقام بما لا مزيد عليه، فارجع إن أردت ذلك إليه
وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ أي إن لم يرجعوا عما
هم عليه إلى خلافه، وهو التوحيد والإيمان لَيَمَسَّنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ جواب قسم محذوف
سادّ مسد جواب الشرط- على ما قاله أبو البقاء- والمراد من
الذين كفروا إما الثابتون على الكفر- كما اختاره الجبائي
والزجاج- وإما النصارى كما قيل، ووضع الموصول موضع ضميرهم
لتكرير الشهادة عليهم بالكفر، و «من» على هذا بيانية، وعلى
الأول تبعيضية، وإنما جيء بالفعل المنبئ عن الحدوث تنبيها على
أن الاستمرار عليه- بعد ورود ما ورد مما يقتضى القلع عنه- كفر
جديد وغلو زائد على ما كانوا عليه من أصل الكفر، والاستفهام في
قوله تعالى: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ
وَيَسْتَغْفِرُونَهُ للإنكار، وفيه تعجيب من إصرارهم أو عدم
مبادرتهم
(3/372)
إلى التوبة، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه
المقام أي ألا ينتهون عن تلك العقائد الزائغة والأقوال الباطلة
فلا يتوبون إلى الله تعالى الحق ويستغفروه بتنزيهه تعالى عما
نسبوه إليه عز وجل، أو يسمعون هذه الشهادات المكررة والتشديدات
المقررة فلا يتوبون عقيب ذلك وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر
لهم ويمنحهم من فضله إن تابوا، والجملة في موضع الحال، وهي
مؤكدة للإنكار والتعجيب، والإظهار في موضع الإضمار لما مر غير
مرة.
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ استئناف مسوق
لتحقيق الحق الذي لا محيد عنه، وبيان حقيقة حاله عليه السلام
وحال أمه بالإشارة أولا إلى ما امتازوا به من نعوت الكمال حتى
صارا من أكمل أفراد الجنس، وآخرا إلى الوصف المشترك بينهما
وبين أفراد البشر، بل أفراد الحيوانات، وفي ذلك استنزال لهم
بطريق التدريج عن رتبة الإصرار، وإرشاد إلى التوبة والاستغفار
أي هو عليه السلام مقصور على الرسالة لا يكاد يتخطاها إلى ما
يزعم النصارى فيه عليه الصلاة والسلام، وهو قوله سبحانه: قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
صفة رسول منبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهية، فإن خلو الرسل
قبله منذر بخلوه، وذلك مقتض لاستحالة الألوهية أي ما هو إلا
رسول كالرسل الخالية قبله خصه الله تعالى ببعض الآيات كما خص
كلا منهم ببعض آخر منها، ولعل ما خص به غيره أعجب وأغرب مما
خصه به، فإنه عليه الصلاة والسلام إن أحيا من مات من الأجسام
التي من شأنها الحياة، فقد أحيا موسى عليه الصلاة والسلام
الجماد، وإن كان قد خلق من غير أب، فآدم عليه الصلاة والسلام
قد خلق من غير أب وأم، فمن أين لكم وصفه بالألوهية؟! وَأُمُّهُ
صِدِّيقَةٌ أي وما أمه أيضا إلا كسائر النساء اللواتي يلازمن
الصدق أو التصديق ويبالغن في الاتصاف به، فمن أين لكم وصفها
بما عرى عنه أمثالها؟! والمراد بالصدق هنا صدق حالها مع الله
تعالى، وقيل: صدقها في براءتها مما رمتها به اليهود، والمراد
بالتصديق تصديقها بما حكى الله تعالى عنها بقوله سبحانه:
وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ [التحريم: 12] .
وروي هذا عن الحسن، واختاره الجبائي، وقيل: تصديقها بالأنبياء،
والصيغة كيفما كانت للمبالغة- كشريب ورجح كونها من الصدق بأن
القياس في صيغ المبالغة الأخذ من الثلاثي لكن ما حكي ربما يؤيد
أنها من المضاعف، والحصر الذي أشير إليه مستفاد من المقام
والعطف- كما قال العلامة الثاني- وتوقف في ذلك بعضهم، وليس في
محله، واستدل بالآية من ذهب إلى عدم نبوة مريم عليها السلام،
وذلك أنه تعالى شأنه إنما ذكر في معرض الإشارة إلى بيان أشرف
ما لها الصديقية، كما ذكر الرسالة لعيسى عليه الصلاة والسلام
في مثل ذلك المعرض، فلو كان لها عليها السلام مرتبة النبوة
لذكرها سبحانه دون الصديقية لأنها أعلى منها بلا شك، نعم
الأكثرون على أنه ليس بين النبوة والصديقية مقام، وهذا أمر آخر
لا ضرر له فيما نحن بصدده كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ استئناف
لا موضع له من الإعراب مبين لما أشير إليه من كونهما كسائر
أفراد البشر، بل أفراد الحيوان في الاحتياج إلى ما يقوم به
البدن من الغذاء، فالمراد من- أكل الطعام- حقيقته، وروي ذلك عن
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وقيل: هو كناية عن قضاء الحاجة لأن من أكل الطعام احتاج إلى
النفض، وهذا أمرّ ذوقا في أفواه مدعي ألوهيتهما لما في ذلك مع
الدلالة على الاحتياج المنافي للألوهية بشاعة عرفية، وليس
المقصود سوى الرد على النصارى في زعمهم المنتن واعتقادهم
الكريه، قيل: والآية في تقديم ما لهما من صفات الكمال، وتأخير
ما لأفراد جنسهما من نقائص البشرية على منوال قوله تعالى:
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] حيث
قدم سبحانه العفو على المعاتبة له صلّى الله عليه وسلّم لئلا
توحشه مفاجأته بذلك، وقوله تعالى:
انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ تعجيب من حال الذين
يدعون لهما الربوبية ولا يرعوون عن ذلك بعد ما بين
(3/373)
لهم حقيقة الحال بيانا لا يحوم حوله شائبة
ريب، والخطاب إما لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام، أو لكل
من له أهلية ذلك، وكَيْفَ معمول- لنبين- والجملة في موضع النصب
معلقة للفعل قبلها، والمراد من الْآياتِ الدلائل أي- انظر كيف
نبين لهم الدلائل- القطعية الصادعة ببطلان ما يقولون.
ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن الإصاخة
إليها والتأمل فيها لسوء استعدادهم وخباثة نفوسهم، والكلام فيه
كما مر فيما قبله، وتكرير الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب،
وثُمَّ لإظهار ما بين العجبين من التفاوت، أي إن بياننا للآيات
أمر بديع في بابه بالغ لأقصى الغايات من التحقيق والإيضاح،
وإعراضهم عنها- مع انتفاء ما يصححه بالمرة وتعاضد ما يوجب
قبولها- أعجب وأبدع، ويجوز أن تكون على حقيقتها، والمراد منها
بيان استمرار زمان بيان الآيات وامتداده، أي إنهم مع طول زمان
ذلك لا يتأثرون، ويُؤْفَكُونَ.
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ
ضَرًّا وَلا نَفْعاً أمر بتبكيتهم إثر التعجيب من أحوالهم،
والمراد بما لا يملك عيسى، أو هو وأمه عليهما الصلاة والسلام،
والمعنى أتعبدون شيئا لا يستطيع مثل ما يستطيعه الله تعالى من
البلايا والمصائب والصحة والسعة، أو أتعبدون شيئا لا استطاعة
له أصلا، فإن كل ما يستطيعه البشر بإيجاد الله تعالى وإقداره
عليه لا بالذات، وإنما قال سبحانه: مَا نظرا إلى ما عليه
المحدث عنه في ذاته، وأول أمره وأطواره توطئة لنفي القدرة عنه
رأسا، وتنبيها على أنه من هذا الجنس، ومن كان بينه وبين غيره
مشاركة وجنسية كيف يكون إلها، وقيل: إن المراد بما كل ما عبد
من دون الله تعالى- كالأصنام وغيرها- فغلب ما لا يعقل على من
يعقل تحقيرا، وقيل: أريد بها النوع كما في قوله تعالى:
فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3] .
وقيل: يمكن أن يكون المراد الترقي من توبيخ النصارى على عبادة
عيسى عليه الصلاة والسلام إلى توبيخهم على عبادة الصليب- فما-
على بابها، ولا يخفى بعده وتقديم الضر على النفع لأن التحرز
عنه أهم من تحري النفع ولأن أدنى درجات التأثير دفع الشر ثم
جلب الخير، وتقديم المفعول الغير الصريح على المفعول الصريح
لما مرّ مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، وقوله
سبحانه وتعالى:
وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ في موضع الحال من فاعل
أَتَعْبُدُونَ مقرر للتوبيخ متضمن للوعيد، والواو هو الواو، أي
أتعبدون غير الله تعالى وتشركون به سبحانه ما لا يقدر على شيء
ولا تخشونه، والحال أنه سبحانه وتعالى المختص بالإحاطة التامة
بجميع المسموعات والمعلومات التي من جملتها ما أنتم عليه من
الأقوال الباطلة والعقائد الزائغة، وقد يقال: المعنى
أَتَعْبُدُونَ العاجز وَاللَّهُ هُوَ الذي يصح أن يسمع كل
مسموع ويعلم كل معلوم، ولن يكون كذلك إلا وهو حي قادر على كل
شيء، ومنه الضر والنفع والمجازاة على الأقوال والعقائد إن خيرا
فخير وإن شرا فشر، وفرق بين الوجهين بأن ما على هذا الوجه
للتحقير، والوصفية على هذا الوجه على معنى أن العدول إلى
المبهم استحقار إلا أن ما للوصف والحال مقررة لذلك، وعلى الأول
للتحقير المجرد، والحال كما علمت فافهم قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ تلوين للخطاب وتوجيه له لفريقي أهل الكتاب بإرادة
الجنس من المحلى بأل على لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم.
واختار الطبرسي كونه خطابا للنصارى خاصة لأن الكلام معهم لا
تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ أي لا تجاوزوا الحدّ، وهو نهي للنصارى
عن رفع عيسى عليه الصلاة والسلام عن رتبة الرسالة إلى ما
تقولوا في حقه من العظيمة، وكذا عن رفع أمه عن رتبة الصديقية
إلى ما انتحلوه لها عليها السلام، ونهي لليهود على تقدير
دخولهم في الخطاب عن وضعهم له عليه السلام، وكذا لأمه عن
الرتبة العلية إلى ما افتروه من الباطل والكلام الشنيع، وذكرهم
بعنوان أهل الكتاب
(3/374)
للإيماء إلى أن في كتابهم ما ينهاهم عن
الغلو في دينهم غَيْرَ الْحَقِّ نصب على أنه صفة مصدر محذوف أي
غلو غير الحق- أي باطلا- وتوصيفه به للتوكيد فإن الغلو لا يكون
إلا غير الحق على ما قاله الراغب، وقال بعض المحققين: إنه
للتقييد، وما ذكره الراغب غير مسلم، فإن الغلو قد يكون غير حق،
وقد يكون حقا كالتعمق في المباحث الكلامية.
وفي الكشاف الغلو في الدين غلوان: حق- وهو أن يفحص عن حقائقه
ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعله
المتكلمون من أهل العدل والتوحيد- وغلو باطل- وهو أن يجاوز
الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه كما يفعله أهل
الأهواء والبدع- انتهى، وقد يناقش فيه على ما فيه من الغلو في
التمثيل بأن الغلو المجاوزة عن الحد، ولا مجاوزة عنه ما لم
يخرج عن الدين، وما ذكر ليس خروجا عنه حتى يكون غلوا، وجوز أن
يكون غَيْرَ حالا من ضمير الفاعل أي لا تَغْلُوا مجاوزين الحق،
أو من دينكم أي لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ حال كونه باطلا
منسوخا ببعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: هو نصب على
الاستثناء المتصل أو المنقطع وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ
قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وهم أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا
من الفريقين أو من النصارى قبل مبعث النبي صلّى الله عليه
وسلّم في شريعتهم،- والأهواء- جمع هوى وهو الباطل الموافق
للنفس، والمراد لا توافقوهم في مذاهبهم الباطلة التي لم يدع
إليها سوى الشهوة ولم تقم عليها حجة وَأَضَلُّوا كَثِيراً أي
أناسا كثيرا ممن تابعهم ووافقهم فيما دعوا إليه من البدعة
والضلالة، أو إضلالا كثيرا، والمفعول به حينئذ محذوف وَضَلُّوا
عند بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم ووضوح محجة الحق وتبين
مناهج الإسلام عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ أي قصد السبيل الذي هو
الإسلام، وذلك حين حسدوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكذبوا
وبغوا عليه، فلا تكرار بين ضَلُّوا هنا وضَلُّوا مِنْ قَبْلُ،
والظاهر أن عَنْ متعلقة بالأخير، وجوز أن تكون متعلقة بالأفعال
الثلاثة، ويراد- بسواء السبيل- الطريق الحق، وهو بالنظر إلى
الأخير دين الإسلام، وقيل: في الإخراج عن التكرار أن الأول
إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل، والثاني إلى ضلالهم عما جاء
به الشرع، وقيل: إن ضمير ضَلُّوا الأخير عائد على- الكثير- لا
على قَوْمٍ والفعل مطاوع للإضلال، أي- إن أولئك القوم أضلوا
كثيرا من الناس، وأن أولئك الكثير قد ضلوا بإضلال أولئك لهم-
فلا تكرار، وقيل: أيضا قد يراد- بالضلال- الأول الضلال بالغلو
في الرفع والوضع مثلا وكذا بالإضلال، ويراد- بالضلال عن سواء
السبيل- الضلال عن واضحات دينهم وخروجهم عنه بالكلية، وقال
الزجاج: المراد بالضلال الأخير ضلالهم في الإضلال أي- إن هؤلاء
ضلوا في أنفسهم وضلوا بإضلالهم لغيرهم- كقوله تعالى:
لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ
أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل:
25] ، ونقل هذا- كالقيل الأول- عن الراغب، وجوز أيضا أن يكون
قوله سبحانه وتعالى: عَنْ سَواءِ متعلقا ب قَدْ ضَلُّوا مِنْ
قَبْلُ إلا أنه لما فصل بينه وبين ما يتعلق به أعيد ذكره،
كقوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما
أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا
فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ [آل عمران:
188] ولعل ذم القوم على ما ذهب إليه الجمهور أشنع من ذمهم على
ما ذهب إليه غيرهم، والله تعالى أعلم بمراده لُعِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي لعنهم الله تعالى، وبناء
الفعل لما لم يسم فاعله للجري على سنن الكبرياء، والجار متعلق
بمحذوف وقع حالا من الموصول أو من فاعل كَفَرُوا، وقوله سبحانه
وتعالى: عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ متعلق-
بلعن- أي لعنهم جل وعلا في الإنجيل والزبور على لسان هذين
النبيين عليهما السلام بأن أنزل سبحانه وتعالى فيهما- ملعون من
يكفر من بني إسرائيل بالله تعالى أو أحد من رسله عليهم السلام،
وعن الزجاج أن المراد أن داود وعيسى عليهما الصلاة والسلام
أعلما بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وبشرا به وأمرا باتباعه
ولعنا من كفر به من بني
(3/375)
إسرائيل، والأول أولى، وهو المروي عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل:
إن أهل إيلة لما اعتدوا في السبت قال داود عليه الصلاة
والسلام: اللهم ألبسهم اللعن مثل الرداء ومثل المنطقة على
الحقوين، فمسخهم الله تعالى قردة، وأصحاب المائدة لما كفروا
قال عيسى عليه الصلاة والسلام: اللهم عذب من كفر بعد ما أكل من
المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين والعنهم كما لعنت
أصحاب السبت، فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم
امرأة ولا صبي، وروي هذا القول عن الحسن ومجاهد وقتادة، وروي
مثله عن الباقر رضي الله تعالى عنه،
واختاره غير واحد، والمراد باللسان الجارحة، وإفراده أحد
الاستعمالات الثلاث المشهورة في مثل ذلك، وقيل: المراد به
اللغة ذلِكَ أي اللعن المذكور، وإيثار الإشارة على الضمير
للإشارة إلى كمال ظهوره وامتيازه عن نظائره وانتظامه بسببه في
سلك الأمور المشاهدة، وما في ذلك من البعد للإيذان بكمال
فظاعته وبعد درجته في الشناعة والهول بِما عَصَوْا أي بسبب
عصيانهم، والجار متعلق بمحذوف وقع خبرا عن المبتدأ قبله،
والجملة استئناف واقع موقع الجواب عما نشأ من الكلام، كأنه
قيل: بأي سبب وقع ذلك؟ فقيل: ذلك اللعن الهائل الفظيع بسبب
عصيانهم، وقوله تعالى: وَكانُوا يَعْتَدُونَ يحتمل أن يكون
معطوفا على عَصَوْا فيكون داخلا في حيز السبب، أي وبسبب
اعتدائهم المستمر، وينبئ عن إرادة الاستمرار الجمع بين صيغتي
الماضي والمستقبل.
وادعى الزمخشري إفادة الكلام حصر السبب فيما ذكر، أي بسبب ذلك
لا غير، ولعله- كما قيل- استفيد من العدول عن الظاهر، وهو تعلق
بِما عَصَوْا بلعن دون ذكر اسم الإشارة، فلما جيء به استحقارا
لذلك اللعن وجوابا عن سؤال الموجب دل على أن مجموعه بهذا السبب
لا بسبب آخر، وقيل: استفيد من السببية لأن المتبادر منها ما في
ضمن السبب التام وهو يفيد ذلك، ولا يرد على الحصر أن كفرهم سبب
أيضا- كما يشعر به أخذه في حيز الصلة- لأن ما ذكر في حيز
السببية هنا مشتمل على كفرهم أيضا، ويحتمل أن يكون استئناف
إخبار من الله تعالى بأنه كان شأنهم وأمرهم الاعتداء، وتجاوز
الحد في العصيان، وقوله تعالى: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ
مُنكَرٍ فَعَلُوهُ مؤذن باستمرار الاعتداء فإنه استئناف مفيد
لاستمرار عدم التناهي عن المنكر، ولا يمكن استمراره إلا
باستمرار تعاطي المنكرات، وليس المراد بالتناهي أن ينهى كل
منهم الآخر عما يفعله من المنكر- كما هو المعنى المشهور لصيغة
التفاعل- بل مجرد صدور النهي عن أشخاص متعددة من غير أن يكون
كل واحد منهم ناهيا ومنهيا معا، كما في تراؤوا الهلال، وقيل:
التناهي بمعنى الانتهاء من قولهم: تناهى عن الأمر وانتهى عنه
إذا امتنع، فالجملة حينئذ مفسرة لما قبلها من المعصية
والاعتداء، ومفيدة لاستمرارهما صريحا، وعلى الأول إنما تفيد
استمرار انتفاء النهي عن المنكر ومن ضرورته استمرار فعله، وعلى
التقديرين لا تقوى هذه الجملة احتمال الاستئناف فيما سبق خلافا
لأبي حيان.
والمراد بالمنكر قيل: صيد السمك يوم السبت، وقيل: أخذ الرشوة
في الحكم، وقيل: أكل الربا وأثمان الشحوم، والأولى أن يراد به
نوع المنكر مطلقا، وما يفيده التنوين وحدة نوعية لا شخصية،
وحينئذ لا يقدح وصفه بالفعل الماضي في تعلق النهي به لما أن
متعلق الفعل إنما هو فرد من أفراد ما يتعلق به النهي، أو
الانتهاء عن مطلق المنكر باعتبار تحققه في ضمن أي فرد كان من
أفراده على أنه لو جعل المضي في فَعَلُوهُ بالنسبة إلى زمن
الخطاب لا زمان النهي لم يبق في الآية إشكال، ولما غفل بعضهم
عن ذلك قال: إن الآية مشكلة لما فيها من ذم القوم بعدم النهي
عما وقع مع أن النهي لا يتصور فيه أصلا، وإنما يكون عن الشيء
قبل وقوعه، فلا بد من تأويلها بأن المراد النهي عن العود إليه،
وهذا إما بتقدير مضاف قبل مُنكَرٍ أي معاودة منكر، أو بفهم من
السياق، أو بأن المراد فعلوا مثله، أو بحمل فَعَلُوهُ على
أرادوا فعله، كما في قوله سبحانه: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ
فَاسْتَعِذْ [النحل: 98] .
(3/376)
واعترض الأول بأن المعاودة كالنهي لا تتعلق
بالمنكر المفعول، فلا بد من المصير إلى أحد الأمرين الأخيرين،
وفيهما من التعسف ما لا يخفى، وقيل: إن الإشكال إنما يتوجه لو
لم يكن الكلام على حد قولنا: كانوا لا ينهون يوم الخميس عن
منكر فعلوه يوم الجمعة مثلا، فإنه لا خفاء في صحته، وليس في
الكلام ما يأباه، فليحمل على نحو ذلك، وقوله سبحانه: لَبِئْسَ
ما كانُوا يَفْعَلُونَ تقبيح لسوء فعلهم وتعجيب منه، والقسم
لتأكيد التعجيب، أو للفعل المتعجب منه، وفي هذه الآية زجر شديد
لمن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أخرج أحمد
والترمذي وحسنه عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلّى الله عليه
وسلّم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن
المنكر، أو ليوشكن الله تعالى أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم
لتدعنه فلا يستجيب لكم» ،
وأخرج أحمد عن عدي بن عميرة، قال: سمعت رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم يقول: «إن الله تعالى لا يعذب العامة بعمل الخاصة
حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا
ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله تعالى الخاصة والعامة» ،
وأخرج الخطيب من طريق أبي سلمة عن أبيه عن النبي صلّى الله
عليه وسلّم أنه قال: «والذي نفس محمد صلّى الله عليه وسلّم
بيده ليخرجن من أمتي أناس من قبورهم في صورة القردة والخنازير
بما داهنوا أهل المعاصي وكفوا عن نهيهم وهم يستطيعون»
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وفيها ترهيب عظيم، فيا حسرة على
المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير وقلة عبئهم به
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا خطاب
للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من تصح منه الرؤية، وهي هنا
بصرية، والجملة الفعلية بعدها في موضع الحال من مفعولها لكونه
موصوفا، وضمير مِنْهُمْ لأهل الكتاب أو لبني إسرائيل، واستظهره
في البحر، والمراد من الكثير- كعب بن الأشرف وأصحابه- ومن
الَّذِينَ كَفَرُوا مشركو مكة وقد روي أن جماعة من اليهود
خرجوا إلى مكة ليتفقوا مع مشركيها على محاربة النبي صلّى الله
عليه وسلّم والمؤمنين فلم يتم لهم ذلك.
وروي عن الباقر رضي الله تعالى عنه أن المراد من الَّذِينَ
كَفَرُوا الملوك الجبارون
أي ترى كثيرا منهم- وهم علماؤهم- يوالون الجبارين ويزينون لهم
أهواءهم ليصيبوا من دنياهم، وهذا في غاية البعد، ولعل نسبته
إلى الباقر رضي الله تعالى عنه غير صحيحة، وروي عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما، والحسن ومجاهد أن المراد من- الكثير-
منافقو اليهود، ومن الَّذِينَ كَفَرُوا مجاهروهم، وقيل:
المشركون لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي لبئس
شيئا فعلوه في الدنيا ليردوا على جزائه في العقبى أَنْ سَخِطَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ هو المخصوص بالذم على حذف المضاف، وإقامة
المضاف إليه مقامه تنبيها على كمال التعلق والارتباط بينهما
كأنهما شيء واحد، ومبالغة في الذم أي بئس ما قدموا لمعادهم
موجب سخط الله تعالى عليهم، وإنما اعتبروا المضاف لأن نفس سخط
الله تعالى شأنه باعتبار إضافته إليه سبحانه ليس مذموما بل
المذموم ما أوجبه من الأسباب على أن نفس السخط مما لم يعمل في
الدنيا ليرى جزاؤه في العقبى كما لا يخفى، وفي إعراب المخصوص
بالذم، أو المدح أقوال شهيرة للمعربين، واختار أبو البقاء كون
المخصوص هنا خبر مبتدأ محذوف تنبئ عنه الجملة المتقدمة، كأنه
قيل: ما هو، أو أي شيء هو؟
فقيل هو أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ونقل عن سيبويه أنّ
أَنْ سَخِطَ اللَّهُ مرفوع على البدل من المخصوص بالذم، وهو
محذوف، وجملة قَدَّمَتْ صفته، وما اسم تام معرفة في محل رفع
بالفاعلية لفعل الذم، والتقدير لبئس الشيء شيء قدمته لهم
أنفسهم سخط الله تعالى، وقيل: إنه في محل رفع بدل من ما إن
قلنا: إنها معرفة فاعل لفعل الذم، أو في محل نصب منها إن كانت
تمييزا، واعترض بأن فيه إبدال المعرفة من النكرة، وقيل: إنه
على تقدير الجار، والمخصوص محذوف أي لبئس شيئا ذلك لأن سخط
الله تعالى عليهم وَفِي الْعَذابِ أي عذاب جهنم هُمْ خالِدُونَ
أبد الآبدين، والجملة في موضع الحال وهي متسببة عما قبلها،
وليست داخلة في حيز الحرف
(3/377)
المصدري إعرابا كما توهمه عبارة البعض،
وتعسف لها عصام الملة بجعل- أن- مخففة عاملة في ضمير الشأن
بتقدير أنه سخط الله تعالى عليهم وَفِي الْعَذابِ هُمْ
خالِدُونَ، وجوز أيضا أن تكون هذه الجملة معطوفة على ثاني
مفعولي تَرى بجعلها علمية أي تعلم كثيرا منهم يَتَوَلَّوْنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا ويخلدون في النار، وكل ذلك مما لا حاجة
إليه، وَلَوْ كانُوا أي الذين يتولون المشركين يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ أي نبيهم موسى عليه السلام وَما
أُنْزِلَ إِلَيْهِ من التوراة، وقيل: المراد- بالنبي- نبينا
محمد صلّى الله عليه وسلّم وبما أُنْزِلَ القرآن، أي لو كان
المنافقون يؤمنون بالله تعالى ونبينا محمد صلّى الله عليه
وسلّم إيمانا صحيحا مَا اتَّخَذُوهُمْ أي المشركين أو اليهود
المجاهرين أَوْلِياءَ، فإن الإيمان المذكور وازع عن توليهم
قطعا وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي خارجون عن
الدين، أو متمردون في النفاق مفرطون فيه.
(3/378)
|