روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)

بسم الله الرحمن الرحيم

(4/3)


لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا جملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها من قبائح اليهود، وأكدت بالقسم اعتناء ببيان تحقق مضمونها، والخطاب إما لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم وإما لكل أحد يصلح له إيذانا بأن حالهم مما لا تخفى على أحد من الناس. والوجدان متعد لاثنين أولهما أَشَدَّ وثانيهما اليهود وما عطف عليه كما قال أبو البقاء، واختار السمين العكس لأنهما في الأصل مبتدأ وخبر ومحط الفائدة هو الخبر ولا ضير في التقديم والتأخير إذا دل على الترتيب دليل وهو هنا واضح إذ المقصود بيان كون الطائفتين أشد الناس عداوة للمؤمنين لا كون أشدهم عداوة لهم الطائفتين المذكورتين فليفهم. وعَداوَةً تمييز، واللام الداخلة على الموصول متعلقة بها مقوية لعملها. ولا يضر كونها مؤنثة بالتاء لأنها مبنية عليه كرهبة عقابك، وجوز أبو البقاء والسمين تعلقها بمحذوف وقع صفة لها أي عداوة كائنة للذين آمنوا، والظاهر أن المراد من اليهود العموم لمن كان بحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم من يهود المدينة وغيرهم. ويؤيده ما
أخرجه أبو الشيخ. وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله» وفي لفظ «إلا حدث نفسه بقتله»
وقيل: المراد بهم يهود المدينة وفيه بعد.
وكما اختلف في عموم اليهود اختلف في عموم الذين أشركوا، والمراد من الناس كما قال أبو حيان الكفار أي لتجدن أشد الكفار عداوة هؤلاء ووصفهم سبحانه بذلك لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى وقربهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء عليهم السلام والاجتراء على تكذيبهم ومناصبتهم. وقد قيل: إن من مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان، وفي تقديم اليهود على المشركين إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة كما أن في تقديمهم عليهم في قوله تعالى كان، وفي تقديم اليهود على المشركين إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة كما أن في تقديمهم عليهم في قوله تعالى وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [البقرة: 96] إيذانا بتقدمهم عليهم في الحرص.
وقيل: التقديم لكون الكلام في تعديد قبائحهم، ولعل التعبير بالذين أشركوا دون المشركين مع أنه أخصر للمبالغة في الذم. وقيل: ليكون على نمط لِلَّذِينَ آمَنُوا والتعبير به دون المؤمنين لأنه أظهر في علية ما في حيز الصلة، وأعيد الموصول مع صلته في قوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا روما لزيادة التوضيح والبيان، والتعبير بقوله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى دون النصارى إشعارا بقرب مودتهم حيث يدعون أنهم أنصار الله تعالى وأوداء أهل الحق وإن لم يظهروا اعتقاد حقية الإسلام.
وقال ابن المنير: لم يقل سبحانه النصارى كما قال جل شأنه اليهود تعريضا بصلابة الأولين في الكفر والامتناع عن الانقياد لأن اليهود لما قيل لهم: ادخلوا الأرض المقدسة قالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة: 24] والنصارى لما قيل لهم من أنصاري إلى الله؟ قالوا: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [آل عمران: 52، الصف: 14] وكذلك أيضا ورد في أول السورة في قوله عز وجل وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة: 14] لكن ذكر هاهنا تنبيها على انقيادهم وأنهم لم يكافحوا الأمر بالرد مكافحة اليهود. وذكر هناك تنبيها على أنهم لم يثبتوا على الميثاق والله تعالى أعلم بأسرار كلامه والعدول كما قال شيخ الإسلام عن جعل ما فيه التفاوت بين الفريقين شيئا واحدا قد تفاوتا فيه بالشدة والضعف أو بالقرب والبعد بأن يقال آخرا: ولتجدن أضعفهم مودة إلخ، أو بأن يقال أولا: لتجدن أبعد الناس مودة للإيذان بكمال تباين ما بين الفريقين من التفاوت ببيان أن أحدهما في أقصى مراتب أحد النقيضين والآخر في أقرب مراتب النقيض الآخر والكام في مفعولي لَتَجِدَنَّ وتعلق اللام كالذي سبق، والمراد من النصارى على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه: وابن جبير، وعطاء، والسدي النجاشي، وأصحابه.

(4/4)


وعن مجاهد أنهم الذين جاؤوا مع جعفر رضي الله تعالى عنه مسلمين وهم سبعون رجلا اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وهم بحيرى الراهب، وأبرهة، وإدريس، وأشرف، وتمام، وقثم، ودريد، وأيمن، والظاهر العموم على طرز ما تقدم ذلِكَ أي كونهم أقرب مودة للذين آمنوا بِأَنَّ مِنْهُمْ أي بسبب أن منهم قِسِّيسِينَ وهم علماء النصارى وعبادهم ورؤساؤهم. والقسيس صيغة مبالغة من تقسس الشيء إذا تتبعه بالليل سموا به لمبالغتهم في تتبع العلم قاله الراغب، وقيل: القس مثلث الفاء تتبع الشيء وطلبه ومنه سمي عالم النصارى قسا بالفتح وقسيسا لتتبعه العلم. وقيل: قص الأثر وقسه بمعنى. وقال قطرب: القس والقسيس العالم بلغة الروم وقد تكلمت به العرب وأجروه مجرى سائر كلماتهم وقالوا في المصدر قسوسة (1) وقسيسة وفي الجمع قسوس وقسيسون وقساوسة كمهالبة، وكان الأصل قساسسة إلا أنه كثرت السينات فأبدلوا إحداهن واوا. وفي مجمع البيان نقلا عن بعضهم أن النصارى ضيعت الإنجيل وأدخلوا فيه ما ليس منه وبقي من علمائهم واحدا على الحق والاستقامة يقال له قسيسا فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس وَرُهْباناً جمع راهب كراكب وركبان وفارس وفرسان ومصدره الرهبة والرهبانية، وقيل: إنه يطلق على الواحد والجمع، وأنشد فيه قول من قال:
لو عاينت (2) رهبان دير في قلل ... لأقبل الرهبان يعدو ونزل
وجمع الرهبان واحدا كما في القاموس رهابين ورهابنة ورهبانون، والترهب التعبد في صومعة، وأصله من الرهبة المخافة، وأطلق الفيروزابادي. والجوهري التعبد ولم يقيداه بالصومعة،
وفي الحديث «لا رهبانية في الإسلام»
والمراد بها كما قال الراغب الغلو في تحمل التعبد في فرط الخوف. وفي النهاية هي من رهبنة النصارى وأصلها من الرهبة الخوف كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا وترك ملاذها والزهد فيها والعزلة عن أهلها وتعمد مشاقها حتى أن منهم من كان يخصي نفسه ويضع السلسلة في عنقه وغير ذلك من أنواع التعذيب فنفاها النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الإسلام ونهى المسلمين عنها، وهي منسوبة إلى الرهبنة بزيادة الألف والرهبنة فعلنة أو فعللة على تقدير أصالة النون وزيادتها، والتنكير في رُهْباناً لإفادة الكثرة ولا بد من اعتبارها في القسيسين أيضا إذ هي التي تدل على مودة جنس النصارى للمؤمنين فإن اتصاف أفراد كثيرة لجنس بخصلة مظنة لاتصاف الجنس بها وإلا فمن اليهود أيضا قوم مهتدون لكنهم لما لم يكونوا في الكثرة كالذين من النصارى لم يتعد حكمهم إلى جنس اليهود.
وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عطف على أن منهم أي وبأنهم لا يستكبرون عن اتباع الحق والانقياد له إذا فهموه أو أنهم يتواضعون ولا يتكبرون كاليهود، وهذه الخصلة على ما قيل شاملة لجميع أفراد الجنس فسببيتها لأقربيتهم مودة للمؤمنين واضحة. وفي الآية دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمودة أينما كان وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ عطف على لا يَسْتَكْبِرُونَ وإِذا في موضع نصب بتري، وجملة تَفِيضُ في موضع الحال والرؤية بصرية أي ذلك بسبب أنهم لا يستكبرون وأنهم إذا سمعوا القرآن رأيت أعينهم فائضة من الدمع، وجوز السمين وغيره الاستئناف، وأيّا ما كان فهو بيان لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ومسارعتهم إلى قبول الحق وعدم إبائهم إياه. والظاهر عود ضمير سَمِعُوا للذين قالوا إنا نصارى.
وقد تقدم أن الظاهر فيه العموم، وقيل: يتعين هنا إرادة البعض، وهو من جار من الحبشة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن كل
__________
(1) قوله وقسيسة كذا بخط مؤلفه تبعا للقاموس والذي في شرحه ان الصواب قسيسية كما نص عليه الليث.
(2) قوله لو عاينت كذا بخط مؤلفه والمعروف من كتب اللغة لو كلمت.

(4/5)


النصارى ليسوا كذلك، والفيض انصباب عن امتلاء، ووضع هنا موضع الامتلاء بإقامة المسبب مقام السبب أي تمتلىء من الدمع أو قصد المبالغة فجعلت أعينهم بأنفسها تفيض من أجل الدمع قاله في الكشاف. وأراد على ما في الكشف أن الدمع على الأول هو الماء المخصوص وعلى الثاني الحدث، وهو على الأول مبدأ مادي وعلى الثاني سببي. وفي الانتصاف أن هذه العبارة أبلغ العبارات وهي ثلاث مراتب فالأولى فاض دمع عينه وهذا هو الأصل والثانية محولة من هذه وهي فاضت عينه دمعا فإنه قد حول فيها الفعل إلى العين مجازا ومبالغة ثم نبه على الأصل والحقيقة بنصب ما كان فاعلا على التمييز، والثالثة ما في النظم الكريم وفيها التحويل المذكور إلا أنها أبلغ من الثانية باطراح التنبيه على الأصل وعدم نصب التمييز وإبرازه في صورة التعليل، وجوز الزمخشري أن تكون- من- هذه هي الداخلة على التمييز وهو مردود وإن كان الكوفيون ذهبوا إلى جواز تعريف التمييز وأنه لا يشترط تنكيره كما هو مذهب الجمهور لأن التمييز المنقول عن الفاعل يمتنع دخول من عليه وإن كانت مقدرة معه فلا يجوز تفقا زيد من شحم فليفهم مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ مِنَ الأولى لابتداء الغاية متعلقة بمحذوف وقع حالا من الدَّمْعِ أي حال كونه ناشئا من معرفة الحق. وجوز أن تكون تعليلية متعلقة بتفيض أي أن فيض دمعهم بسبب عرفانهم.
وجوز على تقدير كونها للابتداء أن تتعلق بذلك أيضا لكن لا يجوز على تقدير اتحاد متعلق مِنَ هذه ومن في مِنَ الدَّمْعِ القول باتحاد معناهما فإنه لا يتعلق حرفا جر بمعنى بعامل واحد، ومِنَ الثانية للتبعيض متعلقة بعرفوا على معنى أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف لو عرفوه كله وقرؤوا القرآن وأحاطوا بالسنة، أو لبيان ما بناء على أنها موصولة، ونص أبو البقاء على أنها متعلقة بمحذوف وقع حالا من العائد المحذوف ولم يذكر الاحتمال الأول. وقرىء «ترى أعينهم» على صيغة المبني للمفعول يَقُولُونَ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية حالهم عند سماع القرآن كأنه قيل: ماذا يقولون؟ فأجيب يقولون: رَبَّنا آمَنَّا بما أنزل أو بمن أنزل عليه أو بهما.
وقال أبو البقاء: إنه حال من الضمير في عَرَفُوا، وقال السمين: يجوز الأمران. وكونه حالا من الضمير المجرور في أَعْيُنَهُمْ لما أن المضاف جزؤه كما في قوله تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً [الحجر: 47] .
فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي اجعلنا عندك مع محمد صلّى الله عليه وسلّم وأمته الذين يشهدون يوم القيامة على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أو مع الذين يشهدون بحقية نبيك صلّى الله عليه وسلّم وكتابك كما نقل عن الجبائي وروي ما بمعناه عن الحسن وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ جعله جماعة ومنهم شيخ الإسلام كلاما مستأنفا تحقيقا لإيمانهم وتقريرا له بإنكار سبب انتفائه ونفيه بالكلية على أن لا نُؤْمِنُ حال من الضمير في لَنا والعامل ما فيه من معنى الاستقرار أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين والإنكار متوجه إلى السبب والمسبب جميعا كما في قوله تعالى: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي [يس: 22] ونظائره لا إلى السبب فقط مع تحقيق المسبب كما في قوله تعالى فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الانشقاق: 20] وأمثاله، وقيل: هو معطوف على الجملة الأولى مندرج معها في حيز القول أي يقولون ربنا آمنا إلخ. ويقولون ما لنا لا نؤمن إلخ، وقيل: هو عطف على جملة محذوفة والتقدير ما لكم لا تؤمنون بالله وما لنا لا نؤمن نحن بالله إلخ. وقال بعضهم: إنه جواب سائل قال: لم آمنتم؟ واختاره الزجاج.
واعترض بأن علماء العربية صرحوا بأن الجملة المستأنفة الواقعة جواب سؤال مقدر لا تقترن بالواو وذكر علماء المعاني أنه لا بد فيها من الفصل إذ الجواب لا يعطف على السؤال، وأجيب بأن الواو زائدة وقد نقل الأخفش أنها تزاد في الجمل المستأنفة، ولا يخفى أنه لا بد لذلك من ثبت، والحال المذكورة على ما نص عليه الشهاب لازمة لا يتم

(4/6)


المعنى بدونها قال: ولذا لا يصح اقترانها بالواو في مالنا وما بالنا لا نفعل كذا لأنها خبر في المعنى وهي المستفهم عنها.
وأنت تعلم أن الاستفهام في نحو هذا التركيب في الغالب غير حقيقي وإنّما هو للإنكار ويختلف المراد منه على ما أشرنا إليه، ومعنى الإيمان بالله تعالى الإيمان بوحدانيته سبحانه على الوجه الذي جاءت به الشريعة المحمدية فإن القوم لم يكونوا موحدين كذلك، وقيل: بكتابه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فإن الإيمان بهما إيمان به سبحانه والظاهر هو الأول، والإيمان بالكتاب والرسول صلّى الله عليه وسلّم يفهمه العطف فإن الموصول المعطوف على الاسم الجليل يشمل ذلك قطعا. ومِنَ الْحَقِّ على ما ذكره أبو البقاء حال من ضمير الفاعل، وجوز أن تكون من لا بتاء الغاية أي وبما جاءنا من عند الله وأن يكون الموصول مبتدأ ومِنَ الْحَقِّ خبره والجملة في موضع الحال أيضا، ولا يخفى ما في الوجهين من البعد، وقوله تعالى: وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ حال أخرى عند الجماعة من الضمير المتقدم بتقدير مبتدأ لأن المضارع المثبت لا يقترن بالواو والعامل فيها هو العامل في الأولى مقيد بها فيتعدد معنى كما قيل نحو ذلك في قوله تعالى: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ [البقرة: 25] أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين ونحن نطمع في صحبة الصالحين. وهي حال مترادفة ولزوم الأولى لا يخرجها عن الترادف أو حال من الضمير في لا نُؤْمِنُ على معنى أنهم أنكروا على أنفسهم عدم إيمانهم مع أنهم يطمعون في صحبة المؤمنين، وجوز فيه أن يكون معطوفا على نؤمن أو على لا نُؤْمِنُ على معنى وما لنا نجمع بين ترك الإيمان والطمع في صحبة الصالحين أو على معنى ما لنا لا نجمع بين الإيمان والطمع المذكور بالدخول في الإسلام لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في تلك الصحبة، وموضع المنسبك من أن وما بعدها إما نصب أو جر على الخلاف بين الخليل وسيبويه، والمراد في أن يدخلنا، واختار غير واحد من المعربين أن- نا- مفعول أول ليدخل والمفعول الثاني محذوف أي الجنة، قيل: ولولا إرادة ذلك لقال سبحانه في القوم بدل مع القوم فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا أي بسبب قولهم أو بالذي قالوه عن اعتقاد فإن القول إذا لم يقيد بالخلو عن الاعتقاد يكون المراد به المقارن له كما إذا قيل هذا قول فلان لأن القول إنما يصدر عن صاحبه لإفادة الاعتقاد.
وقيل: إن القول هنا مجاز عن الرأي والاعتقاد والمذهب كما يقال: هذا قول الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه مثلا أي هذا مذهبه واعتقاده. وذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد بهذا القول قولهم: «وما لنا لا نؤمن» إلخ.
واستظهر أبو حيان أنه عنى به قولهم: «ربنا آمنا» وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه. وعطاء أن المراد به «فاكتبنا مع الشاهدين» وقولهم «ونطمع أن يدخلنا ربنا» إلخ، قال الطبرسي: فالقول على هذا بمعنى المسألة وفيه نظر، والإثابة المجازاة، وفي البحر أنها أبلغ من الإعطاء لأنها ما تكون عن عمل بخلاف الإعطاء فإنه لا يلزم فيه ذلك. وقرأ الحسن «فآتاهم الله» جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبد الآبدين وهو حال مقدرة وَذلِكَ المذكور من الأمر الجليل الشأن جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ أي جزاؤهم، وأقيم الظاهر مقام ضميرهم مدحا لهم وتشريفا بهذا الوصف الكريم، ويحتمل أن يراد الجنس ويندرجون فيه اندراجا أوليا أي جزاء الذين اعتادوا الإحسان في الأمور وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ عطف التكذيب بآيات الله تعالى على الكفر مع أنه ضرب منه لما أن القصد إلى بيان حال المكذبين وذكرهم بمقابلة المصدقين بها ليقترن الوعيد بالوعد وبضدها تتبين الأشياء.
هذا «ومن باب الإشارة في بعض ما تقدم من الآيات» يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ. ذهب كثير من ساداتنا الصوفية إلى أن هذا أمر منه عز شأنه أن يبلغ رسوله صلّى الله عليه وسلّم ما أنزله إليه

(4/7)


مما يتعلق بأحكام العبودية ولم يأمره جل جلاله بأن يعرف الناس أسرار ما بينه وبينه فإن ذرة من أسراره سبحانه لا تتحملها السماوات والأرض، وهذه الأسرار هي المشار إليها بقوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
[النجم:
10] . ولهذا قال سبحانه ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ولم يقل ما خصصناك به أو ما تعرفنا به إليك.
وقال بعضهم وهو المنصور: إن الموصول عام ويندرج فيه الوحي والإلهامات والمنامات والمشاهدات وسائر المواهب، والرسول صلّى الله عليه وسلّم مأمور بتبليغ كل ذلك إلا أن مراتب التبليغ مختلفة حسب اختلاف الاستعدادات فتبليغ بالعبارة وتبليغ بالإشارة وتبليغ بالهمة وتبليغ بالجذبة إلى غير ذلك «فسبحان من أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها «والله يعصمك من الناس» بما أودع فيك من أسرار الألوهية فلا يقدرون أن يوصلوا إليك ما يقطعك عن الله تعالى، وقريب من ذلك ما قيل: يعصمك منهم أن يكون لك بهم اشتغال، وقيل: يعصمك من أن ترى لنفسك فيهم شيئا بل ترى الكل منه سبحانه وبه قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ يعتد به حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ فتعطوا الظاهر حقه وتعملوا بالشريعة على الوجه الأكمل مع توحيد الأفعال وَالْإِنْجِيلَ فتعطوا الباطن حقه وتعملوا بالطريقة على الوجه الأتم مع توحيد الصفات «وما أنزل إليكم» فتعطوا الحقيقة حقها وتشاهدوا الكثرة في عين الوحدة والوحدة في عين الكثرة ولا تحجبكم الكثرة عن الوحدة ولا الوحدة عن الكثرة «وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا» لجهلهم به وقلة استعدادهم لمعرفة أسراره.
وعن بعض السادة قدس الله تعالى أسرارهم أن القرآن المنزل على النبي المرسل صلّى الله عليه وسلّم ذو صفتين: صفة قهر وصفة لطف فمن تجلى له القرآن بصفة اللطف يزيد نور بصيرته بلطائف حكمته وحقائق أسراره ودقائق بيانه ويزيد ذلك نور إيمانه وتوحيده ويعرف بذلك ظاهر الخطاب وباطنه، ومن يتجلى له بصفة القهر تزيد ظلمة طغيانه وينسد عليه باب عرفانه بحيث لا يدرك سر الخطاب فتكثر عليه الشكوك والأوهام، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] وقوله سبحانه يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [البقرة: 26] وشبه بعضهم ذلك بنور الشمس فإنه ينتفع به من ينتفع ويتضرر به الخفاش ونحوه.
ومن ذلك كتب كثير من الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم فإنه قد هدى بها أرباب القلوب الصافية وضل بها الكثير حتى تركوا الصلاة واتبعوا الشهوات وعطلوا الشرائع واستحلوا المحرمات وزعموا والعياذ بالله تعالى أن ذلك هو الذي يقتضيه القول بوحدة الوجود التي هي معتقد القوم نفعنا الله تعالى بفتوحاتهم، وقد نقل لي عن بعض من أضله الله تعالى بالاشتغال بكتب القوم ممن لم يقف على حقيقة الحال أنه لا فرق بين أن يدخل الرجل أصبعه في فمه وبين أن يدخل ذكره في فرج محرم لأن الكل واحد، وكذا لا فرق بين أن يتزوج أجنبية وبين أن يتزوج أمه أو بنته أو أخته وهذا كفر صريح عافانا الله تعالى والمسلمين منه، ومنشأ ذلك النظر في كتب القوم من دون فهم لمرادهم وما درى هذا المسكين أن مراعاة المراتب أمر واجب عندهم وإن ترك ذلك زندقة وأنهم قد صرحوا بأن الشريعة مظهر أعظم لأنها مظهر اسم الله تعالى الظاهر وأنه لا يمكن لأحد أن يصل إلى الله تعالى بإهمالها، فقد جاء عن غير واحد من العارفين إن الطرق إلى الله تعالى مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإذا رأيتم الرجل يطير في الهواء وقد أخل بحكم واحد من الشريعة فقولوا: إنه زنديق ولله در من قال خطابا للحضرة المحمدية:
وأنت باب الله أي امرئ ... أتاه من غيرك لا يدخل
ولَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الإيمان الحقيقي الْيَهُودَ وذلك لقوة المباينة لأنهم محجوبون عن توحيد الصفات وتوحيد الذات ولم يكن لهم إلا توحيد الأفعال وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا
كذلك بل هم أشد مباينة منهم

(4/8)


للمؤمنين وأقوى لأنهم محجوبون مطلقا، وإنما قدم اليهود عليهم لأن البحث فيهم، وهذا خلاف ما عليه أهل العبارة وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى لأنهم برزوا من حجاب الصفات ولم يبق لهم إلا حجاب الذات، وإلى هذا الإشارة بقوله سبحانه وتعالى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ حيث مدحوا بالعلم والعمل وعدم الاستكبار، وذلك يقتضي أنهم وصلوا إلى توحيد الأفعال والصفات وأنهم ما رأوا نفوسهم موصوفة بصفة العلم والعمل ولا نسبوا عملهم وعلمهم إليها بل إلى الله تعالى وإلا لاستكبروا وأظهروا العجب وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ من أنواع التوحيد التي من جملتها توحيد الذات تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مما عرفوا بالدليل وبواسطة الرياضة مِنَ الْحَقِّ الذي أنزل إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا بذلك فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ المعاينين لذلك وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ جمعا وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ تفصيلا وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ الذين استقاموا بالبقاء بعد الفناء «فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار» من التجليات الثلاث مع علومها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ المشاهدين للوحدة في عين الكثرة بالاستقامة في الله عز وجل «والذين كفروا» أي حجبوا عن الذات «وكذبوا بآياتنا» الدالة على التوحيد «أولئك أصحاب الجحيم» لحرمانهم الكلي واحتجابهم بنفوسهم وصفاتها والله تعالى الموفق.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ أي لذائذ ذلك وما تميل إليه القلوب منه كأنه لما تضمن ما سلف من مدح النصارى على الرهبانية ترغيب المؤمنين في كسر النفس ورفض الشهوات عقب سبحانه ذلك بالنهي عن الإفراط في هذا الباب أي لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم، وقيل: لا تلتزموا تحريمها بنحو يمين، وقيل: لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهدا منكم، وكون المعنى لا تحرموها على غيركم بالفتوى والحكم مما لا يلتفت إليه.
فقد روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جلس يوما فذكر الناس ووصف القيامة فرق الناس وبكوا واجتمع عشرة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم في بيت عثمان بن مظعون الجمحي وهم علي كرم الله تعالى وجهه، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه وعبد الله بن مسعود، وأبو ذر الغفاري، وسالم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن عمر والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن، وصاحب البيت واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء والطيب ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض وهم بعضهم أن يجب مذاكيره. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتى دار عثمان فلم يصادفه فقال لامرأته أم حكيم: أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تنكر إذ سألها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكرهت أن تبدي على زوجها فقالت: يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما دخل عثمان فأخبرته بذلك أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو وأصحابه فقال عليه الصلاة والسلام لهم: انبئت أنكم اتفقتم على كذا وكذا قال: نعم يا رسول الله وما أردنا إلا الخير فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إني لم أؤمر بذلك ثم قال عليه الصلاة والسلام: «إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» ثم جمع الناس وخطبهم فقال: «ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما أني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد اعبدوا الله تعالى ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فإنما هلك من قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله تعالى عليهم فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع» فأنزل الله تعالى هذه الآية.

(4/9)


وروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أن الآية نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه، وبلال، وعثمان بن مظعون فأما علي كرم الله تعالى وجهه فإنه حلف أن لا ينام بالليل أبدا إلا ما شاء الله تعالى، وأمّا بلال فحلف أن لا يفطر بالنهار أبدا. وأما عثمان فإنه حلف أن لا ينكح أبدا.
وروي أيضا غير ذلك ولم نقف على رواية فيها ما يدل على أن هذا التحريم كان على الغير بالفتوى والحكم كما ذهب إليه هذا القائل. ومع هذا يبعده ما يأتي بعد من الأمر بالأكل. لا ينافي هذا النهي أن الله تعالى مدح النصارى بالرهبانية فرب ممدوح بالنسبة إلى قوم مذموم بالنسبة إلى آخرين.
وقوله تعالى: وَلا تَعْتَدُوا تأكيد للنهي السابق أي لا تتعدوا حدود ما أحل سبحانه لكم إلى ما حرم جل شأنه عليكم أو نهي عن تحليل الحرام بعد النهي عن تحريم الحلال فيكون تأسيسا. ويحتمل أن يكون نهيا عن الإسراف في الحلال، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، ومجاهد، وقتادة أن المراد لا تجبوا أنفسكم ولا يخفى أن الجب فرد من أفراد الاعتداء وتجاوز الحدود والحمل على الأعم أعم فائدة.
وقوله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ في موضع التعليل لما قبله. وقد تقدمت الإشارة إلى أن نفي محبة الله سبحانه لشيء مستلزم لبغضه له لعدم الواسطة في حقه تعالى.
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً أي كلوا ما أحل لكم وطاب مما رزقكم الله تعالى. فحلالا مفعول به لكلوا ومِمَّا رَزَقَكُمُ إما حال منه وقد كان في الأصل صفة له إلا أن صفة النكرة إذا قدمت صارت حالا أو متعلق بكلوا ومن ابتدائية. ويحتمل أن يكون في موضع المفعول لكلوا على معنى أنه صفة مفعول له قائمة مقامه أي شيئا مما رزقكم أو بجعله نفسه مفعولا بتأويل بعض إلا أن في هذا تكلفا. وحَلالًا حال من الموصول أو من عائدة المحذوف أو صفة لمصدر محذوف أي أكلا حلالا. وعلى الوجوه كلها الآية دليل لنا في شمول الرزق للحلال والحرام إذ لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة سوى التأكيد وهو خلاف الظاهر في مثل ذلك وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ استدعاء إلى التقوى وامتثال الوصية بوجه حسن. والآية ظاهرة في أن أكل اللذائذ لا ينافي التقوى، وقد أكل صلّى الله عليه وسلّم ثريد اللحم ومدحه وكان يحب الحلوى. وقد فصلت الأخبار ما كان يأكله عليه الصلاة والسلام وأواني الكتب ملأى من ذلك.
وروي أن الحسن كان يأكل الفالوذج فدخل عليه فرقد السنجي فقال: يا فرقد ما تقول في هذا؟ فقال: لا آكله ولا أحب أكله فأقبل الحسن على غيره كالمتعجب وقال: لعاب النحل بلعاب البرمع سمن البقر هل يعيبه مسلم،
وذكر الطبرسي أن فيها دلالة على النهي عن الترهب وترك النكاح.
وقد جاء في غير ما خبر أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى لم يبعثني بالرهبانية»
وقال عليه الصلاة والسلام في خبر طويل: «شراركم عزابكم وأراذل موتاكم عزابكم»
وعن أنس قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرنا بالباءة وينهانا عن التبتل نهيا شديدا» .
وعن أبي نجيح قال: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ اللغو في اليمين الساقط الذي لا يتعلق به حكم وهو عندنا أن يحلف على أمر مضى يظنه كذلك فإن علمه على خلافه فاليمين غموس، وروي ذلك عن مجاهد.
وعند الشافعي رحمه الله تعالى
ما يسبق إليه اللسان من غير نية اليمين وهو المروي عن أبي جعفر.
وأبي عبد الله. وعائشة رضي الله تعالى عنهم، والأدلة على المذهبين مبسوطة في الفروع والأصول وقد تقدم شطر من الكلام على ذلك، وفِي أَيْمانِكُمْ إما متعلق باللغو فإنه يقال لغا في يمينه لغوا وإما بمحذوف وقع حالا منه أي كائنا أو واقعا في أيمانكم وجوز أن يكون متعلقا بيؤاخذكم، وقيل عليه: إنه لا يظهر ربطه بالمؤاخذة إلا أن يجعل في للعلة كما في

(4/10)


«إن امرأة دخلت النار في هرة» وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ أي بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها بالقصد والنية فما مصدرية، وقيل: إنها موصولة والعائد محذوف أي بما عقدتم الإيمان عليه. ورجح الأول بأن الكلام في مقابلة اللغو وبأنه خال عن مؤنة التقدير، وقال بعضهم: إن ذلك التقدير في غير محله لأن شرط حذف العائد المجرور أن يكون مجرورا بمثل ما جر به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا وما هنا ليس كذلك فليتدبر والمعنى ولكن يؤاخذكم بنكث ما عقدتم أو لكن يؤاخذكم بما عقدتموها إذا حنثتم وحذف ذلك للعلم به، والمراد بالمؤاخذة المؤاخذة في الدنيا وهي الإثم والكفارة فلا إشكال في تقدير الظرف، وتعقيد الأيمان شامل للغموس عند الشافعية وفيه كفارة عندهم وأما عندنا فلا كفارة ولا حنث.
وقرأ حمزة. والكسائي. وابن عياش عن عاصم «عقدتم» بالتخفيف، وابن عامر برواية ابن ذكوان «عاقدتم» والمفاعلة فيها لأصل الفعل وكذا قراءة التشديد لأن القراءات يفسر بعضها بعضا، وقيل: إن ذلك فيها للمبالغة باعتبار أن العقد باللسان والقلب لا أن ذلك للتكرار اللساني كما توهم. والآية كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت حين نهى القوم عما صنعوا فقالوا: يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟
وروي عن ابن زيد أنها نزلت في عبد الله بن رواحة كان عنده ضيف فأخرت زوجته عشاءه فحلف لا يأكل من الطعام وحلفت المرأة لا تأكل إن لم يأكل وحلف الضيف لا يأكل إن لم يأكلا فأكل عبد الله بن رواحة وأكلا معه فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك فقال عليه الصلاة والسلام له: أحسنت ونزلت.
فَكَفَّارَتُهُ الضمير عائد إما على الحنث المفهوم من السياق أو على العقد الذي في ضمن الفعل بتقدير مضاف أي فكفارة نكثه أو على ما الموصولة بذلك التقدير، وأما عوده على الأيمان لأنه مفرد كالأنعام عند سيبويه أو مؤول بمفرد فكما ترى، والمراد بالكفارة المعنى المصدري وهي الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة وتسترها، والمراد بالستر المحو لأن الممحو لا يرى كالمستور وبهذا وجه تأنيثها، وذكر عصام الدين أن فعالا يستوي فيه المذكر والمؤنث إلا أن ما يستوي فيه ذلك كفعيل إذا حذف موصوفة يؤنث للمؤنث كمررت بقتيلة بني فلان ولا يقال بقتيل للالتباس، وذكر أن التاء يحتمل أن تكون للنقل وأن تكون للمبالغة انتهى.
ويدل على أنها بالمعنى المصدري الإخبار عنها بقوله تعالى: إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ واستدل الشافعية بظاهر الآية على جواز التكفير بالمال قبل الحنث سواء كان الحنث معصية أم لا، وتقييد ذلك كما فعل الرافعي بما إذا لم يكن معصية غير معول عليه عندهم، ووجه الاستدلال بذلك على ما ذكر أنه سبحانه جعل الكفارة عقب اليمين من غير ذكر الحنث وقال عز شأنه: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وقيدوا ذلك بالمال ليخرج التكفير بالصوم فأنه لا يكون إلا بعد الحنث عندهم لأنه عند العجز عن غيره والعجز لا يتحقق بدون حنث، وقد قاسوا ذلك أيضا على تقديم الزكاة على الحول، واستدلوا أيضا بما
أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير» .
ونحن نقول: إن الآية تضمنت إيجاب الكفارة عند الحنث وهي غير واجبة قبله فثبت أن المراد بما عقدتم الأيمان وحنثتم فيها، وقد اتفقوا على أن معنى قوله سبحانه: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 184] فأفطر فعدة من أيام أخر فكذا هذا. والحديث الذي استدلوا به لا يصلح للاستدلال لأنه بعد تسليم دلالة الفاء الجزائية على التعقيب من غير تراخ يقال: إن الواقع في حيزها مجموع التكفير والإيتاء ولا دلالة على الترتيب بينهما ألا ترى أن قوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ

(4/11)


[الجمعة: 9] لا يقتضي تقديم السعي على ترك البيع بالاتفاق، وأيضا
جاء في رواية «فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه» .
ونقل بعضهم عن الشافعية أنهم يجمعون بين الروايتين بأن إحداهما لبيان الجواز والأخرى لبيان الوجوب، وقال عصام الدين: إن تقديم الكفارة تارة وتأخيرها أخرى يدل على أن التقديم والتأخير سيان اه.
وأنت تعلم أن الشافعية كالحنفية في أنهم يقدرون في الآية ما أشرنا إليه قبل في تفسيرها إلا أن ذلك عندهم قيد للوجوب وإلا فالاستدلال بالآية في غاية الخفاء كما لا يخفى فتدبر. وإِطْعامُ مصدر مضاف لمفعوله وهو مقدر بحرف وفعل مبني للفاعل وفاعل المصدر يحذف كثيرا، ولا ضرورة تدعو إلى تقدير الفعل مبنيا للمفعول لأنه مع كونه خلاف الأصل في تقديره خلاف ذكره السمين فالتقدير هنا فكفارته أن يطعم الحانث أو الحالف عشرة مساكين مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أي من أقصده في النوع أو المقدار، وهو عند الشافعية مد لكل مسكين وعندنا نصف صاع من بر أو صاع من شعير.
وأخرج ابن حميد وغيره عن ابن عمر أن الأوسط الخبز والتمر والخبز والزيت والخبز والسمن، والأفضل نحو الخبز واللحم. وعن ابن سيرين قال: كانوا يقولون الأفضل الخبز واللحم والأوسط الخبز والسمن والأخس الخبز والتمر. ومحل الجار والمجرور النصب لأنه صفة مفعول ثان للإطعام لأنه ينصب مفعولين وأولهما هنا ما أضيف إليه، والتقدير طعاما أو قوتا كائنا من أوسط، وقيل: إنه صفة مصدر محذوف أي إطعاما كائنا من ذلك وجوز أن يكون محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي طعامهم من أوسط أو على أنه صفة لإطعام أو على أنه بدل من إطعام.
واعترض هذا بأن أقسام البدل لا تتصور هنا. وأجيب بأنه بدل اشتمال بتقدير موصوف وذلك على مذهب ابن الحاجب. وصاحب اللباب. ومتابعيهما ظاهر لأنهم يكتفون بملابسة بين البدل والمبدل منه بغير الجزئية والكلية، وأما على مذهب الجمهور فلأنهم يشترطون اشتمال التابع على المتبوع لا كاشتمال الظرف على المظروف بل من حيث كونه دالا عليه إجمالا ومتقاضيا له بوجه ما بحيث تبقى النفس عند ذكر الأول متشوقة إلى ذكر الثاني فيجاء بالثاني ملخصا لما أجمله الأول ومبينا له، ويعدون من هذا القبيل قولهم: نظرت إلى القمر فلكه كما صرح به ركن الدين في شرح اللباب. ولا يخفى أن إطعام عشرة مساكين دال على الطعام إجمالا ومتقاض له بوجه. واختار بعض المحققين أنه بدل كل من كل بتقدير إطعام من أوسط نحو أعجبني قرى الأضياف قراهم من أحسن ما وجد، وما إما مصدرية وإما موصولة اسمية والعائد محذوف أي من أوسط الذي تطعمونه.
وجوز أبو البقاء تقديره مجرورا بمن أي تطعمون منه، ونظر فيه السمين بأن من شرط العائد المحذوف المجرور بالحرف أن يكون مجرورا بمثل ما جرا به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا والحرفان هنا وإن اتفقا من وجه إلا أن المتعلق مختلف لأن من الثانية متعلقة بتطعمون والأولى ليست متعلقة بذلك. ثم قال: فإن قلت الموصول غير مجرور بمن وإنما هو مجرور بالإضافة. فالجواب أن المضاف إلى الموصول كالموصول في ذلك اه. وقد قدمنا آنفا نحو هذا النظر، وأجاب بعضهم عن ذلك بأن الحذف تدريجي ولا يخفى أن فيه تطويلا للمسافة. والأهلون جمع أهل على خلاف القياس كأرض وأرضون إذ شرط هذا الجمع أن يكون علما أو صفة وأهل اسم جامد، قيل: والذي سوغه أنه استعمل كثيرا بمعنى مستحق فأشبه الصفة.
وروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قرأ «أهاليكم»
بسكون الياء على لغة من يسكنها في الحالات الثلاث كالألف وهو أيضا جمع أهل على خلاف القياس كليال في جمع ليلة.
وقال ابن جني: وأحدهما ليلاة وأهلاة وهو محتمل كما قيل لأن يكون مراده أن لهما مفردا مقدرا هو ما ذكر ولأن يكون مراده أن لهما مفردا محققا مسموعا من العرب هو ذاك، وقيل: إن أهالي جمع أهلون وليس بشيء أَوْ

(4/12)


كِسْوَتُهُمْ
عطف كما قال أبو البقاء على إطعام واستظهره غير واحد، واختار الزمخشري أنه عطفت على محل مِنْ أَوْسَطِ ووجهه فيما نسب إليه بأن مِنْ أَوْسَطِ بدل من الإطعام والبدل هو المقصود ولذلك كان المبدل منه في حكم المنحي فكأنه قيل: فكفارته من أوسط ما تطعمون. ووجه صاحب التقريب عدوله عن الظاهر بأن الكسوة اسم لنحو الثوب لا مصدرا، فقد قال الراغب: الكساء والكسوة اللباس فلا يليق عطفه على المصدر السابق مع أن كليهما فيما يتعلق بالمساكين، وبأنه يؤدي إلى ترك ذكر كيفية الكسوة وهو كونها أوسط، ثم قال: ويمكن أن يجاب عن الأول بأن الكسوة إما مصدر كما يشعر به كلام الزجاج أو يضمر مصدر كالإلباس، وعن الثاني بأن يقدر أو كسوتهم من أوسط ما تكسون وحذف ذلك لقرينة ذكره في المعطوف عليه أو بان تترك على إطلاقها إما بإرادة إطلاقها أو بإحالة بيانها على الغير، وأيضا العطف على محل مِنْ أَوْسَطِ لا يفيد هذا المقصود وهو تقدير الأوسط في الكسوة فالإلزام مشترك ويؤدي إلى صحة إقامته مقام المعطوف عليه وهو غير سديد اه.
واعترض بعض المحققين على ما نسب إلى الزمخشري أيضا بأن العطف على البدل يستدعي كون المعطوف بدلا أيضا وإبدال الكسوة من إِطْعامُ لا يكون إلا غلطا لعدم المناسبة بينهما أصلا وبدل الغلط لا يقع في الفصيح فضلا عن أفصح الأفصح. ومنع عدم الوقوع مما لا يلتفت إليه، وجعل غير واحد هذا العطف من باب. علفتها تبنا وماء باردا. كأنه قيل إطعام هو أوسط ما تطعمون أو إلباس هو كسوتهم على معنى إطعام هو إطعام الأوسط وإلباس هو إلباس الكسوة وفيه إبهام وتفسير في الموضعين.
واعترض بأن العطف على هذا يكون على المبدل منه لا البدل، وأجيب بأن المراد أنه بالنظر إلى ظاهر اللفظ عطف على البدل وهو كما ترى، واعترض الشهاب على دعوى أن الداعي الزمخشري عن العدول إلى الظاهر إلى اختيار العطف على محل مِنْ أَوْسَطِ تحصيل التناسب بين نوعي الكفارة المتعلقة بالمساكين بأنه كيف يتأتى ذلك وقد جعل العطف على «من أوسط» على تقدير بدليته وهو على ذلك التقدير صفة إطعام مقدر انتهى.
وقد علمت أن هذا رأي لبعضهم. وبالجملة فيما ذهب إليه الزمخشري دغدغة حتى قال العلم العراقي: إنه غلط والصواب العطف على «إطعام» ، وقال الحلبي: ما ذكره الزمخشري إنما يتمشى على وجه وهو أن يكون مِنْ أَوْسَطِ خبر لمبتدأ محذوف يدل عليه ما قبله تقديره طعامهم من أوسط فالكلام تام على هذا عند قوله سبحانه:
عَشَرَةِ مَساكِينَ ثم ابتدأ أخبارا آخر بأن الطعام يكون أوسط كذا. وأما إذا قلنا إن مِنْ أَوْسَطِ هو المفعول الثاني فيستحيل عطف كِسْوَتُهُمْ عليه لتخالفهما إعرابا انتهى. ثم المراد بالكسوة ما يستر عامة البدن على ما روي عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه. وأبي يوسف فلا يجزي عندهما السراويل لأن لابسه يسمى عريانا في العرف لكن ما لا يجزئه عن الكسوة يجزئه عن الإطعام باعتبار القيمة، وفي اشتراط النية حينئذ روايتان. وظاهر الرواية الإجزاء نوى أو لم ينو. وروي أيضا أنه إن أعطى السراويل المرأة لا يجوز وإن أعطى الرجل يجوز لأن المعتبر رد العرى بقدر ما تجوز به الصلاة وذلك ما به يحصل ستر العورة والزائد تفضل للتجمل أو نحوه فلا يجب في الكسوة كالأدام في الطعام والمروي عن محمد أن ما تجوز فيه الصلاة يجزىء مطلقا. والصحيح المعول عليه عندنا هو الأول، ويشترط أن يكون ذلك ما يصلح فيه الصلاة يجزىء مطلقا. والصحيح المعول عليه عندنا هو الأول، ويشترط أن يكون ذلك مما يصلح للأوساط وينتفع به فوق ثلاثة أشهر، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كانت العباءة تجزىء يومئذ، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه يجزىء قميص أو رداء أو كساء، وعن الحسن أنهما ثوبان أبيضان.
وروى الإمامية عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنها ثوبان لكل مسكين ويجزىء ثوب واحد عند الضرورة
واشترط

(4/13)


أصحابنا في المسكين أن يكون مراهقا فما فوقه فلا يجزىء غير المراهق على ما ذكره الحصكفي نقلا عن البدائع في كفارة الظهار، وسيأتي إن شاء الله تعالى في آية كفارة الظهار أن المراد من الإطعام التمكين من الطعم وتحقيق الكلام في ذلك على أتم وجه. وقرىء «أو كسوتهم» بضم الكاف وهو لغة كقدوة في قدوة وأسوة في أسوة. وقرأ سعيد بن المسيب واليماني «أو كاسوتهم» بكاف الجر الداخلة على أسوة وهي كما قال الراغب الحال التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره إن حسنا وإن قبيحا. والهمزة كما قال غير واحد: بدل من واو لأنه من المواساة. والجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف والتقدير أو طعامهم كأسوة أهليكم، وقال السعد: الكاف زائدة أي أو طعامهم أسوة أهليكم، وقيل:
الأولى أن يكون التقدير طعام كاسوتهم على الوصف فهو عطف أيضا على مِنْ أَوْسَطِ وعلى هذه القراءة يكون التخيير بين الإطعام والتحرير في قوله تعالى: أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فقط وتكون الكسوة ثابتة بالسنة. وزعم أبو حيان أن الآية تنفي الكسوة وليس بشيء، وقال أبو البقاء: المعنى مثل أسوة أهليكم في الكسوة فلا تكون الآية عارية عن الكسوة وفيه نظر إذ ليس في الكلام ما يدل على ذلك التقدير.
والمراد بتحرير رقبة إعتاق إنسان كيف ما كان. وشرط الشافعي عليه الرحمة فيه الإيمان حملا للمطلق هنا على المقيد في كفارة القتل. وعندنا لا يحمل لاختلاف السبب. واستدل بعض الشافعية على ذلك بأن الكفارة حق الله تعالى وحق الله سبحانه لا يجوز صرفه إلى عدو الله عز اسمه كالزكاة. ونحن نقول: المنصوص عليه تحرير رقبة وقد تحقق. والقصد بالإعتاق أن يتمكن المعتق من الطاعة بخلوصه عن خدمة المولى ثم مقارفته المعصية وبقاؤه على الكفر يحال به إلى سوء اختياره. واعترض بأن لقائل أن يقول: نعم مقارفته المعصية يحال به إلى ما ذكر لكن لم لا يكون تصور ذلك منه مانعا عن الصرف إليه كما في الزكاة. وأجيب بأن القياس جواز صرف الزكاة إليه أيضا لأن فيه مواساة عبيد الله تعالى أيضا لكن
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «خذها من أغنيائهم وردها إلى فقرائهم»
أخرجهم عن المصرف.
وقد ذكر بعض أصحابنا ضابطا لما يجوز إعتاقه في الكفارة وما لا يجوز فقال: متى أعتق رقبة كاملة الرق في ملكه مقرونا بنية الكفارة وجنس ما يبتغي من المنافع فيها قائم بلا بدل جاز وإن لم يكن كذلك فإنه لا يجوز وهل يجوز عتق الأصم أم لا؟ قولان. وفي الهداية، ويجوز الأصم والقياس أن لا يجوز وهو رواية النوادر لأن الفائت جنس المنفعة إلا أنا استحسنا الجواز لأن أصل المنفعة باق فإنه إذا صيح عليه يسمع حتى لو كان بحال لا يسمع أصلا بأن ولد أصم وهو الأخرس لا يجزئه انتهى.
ومعنى أو إيجاب إحدى الخصال الثلاث مطلقا وتخيير المكلف في التعيين ونسب إلى بعض المعتزلة أن الواجب الجمع ويسقط واحدا. وقيل الواجب متعين عند الله تعالى وهو ما يفعله المكلف فيختلف بالنسبة إلى المكلفين. وقيل: إن الواجب واحد معين لا يختلف لكن يسقط به وبالآخر. وتفاوتها قدرا وثوابا لا ينافي التخيير المفوض تفاوته إلى الهمم وقصد زيادة الثواب فإن الكسوة أعظم من الإطعام والتحرير أعظم منهما. وبدأ سبحانه بالإطعام تسهيلا على العباد. وذكر غير واحد من أصحابنا أن المكلف لو أدى الكل جملة أو مرتبا ولم ينو إلا بعد تمامها وقع عنها واحد هو أعلاها قيمة ولو ترك الكل عوقب بواحد هو أدناها قيمة لسقوط الفرض بالأدنى. وتحقيق ذلك في الأصول فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي شيئا من الأمور المذكورة فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أي فكفارته ذلك. ويشترط الولاء عندنا ويبطل بالحيض بخلاف كفارة الفطر. وإلى اشتراط الولاء ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وقتادة والنخعي.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة: يا رسول الله

(4/14)


نحن بالخيار فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أنت بالخيار إن شئت أعتقت وإن شئت كسوت وإن شئت أطعمت فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات» .
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن حميد، وابن جرير، وابن أبي داود في المصاحف، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» . وأخرج غالب هؤلاء عن ابن مسعود أنه كان يقرأ أيضا كذلك، وقال سفيان: نظرت في مصحف الربيع فرأيت فيه «فمن لم يجد من ذلك شيئا فصيام ثلاثة أيام متتابعات» وبمجموع ذلك يثبت اشتراط التتابع على أتم وجه، وجوز الشافعي رحمه الله تعالى التفريق ولا يرى الشواذ حجة، ولعل غير ذلك لم يثبت عنده واعتبر عدم الوجدان والعجز عما ذكر عندنا وقت الأداء حتى لو وهب ماله وسلمه ثم صام ثم رجع بهبته أجزأه الصوم كما في المجتبى، ونسب إلى الشافعي رضي الله تعالى عنه اعتبار العجز عند الحنث. ويشترط استمرار العجز إلى الفراغ من الصوم فلو صام المعسر يومين ثم قبل فراغه ولو بساعة أيسر ولو بموت. مورثه موسرا لا يجوز له الصوم ويستأنف بالمال. ولو صام ناسيا له لم يجز على الصحيح، واختلف في الواجد فأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال: إذا كان عنده خمسون درهما فهو ممن يجد ويجب عليه الإطعام وإن كان عنده أقل فهو ممن لا يجد ويصوم.
وأخرج عن النخعي قال: إذا كان عنده عشرون درهما فعليه أن يطعم في الكفارة، ونقل أبو حيان عن الشافعي.
وأحمد. ومالك أن من عنده فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقته يومه وليلته وعن كسوته بقدر ما يطعم أو يكسو فهو واجد، وعن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إذا لم يكن عنده نصاب فهو غير واجد.
ذلِكَ أي الذي مضى ذكره كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ أي وحنثتم وقد مر تفصيل ذلك. وإِذا على ما قال السمين لمجرد الظرفية وليس فيها معنى الشرط، وجوز أن تكون شرطية ويكون جوابها محذوفا عند البصريين، والتقدير إذا حلفتم وحنثتم فذلك كفارة أيمانكم. ويدل على ذلك ما تقدم أو هو ما تقدم عند الكوفيين والخلاف بين الفريقين مشهور وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أي راعوها لكي تؤدوا الكفارة عنها إذا حنثتم أو احفظوا أنفسكم من الحنث فيها وإن لم يكن الحنث معصية أو لا تبذلوها وأقلوا منها كما يشعر به قوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ [البقرة: 224] وعليه قول الشاعر:
قليل الألايا حافظ ليمينه ... إذا بدرت منه الألية برت
أو احفظوها ولا تنسوا كيف حلفتم تهاونا بها وصحح الشهاب الأول. واعترض الثاني بأنه لا معنى له لأنه غير منهي عن الحنث إذا لم يكن الفعل معصية،
وقد قال صلّى الله عليه وسلّم «فليأت الذي هو خير وليكفر»
وقال سبحانه. فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ [التحريم: 2] فثبت أن الحنث غير منهي عنه إذا لم يكن معصية فلا يجوز أن يكون احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ نهيا عن الحنث، والثالث بأنه ساقط واه لأنه كيف يكون الأمر بحفظ اليمين نهيا عن اليمين وهل هو إلا كقولك: احفظ المال بمعنى لا تكسبه، وأما البيت فلا شاهد فيه لأن معنى حافظ ليمينه أنه مراع لها بأداء الكفارة ولو كان معناه ما ذكر لكان مكررا مع ما قبله أعني قليل الألايا-. واعترض الرابع بأنه بعيد فتدير كَذلِكَ أي ذلك البيان البديع يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أعلام شريعته وأحكامه لا بيانا أدنى منه، وتقديم لَكُمْ على المفعول الصريح لما مر مرارا.
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة التعليم أو نعمة الواجب شكرها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وهو المسكر المتخذ من عصير العنب أو كل ما يخامر العقل ويغطيه من الأشربة.
وروي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما وَالْمَيْسِرُ وهو القمار وعدوا منه اللعب بالجوز والكعاب

(4/15)


والْأَنْصابُ وهي الأصنام المنصوبة للعبادة، وفرق بعضهم بين الأنصاب والأصنام بأن الأنصاب حجارة لم تصور كانوا ينصبونها للعبادة ويذبحون عندها، والأصنام ما صور وعبد من دون الله عز وجل وَالْأَزْلامُ وهي القداح وقد تقدم الكلام في ذلك على أتم وجه رِجْسٌ أي قذر تعاف عنه العقول، وعن الزجاج الرجس كل ما استقذر من عمل قبيح. وأصل معناه الصوت الشديد ولذا يقال للغمام رجاس لرعده والرجز بمعناه عند بعضهم.
وفرق ابن دريد بين الرجس والرجز والركس فجعل الرجس الشر والرجز العذاب والركس العذرة والنتن، وأفراد الرجس مع أنه خبر عن متعدد لأنه مصدر يستوي فيه القليل والكثير، ومثل ذلك قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: 28] وقيل: لأنه خبر عن الخمر وخبر المعطوفات محذوف ثقة بالمذكور.
وقيل: لأن في الكلام مضافا إلى تلك الأشياء وهو خبر عنه أي إنما شأن هذه الأشياء أو تعاطيها رجس. وقوله سبحانه: مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ في موضع الرفع على أنه صفة رِجْسٌ أي كائن من عمله لأنه مسبب من تزيينه وتسويله، وقيل: إن من للابتداء أي ناشىء من عمله. وعلى التقديرين لا ضير في جعل ذلك من العمل وإن كان ما ذكر من الأعيان. ودعوى أنه إذا قدر المضاف لم يحتج إلى ملاحظة علاقة السببية ولا إلى القول بأن من ابتدائية لا يخلو عن نظر فَاجْتَنِبُوهُ أي الرجس أو جميع ما مر بتأويل ما مر أو التعاطي المقدر أو الشيطان لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي راجين فلا حكم أو لكي تفلحوا بالاجتناب عنه. وقد مر الكلام في ذلك، ولقد أكد سبحانه تحريم الخمر والميسر في هذه الآية بفنون التأكيد حيث صدرت الجملة بإنما وقرنا بالأصنام والأزلام وسميا رجسا من عمل الشيطان تنبيها على غاية قبحهما وأمر بالاجتناب عن عينهما بناء على بعض الوجوه وجعله سببا يرجى منه الفلاح فيكون ارتكابهما خيبة. ثم قرر ذلك ببيان ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية فقال سبحانه: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أي بسبب تعاطيهما لأن السكران يقدم على كثير من القبائح التي توجب ذلك ولا يبالي وإذا صحا ندم على ما فعل، والرجل قد يقامر حتى لا يبقى له شيء وتنتهي به المقامرة إلى أن يقامر بولده وأهله فيؤدي به ذلك إلى أن يصير أعدى الأعداء لمن قمره وغلبه وهذه إشارة إلى مفاسدهما الدنيوية. وقوله تعالى:
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ إشارة إلى مفاسدهما الدينية. ووجه صد الشيطان لهم بذلك عما ذكر أن الخمر لغلبة السرور بها والطرب على النفوس والاستغراق في الملاذ الجسمانية تلهي عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة.
وأن الميسر إن كان اللاعب به غالبا انشرحت نفسه ومنعه حب الغلب والقهر والكسب عما ذكر وإن كان مغلوبا حصل له من الانقباض والقهر ما يحثه على الاحتيال لأن يصير غالبا فلا يكاد يخطر بقلبه غير ذلك. وقد شاهدنا كثيرا ممن يلعب بالشطرنج يجري بينهم من اللجاج والحلف الكاذب والغفلة عن الله تعالى ما ينفر منه الفيل وتكبو له الفرس ويصوح من سمومه الرخ بل يتساقط ريشه ويحار لشناعته بيذق الفهم ويضطرب رزين العقل ويموت شاه القلب وتسود رقعة الأعمال، وتخصيص الخمر والميسر بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال للتنبيه على أن المقصود بيان حالهما وذكر الأنصاب والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة والشرارة كما يشعر بذلك ما جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم والسلف الصالح من الأخبار الصادحة بمزيد ذمهما والحط على مرتكبهما.
وخص الصلاة من الذكر بالأفراد بالذكر مع أن الذي يصد عنه يصد عنها لأنه من أركانها تعظيما لها كما في ذكر الخاص بعد العام وإشعارا بأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان لما أنها عماده والفارق بينه وبين الكفر إذ التصديق القلبي لا يطلع عليه وهي أعظم شعائره المشاهدة في كل وقت ولذا طلبت فيها الجماعة ليشاهدوا الإيمان ويشهدوا به، ففي الكلام إشارة إلى أن مراد اللعين ومنتهى آماله من تزيين تعاطي شرب الخمر واللعب بالميسر الإيقاع في الكفر

(4/16)


الموجب للخلود معه في النار وبئس القرار. ثم إنه سبحانه أعاد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام الإنكاري مع الجملة الاسمية مرتبا على ما تقدم من أصناف الصوارف فقال جل شأنه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ إيذانا بأن الأمر في الردع والمنع قد بلغ الغاية وأن الأعذار قد انقطعت بالكلية حتى أن العاقل إذا خلي ونفسه بعد ذلك لا ينبغي أن يتوقف في الانتهاء. ووجه تلك التأكيدات أن القوم رضي الله تعالى عنهم كما قيل كانوا مترددين في التحريم بعد نزول آية البقرة ولذا قال عمر رضي الله تعالى عنه: «اللهم بين لنا في ذلك بيانا شافيا» فنزلت هذه الآية، ولما سمع عمر رضي الله تعالى عنه فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قال: «انتهينا يا رب» ، وأخرج عبد بن حميد عن عطاء قال: أول ما نزل في تحريم الخمر يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة: 219] الآية، فقال بعض الناس: نشربها لمنافعها التي فيها، وقال آخرون: لا خير في شيء فيه إثم ثم نزل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: 43] الآية فقال بعض الناس: نشربها ونجلس في بيوتنا، وقال آخرون لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة مع المسلمين فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الآية فانتهوا.
وأخرج عن قتادة قال: ذكر لنا أن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله سبحانه قد حرم الخمر فمن كان عنده شيء فلا يطعمه ولا تبيعوها»
فلبث المسلمون زمانا يجدون ريحها من طرق المدينة مما أهراقوا منها.
وأخرج عن الربيع أنه قال لما نزلت آية البقرة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ثم نزلت آية النساء فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر»
ثم نزلت آية بالمائدة فحرمت الخمر عند ذلك. وقد تقدم في آية البقرة شيء من الكلام في هذا المقام فتذكر.
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ عطف على «اجتنبوه» أي أطيعوهما في جميع ما أمرا به ونهيا عنه ويدخل فيه أمرهما ونهيهما في الخمر والميسر دخولا أوليا وَاحْذَرُوا أي مخالفتهما في ذلك وهذا مؤكد للأمر الأول، وجوز أن يكون المراد أطيعوا فيما أمرا واحذروا عما نهيا فلا تأكيد. وجوز أيضا أن لا يقدر متعلق للحذر أي وكونوا حاذرين خاشين وأمروا بذلك لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى اتقاء كل سيئة وعمل كل حسنة فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم ولم تعملوا بما أمرتم به فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي ولم يأل جهدا في ذلك فقامت عليكم الحجة وانتهت الأعذار وانقطعت العلل ولم يبق بعد ذلك إلا العقاب.
وفي هذا كما قال الطبرسي وغيره من التهديد وشدة الوعيد ما لا يخفى، وقيل: إن المعنى فاعلموا أنكم لم تضروا بتوليتكم الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأنه ما كلف إلا البلاغ المبين بالآيات وقد فعل وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتموه وليس بشيء إذ لا يتوهم منهم ادعاء الضرر بتوليتهم حتى يرد عليهم. ومثل ذلك ما قيل: إن المعنى فإن توليتم فلا تطمعوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يهملكم لأن ما على الرسول إلا البلاغ المبين فلا يجوز له ترك البلاغ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ أي إثم وحرج فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قيل: لما نزل تحريم الخمر والميسر قالت الصحابة رضي الله عنهم: كيف بمن شربها من إخواننا الذين ماتوا وهم قد شربوا الخمر وأكلوا الميسر؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل: إنها نزلت في القوم الذين حرموا على نفوسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهب كعثمان بن مظعون وغيره والأول هو المختار، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأنس بن مالك، والبراء بن عازب. ومجاهد. وقتادة. والضحاك. وخلق آخرين.

(4/17)


وللمفسرين في معنى الآية كلام طويل الذيل فنقل الطبرسي والعهدة عليه عن تفسير أهل البيت أن ما عبارة عن المباحات، واختاره غير واحد من المتأخرين. وتعقب بأنه يلزم عليه تقييد إباحتها باتقاء ما عداها من المحرمات لقوله سبحانه: «إذا ما اتقوا» واللازم منتف بالضرورة فهي سواء كانت موصولة أو موصوفة على عمومها وإنما تخصصت بذلك القيد الطارئ عليها، والطعم كالطعام يستعمل في الأكل والشرب كما تقدمت إليه الإشارة والمعنى ليس عليهم جناح فيما تناولوه من المأكول والمشروب كائنا ما كان إذا اتقوا أن يكون في ذلك شيء من المحرم واستمروا على الإيمان والأعمال الصالحة وإلا لم يكن نفي الجناح في كل ما طعموه بل في بعضه، ولا محذور في هذا إذ اللازم منه تقييد إباحة الكل بأن لا يكون فيه محرم لا تقييد إباحة بعضه باتقاء الآخر منه كما هو اللازم مما عليه الجماعة. واتَّقَوْا الثاني عطف على نظيره المتقدم داخل معه في حيز الشرط. والمراد اتقوا ما حرم عليهم بعد ذلك مع كونه مباحا فيما سبق، والمراد بالإيمان المعطوف عليه أما الإيمان بتحريمه وتقديم الاتقاء عليه أما للاعتناء به أو لأنه الذي يدل على التحريم الحادث الذي هو المؤمن به، وأما الاستمرار على الإيمان بما يجب الإيمان به ومتعلق الاتقاء ثالثا ما حرم عليهم أيضا بعد ذلك مما كان مباحا من قبل على أن المشروط بالاتقاء في كل مرة إباحة ما طعموه في ذلك الوقت لا إباحة ما طعموه قبله لانتساخ إباحة بعضه حينئذ وأريد بالإحسان فعل الأعمال الحسنة الجميلة المنتظمة بجميع ما ذكر من الأعمال القلبية والقالبية.
وليس تخصيص هذه المراتب بالذكر لتخصيص الحكم بها بل لبيان التعدد والتكرار بالغا ما بلغ، والمعنى أنهم إذا اتقوا المحرمات واستمروا على ما هم عليه من الإيمان والأعمال الصالحة وكانوا في طاعة الله تعالى ومراعاة أوامره ونواهيه بحيث كلما حرم عليهم شيء من المباحات اتقوه ثم وثم فلا جناح عليهم فيما طعموه في كل مرة من المآكل والمشارب إذ ليس فيها شيء محرم عند طعمه قاله مولانا شيخ الإسلام، ثم قال: وأنت خبير بأن ما عدا اتقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة لا دخل لها في انتفاء الجناح وإنما ذكرت في حيز إذا شهادة باتصاف الذين سئل عن حالهم بها ومدحا لهم بذلك وحمدا لأحوالهم، وقد أشير إلى ذلك حيث جعلت تلك الصفات تبعا للاتقاء في كل مرة تميزا بينها وبين ما له دخل في الحكم فإن مساق النظم الكريم بطريق العبارة وإن كان لبيان حال المتصفين بما ذكر من النعوت فيما سيأتي من الزمان بقضية «إذا ما» لكنه قد أخرج مخرج الجواب عن حال الماضين لإثبات الحكم في حقهم ضمن التشريع الكلي على الوجه البرهاني بطريق دلالة النص بناء على كمال اشتهارهم بالاتصاف بها فكأنه قيل: ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا كانوا في طاعته تعالى مع ما لهم من الصفات الحميدة بحيث كلما أمروا بشيء تلقوه بالامتثال، وإنما كانوا يتعاطون الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمهما إذ ذلك ولو حرما في عصرهم لا تقوهما بالمرة انتهى.
ومما يدل على أن الآية للتشريع الكلي ما
أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن مسعود قال: لما نزلت لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا الآية قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قيل لي أنت منهم»
وقيل: إن ما في حيز الشرط من الاتقاء وغيره إنما ذكر على سبيل المدح والثناء للدلالة على أن القوم بتلك الصفة لأن المراد بما المباحات، ونفي الجناح في تناول المباح الذي لم يحرم لا يتقيد بشرط، وقال علي بن الحسين النقيب المرتضى: إن المفسرين تشاغلوا بإيضاح الوجه في التكرار الذي تضمنته هذه الآية وظنوا أنه المشكل فيها وتركوا ما هو أشد إشكالا من ذلك وهو أنه تعالى نفى الجناح عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيما يطعمونه بشرط الاتقاء والإيمان والعمل الصالح مع أن المباح لو وقع من الكافر لا إثم عليه ولا وزر. ولنا في حل هذه الشبهة طريقان، أحدهما أن يضم إلى المشروط

(4/18)


المصرح بذكره غيره حتى يظهر تأثير ما شرط فيكون تقدير الآية ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا وغيره إذا ما اتقوا إلخ لأن الشرط في نفي الجناح لا بد من أن يكون له تأثير حتى يكون متى انتفي ثبت الجناح، وقد علمنا أن باتقاء المحارم ينتفي الجناح فيما يطعم فهو الشرط الذي لا زيادة عليه، ولما ولى ذكر الاتقاء الإيمان والعمل الصالح ولا تأثير لهما في نفي الجناح علمنا أنه أضمر ما تقدم ذكره ليصح الشرط ويطابق المشروط لأن من اتقى الحرام فيما يطعم لا جناح عليه فيما يطعم ولكنه قد يصح أن يثبت عليه الجناح فيما أخل به من واجب وضيعه من فرض فإذا شرطنا الإيمان والعمل الصالح ارتفع عنه الجناح من كل وجه، وليس بمنكر حذف ما ذكرناه لدلالة الكلام عليه فمن عادة العرب أن يحذفوا ما يجري هذا المجرى ويكون قوة الدلالة عليه مغنية عن النطق به، ومنه قول الشاعر:
تراه كأن الله يجدع أنفه ... وعينيه إن مولاه بات له وفر
فإنه لما كان الجدع لا يليق بالعين وكانت معطوفة على الأنف الذي يليق الجدع به أضمر ما يليق بالعين من البخص وما يجري مجراه. الطريق الثاني أن يجعل الإيمان والعمل الصالح ليس شرطا حقيقيا وإن كان معطوفا على الشرط فكأنه تعالى لما أراد أن يبين وجوب الإيمان وما عطف عليه عطفه على ما هو واجب من اتقاء المحارم لاشتراكهما في الوجوب وإن لم يشتركا في كونهما شرطا في نفي الجناح فيما يطعم وهذا توسع في البلاغة يحار فيه العقل استحسانا واستغرابا انتهى. ولا يخفى ما في الطريق الثاني من البعد وأن الطريق الأول حزن فإن مثل هذا الحذف مع ما زعمه من القرينة لا يكاد يوجد في الفصيح في أمثال هذه المقامات، وليس ذلك كالبيت الذي ذكره فإنه من باب.
علفتها تبنا وماء باردا وهو مما لا كلام لنا فيه وأين البيض من الباذنجان. وقيل في الجواب أيضا عن ذلك: إن المؤمن يصح أن يطلق عليه بأنه لا جناح عليه والكافر مستحق للعقاب مغمور به يوم الحساب فلا يطلق عليه ذلك، وأيضا أن الكافر قد سد على نفسه طريق معرفة التحليل والتحريم فلذلك يخص المؤمن بالذكر ولا يخفى ما فيه.
وقال عصام الملة: الأظهر أن المراد أنه لا جناح فيما طعموا مما سوى هذه المحرمات إذا ما اتقوا ولم يأكلوا فوق الشبع ولم يأكلوا من مال الغير، وذكر الإيمان والعمل الصالح للإيذان بأن الاتقاء لا بد له منهما فإن من لا إيمان له لا يتقي وكذا من لا عمل صالح له فضمهما إلى الإيمان لأنهما ملاك الاتقاء، وتكرير التقوى والثبات على الإيمان للإشارة إلى أن ثبات نفي الجناح فيما يطعم على ثبات التقوى، وترك ذكر العمل الصالح ثانيا للإشارة إلى أن الإيمان بعد التمرن على العمل لا يدع أن يترك العمل. وذكر الإحسان بعد للإشارة إلى أن كثرة مزاولة التقوى والعمل الصالح ينتهي إلى الإحسان وهو أن تعبد الله تعالى كأنك تراه إلى آخر ما في الخبر انتهى. وفيه الغث والسمين.
وكلامهم الذي أشار إليه المرتضى في إيضاح وجه التكرير كثير فقال أبو علي الجبائي: إن الشرط الأول يتعلق بالزمان الماضي. والثاني يتعلق بالدوام على ذلك والاستمرار على فعله. والثالث يختص بمظالم العباد وبما يتعدى إلى الغير من الظلم والفساد. واستدل على اختصاص الثالث بذلك بقوله تعالى: وَأَحْسَنُوا فإن الإحسان إذا كان متعديا وجب أن تكون المعاصي التي أمروا باتقائها قبله أيضا متعدية وهو في غاية الضعف إذ لا تصريح في الآية بأن المراد بالإحسان الإحسان المتعدي ولا يمتنع أن يراد به فعل الحسن والمبالغة فيه وإن خص الفاعل ولم يتعد إلى غيره كما يقولون لمن بالغ في فعل الحسن أحسنت وأجملت، ثم لو سلّم أن المراد به الإحسان المتعدي فلم لا يجوز أن

(4/19)


يعطف فعل متعد على فعل لا يتعدى. ولو صرح سبحانه فقال: اتقوا القبائح كلها وأحسنوا إلى الناس لم يمتنع وذلك ظاهر، وقيل: إن الاتقاء الأول هو اتقاء المعاصي العقلية التي تخص المكلف ولا تتعداه. والإيمان الأول الإيمان بالله تعالى وبما أوجب الإيمان به والإيمان بقبح هذه المعاصي ووجوب تجنبها. والاتقاء الثاني هو اتقاء المعاصي السمعية والإيمان الثاني هو الإيمان بقبحها ووجوب تجنبها. والاتقاء الثالث يختص بمظالم العباد وهو كما ترى، وقيل: المراد بالأول اتقاء ما حرم عليهم أولا مع الثبات على الإيمان والأعمال الصالحة إذ لا ينفع الاتقاء بدون ذلك. وبالثاني اتقاء ما حرم عليهم بعد ذلك من الخمر ونحوه والإيمان التصديق بتحريم ذلك. وبالثالث الثبات على اتقاء جميع ذلك من السابق والحادث مع تحري الأعمال الجميلة. وهذا مراد من قال: إن التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة، وقيل: إنه باعتبار المراتب الثلاث للتقوى المبدأ والوسط والمنتهى وقد مر تفصيلها، وقيل: باعتبار الحالات الثلاث بأن يتقي الله تعالى ويؤمن به في السر ويجتنب ما يضر نفسه من عمل واعتقاد ويتقي الله تعالى ويؤمن به علانية ويجتنب ما يضر الناس ويتقي الله تعالى ويؤمن به بينه وبين الله تعالى بحيث يرفع الوسائط وينتهي إلى أقصى المراتب. ولما في هذه الحالة من الزلفى منه تعالى ذكر الإحسان فيها بناء على أنه كما فسره صلّى الله عليه وسلّم
في الخبر الصحيح «أن تعبد الله تعالى كأنك تراه» .
وقيل: باعتبار ما يتقي فإنه ينبغي أن يترك المحرمات توقيا من العقاب. والشبهات توقيا من الوقوع في الحرام.
وبعض المباحات حفظا للنفس عن الخسة وتهذيبا لها عن دنس الطبيعة، وقيل: المراد بالأول اتقاء الكفر وبالثاني اتقاء الكبائر وبالثالث اتقاء الصغائر، وقيل: إن التكرير لمجرد التأكيد ويجوز فيه العطف بثم كما صرح به ابن مالك في قوله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر: 453] ولا يخفى أن أكثر هذه الأقوال غير مناسبة للمقام، وذكر العلامة الطيبي أن معنى الآية أنه ليس المطلوب من المؤمنين الزهادة عن المستلذات وتحريم الطيبات وإنما المطلوب منهم الترقي في مدارج التقوى والإيمان إلى مراتب الإخلاص واليقين ومعارج القدس والكمال وذلك بأن يثبتوا على الاتقاء عن الشرك وعلى الإيمان بما يجب الإيمان وعلى الأعمال الصالحة لتحصل الاستقامة التامة التي يتمكن بها إلى الترقي إلى مرتبة المشاهدة ومعارج أن تعبد الله تعالى كأنك تراه وهو المعنى بقوله تعالى: «وَأَحْسَنُوا» إلخ وبها يمنح الزلفى عند الله تعالى ومحبته سبحانه المشار إليها بقوله عز وجل: «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» . وفي هذا النظم نتيجة مما
رواه الترمذي. وابن ماجة من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهد أن تكون بما بيد الله تعالى أوثق منك بما في يدك انتهى» .
وهو ظاهر جدا على تقدير أن تكون الآية في القوم الذين سلكوا طريق الترهب وهو قول مرجوح فتدبر.
وجملة وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ على سائر التقادير تذييل مقرر لمضمون ما قبله أبلغ تقرير، وذكر بعضهم أنه كان الظاهر والله يحب هؤلاء فوضع المحسنين موضعه إشارة إلى أنهم متصفون بذلك.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ جواب قسم محذوف أي والله ليعاملنكم معاملة من يختبركم ليتعرف حالكم بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ أي مصيد البر كما قال الكلبي مأكولا كان أو غير مأكول ما عدا المستثنيات كما سيأتي إن شاء الله تعالى فاللام للعهد. والآية كما أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل نزلت في عمرة الحديبية حيث ابتلاهم الله تعالى بالصيد وهم محرمون فكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم وكانوا متمكنين من صيدها أخذا بأيديهم وطعنا برماحهم وذلك قوله تعالى: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ فهموا بأخذها فنزلت.
وعن ابن عباس ومجاهد وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن الذي تناله الأيدي فراخ الطير وصغار الوحش والبيض والذي تناله الرماح الكبار

(4/20)


من الصيد.
واختار الجبائي أن المراد بما تناله الأيدي والرماح صيد الحرم مطلقا لأنه كيفما كان يأنس بالناس ولا ينفر منهم كما ينفر في الحل، وقيل: ما تناله الأيدي ما يتأتى ذبحه وما تناله الرماح ما لا يتأتى ذبحه، وقيل: المراد بذلك ما قرب وما بعد، وذكر ابن عطية أن الظاهر أنه سبحانه خص الأيدي بالذكر لأنها أعظم تصرفا في الاصطياد وفيها يدخل الجوارح والحبالات وما عمل بالأيدي من فخاخ وأشباك. وخص الرماح بالذكر لأنها أعظم ما يجرح به الصيد ويدخل فيها السهم ونحوه. وتنكير «شيء» كما قال غير واحد للتحقير المؤذن بأن ذلك من الفتن الهائلة التي تزل فيها أقدام الراسخين كالابتلاء بقتل الأنفس وإتلاف الأموال وإنما هو من قبيل ما ابتلي به أهل أيلة من صيد البحر. وفائدته التنبيه على أن من لم يثبت في مثل هذا كيف يثبت عند شدائد المحن. فمن بيانية أي بشيء حقير وهو الصيد.
واعترضه ابن المنير بأنه قد وردت هذه الصيغة بعينها في الفتن العظيمة كما في قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: 155] فالظاهر والله تعالى أعلم أن من للتبعيض، والمراد بما يشعر به اللفظ من التقليل والتبعيض التنبيه على أن جميع ما يقع الابتلاء به من هذه البلايا بعض من كل بالنسبة إلى مقدور الله تعالى وأنه تعالى قادر على أن يجعل ما يبتليهم به من ذلك أعظم مما يقع وأهول وأنه مهما اندفع عنهم ما هو أعظم في المقدور فإنما يدفعه عنهم إلى ما هو أخف وأسهل لطفا بهم ورحمة ليكون هذا التنبيه باعثا لهم على الصبر وحاملا على الاحتمال. والذي يرشد إلى هذا سبق الإخبار بذلك قبل حلوله لتوطين النفوس عليه فإن المفاجأة بالشدائد شديدة الألم والإنذار بها قبل وقوعها مما يسهل موقعها. وإذا فكر العاقل فيما يبتلي به من أنواع البلايا وجد المندفع منها عنه أكثر مما وقع فيه بإضعاف لا تقف عنده غاية فسبحان اللطيف بعباده انتهى.
وتعقبه مولانا شهاب الدين بأن ما ذكر بعينه أشار إليه الشيخ في دلائل الإعجاز لأن شيئا إنما يذكر لقصد التعميم نحو قوله سبحانه: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44] أو الإبهام وعدم التعيين أو التحقير لادعاء أنه لحقارته لا يعرف. وهنا لو قيل: ليبلونكم بصيد تم المعنى فإقحامها لا بد له من نكتة وهي ما ذكر، وأما ما أورده من الآية الأخرى فشاهد له عليه لأن المقصود فيه أيضا التحقير بالنسبة إلى ما دفعه الله تعالى عنهم كما صرح به المعترض نفسه مع أنه لا يتم الاعتراض به إلا إذا كان «ونقص» معطوفا على مجرور من ولو عطف على- شيء- لكان مثل هذه الآية بلا فرق انتهى.
وقال عصام الملة: يمكن أن يقال: التعبير بالشيء للإبهام المكنى به عن العظمة والتنوين للتعظيم أي بشيء عظيم في مقام المؤاخذة بهتكه إذا آخذ الله تعالى المبتلى به في الأمم السابقة بالمسخ والجعل قردة وخنازير ثم استظهر أن التعبير بذلك لإفادة البعضية، ومما قدمنا يعلم ما فيه. وقرأ إبراهيم «يناله أيديكم» بالياء لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ أي ليتعلق عمله سبحانه بمن يخافه بالفعل فلا يتعرض للصيد فإن علمه تعالى بأنه سيخافه وإن كان متعلقا به لكن تعلقه بأنه خائف بالفعل وهو الذي يدور عليه أمر الجزاء إنما يكون عند تحقق الخوف بالفعل، وإلى هذا يشير كلام البلخي. والغيب مصدر في موضع اسم الفاعل أي يخافه في الموضع الغائب عن الخلق، فالجار متعلق بما قبله.
وجوز أبو البقاء أن يكون في موضع الحال من من أو من ضمير الفاعل في «يخافه» أي يخافه غائبا عن الخلق.
وقال غير واحد: العلم مجاز عن وقوع المعلوم وظهوره. ومحصل المعنى ليتميز الخائف من عقابه الأخروي وهو غائب مترقب لقوة إيمانه فلا يتعرض للصيد من لا يخافه كذلك لضعف إيمانه فيقدم عليه، وقيل: إن هناك مضافا محذوفا، والتقدير ليعلم أولياء الله تعالى ومن على كل تقدير موصولة، واحتمال كونها استفهامية أي ليعلم جواب من

(4/21)


يخافه أي هذا الاستفهام بعيد. وقرىء ليعلم من الإعلام على حذف المفعول الأول أي ليعلم الله عباده إلخ، وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة فَمَنِ اعْتَدى أي تجاوز حد الله تعالى وتعرض للصيد بَعْدَ ذلِكَ الإعلام وبيان أن ما وقع ابتلاء من جهته سبحانه لما ذكر من الحكمة. وقيل: بعد التحريم والنهي، ورد بأن النهي والتحريم ليس أمرا حادثا ترتب عليه الشرطية بالفاء، وقيل: بعد الابتلاء ورد بأن الابتلاء نفسه لا يصلح مدارا لتشديد العذاب بل ربما يتوهم كونه عذرا مسوغا لتحقيقه.
وفسر بعضهم الابتلاء بقدرة المحرم على المصيد فيما يستقبل، وقال: ليس المراد به غشيان الصيود إياهم فإنه قد مضى، وأنت تعلم إن إرادة ذلك المعنى ليست في حيز القبول والمعول عليه ما أشرنا إليه أي فمن تعرض للصيد بعد ما بينا أن ما وقع من كثرة الصيد وعدم توحشه منهم ابتلاء مؤد إلى تعلق العلم بالخائف بالفعل أو تميز المطيع من العاصي فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ لأن التعرض والاعتداء حينئذ مكابرة محضة وعدم مبالاة بتدبير الله تعالى وخروج عن طاعته وانخلاع عن خوفه وخشيته بالكلية، ومن لا يملك زمام نفسه ولا يراعي حكم الله تعالى في أمثال هذه البلايا الهينة لا يكاد يراعيه في عظائم المداحض. والمتبادر على ما قيل: إن هذا العذاب الأليم في الآخرة، وقيل: هو في الدنيا.
فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق قيس بن سعد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: هو أن يوسع ظهره وبطنه جلدا ويسلب ثيابه وكان الأمر كذلك في الجاهلية أيضا، وقيل: المراد بذلك عذاب الدارين وإليه ذهب شيخ الإسلام. ومناسبة الآية لما قبلها على ما ذكره الأجهوري أنه سبحانه لما أمرهم أن لا يحرموا الطيبات. وأخرج من ذلك الخمر والميسر وجعلهما حرامين، وإنما أخرج بعد من الطيبات ما يحرم في حال دون حال وهو الصيد، ثم إنه عز اسمه شرع في بيان ما يتدارك به الاعتداء من الأحكام إثر بيان ما يلحقه من العذاب فقال عز من قائل:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ والتصريح بالنهي مع كونه معلوما لا سيما من قوله تعالى:
غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة: 1] لتأكيد الحرمة وترتيب ما يعقبه عليه، واللام في الصَّيْدَ للعهد حسبما سلف، وإطلاقه على غير المأكول شائع، وإلى التعميم ذهبت الإمامية، وأنشدوا لعلي كرم الله تعالى وجهه:
صيد الملوك ثعالب وأرانب ... وإذا ركبت فصيدي الأبطال
وخصه الشافعية بالمأكول قالوا: لأنه الغالب فيه عرفا، وأيد ذلك بما
رواه الشيخان «خمس يقتلن في الحل والحرم الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور» .
وفي رواية لمسلم والحية بدل العقرب، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة البحث. والحرم جمع حرام كردح جمع رداح والحرام والمحرم بمعنى والمراد به من أحرم بحج أو عمرة وإن كان في الحل وفي حكمه من كان في الحرم وإن كان حلالا، وقيل: المراد به من كان في الحرم وإن لم يكن محرما بنسك وفي حكمه المحرم وإن كان في الحل، وقال أبو علي الجبائي: الآية تدل على تحريم قتل الصيد على المحرم بنسك أينما كان وعلى من في الحرم كيفما كان معا، وقال علي بن عيسى: لا تدل إلا على تحريم ذلك على الأول خاصة، ولعل الحق مع علي لا مع أبيه، وذكر القتل دون الذبح ونحوه للإيذان بأن الصيد وإن ذبح في حكم الميتة، وإلى ذلك ذهب الإمام الأعظم. وأحمد. ومالك رضي الله تعالى عنهم، وهو القول الجديد للشافعي رضي الله تعالى عنه، وفي القديم لا يكون في حكم الميتة ويحل أكله للغير ويحرم على المحرم وَمَنْ قَتَلَهُ كائنا مِنْكُمْ حال كونه مُتَعَمِّداً أي ذاكرا لإحرامه عالما بحرمة قتل ما يقتله ومثله من قتله خطأ للسنة.
فقد أخرج ابن جرير عن الزهري قال: نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في الخطأ. وأخرج الشافعي وابن المنذر

(4/22)


عن عمرو بن دينار قال: رأيت الناس أجمعين يغرمون في الخطأ، وقال بعضهم: التقييد به بالعمد لأنه الأصل والخطأ ملحق به قياسا. واعترض بأن القياس في الكفارات مختلف فيه، والحنفية لا تراه، وقيل: التقييد به لأنه المورد،
فقد روي أنه عن لهم حمار وحشي فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله فقيل له: قتلته وأنت محرم فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسأله عن ذلك فأنزل الله تعالى الآية.
واعترض بأن الخبر على تقدير ثبوته إنما يدل على أن القتل من أبي اليسر كان عن قصد وهو غير العمد بالمعنى السابق إذ قد أخذ فيه العلم بالتحريم، وفعل أبي اليسر خال عن ذلك بشهادة الخبر إذ يدل أيضا على أن حرمة قتل المحرم الصيد علمت بعد نزول الآية. وأجيب بأنا لا نسلم أن أبا اليسر لم يكن عالما بالحرمة إذ ذاك.
فقد روي عن جابر بن عبد الله وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن الصيد كان حراما في الجاهلية حيث كانوا يضربون من قتل صيدا ضربا شديدا والمعلوم من الآية كون ذلك من شرعنا، وقيل: إن العلم بالحرمة جاء من قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ولعله أولى. وعن داود أنه لا شيء في الخطأ أخذا بظاهر الآية. وروى ابن المنذر ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن جبير وطاوس وأخرج أبو الشيخ عن ابن سيرين قال: من قتله ناسيا لإحرامه فعليه الجزاء ومن قتله متعمدا لقتله غير ناس لإحرامه فذاك إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. وأخرج ابن جرير عن الحسن. ومجاهد نحو ذلك، ومَنْ يجوز أن تكون شرطية وهو الظاهر ويجوز أن تكون موصولة، والفاء في قوله تعالى: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ جزائية على الأول وزائدة لشبه المبتدأ بالشرط على الثاني. وفَجَزاءٌ بالرفع والتنوين مبتدأ ومِثْلُ مرفوع على أنه صفته والخبر محذوف أي فعليه، وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي فواجبه أو فالواجب عليه جزاء مماثل لما قتله.
وجوز أبو البقاء أن يكون مِثْلُ بدلا والزجاج أن يكون جزاء مبتدأ ومِثْلُ خبره إذ التقدير جزاء ذلك الفعل أو المقتول مماثل لما قتله وبهذا قرأ الكوفيون ويعقوب، وقرأ باقي السبعة برفع «جزاء» مضافا إلى «مثل» .
واستشكل ذلك الواحدي بل قال: ينبغي أن لا يجوز لأن الجزاء الواجب للمقتول لا لمثله. ولا يخفى أن هذا طعن في المنقول المتواتر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وذلك غاية في الشناعة، وما ذكر مجاب عنه، أما أولا فبأن جزاء كما قيل مصدر مضاف لمفعوله الثاني أي فعليه أن يجزي مثل ما قتل ومفعوله الأول محذوف والتقدير فعليه أن يجزي المقتول من الصيد مثله ثم حذف المفعول الأول لدلالة الكلام عليه وأضيف المصدر إلى الثاني، وقد يقال لا حاجة إلى ارتكاب هذه المئونة بأن يجعل مصدرا مضافا إلى مفعوله من غير تقدير مفعول آخر على أن معنى أن يجزىء مثل أن يعطي المثل جزاء، وأما ثانيا فبأن تجعل الإضافة بيانية أي جزاء هو مثل ما قتل، وأما ثالثا فبأن يكون مِثْلُ مقحما كما في قولهم: مثلك لا يفعل كذا.
واعترض هذا بأنه يفوت عليه اشتراط المماثلة بين الجزاء والمقتول وكون جزائه المحكوم به ما يقاومه ويعادله وهو يقتضي المماثلة مما لا يكاد يسلم انفهامه من هذه الجملة كما لا يخفى.
وقرأ محمد بن مقاتل بتنوين جزاء ونصبه ونصب مِثْلُ أي فليجز جزاء أو فعليه أن يجزي جزاء مثل ما قتل، وقرأ السلمي برفع جزاء منونا ونصب مِثْلُ أما رفع جزاء فظاهر وأما نصب مثل فبجزاء أو بفعل محذوف دل جزاء عليه أي يخرج أو يؤدي مثل. وقرأ عبد الله «فجزاؤه» برفع جزاء مضافا إلى الضمير ورفع مثل على الابتداء والخبرية. والمراد عند الإمام الأعظم وأبي يوسف المثل باعتبار القيمة يقوم الصيد من حيث أنه صيد لا من حيث ما زاد عليه بالصنع في المكان الذي أصابه المحرم فيه أو في أقرب الأماكن إليه مما يباع فيه ويشري

(4/23)


وكذا يعتبر الزمان الذي أصابه فيه لاختلاف القيم باختلاف الأمكنة والأزمنة فإن بلغت قيمته قيمة هدى يخير الجاني بين أن يشتري بها ما قيمته قيمة الصيد فيهديه إلى الحرم وبين أن يشتري بها طعاما فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من غيره، ولا يجوز أن يطعم مسكينا أقل من نصف صاع ولا يمنع أن يعطيه أكثر ولو كان كل الطعام غير أنه إن فعل أجزأ عن إطعام مسكين نصف صاع وعليه أن يكمل بحسابه ويقع الباقي تطوعا وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوما فإن فضل ما لا يبلغ طعام مسكين تصدق به أو صام عنه يوما كاملا لأن الصوم أقل من يوم لم يعهد في الشرع وإن لم تبلغ قيمته قيمة هدي فإن بلغت ما يشتري به طعام مسكين يخير بين الإطعام والصوم وإن لم تبلغ إلا ما يشتري به مدا من الحنطة مثلا يخير بين أن يطعم ذلك المقدار وبين أن يصوم يوما كاملا لما قلنا فيكون قوله تعالى:
مِنَ النَّعَمِ تفسيرا للهدي المشتري بالقيمة على أحد وجوه التخيير فإن من فعل ذلك يصدق عليه أنه جزى بمثل ما قتل من النعم. ونظر فيه صاحب التقريب لأن قراءة رفع «جزاء ومثل» تقتضي أن يكون الجزاء مماثلا من النعم للصيد فإن كان الجزاء القيمة فليس مماثلا له منها بل الجزاء قيمة يشتري بها مماثل. وأجاب في الكشف بأن ما يشتري بالجزاء جزاء أيضا فإن طعام المساكين جزاء بالإجماع وهو مشترى بالقيمة. والحاصل أنه يصدق عليه أنه جزاء وأنه اشترى بالجزاء ولا تنافي بينهما، وادعى صاحب الهداية أن مِنَ النَّعَمِ بيان لما قتل وأن معنى الآية فجزاء هو قيمة ما قتل من النعم بجعل المثل بمعنى القيمة وحمل النعم على النعم الوحشي لأن الجزاء إنما يجب بقتله لا بقتل الحيوان الأهلي، وقد ثبت كما قال أبو عبيدة. والأصمعي أن النعم كما تطلق على الأهلي في اللغة تطلق على الوحشي، وكان كلام أبي البقاء حيث قال: يجوز أن يكون مِنَ النَّعَمِ حالا من الضمير في قَتَلَ لأن المقتول يكون من النعم مبنيا على هذا، وهو مع بعد إرادته من النظم الكريم خلاف المتبادر في نفسه، فإن المشهور أن النعم في اللغة الإبل والبقر والغنم دون ما ذكر، وقد نص على ذلك الزجاج وذكر أنه إذا أفردت الإبل قيل لها نعم أيضا وإن أفردت البقر والغنم لا تسمى نعما.
وقال محمد ونسب إلى الشافعي. ومالك. والإمامية أيضا: المراد بالمثل والنظير في المنظر فيما له نظير في ذلك لا في القيمة ففي الظبي شاة. وفي الضبع شاة. وفي الأرنب عناق. وفي اليربوع جفرة. وفي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة لأن الله تعالى أوجب مثل المقتول مقيدا بالنعم فمن اعتبر القيمة فقد خالف النص لأنها ليست بنعم ولأن الصحابة كعلي كرم الله تعالى وجه وعمر وعبد الله بن مسعود وغيرهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين أوجبوا في النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة إلى غير ذلك،
وجاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم كما رواه أبو داود «الضبع صيد وفيه شاة»
وما ليس له نظير من حيث الخلقة مثل العصفور، والحمام تجب فيه القيمة عند محمد كما هو عند الإمام الأعظم وصاحبه، وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه يعتبر المماثلة من حيث الصفات فأوجب في الحمام شاة لمشابهة بينهما من حيث إن كل واحد منهما يعب ويهدر. وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر ومقاتل رضي الله تعالى عنهم، وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال: أول من فدى طير الحرم بشاة عثمان رضي الله تعالى عنه، ولأبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى أطلق المثل والمثل المطلق هو المثل صورة ومعنى وهو المشارك في النوع وهو غير مراد هنا بالإجماع فبقي أن يراد المثل معنى وهو القيمة وهذا لأن المعهود في الشرع في إطلاق لفظ المثل أن يراد المشارك في النوع أو القيمة فقد قال تعالى في ضمان العدوان: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194] والمراد الأعم منها أعني المماثل في النوع إذا كان المتلف مثليا والقيمة إذا كان قيميا بناء على أنه مشترك معنوي، والحيوانات من القيميات شرعا إهدارا للماثلة الكائنة في تمام الصورة فيها تغليبا للاختلاف

(4/24)


الباطني في أبناء نوع واحد فما ظنك إذا انتفى المشاركة في النوع أيضا فلم يبق إلا مشاكلة في بعض الصورة كطول العنق والرجلين في النعامة مع البدنة ونحو ذلك في غيره فإذا حكم الشرع بانتفاء اعتبار المماثلة مع المشاكلة في تمام الصورة ولم يضمن المتلف بما شاركه في تمام نوعه بل بالمثل المعنوي فعند عدمها وكون المشاكلة في بعض الهيئة انتفاء الاعتبار أظهر إلا أن لا يمكن وذلك بأن يكون للفظ محمل يمكن سواه فالواجب إذا عهد المراد بلفظ في الشرع وتردد فيه في موضع يصح حمله على ذلك المعهود وغيره أن يحمل على المعهود وما نحن فيه كذلك فوجب المصير إليه وأن يحمل ما جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن صحابته الكرام رضي الله تعالى عنهم من الحكم بالنظير على أنه كان باعتبار التقدير بالقيمة إلا أن الناس إذ ذاك لما كانوا أرباب مواش كان الأداء عليهم منها أيسر لا على معنى أنه لا يجزىء غير ذلك، وحديث التقييد بالنعم قد علمت الجواب عنه، وذكر مولانا شيخ الإسلام أن الموجب الأصلي للجناية والجزاء المماثل للمقتول إنما هو قيمته لكن لا باعتبار أن الجاني يعمد إليها فيصرفها إلى المصارف ابتداء بل باعتبار أن يجعلها معيارا فيقدر بها إحدى الخصال الثلاث فيقيمها مقامها فقوله تعالى: مِثْلُ ما قَتَلَ وصف لازم للجزاء غير مفارق عنه بحال. وأما قوله سبحانه مِنَ النَّعَمِ فوصف له معتبر في ثاني الحال بناء على وصفه الأول الذي هو المعيار له ولما بعده من الطعام والصيام فحقهما أن يعطفا على الوصف المفارق لا على الوصف اللازم فضلا عن العطف على الموصوف كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ومما يرشد إلى أن المراد بالمثل هو القيمة قوله عز وجل:
يَحْكُمُ بِهِ أي بمثل ما قتل ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي حكمان عدلان من المسلمين لأن التقويم هو الذي يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون المماثلة في الصورة التي يستوفي في معرفتها كل أحد من الناس. وهذا ظاهر الورود على ظاهر قول محمد.
وقد يقال: إن هذه الجملة مرشدة إلى ما قلنا أيضا على رأي من يجعل مدار المماثلة بين الصيد والنعم المشاكلة والمضاهاة في بعض الأوصاف والهيآت مع تحقق التباين بينهما في بقية الأحوال فإن ذلك مما لا يهتدي إليه من أساطين أئمة الاجتهاد وصناديد أهل الهداية والرشاد إلا المؤيدون بالقوة القدسية. ألا يرى أن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ومن أسلفنا ذكره أوجبوا في قتل الحمامة شاة بناء على ما أثبت بينهما من المماثلة في العب والهدير مع أن النسبة بينهما من سائر الحيثيات كما بين الضب والنون بل السمك والسماك فكيف يفوض معرفة هذه الدقائق العويصة إلى رأي عدلين من آحاد الناس على أن الحكم بهذا المعنى إنما يتعلق بالأنواع لا بالأشخاص فبعد ما عين بمقابلة كل نوع من أنواع الصيد نوع من أنواع النعم يتم الحكم ولا يبقى عند وقوع خصوصيات الحوادث حاجة إلى حكم أصلا.
وقرأ محمد بن جعفر «ذو عدل»
وخرجها ابن جني على إرادة الإمام، وقيل: إن «ذو» تستعمل استعمال من للتقليل والتكثير، وليس المراد بها هنا الوحدة بل التعدد ويراد منه اثنان لأنه أقل مراتبه، وفي الهداية قالوا: والعدل الواحد يكفي والمثنى أولى لأنه أحوط وأبعد من الغلط، وعلى هذا لا حاجة إلى حمل «ذو» على المتعدد ولا على الإمام بل المراد منها الواحد إماما كان أو غيره، ومن اشترط الاثنين حمل العدد في الآية على القراءة المتواترة على الأولوية، والجملة صفة لجزاء أو حال من الضمير المستتر في خبره المقدر، وقيل: حال منه لتخصيصه بالصفة، وجوز ابن الهمام على قراءة رفع جزاء وإضافته أن تكون صفة لمثل كما أن تكون صفة لجزاء لأن مثلا لا تتعرف بالإضافة فجاز وصفها ووصف ما أضيف إليها بالجملة.
وقوله تعالى: هَدْياً حال مقدرة من الضمير في بِهِ كما قال الفارسي أو من جزاء بناء على أنه

(4/25)


خبر أو منه على تقدير كونه مبتدأ في رأي أو بدل من مِثْلُ فيمن نصبه أو من محله فيمن جره أو نصب على المصدر أي يهديه هديا والجملة صفة أخرى لجزاء بالِغَ الْكَعْبَةِ صفة لهديا لأن إضافته لفظية أَوْ كَفَّارَةٌ عطف على محل من النعم على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة صفة لجزاء على ما اختاره شيخ الإسلام. وقوله تعالى: طَعامُ مَساكِينَ عطف بيان لكفارة عند من يراه كالفارسي في النكرات أو بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف أي هي طعام مساكين.
وقوله سبحانه: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً عطف على طَعامُ وذلك إشارة إليه وصِياماً تمييز.
وخلاصة الآية كأنه قيل: فعليه جزاء أو فالواجب جزاء مماثل للمقتول هو من النعم أو طعام مساكين أو صيام بعددهم فحينئذ تكون المماثلة وصفا لازما للجزاء يقدر به الهدي والطعام والصيام. أما الأولان فبلا واسطة، وأما الثالث فبواسطة الثاني فيختار الجاني كلا منها بدلا عن الآخرين، وكون الاختيار للجاني هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله تعالى عنهما فعندهما إذا ظهر قيمة الصيد بحكم الحكمين وهي تبلغ هديا فله الخيار في أن يجعله هديا أو طعاما أو صوما لأن التخيير شرع رفقا بمن عليه فيكون الخيار إليه ليرتفق بما يختار كما في كفارة اليمين. وقال محمد- وحكاه أصحابنا عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أيضا-: إن الخيار إلى الحكمين في تعيين أحد الأشياء فإن حكما بالهدي يجب النظير على ما مر وإن حكما بالطعام أو الصيام فعلى ما قاله الإمام وصاحبه من اعتبار القيمة من حيث المعنى.
واستدل كما قيل على ذلك بالآية، ووجهه أنه ذكر الهدى منصوبا على أنه تفسير للضمير المبهم العائد على مِثْلُ في قوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ سواء كان حالا منه كما قدمنا أو تمييزا على ما قيل فيثبت أن المثل إنما يصير هديا باختيارهما وحكمهما أو هو مفعول لحكم الحاكم على أن يكون بدلا عن الضمير محمولا على محله كما في قوله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً [الأنعام: 161] وفي ذلك تنصيص على أن التعيين إلى الحكمين. ثم لما ثبت ذلك في الهدي ثبت في الطعام والصيام لعدم القائل بالفصل لأنه سبحانه عطفهما عليه بكلمة أو وهي عند غير الشعبي. والسدي. وابن عباس رضي الله تعالى عنهم في رواية للتخيير فيكون الخيار إليهما وأجاب عن ذلك غير واحد من أصحابنا بأن الاستدلال إنما يصح لو كان كفارة معطوفة على هديا وليس كذلك لاختلاف إعرابهما وإنما هي معطوفة على قوله تعالى: فَجَزاءٌ بدليل أنه مرفوع وكذا قوله: أَوْ عَدْلُ إلخ فلم يكن في الآية دلالة على اختيار للحكمين في الطعام والصيام وإذا لم يثبت الخيار فيهما للحكمين لم يثبت في الهدي لعدم القائل بالفصل وإنما يرجع إليهما في تقديم المتلف لا غير، ثم الاختيار بعد ذلك إلى من عليه رفقا به على أن في توجيه الاستدلال على ما قاله أكمل الدين في العناية إشكالا لأن ذكر الطعام والصيام بكلمة أو لا يفيد المطلوب إلا إذا كان كفارة منصوبا على ما هو قراءة عيسى بن عمر النحوي وهي شاذة، والشافعي لا يرى الاستدلال بالقراءة الشاذة لا من حيث إنها كتاب ولا من حيث إنها خبر كما عرف في الأصول.
واعترض مولانا شيخ الإسلام على عطف كَفَّارَةٌ على جزاء وقد ذهب إليه أجلة المفسرين والفقهاء بأنه لا يبقى حينئذ في النظم الكريم ما يقدر به الطعام والصيام، والالتجاء إلى القياس على الهدي تعسف لا يخفى وقد علمت ما اختاره. والآية عليه أيضا لا تصلح دليلا على مدعي الخصم كما هو ظاهر على أن الظاهر منها كما قاله ابن الهمام أن الاختيار لمن عليه فإن مرجع ضمير المحذوف من الخبر أو متعلق المبتدأ إليه بناء على أن التقدير من الضأن أو الثني من غيره عند أبي حنيفة لأن مطلق اسم الهدي ينصرف إليه كما في هدي المتعة والقران. واعترض عليه بأن اسم الهدي قد ينصرف إلى غيره كما إذا قال: إذا فعلت كذا فثوبي هذا هدي فليكن في محل النزاع كذلك. وأجيب بأن

(4/26)


الكلام في مطلق الهدي وما ذكر ليس كذلك لأن الإشارة إلى الثوب قيدته، وعند محمد يجزىء صغار النعم لأن الصحابة كما تقدم أوجبوا عناقا وجفرة فدل على جواز ذلك في باب الهدي، وعن أبي يوسف روايتان رواية كقول الإمام، وأخرى كقول محمد وهي التي في المبسوط. والأسرار. وغيرهما، وعند أبي حنيفة يجوز الصغار على وجه الإطعام فيجوز أن يكون حكم الصحابة رضي الله تعالى عنهم كان على هذا الاعتبار فمجرد فعلهم حينئذ لا ينافي ما ذهب إليه الإمام فلا ينتهض حجة عليه.
وإذا اختار الهدي وبلغ ما يضحي به فلا يذبح إلا بالحرم وهو المراد بقوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ إلا أن ذكر الكعبة للتعظيم. ولو ذبحه في الحل لا يجزيه عن الهدي بل عن الإطعام فيشترط أن يعطي كل مسكين قيمة نصف صاع حنطة أو صاع من غيرها، ويجوز أن يتصدق بالشاة الواقعة هديا على مسكين واحد كما في هدي المتعة. ولا يتصدق بشيء من الجزاء على من لا تقبل شهادته له، ويجوز على أهل الذمة والمسلم أحب. ولو أكل من الجزاء غرم قيمة ما أكل، ولا يشترط في الإطعام أن يكون في الحرم.
ونقلوا عن الشافعي أنه يشترط ذلك اعتبارا له بالهدي والجامع التوسعة على سكان الحرم، ونحن نقول: الهدي قربة غير معقولة فيختص بمكان أو زمان أما الصدقة فقربة معقولة في كل زمان ومكان كالصوم فإنه يجوز في غير الحرم بالإجماع فإن ذبح في الكوفة مثلا أجزأه عن الطعام إذا تصدق باللحم، وفيه وفاء بقيمة الطعام لأن الإراقة لا تنوب عنه، ولو سرق هذا المذبوح أو ضاع قبل التصدق به بقي الواجب عليه كما كان. وهذا بخلاف ما لو كان الذبح في الحرم حيث يخرج عن العهدة. وإن سرق المذبوح أو ضاع قبل التصدق به وإذا وقع الاختيار على الطعام يقوم المتلف بالقيمة ثم يشتري بالقيمة طعام ويتصدق به على ما أشرنا إليه أولا. وفي الهداية يقوم المتلف بالطعام عندنا لأنه المضمون فتعتبر قيمته.
ونقل حميد الدين الضرير عن محمد أنه يقوم النظير لأنه الواجب عينا إذا كان للمقتول نظير، وأنت تعلم أنه لو سلّم أن النظير هو الواجب عينا عند اختيار الهدي لم يلزم منه وجوب تقديمه عند اختيار خصلة أخرى فكيف وهو ممنوع، وإن اختار الصيام فعلى ما في الهداية يقوم المقتول طعاما ثم يصوم عن طعام كل مسكين يوما على ما مر لأن تقدير الصيام بالمقتول غير ممكن إذ لا قيمة للصيام فقدرناه بالطعام، والتقدير على هذا الوجه معهود في الشرع كما في الفدية. وتمام البحث في الفروع. والكفارة والطعام في الآية على ما يشعر به كلام بعض المفسرين بالمعنى المصدري ولو أبقيا على الظاهر لصح هذا، وما ذكرنا من عطف «كفارة» إنما هو على قراءة جزاء بالرفع. وعلى سائر القراءات يكون خبر مبتدأ محذوف والجملة معطوفة على جملة مِنَ النَّعَمِ.
وذكر الشهاب أنه يجوز في «كفارة» على قراءة جزاء بالنصب أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي الواجب عليه كفارة وأن يقدر هناك فعل أي أن يجزىء جزاء فيكون «أو كفارة» عطفا على أن يجزىء وهو مبتدأ مقدم عليه خبره.
وقرىء أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ على الإضافة لتبيين نوع الكفارة بناء على أنها بمعنى المكفر به وهي عامة تشمل الطعام وغيره، وكذا الطعام يكون كفارة وغيرها فبين المتضايفين عموم وخصوص من وجه كخاتم جديد. وقال أبو حيان: إن الطعام ليس جنسا للكفارة إلا بتجوز بعيد جدا فالإضافة إنما هي إضافة الملابسة وليس بشيء.
وقرأ الأعرج «أو كفارة طعام مسكين» على أن التبيين يحصل بالواحد الدال على الجنس. وقرىء «أو عدل» بكسر العين، والفرق بينهما إن عدل الشيء كما قال الفراء ما عادله من غير جنسه كالصوم والإطعام وعدله ما عدل به

(4/27)


في المقدار كأن المفتوح تسمية بالمصدر والمكسور بمعنى المفعول، وقال البصريون: العدل والعدل كلاهما بمعنى المثل سواء كان من الجنس أو من غيره. وقال الراغب: العدل والعدل متقاربان لكنه بالفتح فيما يدرك بالبصيرة كالأحكام وبالكسر فيما يدرك بالحواس كالعديل فالعدل بالفتح هو التقسيط على سواء. وعلى هذا
روي بالعدل قامت السماوات
تنبيها على أنه لو كان ركن من الأركان الأربعة في العالم زائدا على الآخر أو ناقصا عنه على خلاف مقتضى الحكمة لم يكن العالم منتظما.
لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ متعلق بالاستقرار الذي تعلق به المقدر، وقيل: بجزاء، وقيل: بصيام أو بطعام، وقيل:
بفعل مقدر وهو جوزي أو شرعنا ذلك ونحوه، والوبال في الأصل الثقل ومنه الوابل للمطر الكثير والوبيل للطعام الثقيل الذي لا يسرع هضمه والمرعى الوخيم ولخشبة القصار وضمير «أمره» إما لله تعالى أو لمن قتل الصيد أي ليذوق ثقل فعله وسوء عاقبة هتك حرمة ما هو فيه أو الثقل الشديد على مخالفة أمر الله تعالى القوي، وعلى هذا لا بد من تقدير مضاف كما أشرنا إليه لأن أمر الله تعالى لا وبال فيه وإنما الوبال في مخالفته.
عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ لكم من الصيد وأنتم محرمون فلم يجعل فيه إثما ولم يوجب فيه جزاء أو لم يؤاخذكم على ما كان منكم في الجاهلية من ذلك مع أنه ذنب عظيم أيضا حيث كنتم على شريعة إسماعيل عليه السلام والصيد محرم فيها، وقد مر رواية التحريم جاهلية والمؤاخذة على قتل الصيد بالضرب الوجيع وَمَنْ عادَ إلى مثل ذلك فقتل الصيد متعمدا وهو محرم فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ أي فهو ينتقم الله تعالى منه لأن الجزاء إذا وقع مضارعا مثبتا لم تدخله الفاء ما لم يقدر المبتدأ على المشهور، وكذا المنفي بلا، وجوز السمين أن تكون من موصولة ودخلت الفاء لشبه المبتدأ بالشرط وهي زائدة والجملة بعدها خبر ولا حاجة حينئذ إلى إضمار المبتدأ. والمراد بالانتقام التعذيب في الآخرة، وأما الكفارة فعن عطاء. وإبراهيم. وابن جبير. والحسن. والجمهور أنها واجبة على العائد فيتكرر الجزاء عندهم بتكرر القتل.
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وشريح أنه إن عاد لم يحكم عليه بكفارة حتى أنهم كانوا يسألون المستفتي هل أصبت شيئا قبله؟ فإن قال: نعم لم يحكم عليه وإن قال لا حكم عليه تعلقا بظاهر الآية.
وأنت تعلم أن وعيد العائد لا ينافي وجوب الجزاء عليه وإنما لم يصرح به لعلمه فيما مضى، وقيل: معنى الآية ومن عاد بعد التحريم إلى ما كان قبله وليس بالبعيد، وأما حمل الانتقام على الانتقام في الدنيا بالكفارة وإن كان محتملا لكنه خلاف الظاهر. وكذا كون المراد ينتقم منه إذا لم يكفر. وقد اختلفوا فيما إذا اضطر محرم إلى أكل الميتة أو الصيد فقال زفر: يأكل الميتة لا الصيد لتعدد جهات حرمته عليه، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يتناول الصيد ويؤدي الجزاء لأن حرمة الميتة أغلظ ألا ترى أن حرمة الصيد ترتفع بالخروج من الإحرام فهي مؤقتة بخلاف حرمة الميتة فعليه أن يقصد أخف الحرمتين دون أغلظهما. والصيد وإن كان محظور الإحرام لكن عند الضرورة يرتفع الحظر فيقتله ويأكل منه ويؤدي الجزاء كما في المبسوط.
وفي الخانية المحرم إذا اضطر إلى ميتة وصيد فالميتة أولى في قول أبي حنيفة. ومحمد.
وقال أبو يوسف. والحسن: يذبح الصيد. ولو كان الصيد مذبوحا فالصيد أولى عند الكل. ولو وجد لحم صيد ولحم آدمي كان لحم الصيد أولى ولو وجد صيدا وكلبا فالكلب أولى لأن في الصيد ارتكاب محظورين.
وعن محمد الصيد أولى من لحم الخنزير انتهى. وفي هذا خلاف ما ذكر في المبسوط وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب

(4/28)


لا يغالب ذُو انْتِقامٍ شديد فينتقم ممن يتعدى حدوده ويخالف أوامره ويصر على معاصيه أُحِلَّ لَكُمْ أيها المحرمون صَيْدُ الْبَحْرِ أي ما يصاد في الماء بحرا كان أو نهرا أو غديرا وهو ما يكون توالده ومثواه في الماء مأكولا كان أو غيره كما في البدائع. وفي مناسك الكرماني الذي رخص من صيد البحر المحرم هو السمك خاصة وأما نحو طيره فلا رخصة فيه له والأول هو الأصح وَطَعامُهُ أي ما يطعم من صيده. وهو عطف على «صيد» من عطف الخاص على العام. والمعنى أحل لكم التعرض لجميع ما يصاد في المياه والانتفاع به وأكل ما يؤكل منه وهو السمك عندنا. وعند ابن أبي ليلى الصيد والطعام على معناهما المصدري وقدر مضافا في صيد البحر وجعل ضمير «طعامه» راجعا إليه لا إلى البحر أي أحل لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه وتأكلوه فيحل عنده أكل جميع حيوانات البحر من حيث أنها حيواناته، وقيل: المراد بصيد البحر ما صيد ثم مات وبطعامه ما قذفه البحر ميتا، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وابن عمر. وقتادة.
وقيل: المراد بالأول الطري وبالثاني المملوح. وسمي طعاما لأنه يدخر ليطعم فصار كالمقتات به من الأغذية وروي ذلك عن ابن المسيب وابن جرير ومجاهد وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفيه بعد.
وأبعد منه كون المراد بطعامه ما ينبت بمائة من الزروع والثمار. وقرىء «وطعمه» مَتاعاً لَكُمْ نصب على أنه مفعول له لأحل أي تمتيعا. وجعله في الكشاف مختصا بالطعام كما أن «نافلة» في باب الحال من قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً [الأنبياء: 72] مختص بيعقوب عليه السلام، والذي حمله على ذلك كما قال الشهاب مذهبه وهو مذهب إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه من أن صيد البحر ينقسم إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل وأن طعامه هو المأكول منه إلا أنه أورد عليه أنه يؤدي إلى أن الفعل الواحد المسند إلى فاعلين متعاطفين يكون المفعول له المذكور بعدهما لأحدهما دون الآخر كقام زيد وعمرو إجلالا لك على أن الإجلال مختص بقيام أحدهما وفيه إلباس.
وأما الحال في الآية المذكورة فليست نظيرة لهذا لأن فيه قرينة عقلية ظاهرة لأن النافلة ولد الولد فلا تعلق لها بإسحاق لأنه ولد صلب لإبراهيم عليهما السلام. وعلى غير مذهب الإمام لا اختصاص للمفعول له بأحدهما وهو ظاهر جلي.
وقيل: نصب على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر أي متعكم به متاعا، وقيل: مؤكد لمعنى «أحل» فإنه في قوة متعكم به تمتيعا كقوله كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء: 24] وقيل وليس بشيء: إنه حال مقدرة من طعام أي مستمتعا به للمقيمين منكم يأكلونه طريا وَلِلسَّيَّارَةِ منكم يتزودونه قديدا وهو مؤنث سيار باعتبار الجماعة كما قال الراغب.
وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ وهو ما توالده ومثواه في البر مما هو ممتنع لتوحشه الكائن في أصل الخلقة فيدخل الظبي المستأنس ويخرج البعير والشاة المتوحشان لعروض الوصف لهما، وكون زكاة الظبي المستأنس بالذبح والأهلي المتوحش بالعقر لا ينافيه لأن الذكاة بالذبح والعقر دائران مع الإمكان وعدمه لا مع الصيدية وعدمها.
واستثنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمسا.
ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمس من الدواب. ليس على المحرم في قتلهن جناح العقرب والفأرة والكلب العقور والغراب والحدأة»
وقد تقدم ما في رواية لمسلم وجاء تسميتهن فواسق، وفي فتح القدير ويستثنى من صيد البر بعضه كالذئب والغراب والحدأة وأما باقي الفواسق فليست بصيود. وأما باقي السباع فالمنصوص عليه في ظاهر الرواية عدم الاستثناء وأنه يجب بقتلها الجزاء ولا يجاوز شاة إن ابتدأها المحرم وإن ابتدأته فلا شيء عليه وذلك كالأسد، والفهد، والنمر، والصقر، والبازي، وأما صاحب البدائع فيقسم البري إلى مأكول وغيره، والثاني إلى ما يبتدىء بالأذى غالبا كالأسد.
والذئب. والنمر وإلى ما ليس كذلك كالضبع، والفهد. والثعلب فلا يحل قتل الأول والأخير إلا أن يصول ويحل قتل

(4/29)


الثاني ولا شيء فيه وإن لم يصل، وجعل ورود النص في الفواسق ورودا فيها دلالة ولم يحك خلافا لكن في الخانية، وعن أبي يوسف الأسد بمنزلة الذئب. وفي ظاهر الرواية السباع كلها صيد إلا الكلب والذئب ولعل استثناء الذئب لذكره في المستثنيات على ما أخرجه أبو شيبة. والدارقطني. والطحاوي.
وقيل: لأنه المراد بالكلب العقور في الخبر السابق، وقيل: وأما الكلب فقد جاء استثناؤه في الحديث إلا أنه وصف منه بالعقورية ولعل الإمام إنما يعتبر الجنس.
ونظر فيه بأنه يفضي إلى إبطال الوصف المنصوص عليه. وأجيب بأنه ليس للقيد بل لإظهار نوع إذائه فإن ذلك طبع فيه، وقال سعدي جلبي: لو صح هذا النظر يلزم اعتبار مفهوم الصفة بل سائر المفاهيم وهو خلاف ما في أصولنا، وأما كون السباع كلها صيدا إلا ما استثني ففيه خلاف للشافعي رضي الله تعالى عنه أيضا فعنده هي داخلة في الفواسق المستثنيات قياسا أو ملحقة بها دلالة أو لأن الكلب العقور يتناولها لغة.
وأجاب بعض الأصحاب بأن القياس على الفواسق ممتنع لما فيه من إبطال العدد وكذلك الإلحاق بها دلالة لأن الفواسق مما تعدو علينا للقرب منا والسبع ليس كذلك لبعده عنا فلا يكون في معنى الفواسق ليلحق بها، واسم الكلب وإن تناوله لغة لم يتناوله عرفا والعرف أقوى وأرجح في هذا الموضع كما في الإيمان لبنائه على الاحتياط، وفيه بحث طويل الذيل فتأمل.
وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «حرم عليكم صيد» ببناء حرم للفاعل ونصب صيد أي وحرم الله عليكم صيد البر ما دُمْتُمْ حُرُماً أي محرمين.
وقرىء «دمتم» بكسر الدال كخفتم من دام يدام وذلك لغة فيها. وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «حرما» بفتحتين أي ذوي حرم بمعنى إحرام أو على المبالغة،
وظاهر الآية يوجب حرمة ما صاده الحلال على المحرم وإن لم يكن له مدخل فيه وهو قول ابن عباس، وابن عمر، ونقل عن علي كرم الله تعالى وجهه،
وجماعة من السلف، واحتج له أيضا بما
أخرجه مسلم عن الصعب بن حثامة الليثي أنه أهدى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حمارا وحشيا، وفي رواية حمار وحش، وفي رواية من لحم حمار وحش، وفي رواية من رجل حمار وحش، وفي رواية عجز حمار وحش يقطر دما، وفي رواية شق حمار وحش، وفي أخرى عضوا من لحم صيد وهو عليه الصلاة والسلام بالأبواء أو بودان فرده عليه صلّى الله عليه وسلّم قال: فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما في وجهي قال: «إنا لم نرده عليك إلّا أنا حرم» .
وعن أبي هريرة، وعطاء، ومجاهد وابن جبير ورواه الطحاوي عن عمر وطلحة، وعائشة رضي الله تعالى عنهم أنه يحل له أكل ما صاده الحلال وإن صاده لأجله إذا لم يدل عليه ولم يشر إليه ولا أمره بصيده. وكذا ما ذبحه قبل إحرامه وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه على ما اختاره الطحاوي لأن الخطاب للمحرمين فكأنه قيل: وحرم عليكم ما صدتم في البر فيخرج منه مصيد غيرهم، أو يقال: إن المراد صيدهم حقيقة أو حكما وصورة الدلالة أو الأمر من الشق الثاني، وعن مالك، والشافعي، وأحمد، وداود رحمهم الله تعالى لا يباح ما صيد له لما
رواه أبو داود.
والترمذي والنسائي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحم الصيد حلال لكم وأنتم محرمون ما لم تصيدوه أو يصاد لكم»
وأجيب: بأنه
قد روى محمد عن أبي حنيفة عن ابن المنكدر عن طلحة بن عبيد الله رضي الله تعالى عنه «تذاكرنا لحم الصيد يأكله المحرم والنبي صلّى الله عليه وسلّم نائم فارتفعت أصواتنا فاستيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
فيم تتنازعون؟ فقلنا: في لحم الصيد يأكله المحرم فأمرنا بأكله» ،
وروى الحافظ أبو عبد الله الحسين عن أبي حنيفة

(4/30)


عن هشام بن عروة عن أبيه عن جده الزبير بن العوام قال: «كنا نحمل لحم الصيد صفيفا (1) وكنا نتزوده وكنا نأكله ونحن محرمون مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» .
وأخرج مسلم عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجا وخرجنا معه فصرف نفرا من أصحابه فيهم أبو قتادة فقال: خذوا ساحل البحر حتى تلقوني قال: فأخذوا ساحل البحر فلما انصرفوا قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحرموا كلهم إلا أبا قتادة فإنه لم يحرم فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا فنزلوا فأكلوا من لحمها قال فقالوا: أكلنا لحما ونحن محرمون قال: فحملوا ما بقي من لحم الأتان فلما أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: يا رسول الله إنا كنا أحرمنا وكان أبو قتادة لم يحرم فرأينا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا فنزلنا فأكلنا من لحمها فقلنا: نأكل لحم صيد ونحن محرمون فحملنا ما بقي من لحمها فقال عليه الصلاة والسلام:
هل معكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟ قالوا: لا قال: فكلوا ما بقي من لحمها» .
وفي رواية لمسلم أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «هل عندكم منه؟ شيء قالوا: معنا رجله فأخذها عليه الصلاة والسلام فأكلها» .
وحديث جابر مؤول بوجهين الأول كون اللام للملك، والمعنى أن يصاد ويجعل له فيكون مفاده تمليك عين الصيد من المحرم وهو ممتنع أن يتملكه فيأكل من لحمه، والثاني الحمل على أن المراد أن يصاد بأمره وهذا لأن الغالب في عمل الإنسان لغيره أن يكون بطلب منه، والتزام التأويل دفعا للتعارض كما قال غير واحد. وقال ابن الهمام وقد يقال: القواعد تقتضي أن لا يحكم بالتعارض بين حديث جابر وبين الخبرين الأولين من هذه الأخبار الثلاثة لأن قول طلحة: فأمرنا بأكله مقيد عندنا بما إذا لم يدله المحرم على الصحيح خلافا لأبي عبد الله الجرجاني ولا أمره بقتله على ما يدل عليه حديث أبي قتادة فيجب تخصيصه بما إذا لم يصد للمحرم بالحديث الآخر.
وحديث الزبير حاصله نقل وقائع أخبار وهي لا عموم لها فيجوز كون ما كانوا يحملونه من لحوم الصيد للتزود ما لم يصد لأجل المحرمين بل هو الظاهر لأنهم يتزودونه من الحضر ظاهرا والإحرام بعد الخروج إلى الميقات، فالأولى الاستدلال على أصل المطلوب بحديث أبي قتادة المذكور على وجه المعارضة فإنه أفاد أنه عليه الصلاة والسلام لم يجب بحله لهم حتى سألهم عن موانع الحل أكانت. موجودة أم لا فلو كان من الموانع أن يصاد لهم لنظمه صلّى الله عليه وسلّم في سلك ما يسأل عنه منها في التفحص عن الموانع ليجيب بالحل عند خلوه عنها.
وهذا المعنى كالصريح في نفي كون الاصطياد مانعا فيعارض حديث جابر ويقدم عليه لقوة ثبوته إذ هو في الصحيحين وغيرهما من الكتب الستة بخلاف ذلك بل قيل في حديث جابر انقطاع لأن المطلب في سنده لم يسمع من جابر عند غير واحد، وكذا في رجاله من فيه لين، وبعد ثبوت ما ذهبنا إليه بما ذكرنا يقوم دليل على ما ذكر من التأويل انتهى. وأنت تعلم أن في حديث جابر أيضا شيئا من جهة العربية ولعل الأمر فيه سهل.
بقي أن حديث الصعب بظاهره يعارض ما استدل به أهل المذهبين الأخيرين، واختار بعض الحنفية في الجواب بأن فيه اضطرابا ليس مثله في حديث قتادة حتى
روى عمرو بن أمية الضمري عن أبيه أن الصعب أهدى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عجز حمار وحش بالجحفة فأكل منه عليه الصلاة والسلام وأكل القوم
فكان حديث قتادة أولى وقد وقع ما وقع فيه في الحج كما تحكيه الرواية التي ذكرناها، ومعلوم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يحج بعد الهجرة إلا حجة الوداع، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه في الجواب: يحتمل أن يكون صلّى الله عليه وسلّم علم أنه صيد له فرده عليه فلا يعارض حديث جابر،
__________
(1) اي قديدا اه منه. [.....]

(4/31)


وتعليله عليه الصلاة والسلام الرد بأنه محرم لا يمنع من كونه صيد له لأنه إنما يحرم الصيد على الإنسان إذا صيد له بشرط أن يكون محرما، فبين صلّى الله عليه وسلّم الشرط الذي يحرم به،
وقيل: إن جابرا إنما أهدى حمارا فرده صلّى الله عليه وسلّم لامتناع تملك المحرم الصيد،
ولا يخفى أن الروايات الدالة على البعضية أكثر ولا تعارض بينها فتحمل رواية أنه أهدى حمارا على أنه من إطلاق اسم الكل على البعض ويمتنع هنا العكس إذ إطلاق الرجل مثلا على كل الحيوان غير معهود، وقد صرحوا أنه لا يجوز أن يطلق على زيد أصبع ونحوه لأن شرط إطلاق اسم البعض على الكل التلازم كالرقبة والرأس على الإنسان فإنه لا إنسان دونهما بخلاف نحو الرجل والظفر، وأما إطلاق العين على الرؤية فليس من حيث هو إنسان بل من حيث هو رقيب وهو من هذه الحيثية لا يتحقق بلا عين أو هو أحد معاني المشترك اللفظي كما عده كثير منها فليتيقظ.
وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما نهاكم عنه من الصيد أو في جميع المعاصي التي من جملتها ذلك الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ لا إلى غيره حتى يتوهم الخلاص من أخذه تعالى بالالتجاء إلى ذلك الغير.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا علميا لا تُحَرِّمُوا بتقصيركم في السلوك طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ من مكاشفات الأحوال وتجليات الصفات وَلا تَعْتَدُوا بظهور النفس بصفاتها وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي اجعلوا ما من الله تعالى به عليكم من علوم التجليات ومواهب الأحوال والمقامات غذاء قلوبكم حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ في حصول ذلك لكم بأن تردوها منه وله، وجعل غير واحد هذا خطابا للواصلين من أرباب السلوك حيث أرادوا الرجوع إلى حال أهل البدايات من المجاهدات فنهوا عن ذلك وأمروا بأكل الحلال الطيب، وفسروا الحلال بما وصل إلى المعارف من خزائن الغيب بلا كلفة، والطيب ما يقوي القلب في شوق الله تعالى وذكر جلاله، وقيل: الحلال الطيب ما يأكل على شهود وإلا فعلى ذكر، فإن الأكل على الغفلة حرام في شرع السلوك، وقال آخرون: الحلال الطيب هو الذي يراه العارف في خزانة القدر فيأخذه منها بوصف الرضا والتسليم، والحرام ما قدر لغيره وهو يجتهد في طلبه لنفسه لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وهو الحلف لملالة النفس وكلالة القوى وغلبة سلطان الهوى، وعدوا من اللغو في اليمين الإقسام على الله تعالى بجماله وجلاله سبحانه عند غلبة الشوق ووجدان الذوق أن يرزقه شيئا من إقباله عز وجل ووصاله فإن ذلك لغو في شريعة الرضا ومذهب التسليم. والذي يقتضيه ذلك ما أشير إليه بقوله:
أريد وصاله ويريد هجري ... فأترك ما أريد لما يريد
لكن لا يؤاخذ الله تعالى عليه الحالف لعلمه بضعف حاله. وعدوا من ذلك أيضا ما يجري على لسان السالكين في غلبة الوجد من تجديد العهد وتأكيد العقد كقول بعضهم:
وحقك لا نظرت إلى سواكا ... بعين مودة حتى أراكا
فإن ذلك ينافي التوحيد وهل في الدار ديار كلا بل هو الله الواحد القهار وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ وذلك إذا عزمتم على الهجران وتعرضتم للخذلان عن صميم الفؤاد فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ وهي على ما قال البعض الحواس الخمس الظاهرة والحواس الخمس الباطنة مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ وهم القلب والسر والروح والخفي، وطعامهم الشوق، والمحبة، والصدق، والإخلاص، والتفويض، والتسليم، والرضا، والإنس، والهيبة، والشهود، والكشوف، والأوسط الذكر، والفكر، والشوق، والتوكل، والتعبد، والخوف، والرجاء، وإطعام الحواس ذلك أن يشغلها به أَوْ كِسْوَتُهُمْ لباس التقوى أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ وهي رقبة النفس فيحررها من عبودية الحرص والهوى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ولم يستطع فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فيمسك في اليوم الأول عما عزم عليه وفي اليوم الثاني

(4/32)


عما لا يعنيه وفي اليوم الثالث عن العود إليه، وقيل كنى سبحانه بصيام ثلاثة أيام عن التوبة والاستقامة عليها ما دامت الدنيا، فقد قيل: الدنيا ثلاثة أيام، يوم مضى، ويوم أنت فيه، ويوم لا تدري ما الله سبحانه قاض فيه وَأَطِيعُوا اللَّهَ بالفناء فيه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ بالبقاء بعد الفناء وَاحْذَرُوا ظهور ذلك بالنظر إلى نفوسكم فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ ولم يقصر فيه فالقصور منكم لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا بالتقليد وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الأعمال البدنية الشرعية جُناحٌ فِيما طَعِمُوا من المباحات إِذا مَا اتَّقَوْا الشبهة والإسراف وَآمَنُوا بالتحقيق وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الأعمال القلبية الحقيقية من تخلية القلب عما سواه سبحانه ومن تحليته بالأحوال المضادة لهواه من الصدق، والإخلاص، والتوكل، والتسليم ونحو ذلك ثُمَّ اتَّقَوْا شرك الأنانية وَآمَنُوا بالهوية ثُمَّ اتَّقَوْا هذا الشرك وهو الفناء وَأَحْسَنُوا بالبقاء به جل شأنه قاله النيسابوري.
وقال غيره: ليس على الذين آمنوا الإيمان العيني بتوحيد الأفعال وعملوا بمقتضى إيمانهم أعمالا تخرجهم عن حجب الأفعال وتصلحهم لرؤية أفعال الحق جناح وضيق فيما تمتعوا به من أنواع الحظوظ إذا ما اجتنبوا بقايا أفعالهم واتخذوا الله تعالى وقاية في صدور الأفعال منهم وآمنوا بتوحيد الصفات وعملوا ما يخرجهم عن حجبها ويصلحهم لمشاهدة الصفات الإلهية بالمحو فيها ثم اتقوا بقايا صفاتهم واتخذوا الله تعالى وقاية في ظهور صفاته عليهم وآمنوا بتوحيد الذات ثم اتقوا بقية ذواتهم واتخذوا الله تعالى وقاية في وجودهم بالفناء المحض والاستهلاك في عين الذات وأحسنوا بشهود التفصيل في عين الجمع والاستقامة في البقاء بعد الفناء وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ الباقين بعد فنائهم أو المشاهدين للوحدة في عين الكثرة المراعين لحقوق التفاصيل في عين الجمع بالوجود الحقاني يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالغيب لَيَبْلُوَنَّكُمُ في أثناء السير والإحرام لزيارة كعبة الوصول بشيء من الصيد أي الحظوظ والمقاصد النفسانية تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ أي يتيسر لكم ويتهيأ ما يتوصل به إليه.
وقيل: ما تناله الأيدي اللذات البدنية وما تناله الرماح اللذات الخيالية لِيَعْلَمَ اللَّهُ العلم الذي ترتب عليه الجزاء «من يخافه» بالغيب أي في حال الغيبة ولا يكون ذلك إلا للمؤمنين بالغيب لتعلقه بالعقاب الذي هو من باب الأفعال، وأما في الحضور فالخشية والهيبة دون الخوف، والأولى بتجلي صفات الربوبية والعظمة، والثانية بتجلي الذات، فالخوف كما قيل من صفات النفس والخشية من صفات القلب، والهيبة من صفات الروح «فمن اعتدى بعد ذلك» بتناول شيء من الحظوظ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ وهو عذاب الاحتجاب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أي في حال الإحرام الحقيقي وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً بأن ارتكب شيئا من الحظوظ النفسانية قصدا فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ بأن يقهر تلك القوة التي ارتكب بها من قوى النفس البهيمية بأمر يماثل ذلك الحظ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ وهما القوتان النظرية والعملية هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ الحقيقية وذلك بإفنائها في الله عز وجل أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً أي أو يستر تلك القوة بصدقة أو صيام أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وهو ما في العالم الروحاني من المعارف وَطَعامُهُ وهو العلم النافع من علم المعاملات والأخلاق مَتاعاً أي تمتيعا لكم أيها السالكون بطريق الحق وَلِلسَّيَّارَةِ المسافرين سفر الآخرة، وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ وهو في العالم الجسماني من المحسوسات والحظوظ النفسانية وَاتَّقُوا اللَّهَ في سيركم وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ بالفناء فاجتهدوا في السلوك ولا تقفوا مع الموانع وهو الله تعالى الميسر للرشاد وإليه المرجع والمعاد.

(4/33)


جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ أي صيرها، وسميت كعبة على ما روي عن عكرمة. ومجاهد لأنها مربعة والتكعيب التربيع، وتطلق لغة على كل بيت مربع، وقد يقال: التكعب للارتفاع، قيل: ومنه سميت الكعبة كعبة لكونها مرتفعة، ومن ذلك كعب الإنسان لارتفاعه ونتوه، وكعبت المرأة إذا نتأ ثديها، وقيل: سميت كعبة لانفرادها من البناء ورده الكرماني إلى ما قبله لأن المنفرد من البناء نات من الأرض.
وقوله تعالى: الْبَيْتَ الْحَرامَ عطف بيان على جهة المدح لأنه عرف بالتعظيم عندهم فصار في معنى المعظم أو لأنه وصف بالحرام المشعر بحرمته وعظمته، وذكر البيت كالتوطئة له فالاعتراض بالجمود من الجمود دون التوضيح، وقيل: جيء به للتبيين لأنه كان لخثعم بيت يسمونه بالكعبة اليمانية.
وجوز أن يكون بدلا وأن يكون مفعولا ثانيا لجعل، وقوله سبحانه: قِياماً لِلنَّاسِ نصب على الحال ويرده عطف ما بعده على المفعول الأول كما ستعلم قريبا إن شاء الله تعالى بل هذا هو المفعول الثاني.
وقيل: جَعَلَ بمعنى خلق فتعدى لواحد وهذا حال، ومعنى كونه قياما لهم أنه سبب إصلاح أمورهم وجبرها دينا ودنيا حيث كان مأمنا لهم وملجأ ومجمعا لتجارتهم يأتون إليه من كل فج عميق. ولهذا قال سعيد بن جبير: من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا والآخرة أصابه، ومن ذلك أخذ بعضهم
أن التجارة في الحج ليست مكروهة. وروي هذا عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: كان الناس كلهم فيهم ملوك يدفع بعضهم عن بعض ولم يكن

(4/35)


في العرب ملوك كذلك فجعل الله تعالى لهم البيت الحرام قياما يدفع به بعضهم عن بعض فلو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه عنده ما قتله، فالمراد من الناس على هذا العرب خاصة، وقيل: معنى كونه قياما للناس كونه أمنا لهم من الهلاك فما دام البيت يحج إليه الناس لم يهلكوا فإن هدم وترك الحج هلكوا وروي ذلك عن عطاء. وقرأ ابن عامر «قيما» على أنه مصدر كشيع. وكان القياس أن لا تقلب واوه ياء لكنها لما قلبت في فعله ألفا تبعه المصدر في إعلال عينه وَالشَّهْرَ الْحَرامَ أي الذي يؤدى فيه الحج وهو ذو الحجة فالتعريف للعهد بقرينة قرنائه واختار غير واحد إرادة الجنس على ما هو الأصل والقرينة المعهودة لا تعين العهد، والمراد الأشهر الحرم وهي أربعة واحد فرد وثلاثة سرد فالفرد رجب والسرد ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وهو وما بعده عطف على الْكَعْبَةَ فالمفعول الثاني محذوف ثقة بما مر أي وجعل الشهر الحرام وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ أيضا قياما لهم، والمراد بالقلائد ذوات القلائد وهي البدن خصت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر والحج بها أظهر وقيل: الكلام على ظاهره، فقد أخرج أبو الشيخ عن أبي مجلز أن أهل الجاهلية كان الرجل منهم إذا أحرم تقلد قلادة من شعر فلا يتعرض له أحد فإذا حج وقضى حجه تقلد قلادة من إذخر، وقيل: كان الرجل يقلد بعيره أو نفسه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يخاف من أحد ولا يتعرض له أحد بسوء، وكانوا لا يغيرون في الأشهر الحرم وينصلون فيها الأسنة ويهرع الناس فيها إلى معايشهم ولا يخشون أحدا، وقد توارثوا- على ما قيل- ذلك من دين إسماعيل عليه السلام ذلِكَ أي الجعل المذكور خاصة أو مع ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره. ومحل اسم الإشارة النصب بفعل مقدر يدل عليه السياق وبه تتعلق اللام فيما بعد. وقيل: محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الحكم الذي قررناه ذلك أو مبتدأ خبره محذوف أي ذلك الحكم هو الحق والحكم الأول هو الأقرب، والتقدير شرع ذلك لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فإن تشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار الدينية والدنيوية قبل الوقوع وجلب المنافع الأولية والأخروية من أوضح الدلائل على حكمة الشارع وإحاطة علمه سبحانه وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ واجبا كان أو ممتنعا أو ممكنا عَلِيمٌ كامل العلم، وهذا تعميم إثر تخصيص، وقدم الخاص لأنه كالدليل على ما بعد.
وجوز أن يراد بما في السماوات والأرض الأعيان الموجودة فيهما وبكل شيء الأمور المتعلقة بتلك الموجودات من العوارض والأحوال التي هي من قبيل المعاني. والإظهار في مقام الإضمار لما مر غير مرة.
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وعيد لمن انتهك محارمه أو أصر على ذلك والعقاب كما قيل هو الضرر الذي يقارنه استخفاف وإهانة. وسمي عقابا لأنه يستحق عقيب الذنب وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وعد لمن حافظ على مراعاة حرماته تعالى وأقلع عن الانتهاك. ووجه تقديم الوعيد ظاهر ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ ولم يأل جهدا في تبليغكم ما أمرتم به فأي عذر لكم بعد. وهذا تشديد في إيجاب القيام بما أمر به سبحانه. والبلاغ اسم أقيم مقام المصدر كما أشير إليه وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ فيعاملكم بما تستحقونه في ذلك قُلْ يا محمد لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ أي الرديء والجيد من كل شيء. فهو حكم عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين النوعين والتحذير عن رديها وإن كان سبب النزول ان المسلمين أرادوا أن يوقعوا بحجاج اليمامة وكان معهم تجارة عظيمة فنهوا عن ذلك على ما مر ذكره،
وقيل: نزلت في رجل سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي وإني جمعت من بيعها مالا فهل ينفعني من ذلك إن عملت فيه بطاعة الله تعالى؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن أنفقته في حج أو جهاد لم يعدل جناج بعوضة إن الله تعالى لا يقبل إلا الطيب.
وعن الحسن واختاره الجبائي الخبيث الحرام والطيب الحلال، وأخرج ابن جرير وغيره عن السدي قال: الخبيث هم المشركون والطيب هم المؤمنون وتقديم

(4/36)


الخبيث في الذكر للإشعار من أول الأمر بأن القصور الذي ينبىء عنه عدم الاستواء فيه لا في مقابله، وقد تقدمت الإشارة إلى تحقيقه، وَلَوْ أَعْجَبَكَ أي وإن سرك أيها الناظر بعين الاعتبار كَثْرَةُ الْخَبِيثِ.
وقيل الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد أمته والواو لعطف الشرطية على مثلها المقدر. وقيل للحال أي لو لم يعجبك ولو أعجبك وكلتاهما في موضع الحال من فاعل «لا يستوي» أي لا يستويان كائنين على كل حال مفروض. وقد حذفت الأولى في مثل هذا التركيب لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة فإن الشيء إذا تحقق مع المعارض فلأن يتحقق بدونه أولى. وجواب لو محذوف في الجملتين لدلالة ما قبلها عليه فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ في تحري الخبيث وإن كثر وآثروا عليه الطيب وإن قل فإن مدار الاعتبار هو الخيرية والرداءة لا الكثرة والقلة وفي الأكثر أحسن كل شيء أقله. ولله در من قال:
والناس ألف منهم كواحد ... وواحد كالألف إن أمر عنا
وفي الآية كما قيل إشارة إلى غلبة أهل الإسلام وإن قلوا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ راجين أن تنالوا الفلاح والفوز بالثواب العظيم والنعيم المقيم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ ظاهر اللفظ كما قال ابن يعيش يقضي بكونها جمع شيء لأن فعلا إذا كان معتل العين يجمع في القلة على أفعال نحو بيت وأبيات وشيخ وأشياخ إلا أنهم رأوها غير مصروفة في حال التنكير كما هنا فتشعبت آراء الجماعة فيها. فذهب سيبويه. والخليل إلى أن الهمزة للتأنيث وأن الكلمة اسم مفرد يراد به الجمع نحو الحلفاء والطرفاء فأشياء في الأصل شيئا بهمزتين بينهما ألف فقدمت الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة على الفاء لاستثقال همزتين بينهما ألف قبلهما حرف علة وهو الياء والهمزة الثانية زائدة للتأنيث ولذلك لا تنصرف ووزنها لفعاء، وقصارى ما في هذا المذهب القلب وهو كثير في كلامهم ارتكبوه مع عدم الثقل كما في أينق وقسى ونحوهما فارتكابه مع الثقل أولى فلا يضر الاعتراض بأنه خلاف الأصل. وذهب الفراء إلى أنها جمع شيء بياء مشددة وهمزة بوزن هين ولين إلا أنهم خففوه فقالوا شيء كميت في ميت وبعد التخفيف جمعوه على أشآء بهمزتين بينهما ألف بعد ياء بزنة افعلاء فاجتمعت همزتان إحداهما لام الكلمة والأخرى للتأنيث فخففوا ذلك بقلب الهمزة الأولى ياء ثم حذفوا الياء الأولى التي هي عين الكلمة فصار وزنه أفلاء، وقيل: في تصريف هذا المذهب أنهم حذفوا الهمزة التي هي لام الكلمة لأن الثقل حصل بها فوزنها أفعاء ومنع الصرف لهمزة التأنيث.
واستحسن هذا المذهب لو كان على أن أصل شيء بالتخفيف شيء بالتشديد دليل، وذهب الأخفش إلى أنها جمع شيء بوزن فلس وأصلها أشيئاء بهمزتين بينهما ألف بعد ياء ثم عمل فيه ما مر. ورده الزجاج بأن فعلا لا يجمع على أفعلاء، وناظر أبو عثمان المازني الأخفش في هذه المسألة كما قاله أبو علي في التكملة فقال: كيف تصغر أشياء قال أقول أشياءاء فقال المازني: هلا رددتها إلى الواحد فقلت شييئات لأن أفعلاء لا تصغر فلم يأت بمقنع انتهى. وأراد أن أفعلاء من أمثلة الكثرة وجموع الكثرة لا تصغر على ألفاظها وتصغر بآحادها ثم يجمع الواحد بالألف والتاء كقولك في تصغير درهم: دريهمات، والجواب كما قال أبو علي عن ذلك بأن أفعلاء هنا جاز تصغيرها على لفظها لأنها قد صارت بدلا من أفعال بدلالة استجازتهم إضافة العدد إليها كما أضيف إلى أفعال، ويدل على كونها بدلا أيضا تذكيرهم العدد المضاف إليها في قولهم: ثلاثة أشياء فكما صارت بمنزلة أفعال في هذا الموضع بالدلالة المذكورة كذلك يجوز تصغيرها من حيث جاز تصغير أفعال ولم يمتنع تصغيرها على اللفظ من حيث امتنع تصغير هذا الوزن في غير هذا الموضع لارتفاع المعنى المانع من ذلك عن أشياء وهو أنها صارت بمنزلة أفعال وإن كان كذلك لم يجتمع في الكلمة ما يتدافع من إرادة التقليل والتكثير في شيء واحد انتهى، ومراده كما قال ابن الشجري بأن فعلاء في هذا الموضع

(4/37)


صارت بدلا من أفعال أنه كان القياس في جمع شيء أشياء مصروفا كقولك في جمع فيء أفياء على أن تكون همزة الجمع هي همزة الواحد ولكنهم أقاموا أشياء التي همزتها للتأنيث مقام أشياء التي وزنها أفعال، واستدلاله في تجويز تصغير أشياء على لفظها بأنها صارت بدلا من أفعال بدلالة أنهم أضافوا العدد إليها وألحقوه الهاء فقالوا ثلاثة أشياء مما لا يقوم به دلالة لأن أمثلة القلة وأمثلة الكثرة يشتركن في ذلك، ألا ترى أنهم يضيفون العدد إلى أبنية الكثرة إذا عدم بناء القلة فيقولون: ثلاثة شسوع وخمسة دراهم، وأما إلحاق الهاء في قولنا: ثلاثة أشياء وإن كان أشياء مؤنثا لأن الواحد مذكر ألا ترى أنك تقول ثلاثة: أنبياء وخمسة أصدقاء وسبعة شعراء فتلحق الهاء وإن كان لفظ الجمع مؤنثا وذلك لأن الواحد نبي وصديق وشاعر كما أن واحد أشياء شيء فأي دلالة في قوله: ويدل على كونها بدلا تذكيرهم العدد المضاف إليها إلخ ثم قال: والذي يجوز أن يستدل به لمذهب الأخفش أن يقال: إنما جاز تصغير أفعلاء على لفظه وإن كان من أبنية الكثرة لأن وزنه نقص بحذف لامه فصار أفعاء فشبهوه بأفعال فصغروه، وذهب الكسائي إلى أنها جمع شيء كضيف وأضياف.
وأورد عليه منع الصرف من غير علة ويلزمه صرف أبناء (1) وأسماء، وقد استشعر الكسائي هذا الإيراد وأشار إلى دفعه بأنه على أفعال ولكن كثرت في الكلام فأشبهت فعلاء فلم يصرف كما لم يصرف حمراء، وقد جمعوها على أشاوى كعذارء وعذارى وأشياوات كحمراء وحمراوات فعاملوا أشياء وإن كانت على أفعال معاملة حمراء وعذراء في جمعي التكسير والتصحيح. ورد بأن الكثرة تقتضي تخفيفه وصرفه. وأيده بعضهم بأن العرب قد اعتبروا في باب ما لا ينصرف الشبه اللفظي كما قيل في سراويل إنه منع من الصرف لشبهه بمصابيح وأجروا ألف الإلحاق مجرى ألف التأنيث المقصورة ولكن مع العلمية فاعتبروا مجرد الصورة فليكن هذا من ذلك القبيل، وقيل: إنها جمع شيء ووزنها أفعلاء جمع فعيل كنصيب وأنصباء وصديق وأصدقاء وحذفت الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة وفتحت الياء لتسلم الألف فصارت أشياء بزنة أفعاء، وجعل مكي تصريفه كمذهب الأخفش إذا بدل الهمزة ياء ثم حذفت إحدى الياءين وحسن حذفها من الجمع حذفها من المفرد لكثرة الاستعمال وعدم الصرف لهمزة التأنيث الممدودة، وهو حسن إلا أنه يرد عليه كما ورد على الأخفش مع إيرادات أخر، وقيل غير ذلك، وللشهاب عليه الرحمة:
أشياء لفعاء في وزن وقد قلبوا ... لاما لها وهي قبل القلب شيئاء

وقيل أفعال لم تصرف بلا سبب ... منهم وهذا لوجه الرد إيماء

أو أشيّاء وحذف اللام من ثقل ... وشيء أصل شيء وهي آراء

وأصل أسماء اسما أو كمثل كسا ... فاصرفه حتما ولا تغررك أسماء

واحفظ وقل للذي ينسى العلا سفها ... حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
وظاهر صنيعه كغيره يشير إلى اختيار مذهب الخليل وسيبويه، وقال غير واحد: إنه الأظهر لقولهم في جمعها أشاوى فجمعوها كما جمعوا صحراء على صحارى، وأصله كما قال ابن الشجري أشايا بالياء لظهورها في أشياء لكنهم أبدلوها واوا على غير قياس كإبدالها واوا في قولهم جبيت الخراج جباوة، وأيضا يدل على أنها مفرد قولهم في تحقيرها أشيئاء كصحيراء ولو كانت جمعا لقالوا شياءات على ما تقدمت الإشارة، وتمام البحث في أمالي ابن الشجري إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ صفة لأشياء داعية إلى الانتهاء عن السؤال عنها، وعطف عليها قوله سبحانه: وَإِنْ تَسْئَلُوا
__________
(1) قوله ويلزمه صرف أبناء إلخ كذا بخطه، ولعل الأصل ويلزمه منع صرف إلخ تأمل.

(4/38)


عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ أي بالوحي كما ينبىء عنه تقييد السؤال بحين نزول القرآن لأن المساءة في الشرطية الأولى معلقة بإبداء تلك الأشياء لا بالسؤال عنها فعقبها جل شأنه بما هو ناطق باستلزام السؤال عنها لإبدائها الموجب للمحذور، فضمير عَنْها راجع إلى تلك الأشياء وليس على حد عندي درهم ونصفه كما وهم، والمراد بها ما لا خير لهم فيه من نحو التكاليف الصعبة التي لا يطيقونها والأسرار الخفية التي قد يفتضحون بها، فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستتبع لإبدائها كذلك السؤال عن تلك التكاليف مستتبع لإيجابها عليهم بطريق التشديد لإساءتهم الأدب وتركهم ما هو الأولى بهم من الاستسلام لأمر الله تعالى من غير بحث فيه ولا تعرض لكيفيته وكميته
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أيها الناس قد فرض الله تعالى عليكم الحج فحجوا»
فقال رجل- وهو كما قال ابن الهمام الأقرع بن حابس،
وصرح به أحمد والدارقطني والحاكم في حديث صحيح رووه على شرط الشيخين «أكل عام يا رسول الله فسكت عليه الصلاة والسلام حتى قالها ثلاثا فقال صلّى الله عليه وسلّم: لو قلت: نعم لو جبت ولما استطعتم ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه»
وذكر كما قال ابن حبان أن الآية نزلت لذلك.
وأخرج مسلم وغيره أنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أحفوه في المسألة فصعد ذات يوم المنبر وقال: «لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم فلما سمعوا ذلك أزموا ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر قال أنس رضي الله تعالى عنه: فجعلت أنظر يمينا وشمالا فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي فأنشأ رجل كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه فقال: يا رسول الله من أبي؟ قال: أبوك حذافة، ثم أنشأ عمر رضي الله تعالى عنه فقال: رضينا بالله تعالى ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم نبيا نعوذ بالله تعالى من الفتن ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط إنه صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط» ،
وذكر ابن شهاب أن أم ابن حذافة واسمه عبد الله قالت له لما رجع إليها: ما سمعت قط أعق منك آمنت أن تكون أمك قارفت بعض ما يقارف أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس فقال ابن حذافة: لو ألحقني بعبد أسود للحقته. وأخرج غير واحد عن قتادة أن هذه الآية نزلت يومئذ. ووجه اتصالها بما قبلها على الرواية الأولى ظاهر جدا لما أن الكلام فيما يتعلق بالحج.
وذكر الطبرسي في ذلك ثلاثة أوجه، الأول أنها متصلة بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لأن من الفلاح ترك السؤال بما لا خير فيه، والثاني أنها متصلة بقوله سبحانه: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ أي فإنه بلغ ما فيه المصلحة فلا تسألوه عما لا يعنيكم، والثالث أنها متصلة بقوله جل وعلا: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ أي فلا تسألوا عن تلك الأشياء فتظهر سرائركم عَفَا اللَّهُ عَنْها أي عن المسألة المدلول عليها بلا تسألوا.
والجملة استئناف مسوق لبيان أن نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتهم عن المساءة بل لأنها في نفسها معصية مستتبعة للمؤاخذة وقد عفا سبحانه عنها، وفيه من حثهم على الجد، في الانتهاء عنها ما لا يخفى أي عفا الله تعالى عن مسألتكم السالفة حيث لم يفرض عليكم الحج في كل عام جزاء لمسألتكم أو المراد تجاوز عن عقوبتكم الأخروية بسبب ذلك فلا تعودوا لمثله، وقد يحمل العفو عنها على معنى شامل للتجاوز عن العقوبة الدنيوية والعقوبة الأخروية واختاره بعض المحققين، وجوز غير واحد كون الجملة صفة أخرى لأشياء والضمير المجرور عائد إليها وهو الرابط على معنى لا تسألوا عن أشياء لم يكلفكم الله تعالى بها. واعترض بأن هذا يقتضي أن يكون الحج قد فرض أولا ثم نسخ بطريق العفو وأن يكون ذلك معلوما للمخاطبين ضرورة أن حق الوصف أن يكون معلوم الثبوت للموصوف عند

(4/39)


المخاطب قبل جعله وصفا له وكلاهما ضروري الانتفاء قطعا على أنه يستدعي اختصاص النهي بمسألة الحج ونحوها مع أن النظم الكريم صريح في أنه مسوق للنهي عن السؤال عن الأشياء التي يسوءهم إبداؤها سواء كانت من قبيل الأحكام والتكاليف الموجبة لمساءتهم بإنشائها وإيجابها بسبب السؤال عقوبة وتشديدا كمسألة الحج لولا عفوه تعالى عنها أو من قبيل الأمور الواقعة قبل السؤال الموجبة للمساءة بالإخبار بها كما في سبب النزول على ما
أخرج ابن جرير.
وغيره عن أبي هريرة قال: «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر فقام إليه رجل فقال: أين أبي؟ قال: في النار» ،
وفسر بعضهم العفو عنها بالكف عن بيانها والتعرض لشأنها وحينئذ يوشك أن لا يتوجه هذا الاعتراض أصلا، وإلى التفسير الأول يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج مجاهد عنه أنه كان إذا سئل عن الشيء لم يجىء فيه أثر يقول: هو من العفو ثم يقرأ هذه الآية. والذي ذهب إليه شيخ الإسلام عليه الرحمة هو الاستئناف لا غير لما علمت، واستبعاد بعض الفضلاء ليس في محله. ثم قال: إن قلت تلك الأشياء غير موجبة للمساءة البتة بل هي محتملة لإيجاب المسرة أيضا لأن إيجابها للأولى وإن كان من حيث وجودها فهي من حيث عدمها موجبة للأخرى قطعا وليست إحدى الحيثيتين محققة عند السائل وإنما غرضه من السؤال ظهورها كيف كانت بل ظهورها بحيثية إيجابها للمسرة فلما عبر عنها بحيثية إيجابها للمساءة قلت: لتحقيق المنهي عنه كما ستعرفه مع ما فيه من تأكيد النهي وتشديده لأن تلك الحيثية من الموجبة للانتهاء لا الحيثية الثانية ولا حيثية التردد بين الإيجابين، فإن قيل: الشرطية الثانية ناطقة بأن السؤال عن تلك الأشياء الموجبة للمساءة مستلزم لإبدائها فلم تخلف الإبداء في مسألة الحج ولم يفرض كل عام؟ قلنا: لوقوع السؤال قبل النهي وما في الشرطية إنما هو السؤال الواقع بعده إذ هو الموجب للتغليظ والتشديد لا تخلف فيه.
فإن قيل: ما ذكر إنما يتمشي فيما إذا كان السؤال عن الأمور المترددة بين الوقوع وعدمه كما ذكر في التكاليف الشاقة وأما إذا كان عن الأمور الواقعة قبله فلا يكاد يتسنى لأن ما يتعلق به الإبداء هو الذي وقع في نفس الأمر ولا مرد له سواء كان السؤال قبل أو بعد وقد يكون الواقع ما يوجب المسرة كما في مسألة ابن حذافة فيكون هو متعلق الإبداء لا غيره فيتعين التخلف حتما. قلنا: لا احتمال له فضلا عن تعينه فإن المنهي عنه في الحقيقة إنما هو السؤال عن الأشياء الموجبة للمساءة الواقعة في نفس الأمر قبل السؤال كسؤال من قال: أين أبي؟ لا ما يعمها وغيرها مما ليس بواقع لكنه محتمل الوقوع عند المكلفين حتى يلزم التخلف في صورة عدم الوقوع.
وجملة الكلام أن مدلول النظم الكريم بطريق العبارة إنما هو النهي عن السؤال عن الأشياء التي يوجب إبداؤها المساءة البتة إما بأن تكون تلك الأشياء بعرضية الوقوع فتبدى عند السؤال بطريق الإنشاء عقوبة وتشديدا كما في صورة كونها من قبيل التكاليف الشاقة، وإما بأن تكون واقعة في نفس الأمر قبل السؤال فتبدى عنده بطريق الإخبار بها فالتخلف ممتنع في الصورتين معا، ومنشأ توهمه عدم الفرق بين المنهي عنه وغيره بناء على عدم امتياز ما هو موجود أو بعرضية الوجود من تلك الأشياء في نفس الأمر وما ليس كذلك عند المكلفين وملاحظتهم للكل باحتمال الوجود والعدم، وفائدة هذا الإبهام الانتهاء عن تلك الأشياء على الإطلاق حذار إبداء المكروه انتهى وهو تحرير لم يسبق إليه وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ أي مبالغ في مغفرة الذنوب والإغضاء عن المعاصي ولذلك عفا سبحانه عنكم ولم يعاقبكم بما فرط منكم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما سبق من عفوه تعالى.
قَدْ سَأَلَها أي المسألة فالضمير في موقع المصدر لا المفعول به، والمراد سأل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال قَوْمٌ وعدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحذير، وجوز أن يكون الضمير للأشياء على تقدير

(4/40)


المضاف أيضا فالضمير في موقع المفعول به وذلك من باب الحذف والإيصال والمراد سأل عنها، وقيل: لا حاجة إلى جعله من ذلك الباب لأن السؤال هنا استعطاء وهو يتعدى بنفسه كقولك: سألته درهما بمعنى طلبته منه لا استخبار كما في صدر الآية، واختلف في تعيين القوم. فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه هم قوم عيسى عليه الصلاة والسلام سألوه إنزال المائدة ثم كفروا بها، وقيل: هم قوم صالح عليه السلام سألوه الناقة ثم عقروها وكفروا بها، وقيل: هم قوم موسى عليه السلام سألوه أن يريهم الله تعالى جهرة أو سألوه بيان البقرة.
وعن مقاتل هم بنو إسرائيل مطلقا كانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء فإذا أخبروهم كذبوهم. وعن السدي هم قريش سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يحول الصفا ذهبا، وقال الجبائي: كانوا يسألونه صلّى الله عليه وسلّم عن أنسابهم فإذا أخبرهم عليه الصلاة والسلام لم يصدقوا ويقولوا: ليس الأمر كذلك، ولا يخفى عليك الغث والسمين من هذه الأقوال وأن بعضها يؤيد حمل السؤال على الاستعطاء وبعضها يؤيد حمله على الاستخبار، والحمل على الاستخبار أولى، وإلى تعينه ذهب بعض العلماء مِنْ قَبْلِكُمْ متعلق بسألها، وجوز كونه متعلقا بمحذوف وقع صفة لقوم، واعترض بأن ظرف الزمان لا يكون صفة الجثة ولا حالا منها ولا خبرا عنها، وأجيب بأن التحقيق أن هذا مشروط بما إذا عدمت الفائدة أما إذا حصلت فيجوز كما إذا أشبهت الجثة المعنى في تجددها ووجودها وقتا دون وقت نحو الليلة الهلال بخلاف زيد يوم السبت وما نحن فيه مما فيه فائدة لأن القوم لا يعلم هل هم ممن مضى أم لا.
وقال أبو حيان وهو تحقيق بديع غفلوا عنه: هذا المنع إنما هو في الزمان المجرد عن الوصف أما إذا تضمن وصفا فيجوز كقبل وبعد فإنهما وصفان في الأصل فإذا قلت: جاء زيد قبل عمرو فالمعنى جاء في زمان قبل زمان مجيئه أي متقدم عليه ولذا وقع صلة للموصول، ولو لم يلحظ فيه الوصف وكان ظرف زمان مجرد لم يجز أن يقع صلة ولا صفة. قال تعالى: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 21] ولا يجوز والذين اليوم وما نحن فيه من المتضمن لا المجرد وهو ظاهر، وما قيل من أنه ليس من المتنازع فيه في شيء لأن الواقع صفة هو الجار والمجرور لا الظرف نفسه ليس بشيء لأن دخول الجار عليه إذا كان من أو في لا يخرجه عن كونه في الحقيقة هو الصفة أو نحوها فليفهم ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها أي بسببها، وهو متعلق بقوله سبحانه وتعالى: كافِرِينَ قدم عليه رعاية للفواصل.
وقرأ أبي «قد سألها قوم بينت لهم فأصبحوا بها كافرين» ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ هي فعيلة بمعنى مفعولة من البحر وهو الشق والتاء للنقل إلى الاسمية أو لحذف الموصوف، قال الزجاج: كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمس أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها وشقوها وامتنعوا من نحرها وركوبها ولا تطرد من ماء ولا تمنع عن مرعى وهي البحيرة، وعن قتادة أنها إذا نتجت خمسة أبطن نظر في الخامس فإن كان ذكرا ذبحوه وأكلوه وإن كان أنثى شقوا أذنها وتركوها ترعى ولا يستعملها أحد في حلب وركوب ونحو ذلك، وقيل: البحيرة هي الأنثى التي تكون خامس بطن وكانوا لا يحلون لحمها ولبنها للنساء فإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكلها، وعن محمد بن إسحاق. ومجاهد أنها بنت السائبة، وستأتي إن شاء الله تعالى قريبا وكانت تهمل أيضا.
وقيل: هي التي ولدت خمسا أو سبعا، وقيل: عشرة أبطن وتترك هملا وإذا ماتت حل لحمها للرجال خاصة.
وعن ابن المسيب أنها التي منع لبنها للطواغيت فلا تحلب، وقيل: هي التي ولدت خمس إناث فشقوا أذنها وتركوها هملا، وجعلها في القاموس على هذا القول من الشاء خاصة، وكما تسمى بالبحيرة تسمى بالغزيرة أيضا.
وقيل: هي السقب الذي إذا ولد شقوا أذنه وقالوا: اللهم إن عاش فعبى وإن مات فذكى فإذا مات أكلوه، وقيل:
هي التي تترك في المرعى بلا راع وَلا سائِبَةٍ هي فاعلة من سيبته أي تركته وأهملته فهو سائب وهي سائبة أو بمعنى

(4/41)


مفعول كعيشة راضية. واختلف فيها فقيل هي الناقة تبطن عشرة أبطن إناث فتهمل ولا تركب ولا يجز وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف ونسب إلى محمد بن إسحاق، وقيل: هي التي تسيب للأصنام فتعطى للسدنة ولا يطعم من لبنها إلا أبناء السبيل ونحوهم وروي ذلك عن ابن عباس. وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم، وقيل: هي البعير يدرك نتاج نتاجه فيترك ولا يركب، وقيل: كان الرجل إذا قدم من سفر بعيد أو نجت دابته من مشقة أو حرب قال: هي سائبة أو كان ينزع من ظهرها فقارة أو عظما وكانت لا تمنع عن ماء ولا كلأ ولا تركب، وقيل: هي ما ترك ليحج عليه، وقيل: هي العبد يعتق على أن لا يكون عليه ولاء ولا عقل ولا ميراث وَلا وَصِيلَةٍ هي فعيلة بمعنى فاعلة وقيل: مفعولة والأول أظهر كما ينبىء عن ذلك بيان المراد بها. واختلف فيه. فقال الفراء: هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين وإذا لدت في آخرها عناقا وجديا قيل: وصلت أخاها فلا يشرب لبن الأم إلا الرجال دون النساء وتجري مجرى السائبة، وقال الزجاج: هي الشاة إذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم وإذا ولدت أنثى كانت لهم وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وقيل: هي الشاة تلد ذكرا ثم أنثى فتصل أخاها فلا يذبحون أخاها من أجلها وإذا ولدت ذكرا قالوا: هذا قربان لآلهتنا. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هي الشاة تنتج سبعة أبطن فإن كان السابع أنثى لم ينتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت فتأكلها الرجال والنساء وكذا إن كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فتترك معه ولا ينتفع بها إلا الرجال دون النساء فإن ماتت اشتركوا فيها. وقال ابن قتيبة: إن كان السابع ذكرا ذبح وأكلوا منه دون النساء وقالوا: خالصة لذكورنا محرمة على أزواجنا وإن كانت أنثى تركت في الغنم وإن كان ذكرا وأنثى فكقول ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وقال محمد بن إسحاق: وهي الشاة تنتج عشر إناث متواليات في خمس أبطن فما ولدت بعده للذكور دون الإناث فإذا ولدت ذكرا وأنثى معا قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوها لمكانها، وقيل: هي الشاة تنتج خمسة أبطن أو ثلاثة فإن كان جديا ذبحوه وإن كان أنثى أبقوها وإن كان ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، وقال بعضهم: الوصيلة من الإبل وهي الناقة تبكر فتلد أنثى ثم تثني بولادة أنثى أخرى ليس بينهما ذكر فيتركونها لآلهتهم ويقولون: قد وصلت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر. وقيل: هي الناقة التي وصلت بين عشرة أبطن لا ذكر بينها.
وَلا حامٍ هو فاعل من الحمى بمعنى المنع. واختلف فيه أيضا فقال الفراء: هو الفحل إذا لقح ولد ولده فيقولون: قد حمى ظهره فيهمل ولا يطرد عن ماء ولا مرعى، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه. وابن مسعود وهو قول أبي عبيدة. والزجاج أنه الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن فيقولون: حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ومرعى. وعن الشافعي أنه الفحل يضرب في مال صاحبه عشر سنين، وقيل: هو الفحل ينتج له سبع أناث متواليات فيحمي ظهره، وجمع بين الأقوال المتقدمة في كل من تلك الأنواع بأن العرب كانت تختلف أفعالهم فيها. والمراد من هذه الجملة رد وإبطال لما ابتدعه أهل الجاهلية. ومعنى ما جَعَلَ ما شرع ولذلك عدى إلى مفعول واحد وهو بَحِيرَةٍ وما عطف عليها. ومِنْ سيف خطيب أتى بها لتأكيد النفي. وأنكر بعضهم مجيء جعل بمعنى شرع عن أحد من أهل اللغة وجعلها هنا للتصيير والمفعول الثاني محذوف أي ما جعل البحيرة ولا ولا مشروعة (1) وليس كما قال فإن الراغب نقل ذلك عن أهل اللغة وهو ثقة لا يفتري عليهم.
وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ حيث يفعلون ما يفعلون ويقولون: الله سبحانه وتعالى أمرنا بهذا وأمامهم عمرو بن لحي فإنه في المشهور أول من فعل تلك الأفاعيل الشنيعة.
أخرج ابن جرير وغيره عن أبي هريرة
__________
(1) هكذا الأصل بتكرار ولا فتدبر.

(4/42)


قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأكثم بن الجون: يا أكثم عرضت على النار فرأيت فيها عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك فقال: أكثم أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا إنك مؤمن وهو كافر أنه أول من غير دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي، وجاء في خبر آخر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه- ووصل الوصيلة-.
وأخرج عبد الرزاق وغيره عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لأعرف أول من سبب السوائب ونصب النصب وأول من غير دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام:
عمرو بن لحي أخو بني كعب لقد رأيته يجر قصبه في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه وأني لأعرف أول من بحر البحائر قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: رجل من بني مدلج كانت له ناقتان فجدع آذانهما وحرم ألبانهما وظهورهما وقال: هاتان لله ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما وركب ظهورهما فلقد رأيته في النار وهما تقضمانه بأفواههما وتطآنه بإخفافهما
واستدل بالآية على تحريم هذه الأمور وهو ظاهر واستنبط منه تحريم جميع تعطيل المنافع.
واستدل ابن الماجشون بها على منع أن يقول الرجل لعبده: أنت سائبة وقال: لا يعتق بذلك.
وجعل بعض العلماء من صور السائبة إرسال الطير ونحوه، وصرح بعض علمائنا بأنه لا ثواب في ذلك ولعل الجاعل لا يكتفي بهذا القدر ويدعي الإثم فيه والناس عن ذلك غافلون وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أن ذلك افتراء باطل فما تقدم فعل الرؤساء وهذا شأن الأتباع وهم المراد بالأكثر كما روي عن قتادة. والشعبي، وظاهر سياق النظم الكريم إنهم المقلدون لأسلافهم المفترين من معاصري رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهذا بيان لقصور عقولهم وعجزهم عن الاهتداء بأنفسهم.
وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي للذين عبر عنهم بأكثرهم على سبيل الهداية والإرشاد إلى الحق: تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الكتاب المبين للحلال والحرام والإيمان به وَإِلَى الرَّسُولِ الذي أنزل عليه ذلك لتقفوا على حقيقة الحال وتميزوا الحرام من الحلال قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا في هذا الشأن فلا نلتفت لغيره بيان لعنادهم واستعصائهم على الهادي إلى الحق وانقيادهم للداعي إلى الضلال، وما موصولة اسمية، وجوز أن تكون نكرة موصوفة والوجدان المصادفة وعَلَيْهِ متعلق به أو حال من مفعوله، وجوز أن يكون بمعنى العلم و «عليه» عليه في موضع المفعول الثاني أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ذهب الراغب إلى أن الواو للعطف، وصرح غير واحد أنه على شرطية أخرى مقدرة قبلها والهمزة للتعجيب وهي داخلة على مقدر في الحقيقة أي أيكفيهم ذلك لو لم يكن آباؤهم جهلة ضالين ولو كانوا كذلك وكلتا الجملتين في موقع الحال أي أيكفيهم ما وجدوا عليه آباءهم كائنين على كل حال مفروض، وعلى هذا لا يلزم كون الجملة الاستفهامية الإنشائية حالا ليحتاج توجيه ذلك إلى نظر دقيق، وحذفت الجملة الأولى للدلالة عليها دلالة واضحة وهو حذف مطرد في هذا الباب لذلك كما في قولك: أحسن إلى زيد ولو أساء إليك فإن الشيء إذا تحقق عند المانع فلأن يتحقق عند عدمه أولى.
وجواب- لو- كما قال أبو البقاء- محذوف لظهور انفهامه مما سبق وقدره يتبعونهم. ويجوز أن يقدر حسبهم ذلك أو يقولون، وما في لو من معنى الامتناع والاستبعاد إنما هو بالنظر إلى زعمهم لا في نفس الأمر، وفائدة ذلك المبالغة في الإنكار والتعجيب، وقيل: الواو للحال والهمزة لإنكار الفعل على هذه الحال والمراد نفي صحة الاقتداء بالجاهل الضال، والحال ما يفهم من الجملة أي كائنين على هذا الحال المفروض فما قيل: إنهم جعلوا الواو للحال وليس ما دخلته الواو حالا من جهة المعنى بل ما دخلته لو أي ولو كان الحال أن آباءهم لا يعلمون فيفعلون ما يقتضيه

(4/43)


علمهم ولا يهتدون بمن له علم ناشىء من قلة التأمل وذلك غريب من حال ذلك القائل، وأغرب من ذلك ما قيل: إن المعنى أنهم هل يكفيهم ما عليه آباؤهم ولو كان آباؤهم جهلة ضالين أي هل يكفيهم الجهل والضلال اللذان كان عليهما آباؤهم. ويوشك أن يكون هذا من الجهل والضلال فما يليق بالتنزيل.
واستدل بالآية على أن الاقتداء إنما يصح بمن علم أنه عالم مهتد وذلك لا يعرف إلا بالحجة فلا يكفي التقليد من غير أن يعلم أن لمن قلده حجة صحيحة على ما قلده فيه حتى قالوا: إن للمقلد دليلا إجماليا وهو دليل من قلده فتدبر يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي ألزموا أنفسكم واحفظوها من ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب، فعليكم اسم فعل أمر نقل إلى ذلك مجموع الجار والمجرور لا الجار وحده كما قيل. وهو متعد إلى المفعول به بعده وقد يكون لازما، والمراد به الأمر بالتمسك كما في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «عليك بذات الدين»
وذكر أبو البقاء أن الكاف والميم في موضع جر لأن اسم الفعل هو المجموع وعلى وحدها لم تستعمل اسما للفعل بخلاف رويدكم فإن الكاف والميم هناك للخطاب فقط ولا موضع لها لأن رويدا قد استعمل اسما لأمر المواجه من غير كاف الخطاب وإلى ذلك ذهب سيبويه وهو الصحيح، ونقل الطبرسي أن استعمال على من الضمير اسم فعل خاص فيما إذا كان الضمير للخطاب فلو قلت عليه زيدا لم يجز وفيه خلاف.
وقرأ نافع في الشواذ أَنْفُسَكُمْ بالرفع، والكلام حينئذ مبتدأ وخبر أي لازمة عليكم أنفسكم أو حفظ أنفسكم لازم عليكم بتقدير مضاف في المبتدأ، وقوله تعالى: لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ يحتمل الرفع على أنه كلام مستأنف في موضع التعليل لما قبله وينصره قراءة أبي حيوة «لا يضيركم» ، ويحتمل أن يكون مجزوما جوابا للأمر، والمعنى إن لزمتم أنفسكم لا يضركم. وإنما ضمت الراء اتباعا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة والأصل لا يضرركم، ويجوز أن يكون نهيا مؤكدا للأمر السابق والكلام على حد لا أريتك هاهنا.
وينصر احتمال الجزم قراءة من قرأ «لا يضركم» بالفتح «ولا يضركم» بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره بمعنى ضره كذمه وذامه، وتوهم من ظاهر الآية الرخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأجيب عن ذلك بوجوه. الأول أن الاهتداء لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ترك ذلك مع القدرة عليه ضلال.
فقد أخرج ابن جرير عن قيس بن أبي حازم قاف: «صعد أبو بكر رضي الله تعالى عنه منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنكم لتتلون آية من كتاب الله سبحانه وتعدونها رخصة والله ما أنزل الله تعالى في كتابه أشد منها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ الآية والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله تعالى منه بعقاب- وفي رواية- يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وإنكم تضعونها على غير موضعها
وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب» .
وفي رواية ابن مردويه عن أبي بكر بن محمد قال: خطب أبو بكر الصديق الناس فكان في خطبته «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أيها الناس لا تتكلوا على هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ إلخ إن الداعر ليكون في الحي فلا يمنعونه فيعمهم الله تعالى بعقاب» .
ومن الناس من فسر الاهتداء هنا بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وروي ذلك عن حذيفة وسعيد بن المسيب، والثاني أن الآية تسلية لمن يأمر وينهى ولا يقبل منه عند غلبة الفسق وبعد عهد الوحي، فقد أخرج عبد الرزاق وأبو الشيخ والطبراني وغيرهم عن الحسن أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه سأله رجل عن هذه الآية فقال: أيها الناس إنه ليس بزمانها ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا أو قال: فلا يقبل منكم فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم.

(4/44)


وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قيل له: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن الله تعالى يقول: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فقال: إنها ليست لي ولا لأصحابي
لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا فليبلغ الشاهد الغائب»
فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم.
وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل أنه قال: يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا معاذ مروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر فإذا رأيتم شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل امرئ برأيه فعليكم أنفسكم لا يضركم ضلالة غيركم فإن من ورائكم أيام صبر المتمسك فيها بدينه مثل القابض على الجمر فللعامل منهم يومئذ مثل عمل أحدكم اليوم كأجر خمسين منكم قلت: يا رسول الله خمسين منهم قال: بل خمسين منكم أنتم» .
والثالث أنها للمنع عن هلاك النفس حسرة وأسفا على ما فيه الكفرة والفسقة من الضلال فقد كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون إيمانهم فنزلت.
والرابع أنها للرخصة في ترك الأمر والنهي إذا كان فيهما مفسدة. والخامس أنها للأمر بالثبات على الإيمان من غير مبالاة بنسبة الآباء إلى السفه، فقد قيل: كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت أباك فنزلت، وقيل: معنى الآية يا أيها الذين آمنوا الزموا أهل دينكم واحفظوهم وانصروهم لا يضركم من ضل من الكفار إذا فعلتم ذلك، والتعبير عن أهل الدين بالأنفس على حد قوله تعالى: لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] ونحوه، والتعبير عن ذلك الفعل بالاهتداء للترغيب فيه ولا يخفى ما فيه إِلَى اللَّهِ لا إلى أحد سواه مَرْجِعُكُمْ رجوعكم يوم القيامة جَمِيعاً بحيث لا يتخلف عنه أحد من المهتدين وغيرهم فَيُنَبِّئُكُمْ بالثواب والعقاب بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من أعمال الهداية والضلال، فالكلام وعد ووعيد للفريقين، وفيه كما قيل دليل على أن أحدا لا يؤاخذ بعمل غيره وكذا يدل على أنه لا يثاب بذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استئناف مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بأمور دنياهم إثر بيان الأحوال المتعلقة بأمور دينهم، وفيه من إظهار كمال العناية بمضمونه ما لا يخفى شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ للشهادة معان الإحضار، والقضاء، والحكم، والحلف، والعلم، والإيصاء، والمراد بها هنا الأخير كما نص عليه جماعة من المفسرين، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك، وقرأها الجمهور بالرفع على أنها مبتدأ واثْنانِ خبرها، والكلام على حذف مضاف من الأول أي ذو شهادة بينكم اثنان أو من الثاني أي شهادة بينكم شهادة اثنين، والتزم ذلك ليتصادق المبتدأ والخبر، وقيل: الشهادة بمعنى الشهود كرجل عدل فلا حاجة إلى التزام الحذف، وقيل:
الخبر محذوف واثْنانِ مرفوع بالمصدر الذي هو شَهادَةُ والتقدير فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان وإلى هذا ذهب الزجاج والشهادة فيه على معناها المتبادر منها لا بمعنى الإشهاد، وكلام البعض يوهم ذلك وهو في الحقيقة بيان لحاصل معنى الكلام.
وزعم بعضهم أنها بمعنى الإشهاد الذي هو مصدر المجهول واثْنانِ قائم مقام فاعله، وفيه أن الإتيان لمصدر الفعل المجهول بنائب فاعل وهو اسم ظاهر، وإن جوزه البصريون كما في شرح التسهيل للمرادي فقد منعه الكوفيون وقالوا: إنه هو الصحيح لأن حذف فاعل المصدر سائغ شائع فلا يحتاج إلى ما يسد مسد فاعله كفاعل الفعل الصريح. وإِذا ظرف لشهادة أي ليشهد وقت حضور الميت والمراد مشارفته وظهور أماراته، وحِينَ الْوَصِيَّةِ إما بدل من إِذا وفيه تنبيه على أن الوصية من المهمات المقررة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهل عنها.
وجوز أن يتعلق بنفس الموت أي وقوع الموت أي أسبابه حين الوصية أو يحضر، وأن يكون شَهادَةُ مبتدأ

(4/45)


خبره إذا حضر أي وقوع الشهادة في وقت حضور الموت وحِينَ الْوَصِيَّةِ على الأوجه السابقة، ولا يجوز فيه أن يكون ظرفا للشهادة لئلا يخبر عن الموصول قبل تمام صلته أو خبره حِينَ الْوَصِيَّةِ. وإِذا منصوب بالشهادة ولا يجوز نصبه بالوصية وإن كان المعنى عليه لأن معمول المصدر لا يتقدمه على الصحيح مع ما يلزم من تقديم معمول المضاف إليه على المضاف وهو لا يجوز في غير- غير- لأنها بمنزلة لا. واثْنانِ على هذين الوجهين إما فاعل يشهد مقدرا أو خبرا لشاهدان كذلك.
وعن الفراء أن شَهادَةُ مبتدأ واثْنانِ فاعله سد مسد الخبر وجعل المصدر بمعنى الأمر أي ليشهد، وفيه نيابة المصدر عن فعل الطلب وهو ضعيف عند غيره لأن الاكتفاء بالفاعل مخصوص بالوصف المعتمد. وإِذا وحِينَ عليه منصوبان على الظرفية كما مر، وإضافة شَهادَةُ إلى الظرف على التوسع لأنه متصرف ولذا قرىء تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام: 94] بالرفع، وقيل: إن الأصل ما بينكم وهو كناية عن التخاصم والتنازع، وحذف «ما» جائز نحو وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ [الإنسان: 20] أي ما ثم، وأورد عليه أن ما الموصولة لا يجوز حذفها ومنهم من جوزه.
وقرأ الشعبي «شهادة بينكم» بالرفع والتنوين فبينكم حينئذ منصوب على الظرفية. وقرأ الحسن «شهادة» بالنصب والتنوين، وخرج ذلك ابن جني على أنها منصوبة بفعل مضمر اثْنانِ فاعله أي ليقم شهادة بينكم اثنان.
وأورد عليه أن حذف الفعل وإبقاء فاعله لم يجزه النحاة إلا إذا تقدم ما يشعر به كقوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [النور: 36] في قراءة من قرأ «يسبّح» بالبناء للمفعول، وقول الشاعر: ليبك يزيد ضارع لخصومة.
أو أجيب به نفي أو استفهام وذلك ظاهر، والآية ليست واحدا من هذه الثلاثة.
وأجيب بأن ما ذكر من الاشتراط غير مسلم بل هو شرط الأكثرية، واختار في البحر وجهين للتخريج، الأول أن تكون شَهادَةُ منصوبة على المصدر النائب مناب فعل الأمر واثْنانِ مرتفع به، والتقدير ليشهد بينكم اثنان فيكون من باب ضربا زيدا إلا أن الفاعل في ضربا يستند إلى ضمير المخاطب لأن معناه اضرب، وهذا يستند إلى الظاهر لأن معناه ما علمت، والثاني أن تكون مصدرا لا بمعنى الأمر بل خبرا ناب مناب الفعل في الخبر وإن كان ذلك قليلا كقوله: وقوفا بها صحبي على مطيهم. فارتفاع صحبي وانتصاب مطيهم بقوله وقوفا فإنه بدل من اللفظ بالفعل في الخبر، والتقدير وقف صحبي على مطيهم والتقدير في الآية يشهد إذا حضر أحدكم الموت اثنان ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي
من المسلمين كما روي عن ابن عباس وابن مسعود والباقر رضي الله تعالى عنهم
وابن المسيب عليه الرحمة أو من أقاربكم وقبيلتكم كما روي عن الحسن وعكرمة، وهو الذي يقتضيه كلام الزهري وهما صفتان لاثنان أَوْ آخَرانِ عطف على اثْنانِ في سائر احتمالاته.
وقوله سبحانه: مِنْ غَيْرِكُمْ صفة له أي كائنان من غيركم، والمراد بهم غير المسلمين من أهل الكتاب عند الأولين وغير الأقربين من الأجانب عند الآخرين. واختار الأول جماعة من المتأخرين حتى قال الجصاص: إن التفسير الثاني لا وجه له لأن الخطاب توجه أولا إلى أهل الإيمان فالمغايرة تعتبر فيه ولم يجر للقرابة ذكر، ويدل لذلك أيضا سبب النزول وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي سافرتم، وارتفاع أَنْتُمْ بفعل مضمر ويفسره ما بعده، والتقدير إن ضربتم فلما حذف الفعل وجب أن يفصل الضمير ليقوم بنفسه، وهذا رأي جمهور البصريين، وذهب الأخفش والكوفيون إلى أنه مبتدأ بناء على جواز وقوع المبتدأ بعد إن الشرطية كجواز وقوعه بعد إذا فجملة ضَرَبْتُمْ لا موضع لها على الأول للتفسير وموضعها الرفع على الخبرية على الثاني.

(4/46)


وقوله تعالى: فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ أي قاربتم الأجل عطف على الشرط وجوابه محذوف، فإن كان الشرط قيدا في أصل الشهادة فالتقدير إن ضربتم في الأرض إلخ فليشهد اثنان منكم أو من غيركم، وإن كان شرطا في العدول إلى آخرين بالمعنى الذي نقل عن الأولين فالتقدير فاشهدوا آخرين من غيركم أو فالشاهدان آخران من غيركم، وحينئذ تفيد الآية أنه لا يعدل في الشهادة إلى غير المسلمين إلا بشرط الضرب في الأرض، وروي ذلك عن شريح رضي الله تعالى عنه. وقوله سبحانه: تَحْبِسُونَهُما أي تلزمونهما وتصبرونهما استئناف كأنه قيل كيف نعمل إذا ارتبنا بالشاهدين فقال سبحانه: تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ أي صلاة العصر كما روي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه، وقتادة، وابن جبير وغيرهم، والتقييد بذلك لأنه وقت اجتماع الناس وتكاثرهم ولأن جميع أهل الأديان يعظمونه ويجتنبون الحلف الكاذب فيه ولأنه وقت تصادم ملائكة الليل والنهار وتلاقيهم، وفي ذلك تكثير للشهود منهم على صدق الحالف وكذبه فيكون أخوف، وعد ذلك بعضهم من باب التغليظ على المستحلف بالزمان.
وعندنا لا يلزم التغليظ به ولا بالمكان بل يجوز للحاكم فعله.
وعن الحسن أن المراد بها صلاة العصر أو الظهر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما، وجوز أن تكون اللام للجنس أي بعد أي صلاة كانت. والتقييد بذلك لأن الصلاة داعية إلى النطق بالصدق ناهية عن التفوه بالكذب والزور وارتكاب الفحشاء والمنكر. وجعل الحسن التقييد بذلك دليلا على ما تقدم من تفسيره. وجوز أن تكون الجملة صفة أخرى لآخران وجملة الشرط معترضة فلا يضر الفصل بها. وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وتعقب بأنه يقتضي اختصاص الحبس بالآخرين مع شموله للأولين أيضا قطعا على أن اعتبار اتصافهما بذلك يأباه مقام الأمر بإشهادهما إذ مآله فآخران شأنهما الحبس والتحليف وإن أمكن إتمام التقريب باعتبار قيد الارتياب بهما كما يفيده الاعتراض الآتي. ولا يخفى ما فيه.
والخطاب للموصى لهم. وقيل: للورثة. وقيل: للحكام والقضاة.
وقوله عز وجل: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ عطف على تَحْبِسُونَهُما إِنِ ارْتَبْتُمْ أي شككتم في صدقهما وعدم استبدادهما بشيء من التركة. والجملة شرطية حذف جوابها لدلالة ما سبق من الحبس والاقسام عليه، والشرط مع جوابه المحذوف معترض بين القسم وجوابه أعني قوله تعالى: لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وقد سيق من جهته تعالى للتنبيه على اختصاص الحبس والتحليف بحال الارتياب وليس هذا من قبيل ما اجتمع فيه قسم وشرط فاكتفى بذكر جواب سابقهما عن جواب الآخر كما هو الواقع غالبا لأن ذلك إنما يكون عند سد جواب السابق مسد جواب اللاحق لاتحاد مضمونهما كما في قولك: والله إن أتيتني لأكرمنك، ولا ريب في استحالته هاهنا لأن القسم وجوابه كلام الشاهدين والشرطية كما علمت من جهته سبحانه وتعالى، ولا يتوهم أن إن هنا وصلية لأنها مع أن الواو لازمة لها ليس المعنى عليها كما لا يخفى.
وزعم بعضهم جواز كونها شرطية ولا نَشْتَرِي دليل الجواب، والمعنى إن ارتبتم فلا ينبغي ذلك أو فقد أخطأتم لأنا لسنا ممن يشتري به ثمنا قليلا وهو بعيد جدا وتخلو الآية عليه ظاهرا من شرط التحليف، وضمير بِهِ عائد إلى الله تعالى، والمعنى لا نأخذ لأنفسنا بدلا من الله سبحانه أي من حرمته تعالى عرضا من الدنيا بأن نزيلها بالحلف الكاذب وحاصله لا نحلف بالله تعالى حلفا كاذبا لأجل المال، وقيل: إنه عائد إلى القسم على تقدير مضاف أي لا نستبدل بصحة القسم بالله تعالى عرضا من الدنيا بأن نزيل عنه وصف الصدق ونصفه بالكذب، وقيل: إلى الشهادة باعتبار أنها قول ولا بد من تقدير مضاف أيضا، وتقدير مضاف في ثَمَناً أي ذا ثمن مما لم يدع إليه إلا

(4/47)


قلة التأمل وَلَوْ كانَ المقسم له المدلول عليه بفحوى الكلام ذا قُرْبى أي قريبا منا. وهذا تأكيد لتبريهما من الحلف الكاذب ومبالغة في التنزه عنه كأنهما قالا: لا نأخذ لأنفسنا بدلا من ذلك مالا ولو انضم إليه رعاية جانب الأقرباء فكيف إذا لم يكن كذلك، وصيانة أنفسهما وإن كانت أهم من رعاية جانب الأقرباء لكنها- كما قال شيخ الإسلام- ليست ضميمة المال بل هي راجعة إليه، وقيل: الضمير للمشهود له على معنى لا نحابي أحدا بشهادتنا ولو كان قريبا منا، وجواب لو محذوف اعتمادا على ما سبق عليه أي لا نشتري به ثمنا، والجملة معطوفة على جملة أخرى محذوفة أي لو لم يكن ذا قربى ولو كان إلخ، وجعل السمين الواو للحال، وقد تقدم لك ما ينفعك هنا.
وجوز بعضهم إرجاع الضمير للشاهد وقدر جوابا للو غير ما قدرنا أي ولو كان الشاهد قريبا يقسمان، وجعل فائدة ذلك دفع توهم اختصاص الاقسام بالأجنبي، ولا يخفى ما في التركيب حينئذ من الركاكة التي لا ينبغي أن تكون في كلام هذا البعض فضلا عن كلام رب الكل، ونشهد بالله سبحانه وتعالى أن حمل كلامه عز وجل على مثل ذلك مما لا يليق وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ أي الشهادة التي أمرنا سبحانه وتعالى بإقامتها وألزمنا أداءها فالإضافة للاختصاص أو لأدنى ملابسة، والجملة معطوفة على لا نَشْتَرِي بِهِ داخل معه في حيز القسم. وروي عن الشعبي أنه وقف على «شهادة» بالهاء ثم ابتدأ آلله بالمد والجر على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه وليس هذا من حذف حرف الجر وإبقاء عمله وهو شاذ كقوله: أشارت كليب بالأكف الأصابع. لأن ذلك حيث لا تعويض، وفي الجلالة الكريمة تعويض همزة الاستفهام عن المحذوف، وهل الجر به أو بالعوض قولان. وروي عنه وكذا عن الحسن رضي الله تعالى عنه ويحيى بن عمر، وابن جرير، وآخرين «الله» بدون مد. وفي ذلك احتمالان.
الأول أن الحذف من غير عوض فيكون على خلاف القياس، الثاني أن الهمزة المذكورة همزة الاستفهام وهي همزة قطع عوضت عن الحرف ولكنها لم تمد وهذا أولى من دعوى الشذوذ. ولذا اختاره في الدر المصون، وقرىء بتنوين الشهادة ووصل الهمزة ونصب اسم الله تعالى من غير مد. وخرجه أبو البقاء على أنه منصوب بفعل القسم محذوفا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ أي إذا فعلنا ذلك وكتمنا، والعدول عن آثمون إلى ما ذكر للمبالغة. وقرىء «لملاثمين» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام النون فيها فَإِنْ عُثِرَ أي اطلع يقال عثر الرجل على الشيء عثورا إذا اطلع عليه.
وقال الغوري: تقول عثرت إذا اطلعت على ما كان خفيا وهو مجاز بحسب الأصل من قولهم: عثر إذا كبا.
وذلك أن العاثر ينظر إلى موضع عثاره فيعرفه ويطلع عليه، وقال الليث: إن مصدر عثر بمعنى اطلع العثور وبمعنى كبا العثار وحينئذ يخفى القول بالمجاز لأن اختلاف المصدر ينافيه فلا تتأتى تلك الدعوى إلا على ما قاله الراغب من اتحاد المصدرين، وفي القاموس عثر كضرب، ونصر، وعلم وكرم عثر أو عثير أو عثارا كبا. والعثور الاطلاع كالعثر.
وظاهر هذا أن لا مجاز. ويفهم منه أيضا الاتحاد في بعض المصادر فافهم، والمراد فإن عثر بعد التحليف عَلى أَنَّهُمَا أي الشاهدين الحالفين اسْتَحَقَّا إِثْماً أي فعلا ما يوجبه من تحريف وكتم بأن ظهر بأيديهما شيء من التركة وادعيا استحقاقهما له بوجه من الوجوه، وقال الجبائي: الكلام على حذف مضاف أي استحقا عقوبة إثم فَآخَرانِ أي فرجلان آخران. وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: يَقُومانِ مَقامَهُما والفاء جزائية وهي إحدى مصوغات الابتداء بالنكرة. ولا محذور في الفصل بالخبر بين المبتدأ وصفته وهو قوله سبحانه: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ، وقيل: هو خبر مبتدأ محذوف أي فالشاهدان آخران، وجملة يَقُومانِ صفته والجار والمجرور صفة أخرى وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من ضمير يَقُومانِ، وقيل: هو فاعل فعل محذوف أي

(4/48)


فليشهد آخران وما بعده صفة له، وقيل: مبتدأ خبره الجار والمجرور، والجملة الفعلية صفته وضمير مَقامَهُما في جميع هذه الأوجه مستحق للذين استحقا. وليس المراد بمقامهما مقام أداء الشهادة التي تولياها ولم يؤدياها كما هي بل هو مقام الحبس. والتحليف واسْتَحَقَّ بالبناء للفاعل على قراءة عاصم في رواية حفص عنه وبها قرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وأبي رضي الله تعالى عنهم وفاعله الْأَوْلَيانِ، والمراد من الموصول أهل الميت ومن الأوليين الأقربان إليه الوارثان له الأحقان بالشهادة لقربهما واطلاعهما وهما في الحقيقة الآخران القائمان مقام اللذين استحقا إثما إلا أنه أقيم المظهر مقام ضميرهما للتنبيه على وصفهما بهذا الوصف.
ومفعول اسْتَحَقَّ محذوف واختلفوا في تقديره فقدره الزمخشري أن يجردوهما للقيام بالشهادة ليظهروا بهما كذب الكاذبين، وقدره أبو البقاء وصيتهما، وقدره ابن عطية ما لهم وتركتهم.
وقال الإمام: إن المراد بالأوليان الوصيان اللذان ظهرت خيانتهما. وسبب أولويتهما أن الميت عينهما للوصية فمعنى اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ خان في مالهم وجنى عليهم الوصيان اللذان عثر على خيانتهما. وعلى هذا لا ضرورة إلى القول بحذف المفعول، وقرأ الجمهور «استحقّ عليهم الأوليان» ببناء استحق للمفعول. واختلفوا في مرجع ضميره والأكثرون أنه الإثم، والمراد من الموصول الورثة لأن استحقاق الإثم عليهم كناية عن الجناية عليهم ولا شك أن الذين جنى عليهم وارتكب الذنب بالقياس إليهم هم الورثة، وقيل: إنه الإيصاء، وقيل: الوصية لتأويلها بما ذكر، وقيل: المال، وقيل: إن الفعل مسند إلى الجار والمجرور. وكذا اختلفوا في توجيه رفع الْأَوْلَيانِ فقيل: إنه مبتدأ خبره آخران أي الأوليان بأمر الميت آخران، وقيل: بالعكس، واعترض بأن فيه الإخبار عن النكرة بالمعرفة وهو مما اتفق على منعه في مثله، وقيل: خبر مبتدأ مقدر أي هما الآخران على الاستئناف البياني، وقيل: بدل من آخران، وقيل.
عطف بيان عليه، ويلزمه عدم اتفاق البيان والمبين في التعريف والتنكير مع أنهم شرطوه فيه حتى من جوز تنكيره، نعم نقل عن نزر عدم الاشتراط، وقيل: هو بدل من فاعل يَقُومانِ.
وكون المبدل منه في حكم الطرح ليس من كل الوجوه حتى يلزم خلو تلك الجملة الواقعة خبرا أو صفة عن الضمير، على أنه لو طرح وقام هذا مقامه كان من وضع الظاهر موضع الضمير فيكون رابطا. وقيل: هو صفة آخران، وفيه وصف النكرة بالمعرفة. والأخفش أجازه هنا لأن النكرة بالوصف قربت من المعرفة قيل وهذا على عكس:
ولقد أمر على اللئيم يسبني فإنه يؤول فيه المعرفة بالنكرة وهذا أول فيه النكرة بالمعرفة أو جعلت في حكمها للوصف، ويمكن- كما قال بعض المحققين- أن يكون منه بأن يجعل الأوليان لعدم تعينهما كالنكرة.
وعن أبي علي الفارسي أنه نائب فاعل اسْتَحَقَّ والمراد على هذا استحق عليهم انتداب الأولين منهم للشهادة كما قال الزمخشري أو إثم الأولين كما قيل. وهو تثنية الأولى قلبت ألفه ياء عندها، وفي- على- في عَلَيْهِمُ أوجه الأول أنها على بابها. والثاني أنها بمعنى في. والثالث أنها بمعنى من. وفسر اسْتَحَقَّ بطلب الحق وبحق وغلب. وقرأ يعقوب، وخلفت، وحمزة، وعاصم في رواية أبي بكر عنه «استحقّ عليهم الأولين» ببناء استحق للمفعول، والأولين جمع أول المقابل للآخر وهو مجرور على أنه صفة الَّذِينَ أو بدل منه أو من ضمير عَلَيْهِمُ أو منصوب على المدح، ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة. وقيل: التقدم في الذكر لدخولهم في يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.

(4/49)


وقرأ الحسن «الأولان» بالرفع وهو كما قدمنا في الأوليان وقرىء «الأولين» بالتثنية والنصب، وقرأ ابن سيرين «الأوليين» بباءين تثنية أولى منصوبا، وقرىء «الأولين» بسكون الواو وفتح اللام جمع أولى كأعلين وإعراب ذلك ظاهر.
فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ عطف على يَقُومانِ والسببية ظاهرة. وقوله سبحانه لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما جواب القسم. والمراد بالشهادة عند الكثير ومنهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اليمين كما في قوله عز وجل فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ [النور: 6] وسميت اليمين شهادة على ما قال الطبرسي لأن اليمين كالشهادة على ما يحلف عليه أنه كذلك أي ليميننا على أنهما كاذبان فيما ادعيا من الاستحقاق مع كونها حقة صادقة في نفسها أولى بالقبول من يمينها مع كونها كاذبة في نفسها لما أنه قد ظهر للناس استحقاقهما للإثم ويميننا منزهة عن الريب والريبة وصيغة التفضيل إنما هي لإمكان قبول يمينهما في الجملة باعتبار صدقهما في ادعاء تملكهما لما ظهر في أيديهما، وقيل: إن الشهادة على معناها المتبادر عند الإطلاق، وسيأتي إن شاء الله تعالى عن بعض المحققين غير ذلك.
وقوله عز شأنه وَمَا اعْتَدَيْنا عطف على الجواب أي ما تجاوزنا في شهادتنا الحق وما اعتدينا عليهما بإبطال حقهما. وقوله تعالى: إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ استئناف مقرر لما قبله أي أنا إذا اعتدينا فيما ذكر لمن الظالمين أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه أو لمن الواضعين الحق في غير موضعه، ومعنى الآيتين عند غير واحد من المفسرين أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي دينه أو نسبه فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخران من غيرهم، ثم إن وقع ارتياب في صدقهما أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت فإن اطلع على كذبهما بأمارة حلف آخران من أهل الميت. وادعى أن الحكم منسوخ إذا كان الاثنان شاهدين فإنه لا يحلف الشاهد ولا يعارض يمينه بيمين الوارث، وقيل: إن التحليف لم ينسخ لكنه مشروط بالريبة.
وقد روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما،
وفي بعض كتب الحنفية أن الشاهد إن لم يجد من يزكيه يجوز تحليفه احتياطا وهذا خلاف المفتى به كما بسط في محله. وكذا ادعى البعض النسخ أيضا على تقدير أن يكون المراد بالشاهدين في السفر غير مسلمين لأن شهادة الكافر على المسلم لا تقبل مطلقا، وروى حديث النسخ ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال بعضهم: لا نسخ وأجاز شهادة الذمي على المسلم في هذه الصورة.
وروي عن أبي موسى الأشعري أنه حكم لما كان واليا على الكوفة بمحضر من الصحابة بشهادة ذميين بعد تحليفهما في وصية مسلم في السفر وإلى ذلك ذهب الإمام أحمد بن حنبل، وقال آخرون: الاثنان وصيان وحكم تحليفهما إذا ارتاب الورثة غير منسوخ، وما أفادته الآية من رد اليمين على الورثة ليس من حيث إنهم مدعون وقد ظهرت خيانة الوصيين فردت اليمين عليهما خلافا للشافعي بل من حيث إنهم صاروا مدعى عليهم لانقلاب الدعوى فإن الوصي المدعى عليه أولا صار مدعيا للملك والورثة ينكرون ذلك، ويدل عليه ما
أخرجه البخاري في التاريخ، والترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن المنذر، وخلق آخرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري، وعدي بن بداء، وقيل: نداء بالنون فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالله تعالى ما كتمتما ولا اطلعتما ثم وجدا لجام بمكة

(4/50)


فقيل اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله سبحانه لشهادتهما أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم وأخذ الجام وفيهم نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ،
هذا وادعى بعض المحققين أن الشهادة هاهنا لا يمكن أن تكون بمعناها المتبادر بوجه ولا تتصور لأن شهادتهما إما على الميت ولا وجه لها بعد موته وانتقال الحق إلى الورثة وحضورهم أو على الوارث المخاصم وكيف يشهد الخصم على خصمه فلا بد من التأويل، وذكر أن الظاهر أن تحمل في قوله سبحانه شَهادَةُ بَيْنِكُمْ على الحضور أو الإحضار أي إذا حضر الموت المسافر فليحضر من يوصي إليه بإيصال ماله لوارثه مسلما فإن لم يجد فكافرا، والاحتياط أن يكونا اثنين فإذا جاءا بما عندهما وحصل ريبة في كتم بعضه فليحلفا لأنهما مودعان مصدقان بيمينهما فإن وجد ما خانا فيه وادعيا أنهما تملكاه منه بشراء ونحوه ولا بينة لهما على ذلك يحلف المدعى عليه على عدم العلم بما ادعياه من التملك وأنه ملك لمورثهما لا نعلم انتقاله عن ملكه، والشهادة الثانية بمعنى العلم المشاهد أو ما هو بمنزلته لأن الشهادة المعاينة فالتجوز بها عن العلم صحيح قريب، والشهادة الثالثة إما بهذا المعنى أو بمعنى اليمين، وعلى هذا وهو مما أفاضه الله تعالى علي ببركة كلامه سبحانه فلا نسخ في الآية ولا إشكال، وما ذكروه كله تكلف لم يصف من الكدر لذوق ذائق، وسبب النزول وفعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم مبين لما ذكر انتهى.
ولعل تخصيص الاثنين اللذين يحلفان بأحقية شهادتهما على ما قبل لخصوص الواقعة وإلا فإن كان الوارث واحدا حلف وإن تعدد حلف المتعدد كما بين في الكتب الفقهية، وما ذكر من أن سبب النزول إلخ مبين لما قرره فيه بعض خفاء إذ ليس في الخبر أن الوارثين حلفا على عدم العلم، وفي غيره ما هو نص في الحلف على الثبات، فقد روي في خبر أطول مما تقدم أن عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميين قاما فحلفا بالله سبحانه بعد العصر أنهما أي تميما وعديا كذبا وخانا، نعم قال الترمذي في الجامع بعد روايته لذلك الخبر: إنه حديث غريب. وليس إسناده بصحيح، وأيضا في حمل الشهادة على شيء مما ذكره في قوله سبحانه وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ خفاء، وادعى هو نفسه أن حمل الشهادة على اليمين بعيد لأنها إذا أطلقت فهي المتعارفة فتأمل، فقد قال الزجاج: إن هذه الآية من أشكل ما في القرآن، وقال الواحدي: روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام، وقال الإمام: اتفق المفسرون على أن هذه الآية في غاية الصعوبة إعرابا ونظما وحكما. وقال المحقق التفتازاني: اتفقوا على أن هذه الآية أصعب ما في القرآن حكما وإعرابا ونظما.
وقال الشهاب: اعلم أنهم قالوا: ليس في القرآن أعظم إشكالا وحكما وإعرابا وتفسيرا من هذه الآية والتي بعدها يعني يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ وقوله تعالى فَإِنْ عُثِرَ إلخ حتى صنفوا فيها تصانيف مفردة قالوا: ومع ذلك لم يخرج أحد من عهدتها. وذكر الطبرسي أن الآيتين من أعوص القرآن حكما ومعنى وإعرابا وافتخر بما أتى فيهما ولم يأت بشيء إلى غير ذلك من أقوالهم وسبحان الخبير بحقائق كلامه ذلِكَ كلام مستأنف سيق لبيان أن ما ذكر مستتبع للمنافع وارد على مقتضى الحكمة والإشارة إلى الحكم السابق تفصيله، وقيل: إلى تحليف الشاهدين، وقيل: إلى الحبس بعد الصلاة أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أي أقرب إلى أن يؤدي الشهود الشهادة على حقيقتها من غير تغيير لها خوفا من العذاب الأخروي، وهذه حكمة التحليف الذي تقدم أولا، والجار الأول متعلق بيأتوا والثاني بمحذوف وقع حالا من الشهادة، وقوله تعالى: أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ أي إلى الورثة فيحلفوا بَعْدَ أَيْمانِهِمْ التي حلفوها عطف على مقدر ينبىء عنه المقام كأنه قيل: ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة محققة ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة المحرمة في سائر الأديان أو يخافوا أن ترد الايمان إلى الورثة فيحلفوا ويأخذوا ما في أيديهم

(4/51)


فيخجلوا من ذلك على رؤوس الاشهاد فينزجروا عن الخيانة، وهو بيان لحكمة شرعية قيام الآخرين فأي هذين الخوفين وقع حصل المقصد الذي هو الإتيان بالشهادة على وجهها، وقيل: إنه عطف على يَأْتُوا أي ذلك الحكم الذي ذكرناه أقرب أن يأتوا بالشهادة على وجهها مما كنتم تفعلونه وأقرب إلى خوف الفضيحة، وجعل الشهاب هذا العطف على حد قوله: علفتها تبنا وماء باردا. وجوز السمين كون أو بمعنى الواو كما جوز جعلها لأحد الشيئين على ما هو الأصل فيها فتدبر وجمع ضمير «يأتوا ويخافوا» على ما قيل لأن المراد ما يعم الشاهدين المذكورين وغيرهما من بقية الناس، والظرف بعد متعلق بترد كما هو الظاهر. وجوز السمين- وهو ضعيف- أن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لأيمان.
وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة أحكامه التي من جملتها ما ذكر، والجملة على ما قيل عطف على مقدر أي احفظوا أحكام الله سبحانه واتقوا وَاسْمَعُوا سمع إجابة وقبول جميع ما تؤمرون به وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ تذييل لما تقدم، والمراد فإن لم تتقوا وتسمعوا كنتم فاسقين خارجين عن الطاعة والله تعالى لا يهدي القوم الخارجين عن طاعته إلى ما ينفعهم أو إلى طريق الجنة، وقوله سبحانه: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ قيل ظرف لقوله عز وجل: لا يَهْدِي، ونظر فيه الحلبي من حيث إنه سبحانه لا يهديهم مطلقا لا في ذلك اليوم ولا في الدنيا وهذا احتمال ذكره الزمخشري، ونقل عن المغربي أيضا وهو ظاهر على تقدير أن يكون المراد لا يهديهم إلى طريق الجنة، وفيه مراعاة لمذهب الاعتزال من أن نفي الهداية المطلقة لا يجوز على الله جل وعلا ولذلك خصص المهدى إليه، وقيل: إنه بدل من مفعول وَاتَّقُوا فهو حينئذ مفعول لا ظرف.
وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعدا لطول الفصل بالجملتين، وقال الحلبي: لا بعد فإن هاتين الجملتين من تمام معنى الجملة الأولى وهو عند القائلين بالبدلية بدل اشتمال. وتعقب ذلك العلم العراقي بأن الإنصاف أن بدل الاشتمال هاهنا ممتنع لأنه لا بد فيه من اشتمال البدل على المبدل منه أو بالعكس وهنا يستحيل ذلك ولهذا قال الحلبي: لا بد في هذا الوجه من تقدير مضاف ليصح، والمراد اتقوا عقاب الله يوم وحينئذ يصح انتصاب اليوم على الظرفية، وقال المحقق التفتازاني: وجه بدل الاشتمال ما بينهما من الملابسة بغير الكلية والبعضية بطريق اشتمال المبدل منه على البدل لا كاشتمال الظرف على المظروف بل بمعنى أن ينتقل الذهن إليه في الجملة ويقتضيه بوجه إجمالي مثلا إذا قيل اتقوا الله يتبادر الذهن منه إلى أنه من أي أمر من أموره وأي يوم من أيام أفعاله يجب الاتقاء أيوم جمعه سبحانه للرسل أم غير ذلك، واعترض بأنه اشترط في ذلك أن لا يكون ظرفية وهذا ظرف زمان لو أبدل منه لأوهم ذلك، وقيل: إنه منصوب بمضمر معطوف على «اتقوا» إلخ أي واحذروا أو واذكروا يوم إلخ فإن تذكير ذلك اليوم الهائل مما يضطرهم إلى تقوى الله تعالى وتلقي أمره بسمع الإجابة، وقيل: منصوب بقوله سبحانه وَاسْمَعُوا بحذف مضاف أي واسمعوا خبر ذلك اليوم.
وقيل: منصوب بفعل مؤخر قد حذف للدلالة على ضيق العبارة عن شرحه وبيانه لكمال فظاعة ما يقع فيه كأنه قيل: يوم يجمع الله الرسل إلخ يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي ببيانه نطاق المقال، وتخصيص الرسل بالذكر مع أن ذلك يوم مجموع له الناس لإبانة شرفهم وأصالتهم والإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم بناء على ظهور كونهم أتباعا لهم. وقيل ولا يخفى لطفه على بعض الاحتمالات الآتية في الآية: لأن المقام مقام ذكر الشهداء والرسل عليهم الصلاة والسلام هم الشهداء على أممهم كما يدل على ذلك قوله تعالى: وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً [القصص: 75] ففي بيان حالهم وما يقع لهم يوم القيامة وهم من وعظ الشهداء الذين البحث فيهم ما لا يخفى،

(4/52)


وبهذا تتصل الآية بما قبلها أتم اتصال، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وتشديد التهويل فَيَقُولُ لهم ماذا أُجِبْتُمْ أي في الدنيا حين بلغتم الرسالة وخرجتم عن العهدة كما ينبىء عن ذلك العدول عن تصدير الخطاب بهل بلغتم، وفي العدول عن ماذا أجاب أممكم ما لا يخفى من الأنباء عن كمال تحقير شأنهم وشدة السخط والغيظ عليهم، والسؤال لتوبيخ أولئك أيضا وإلا فهو سبحانه علام الغيوب. وماذا متعلق بأجبتم على أنه مفعول مطلق له أي أي إجابة أجبتم من قبل أممكم إجابة قبول أو إجابة رد. وقيل: التقدير بماذا أجبتم أي بأي شيء أجبتم على أن يكون السؤال عن الجواب لا الإجابة فحذف حرف الجر وانتصب المجرور. وضعف بأن حذف حرف الجر وانتصاب مجروره لا يجوز إلا في الضرورة كقوله: تمرون الديار ولم تعوجوا. وكذا تقديره مجرورا. وقال العوفي:
إن ما اسم استفهام مبتدأ وذا بمعنى الذي خبره وأُجِبْتُمْ صلته والعائد محذوف أي ما الذي أجبتم به.
واعترض بأنه لا يجوز حذف العائد المجرور إلا إذا جر الموصول بمثل ذلك الحرف الجار واتحد متعلقاهما، وغاية ما أجابوا به عن ذلك أن الحذف وقع على التدريج وهو كما ترى قالُوا استئناف مبني على سؤال نشأ من سوق الكلام كأنه قيل: فماذا يقول الرسل عليهم الصلاة والسلام حينئذ؟ فقيل: يقولون لا عِلْمَ لَنا والتعبير بالماضي للدلالة على التقرر والتحقق كنفخ في الصور وغيره، ونفي العلم عن أنفسهم مع علمهم بماذا أجيبوا كما تدل عليه شهادتهم عليهم الصلاة والسلام على أممهم هنالك حسبما نطقت به بعض الآيات ليس على حقيقته بل هو كناية عن إظهار التشكي والالتجاء إلى الله تعالى بتفويض الأمر كله إليه عز شأنه.
وقال ابن الأنباري: إنه على حقيقته لكنه ليس لنفي العلم بماذا أجيبوا عند التبليغ ومدة حياتهم عليهم الصلاة والسلام بل بما كان في عاقبة الأمر وآخره الذي به الاعتبار. واعترض بأنهم يرون آثار سوء الخاتمة عليهم فلا يصح أيضا نفي العلم بحالهم وبما كان منهم بعد مفارقتهم لهم. وأجيب بأن ذلك إنما يدل على سوء الخاتمة وظهور الشقاوة في العاقبة لا على حقيقة الجواب بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلعلهم أجابوا إجابة قبول ثم غلبت عليهم الشقوة.
وتعقب بأنه من المعلوم أن ليس المراد بماذا أجبتم نفس الجواب الذي يقولونه أو الإجابة التي تحدث منهم بل ما كانوا عليه في أمر الشريعة من الامتثال والانقياد أو عكس ذلك. وفي رواية عن الحسن أن المراد لا علم لنا كعلمك لأنك تعلم باطنهم ولسنا نعلم ذلك وعليه مدار فلك الجزاء، وقيل: المراد من ذلك النفي تحقيق فضيحة أممهم أي أنت أعلم بحالهم منا ولا يحتاج إلى شهادتنا.
وأخرج الخطيب في تاريخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد نفي العلم نظرا إلى خصوص الزمان وهو أول الأمر حين تزفر جهنم فتجثو الخلائق على الركب وتنهمل الدموع وتبلغ القلوب الحناجر وتطيش الأحلام وتذهل العقول ثم إنهم يجيبون في ثاني الحال وبعد سكون الروع واجتماع الحواس وذلك وقت شهادتهم على الأمم، وبهذا أجاب رضي الله تعالى عنه نافع بن الأزرق حين سأله عن المنافاة بين هذه الآية وما أثبت الله تعالى لهم من الشهادة على أممهم في آية أخرى. وروي أيضا عن السدي، والكلبي، ومجاهد وهو اختيار الفراء وأنكره الجبائي، وقال: كيف يجوز القول بذهولهم من هول يوم القيامة مع قوله سبحانه: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 103] وقوله عز وجل: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 38، الأنعام: 48، الأعراف: 35، الأحقاف: 13] وقد نقل ذلك عنه الطبرسي ثم قال: ويمكن أن يجاب عنه بأن الفزع الأكبر دخول النار. وقوله سبحانه: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ إنما هو كالبشارة بالنجاة من أهوال ذلك اليوم مثل ما يقال للمريض لا بأس عليك ولا خوف.
وقيل: إن ذلك الذهول لم يكن لخوف ولا حزن وإنما هو من باب العوم في بحار الإجلال لظهور آثار تجلي

(4/53)


الجلال. واعترض شيخ الإسلام على ما تقدم بأن قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ في موضع التعليل ولا يلائم ما ذكر. وعَلَّامُ صيغة مبالغة والمراد الكامل في العلم. والْغُيُوبِ جمع غيب وجمع وإن كان مصدرا على ما قال السمين لاختلاف أنواعه وإن أريد به الشيء الغائب أو قلنا: إنه مخفف غيب فالأمر واضح. وقرىء «علام» بالنصب على أن الكلام قد تم عند إِنَّكَ أَنْتَ ونصب الوصف على المدح أو النداء أو على أنه بدل من اسم إن، ومعنى إِنَّكَ أَنْتَ إنك الموصوف بصفاتك المعروفة، والكلام على طريقه: أنا أبو النجم. وشعري شعري.
وقرأ أبو بكر وحمزة «الغيوب» بكسر الغين حيث وقع وقد سمع في كل جمع على وزن فعول كبيوت كسر أوله لئلا يتوالى ضمتان وواو إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ بدل من يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وقد نصب بإضمار اذكر، وقيل: في محل رفع على معنى ذاك إذ وليس بشيء، وصيغة الماضي لما مر آنفا من الدلالة على تحقق الوقوع، والمراد بيان ما جرى بينه تعالى وبين فرد من الرسل المجموعين على التفصيل إثر بيان ما جرى بينه عز وجل وبين الكل على وجه الإجمال ليكون ذلك كالأنموذج على تفاصيل أحوال الباقين، وتخصيص عيسى عليه السلام بالذكر لما أن شأنه عليه الصلاة والسلام متعلق بكلا فريقي أهل الكتاب المفرطين والمفرطين الذين نعت هذه السورة الكريمة جناياتهم فتصيله أعظم عليهم وأجلب لحسراتهم، وإظهار الاسم الجليل لما مر. وعِيسَى مبني عند الفراء ومتابعيه إما على ضمة مقدرة أو على فتحة كذلك إجراء له مجرى يا زيد بن عمرو في جواز ضم المنادي وفتحه عند الجمهور، وهذا إذا أعرب ابن صفة لعيسى، أما إذا أعرب بدلا أو بيانا فلا يجوز تقدير الفتحة إجماعا كما بين في كتب النحو، و «على» في قوله تعالى:
اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ متعلقة بنعمتي جعل مصدرا أي اذكر إنعامي أو بمحذوف وقع حالا من نعمة أن جعل اسما أي اذكر نعمتي كائنة عليك إلخ، وعلى التقديرين يراد بالنعمة ما هو في ضمن المتعدد وليس المراد كما قال شيخ الإسلام بأمره عليه السلام يومئذ بذكر النعمة المنتظمة في سلك التعديد تكليفه عليه السلام بشكرها والقيام بمواجبها ولات حين تكليف مع خروجه عليه السلام عن عهدة الشكر في أوانه أي خروج بل إظهار أمره عليه السلام بتعداد تلك النعم حسبما بينه الله تعالى اعتدادا بها وتلذذا بذكرها على رؤوس الأشهاد وليكون حكاية ذلك على ما أنبأ عنه النظم الكريم توبيخا للكفرة من الفريقين المختلفين في شأنه عليه السلام إفراطا وتفريطا وإبطالا لقولهما جميعا إِذْ أَيَّدْتُكَ ظرف لنعمتي أي اذكر إنعامي عليكما وقت تأييدي لكما أو حال منها أي اذكرها كائنة وقت ذلك، وقيل: بدل اشتمال منها وهو في المعنى تفسير لها.
وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولا به على السعة، وقرىء «آيدتك» بالمد ووزنه عند الزمخشري أفعلتك وعند ابن عطية فاعلتك، قال أبو حيان: ويحتاج إلى نقل مضارعه من كلام العرب فإن كان يؤايد فهو فاعل وإن كان يؤيد فهو أفعل ومعناه ومعنى أيد واحد، وقيل: معناه بالمد القوة وبالتشديد النصر وهما- كما قيل- متقاربان لأن النصر قوة بِرُوحِ الْقُدُسِ أي جبريل عليه السلام أو الكلام الذي يحيى به الدين ويكون سببا للطهر عن أوضار الآثام أو تحيي بها الموتى أو النفوس حياة أبدية أو نفس روحه عليه السلام حيث أظهرها سبحانه وتعالى روحا مقدسة طاهرة مشرقة نورانية علوية، وكون هذا التأييد نعمة عليه عليه الصلاة والسلام مما لا خفاء فيه، وأما كونه نعمة على والدته فلما ترتب عليه من براءتها مما نسب إليها وحاشاها وغير ذلك.
تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ أي طفلا صغيرا، وما في النظم الكريم أبلغ من التصريح بالطفولية وأولى لأن الصغير يسمى طفلا إلى أن يبلغ الحلم فلذا عدل عنه، والظرف في موضع الحال من ضمير «تكلم» .

(4/54)


وجوز أن يكون ظرفا للفعل. والجملة إما استئناف مبين لتأييده عليه الصلاة والسلام أو في موضع الحال من الضمير المنصوب في «أيدتك» كما قال أبو البقاء. والمهد معروف. وعن الحسن أن المراد به حجر أمه عليهما السلام، وأنكر النصارى كلامه عليه الصلاة والسلام في المهد وقالوا إنما تكلم عليه السلام أو أن ما يتكلم الصبيان وقد تقدم مع جوابه.
وقوله تعالى: وَكَهْلًا للإيذان على ما قيل بعدم تفاوت كلامه عليه الصلاة والسلام طفولية وكهولة لا لأن كلّا منهما آية فإن التكلم في الكهولة معهود من كل أحد. وقال الإمام: إن الثاني أيضا معجزة مستقلة لأن المراد تكلم الناس في الطفولية وفي الكهولة حين تنزل من السماء لأنه عليه الصلاة والسلام حين رفع لم يكن كهلا. وهذا مبني على تفسير الكهل بمن وخطه الشيب ورأيت له بحالة أو من جاوز أربعا وثلاثين سنة إلى إحدى وخمسين وعيسى عليه الصلاة والسلام رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين قيل وثلاثة أشهر وثلاثة أيام.
وقيل: رفع وهو ابن أربع وثلاثين وما صح أنه عليه الصلاة والسلام وخطه الشيب، وأما لو فسر بمن جاوز الثلاثين فلا يتأتى هذا القول كما لا يخفى.
وقال بعض: الأولى أن يجعل «وكهلا» تشبيها بليغا أي تكلمهم كائنا في المهد وكائنا كالكهل. وأنت تعلم أن أخذ التشبيه من العطف لا وجه له وتقدير الكاف تكلف وَإِذْ عَلَّمْتُكَ عطف على «إذ أيدتك» أي واذكر نعمتي عليكما وقت تعليمي لك من غير معلم الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ أي جنسهما، وقيل: الكتاب الخط والحكمة الكلام المحكم الصواب وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ خصا بالذكر إظهارا لشرفهما على الأول.
وَإِذْ تَخْلُقُ أي تصور مِنَ الطِّينِ أي جنسه كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أي هيئة مثل هيئته بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها أي في تلك الهيئة المشبهة فَتَكُونُ بعد نفخك من غير تراخ طَيْراً بِإِذْنِي أي حيوانا يطير كسائر الطيور وقرأ نافع ويعقوب «طائرا» وهو إما اسم مفرد وإما اسم جمع كباقر وسامر.
وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي عطف على «تخلق» وقوله سبحانه: وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي عطف على إِذْ تَخْلُقُ أعيدت فيه إِذْ كما قيل لكون إخراج الموتى من قبورهم لا سيما بعد ما صاروا رميما معجزة باهرة حرية بتذكير وقتها صريحا. وما في النظم الكريم أبلغ من تحيي الموتى فلذا عدل عنه إليه. وقد تقدم الكلام في بيان من أحياهم عليه الصلاة والسلام مع بيان ما ينفعك في هذه الآية في سورة آل عمران.
وذكر بِإِذْنِي هنا أربع مرات وثمة مرتين قالوا: لأنه هنا للامتنان وهناك للأخبار فناسب هذا التكرار هنا وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ يعني اليهود حين هموا بقتله ولم يتمكنوا منه.
إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي المعجزات الواضحة مما ذكر وما لم يذكر وهو ظرف لكففت مع اعتبار قوله تعالى: فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وهو مما يدل على أنهم قصدوا اغتياله عليه الصلاة والسلام المحوج إلى الكف أي كففتهم عنك حين قالوا ذلك عند مجيئك إياهم بالبينات، ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة. فكلمة من بيانية وهذا إشارة إلى ما جاء به. وقرأ حمزة والكسائي «إلا ساحر» فالإشارة إلى عيسى عليه الصلاة والسلام، وجعل الإشارة إليه على القراءة الأولى وتأويل السحر بساحر لتتوافق القراءتان لا حاجة إليه وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أي أمرتهم في الإنجيل على لسانك أو أمرتهم على ألسنة رسلي.
وجاء استعمال الوحي بمعنى الأمر في كلام العرب كما قال الزجاج وأنشد:

(4/55)


الحمد لله الذي استقلت ... بإذنه السماء واطمأنت
أوحى لها القرار فاستقرت أي أمرها أن تقر فامتثلت، وقيل: المراد بالوحي إليهم إلهامه تعالى إياهم كما في قوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى وروي ذلك عن السدي وقتادة وإنما لم يترك الوحي على ظاهره لأنه مخصوص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والحواريون ليسوا كذلك، وقد تقدم المراد بالحواريين.
وأن قوله تعالى: أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي مفسرة لما في الإيحاء من معنى القول، وقيل: مصدرية أي بأن آمنوا إلخ. وتقدم الكلام في دخولها على الأمر. والتعرض لعنوان الرسالة للتنبيه على كيفية الإيمان به عليه الصلاة والسلام والرمز إلى عدم إخراجه عليه الصلاة والسلام عن حده حطا ورفعا قالُوا آمَنَّا طبق ما أمرنا به وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ مخلصون في إيماننا أو منقادون لما أمرنا به.
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ منصوب باذكر على أنه ابتداء كلام لبيان ما جرى بينه عليه الصلاة والسلام وبين قومه منقطع عما قبله كما يشير إليه الإظهار في مقام الإضمار.
وجوز أن يكون ظرفا لقالوا وفيه- على ما قيل حينئذ- تنبيه على أن ادعاءهم الإخلاص مع قولهم هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ لم يكن عن تحقيق منهم ولا عن معرفة بالله تعالى وقدرته سبحانه لأنهم لو حققوا وعرفوا لم يقولوا ذلك إذ لا يليق مثله بالمؤمن بالله عز وجل. وتعقب هذا القول الحلبي بأنه خارق للإجماع. وقال ابن عطية: لا خلاف أحفظه في أنهم كانوا مؤمنين. وأيد ذلك بقوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ وبأن وصفهم بالحواريين ينافي أن يكونوا على الباطل وبأن الله تعالى أمر المؤمنين بالتشبه بهم والاقتداء بسنتهم في قوله عز من قائل: كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ [الصف: 14] الآية. وبأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مدح الزبير
«إن لكل نبي حواريا وإن حواري الزبير»
والتزام القول بأن الحواريين فرقتان مؤمنون وهم خالصة عيسى عليه الصلاة والسلام والمأمور بالتشبه بهم وكافرون وهم أصحاب المائدة، وسؤال عيسى عليه الصلاة والسلام نزول المائدة وإنزالها ليلزمهم الحجة يحتاج إلى نقل ولم يوجد. ومن ذلك أجيب عن الآية بأجوبة فقيل: إن معنى «هل يستطيع» هل يفعل كما تقول للقادر على القيام: هل تستطيع أن تقوم مبالغة في التقاضي. ونقل هذا القول عن الحسن.
والتعبير عن الفعل بالاستطاعة من التعبير عن المسبب بالسبب إذ هي من أسباب الإيجاد. وعلى عكسه التعبير عن إرادة الفعل بالفعل تسمية للسبب الذي هو الإرادة باسم المسبب الذي هو الفعل في مثل قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: 6] إلخ. وقيل: إن المعنى هل يطيع ربك فيستطيع بمعنى يطيع ويطيع بمعنى يجيب مجازا ونقل ذلك عن السدي
وذكر أبو شامة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم عاد أبا طالب في مرض فقال له: يا ابن أخي ادع ربك أن يعافيني فقال: اللهم اشف عمي فقام كأنما نشط من عقال فقال: يا ابن أخي إن ربك الذي تعبده يطيعك فقال: يا عم وأنت لو أطعته لكان يطيعك
أي يجيبك لمقصودك وحسن استعماله صلّى الله عليه وسلّم لذلك المشاكلة.
وقيل: هذه الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة فكأنهم قالوا: هل إرادة الله تعالى وحكمته تعلقت بذلك أولا؟ لأنه لا يقع شيء بدون تعلقهما به.
واعترض بأن قوله تعالى الآتي: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لا يلائمه لأن السؤال عن مثله مما هو من علوم الغيب لا قصور فيه. وقيل: إن سؤالهم للاطمئنان والتثبت كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [البقرة: 260] ومعنى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إن كنتم كاملين في الإيمان والإخلاص. ومعنى «نعلم أن قد

(4/56)


صدقتنا» نعلم علم مشاهدة وعيان بعد ما علمناه علم إيمان وإيقان. ومن هذا يعلم ما يندفع به الاعتراض.
وقرأ الكسائي وعلي كرم الله تعالى وجهه، وعائشة، وابن عباس، ومعاذ، وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم «هل» تستطيع ربك بالتاء خطابا لعيسى عليه الصلاة والسلام ونصب «ربك» على المفعولية. والأكثرون على أن هناك مضافا محذوفا أي سؤال ربك أي هل تسأله ذلك من غير صارف. وعن الفارسي أنه لا حاجة إلى تقدير والمعنى هل تستطيع أن ينزل ربك بدعائك. وأنت تعلم أن اللفظ لا يؤدي ذلك فلا بد من التقدير، والمائدة في المشهور الخوان الذي عليه الطعام من ماد يميد إذا تحرك أو من ماده بمعنى أعطاه فهي فاعلة إما بمعنى مفعولة كعيشة راضية، واختاره الأزهري في تهذيب اللغة أو بجعلها للتمكن مما عليها كأنها بنفسها معطية كقولهم للشجرة المثمرة:
مطعمة. وأجاز بعضهم أن يقال فيها ميدة واستشهد عليه بقول الراجز:
وميدة كثيرة الألوان ... تصنع للجيران والإخوان
واختار المناوي أن المائدة كل ما يمد ويبسط، والمراد بها السفرة، وأصلها طعام يتخذه المسافر ثم سمى بها الجلد المستدير الذي تحمل به غالبا كما سميت المزادة راوية. وجوز أن تكون تسمية الجلد المذكور سفرة لأن له معاليق متى حلت عنه انفرج فأسفر عما فيه. وهذا غير الخوان بضم الخاء وكسرها وهو أفصح ويقال له: إخوان بهمزة مكسورة لأنه اسم لشيء مرتفع يهيأ ليؤكل عليه الطعام، والأكل عليه بدعة لكنه جائز إن خلا عن قصد التكبر. وتطلق المائدة على نفس الطعام أيضا كما نص عليه بعض المحققين، ومِنَ السَّماءِ يجوز أن يتعلق بالفعل قبله وأن يتعلق بمحذوف وقع صفة لمائدة أي مائدة كائنة من السماء قالَ أي عيسى عليه الصلاة والسلام لهم حين قالوا ذلك: اتَّقُوا اللَّهَ من أمثال هذا السؤال واقتراح الآيات كما قال الزجاج. وعن الفارسي أنه أمر لهم بالتقوى مطلقا.
ولعل ذلك لتصير ذريعة لحصول المأمول فقد قال سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2] وقال جل شأنه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة: 35] إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بكمال قدرته تعالى وبصحة نبوتي أو كاملين في الإيمان والإخلاص أو إن صدقتم في ادعاء الإيمان والإسلام قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها أكل تبرك. وقيل: أكل تمتع وحاجة. والإرادة إما بمعناها الظاهر أو بمعنى المحبة أي نحب ذلك والكلام كما قيل تمهيد عذر وبيان لما دعاهم إلى السؤال أي لسنا نريد من السؤال إزاحة شبهتنا في قدرته سبحانه على تنزيلها أو في صحة نبوتك حتى يقدح ذلك في الإيمان والتقوى ولكن نريد إلخ أو ليس مرادنا اقتراح الآيات لكن مرادنا ما ذكر.
وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا بازدياد اليقين كما قال عطاء وَنَعْلَمَ علم مشاهدة وعيان على ما قدمناه أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا أي أنه قد صدقتنا في ادعاء النبوة، وقيل: في أن الله تعالى يجيب دعوتنا، وقيل: فيما ادعيت مطلقا.
وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ عند من لم يحضرها من بني إسرائيل ليزداد المؤمنون منهم بشهادتنا طمأنينة ويقينا ويؤمن بسببها كفارهم أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر، وقيل: من الشاهدين لله تعالى بالوحدانية ولك بالنبوة.
وعَلَيْها متعلق بالشاهدين إن جعل اللام للتعريف أو بمحذوف يفسره من الشاهدين إن جعلت موصولة.
وجوزنا تفسير ما لا يعمل للعامل، وقيل: متعلق به وفيه تقديم ما في حيز الصلة وحرف الجر وكلاهما ممنوع.
ونقل عن بعض النحاة جواز التقديم في الظرف، وعن بعضهم جوازه مطلقا، وجوز أن يكون حالا من اسم كان أي عاكفين عليها. وقرىء «يعلم» بالبناء للمفعول و «تعلم» . «وتكون» بالتاء والضمير للقلوب.

(4/57)


قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لما رأى أن لهم غرضا صحيحا في ذلك،
وأخرج الترمذي في نوادر الأصول وغيره عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام لما رأى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها قام فألقى عنه الصوف ولبس الشعر الأسود ثم توضأ واغتسل ودخل مصلاه فصلى ما شاء الله تعالى فلما قضى صلاته قام قائما مستقبل القبلة وصف قدميه حتى استويا فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع بالأصابع ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره وغض بصره وطأطأ رأسه خشوعا ثم أرسل عينيه بالبكاء فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه فلما رأى ذلك دعا الله تعالى فقال: اللَّهُمَّ رَبَّنا

ناداه سبحانه وتعالى مرتين على ما قيل مرة بوصف الألوهية الجامعة لجميع الكمالات وأخرى بوصف الربوبية المنبئة عن التربية إظهارا لغاية التضرع ومبالغة في الاستدعاء وإنما لم يجعل نداء واحدا بأن يعرب رَبَّنا بدلا أو صفة لأنهم قالوا: إن لفظ اللَّهُمَّ لا يتبع وفيه خلاف لبعض النحاة.
وحذف حرف النداء في الأول وعوض عنه الميم وكذا في الثاني إلا أن التعويض من خواص الاسم الجليل أي يا الله يا ربنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً أي خوانا عليه طعام أو سفرة كذلك، وتقديم الظرف على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر. وقوله سبحانه وتعالى مِنَ السَّماءِ متعلق إما بإنزال أو بمحذوف وقع صفة لمائدة أي كائنة من السماء، والمراد بها إما المحل المعهود وهو المتبادر من اللفظ وإما جهة العلو، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن حميد وابن أبي حاتم عن عمار بن ياسر أن المائدة التي نزلت كان عليها من ثمر الجنة وكذا روي عن وهب بن منبه.
ويؤيد الثاني ما
روي عن سلمان الفارسي من خبر طويل أن المائدة لما نزلت قال شمعون رأس الحواريين لعيسى عليه الصلاة والسلام: يا روح الله وكلمته أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال عليه الصلاة والسلام:
أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات وتنتهوا عن تنقير المسائل ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بسبب هذه الآية فقال شمعون: لا وإله إسرائيل ما أردت بها سوءا يا ابن الصديقة فقال عيسى عليه الصلاة والسلام: ليس شيء مما ترون عليها من طعام الجنة ولا من طعام الدنيا إنما هو شيء ابتدعه الله تعالى في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة فقال له كن فكان في أسرع من طرفة عين فكلوا مما سألتم باسم الله واحمدوا عليه ربكم يمدكم منه ويزدكم فإنه بديع قادر شاكر،
وقوله تعالى تَكُونُ لَنا عِيداً صفة مائِدَةً ولَنا خبر كان وعِيداً حال من الضمير في الظرف أو في تَكُونُ على رأي من يجز إعمالها في الحال، وجوز أن يكون عِيداً الخبر ولَنا حينئذ إما حال من الضمير في «تكون» أو حال من عِيداً لأنه صفة له قدمت عليه، والعيد العائد مشتق من العود ويطلق على الزمان المعهود لعوده في كل عام بالفرح والسرور، وعليه فلا بد من تقدير مضاف، والمعنى يكون نزولها لنا عيدا، ويطلق على نفس السرور العائد وحينئذ لا يحتاج إلى التقدير، وفي الكلام لطافة لا تخفى، وذكر غير واحد أن العيد يقال لكل ما عاد عليك في وقت، ومنه قول الأعشى:
فواكبدي من لاعج الحب والهوى ... إذا اعتاد قلبي من أميمة عيدها
وهو واوي كما ينبىء عنه الاشتقاق ولكنهم قالوا في جمعه: أعياد وكان القياس أعواد لأن الجموع ترد الأشياء إلى أصولها كراهة الاشتباه- كما قال ابن هشام- بجمع عود، ونظر ذلك الحريري بقولهم. هو أليط بقلبي منك أي ألصق حبابه فإن أصله الواو لكن قالوا ذلك ليفرق بينه وبين قولهم. هو ألوط من فلان، ولا يخفى أن هذا مخالف لما ذكره محققو أهل اللغة، وعن الكسائي يقال لاط الشيء بقلبي يلوط ويليط وهو ألوط وأليط، ثم إنهم إنما لم يعكسوا

(4/58)


الأمر في جمع عود وعيد فيقولوا في جمع الأول أعياد وفي جمع الثاني أعواد مع حصول التفرقة أيضا اعتبارا على ما قيل للأخف في الأكثر استعمالا مع رعاية ظاهر المفرد، وقرأ عبد الله «تكن» بالجزم على جواب الأمر لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا أي لأهل زماننا ومن يجيء بعدنا.
روي أنه نزلت يوم الأحد
فلذلك اتخذه النصارى عيدا، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن المعنى يأكل منها أول الناس وآخرهم والجار والمجرور عند بعض بدل من الجار والمجرور أعني لَنا
، وقال أبو البقاء إذا جعل لَنا خبرا أو حالا فهو صفة لعيدا وإن جعل صفة له كان هو بدلا من الضمير المجرور بإعادة الجار، وظاهره أن المبدل منه الضمير لكن أعيد الجار لأن البدل في قوة تكرار العامل، وهو تحكم لأن الظاهر كما أشير إليه إبدال المجموع من المجموع، ثم إن ضمير الغائب يبدل منه وأما ضمير الحاضر فأجازه بعضهم مطلقا وأجازه آخرون كذلك، وفصل قوم فقالوا إن أفاد توكيدا وإحاطة وشمولا جاز وإلا امتنع.
واستظهر بعضهم على قول الحبر أن يكون لَنا خبرا أي قوتا أو نافعة لنا. وقرأ زيد، وابن محيصن، والجحدري «لأولانا وأخرانا» بتأنيث الأول والآخر باعتبار الأمة والطائفة، وكون المراد بالأولى والأخرى الدار الأولى أي الدنيا والدار الأخرى أي الآخرة مما لا يكاد يصح وَآيَةً عطف على عِيداً وقوله سبحانه وتعالى:
مِنْكَ متعلق بمحذوف وقع صفة له أي آية كائنة منك دالة على كمال قدرتك وصحة نبوتي وَارْزُقْنا أي الشكر عليها على ما حكي عن الجبائي أو المائدة على ما نقل عن غير واحد، والمراد بها حينئذ- كما قيل- ما على الخوان من الطعام أو الأعم من ذلك وهذه ولعله الأولى وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ تذييل جار مجرى التعليل أي خير من يرزق لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا ملاحظة عوض.
قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ مرات عديدة كما ينبىء عن ذلك صيغة التفعيل، وورود الإجابة منه تعالى كذلك مع كون الدعاء منه عليه الصلاة والسلام بصيغة الافعال لإظهار كمال اللطف والإحسان مع ما فيه من مراعاة ما وقع في عبارة السائلين، وفي تصدير الجملة بكلمة التحقيق وجعل خبرها اسما تحقيق للوعد وإيذان بأنه سبحانه وتعالى منجز له لا محالة وإشعار بالاستمرار، وهذه القراءة لأهل المدينة، والشام، وعاصم.
وقرأ الباقون كما قال الطبرسي مُنَزِّلُها بالتخفيف، وجعل الإنزال والتنزيل بمعنى واحد فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ أي بعد تنزيلها حال كونه كائنا مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ بسبب كفره ذلك عَذاباً هو اسم مصدر بمعنى التعذيب كالمتاع بمعنى التمتيع، وقيل: مصدر محذوف الزوائد وانتصابه على المصدرية في التقديرين، وقيل: منصوب على التوسع، والتشبيه بالمفعول به مبالغة كما ينصب الظرف ومعمول الصفة المشبهة كذلك، وجوز أبو البقاء أن يكون نصبه على الحذف والإيصال، والمراد بعذاب وهو حينئذ اسم ما يعذب به، ولا يخفى أن حذف الجار لا يطرف في غير أن وإن عند عدم اللبس، والتنوين للتعظيم أي عذابا عظيما.
وقوله سبحانه وتعالى: لا أُعَذِّبُهُ في موضع النصب على أنه صفة له. والهاء في موضع المفعول المطلق كما في ظننته زيدا قائما. ويقوم مقام العائد إلى الموصوف كما قيل. ووجه بأنه حينئذ يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل فيكون في معنى النكرة الواقعة بعد النفي من حيث العموم فيشمل العذاب المتقدم، ويحصل الربط بالعموم ولو رد عليه أن الربط بالعموم إنما ذكره النحاة في الجملة الواقعة خبرا فلا يقاس عليه الصفة وجوز أن يكون من قبيل ضربته ضرب زيد أي عذابا لا أعذب تعذيبا مثله، وعلى هذا التقدير يكون الضمير راجعا على العذاب المقدم فالربط به.
وقيل: الضمير راجع إلى مِنَ بتقدير مضافين أي لا أعذب مثل عذابه أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ أي عالمي زمانهم أو العالمين مطلقا، وهذا العذاب إما في الدنيا، وقد عذب من كفر منهم بمسخهم قردة وخنازير. وروي ذلك عن

(4/59)


قتادة وإما في الآخرة. وإليه يشير ما أخرجه أبو الشيخ وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة، والمنافقون، وآل عمران، ويدل هذا على أن المائدة نزلت وكفر البعض بعد.
وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن ومجاهد أن القوم لما قيل لهم: فَمَنْ يَكْفُرْ إلخ قالوا: لا حاجة لنا بها فلم تنزل. والجمهور على الأول وعليه المعول.
فقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عمار بن ياسر موقوفا ومرفوعا. والوقف أصح قال: أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا فمسخوا قردة وخنازير وكان الخبز من أرز على ما روي عن عكرمة.
وروي أن عيسى عليه الصلاة والسلام لما سأله قومه ذلك فدعا أنزل الله تعالى عليهم سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها وغمامة تحتها وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من السماء تهوي إليهم وعيسى عليه الصلاة والسلام يبكي خوفا من الشرط الذي اتخذ عليهم فيها فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يديه والحواريون حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا رائحة مثلها قط وخر عيسى عليه الصلاة والسلام والحواريون سجدا شكرا لله تعالى وأقبل اليهود ينظرون إليهم فرأوا ما يغمهم ثم انصرفوا فأقبل عيسى عليه الصلاة والسلام ومن معه ينظرونها. فإذا هي مغطاة بمنديل فقال عليه الصلاة والسلام: من أجرؤنا على كشفه وأوثقنا بنفسه وأحسننا بلاء عند ربه حتى نراها ونحمد ربنا سبحانه وتعالى ونأكل من رزقه الذي رزقنا؟ فقالوا: يا روح الله وكلمته أنت أولى بذلك فقام واستأنف وضوءا جديدا ثم دخل مصلاه فصلى ركعات ثم بكى طويلا ودعا الله تعالى أن يأذن له في الكشف عنها ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقا ثم انصرف وجلس حول السفرة وتناول المنديل وقلنا: بسم الله خير الرازقين وكشف عنها فإذا عليها سمكة ضخمة مشوية ليس عليها بواسير وليس في جوفها شوك يسيل السمن منها قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث وعند رأسها خل وعند ذنبها ملح وحول البقول خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الآخر تمرات وعلى الآخر خمس رمانات وفي رواية على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فسأله شمعون عنها وأجابه بما تقدمت روايته.
ثم قالوا له عليه الصلاة والسلام: إنما نحب أن ترينا آية في هذه الآية فقال عليه السلام: سبحان الله تعالى أما اكتفيتم ثم قال: يا سمكة عودي بإذن الله تعالى حية كما كنت فأحياها الله تعالى بقدرته فاضطربت وعادت حية طرية تلمظ كما يتلمظ الأسد تدور عيناها لها بصيص وعادت عليها بواسير ففزع القوم منها وانحاشوا فقال عليه الصلاة والسلام لهم: ما لكم تسألون الآية فإذا أراكموها ربكم كرهتموها ما أخوفني عليكم بما تصنعون يا سمكة عودي بإذن الله تعالى كما كنت مشوية ثم دعاهم إلى الأكل فقالوا: يا روح الله أنت الذي تبدأ بذلك فقال: معاذ الله تعالى يبدأ من طلبها فلما رأوا امتناع نبيهم عليه الصلاة والسلام خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثلة فتحاموها فدعا عليه الصلاة والسلام لها الفقراء والزمنى، وقال: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم واحمدوا الله تعالى الذي أنزلها لكم ليكون مهنؤها لكم وعقوبتها على غيركم وافتتحوا كلكم باسم الله واختتموه بحمد الله ففعلوا فأكل منها ألف وثلاثمائة إنسان بين رجل وامرأة وصدروا منها وكل واحد منهم شبعان يتجشى ونظر عيسى عليه السلام والحواريون ما عليها فإذا ما عليها كهيئته إذ نزلت من السماء لم ينتقص منه شيء ثم إنها رفعت إلى السماء وهو ينظرون فاستغنى كل فقير أكل منها وبرىء كل زمن منهم أكل منها فلم يزالوا أغنياء صحاحا حتى خرجوا من الدنيا وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سالت منها أشفارهم وبقيت حسرتها في قلوبهم، وكانت العائدة إذا نزلت

(4/60)


بعد ذلك أقبلت بنو إسرائيل إليها من كل مكان يسعون فزاحم بعضهم بعضا الأغنياء والفقراء والنساء والصغار والكبار والأصحاء والمرضى يركب بعضهم بعضا فلما رأى عيسى عليه الصلاة والسلام ذلك جعلها نوبا بينهم فكانت تنزل يوما ولا تنزل يوما فلبثوا في ذلك أربعين يوما تنزل عليهم غبا عند ارتفاع الضحى فلا تزال موضوعة يؤكل منها حتى إذا قالوا ارتفعت عنهم بإذن الله تعالى إلى جو السماء وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أن اجعل رزقي لليتامى والمساكين والزمنى دون الأغنياء من الناس فلما فعل الله تعالى ذلك ارتاب بها الأغنياء وغمصوا ذلك حتى شكوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها الناس وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر وأدرك الشيطان منهم حاجته وقذف وسواسه في قلوب المرتابين فلما علم عيسى عليه السلام ذلك منهم قال:
هلكتم وإله المسيح سألتم نبيكم أن يطلب المائدة لكم إلى ربكم فلما فعل وأنزلها عليكم رحمة ورزقا وأراكم فيها الآيات والعبر كذبتم بها وشككتم فيها فابشروا بالعذاب فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله تعالى وأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام إني آخذ المكذبين بشرطي وإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين فلما أمسى المرتابون وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين وكان آخر الليل مسخهم الله تعالى خنازير وأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا ثلاثين يوما ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم فإن أجر العامل على من عمل له ففعلوا ثم قالوا: يا معلم الخير قلت لنا: إن أجر العامل على من عمل له وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوما ففعلنا ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوما إلا أطعمنا هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ إلى قوله تعالى: أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم.
وجاء عنه أن المائدة كانت تنزل عليهم حيث نزلوا، وعن وهب بن منبه أن المائدة كان يقعد عليها أربعة آلاف فإذا أكلوا شيئا أبدل الله تعالى مكانه مثله فلبثوا بذلك ما شاء الله عز وجل.
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عطف على إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ منصوب بما نصبه من الفعل المضمر أو بمضمر مستقل معطوف على ذلك. وصيغة الماضي لما مضى. والمراد يقول له عليه الصلاة والسلام: أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ يوم القيامة توبيخا للكفرة وتبكيتا لهم بإقراره عليه الصلاة والسلام على رؤوس الأشهاد بالعبودية وأمرهم بعبادته عز وجل.
وقيل: قاله سبحانه عليه الصلاة والسلام في الدنيا وكان ذلك بعد الغروب فصلى عليه الصلاة والسلام المغرب ثلاث ركعات شكرا لله تعالى حين خاطبه بذلك، وكان الأولى لنفي الألوهية عن نفسه. والثانية لنفيها عن أمه. والثالثة لإثباتها لله عز وجل. فهو عليه الصلاة والسلام أول من صلى المغرب ولا يخفى أن ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الآيات يأبى ذلك ولا يصح أيضا خبر فيه. ثم إنه ليس مدار أصل الكلام عند بعض المحققين أن القول متيقن والاستفهام لتعيين القائل كما هو المتبادر من إيلاء الهمزة المبتدأ على الاستعمال المشهور وعليه قوله تعالى: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا [الأنبياء: 62] ونحوه بل على أن المتيقن هو الاتخاذ. والاستفهام لتعيين أنه بأمره عليه الصلاة والسلام أو أمر من تلقاء أنفسهم كما في قوله تعالى. أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ [الفرقان:
17] وقال بعض: لما كان القول قد وقع من رؤسائهم في الضلال كان مقررا كالاتخاذ فالاستفهام لتعيين من صدر منه فلذا قدم المسند إليه، وقيل: التقديم لتقوية النسبة لأنها بعيدة عن القبول بحيث لا تتوجه نفس السامع إلى أن

(4/61)


المقصود ظاهرها حتى يجيب على طبقه فاحتاجت إلى التقوية حتى يتوجه إليها المستفهم عنها، وفيه كمال توبيخ الكفرة بنسبة هذا القول إليه، وفي قوله اتَّخِذُونِي وَأُمِّي دون واتخذوني ومريم توبيخ على توبيخ كأنه قيل: أأنت قلت ما قلت مع كونك مولودا وأمك والدة والإله لا يلد ولا يولد.
وأنت تعلم أن في ندائه عليه الصلاة والسلام على الكيفية المذكورة إشارة إلى إبطال ذلك الاتخاذ. ولام لِلنَّاسِ للتبليغ، والاتخاذ إما متعد لاثنين فالياء مفعوله الأول وإِلهَيْنِ مفعوله الثاني وإما متعد لواحد فإلهين حال من المفعول ومِنْ دُونِ اللَّهِ حال من فاعل الاتخاذ أي متجاوزين الله تعالى أو صفة لإلهين أي كائنين من دون الله تعالى أي غيره منضما إليه سبحانه. فالله تعالى إله وهما بزعم الكفرة إلهان فالمراد اتخاذهما بطريق اشتراكهما معه عز وجل. وهذا كما في قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ إلى قوله سبحانه: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: 18] وأيد ذلك بأن التوبيخ والتبكيت إنما يتأتى بذلك.
وقال الراغب: إن ظاهر ذلك القول استقلالهما عليهما الصلاة والسلام بالألوهية وعدم اتخاذ الله سبحانه وتعالى معهما إلها ولا بد من تأويل ذلك لأن القوم ثلثوا والعياذ بالله تعالى فأما أن يقال: إن من أشرك مع الله سبحانه غيره فقد نفاه معنى لأنه جل شأنه وحده لا شريك له ويكون إقراره بالله تعالى كلا إقرار. وحينئذ يكون مِنْ دُونِ اللَّهِ مجازا عن مع الله تعالى أو يقال: إن المراد بمن دون الله التوسط بينهما وبينه عز شأنه فيكون الدون إشارة لقصور مرتبتهما عن مرتبته جل جلاله لأنهم قالوا: هو عز اسمه كالشمس وهما كشعاعها.
وزعم بعضهم أن المراد اتخاذهما بطريق الاستقلال. ووجهه أن النصارى يعتقدون أن المعجزات التي ظهرت على يدي عيسى وأمه عليهما الصلاة والسلام لم يخلقها الله تعالى بل هما خلقاها فصح أنهم اتخذوهما في حق بعض الأشياء إلهين مستقلين ولم يتخذوه إلها في حق ذلك البعض، ولا يخفى أن الأول كالمتعين وإليه أشار العلامة ونص على اختياره شيخ الإسلام.
واستشكلت الآية بأنه لا يعلم أن أحدا من النصارى اتخذ مريم عليها السلام إلها وأجيب عنه بأجوبة الأول أنهم لما جعلوا عيسى عليه الصلاة والسلام إلها لزمهم أن يجعلوا والدته أيضا كذلك لأن الولد من جنس من يلده فذكر إِلهَيْنِ على طريق الإلزام لهم. والثاني أنهم لما عظموها تعظيم الإله أطلق عليها اسم الإله كما أطلق اسم الرب على الأحبار والرهبان في قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31] لما أنهم عظموهم تعظيم الرب. والتثنية حينئذ على حد- القلم أحد اللسانين- والثالث أنه يحتمل أن يكون فيهم من قال بذلك.
ويعضد هذا القول ما حكاه أبو جعفر الإمامي عن بعض النصارى أنه قد كان فيما مضى قوم يقال لهم: المريمية يعتقدون في مريم أنها إله. وهذا كما كان في اليهود قوم يعتقدون أن عزيرا ابن الله عن اسمه وهو أولى الأوجه عندي. وما قرره الزاعم من أن النصارى يعتقدون إلخ غير مسلم في نصارى زماننا ولم ينقله أحد ممن يوثق به عنهم أصلا. وإظهار الاسم الجليل لكونه في حيز القول المسند إلى عيسى عليه الصلاة والسلام.
قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام وهو ظاهر.
وفي بعض الآثار أنه عليه الصلاة والسلام حين يقول له الرب عز وجل ما يقول ترتعد مفاصله وينفجر من أصل كل شعرة من جسده عين من دم خيفة من ربه جلت عظمته، وفي بعضها أنه عليه الصلاة والسلام يرتعد خوفا ولا يفتح له باب الجواب خمسمائة عام ثم يلهمه الله تعالى الجواب بعد فيقول: سُبْحانَكَ

أي تنزيها لك من أن أقول ذلك أو يقال في حقك كما قدره ابن عطية،

(4/62)


وقدره بعضهم من أن يكون لك شريك فضلا من أن يتخذ إلهان دونك، وآخرون من أن تبعث رسولا يدعي ألوهية غيرك ويدعو إليها ويكفر بنعمتك، والأول أوفق بسياق النظم الكريم. وسبحان على سائر التقادير- على أحد الأقوال فيه وقد تقدمت- علم للتسبيح وانتصابه على المصدرية ولا يكاد يذكر ناصبه. وفيه من المبالغة في التنزيه من حيث الاشتقاق من السبح وهو الإبعاد في الأرض والذهاب، ومن جهة النقل إلى صيغة التفعيل والعدول عن المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة المشير إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن وإقامته مقام المصدر مع الفعل ما لا يخفى.
وقوله سبحانه: ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ استئناف مقرر للتنزيه ومبين للمنزه عنه. وما الثانية سواء كانت موصولة أو نكرة موصوفة مفعول أَقُولَ والمراد بها على التقديرين القول المذكور أو ما يعمه وغيره ويدخل فيه القول المذكور دخولا أوليا، ونصب القول للمفردات نحو الجملة والكلام والشعر مما لا شك في صحته كنصبه الجمل الصريحة فلا حاجة إلى تفسير أقول بأذكر كما يتوهم. واسم ليس ضمير عائد إلى ما وبِحَقٍّ خبره، والجار والمجرور فيما بينهما للتبيين فيتعلق بمحذوف كما في سقيا لك. وإيثار ليس على الفعل المنفي على ما يحق لي لظهور دلالته على استمرار انتفاء الحقية وإفادة التأكيد بما في خبره من الباء المطرد زيادتها في خبر ليس.
ومعنى ما يَكُونُ لِي أي لا ينبغي ولا يليق وهو أبلغ من لم أقله فلذا أوثر عليه: والمراد لا ينبغي أن أقول قولا لا يحق لي قوله أصلا في وقت من الأوقات، وجوز أبو البقاء أن يكون لِي خبر ليس وبِحَقٍّ في موضع الحال من الضمير في الجار والعامل فيه ما فيه من معنى الاستقرار. وأن يكون متعلقا بفعل محذوف على أنه مفعول له والباء للسببية أي ما ليس يثبت لي بسبب حق. وأن يكون خبر ليس ولِي صفة حق قدم عليه فصار حالا، وهذا مخرج على رأي من أجاز تقديم المجرور عليه، وقيل: إن لِي متعلق بحق وهو الخبر. وهو أيضا مبني على قول بعض النحاة المجوز تقديم صلة المجرور على الجار. والجمهور على عدم الجواز ولا فرق عندهم في المنع بين أن يكون الجار زائدا أو غيره، وقوله عز وجل: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ استدلال على براءته من صدور القول المذكور عنه فإن صدوره عنه مستلزم لعلمه به تعالى قطعا والعلم به منتف فينتفي الصدور ضرورة أن انتفاء اللازم مستلزم لانتفاء الملزوم. واستشكلت هذه الجملة بأن المعنى على المضي هنا وأن تقلب الماضي مستقبلا. وأجاب عن ذلك المبرد بأن كان قوية الدلالة على المضي حتى قيل إنها موضوعة له فقط دون الحدث وجعلوه وجها لكونها ناقصة فلا تقدر إن على تحويلها إلى الاستقبال.
وأجاب ابن السراج بأن التقدير إن أقل كنت قلته إلخ وكذا يقال فيما كان من أمثال ذلك، وقد نقل ذلك عثمان ابن يعيش وضعفه ابن هشام في تذكرته، والجمهور على أن المعنى إن صح قولي ودعواي ذلك فقد تبين علمك به تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي استئناف جار مجرى التعليل لما قبله فقوله جل شأنه: وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ بيان للواقع وإظهار لقصوره عليه السلام، وللنفس في كلامهم إطلاقات فتطلق على ذات الشيء وحقيقته وعلى الروح وعلى القلب وعلى الدم وعلى الإرادة، قيل: وعلى العين التي تصيب وعلى الغيب وعلى العقوبة. ويفهم من كلام البعض أنها حقيقة في الإطلاق الأولى مجاز فيما عداه، وفسر غير واحد النفس هنا بالقلب، والمراد تعلم معلومي الذي أخفيه في قلبي فكيف بما أعلنه ولا أعلم معلومك الذي تخفيه وسلك في ذلك مسلك المشاكلة كما في قوله:
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
إلا أن ما في الآية كلا اللفظين وقع في كلام شخص واحد وما في البيت ليس كذلك. وفي الدر المصون أن هذا التفسير مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وحكاه عنه أيضا في مجمع البيان. وفسرها بعضهم بالذات

(4/63)


وادعى أن نسبتها بهذا المعنى إلى الله تعالى لا تحتاج إلى القول بالمشاكلة، ومن ذلك قوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 54] وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه: 41] وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران 28، 30]
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أقسم ربي على نفسه أن لا يشرب عبد خمرا ولم يتب إلى الله تعالى منه إلا سقاه من طينة الخبال»
وقوله عليه الصلاة والسلام: «ليس أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل ولأجل ذلك مدح نفسه»
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «سبحان الله عدد خلقه ورضا نفسه»
إلى غير ذلك من الأخبار.
وقال المحقق الشريف في شرح المفتاح وغيره: إن لفظ النفس لا يطلق عليه تعالى وإن أريد به الذات إلا مشاكلة وليس بشيء لما علمت من الآيات والأحاديث، وادعاء أن ما فيها مشاكلة تقديرية كما قيل ذلك في قوله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة: 138] لا يخفى أنه من سقط المتاع فالصحيح المعول عليه جواز إطلاقها بمعنى الذات على الله تعالى من غير مشاكلة، نعم قيل: إن لفظ النفس في هذه الآية وإن كان بمعنى الذات لا بد معه من اعتبار المشاكلة لأن لا أعلم ما في ذاتك ليس بكلام مرضي فيحتاج إلى حمله على المشاكلة بأن يكون المراد لا أعلم معلوماتك فعبر عنه بلا أعلم ما في نفسك لوقوع التعبير عن تعلم معلومي بتعلم ما في نفسي.
وعلى ذلك حمل العلامة الثاني كلام صاحب الكشاف ولا يخفى ما فيه، والتحقيق أن الآية من المشاكلة إلا أنها ليست في إطلاق النفس بل في لفظ فِي فإن مفادها بالنظر إلى ما في نفس عيسى عليه السلام والارتسام والانتقاش ولا يمكن ذلك نظرا إلى الله تعالى. وإلى هذا يشير كلام بعض المحققين ومنه يعلم ما في كتب الأصول من الخبط في هذا المقام، وقال الراغب: يجوز أن يكون القصد إلى نفي النفس عنه تعالى فكأنه قال: تعلم ما في نفسي ولا نفس لك فاعلم ما فيها كقول الشاعر:
ولا ترى الضب بها ينجحر

وهو على بعده مما لا يحتاج إليه. ومثله ما ذكره بعض الفضلاء من أن النفس الثانية هي نفس عيسى عليه السلام أيضا، وإنما أضافها إلى ضمير الله تعالى باعتبار كونها مخلوقة له سبحانه كأنه قال: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما فيها إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ تقرير لمضمون الجملتين منطوقا ومفهوما لما فيه من الحصر ومدلوله الإثبات فيقرر تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب ويلزمه النفي فيقرر لا أعلم ما في نفسك لأنه غيب أيضا، ومدلول النفي أنه لا يعلم الغيب غيره تعالى شأنه.
وقوله تعالى: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ استئناف- كما قال شيخ الإسلام- مسوق لبيان ما صدر عنه عليه السلام قد أدرج فيه عدم صدور القول المذكور عنه على أبلغ وجه وآكده حيث حكم بانتفاء صدور جميع الأقوال المغايرة للمأمور به فدخل فيه انتفاء صدور القول المذكور دخولا أوليا. والمراد عند البعض ما أمرتهم إلا بما أمرتني به إلا أنه قيل: ما قُلْتُ لَهُمْ نزولا على قضية حسن الأدب لئلا يجعل ربه سبحانه ونفسه معا آمرين ومراعاة لما ورد في الاستفهام. ودل على ذلك بإقحام أن المفسرة في قوله تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ.
ولا يرد أن الأمر لا يتعدى بنفسه إلى المأمور به إلا قليلا كقوله:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فكذا ما أول به لأنه- كما قال ابن هشام- لا يلزم من تأويل شيء بشيء أن يتعدى تعديته كما صرحوا به لأن التعدية تنظر إلى اللفظ. نعم قيل في جعل أن مفسرة بفعل الأمر المذكور صلته نحو أمرتك بهذا أن قم نظر أما في طريق القياس فلأن أحدهما مغن عن الآخر. وأما في الاستعمال فلأنه لم يوجد. ونظر فيما ذكر في طريق القياس لأن

(4/64)


الأول لا يغني عن الثاني والثاني لا يغني عن الأول وللتفسير بعد الإبهام شأن ظاهر. وادعى ابن المنير أن تأويل هذا القول بالأمر كلفة لا طائل وراءها وفيه نظر.
وجوز إبقاء القول على معناه وأَنِ اعْبُدُوا إما خبر لمضمر أي هو أن اعبدوا أو منصوب بأعني مقدرا، قيل:
عطف بيان للضمير في بِهِ، واعترض بأنه صرح في المغني بأن عطف البيان في الجوامد بمنزلة النعت في المشتقات فكما أن الضمير لا ينعت لا يعطف عليه عطف بيان، وأجيب بأن ذلك من المختلف فيه وكثير من النحاة جوزوه. وما في المغني قد أشار شراحه إلى رده، وقيل: بدل من الضمير بدل كل من كل. ورده الزمخشري في الكشاف بأن المبدل منه في حكم التنحية والطرح فيلزم خلو الصلة من العائد بطرحه، وأجيب عنه بأن المذهب المنصور أن المبدل منه ليس في حكم الطرح مطلقا بل قد يعتبر طرحه في بعض الأحكام كما إذا وقع مبتدأ فإن الخبر للبدل نحو زيد عينه حسنة ولا يقال حسن. وقد يقال أيضا: إنه ليس كل مبدل منه كذلك بل ذلك مخصوص فيما إذا كان البدل بدل غلط، وأجاب بعضهم بأنه وإن لزم خلو الصلة من العائد بالطرح لكن لا ضير فيه لأن الاسم الظاهر يقوم مقامه كما في قوله: وأنت الذي في رحمة الله أطمع. ولا يخفى أن في صحة قيام الظاهر هنا مقام الضمير خلافا لهم، وجوز أن يكون بدلا من ما أَمَرْتَنِي بِهِ، واعترض بأن ما مفعول القول ولا بد فيه أن يكون جملة محكية أو ما يؤدي مؤداها أو ما أريد لفظه وإذا كان العبادة بدلا كانت مفعول القول مع أنها ليست واحدا من هذه الأمور فلا يقال: ما قلت لهم إلا العبادة، وفي الانتصاف أن العبادة وإن لم تقل فالأمر بها يقال وأن الموصولة بفعل الأمر يقدر معها الأمر فيقال هنا ما قلت لهم: إلا الأمر بالعبادة ولا ريب في صحته لأن الأمر مقول بل قول على أن جعل العبادة مقولة غير بعيد على طريقة ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا [المجادلة: 3] أي الوطن الذي قالوا قولا يتعلق به وقوله تعالى:
وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ [مريم: 80] ونحو ذلك، وفي الفوائد أن المراد ما قلت لهم إلا عبادته أي الزموا عبادته فيكون هو المراد من ما أَمَرْتَنِي بِهِ ويصح كون هذه الجملة بدلا من ما أمرتني به من حيث إنها في حكم المراد لأنها مقولة وما أَمَرْتَنِي بِهِ مفرد لفظا وجملة معنى ولا يخلو عن تعسف، وجوز إبقاء القول على معناه وأن مفسرة إما لفعل القول أو لفعل الأمر، واعترض بأن فعل القول لا يفسر بل يحكى به ما بعده من الجمل ونحوها وبأن فعل الأمر مسند إلى الله تعالى وهو لا يصح تفسيره باعبدوا الله ربي وربكم بل باعبدوني أو اعبدوا الله ونحوه، وأجيب عن هذا بأنه يجوز أن يكون حكاية بالمعنى كأنه عليه السلام حكى معنى قول الله عز وجل بعبارة أخرى وكأن الله تعالى قال له عليه السلام: مرهم بعبادتي أو قال لهم على لسان عيسى عليه السلام: اعبدوا الله رب عيسى وربكم فلما حكاه عيسى عليه السلام قال: اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ فكنى عن اسمه الظاهر بضميره كما قال الله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى [طه: 52، 53] فإن موسى عليه السلام لا يقول فأخرجنا بل فأخرج الله تعالى لكن لما حكاه الله تعالى عنه عليه السلام رد الكلام إليه عز شأنه وأضاف الإخراج إلى ذاته عز وجل على طريقة المتكلم لا الحاكي وإن كان أول الكلام حكاية. ومثله قوله تعالى: لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: 9] إلى قوله سبحانه: فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً [الزخرف: 11] إلى غير ذلك.
وقال أبو حيان: يجوز أن يكون المفسر اعْبُدُوا اللَّهَ ويكون رَبِّي وَرَبَّكُمْ من كلام عيسى عليه السلام على إضمار أعني لا على الصفة لله عز اسمه واعتمده ابن الصائغ وجعله نظير قوله تعالى: إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [النساء: 157] على رأي. وفي أمالي ابن الحاجب إذا حكى حاك كلاما فله أن يصف م 5- روح المعاني مجلد 4

(4/65)


المخبر عنه بما ليس في كلام المحكي عنه، واستبعد ذلك الحلبي والسفاقسي وهو الذي يقتضيه الإنصاف.
وقيل على الأول: إن بعضهم أجاز وقوع أن المفسرة بعد لفظ القول ولم يقتصر بها على ما في معناه فيقع حينئذ مفسرا له لكن أنت تعلم أنه لا ينبغي الاختلاف في أنه لا يقترن المقول المحكي بحرف التفسير لأن مقول القول في محل نصب على المفعولية والجملة المفسرة لا محل لها فلعل مراد البعض مجرد الوقوع والتزام أن المقول محذوف وهو المحكي وهذا تفسير له أي ما قلت لهم مقولا فتدبر فقد انتشرت كلمات العلماء هنا.
وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً أي رقيبا أراعي أحوالهم وأحملهم على العمل بموجب أمرك من غير واسطة ومشاهدا لأحوالهم من إيمان وكفر، وعَلَيْهِمْ كما قال أبو البقاء متعلق بشهيدا، ولعل التقديم لما مر غير مرة ما دُمْتُ فِيهِمْ أي مدة دوامي فيما بينهم فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أي قبضتني بالرفع إلى السماء كما يقال توفيت المال إذا قبضته. وروي هذا عن الحسن وعليه الجمهور.
وعن الجبائي أن المعنى أمتني وادعى أن رفعه عليه السلام إلى السماء كان بعد موته وإليه ذهب النصارى وقد مر الكلام في ذلك كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ أي الحفيظ المراقب فمنعت من أردت عصمته عن المخالفة بالإرشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها بإرسال الرسول وإنزال الآيات وخذلت من خذلت من الضالين فقالوا ما قالوا، وقيل:
المراد بالرقيب المطلع المشاهد، ومعنى الجملتين إني ما دمت فيهم كنت مشاهدا لأحوالهم فيمكن لي بيانها فلما توفيتني كنت أنت المشاهد لذلك لا غيرك فلا أعلم حالهم ولا يمكنني بيانها، ولا يخفى أن الأول أوفق بالمقام، وقد نص بعض المحققين أن الرقيب والشهيد هنا بمعنى واحد وهو ما فسر به الشهيد أولا ولكن تفنن في العبارة ليميز بين الشهيدين والرقيبين لأن كونه عليه الصلاة والسلام رقيبا ليس كالرقيب الذي يمنع ويلزم به كالشاهد على المشهود عليه ومنعه بمجرد القول وأنه تعالى شأنه هو الذي يمنع منع إلزام بالأدلة والبينات، وأَنْتَ ضمير فصل أو تأكيد والرَّقِيبَ خبر كان. وقرىء «الرقيب» بالرفع على أنه خبر أنت، والجملة خبر كان وعَلَيْهِمْ في القراءتين متعلق بالرقيب.
وقوله سبحانه: وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ تذييل مقرر لمضمون ما قبله وفيه- على ما قيل- إيذان بأنه سبحانه كان هو الشهيد في الحقيقة على الكل حين كونه عليه السلام فيما بينهم، وعَلى متعلقة بشهيد والتقديم لمراعاة الفاصلة، وقوله تعالى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ على معنى أن تعذبهم لم يلحقك بتعذيبهم اعتراض لأنك المالك المطلق لهم ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعله بملكه، وقيل: على معنى إِنْ تُعَذِّبْهُمْ لم يستطع أحد منهم على دفع ذلك عن نفسه لأنهم عبادك الأرقاء في أسر ملكك وماذا تبلغ قدرة العبد في جنب قدرة مالكه، وقيل: المعنى إن تعذبهم فإنهم يستحقون ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك وخالفوا أمرك وقالوا ما قالوا، ونسب ذلك إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو بعيد عن النظم، نعم لا يبعد أن يكون في النظم إشارة إليه.
وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي فإن تغفر لهم ما كان منهم لا يلحقك عجز بذلك ولا استقباح فإنك القوي القادر على جميع المقدورات التي من جملتها الثواب والعقاب الحكيم الذي لا يريد ولا يفعل إلا ما فيه حكمة، والمغفرة للكافر لم يعدم فيها وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول بل متى كان المجرم أعظم جرما كان العفو عنه أحسن لأنه أدخل في الكرم وإن كانت العقوبة أحسن في حكم الشرع من جهات أخر، وعدم المغفرة للكافر بحكم النص والإجماع لا للامتناع الذاتي فيه ليمتنع الترديد والتعليق بإن.

(4/66)


وقد نقل الإمام أن غفران الشرك عندنا جائز. وعند جمهور البصريين من المعتزلة قالوا: لأن العقاب حق الله تعالى على المذنب وليس في إسقاطه على الله سبحانه مضرة. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن السدي أن معنى الآية إن تعذبهم فتميتهم بنصرانيتهم فيحق عليهم العذاب فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فتخرجهم من النصرانية وتهديهم إلى الإسلام فإنك أنت العزيز الحكيم، وهذا قول عيسى عليه السلام في الدنيا اه.
ولا يخفى أنه مخالف لما يقتضيه السباق والسياق، وقيل: الترديد بالنسبة إلى فرقتين، والمعنى إن تعذبهم أي من كفر منهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم وتعف عمن آمن منهم فإنك إلخ وهو بعيد جدا، وظاهر ما قالوه أنه ليس في قوله سبحانه وإن تغفر إلخ تعريض بسؤال المغفرة وإنما هو لإظهار قدرته سبحانه وحكمته، ولذا قال سبحانه الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ دون الغفور الرحيم مع اقتضاء الظاهر لهما، وما
جاء في الإخبار مما أخرجه أحمد في المصنف والنسائي والبيهقي في سننه عن أبي ذر قال: «صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ إلخ فلما أصبح قلت: يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت قال: إني سألت ربي سبحانه الشفاعة فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله تعالى من لا يشرك بالله تعالى شيئا»
وما
أخرجه مسلم وابن أبي الدنيا في حسن الظن والبيهقي في الأسماء والصفات. وغيرهم عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تلا قول الله سبحانه في إبراهيم عليه السلام رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي [إبراهيم: 36] الآية، وقوله عز وجل في عيسى ابن مريم: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ إلخ فرفع يديه فقال: اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله جلت رحمته: يا جبرائيل اذهب إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم فقل له: إنا سنقر عينك في أمتك ولا نسوءك»
وما
أخرجه ابن مردويه عن أبي ذر قال: «قلت للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأبي أنت وأمي يا رسول الله قمت الليلة بآية من القرآن يعني بها هذه الآية ومعك قرآن أو فعل هذا بعضنا تال وجدنا عليه قال: دعوت الله سبحانه لأمتي قال: فماذا أجبت؟ قال:
أجبت بالذي لو اطلع كثير منهم عليه تركوا الصلاة قلت: أفلا أبشر الناس؟ قال: بلى فقال عمر: يا رسول الله إنك إن تبعث إلى الناس بهذا يتكلوا ويدعوا العبادة فناداه أن ارجع فرجع»
لا يقوم دليلا على أن في الآية تعريضا بطلب المغفرة للكافر إذ لا يبعد منه صلّى الله عليه وسلّم الدعاء لأمته وطلب الشفاعة لهم بهذا النظم لكن على الوجه الذي قصده عيسى عليه السلام منه، ويحتمل أنه صلّى الله عليه وسلّم اقتبس ذلك من القرآن مؤديا به مقصوده الذي أراده وليس ذلك أول اقتباس له عليه الصلاة والسلام فقد صرح بعض العلماء أن دعاء التوجه عند الشافعية من ذلك القبيل والصلاة لا تنافي الدعاء، وما أخرجه مسلم ومن معه ليس فيه أكثر من أن ما ذكر آثار كأمن (1) شفقته صلّى الله عليه وسلّم على أمته فدعا لهم بما دعا وذلك لا يتوقف على أن في الآية تعريضا لسؤال المغفرة للكافر، ثم إن للعلماء في بيان سر ذكر ذينك الاسمين الجليلين في الآية كلاما طويلا حيث أشكل وجه مناسبتهما لسياق ما قرنا به حتى حكي عن بعض القراء أنه غيرهما لسخافة عقله فكان يقرأ فإنك أنت الغفور الرحيم إلى أن حبس وضرب سبع درر، ووقع لبعض الطاعنين في القرآن من الملاحدة أن المناسب ما وقع في مصحف ابن مسعود فإنك أنت العزيز الغفور كما نقل ذلك ابن الأنباري، وقد علمت أحد توجيهاتهم لذلك.
وقيل: إن ذكرهما من باب الاحتراس لأن ترك عقاب الجاني قد يكون لعجز في القدرة أو لإهمال ينافي الحكمة فدفع توهم ذلك بذكرهما، وفي أمالي العز بن عبد السلام أن الْعَزِيزُ معناه هنا الذي لا نظير له، والمعنى
__________
(1) هكذا في الأصل تأمل.

(4/67)


وإن تغفر لهم فإنك أنت الذي لا نظير لك في غفرانك وسعة رحمتك، وأنت أولى من رحم وأجدر من غفر وستر الحكيم الذي لا يفعل شيئا إلا في مستحقه وهم مستحقون ذلك لفضلك وضعفهم، وهذا ظاهر في أن في الآية تعريضا بطلب المغفرة ولا أظنك تقول به، وادعى بعضهم أنهما متعلقان بالشرطين لا بالثاني فقط، وحينئذ وجه مناسبتهما لا سترة عليه فإن من له الفعل والترك عزيز حكيم، وذكر أن هذا أنسب وأدق وأليق بالمقام.
قالَ اللَّهُ كلام مستأنف ختم به حكاية ما حكي مما يقع يوم يجمع الله الرسل عليهم الصلاة والسلام وأشير إلى نتيجته ومآله، وصيغة الماضي لما تحقق، والمراد بقول الله تعالى عقيب جواب عيسى عليه السلام مشيرا إلى صدقه ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم وبذلك يزول أيضا عنه عليه السلام خوفه من صورة ذلك السؤال لا أن إزالته هي المقصودة من القول على ما قيل.
هذا أي اليوم الحاضر يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ أي المستمرين على الصدق في الأمور المطلوبة منهم التي معظمها التوحيد الذي نحن بصدده والشرائع والأحكام المتعلقة به من الرسل الناطقين بالحق والصدق الداعين إلى ذلك وبه تحصل الشهادة بصدق عيسى عليه السلام ومن الأمم المصدقين لأولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام المقتدين بهم عقدا وعملا وبه يتحقق ترغيب السامعين المقصود بالحكاية في الإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلّم صِدْقُهُمْ أي فيما ذكر في الدنيا إذ هو المستتبع للنفع والمجازاة يومئذ، وقيل: في الآخرة.
والمراد من الصادقين الأمم ومن صِدْقُهُمْ صدقهم في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ وهو ينفعهم لقيامهم فيه بحق الله تعالى وهو كما ترى، وقيل: المراد صدقهم المستمر في دنياهم إلى آخرتهم ليتسنى كون ما ذكر شهادة بصدق عيسى عليه السلام فيما قاله جوابا عن السؤال على ما يقتضيه السوق، ويكون النفع باعتبار تحققه في الدنيا والمطابقة لما يقتضيه السوق باعتبار تقرره ووقوع بعض جزئياته في الآخرة، والمستمر هو الأمر الكلي الذي هو الاتصاف بالصدق، ولا يلزم من هذا محذور مدخلية الصدق الأخروي في الجزاء، ولا يحتاج إلى جعل الصدق الأخروي شرطا في نفع الصدق الدنيوي والمجازاة عليه، ولعل فيما تقدم غني عن هذا كما لا يخفى على الناظر، وقيل: المراد من الصادقين النبيون ومن صِدْقُهُمْ صدقهم في الدنيا بالتبليغ ويكون مساق الآية للشهادة بصدقه عليه السلام في قوله: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ وأنت تعلم أن هذا الغرض حاصل على تقدير التعميم وزيادة.
وقيل: المراد من الصدق الصدق في الدنيا إلا أن المراد من الصادقين الأمم، والكلام مسوق لرد عرض عيسى عليه السلام المغفرة عليه سبحانه وتعالى كأنه قيل: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لا غير فلا مغفرة لهؤلاء، ولا يخفى أن التعميم لا ينافي كون الكلام مسوقا لما ذكر على تقدير تسليم ذلك. واسم الإشارة مبتدأ ويَوْمُ بالرفع وهي قراءة الجمهور خبره. وقرأ نافع وحده «يوم» بالنصب على أنه ظرف لقال و «هذا» مبتدأ خبره محذوف أي كلام عيسى عليه السلام أو حق أو نحو ذلك أو ظرف مستقر وقع خبرا والمعنى هذا الذي مر من جواب عيسى عليه السلام أو السؤال والجواب واقع يوم ينفع، وجوز أن يكون «هذا» مفعولا به للقول لأنه بمعنى الكلام والقصص أو مفعولا مطلقا لأنه بمعنى القول، وقيل: إن «هذا» مبتدأ و «يوم» خبره وهو مبني على الفتح بناء على أن الظرف يبنى عليه إذا أضيف إلى جملة فعلية وإن كانت معربة وهو مذهب الكوفيين واختاره ابن مالك وغيره والبصريون لا يجيزون البناء إلا إذا صدرت الجملة المضاف إليها بفعل ماض كقوله: على حين عاتبت المشيب على الصبا. وألحقوا بذلك الفعل المنفي، ويخرجون هذه القراءة على أحد الأوجه السابقة.
وقرأ الأعمش «يوم» بالرفع والتنوين على أنه خبر هذا والجملة بعده صفته بحذف العائد، وقرأ «صدقهم»

(4/68)


بالنصب على أن يكون فاعل يَنْفَعُ ضمير الله تعالى، وصِدْقُهُمْ كما قال أبو البقاء إما مفعول له أي لصدقهم أو منصوب بنزع الخافض أي بصدقهم أو مصدر مؤكد أو مفعول به على معنى يصدقون الصدق كقولك: صدقته القتال، والمراد يحققون الصدق.
لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً تفسير للنفع ولذا لم يعطف عليه كأنه قيل: ما لهم من النفع؟ فقيل: لهم نعيم دائم وثواب خالد، وقوله سبحانه: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بيان لكونه تعالى أفاض عليهم غير ما ذكر وهو رضوانه عز وجل الذي لا غاية وراءه كما ينبىء عن ذلك قوله سبحانه: وَرَضُوا عَنْهُ إذ لا شيء أعز منه حتى تمد إليه أعناق الآمال ذلِكَ إشارة إلى نيل رضوانه جل شأنه كما اختاره بعض المحققين أو إلى جميع ما تقدم كما اختاره في البحر وإليه يشير ما روي عن الحسن الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا يحيط به نطاق الوصف ولا يوقف على مطلب يدانيه أصلا لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ تحقيق للحق وتنبيه بما فيه من تقديم الظرف المفيد للحصر على كذب النصارى وفساد ما زعموه في حق المسيح وأمه عليهما السلام.
وقيل: استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام السابق كأنه قيل: من يملك ذلك ليعطيهم إياه؟ فقيل: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ [آل عمران: 189، المائدة: 18، النور: 42، الشورى: 49] إلخ فهو المالك والقادر على الإعطاء ولا يخفى بعده. وفي إيثار «ما» على من المختصة بالعقلاء على تقدير تناولها للكل مراعاة- كما قيل للأصل وإشارة إلى تساوي الفريقين في استحالة الربوبية حسب تساويهما في تحقق المربوبية. وعلى تقدير اختصاصها بغير العقلاء كما يشير إليه خبر ابن الزبعرى رضي الله تعالى عنه تنبيه على كمال قصورهم من رتبة الألوهية، وفي تغليب غير العقلاء على العقلاء على خلاف المعروف ما لا يخفى من حط قدرهم وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء قَدِيرٌ أي مبالغ في القدرة. وفسرها الغزالي بالمعنى الذي به يوجد الشيء متقدرا بتقدير الإرادة. والعلم واقعا على وفقهما، وفسر الموصوف بها على الإطلاق بأنه الذي يخترع كل موجود اختراعا ينفرد به ويستغني به عن معاونة غيره وليس ذاك إلا الله تعالى الواحد القهار. والظرف متعلق بقدير. والتقديم لمراعاة الفاصلة، ولا يخفى ما في ذكر كبرياء الله تعالى وعزته وقهره وعلوه في آخر هذه السورة من حسن الاختتام، وأخرج أبو عبيد عن أبي الزاهرية أن عثمان رضي الله تعالى عنه كتب في آخر المائدة «ولله ملك السماوات والأرض والله سميع بصير» .
ومن باب الإشارة في الآيات: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ هي عندهم حضرة الجمع المحرمة على الأغيار، وقيل: قلب المؤمن، وقيل: الكعبة المخصوصة لا باعتبار أنها جدران أربعة وسقف بل باعتبار أنها مظهر جلال الله تعالى. وقد ذكروا أنه سبحانه يتجلى منها لعيون العارفين كما يشير إليه قوله عز شأنه على ما في التوراة «جاء الله تعالى من سينا فاستعلن بساعير وظهر من فاران» قِياماً لِلنَّاسِ من موتهم الحقيقي لما يحصل لهم بواسطة ذلك وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وهو زمن الوصول أو مراعاة القلب أو الفوز بذلك التجلي الذي يحرم فيه ظهور صفات النفس أو الالتفات إلى مقتضيات القوى الطبيعية أو نحو ذلك وَالْهَدْيَ وهي النفس المذبوحة بفناء حضرة الجمع أو الواردات الإلهية التي ترد القلب أو ما يحصل للعبد من المنن عند ذلك التجلي وَالْقَلائِدَ وهي النفس الشريفة المنقادة أو هي نوع مما يحصل للعبد من قبل مولاه يقوده قسرا إلى ترك السوي ذلِكَ لِتَعْلَمُوا بما يحصل لكم أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي يعلم حقائق الأشياء في عالمي الغيب والشهادة وعلمه محيط بكل شيء قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ من النفوس والأعمال والأخلاق والأموال وَالطَّيِّبُ من ذلك وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ بسبب ملاءمته للنفس فإن الأول موجب للقربة دون الثاني

(4/69)


يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان البرهاني لا تَسْئَلُوا من أرباب الإيمان العياني عَنْ أَشْياءَ غيبية وحقائق لا تعلم إلا بالكشف إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ تهلككم لقصوركم عن معرفتها فيكون ذلك سببا لإنكار كم والله سبحانه غيور وإنه ليغضب لأوليائه كما يغضب الليث للحرب. وفي هذا- كما قيل- تحذير لأهل البداية عن كثرة سؤالهم من الكاملين عن أسرار الغيب وإرشاد لهم إلى الصحبة مع التسليم وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ الجامع للظاهر والباطن والمتضمن لما سئلتم عنه تُبْدَ لَكُمْ بواسطته ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وهي النفس التي شقت أذنها لسماع المخالفات وَلا سائِبَةٍ وهي النفس المطلقة العنان السارحة في رياض الشهوات وَلا وَصِيلَةٍ وهي النفس التي وصلت حبال آمالها بعضا ببعض فسوفت التوبة والاستعداد للآخرة وَلا حامٍ وهو من اشتغل حينا بالطاعة ولم يفتح له باب الوصول فوسوس إليه الشيطان، وقال: يكفيك ما فعلت وليس وراء ما أنت فيه شيء فأرح نفسك فحمى نفسه عن تحمل مشاق المجاهدات.
ونقل النيسابوري عن الشيخ نجم الدين المعروف بداية أن البحيرة إشارة إلى الحيدرية والقلندرية يثقبون آذانهم ويجعلون فيها حلق الحديد ويتركون الشريعة، والسائبة إشارة إلى الذين يضربون في الأرض خالعين العذار بلا لجام الشريعة وقيد الطريقة ويدعون أنهم أهل الحقيقة، والوصيلة إشارة إلى أهل الإباحة الذين يتصلون بالأجانب بطريق المؤاخاة والاتحاد ويرفضون صحبة الأقارب لأجل العصبية والعناد، والحام إشارة إلى المغرور بالله عز وجل يظن أنه بلغ مقام الحقيقة فلا يضره مخالفة الشريعة، وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الأحكام وَإِلَى الرَّسُولِ لمتابعته قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من الأفعال التي عاشوا بها وماتوا عليها أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً من الشريعة والطريقة وَلا يَهْتَدُونَ إلى الحقيقة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فاشتغلوا بتزكيتها لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ عما أنتم فيه فأنكر عليكم إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وزكيتم أنفسكم، وإنما ضرر ذلك على نفسه.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ الآيتين لم يظهر للعبد فيه شيء يصلح للتحرير، وقد ذكر النيسابوري في تطبيقه على ما في الأنفس ما رأيت الترك له أنفس يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وهو يوم القيامة الكبرى فَيَقُولُ لهم ماذا أُجِبْتُمْ حين دعوتم الخلق قالُوا لا عِلْمَ لَنا بذلك إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فتعلم جواب ما سئلنا، وهذا على ما قيل عند تراكم سطوات الجلال وظهور رداء الكبرياء وإزار العظمة ولهذا بهتوا وتاهوا وتحيروا وتلاشوا ولله سبحانه تجليات على أهل قربه وذوي حبه فيفنيهم تارة بالجلال ويبقيهم ساعة بالجمال ويخاطبهم مرة باللطف ويعاملهم أخرى بالقهر وكل ما فعل المحبوب محبوب.
وقال بعض أهل التأويل: يجمع الله تعالى الرسل في عين الجمع المطلق أو عين جمع الذات فيسألهم هل اطلعتم على مراتب الخلق في كمالاتهم حين دعوتموهم إلي؟ فينفوا العلم عن أنفسهم ويثبتوه لله تعالى لاقتضاء مقام الفناء ذلك إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ للأحباب والمريدين نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ لتزداد رغبتهم في واشكر ذلك لأزيدك مما عندي فخزائني مملوءة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وهو الروح الذي أشرق من صبح الأزل وهي روحه الطاهرة، وقيل: المراد أيدتك بجبرائيل حيث عرفك رسوم العبودية تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ أي مهد البدن أو في المهد المعلوم. والمعنى نطقت لهم صغيرا بتنزيه الله تعالى وإقرارك له بالعبودية وَكَهْلًا أي في حال كبرك، والمراد أنك لم يختلف حالك صغرا وكبرا بل استمر تنزيهك لربك ولم ترجع القهقرى وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وهو كتاب الحقائق والمعارف وَالْحِكْمَةَ

(4/70)


وهي حكمة السلوك في الله عز وجل بتحصيل الأخلاق والأحوال والمقامات والتجريد والتفريد وَالتَّوْراةَ أي العلوم الظاهرة والأحكام المتعلقة بالأفعال وأحوال النفس وصفاتها وَالْإِنْجِيلَ العلوم الباطنة ومنها تجليات الصفات والأحكام المتعلقة بأحوال القلب وصفاته وَإِذْ تَخْلُقُ بالتربية أو بالتصوير مِنَ الطِّينِ وهو الاستعداد المحض أو الطين المعلوم كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أي كصورة طير القلب الطائر إلى حضرة القدس أو الطير المشهور فَتَنْفُخُ فِيها من الروح الظاهرة فيك فَتَكُونُ طَيْراً نفسا مجردة طائرة بجناح الصفاء والعشق أو طيرا حقيقة بِإِذْنِي حيث صرت مظهرا لي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ أي المحجوب عن نور الحق وَالْأَبْرَصَ أي الذي أفسد قلبه حب الدنيا وغلبة الهوى بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بداء الجهل من قبور الطبيعة بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ وهي القوى النفسانية أو المحجوبين عن نور تجليات الصفات عَنْكَ فلم ينقصك كيدهم شيئا إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ وهي الحجج الواضحة أو القوى الروحانية الغالبة وَإِذْ أَوْحَيْتُ بطريق الإلهام إِلَى الْحَوارِيِّينَ وهم الذين طهروا نفوسهم بماء العلم النافع ونقوا ثياب قلوبهم عن لوث الطبائع أَنْ آمِنُوا بِي إيمانا حقيقيا بتوحيد الصفات وَبِرَسُولِي برعاية حقوق تجلياتها على التفصيل.
وذكر بعض السادة أن الوحي يكون خاصا ويكون عاما فالخاص ما كان بغير واسطة والعام ما كان بالواسطة من نحو الملك، والروح، والقلب، والعقل، والسر، وحركة الفطرة وللأولياء نصيب من هذا النوع. ولوحي الخاص مراتب وحي الفعل ووحي الذات. فوحي الذات يكون في مقام التوحيد عند رؤية العظمة والكبرياء. ووحي الفعل يكون في مقام العشق والمحبة وهناك منازل الأنس والانبساط إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أي المربي لك والمفيض عليك ما كملك أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً أي شريعة مشتملة على أنواع العلوم والحكم والمعارف والأحكام مِنَ السَّماءِ أي من جهة سماء الأرواح قالَ اتَّقُوا اللَّهَ أي اجعلوه سبحانه وقاية لكم فيما يصدر عنكم من الأفعال والأخلاق إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ولا تسألوا شريعة مجددة قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها بأن نعمل بها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا فإن العلم غذاء وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا في الاخبار عن ربك وعن نفسك وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ فنعلم بها الغائبين وندعوهم إليها قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بها منكم ويحتجب عن ذلك الدين بَعْدُ أي بعد الإنزال فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ وذلك بالحجاب عني لوجود الاستعداد ووضوح الطريق وسطوع الحجة والعذاب مع العلم أشد من العذاب مع الجهل.
وقوله تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ إلخ كلام الشيخ الأكبر قدس سره. وكلام الشيخ عبد الكريم الجيلي فيه شهير منتشر على ألسنة المخلصين والمنكرين فيما بيننا. والله تعالى أعلم بمراده نسأل الله تعالى أن ينزل علينا موائد كرمه ولا يقطع عنا عوائد نعمه ويلطف بنا في كل مبدأ وختام بحرمة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام.

(4/71)