روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني سورة الأنعام
بسم الله الرحمن الرحيم كما
أخرج أبو عبيد والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما. وروى ابن مردويه، والطبراني عنه أنها نزلت بمكة ليلا
جملة واحدة. وروى خبر الجملة أبو الشيخ عن أبي بن كعب مرفوعا
إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
وأخرج النحاس في ناسخه عن الحبر أنها مكية إلا ثلاث آيات منها
فإنها نزلت بالمدينة قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ [الأنعام: 151] إلى
تمام الآيات الثلاث. وأخرج ابن راهويه في مسنده وغيره عن شهر
بن حوشب أنها مكية إلا آيتين أتل تَعالَوْا أَتْلُ [الأنعام:
151] والتي بعدها. وأخرج أبو الشيخ أيضا عن الكلبي وسفيان
قالا: نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا آيتين نزلتا بالمدينة
في رجل من اليهود وهو الذي قال: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى
بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 91] الآية. وأخرج ابن المنذر عن
أبي جحيفة نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا وَلَوْ أَنَّنا
نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ [الأنعام: 111] فإنها
مدنية، وقال غير واحد: كلها مكية إلا ست آيات وَما قَدَرُوا
اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام: 91] إلى تمام ثلاث آيات قُلْ
تَعالَوْا أَتْلُ إلى آخر الثلاث. وعدة آياتها عند الكوفيين
مائة وخمس وستون. وعند البصريين والشاميين ست وستون. وعند
الحجازيين سبع وستون. وقد كثرت الأخبار بفضلها
فقد أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب والإسماعيلي في معجمه
عن جابر قال: لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم ثم قال عليه الصلاة والسلام: «لقد شيع هذه السورة
من الملائكة ما سد الأفق»
وخبر تشييع الملائكة لها رواه جمع من المحدثين إلا أن منهم من
روى أن المشيعين سبعون ألفا ومنهم من روى أنهم كانوا أقل ومنهم
من روى أنهم كانوا أكثر.
وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم: «من صلى الفجر بجماعة وقعد في مصلاه، وقرأ ثلاث آيات من
أول سورة الأنعام وكل الله تعالى به سبعين ملكا يسبحون الله
تعالى ويستغفرون له إلى يوم القيامة» .
وأخرج أبو الشيخ عن حبيب بن محمد العابد قال: من قرأ ثلاث آيات
من أول الأنعام إلى قوله تعالى تَكْسِبُونَ بعث الله تعالى له
سبعين ألف ملك يدعون له إلى يوم القيامة وله مثل أعمالهم فإذا
كان يوم القيامة أدخله الجنة وسقاه من السلسبيل وغسله من
الكوثر وقال: أنا ربك حقا وأنت عبدي
إلى غير ذلك من الأخبار، وغالبها في هذا المطلب ضعيف وبعضها
موضوع كما لا يخفى على من نقر عنها. ولعل الأخبار بنزول هذه
السورة جملة أيضا كذلك. وحكى الإمام اتفاق الناس على القول
بنزولها جملة ثم استشكل ذلك بأنه كيف يمكن أن يقال حينئذ في كل
واحدة من آياتها إن سبب نزولها الأمر الفلاني مع أنهم يقولونه.
والقول بأن مراد القائل بذلك عدم تخلل نزول شيء من آيات سورة
أخرى بين أوقات نزول آياتها مما لا تساعده الظواهر بل في
الأخبار ما هو صريح فيما يأباه. والقول بأنها نزلت مرتين دفعة
وتدريجا خلاف الظاهر ولا دليل عليه.
(4/72)
ويؤيد ما أشرنا إليه من ضعف الأخبار
بالنزول جملة ما قاله ابن الصلاح في فتاويه الحديث الوارد في
أنها نزلت جملة رويناه من طريق أبي بن كعب ولم نر له سندا
صحيحا، وقد روي ما يخالفه انتهى. ومن هذا يعلم ما في دعوى
الإمام اتفاق الناس على القول بنزولها جملة فتدبر. ووجه
مناسبتها لآخر المائدة على- ما قال بعض الفضلاء- إنها افتتحت
بالحمد وتلك اختتمت بفصل القضاء وهما متلازمان كما قال سبحانه:
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ [الزمر: 75] .
وقال الجلال السيوطي في وجه المناسبة: إنه تعالى لما ذكر في
آخر المائدة لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما
فِيهِنَّ [المائدة: 120] على سبيل الإجمال افتتح جل شأنه هذه
السورة بشرح ذلك وتفصيله فبدأ سبحانه بذكر خلق السماوات والأرض
وضم تعالى إليه أنه جعل الظلمات والنور وهو بعض ما تضمنه ما
فيهن ثم ذكر عز اسمه أنه خلق النوع الإنساني وقضى له أجلا وجعل
له أجلا آخر للبعث وأنه جل جلاله منشىء القرون قرنا بعد قرن ثم
قال تعالى: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ [الأنعام: 12] إلخ
فأثبت له ملك جميع المظروفات لظرف المكان. ثم قال عز من قائل:
وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الأنعام: 13]
فأثبت أنه جل وعلا ملك جميع المظروفات لظرف الزمان. ثم ذكر
سبحانه خلق سائر الحيوان من الدواب والطير ثم خلق النوم
واليقظة والموت. ثم أكثر عز وجل في أثناء السورة من الإنشاء
والخلق لما فيهن من النيرين والنجوم وفلق الإصباح وفلق الحب
والنوى وإنزال الماء وإخراج النبات والثمار بأنواعها وإنشاء
جنات معروشات وغير معروشات إلى غير ذلك مما فيه تفصيل ما فيهن،
وذكر عليه الرحمة وجها آخر في المناسبة أيضا وهو أنه سبحانه
لما ذكر في سورة المائدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:
87] إلخ، وذكر جل شأنه بعده ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ
[المائدة: 103] إلخ فأخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء مما
رزقهم الله تعالى افتراء على الله عز شأنه وكان القصد بذلك
تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئا من ذلك فيشابهوا الكفار في
صنعهم وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز ساق جل جلاله هذه السورة
لبيان حال الكفار في صنعهم فأتى به على الوجه الأبين والنمط
الأكمل ثم جادلهم فيه وأقام الدلائل على بطلانه وعارضهم
وناقضهم إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة فكانت هذه السورة
شرحا لما تضمنته تلك السورة من ذلك على سبيل الإجمال وتفصيلا
وبسطا وإتماما وإطنابا، وافتتحت بذكر الخلق والملك لأن الخالق
المالك هو الذي له التصرف في ملكه ومخلوقاته إباحة ومنعا
وتحريما وتحليلا فيجب أن لا يعترض عليه سبحانه بالتصرف في
ملكه، ولهذه السورة أيضا اعتلاق من وجه بالفاتحة لشرحها إجمال
قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2] وبالبقرة لشرحها
إجمال قوله سبحانه: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ [البقرة: 21] وقوله عز اسمه الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ
ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: 29] وبآل عمران من جهة
تفصيلها لقوله جل وعلا: وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:
14] وقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:
185، الأنبياء: 35، العنكبوت: 57] إلخ وبالنساء من جهة ما فيها
من بدء الخلق والتقبيح لما حرموه على أزواجهم وقتل البنات
وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها. وقد يقال:
إنه لما كان قطب هذه السورة دائرا على إثبات الصانع ودلائل
التوحيد حتى قال أبو إسحاق الأسفراييني: إن في سورة الأنعام كل
قواعد التوحيد ناسبت تلك السورة من حيث إن فيها إبطال ألوهية
عيسى عليه الصلاة والسلام وتوبيخ الكفرة على اعتقادهم الفاسد
وافترائهم الباطل هذا، ثم إنه لما كانت نعمه سبحانه وتعالى مما
تفوت الحصر ولا يحيط بها نطاق العد إلا أنها ترجع إجمالا إلى
إيجاد وإبقاء في النشأة الأولى وإيجاد وإبقاء في النشأة الآخرة
وأشير في الفاتحة التي هي أم الكتاب إلى الجميع، وفي الأنعام
إلى الإيجاد الأول، وفي الكهف إلى
(4/73)
الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ
الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ
قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ
تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي
الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا
تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ
رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ
كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ
أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ
يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ
وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا
الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ
بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ
(6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ
فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ
الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ
مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا
يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ
فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ
انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ
لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ
عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
الإبقاء الأول وفي سبأ إلى الإيجاد الثاني
وفي فاطر إلى الإبقاء الثاني ابتدئت هذه الخمس بالتحميد. ومن
اللطائف أنه سبحانه وتعالى جعل في كل ربع من كتابه الكريم
المجيد سورة مفتتحة بالتحميد فقال عز وجل من قائل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ جملة خبرية أو
إنشائية. وعين بعضهم الأول لما في حملها على الإنشاء من إخراج
الكلام عن معناه الوضعي من غير ضرورة بل لما يلزم على كونها
إنشائية من انتفاء الاتصاف بالجميل قبل حمد الحامد ضرورة أن
الإنشاء يقارن معناه لفظه في الوجود. وآخرون الثاني لأنه لو
كانت جملة الحمد أخبارا يلزم أن لا يقال لقائل الحمد لله حامد
إذ لا يصاغ للمخبر عن غيره لغة من متعلق اخباره اسم قطعا فلا
يقال لقائل زيد له القيام قائم واللازم باطل فيبطل الملزوم.
ولا يلزم هذا على تقدير كونها إنشائية فإن الإنشاء يشتق منه
اسم فاعل صفة للمتكلم به فيقال لمن قال: بعت بائع.
واعترض بأنه لا يلزم من كل إنشاء في ذلك وإلا لقيل لقائل: ضرب
ضارب والله تعالى شأنه القائل: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلادَهُنَّ [البقرة: 233] مرضع بل إنما يكون ذلك إذا كان
إنشاء الحال من أحوال المتكلم كما في صيغ العقود ولا فرق حينئذ
بينه وبين الخبر فيما ذكر، والذي عليه المحققون جواز
الاعتبارين في هذه الجملة. وأجابوا عما يلزم كلّا من المحذور.
نعم رجح هنا اعتبار الخبرية لما أن السورة نزلت لبيان التوحيد
وردع الكفرة والإعلام بمضمونها على وجه الخبرية يناسب المقام
وجعلها لإنشاء الثناء لا يناسبه، وقيل: إن اعتبار خبريتها هنا
ليصح عطف ما بعد ثم الآتي عليها. ومن اعتبر الإنشائية ولم يجوز
عطف الإنشاء على الإخبار جعل العطف على صلة الموصول أو على
(4/74)
الجملة الإنشائية بجعل المعطوف لإنشاء
الاستبعاد والتعجب ولا يخفى ما في ذلك من التكلف والخروج عن
الظاهر وفي تعليق الحمد أولا باسم الذات ووصفه تعالى ثانيا بما
وصف به سبحانه تنبيه على تحقق الاستحقاقين تحقق استحقاقه عز
وجل الحمد باعتبار ذاته جل شأنه وتحقق استحقاقه سبحانه وتعالى
باعتبار الانعام المؤذن به ما في حيز الموصول الواقع صفة.
ومعنى استحقاقه سبحانه وتعالى الذاتي عند بعض استحقاقه جل وعلا
الحمد بجميع أوصافه وأفعاله وهو معنى قولهم إنه تعالى يستحق
العبادة لذاته وأنكر هذا صحة توجه التعظيم والعبادة إلى الذات
من حيث هي.
وقد صرح الإمام في شرح الإشارة عند ذكر مقامات العارفين أن
الناس في العبادة ثلاث طبقات فالأولى في الكمال والشرف الذين
يعبدونه سبحانه وتعالى لذاته لا لشيء آخر. والثانية وهي التي
تلي الأولى في الكمال الذين يعبدونه لصفة من صفاته وهي كونه
تعالى مستحقا للعبادة. والثالثة وهي آخر درجات المحققين الذين
يعبدونه لتكمل نفوسهم في الانتساب إليه. ولا يشكل تصور تعظيم
الذات من حيث هي لأنه- كما قال الشهاب- لو وقع ذلك ابتداء قبل
التعقل بوجوه الكمال كان مشكلا أما بعد معرفة المحمود جل جلاله
بسمات الجمال وتصوره بأقصى صفات الكمال فلا بدع أن يتوجه إلى
تمجيده تعالى وتحميده عز شأنه مرة أخرى بقطع النظر عما سوى
الذات بعد الصعود بدرجات المشاهدات. ولذا قال أهل الظاهر:
صفاته لم تزد معرفة ... لكنها لذة ذكرناها
فما بالك بالعارفين الغارقين في بحار العرفان وهم القوم كل
القوم. والذي حققه السالكوتي وجرينا عليه في الفاتحة أن
الاستحقاق الذاتي ما لا يلاحظ معه خصوصية صفة حتى الجميع لا ما
يكون الذات البحت مستحقا له فإن استحقاق الحمد ليس إلا على
الجميل. وسمي ذاتيا لملاحظة الذات فيه من غير اعتبار خصوصية
صفة أو لدلالة اسم الذات عليه أو لأنه لما لم يكن مسندا إلى
صفة من الصفات المخصوصة كان مسندا إلى الذات.
وذكر بعض محققي المتأخرين كلاما في هذا المقام رد به فيما عنده
على كثير من العلماء الأعلام.
وحاصله أن اللام الجارة في «لله» لمطلق الاختصاص دون الاختصاص
القصري على التعيين بدليل أنهم قالوا في مثل له الحمد: إن
التقديم للاختصاص القصري فلو أن اللام الجارة تفيده أيضا لما
بقي فرق بين «الحمد لله» وله الحمد غير كون الثاني أوكد من
الأول في إفادة القصر والمصرح به التفرقة بإفادة أحدهما القصر
دون الآخر وإن الاختصاصات على أنحاء وتعيين بعضها موكول إلى
العلة التي يترتب عليها الحكم وتجعل محمودا عليه غالبا وغيرها
من القرائن فإذا رأيت الحكم على أوصافه تعالى المختصة به
سبحانه وتعالى وجب كون الحمد مقصورا عليه تعالى فيحمل الحكم
المعلل على القصر ليطابق المعلول علته ومع ذلك إذا كانت
الأوصاف المختصة به عز وجل مما يدل على كونه عز شأنه منعما على
عباده وجب كون الحمد حقا لله تعالى واجبا على عباده سبحانه
فيحمل الحكم المعلل على الاستيجاب للتطابق أيضا وإذا لم يعلل
الحكم بشيء أو قطع النظر عن العلة التي رتب عليها الحكم فإنما
يثبت في الحكم أدنى مراتب الاختصاص الذي هو كونه تعالى حقيقا
بالحمد مجردا عن القصر والاستيجاب. ويعضد ما أشير إليه اختلاف
عبارات العلامة البيضاوي في بيان مدلولات جمل الحمد وأن المراد
من الاستيجاب الذي جعله بعض النحاة من معاني اللام ما هو
بمنزلة مطلق الاختصاص الذي قرره لا المعنى الذي رمز إليه فعلى
هذا يكون مفهوم جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ فيما نحن فيه أنه تعالى
حقيق بالحمد ولا دلالة فيها من حيث هي هي مع قطع النظر عن
المحمود عليه الذي هو علة الحكم على قصر الحقيقية بالحمد عليه
سبحانه وتعالى ولا على بلوغها حد الاستيجاب، نعم في
(4/75)
ترتب الحكم على ما في حيز الصفة تنبيه على
كون الحمد حقا لله تعالى واجبا على عباده مختصا به عز شأنه
مقصورا عليه سبحانه حيث إن ترتب الحكم كما قالوا على الوصف
يشعر بمنطوقه بعلية الوصف للحكم وبمفهومه بانتفاء الحكم عمن
ينتفي عنه الوصف. ثم قال: وبالجملة إن جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ
مدعى ومدلول.
وقوله سبحانه وتعالى: الَّذِي خَلَقَ إلخ دليل وعلة وليس هناك
إلا حمد واحد معلل بما في حيز الوصف لا حمد معلل بالذات
المستجمع لجميع الصفات أو بالذات البحت أولا على ما قيل
وبالوصف ثانيا حتى يكون بمثابة حمدين باعتبار العلتين لأن لفظ
الجلالة علم شخصي ولا دلالة له على الأوصاف بإحدى الدلالات
الثلاث فكيف يكون محمودا عليه وعلة لاستحقاق الحمد، ولذلك لا
يكاد يقع الحكم باستحقاق الحمد إلا معللا بالأمور الواضحة
الدالة على صفاته سبحانه وتعالى الجليلة وأفعاله الجميلة ولا
يكتفي باسم الذات اللهم إلا في تسبيحات المؤمنين وتحميداتهم لا
في محاجة المنكرين التي نحن بصدد بيانها، وأيضا اقتضاء الذات
البحت من حيث هو الذات ماذا يفيد في الاحتجاج على القوم الذين
عامتهم لا يبصرون ولا يسمعون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل.
وأما ما يقال: إنما قيل الْحَمْدُ لِلَّهِ بذكر اسم الذات
المستجمع لجميع الصفات ولم يقل للعالم أو للقادر إلى غير ذلك
من الأسماء الدالة على الجلال أو الإكرام لئلا يتوهم اختصاص
الحمد بوصف دون وصف فكلام مبني على ما ظهر لك فساده من كون
الذات محمودا عليه.
وقد يقال: إن ذكر اسم الذات ليس إلا لأن المشركين المحجوجين
الجهال لا يعرفونه تعالى ولا يذكرونه فيما بينهم ولا عند
المحاجة إلا باسمه سبحانه العليم لا بالصفات كما يدل على ذلك
أنه تحكى أجوبتهم بذكر ذلك الاسم الشريف في عامة السؤالات إلا
ما قل حيث كان جوابهم فيه بغير اسم الذات كقوله تعالى:
لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: 9]
على أن البعض جعل هذا لازم مقولهم وما يدل عليه إجمالا أقيم
مقامه فكأنهم قالوا:
الله كما حكى عنهم في مواضع وحينئذ فكأنه قيل: الإله الذي
يعرفونه ويذكرونه بهذا الاسم هو المستحق للحمد لكونه خالق
السماوات والأرض ولكونه كذا وكذا. وإذا عرفت أن الذات لا يلائم
أن يكون محمودا عليه وإنما الحقيق لأن يكون محمودا عليه هو
الصفات وأن ما يترتب عليه الحمد في كل موضع بعض الصفات بحسب
اقتضاء المقام لا جميع الصفات عرفت أن من ادعى أن ترتيب الحمد
على بعض الصفات دون بعض يوهم اختصاص استحقاق الحمد بوصف دون
وصف يلزم عليه أن يقع في الورطة التي فر منها كما لا يخفى.
فالحق أن المحمود عليه هو الوصف الذي رتب عليه استحقاق الحمد
وأن تخصيص بعض الأوصاف لأن يترتب عليه استحقاق الحمد في بعض
المواقع إنما هو باقتضاء ذلك المقام إياه فإن قلت فما الرأي في
الحمد باعتبار الذات البحت أو باعتبار استجماعه جميع الصفات-
على ما قيل-: هل له وجه أم لا؟ قلت: أما كون الذات الصرف
محمودا عليه، وكذا كون الذات محمودا عليه باستجماعه جميع
الصفات في أمثال هذه المواضع التي نحن فيها فلا وجه له.
وأما ما ذكروه في شرح خطب بعض الكتب من أن الحمد باعتبار الذات
المستجمع لجميع الصفات فلعل منشأه هو أن الحمد لما اقتضى وصفا
جميلا صالحا لأن يترتب عليه الحكم باستحقاق الحمد ويكون محمودا
عليه فحيث لم يذكر معه وصف كذلك ولم يدل عليه قرينة بل اكتفى
بذكر الذات المتصف بجميع الصفات الجميلة ثبت اعتبار الوصف
الجميل هناك اقتضاء، ثم من أجل أن تعيين البعض بالاعتبار دون
البعض الآخر لا يخلو عن لزوم الترجيح
(4/76)
بلا مرجح يلزم اعتبار الصفات الجميلة
برمتها فيكون الحمد باعتبار جميعها وحيث ذكر معه وصف جميل صالح
لأن يكون محمودا عليه ودل عليه بعينه قرينة استغنى عن ذلك
الاعتبار لأن المصير إليه كان عن ضرورة ولا ضرورة حينئذ كما لا
يخفى، ومن لم يهتد إلى الفرق بين ما وقع في القرآن المجيد
لمقاصد وما وقع في خطب الكتب لمجرد التيمن ولا إلى الفرق بين
ما ذكر فيه المحمود عليه صريحا أو دلت عليه بعينه قرينة وبين
ما لم يكن كذلك ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء فخلط مقتضيات بعض
المقامات ببعض ولم يدر أن كلام الله تعالى على أي شرف وكلام
غيره في أي واد.
وقصارى الكلام أن ترتب الحكم الذي تضمنته جملة الْحَمْدُ
لِلَّهِ هنا على الوصف المختص به سبحانه من خلق السماوات
والأرض وما عطف عليه يفيد الاختصاص القصري على الوجه الذي
تقدم، ويشير إلى ذلك كلام العلامة البيضاوي في تفسيره الآية
لمن أمعن النظر إلا أن ما ذكره عليه الرحمة في أول سبأ من
الفرق بين الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ [سبأ: 1] وبين وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
الْآخِرَةِ [سبأ: 1] مما محصله أن جملة لَهُ الْحَمْدُ جيء بها
بتقديم الصلة ليفيد القصر لكون الانعام بنعم الآخرة مختصا به
تعالى بخلاف جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ إلخ فإنها لم
يجىء بها بتقديم الصلة حتى لا يفيد القصر لعدم كون الانعام
مختصا به تعالى مطلقا بحيث لا مدخل فيه للغير إذ يكون بتوسط
الغير فيستحق ذلك لغير الحمد بنوع استحقاق بسبب وساطته آب عنه،
إذ حاصل ما ذكره في تلك السورة هو أنه لا قصر في جملة
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ إلخ بخلاف جملة لَهُ
الْحَمْدُ، وحاصل ما أشار إليه في هذه وكذا في الفاتحة هو أن
جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ إذا رتب على الأوصاف المختصة كالخلق
والجعل المذكورين مفيد للقصر أيضا غاية ما في البال أن طريق
إفادة القصر في البابين متغاير، ففي إحداهن تقديم الصلة وفي
الأخرى مفهوم العلة فتدبر ذاك والله تعالى يتولى هداك. وجمع
سبحانه السماوات وأفرد الأرض مع أنها على ما تقتضيه النصوص
المتعددة متعددة أيضا والمؤاخاة بين الألفاظ من محسنات الكلام
فإذا جمع أحد المتقابلين أو نحوهما ينبغي أن يجمع الآخر عندهم.
ولذا عيب على أبي نواس قوله:
ومالك فاعلمن فينا مقالا ... إذا استكملت آجالا ورزقا
حيث جمع وأفرد إذ جمع لنكتة سوغت العدول عن ذلك الأصل، وهي
الإشارة إلى تفاوتهما في الشرف فجمع الأشرف اعتناء بسائر
أفراده وأفرد غير الأشرف. وأشرفية السماء لأنها محل الملائكة
المقدسين على تفاوت مراتبهم وقبلة الدعاء ومعراج الأرواح
الطاهرة ولعظمها وإحاطتها بالأرض على القول بكريتها الذاهب
إليه بعض منا وعظم آيات الله فيها ولأنها لم يعص الله تعالى
فيها أصلا وفيها الجنة التي هي مقر الأحباب ولغير ذلك. والأرض
وإن كانت دار تكليف ومحل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فليس
ذلك إلا للتبليغ وكسب ما يجعلهم متأهلين للإقامة في حضيرة
القدس لأنها ليست بدار قرار، وخلق أبدان الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام منها ودفنهم فيها مع كون أرواحهم التي هي منشأ الشرف
ليست منها ولا تدفن فيها لا يدل على أكثر من شرفها، وأما أنه
يدل على أشرفيتها فلا يكاد يسلم لأحد، وكذا كون الله تعالى وصف
بقاعا منها بالبركة لا يدل على أكثر مما ذكرنا، ولهذا الشرف
أيضا قدمت على الأرض في الذكر، وقيل: إن جمع السماوات وافراد
الأرض لأن السماء جارية مجرى الفاعل والأرض جارية مجرى القابل
فلو كانت السماء واحدة لتشابه الأثر وهو يخل بمصالح هذا
العالم، وأما الأرض فهي قابلة والقابل الواحد كاف في القبول.
وحاصله أن اختلاف الآثار دل على تعدد السماء دلالة عقلية
والأرض وإن كانت متعددة لكن لا دليل عليه من جهة العقل فلذلك
جمعها دون الأرض.
(4/77)
واعترض بأنه على ما فيه ربما يقتضي العكس،
وقال بعضهم: إنه لا تعدد حقيقيا في الأرض، ولهذا لم تجمع، وأما
التعدد الوارد في بعض الأخبار نحو
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من غصب قيد شبر من أرض طوقه إلى
سبع أرضين»
فمحمول على التعدد باعتبار الأقاليم السبعة، وكذا يحمل ما
أخرجه أبو الشيخ والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه
صلّى الله عليه وسلّم قال: «هل تدرون ما هذه هذه أرض هل تدرون
ما تحتها؟ قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم قال: أرض أخرى
وبينهما مسيرة خمسمائة عام حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين
خمسمائة عام»
والتحتية لا تأبى ذلك فإن الأرض كالسماء كروية، وقد يقال للشيء
إذا كان بعد آخر هو تحته، والمراد من
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «بينهما خمسمائة عام أن القوس من
إحدى السماوات المسامت لأول إقليم وأول الآخر خمسمائة عام»
ولا شك أن ذلك قد يزيد على هذا المقدار وكثيرا ما يقصد من
العدد التكثير لا الكم المعين.
وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ
الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق: 12] محمول على المماثلة في
السبعة الموجودة في الأقاليم لا على التعدد الحقيقي، ولا يخفى
أن هذا من التكلف الذي لم يدع إليه سوى اتهام قدرة الله تعالى
وعجزه سبحانه عن أن يخلق سبع أرضين طبق ما نطق به ظاهر النص
الوارد عن حضرة أفصح من نطق بالضاد وأزال بزلال كلامه الكريم
أو أم كل صاد، وحمل المماثلة في الآية أيضا على المماثلة التي
زعمها صاحب القيل خلاف الظاهر.
ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تتمة الكلام في هذا
المقام. وذكر بعض المحققين في وجه تقديم السماوات على الأرض
تقدم خلقها على خلق الأرض ولا يخفى أنه قول لبعضهم.
وعن الشيخ الأكبر قدس سره أن خلق المحدد سابق على خلق الأرض
وخلق باقي الأفلاك بعد خلق الأرض، وقد تقدم بعض الكلام في هذا
المقام، وتخصيص خلقهما بالذكر لاشتمالهما على جملة الآثار
العلوية والسفلية وعامة الآلاء الجلية والخفية التي أجلها نعمة
الوجود الكافية في إيجاب حمده تعالى على كل موجود فكيف بما
يتفرع عليها من صنوف النعم الآفاقية والأنفسية المنوط بها
مصالح العباد في المعاش والمعاد.
والمراد بالخلق الإنشاء والإيجاد أي أوجد السماوات والأرض
وأنشأهما على ما هما عليه مما فيه آيات للمتفكرين وَجَعَلَ
الظُّلُماتِ وَالنُّورَ عطف على خَلَقَ السَّماواتِ داخل معه
في حكم الإشعار بعلة الحمد وإن كان مترتبا عليه لأن جعلهما
مسبوق بخلق منشئهما ومحلهما كما قيل، والجعل- كما قال شيخ
الإسلام- الإنشاء والإبداع كالخلق خلا أن ذلك مختص بالإنشاء
التكويني، وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما في
الآية وللتشريعي أيضا كما في قوله سبحانه: ما جَعَلَ اللَّهُ
مِنْ بَحِيرَةٍ [المائدة: 103] وأيّا ما كان ففيه أنباء عن
ملابسة مفعوله بشيء آخر بأن يكون فيه أو له أو منه أو نحو ذلك
ملابسة مصححة لأن يتوسط بينهما شيء من الظروف لغوا كان أو
مستقرا لكن لا على أن يكون عمدة في الكلام بل قيدا فيه، وقيل:
الفرق بين الجعل والخلق أن الخلق فيه معنى التقدير والجعل فيه
معنى التضمين أي كونه محصلا من آخر كأنه في ضمنه ولذلك عبر عن
أحداث النور والظلمة بالجعل تنبيها على أنهما لا يقومان
بأنفسهما كما زعمت الثنوية.
واعترض بأن الثنوية يزعمون أن النور والظلمة جسمان قديمان
سميعان بصيران أولهما خالق الخير والثاني خالق الشر فهما حينئذ
ليسا بالمعنى الحقيقي المتعارف فمدعاهم الفساد يبطل بمجرد هذا،
وأيضا أن الرد يحصل لكونهما محدثين بقطع النظر عما اعتبر في
مفهوم الجعل ولو أتى بالخلق بدله حصل المقصود منه، وأيضا أن
الجعل المتعدي لواحد كما فيما نحن فيه لا يقتضي كونه غير قائم
بنفسه ألا ترى إلى قوله سبحانه: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ
الْأَنْعامِ
(4/78)
بُيُوتاً
، وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً [الفرقان: 52، 53] إلى غير
ذلك. وأجيب بما لا يخلو عن نظر، وجمع الظلمات وأفرد النور
ليحسن التقابل مع قوله سبحانه: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
أو لما قدمناه في البقرة.
وقيل. لأن المراد بالظلمة الضلال وهو متعدد وبالنور الهدى وهو
واحد، ويدل على التعدد والوحدة قوله تعالى:
وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ
[الأنعام: 153] واختار غير واحد حمل الظلمة والنور هنا على
الأمرين المحسوسين وإن جاء في الكتاب الكريم بمعنى الهدى
والضلال وكان له هنا وجه أيضا لأن الأصل حمل اللفظ على حقيقته
وقد أمكن مع وجود ما يلائمه ويقتضيه اقتضاء ظاهرا حيث قرنا
بالسماوات والأرض. وعن قتادة أن المراد بهما الجنة والنار ولا
يخفى بعده، وللعلماء في النور والظلمة كلام طويل وبحث عريض حتى
أنهم ألفوا في ذلك الرسائل ولم يتركوا بعد مقالا لقائل.
وذكر الإمام أن النور كيفية هي كمال بذاتها للشفاف من حيث هو
شفاف أو الكيفية التي لا يتوقف الإبصار بها على الإبصار بشيء
آخر، وأن من الناس من زعم أنه أجسام صغار تنفصل عن المضيء
وتتصل بالمستضيء وهو باطل، أما أولا فلأن كونها أنوارا إما أن
يكون هو عين كونها أجساما وإما أن يكون مغايرا لها والأول باطل
لأن المفهوم من النورية مغاير للمفهوم من الجسمية ولذلك يعقل
جسم مظلم ولا يعقل نور مظلم، وأما إن قيل: إنها أجسام حاملة
لتلك الكيفية تنفصل عن المضيء وتتصل بالمستضيء فهو أيضا باطل
لأن تلك الأجسام الموصوفة بتلك الكيفيات إما أن تكون محسوسة أو
لا فإن كان الأول لم يكن الضوء محسوسا وإن كان الثاني كانت
ساترة لما تحتها ويجب أنها كلما ازدادت اجتماعا ازدادت سترا
لكن الأمر بالعكس، وأما ثانيا فلأن الشعاع لو كان جسما لكانت
حركته بالطبع إلى جهة واحدة لكن النور مما يقع على كل جسم في
كل جهة، وأما ثالثا فلأن النور إذا دخل من كوة ثم سددناها دفعة
فتلك الأجزاء النورانية إما أن تبقى أولا فإن بقيت فإما أن
تبقى في البيت وإما أن تخرج فإن قيل: إنها خرجت عن الكوة قبل
السد فهو محال وإن قيل: إنها عدمت فهو أيضا باطل فكيف يمكن أن
يحكم أن جسما لما تخلل بين جسمين عدم أحدهما فإذن هي باقية في
البيت ولا شك في زوال نوريتها عنها. وهذا هو الذي نقول من أن
مقابلة المستضيء سبب لحدوث تلك الكيفية وإذا ثبت ذلك في بعض
الأجسام ثبت في الكل. وأما رابعا فلأن الشمس إذا طلعت من الأفق
يستبين وجه الأرض كله دفعة ومن البعيد أن تنتقل تلك الأجزاء من
الفلك الرابع إلى وجه الأرض في تلك اللحظة اللطيفة سيما والخرق
على الفلك محال عندهم، واحتج المخالف بأن الشعاع متحرك وكل
متحرك جسم فالشعاع جسم «بيان الصغرى بثلاثة أوجه» ، الأول أن
الشعاع منحدر من ذيه والمنحدر متحرك بالبديهة.
والثاني أنه يتحرك وينتقل بحركة المضيء. والثالث أنه قد ينعكس
عما يلقاه إلى غيره والانعكاس حركة «والجواب» أن قولهم: الشعاع
منحدر فهو باطل وإلا لرأيناه في وسط المسافة بل الشعاع يحدث في
المقابل القابل دفعة ولما كان حدوثه من شيء عال توهم أنه ينزل.
وأما حديث الانتقال فيرد عليه أن الظل ينتقل مع أنه ليس بجسم
فالحق أنه كيفية حادثة في المقابل، وعند زوال المحاذاة عنه إلى
قابل آخر يبطل النور عنه ويحدث في ذلك الآخر وكذلك القول في
الانعكاس فإن المتوسط شرط لأن يحدث الشعاع من المضيء في ذلك
الجسم. ثم القائلون بأنه كيفية اختلفوا فمنهم من زعم أنه عبارة
عن ظهور اللون فقط وزعموا أن الظهور المطلق هو الضوء، والخفاء
المطلق هو الظلمة، والمتوسط بين الأمرين هو الظل وتختلف مراتبه
بحسب مراتب القرب والبعد عن الطرفين وأطالوا الكلام في تقرير
ذلك بما لا يجدي نفعا ولا يأبى أن يكون الضوء كيفية وجودية
زائدة على ذات اللون كما يدل عليه أمور. الأول أن ظهور اللون
إشارة إلى تجدد أمر فهو إما أن يكون اللون أو صفة غير نسبية أو
صفة نسبية، والأول باطل لأنه لا يخلو إما أن يجعل
(4/79)
النور عبارة عن تجدد اللون أو عن اللون
المتجدد والأول يقتضي أن لا يكون الشيء مستنيرا إلا آن تجدده.
والثاني يوجب أن يكون الضوء نفس اللون فلا يبقى لقولهم الضوء
ظهور اللون معنى، وإن جعلوا الضوء كيفية ثبوتية زائدة على ذات
اللون وسموه بالظهور عاد النزاع لفظيا. وإن زعموا أن ذلك
الظهور تجدد حالة نسبية فذاك باطل لأن الضوء أمر غير نسبي فلا
يمكن أن يفسر بالحالة النسبية. الثاني أن البياض قد يكون مضيئا
ومشرقا وكذلك السواد فإن الضوء ثابت لهما جميعا فلو كان كون كل
منهما مضيئا نفس ذاته لزم أن يكون الضوء بعضه مضادا للبعض وهو
محال إذا الضوء لا يقابله إلا الظلمة.
الثالث أن اللون يوجد من غير الضوء فإن السواد مثلا قد لا يكون
مضيئا وكذلك الضوء قد يوجد بدون اللون مثل الماء والبلور إذا
كانا في ظلمة ووقع الضوء عليه وحده فإنه حينئذ يرى ضوءه فذلك
ضوء وليس بلون فإذا وجد كل منهما دون الآخر فلا بد من التغاير.
الرابع أن المضيء للون تارة ينعكس منه الضوء وحده إلى غيره
وتارة ينعكس منه الضوء واللون وذلك إذا كان قويا فيهما جميعا
فلو كان الضوء ظهور اللون لاستحال أن يفيد غيره بريقا ساذجا،
وكون هذا البريق عبارة عن إظهار لون ذلك القابل يرد عليه أنه
لماذا إذا اشتد لون الجسم المنعكس منه وضوءه أخفى لون المنعكس
إليه وأبطله وأعطاه لون نفسه إلى غير ذلك من الأدلة، وفرق
الإمام بين النور، والضوء، والشعاع والبريق بأن الأجسام إذا
صارت ظاهرة بالفعل مستنيرة فإن ذلك الظهور كيفية ثابتة فيها
منبسطة عليها من غير أن يقال: إنها سواد أو بياض أو حمرة أو
صفرة، والآخر اللمعان وهو الذي يترقرق على الأجسام ويستر لونها
وكأنه شيء يفيض منها وكل واحد من القسمين إما أن يكون من ذاته
أو من غيره فالظهور للشيء الذي من ذاته كما للشمس والنار يسمى
ضوءا والظهور الذي للشيء من غيره يسمى نورا، والترقرق الذي
للشيء من ذاته كما للشمس يسمى شعاعا. والذي يكون للشيء من غيره
كما للمرأة يسمى بريقا.
وقد تقدم لك الكلام في الفرق بين النور والضوء في سورة البقرة
أيضا، وكذا الكلام في الظلمة والنسبة بينها وبين النور،
والمشهور أن بينهما تقابل العدم والملكة، ولهذا قدمت الظلمات
على النور في الآية الكريمة فقد صرحوا بأن الإعدام مقدمة على
الملكات.
وتحقيق ذلك على ما ذكره بعض المحققين أنه إذا تقابل شيئان
أحدهما وجودي فقط فإن اعتبر التقابل بالنسبة إلى موضوع قابل
للأمر الوجودي إما بحسب شخصه أو بحسب نوعه أو بحسب جنسه القريب
أو البعيد فهما العدم والملكة الحقيقيان أو بحسب الوقت الذي
يمكن حصوله فيه فيهما العدم والملكة المشهوران، وإن لم يعتبر
فيهما ذلك فهما السلب والإيجاب، فالعدم المشهوري في العمى
والبصر هو ارتفاع الشيء الوجودي كالقدرة على الإبصار مع ما
ينشأ من المادة المهيأة قبوله في الوقت الذي من شأنها ذلك فيه
كما حقق في حكمة العين وشرحها، فإذا تحقق أن كل قابل لأمر
وجودي في ابتداء قابليته واستعداده متصف بذلك العدم قبل وجود
ذلك الأمر بالفعل تبين أن كل ملكة مسبوقة بعدمها لأن وجود تلك
الصفة بالقوة وهو متقدم على وجودها بالفعل. وقال المولى
ميرزاجان: لا بد في تقابل العدم والملكة أن يؤخذ في مفهوم
العدمي كون المحل قابلا للوجودي، ولا يكفى نسبة المحل القابل
للوجودي من غير أن يعتبر في مفهوم العدمي كون المحل قابلا له،
ولذا صرحوا بأن تقابل العدم والوجود تقابل الإيجاب والسلب.
قال في الشفاء: العمى هو عدم البصر بالفعل مع وجوده بالقوة،
وهذا مما لا بد منه في معناه المشهور انتهى، وبه يندفع بعض
الشكوك التي عرضت لبعض الناظرين في هذا المقام، وقيل في تقدم
عدم الملكة على الوجود: إن عدم
(4/80)
الملكة عدم مخصوص والعدم المطلق في ضمنه
وهو متقدم على الوجود في سائر المخلوقات.
ولذا قال الإمام: إنما قدم الظلمات على النور لأن عدم المحدثات
متقدم على وجودها كما جاء
في حديث رواه أحمد والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن
الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره، وفي أخرى
ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه نوره اهتدى ومن أخطأه ضل
فلذلك جف القلم بما هو كائن.
وعليه الظلمة في الخبر بمعنى العدم والنور بمعنى الوجود ولا
يلائمه سياق الحديث، والظاهر ما قيل الظلمة عدم الهداية وظلمة
الطبيعة والنور الهداية، ومن المتكلمين من زعم أن الظلمة عرض
يضاد النور واحتج لذلك بهذه الآية ولم يعلم أن عدم الملكة
كالعمى ليس صرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل، وتحقيقه- على ما
قيل- إن الجعل هنا ليس بمعنى الخلق والإيجاد بل تضمين شيء شيئا
وتصييره قائما به قيام المظروف بالظروف أو الصفة بالموصوف
والعدم من الثاني فصح تعلق الجعل به وإن لم يكن موجودا عينيا،
وفي الطوالع أن العدم المتجدد يجوز أن يكون بفعل الفاعل
كالوجود الحادث فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك.
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ يحتمل أن
يكون يَعْدِلُونَ فيه من العدل بمعنى العدول أو منه بمعنى
التسوية، والكفر يحتمل أن يكون بمعنى الشرك المقابل للإيمان أو
بمعنى كفران النعمة، والباء يحتمل أن تتعلق بكفروا وأن تتعلق
بيعدلون، وعلى التقادير فالجملة إما إنشائية لإنشاء الاستبعاد
أو إخبارية واردة للإخبار عن شناعة ما هم عليه، ثم هي إما
معطوفة على جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ إنشاء أو اخبارا أو على
قوله سبحانه خَلَقَ صلة الذي أو على الظُّلُماتِ مفعول جعل
فالاحتمالات ترتقي إلى أربعة وستين حاصلة من ضرب ستة عشر
احتمالات المعطوف في أربعة أعني احتمالات المعطوف عليه وإذا
لوحظ هناك أمور أخر مشهورة بلغت الاحتمالات أربعة آلاف وزيادة
ولكن ليس لنا إلى هذه الملاحظة كبير داع، والذي اختاره كثير من
المحققين من تلك الاحتمالات أن تكون الجملة معطوفة على جملة
الحمد والعدل بمعنى العدول أي الانصراف والجار متعلق بكفروا
وهو من الكفر بمعنى الشرك أو كفران النعمة ويقدر مضاف بعد
الجار، والمعنى أن الله تعالى حقيق بالحمد على ما خلق من النعم
الجسام التي أنعم بها على الخاص والعام ثم الذين أشركوا به أو
كفروا بنعمه يعدلون فيكفرون نعمه، وأن تكون معطوفة على جملة
الصلة والعدل بمعنى التسوية والجار متعلق به والكفر بأحد
المعنيين.
والمعنى أنه سبحانه خلق هذه النعم الجسام والمخلوقات العظام
التي دخل فيها كل ما سواه، ثم إن هؤلاء الكفرة أو هؤلاء
الجاحدين للنعم يسوون به غيره ممن لا يقدر عليها وهم في قبضة
تصرفه ومهاد تربيته.
وثُمَّ لاستبعاد ما وقع من الذين كفروا أو للتوبيخ عليه كما
قال ابن عطية، وجعلها أبو حيان لمجرد التراخي في الزمان وهو
وإن صح هنا باعتبار أن كل ممتد يصح فيه التراخي باعتبار أوله
والفور باعتبار آخره كما حققه النحاة إلا أن ما ذكر أوفق
بالمقام، ونكتة وضع الرب موضع ضميره تعالى على كل تقدير تأكيد
أمر الاستبعاد، ووجه جعل الباء متعلقة بيعدلون على أحد
احتماليه وبكفروا على الاحتمال الآخر أنه إذا كان من العدل
بمعنى التسوية يقتضي التوصل بالباء بخلاف ما إذا كان منه بمعنى
العدول، فالظاهر أنها حينئذ متعلقة بما قبلها، وما قاله المحقق
التفتازاني مني إنه لا مخصص لكل من توجيهي بِرَبِّهِمْ
يَعْدِلُونَ بواحد من العطفين يمكن دفعه بأن وجه تخصيص كل بما
خصص به اتساق نظم الآية حينئذ وظهور شدة المناسبة بين ما عطف
بثم الاستبعادية وبين ما عطف عليه، وذلك لأنه إذا قيل مثلا في
الصورة الأولى إن الله تعالى استحق جميع المحامد من العباد فهم
أن العدول عنه تعالى والإعراض عن حمده سبحانه في غاية
الاستبعاد فيناسب أن يقال: ثم الذين كفروا بربهم يعدلون عنه
فلا يحمدونه ولا يلتفتون لفتة، ولا
(4/81)
يناسب أن يقال: إنهم يسوون به غيره إذا لم
يسبق صريحا وبالقصد الأولي ما ينفي التسوية، وإذا قيل مثلا في
الصورة الثانية: إنه جعل شأنه خلق هذه الأجسام العظام مما لا
يقدر عليه أحد ناسب في الاستبعاد أن يقال: ثم الذين كفروا
يسوون به ما لا يقدر على شيء لا أنهم لا يحمدونه ويعرضون عنه.
وقال بعض المحققين: إذا كان المعنى على الأول الحمد والثناء
مستحق للمنعم بهذه النعم الشاملة سائر الأمم فكيف يتأتى من
الكفرة والمشركين المستغرقين في بحار إحسانه العدول عنه، وعلى
الثاني المعروف بالقدرة على إيجاد هذه المخلوقات العظام التي
دخل فيها كل ما سواه من الخاص والعام كيف يتسنى لهؤلاء الكفرة
أو لهؤلاء الجاحدين للنعم أن يسووا به غيره وهم في قبضته، فوجه
التخصيص في الأول أنه لا يخفى استبعاد انصراف العبد عن سيده
وولي نعمته إلى سواه بخلاف التسوية فإن المنعم قد يساويه غيره
ممن يحسن إلى غيره، وفي الثاني أن استبعاد التسوية عليه مما لا
يكاد يتصور بخلاف العدول عنه فإنه قد يتصور لجهل العادل بحقه
وما يليق بحقه فإن العدول لا ينافي عدم المعرفة بخلاف التسوية
فإنه لا يسوى بين شيئين لا يعرفهما بوجه ما فتدبر.
واعترض غير واحد على العطف على الصلة بأنه لا وجه لضم ما لا
دخل له في استحقاق الحمد إلى ما له ذلك. ثم جعل المجموع صلة في
مقام يقتضي كون الصلة محمودا عليه. وأجيب بأن في الكلام على
ذلك التقدير إشارة إلى علو شأنه تعالى وعموم إحسانه للمستحق
وغيره حيث ينعم بمثل تلك النعم الجليلة على من لا يحمده ويشرك
به جل شأنه، وفي ذلك تعظيم منبىء عن كمال الاستحقاق، وقد يقال:
وقوع هذا المعطوف موقع المحمود عليه باعتبار معنى التعظيم
المستفاد من إنكار مضمونه فكأنه قيل الحمد لله جل جنابه عن أن
يعدل به شيء لكن لا يخفى أن المحمود عليه يجب في المشهور أن
يكون جميلا اختياريا، وما ذكر ليس كذلك فعليه لا بد من
التأويل.
وذكر شيخ الإسلام في الاعتراض على العطف المذكور أن ما ينتظم
في سلك الصلة المنبئة عن موجبات حمده تعالى حقه أن يكون له دخل
في ذلك الانباء في الجملة ولا ريب في أن كفرهم بمعزل عنه،
وادعاء أن له دخلا فيه لدلالته على كمال الجود كأنه قيل: الحمد
لله الذي أنعم بمثل هذه النعم العظام على من لا يحمده تعسف لا
يساعده النظام وتعكيس يأباه المقام كيف لا وسياق النظم الكريم
كما تفصح عنه الآيات لتوبيخ الكفرة ببيان غاية إساءتهم في حقه
سبحانه وتعالى مع نهاية إحسانه تعالى إليهم لا بيان إحسانه
تعالى إليهم مع غاية إساءتهم في حقه عز وجل كما يقتضيه الادعاء
المذكور، وبهذا اتضح أنه لا سبيل إلى جعل المعطوف من روادف
المعطوف عليه لما أن حق الصلة أن تكون غير مقصودة الإفادة فما
ظنك بروادفها وقد عرفت أن المعطوف هو الذي سيق له الكلام
انتهى.
ورد بأنه لا شك في أنه على هذا الوجه يراد الحمد لله الذي أنعم
بهذه النعم الجسام على من لا يحمده ولا تعسف فيه لبلاغته.
وادعاء التعكيس ممنوع فإن المقام مقام الحمد كما تفيده الجملة
المصدر بها وما بعده كلام آخر ولا يترك مقتضى مقام لأجل مقتضى
مقام آخر إذ لكل مقام مقال. واعترض أيضا بأنه لا يصح من جهة
العربية لأن الجملة خالية من رابط يربطها بالموصول اللهم إلا
أن يخرج على نحو قولهم: أبو سعيد رويت عن الخدري حيث وضع
الظاهر موضع الضمير وكأنه قيل: ثم الذين كفروا به يعدلون إلا
أن هذا من الندور بحيث لا يقاس عليه فلا ينبغي حمل كتاب الله
تعالى على مثله مع إمكان حمله على الوجه الصحيح الفصيح. وأجيب
بأنه لا يلزم من ضعف ذلك في ربط الصلة ابتداء ضعفه فيما عطف
عليها فكثيرا ما يغتفر في التابع ما لا يغتفر في غيره، والجواب
بأن هذا العطف لا يحتاج إلى الرابط عجيب لأنه لم يقل أحد من
النجاة: إن المعطوف على الصلة بثم يجوز خلوه عن الرابط وغاية
ما ذكروه أنه نكتة للربط بالاسم.
(4/82)
واعترض شيخ الإسلام على احتمال أن يراد
بالعدل العدول مع اعتبار التشنيع عليهم بعدم الحمد بأن كفرهم
به تعالى لا سيما باعتبار ربوبيته أشد شناعة وأعظم جناية من
عدولهم عن حمده سبحانه فجعل أهون الشرين عمدة في الكلام مقصودا
بالإفادة وإخراج أعظمهما مخرج القيد المفروغ منه مما لا عهدة
له في الكلام السديد فكيف بالنظم التنزيلي، وأجيب بأنه لما كان
المقام مقام الحمد ناسب التشنيع عليهم بذلك فلا يرد اعتراض
الشيخ وقد ذكر هو قدس سره توجيها للآية وادعى أنه الحقيق
بجزالة التنزيل، وحط عليه الشهاب فيه ولعل الأمر أهون من ذلك،
والذي تصدح به كلماتهم أن صلة يَعْدِلُونَ على تقدير أن يكون
من العدل بمعنى العدول متروكة ليقع الإنكار على نفس الفعل،
وإنما قدروا له مفعولا على تقدير أن يكون من العدل بمعنى
التسوية فقالوا: غيره أو الأوثان لأنه لا يحسن إنكار العدل
بخلاف إنكار العدول، ونظر في ذلك بأن مجرد العدول بدون اعتبار
متعلقه غير منكر ألا ترى أن العدول عن الباطل لا ينكر فالظاهر
اعتبار المتعلق إلا أنه حذف لأجل الفاصلة كما أن تقديم
بِرَبِّهِمْ على احتمال تعلقه بما بعد لذلك، ويجوز أن يكون
للاهتمام.
وقال بعض المحققين: إن هذا وإن تراءى في بادىء النظر لكنه عند
التحقيق ليس بوارد لأن العدول وإن كان له فردان أحدهما مذموم
وهو العدول عن الحق إلى الباطل وممدوح وهو العدول عن الباطل
إلى الحق لكن العدول الموصوف به الكفار لا يحتمل الثاني
فلتعينه لا يحتاج إلى تقدير متعلق وتنزيله منزلة اللازم أبلغ
عند التأمل بخلاف التسوية فإنها من النسب التي لا تتصور بدون
المتعلق فلذا قدروه. ومن هذا يعلم أن تنزيل الفعل منزلة اللازم
الشائع فيما بينهم إنما يكون أو يحسن فيما ليس من قبيل النسب.
هذا وأخرج ابن الضريس في فضائل القرآن، وابن جرير، وابن
المنذر، وغيرهم عن كعب قال: فتحت التوراة بالحمد لله الذي خلق
السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم
يعدلون وختمت بالحمد لله الذي لم يتخذ ولدا إلى قوله سبحانه
وتعالى وكبره تكبيرا.
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ استئناف مسوق لبيان كفرهم
بالبعث والخطاب وإن صح كونه عاما لكنه هنا خاص بالذين كفروا
كما يدل عليه الخطاب الآتي ففيه التفات والنكتة فيه زيادة
التشنيع والتوبيخ، وتخصيص خلقهم بالذكر من بين سائر أدلة صحة
البعث مع أن ما تقدم من أظهر أدلته لما أن دليل الأنفس أقرب
إلى الناظر من دليل الآفاق الذي في الآية السابقة، ومعنى خلق
المخاطبين من طين أنه ابتدأ خلقهم منه فإنه المادة الأولى لما
أنه أصل آدم عليه الصلاة والسلام وهو أصل سائر البشر، ولم ينسب
سبحانه الخلق إليه عليه الصلاة والسلام مع أنه المخلوق منه
حقيقة وكفاية ذلك في الغرض الذي سيق له الكلام توضيحا لمنهاج
القياس ومبالغة في إزاحة الشبهة والالتباس، وقيل في توجيه
خلقهم منه: إن الإنسان مخلوق من النطفة والطمث وهما من الأغذية
الحاصلة من التراب بالذات أو بالواسطة.
وقال المهدوي في ذلك: إن كل إنسان مخلوق ابتداء من طين
لخبر «ما من مولود يولد إلا ويذر على نطفته من تراب حفرته»
وفي القلب من هذا شيء، والحديث إن صح لا يخلو عن ضرب من
التجوز، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي خلق آباءكم، وأيّا ما
كان ففيه من وضوح الدلالة على كمال قدرته تعالى شأنه على البعث
ما لا يخفى فإن من قدر على إحياء ما لم يشم رائحة الحياة قط
كان على إحياء ما قارنها مدة أظهر قدرة.
ثُمَّ قَضى أي قدر وكتب أَجَلًا أي حدا معينا من الزمان للموت.
وثُمَّ للترتيب في الذكر دون الزمان لتقدم القضاء على الخلق،
وقيل: الظاهر الترتيب في الزمان، ويراد بالتقدير والكتابة ما
تعلم به اللائكة وتكتبه كما وقع
في حديث الصحيحين «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما
نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون
(4/83)
مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه
الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد»
.
وَأَجَلٌ مُسَمًّى أي حد معين للبعث من القبور، وهو مبتدأ وصح
الابتداء به لتخصيصه بالوصف أو لوقوعه في موقع التفصيل
وعِنْدَهُ هو الخبر، وتنوينه لتفخيم شأنه وتهويل أمره. وقدم
على خبره الظرف مع أن الشائع في النكرة المخبر عنها به لزوم
تقديمه عليها وفاء بحق التفخيم، فإن ما قصد به ذلك حقيق
بالتقديم فالمعنى وأجل أي أجل مستقل بعلمه سبحانه وتعالى لا
يقف على وقت حلوله سواه جل شأنه لا إجمالا ولا تفصيلا. وهذا
بخلاف أجل الموت فإنه معلوم إجمالا بناء على ظهور أماراته أو
على ما هو المعتاد في أعمال الإنسان.
وقيل: وجه الاخبار عن هذا أو التقييد بكونه عنده سبحانه وتعالى
أنه من نفس المغيبات الخمس التي لا يعلمها إلا الله تعالى،
والأول أيضا وإن كان لا يعلمه إلا هو قبل وقوعه كما قال تعالى:
وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان: 34] لكنا
نعلمه للذين شاهدنا موتهم وضبطنا تواريخ ولادتهم ووفاتهم
فنعلمه سواء أريد به آخر المدة أو جملتها متى كان وكم مدة كان.
وذهب بعضهم إلى أن الأجل الأول ما بين الخلق والموت، والثاني
ما بين الموت والبعث. وروي ذلك عن الحسن وابن المسيب، وقتادة،
والضحاك، واختاره الزجاج ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنه حيث قال:
قضى أجلا من مولده إلى مماته وأجل مسمى عنده من الممات إلى
البعث لا يعلم ميقاته أحد سواه سبحانه فإذا كان الرجل صالحا
وأصلا لرحمه زاد الله تعالى له في أجل الحياة من أجل الممات
إلى البعث وإذا كان غير صالح ولا واصل نقصه الله تعالى من أجل
الحياة وزاد في أجل الممات، وذلك قوله تعالى: وَما يُعَمَّرُ
مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ
[فاطر: 11] وعليه فمعنى عدم تغير الأجل عدم تغير آخره، وقيل:
الأجل الأول الزمن الذي يحيى به أهل الدنيا إلى أن يموتوا
والأجل الثاني أجل الآخرة الذي لا آخر له، ونسب ذلك إلى مجاهد،
وابن جبير، واختاره الجبائي.
ولا يخفى بعد إطلاق الأجل على المدة الغير المتناهية، وعن أبي
مسلم أن الأجل الأول أجل من مضى والثاني أجل من بقي ومن يأتي،
وقيل: الأول النوم والثاني الموت. ورواه ابن جرير وابن أبي
حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأيده الطبرسي بقوله
تعالى: وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر: 42]
ولا يخفى بعده لأن النوم وإن كان أخا الموت لكنه لم تعهد
تسميته أجلا وإن سمي موتا، وقيل: إن كلا الأجلين للموت ولكل
شخص أجلان أجل يكتبه الكتبة وهو يقبل الزيادة والنقص وهو
المراد بالعمر
في خبر «إن صلة الرحم تزيد في العمر»
ونحوه وأجل مسمى عنده سبحانه وتعالى لا يقبل التغيير ولا يطلع
عليه غيره عز شأنه وكثير من الناس قالوا: إن المراد بالزيادة
الواردة في غير ما خبر الزيادة بالبركة والتوفيق للطاعة، وقيل:
المراد طول العمر ببقاء الذكر الجميل كما قالوا: ذكر الفتى
عمره الثاني وضعفه الشهاب، وقيل: الأجلان واحد والتقدير وهذا
أجل مسمى فهو خبر مبتدأ محذوف وعِنْدَهُ خبر بعد خبر أو متعلق
بمسمى وهو أبعد الوجوه.
ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ أي تشكون في البعث كما أخرجه ابن
أبي حاتم عن خالد بن معدان، وعن الراغب المرية التردد في
المتقابلين وطلب الامارة مأخوذ من مرى الضرع إذا مسحه للدر.
ووجه المناسبة في استعماله في الشك أن الشك سبب لاستخراج العلم
الذي هو كاللبن الخالص من بين فرث ودم. قيل: الامتراء الجحد،
وقيل: الجدال. وأيّا ما كان فالمراد استبعاد امترائهم في وقوع
البعث وتحققه في نفسه مع مشاهدتهم في أنفسهم من الشواهد ما
يقطع مادة ذلك بالكلية فإن من قدر على إفاضة الحياة وما يتفرع
عليها على مادة غير مستعدة لشيء من ذلك كان أوضح اقتدارا
(4/84)
على إفاضته على مادة قد استعدت له وقارنته
مدة. ومن هذا يعلم أن شطرا من تلك الأوجه السابقة آنفا لا
يلائم مساق النظم الكريم، وتوجيه الاستبعاد إلى الامتراء على
التفسير الأول مع أن المخاطبين جازمون بانتفاء البعث مصرون على
جحوده وإنكاره كما ينبىء عنه كثير من الآيات للدلالة على أن
جزمهم ذلك في أقصى مراتب الاستبعاد والاستنكار.
وذكر بعض المحققين أن الآية الأولى دليل التوحيد كما أن هذه
دليل البعث، ووجه ذلك بأنها تدل على أنه لا يليق الثناء
والتعظيم بشيء سواه عز وجل لأنه المنعم لا أحد غيره ويلزم منه
أنه لا معبود ولا إله سواه بالطريق الأولى، وزعم بعضهم أنها لا
تدل على ذلك إلا بملاحظة برهان التمانع إذ لو قطع النظر عنه لا
تدل على أكثر من وجود الصانع، ومنشأ ذلك حمل الدليل على
البرهان العقلي أو مقدماته التي يتألف منها أشكاله وليس ذلك
باللازم. ومن الناس من جعل الآية الأولى أيضا دليلا على البعث
على منوال قوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ
السَّماءُ بَناها [النازعات: 27] ولا يخفى أنه خلاف الظاهر.
وقوله سبحانه وتعالى: وَهُوَ اللَّهُ جملة من مبتدأ عائد إليه
سبحانه كما قال الجمهور وخبر معطوفة على ما قبلها مسوقة لبيان
شمول أحكام الهيئة لجميع المخلوقات وإحاطة علمه بتفاصيل أحوال
العباد وأعمالهم المؤدية إلى الجزاء إثر الإشارة إلى تحقق
المعاد في تضاعيف ما تقدم، والحمل ظاهر الفائدة إذا اعتبر ما
يأتي وإلا فهو على حد- أنا أبو النجم وشعري شعري-، وقوله
تعالى: فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ متعلق- على ما قيل-
بالمعنى الوصفي الذي تضمنه الاسم الجليل كما في قولك: هو حاتم
في طيىء على معنى الجواد.
والمعنى الذي يعتبر هنا يجوز أن يكون هو المأخوذ من أصل اشتقاق
الاسم الكريم أعني المعبود أو ما اشتهر به الاسم من صفات
الكمال إلا أنه يلاحظ في هذا المقام ما يقتضيه منها أو ما يدل
عليه التركيب الحصري لتعريف طرفي الإسناد فيه من التوحيد
والتفرد بالألوهية أو ما تقرر عند الكل من إطلاق هذا الاسم
عليه تعالى خاصة فكأنه قيل:
وهو المعبود فيهما أو وهو المالك والمتصرف المدبر فيهما حسبما
يقتضيه المشيئة المبنية على الحكم البالغة أو وهو المتوحد
بالألوهية فيهما أو وهو الذي يقال له: الله فيهما لا يشرك به
شيء في هذا الاسم، ومعنى ذلك مجرد ملاحظة أحد المعاني المذكورة
في ضمن ذلك الاسم الجليل ويكفي مثل ذلك في تعلق الجار لا أنه
يحمل لفظ الله على معناه اللغوي أو على نحو المالك والمتصرف أو
المتوحد أو يقدر القول، وعلى كل تقدير يندفع ما يقال: إن الظرف
لا يتعلق باسم الله تعالى لجموده ولا بكائن لأنه حينئذ يكون
ظرفا لله تعالى وهو سبحانه وتعالى منزه عن المكان والزمان.
ومن الناس من جوز تعلقه بكائن على أنه خبر بعد خبر والكلام
حينئذ من التشبيه البليغ أو كناية على رأي من لم يشترط جواز
المعنى الأصلي أو استعارة تمثيلية بأن شبهت الحالة التي حصلت
من إحاطة علمه سبحانه وتعالى بالسماوات والأرض وبما فيهما
بحالة بصير تمكن في مكان ينظره وما فيه والجامع بينهما حضور
ذلك عنده.
وجوز أن يكون مجازا مرسلا باستعماله في لازم معناه وهو ظاهر،
وأن يكون استعارة بالكناية بأن شبه عز اسمه بمن تمكن في مكان
وأثبت له من لوازمه وهو علمه به وبما فيه، وليس هذا من التشبيه
المحظور في شيء وعليه يكون قوله تعالى: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ
وَجَهْرَكُمْ أي ما أسررتموه وما جهرتم به من الأقوال أو منها
ومن الأفعال بيانا للمراد وتوكيدا لما يفهم من الكلام. وتعليق
علمه سبحانه بما ذكر خاصة مع شموله لجميع من في السماوات
وصاحبتها لانسياق النظم الكريم إلى بيان حال المخاطبين وكذا
يعتبر بيانا على تقدير اعتبار ما اشتهر به الاسم الجليل من
صفات الكمال عند تعلق الجار على ما علمت فإن ملاحظته من حيث
المالكية الكاملة والتصرف الكامل حسبما تقدم مستتبعة لملاحظة
علمه تعالى المحيط حتما.
(4/85)
وعلى التقادير الأخر لا مساغ كما قيل لجعله
بيانا لأن ما ذكر من العلم غير معتبر في مفهوم شيء من
المعبودية واختصاص إطلاق الاسم عليه تعالى، وكذا مفهوم المتوحد
بالألوهية فكيف يكون هذا بيانا لذلك. واعتبار العلم فيما صدق
عليه المتوحد غير كاف في البيانية، وقيل في بيانها على تقدير
اعتبار المتوحد بالألوهية: إن حصر الألوهية بمعنى تدبير الخلق،
ومن تفرد بتدبير جميع أمور أحد لزمه معرفة جميعها حتى يتم له
تدبيرها فملاحظة المتوحد بالألوهية مستتبعة لملاحظة علمه تعالى
المحيط على طرز ما تقرر في ملاحظة اسمه عز اسمه من حيث
المالكية الكاملة والتصرف الكامل على الوجه المتقدم.
ومن هذا يعلم اندفاع ما أورد على احتمال تعلق الجار السابق
باعتبار ملاحظة المتوحد بالألوهية من أن التوحيد بها أمر لا
تعلق له بمكان فلا معنى لجعله متعلقا بمكان فضلا عن جميع
الأمكنة فإن تدبير الخلق مما يتعلق بما في حيز الجار من الحيز،
وكذا بما فيه. وتعقب ذلك بمنع تفسير الألوهية بما ذكر ولعل
الجملة على هاتيك التقادير خبر ثالث، وقد جوز غير واحد الاخبار
بالجملة بعد الاخبار بالمفرد، وبعضهم جعلها كذلك مطلقا،
والقرينة على إرادة المراد من الجملة الظرفية حينئذ عقلية، وهي
أن كل أحد يعلم أنه تقدس وتعالى منزه عما يقتضيه الظاهر من
المكان، وذلك كما في قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما
كُنْتُمْ [الحديد: 4] إذا لم يردف بما يبينه، وجوز أن تكون
كلاما مبتدأ وهو استئناف نحوي. ورجحه غير واحد لخلوه عن التكلف
أو استئناف بياني ويتكلف له تقدير سؤال، وقيل: إن الجملة هي
خبر هُوَ والاسم الجليل بدل منه والظرف متعلق بيعلم. ويكفي في
ذلك كون المعلوم فيما ذكر ولا يتوقف على كون العالم فيه ليلزم
تحيزه سبحانه وتعالى المحال. وهذا- كما قيل- كقولك: رميت الصيد
في الحرم فإنه صادق إذا كنت خارجه والصيد فيه.
ونقل بعض المدققين عن الإمام التمرتاشي في الإيمان إذا ذكر ظرف
بعد فعل له فاعل كما إذا قلت: إذا ضربت في الدار أو في المسجد
فإن كانا معا فيه فالأمر ظاهر وإن كان الفاعل فيه دون المفعول
أو بالعكس فإن كان الفعل مما يظهر أثره في المفعول كالضرب
والقتل والجرح فالمعتبر كون المفعول فيه وإن كان مما لا يظهر
أثره فيه كالشتم فالمعتبر كون الفاعل فيه فلذا قال بعض
الفقهاء: لو قال إن شتمته في المسجد أو رميت إليه فكذا فشرط
حنثه كون الفاعل فيه. وإن قال: إن ضربته في المسجد أو جرحته أو
قتلته أو رميته فكذا فشرطه كون المفعول فيه. وفرق بين الرميين
المتعدي بإلى والمتعدي بنفسه بأن الأول إرسال السهم من القوس
بنية وذلك مما لا يظهر له أثر في المحل ولا يتوقف على وصول فعل
الفاعل. والثاني إرسال السهم أو ما يضاهيه على وجه يصل إلى
المرمى إليه فيؤثر فيه ولذا عد كل منهما في قبيل. وعلى هذا
يشكل ما نحن فيه لأن العلم لا يظهر له أثر في المعلوم فيلزم أن
يكون الكلام من قبيل شتمته في المسجد ويجيء المحال وكون العلم
هنا مجازا عن المجازاة وهي مما يظهر أثرها في المفعول فيكون
الكلام من قبيل إن ضربته في المسجد ويكفي كون المفعول فيه دون
الفاعل في القلب منه شيء على أن كون المفعول هنا أعني سر
المخاطبين وجهرهم في السماوات مما لا وجه له.
والقول بأن المعنى حينئذ يعلم نفوسكم المفارقة الكائنة في
السماوات ونفوسكم المقارنة لأبدانكم الكائنة في الأرض تعسف
وخروج عن الظاهر على أن الخطاب حينئذ يكون للمؤمنين وقد كان
فيما قبل للكافرين فتفوت المناسبة والارتباط، ومثله القول
بتعميم الخطاب بحيث يشمل الملائكة وظاهر أن سرهم وجهرهم في
السماوات.
وأجيب بأنه يمكن أن يكون جعل سر المخاطبين وجهرهم فيها لتوسيع
الدائرة وتصوير أنه سبحانه وتعالى لا يعزب عن علمه شيء في أي
مكان كان لا أنهما يكونان في السماوات أيضا، وقيل: المراد
بالسر ما كتم عنهم من
(4/86)
عجائب الملك وأسرار الملكوت مما لم يطلعوا
عليه وبالجهر وما ظهر لهم من السماوات والأرض. وإضافة السر
والجهر إلى ضمير المخاطبين مجازية وليس بشيء كما لا يخفى.
وجوز بعضهم أن يكون الجار متعلقا بالمصدر على سبيل التنازع،
واعترض بأن معمول المصدر لا يتقدم عليه.
ويلزم أيضا التنازع مع تقدم المعمول. وأجيب بأن منهم من يجوز
التنازع مع تقدم المعمول ومن يقول: بجواز تقديم الظرف على
المصدر لتوسعهم فيه ما لم يتوسع في غيره، ونقل عن ابن هشام أنه
قال: إنما يمتنع تقدم متعلق المصدر إذا قدر بحرف مصدري وفعل
وهذا ليس كذلك فليس مما منعوه، وقال مولانا صدر الدين: يرد على
منع تعلق الجار بالمصدر المتأخر تعلقه بإله في قوله تعالى:
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ [الزخرف: 84] مع أن إلها
مصدر وصرح بتعلقه به غير واحد فإن أول بالصفة مثل المعبود
فليؤول السر والجهر بالخفي والظاهر.
وعن أبي علي الفارسي أنه جعل هُوَ ضمير الشأن واللَّهُ مبتدأ
خبره ما بعده والجملة خبر عن ضمير الشأن أي الشأن والقصة ذلك
وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ أي ما تفعلونه لجلب نفع أو دفع ضر
من الأعمال المكتسبة بالقلوب والجوارح سرا وعلانية. وتخصيص ذلك
بالذكر مع اندراجه فيما تقدم على تقدير تعميم السر والجهر
لإظهار كمال الاعتناء به لأنه مدار فلك الجزاء وهو السر في
إعادة يَعْلَمُ. ومن الناس من غير بين المتعاطفين بجعل العلم
هنا عبارة عن جزائه وإبقائه على معناه المتبادر فيما تقدم.
وتفسير المكتسب بجزاء الأعمال من المثوبات والعقوبات غير ظاهر.
وكذا حمل السر والجهر على ما وقع والمكتسب على ما لم يقع بعد.
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ كلام مستأنف
سيق لبيان كفرهم بآيات الله تعالى وإعراضهم عنها بالكلية بعد
بيان كفرهم بالله تعالى وإعراضهم عن بعض آيات التوحيد
وامترائهم في البعث وإعراضهم عن بعض أدلته.
والإعراض عن خطابهم للإيذان بأن إعراضهم السابق قد بلغ مبلغا
اقتضى أن لا يواجهوا بكلام بل يضرب عنهم صفحا وتعدد جناياتهم
لغيرهم ذما لهم وتقبيحا لحالهم. فما نافية وصيغة المضارع
لحكاية الحال الماضية كما أشار إليه العلامة البيضاوي ولله
تعالى دره أو للدلالة على الاستمرار التجددي، ومن الأولى مزيدة
للاستغراق أو لتأكيده، والثانية للتبعيض وهي متعلقة بمحذوف
مجرور أو مرفوع وقع صفة لآية، وجعلها ابن الحاجب للتبيين لأن
كونها للتبعيض ينافي كون الأولى للاستغراق إذ الآية المستغرقة
لا تكون بعضا من الآيات. ورد بأن الاستغراق هاهنا لآية متصفة
بالإتيان فهي وإن استغرقت بعض من جميع الآيات على أن كلامه بعد
لا يخلو عن نظر.
وإضافة الآيات إلى الرب المضاف إلى ضميرهم لتفخيم شأنها
المستتبع لتهويل ما اجترءوا عليه في حقها.
والمراد بها إما الآيات التنزيلية أو الآيات التكوينية الشاملة
للمعجزات وغيرها من تعاجيب المصنوعات والإتيان على الأول بمعنى
النزول، وعلى الثاني بمعنى الظهور على ما قيل، ويفهم من كلام
بعض المحققين أنه مطلقا بمعنى الظهور استعمالاته في لازم معناه
وهو المجيء الذي لا يوصف به إلا الأجسام مجازا لا كناية كما
قيل.
وحاصل المعنى على الأول ما تنزل إليهم آية من الآيات القرآنية
الجليلة الشأن التي من جملتها هاتيك الآيات الناطقة بما فصل من
بدائع صنع الله تعالى شأنه المنبئة عن جريان أحكام ألوهيته على
كافة الكائنات وإحاطة علمه بجميع أحوال العباد وأعمالهم
الموجبة للإقبال عليها والإيمان بها.
إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ غير مقبلين عليها ولا معتنين
بها، وعلى الثاني ما تظهر لهم آية من الآيات التكوينية التي من
جملتها ما ذكر من جلائل شؤونه سبحانه وتعالى الشاهدة بوحدانيته
عز وجل إلا كانوا تاركين للنظر
(4/87)
الصحيح فيها المؤدي إلى الإيمان بمكونها،
وأصل الإعراض صرف الوجه عن شيء من المحسوسات. واستعماله في عدم
الاعتناء أو ترك النظر مجاز على ما حققه البعض. وفسر شيخ
الإسلام الإعراض على الوجه الأول بما كان على وجه التكذيب
والاستهزاء، و «عن» متعلقة بمعرضين. والتقديم لرعاية الفواصل.
والجملة بعد إلا- كما قال الكرخي- في موضع النصب على أنها حال
من مفعول تأتي أو من فاعله المخصص بالوصف كما قيل وهي مشتملة
على ضمير كل منهما. وإيثارها على أعرضوا عنها كما وقع مثله في
قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا [القمر: 2]
للدلالة على استمرارهم على الإعراض حسب استمرار إتيان الآيات.
وفي الكلام إشارة إلى غاية انهماكهم في الضلال حيث آذن أن
إعراضهم عما يأتيهم من الآيات أن الإتيان كما يفصح عنه كلمة
لَمَّا في قوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا
جاءَهُمْ
فإن الحق عبارة عن القرآن الذي أعرضوا عنه حين أعرضوا عن كل
آية آية منه. وعبر عنه بذلك إظهارا لكمال فظاعة ما فعلوا به.
والفاء على تقدير أن يراد بالآيات الآيات التنزيلية- كما هو
الأظهر على ما قرره مولانا شيخ الإسلام- لترتيب ما بعدها على
ما قبلها لا باعتبار أنه مغاير له حقيقة واقع عقيبه أو حاصل
بسببه بل على أنه عينه في الحقيقة والترتيب بحسب التغاير
الاعتباري حيث إن مفهوم التكذيب بالحق أشنع من الإعراض المذكور
إذ هو مما لا يتصور صدوره من أحد.
ولذلك أخرج مخرج اللازم البين البطلان وترتب عليه بالفاء
إظهارا لغاية بطلانه. ثم قيد ذلك بكونه بلا تأمل بل آن المجيء
تأكيدا لشناعة فعلهم الفظيع. وعلى تقدير أن يراد الآيات
التكوينية داخلة على جواب شرط محذوف.
والمعنى على الأول حيث أعرضوا عن تلك الآيات حين إتيانها فقد
كذبوا بما لا يمكن لعاقل تكذيبه أصلا من غير أن يتدبروا في
حاله ومآله ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الموجبة
لتصديقه. وعلى الثاني أنهم إن كانوا معرضين عن الآيات حال
إتيانها فلا تعجب من ذلك فقد فعلوا بما هو أعظم منها ما هو
أعظم من الإعراض حيث كذبوا بالحق الذي هو أعظم الآيات. واختار
في البحر كون الفاء سببية وما بعدها مسبب عما قبلها. وجوز أيضا
كونها سببية على معنى أن ما بعدها سبب لما قبلها. فقد قال
الرضي: وقد تكون فاء السببية بمعنى لام السببية وذلك إذا كان
ما بعدها سببا لما قبلها نحو قوله تعالى: فَاخْرُجْ مِنْها
فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الحجر: 34] وأطلق عليها الكثير حينئذ الفاء
التعليلية.
وهل تفيد الترتيب حينئذ أم لا؟ لم يصرح الرضي بشيء من ذلك،
ويفهم كلام البعض أنها للترتيب والتعقيب أيضا.
واستشكل بأن السبب يتقدم على المسبب لا متعقب إياه. وتكلف صاحب
التوضيح لتوجيه بأن ما بعد الفاء علة باعتبار معلول باعتبار
دخول الفاء عليه باعتبار المعلولية لا باعتبار العلية. ورد
بأنها لا تتأتى في كل محل، وفي التلويح الأقرب ما ذكره القوم
من أنها إنما تدخل على العلل باعتبار أنها تدوم فتتراخى عن
ابتداء الحكم، وفي شرح المفتاح الشريفي فإن قلت: كيف يتصور
ترتب السبب على المسبب؟ قلت: من حيث إن ذكر المسبب يقتضي ذكر
السبب انتهى. وعليه يظهر وجه الترتيب هنا مطلقا. لكن ظاهر كلام
النحاة وغيرهم أن هذه الفاء تختص بالوقوع بعد الأمر كأكرم زيدا
فإنه أبوك، واعبد الله فإن العبادة حق إلى غير ذلك فالوجه
الأول أولى وليست الفاء فصيحة كما توهمه بعضهم من قول العلامة
البيضاوي في بيان معنى الآية كأنه قيل: لما كانوا معرضين عن
الآيات كلها كذبوا بالقرآن لأن الفاء الفصيحة لا تقدر جواب لما
لأن جوابها الماضي لا يقترن بالفاء على الفصيح فكيف يقدر للفاء
ما يقتضي عدمها فما مراد العلامة إلا بيان حاصل المعنى ولذا
أسقط الفاء. نعم قيل: إن هذا المعنى مما ينبغي تنزيه التنزيل
عنه وفيه تأمل.
وقد صرح بعض المحققين أن أمر الترتيب يجري في الآية سواء كانت
الآية بمعنى الدليل أو المعجزة أو الآية
(4/88)
القرآنية لتغاير الإعراض والتكذيب فيها.
والفاء في قوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ للترتيب أيضا بناء على أن ما تقدم
لكونه أمرا عظيما يقتضي ترتب الوعيد عليه، وقيل: يستهزئون
إيذانا بأن ما تقدم كان مقرونا بالاستهزاء.
واستدل به أبو حيان على أن في الكلام معطوفا محذوفا أي فكذبوا
بالحق واستهزؤوا به. ولا يخفى أن ذلك مما لا ضرورة إليه. وما
عبارة عن الحق المذكور. وعبر عنه بذلك تهويلا لأمره بإبهامه
وتعليلا للحكم بما في حيز الصلة. والأنباء جمع نبأ وهو الخبر
الذي يعظم وقعه. والمراد بأنباء القرآن التي تأتيهم ويتحقق
مدلولها فيهم ويظهر لهم آيات وعيده بما يحصل بهم في الدنيا من
القتل والسبي والجلاء ونحو ذلك من العقوبات العاجلة، وقيل:
المراد ما يعم ذلك والعقوبات التي تحل بهم في الآخرة من عذاب
النار ونحوه وقيل: المراد بأنباء ذلك ما تضمن عقوبات الآخرة أو
ظهور الإسلام وعلو كلمته، وظاهر ما يأتي من الآيات يرجح الأول.
وصرح بعض المحققين بأن إضافة أَنْباءُ بيانية وهو احتمال مقبول
وادعاء أنه مقحم وأن المعنى سيظهر لهم ما استهزؤوا به من
الوعيد الواقع فيه أو من نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم أو
نحو ذلك لا وجه له إذ لا داعي لإقحامه. وفي البحر إنما قيد
الكذب بالحق هنا وكان التنفيس بسوف وفي [الشعراء: 6] فَقَدْ
كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ بدون تقيد الكذب والتنفيس بالسين
لأن الأنعام متقدمة في النزول على الشعراء فاستوفى فيها اللفظ
وحذف من الشعراء وهو مراد إحالة على الأول وناسب الحذف
الاختصار في حرف التنفيس فجيء بالسين.
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ
استئناف مسوق لتعيين ما هو المراد بما تقدم، وقيل: شروع في
توبيخهم ببذل النصح لهم والأول أظهر. والرؤية عرفانية، وقيل:
بصرية، والمراد في أسفارهم وليس بشيء. وهي على التقديرين
تستدعي مفعولا واحدا. وكَمْ استفهامية كانت أو خبرية معلقة لها
عن العمل مفيدة للتكثير سادة مع ما في حيزها مسد مفعولها. وهي
منصوبة بأهلكنا على المفعولية. وهي عبارة عن الأشخاص، وقيل: إن
الرؤية علمية تستدعي مفعولين والجملة سادة مسدهما. ومِنْ
قَرْنٍ مميز لكم على أنه عبارة عن أهل عصر من الأعصار سموا
بذلك لاقترانهم مدة من الزمان فهو من قرنت. واختلف في مقدار
تلك المدة فقيل: مائة وعشرون سنة، وقيل: مائة، وقيل: ثمانون،
وقيل: سبعون، وقيل: ستون، وقيل: ثلاثون، وقيل: عشرون. وقيل:
مقدار الأوسط في أعمار أهل كل زمان. ولما كان هذا لا ضابط له
يضبط قال الزجاج: إنه عبارة عن أهل عصر فيهم نبي أو فائق في
العلم على ما جرت به عادة الله تعالى. ويحتمل أن يعتبر ذلك
مائة سنة لما ورد أن الله تعالى قيض لهذه الأمة على رأس كل
مائة سنة من يجدد لها أمر دينها. وقيل: هو عبارة عن مدة من
الزمان اختلف فيها على طرز ما تقدم. واختار بعضهم أنه حقيقة في
الزمان المعين وفي أهله. والمراد به هنا الأهل من غير تجشم
تقدير مضاف أو ارتكاب تجوز.
وجوز بعضهم انتصاب كَمْ على المصدرية بأهلكنا بمعنى إهلاك أو
على الظرفية بمعنى أزمنة وهو تكلف.
ومن الأولى ابتدائية متعلقة بأهلكنا. وهمزة الإنكار لتقرير
الرؤية. والمعنى ألم يعرف هؤلاء المكذبون المستهزءون بمعاينة
الآثار وتواتر الأخبار كم أمة أهلكنا من قبل خلقهم أو من قبل
زمانهم كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط وأضرابهم فالكلام على
حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. وقوله تعالى:
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ استئناف بياني كأنه قيل ما كان
حالهم؟، وقال أبو البقاء: إنه في موضع جر صفة قَرْنٍ لأن الجمل
بعد النكرات صفات لاحتياجها إلى التخصيص. وجمع الضمير باعتبار
معناه. وتعقبه مولانا شيخ الإسلام بأن تنوينه التفخيمي مغن له
عن استدعاء الصفة. على أن ذلك مع اقتضائه أن يكون مضمونه
ومضمون ما عطف عليه من الجمل الأربع مفروغا عنه غير مقصود
(4/89)
لسياق النظم مؤد إلى اختلال النظم الكريم.
كيف لا والمعنى حينئذ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن
موصوفين بكذا وكذا وبإهلاكنا لهم بذنوبهم وأنه بين الفساد
انتهى. ولا يخفى أن التنوين التفخيفي لا يأبى الوصف. وما ورد
فيه ذلك من النكرات أكثر من أن يحصى، وأما ما ذكره بعد فقد قال
الشهاب: إنه غفلة منه أو تغافل عن تفسيرهم فَأَهْلَكْناهُمْ
إلخ الآتي بقولهم لم يغن ذلك عنهم شيئا. وتمكين الشيء في
الأرض- على ما قيل- جعله قارا فيها.
ولما لزم ذلك جعلها مقرا له ورد الاستعمال بكل منهما فقيل تارة
مكنه في الأرض. ومنه قوله تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما
إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ [الأحقاف: 26] وأخرى مكن له في
الأرض. ومنه قوله تعالى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ
[الكهف: 84] حتى أجرى كل منهما مجرى الآخر. ومنه قوله تعالى:
ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ بعد ما تقدم كأنه قيل في الأول: مكنا
لهم وفي الثاني ما لم نمكنكم.
وفي التاج أن مكنته ومكنت له مثل نصحته ونصحت له. وقال أبو
علي: اللام زائدة مثل رَدِفَ لَكُمْ [النمل: 72] وكلام الراغب
في مفرداته يؤيده. وذكر بعض المحققين أن مكنه أبلغ من مكن له.
ولذلك خص المتقدم بالمتقدمين والمتأخر بالمتأخرين وما إما
موصولة صفة لمحذوف تقديره التمكين الذي لم نمكنه لكم أو نكرة
موصوفة أي تمكينا لم نمكنه. وعليهما فهي مفعول مطلق والعائد
إليها من الصلة أو الصفة محذوف، وقيل: إنها مفعول به لأن
المراد من التمكين الإعطاء كما يشير إليه ما روي عن قتادة أي
أعطيناكم ما تمكنوا به من أنواع التصرف ما لم نعطكم. وقيل:
إنها مصدرية ظرفية أي مدة تمكينكم ولا يخفى بعده والخطاب
للكفرة. وقيل: لجميع الناس، وقيل:
للمؤمنين. والظاهر الأول والالتفات لما في مواجهتهم بضعف حالهم
من التبكيت ما لا يخفى. وقيل: ليتضح مرجع الضميرين ولا يشتبه
من أول الأمر، وهي نكتة في الالتفات لم يعرج عليها أهل
المعاني.
وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ أي المطر كما روي عن هارون التيمي.
ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا. وقيل: السحاب
واستعمالها في ذلك مجاز مرسل. وقيل: هي على حقيقتها بمعنى
المظلة والمجاز في إسناد الإرسال إليها لأن المرسل ماء المطر
وهي مبدأ له. وفيه من المبالغة ما لا يخفى. والإرسال والإنزال-
كما في البحر- متقاربان في المعنى لأن اشتقاقه من رسل اللبن
وهو ما ينزل من الضرع متتابعا عَلَيْهِمْ مِدْراراً أي غزيرا
كثير الصب، وهو صيغة مبالغة يستوي فيه المذكر والمؤنث، وهو حال
من السماء والظرف متعلق بأرسلنا وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ أي
صيرناها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أي من تحت مساكنهم. والمراد
أنهم عاشوا في الخصب والريف بين الأنهار والثمار. والجملة في
موضع المفعول الثاني لجعلنا. ولم يقل سبحانه: أجرينا الأنهار
كما قال عز شأنه: أَرْسَلْنَا السَّماءَ للإيذان بكونها مسخرة
مستمرة الجريان لا لأن النهر لا يكون إلا جاريا فلا يفيد
الكلام لأن النظم حينئذ ناظر إلى كونه من تحتهم فالفائدة
ظاهرة، ولو كان ما ذكر صحيحا لما ورد في النظم الكريم كقوله
تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [البقرة: 25
وغيرها] واستظهر كون الجعل بمعنى الإنشاء والإيجاد وهو مخصوص
به تعالى فلذا غير الأسلوب. وعليه فالجملة في موضع الحال من
المفعول. وليس المراد- على ما قيل- بتعداد هاتيك النعم العظام
الفائضة عليهم بعد ذكر تمكينهم بيان عظم جنايتهم في كفرانها
واستحقاقهم بذلك لأعظم العقوبات بل بيان حيازتهم لجميع أسباب
نيل المآرب ومبادئ الأمن من المكاره والمعاطب وعدم إغناء ذلك
عنهم شيئا. وينبىء عن عدم الإغناء عند جمهور المفسرين.
قوله تعالى: فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ والفاء للتعقيب.
وقيل: فصيحة. والمراد فكفروا فأهلكناهم. ورجح الأول، والباء
للسببية أي أهلكنا كل قرن من تلك القرون بسبب ما يخصهم من
الذنوب كتكذيب الرسل عليهم الصلاة
(4/90)
والسلام وَأَنْشَأْنا أي أوجدنا مِنْ
بَعْدِهِمْ أي بعد إهلاكهم بسبب ذلك قَرْناً آخَرِينَ بدلا من
الهالكين.
وهذا بيان لأنه تعالى لا يتعاظمه أن يهلك قرنا ويخلي بلاده
منهم فإنه جل جلاله قادر على أن ينشىء مكانهم آخرين يعمر بهم
البلاد فهو كالتتميم لما قبله نحو قوله تعالى: وَلا يَخافُ
عُقْباها [الشمس: 15] وفيه إشارة إلى أنهم قلعوا من أصلهم ولم
يبق أحد من نسلهم لجعلهم آخرين ويلونهم من بعدهم وَلَوْ
نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ استئناف سيق بطريق
تلوين الخطاب لبيان شدة شكيمتهم في المكابرة وما يتفرع عليها
من الأقاويل الباطلة إثر بيان ما هم فيه من غير ذلك.
وعن الكلبي وغيره أنها نزلت في النضر بن الحارث وعبد الله بن
أبي أمية، ونوفل بن خويلد لما قالوا لرسول الله صلّى الله عليه
وسلّم: يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله تعالى
ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله تعالى وأنك
رسوله، والكتاب المكتوب، والجار بعده متعلق بمحذوف وقع صفة له
أو متعلق به، وقيل: إن جعل اسما كالإمام فالجار في موضع الصفة
له، وإن جعل مصدرا بمعنى المكتوب فهو متعلق به.
وجوز أن يتعلق بنزلنا وفيه بعد، والقرطاس بكسر القاف وضمها،
وقرىء بهما معرب كراسة كما قيل، وممن نص على أنه غير عربي
الجواليقي، وقيل: إنه مشترك ومعناه الورق، وعن قتادة الصحيفة،
وفي القاموس القرطاس مثلثة القاف وكجعفر ودرهم الكاغد، وقال
الشهاب: هو مخصوص بالمكتوب أو أعم منه ومن غيره.
فَلَمَسُوهُ أي الكتاب أو القرطاس، واللمس كما قال الجوهري
المس باليد فقوله تعالى: بِأَيْدِيهِمْ لزيادة التعيين ودفع
احتمال التجوز الواقع في قوله تعالى: وَأَنَّا لَمَسْنَا
السَّماءَ [الجن: 8] أي تفحصنا، وقيل: إنه أعم من المس باليد،
فعن الراغب المس إدراك بظاهر البشرة كاللمس، وبالتقييد به
يندفع احتمال التجوز أيضا.
وقيل: إنما قيد بذلك لأن الإحساس باللصوق يكون بجميع الأعضاء
ولليد خصوصية في الإحساس ليست لسائرها. وأما التجوز باللمس عن
الفحص فلا يندفع به إذ لا بعد في أن يكون ذلك لمباشرتهم للفحص
بأنفسهم بل يندفع لكون المعنى الحقيقي أنسب بالمقام وليس بشيء
كما لا يخفى، وقيل: إن ذكر الأيدي ليفيد أن اللمس كان بكلتا
اليدين ولا يظهر وجه الإفادة. وتخصيص اللمس لأنه يتقدمه
الإبصار حيث لا مانع ولأن التزوير لا يقع فيه فلا يمكنهم أن
يقولوا إذا ترك العناد والتعنت: إنما سكرت أبصارنا.
واعترض بأن اللمس هنا إنما يدفع احتمال كون المرئي مخيلا وأما
نزوله من السماء فلا يثبت به.
وأجيب بأنه إذا تأيد الإدراك البصري في النزول بالإدراك اللمسي
في المنزل يجزم العقل بديهة بوقوع المبصر جزما لا يحتمل النقيض
فلا يبقى بعده إلا مجرد العناد مع أن حدوثه هناك من غير مباشرة
أحد يكفي في الإعجاز كما لا يخفى، وقال ابن المنير الظاهر أن
فائدة زيادة لمسهم بأيديهم تحقيق القراءة على قرب أي فقرؤوه
وهو بأيديهم لا بعيد عنهم لما آمنوا. وقوله تعالى: لَقالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا جواب لَوْ على الأفصح من اقتران جوابها
المثبت باللام. والمراد لقالوا تعنتا وعنادا للحق. وإنما وضع
الموصول موضع الضمير للتنصيص على اتصافهم بما في حيز الصلة من
الكفر الذي لا يكفر- كما قيل- حسن موقعه باعتبار معناه اللغوي
أيضا، وجوز أن يكون المراد بهم قوم معهودون من الكفرة فحديث
الوضع حينئذ موضوع وإِنْ في قوله سبحانه إِنْ هذا أي الكتاب
نافية أي ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي ظاهر كونه سحرا
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ الظاهر أنه استئناف
لبيان قدحهم بنبوته عليه الصلاة والسلام بما هو أصرح من الأول،
وقيل: إنه معطوف على جواب لو ويغتفر في الثواني ما لا يغتفر في
الأوائل، واعترض بأن تلك المقالة الشنعاء ليست مما يقدر صدوره
عنهم على تقدير تنزيل الكتاب المذكور بل هي من أباطيلهم
(4/91)
المحققة وخرافاتهم الملفقة التي يتعللون
بها كلما ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل، وأجيب بأنه لا بعد
في تقدير صدور هذه المقالة على تقدير ذلك التنزيل لأنه مما
يوقع الكافر المعاند في حيص بيص فلا يدري بماذا يقابله وأي شيء
يتشبث به. وكلمة لَوْلا هنا للتحضيض، والمقصود به التوبيخ على
عدم الإتيان بملك يشاهد معه حتى تنتفي الشبهة بزعمهم.
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال: «دعا
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ
إليهم فيما بلغني فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن
الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث وأبي بن خلف بن وهب والعاص
بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى
معك فأنزل الله تعالى قوله سبحانه: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ
إلخ
أي هلا أنزل عليه ملك يكون معه يحدث الناس عنه ويخبرهم أنه
رسول من ربه سبحانه إليهم، ولعل هذا نظير ما حكى الله تعالى
عنهم بقوله جل شأنه: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ
فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان: 7] . ولما كان مدار هذا
الاقتراح على شيئين. إنزال الملك على صورته وجعله معه صلّى
الله عليه وسلّم يحدث الناس عنه وينذرهم أجيب عنه بأن ذلك مما
لا يكاد يوجد لاشتماله على المتباينين فإن إنزال الملك على
صورته يقتضي انتفاء جعله محدثا ونذيرا وجعله محدثا ونذيرا
يستدعي عدم إنزاله على صورته، وقد أشير إلى الأول بقوله تعالى:
وَلَوْ أَنْزَلْنا عليه مَلَكاً على صورته الحقيقية فشاهدوه
بأعينهم: لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي لأتم أمر إهلاكهم بسبب
مشاهدتهم له لمزيد هول المنظر مع ما هم فيه من ضعف القوى وعدم
اللياقة.
وقد قيل: إن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهم هم إنما
رأوا الملك في صورة البشر ولم يره أحد منهم على صورته غير
النبي صلّى الله عليه وسلّم رآه كذلك مرتين مرة في الأرض بحياد
ومرة في السماء، ولا يخفى أن هذا محتاج إلى نقل عن الأحاديث
الصحيحة، والذي
صح من رواية الترمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي
صلّى الله عليه وسلّم رأى جبريل عليه السلام مرتين
كما ذكر على صورته الأصلية لكن ليس فيه أن أحدا من إخوانه
الأنبياء غيره عليه الصلاة والسلام لم يره كذلك، ولم يرد هذا-
كما قال ابن حجر وناهيك به حافظا في شيء- من كتب الآثار، وأما
رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم وكذا رؤية غيره من الأنبياء
غير جبريل عليه السلام على الصورة الأصلية فهي جائزة بلا ريب،
وظاهر الأخبار وقوعها أيضا لنبينا عليه الصلاة والسلام، وأما
وقوع رؤية سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلم أقف فيها
على شيء لا نفيا ولا إثباتا، وعدم وقوع رؤية جبريل عليه السلام
لو صح لا يدل على عدم رؤية غيره إذ ليست صور الملائكة كلهم
كصورته عليه الصلاة والسلام في العظم، وخبر الخصمين والأضياف
لإبراهيم، ولوط وداود عليهم السلام ليس فيه دلالة على أكثر من
رؤية هؤلاء الأنبياء للملائكة بصورة الآدميين وهي لا تستلزم
أنهم لا يرونهم إلا كذلك وإلا لاستلزمت رؤية نبينا صلّى الله
عليه وسلّم جبريل عليه السلام بصورة دحية بن خليفة الكلبي رضي
الله تعالى عنه مثلا عدم رؤيته عليه الصلاة والسلام إياهم إلا
بالصورة الآدمية وهو خلاف ما تفهمه الأخبار، وبناء الفعل الأول
في الجواب للفاعل مسندا إلى نون العظمة مع كونه في السؤال
مبنيا للمفعول لتهويل الأمر وتربية المهابة، وبناء الثاني
للمفعول للجري على سنن الكبرياء وكلمة ثُمَّ في قوله تعالى:
ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ أي لا يمهلون بعد إنزاله ومشاهدتهم له
طرفة عين فضلا عن أن يحفظوا منه بكلمة أو يزيلوا به بزعمهم
شبهة للتنبيه على بعد ما بين الأمرين قضاء الأمر وعدم الانظار
فإن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة، وقيل: إنها للإشارة إلى أن
لهم مهلة قدر أن يتأملوا.
واعترض بأن قوله سبحانه: ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ عطف على قوله عز
وجل: لَقُضِيَ ولا يمهل للتأمل بعد قضاء الأمر.
(4/92)
وقيل في سبب إهلاكهم على تقدير إنزال الملك
حسبما اقترحوه: إنهم إذا عاينوه قد نزل على رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم في صورته الأصلية وهي آية لا شيء أبين منها ثم
لم يؤمنوا لم يكن بد من إهلاكهم فإن سنة الله تعالى قد جرت
بذلك فيمن قبلهم ممن كفر بعد نزول ما اقترح. وروي هذا عن
قتادة، وقيل: إنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند
نزوله لأن هذه آية ملجئة قال تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ
إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر: 85] فيجب إهلاكهم
لئلا يبقى وجودهم عاريا عن الحكمة إذ ما خلقوا إلا للابتلاء
بالتكليف وهو لا يبقى مع الإلجاء، وفيه أنه مخالف لقواعد أهل
السنة ولا يتسنى إلا على قواعد المعتزلة وهي أوهن من بيت
العنكبوت ومع هذا هو غير صاف عن الاشكال كما لا يخفى على
المتتبع، وذكر بعض الفضلاء أن هذا الوجه ينافي ما قبله لدلالة
ما قبل على بقاء الاختيار وأنهم لا يؤمنون إذا عاينوا الملك قد
نزل ودلالة هذا على سلب الاختيار وزواله وأن الإيمان إيمان
يأس.
وقال ابن المنير: لا يحسن أن يجعل سبب مناجزتهم بالهلك وضوح
الآية في نزول الملك فإنه ربما يفهم من ذلك أن الآيات التي
لزمهم الإيمان بها دون نزول الملك في الوضوح وليس الأمر كذلك،
فالوجه والله تعالى أعلم أن يكون سبب تعجيل عقوبتهم بتقدير
نزول الملك وعدم إيمانهم أنهم اقترحوا ما لا يتوقف وجوب
الإيمان عليه إذ الذي يتوقف الوجوب عليه المعجز من حيث كونه
معجزا لا المعجز الخاص فإذا أجيبوا على وفق مقترحهم فلم ينجع
فيهم كانوا حينئذ على غاية من الرسوخ في العناد المناسب لعدم
النظرة، ولعل الوجه الذي عولنا عليه هو الأولى، وقد أخرجه ابن
جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما، والاعتراض عليه بأن لا يُنْظَرُونَ يدل على إهلاكهم لا
على هلاكهم برؤية الملك يندفع بما أشرنا إليه كما لا يخفى،
وليس بتكلف يترك له كلام ترجمان القرآن، وقد أشير إلى الثاني
بقوله سبحانه:
وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا على أن الضمير
الأول للنذير المحدث للناس عنه عليه الصلاة والسلام المفهوم من
فحوى الكلام بمعونة المقام والضمير الثاني للملك لا لما رجع
إليه الأول أي ولو جعلنا النذير الذي اقترحتم إنزاله ملكا
لمثلنا ذلك الملك رجلا لعدم استطاعتكم معاينة الملك على هيكله
الأصلي، وفي إيثار رَجُلًا على بشرا إيذان على ما قيل بأن
الجعل بطريق التمثيل لا بطريق قلب الحقيقة وتعيين لما يقع به
التمثيل، وفيه إشعار كما قال عصام الدين وغيره بأن الرسول لا
يكون امرأة وهو متفق عليه وإنما الاختلاف في نبوتها.
والعدول عن ولو أنزلناه ملكا إلى ما في النظم الجليل يعلم سره
مما تقدم في بيان المراد، وقيل: العدول لرعاية المشاكلة لما
بعد ووجه شيخ الإسلام عدم جعل الضمير الأول للملك المذكور قبل
بأن يعكس ترتيب المفعولين ويقال: ولو جعلناه نذيرا لجعلناه
رجلا مع فهم المراد منه أيضا بأنه لتحقيق أن مناط إبراز الجعل
الأول في معرض الفرض والتقدير ومدار استلزامه للثاني إنما هو
ملكية النذير لا نذيرية الملك، وذلك لأن الجعل حقه أن يكون
مفعوله الأول مبتدأ والثاني خبرا لكونه بمعنى التصيير المنقول
من صار الداخل على المبتدأ والخبر، ولا ريب في أن مصب الفائدة
ومدار اللزوم بين طرفي الشرطية هو محمول المقدم لا موضوعه فحيث
كانت «لو» امتناعية أريد بيان انتفاء الجعل الأول لاستلزامه
المحذور الذي هو الجعل الثاني وجب أن يجعل مدار الاستلزام في
الأول مفعولا ثانيا لا محالة ولذلك جعل مقابله في الجعل الثاني
كذلك إبرازا لكمال التنافي بينهما الموجب لانتفاء الملزوم ولا
يخلو عن حسن.
وجوز غير واحد كون قوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ إلخ جواب
اقتراح ثان، وذلك أن للكفرة اقتراحين، أحدهما أن ينزل على
الرسول صلّى الله عليه وسلّم ملك في صورته الأصلية بحيث يعاينه
القوم والآخر أن ينزل إلى القوم ويرسل إليهم مكان الرسول البشر
ملك فإنهم كما كانوا يقولون: لولا أنزل على محمد صلّى الله
عليه وسلّم ملك فيكون معه نذيرا كانوا يقولون: ما هذا إِلَّا
بَشَرٌ
(4/93)
مِثْلُكُمْ
[المؤمنون: 24] وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً
[المؤمنون: 24] فأجيبوا عن قولهم الأول بقوله سبحانه وتعالى:
وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً إلخ وعن قولهم الأخير بما ذكر فضمير
جَعَلْناهُ للرسول المنزل إلى القوم، ولا يخفى أن جعله جوابا
عن اقتراح آخر غير ظاهر من النظم الكريم ولا داعي إليه أصلا.
وبعضهم جعله جوابا آخر وجعل الضمير للمطلوب واعترض بأن المطلوب
أيضا ملك ولا معنى لقولنا لو جعلنا الملك ملكا إلا أن يقال:
المراد لو جعلنا المطلوب ملكيته ملكا، وتعقب بأن المطلوب هو
النازل المقارن للرسول صلّى الله عليه وسلّم وحينئذ لا غبار في
الكلام خلا أن لزوم جعل الملك النازل رجلا لجعله ملكا كما هو
مفهوم الآية الثانية ينافي لزوم هلاكهم له كما هو مفهوم الآية
الأولى لتوقف الثاني على عدم الأول لأن مبناه على نزوله في
صورته لا في صورة رجل. فحينئذ يجب أن تكون الآية جوابا عن
اقتراح آخر لا جوابا آخر عن الاقتراح الأول حتى لا يلزم
المنافاة.
وأجيب بأنه على تقدير كونه جوابا آخر يكون جوابا على طريق
التنزل، والمعنى ولو أنزلناه كما اقترحوا لهلكوا ولو فرضنا عدم
هلاكهم فلا بد من تمثله بشرا لأنهم لا يطيقون رؤيته على صورته
الحقيقية فيكون الإرسال لغوا لا فائدة فيه، وأنت تعلم أن ما
عولنا عليه وهو المروي عن حبر الأمة سالم عن مثل هذه
الاعتراضات. نعم ذكر بعض الفضلاء إشكالا وهو أن المقرر عند أهل
الميزان أن صدق العكس لازم لصدق الأصل فعلى هذا يلزم من كذب
اللازم كذب الملزوم فهاهنا عكس القضية الصادقة وهي لَوْ
جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا غير صادق إذ هو لو
جعلناه رجلا لجعلناه ملكا ولا خفاء في عدم تحققه فإن الله
تعالى قد جعله رجلا ولم يجعله ملكا «والجواب» بأن ما ذكره أهل
الميزان اصطلاح طار فلا يجب موافقة قاعدتهم لقاعدة أهل اللسان
غير مرضي فإنه قد تقرر أن تلك القاعدة غير مخالفة لقاعدة اللغة
وأنها مما لا خلاف فيه.
وأجيب عن ذلك بعد تمهيد مقدمة وهي أن للو الشرطية استعمالين
لغويا وهي فيه لانتفاء الثاني لانتفاء الأول كما في لو جئتني
أكرمتك ومفهوم القضية عليه الاخبار بأن شيئا لم يتحقق بسبب عدم
تحقق شيء آخر، وعرفيا تعارفه الميزانيون فيما بينهم وذلك أنهم
جعلوها من أدوات الاتصال لزوميا واتفاقيا وصدق القضية التي هي
فيها بمطابقة الحكم باللزوم للواقع وكذبها بعدمها ويحكمون
بكذبها وإن تحقق طرفاها إذا لم يكن بينهما لزوم وقد استعملها
اللغويون أيضا في هذا المعنى إما بالاشتراك أو بالمجاز كما
يقال: لو كان زيد في البلد لرآه أحد.
وفي بعض الآثار لو كان الخضر حيا لزارني،
ومن البين أن المقصود الاستدلال بالعدم على العدم لا الدلالة
على أن انتفاء الثاني سبب انتفاء الأول، وجعلوا من هذا
الاستعمال لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ
لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] .
وقد اشتبه هذان الاستعمالان على ابن الحاجب حتى قال ما قال بأن
قول المستشكل: إن عكس القضية الصادقة إلخ إن أراد به أن القضية
الصادقة هي المأخوذة باعتبار الاستعمال الأول فلا نسلم أن عكسه
ما ذكر فإن عكس لو جئتني أكرمتك ليس لو أكرمتك لجئتني وإنما
يكون كذلك لو كان الحكم في هذا الاستعمال بين الشرط والجزاء
بالاتصال وليس كذلك بل القضية هي الجملة الجزائية والشرط قيد
لها كما صرح به السكاكي على أن بعض أئمة التفسير قالوا: المراد
من الآية ولو جعلناه ملكا لجعلناه على صورة رجل وأن المقصود
بيان انتقاض غرضهم من قولهم:
لولا أنزل عليه ملك يعني أن نزول الملك لا يجديهم لأنهم وهم هم
لا يقدرون على مشاهدة الملك على صورته التي هو عليها إلا أن
يجعله متمثلا على صورة البشر في مرتبة من مراتب التنزل حتى
تحصل لهم معه مناسبة فيروه فتكون الآية على هذا بمراحل عن أن
يبحث فيها عن أن عكسها. ماذا أو كيف حالها في الصدق والكذب
فإنها لم تسق لبيان لزوم الجعل الثاني للجعل الأول حتى يستدل
بالعدم على العدم أو بالوجود على الوجود فنسبة هذا البحث إلى
الآية
(4/94)
كنسبة السمك إلى السماك وإن أراد به أن
القضية الصادقة هي المأخوذة باعتبار الاستعمال العرفي المنطقي
فمسلم أنه لا بد من صدق عكسها على تقدير صدق أصلها لكن لا نسلم
كذب العكس هنا على ذلك التقدير فإنه إذا فرض لزوم الجعل رجلا
للجعل الأول كليا على جميع التقادير يصدق لزوم الجعل ملكا
للجعل رجلا على بعض الأوضاع والتقادير وهو اللازم المقرر في
قواعدهم على أن قوله إن الله تعالى قد جعله رجلا ولم يجعله
ملكا لا يليق أن يصدر مثله من مثله لأنه استدلال بعدم اللازم
مع وجود الملزوم على بطلان اللزوم وهو كما لو قال: إذا قلنا إن
زيد صاهلا كان حيوانا لا يصدق عكسه، وهو قد يكون إذا كان زيد
حيوانا كان صاهلا لأنه ليس بصاهل في الواقع، ومنشأ هذا هو ظن
أن عدم تحقق أحد الطرفين، أو كليهما ينافي اللزوم.
وأنت خبير بأن صدق اللزوم لا يتوقف على تحقق الطرفين ولا تحقق
المقدم اه. وبحث فيه المولى العلائي أما أولا فبأن كون القضية
هي الجملة الجزائية والشرط قيد لها كلام ذكره بعض أهل العربية
ورده السيد السند وحقق اتفاق الفريقين على كون الجملة هي
المجموع وحينئذ كيف يصح بناء الجواب على ذلك.
وأما ثانيا فبأن المستشكل لم يستدل بعدم اللازم مع وجود
الملزوم على بطلان اللزوم كما لا يخفى على الناظر في عبارته،
فالصواب أن يقال: أكثر استعمال لو عند أهل العربية لمعنيين.
الأول ما ذكره المجيب من انتفاء الثاني لانتفاء الأول. والثاني
الدلالة على أن الجزاء لازم الوجود في جميع الأزمنة في قصد
المتكلم. وذلك إذا كان الشرط يستبعد استلزامه لذلك الجزاء
ويكون نقيض ذلك الشرط أنسب وأليق باستلزام ذلك الجزاء فيلزم
استمرار وجود الجزاء على تقدير وجود الشرط وعدمه كما في نعم
العبد صهيب لو لم يخف الله تعالى لم يعصه. وقد صرح المحققون أن
الآية إما من قبيل الأول أي لو جعلناه قرينا لك ملكا يعاينونه
أو الرسول المرسل إليهم ملكا لجعلنا ذلك الملك في صورة رجل وما
جعلنا ذلك الملك في صورة رجل لأنا لم نجعل القرين أو الرسول
المرسل إليهم ملكا. وإما من قبيل الثاني أي ولو جعلنا الرسول
ملكا لكان في صورة رجل فكيف إذا كان إنسانا وكل منهما لا يقبل
العكس المذكور ولا ثالث فلا إشكال فتدبر. فالبحث بعد محتاج إلى
بسط كلام ولو بسطناه لأمل الناظرين.
وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ جعله بعضهم جواب محذوف
أي ولو جعلناه رجلا للبسنا إلخ، وكأن الداعي إليه إعادة لام
الجواب فإنه يقتضي استقلاله وأنه لا ملازمة بين إرسال الملك،
واللبس عليهم فإنه ليس سببا له بل لعكسه، ويجوز أن يكون عطفا
على جواب لو المذكور ولا ضير في عطف لازم الجواب عليه، ونكتة
إعادة اللام أن لازم الشيء بمنزلته فكأنه جلباب، واللبس في
الأصل الستر بالثوب ويطلق على منع النفس من إدراك الشيء بما هو
كالستر له يقال: لبست الأمر على القوم ألبسه إذا شبهت عليهم
وجعلته مشكلا. قال ابن السكيت: يقال لبست عليه الأمر إذا خلطته
عليه حتى لا يعرف جهته أي لخلطنا عليهم بتمثيله رجلا ما يخلطون
على أنفسهم حينئذ بأن يقولوا له: إنما أنت بشر ولست بملك، ولو
استدل على ملكيته بالمعجز كالقرآن ونحوه كذبوه كما كذبوا محمد
صلّى الله عليه وسلّم، وإسناد اللبس إليه تعالى لأنه بخلقه
سبحانه وتعالى أو للزومه لجعله رجلا.
ويحتمل أن يكون المعنى للبسنا عليهم حينئذ ما يلبسون على
أنفسهم الساعة في تكذيبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ونسبة
آياته البينات إلى السحر، وما على ما اختاره في الكشف على
الأول موصولة. وعلى الثاني يجوز أن تكون مصدرية وهو الأظهر
لاستمرار حذف المثل في نحو ضربت ضرب الأمير، وأن تكون موصولة
أي مثل الذي يلبسونه.
ومتعلق يَلْبِسُونَ على الوجهين على أنفسهم. ويفهم من كلام
الزجاج أنه على ضعفائهم حيث قال: كانوا يلبسون على ضعفائهم في
أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم فيقولون: إنما هذا بشر مثلكم
فأخبر سبحانه وتعالى أنه لو جعلنا المرسل إليهم ملكا
(4/95)
لأريناهم إياه في صورة الرجل وحينئذ يلحقهم
فيه من اللبس مثل ما لحق ضعفاءهم منه.
وقرأ ابن محيصن «ولبسنا» بلام واحدة. والزهري «وللبسنا عليهم
ما يلبسون» بالتشديد، هذا وقد ذكر الإمام الرازي في بيان وجه
الحكمة في جعل الملك على تقدير إنزاله في صورة البشر أمورا.
الأول أن الجنس إلى الجنس أميل. الثاني أن البشر لا يطيق رؤية
الملك. الثالث أن طاعات الملك قوية فيستحقرون طاعات البشر
وربما لا يعذرونهم في الإقدام على المعاصي. الرابع أن النبوة
فضل من الله تعالى فيختص بها من يشاء من عباده سواء كان ملكا
أو بشرا.
ولا يخفى أنه يرد على الوجه الثالث أنه إنما يتم إذا تبدلت
حقيقة الملك المقدر نزوله بحقيقة البشر وهو مع كونه من انقلاب
الحقائق خلاف ما يفهم من كتب أئمة التفسير من أن التبدل صوري
لا حقيقي، وأن الوجه الرابع لا يظهر وجه كونه حكمة لتصوير
الملك بصورة البشر.
وقول العلائي: لعل وجهه أن المصور الذي قدر كونه نبيا لما
اشتمل على جهتين البشرية صورة والملكية حقيقة لم يبعد أن يكون
دليلا على أن النبوة فضل من الله تعالى يختص بها من يشاء من
عباده سواء كان ملكا كهذا المصور باعتبار حقيقته أو بشرا مثله
باعتبار صورته مما لا يتبلج له وجه القبول.
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ تسلية لرسول الله
صلّى الله عليه وسلّم عما يلقاه من قومه كالوليد بن المغيرة
وأمية بن خلف، وأبي جهل، وأضرابهم أي أنك لست أول رسول استهزأ
به قومه فكم وكم من رسول جليل الشأن فعل معه ذلك فالتنوين
للتفخيم والتكثير ومن ابتداء متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسل
والكلام على حذف مضاف، وفي تصدير الجملة بالقسم وحرف التحقيق
من الاعتناء ما لا يخفى. وكون التسلية بهذا المقدار مما خفي
على بعض الفضلاء وهو ظاهر، ولك أن تقول: إن التسلية به وبما
بعده من قوله تعالى: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ لأنه متضمن أن من استهزأ بالرسل
عوقب فكأنه سبحانه وتعالى وعده صلّى الله عليه وسلّم بعقوبة من
استهزأ به عليه السلام إن أصر على ذلك.
وحاق بمعنى أحاط كما روي عن الضحاك واختاره الزجاج، وفسره
الفراء بعاد عليه وبال أمره، وقيل: حل واختاره الطبرسي، وقيل:
نزل وهو قريب من سابقه ومعناه يدور على الإحاطة والشمول ولا
يكاد يستعمل إلا في السر كما قال:
فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم ... وحاق بهم من بأس ضربة حائق
وقال الراغب: أصله حق فأبدل من أحد حرفي التضعيف حرف علة.
كتظننت، وتظنيت أو هو مثل ذمة وذامة، والمعروف في اللغة ما
اختاره الزجاج.
وقال الأزهري: جعل أبو إسحاق حاق بمعنى أحاط وكأنه جعل مادته
من الحوق بالضم وهو ما أحاط بالكمرة من حروفها. وقد يفتح كما
في القاموس وجعل أحد معاني الحوق بالفتح الإحاطة، وفيه أيضا
حاق به يحيق حيقا وحيوقا وحيقانا بفتح الياء أحاط به كأحاق
وفيه السيف حاك وبهم الأمر لزمهم ووجب عليهم ونزل، وأحاق الله
تعالى بهم مكرهم. والحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله.
وظاهره إن حاق يائي وعليه غالب أهل اللغة وهو مخالف لظاهر كلام
الأزهري من أنه واوي. ومِنْهُمْ متعلق بسخروا والضمير المرسل.
ويقال: سخر منه وبه كهزأ منه وبه فهما متحدان معنى واستعمالا.
وقيل: السخرية والاستهزاء بمعنى لكن الأول قد يتعدى بمن
والباء. وفي الدر المصون لا يقال إلا استهزأ به ولا يتعدى بمن.
وجوز أبو البقاء أن يكون الضمير للمستهزئين والجار والمجرور
حينئذ متعلق بمحذوف وقع حالا من ضمير الفاعل في «سخروا» ورد
بأن المعنى حينئذ فحاق بالذين سخروا كائنين من المستهزئين
(4/96)
ولا فائدة لهذه الحال لانفهامها من سخروا
وأجيب بأن هذا مبني على أن الاستهزاء والسخرية بمعنى وليس
بلازم فلعل من جعل الضمير للمستهزئين يجعل الاستهزاء بمعنى طلب
الهزء فيصح بيانه ولا يكون في النظم تكرار. فعن الراغب
الاستهزاء ارتياد الهزء وإن كان قد يعبر به عن تعاطي الهزء
كالاستجابة في كونها ارتيادا للإجابة وإن كان قد يجري مجرى
الإجابة.
وجوز رجوع الضمير إلى أمم الرسل ونسب إلى الحوفي ورده أبو حيان
بأنه يلزم إرجاع الضمير إلى غير مذكور.
وأجيب عنه بأنه في قوة المذكور. وبِالَّذِينَ متعلق بحاق
وتقديمه على فاعله وهو ما للمسارعة إلى بيان لحوق الشر بهم.
وهي إما مصدرية وضمير به للرسول الذي في ضمن الرسل. وإما
موصولة والضمير لها والكلام على حذف مضاف أي فأحاط بهم وبال
استهزائهم أو وبال الذي كانوا يستهزئون به. وقد يقال: لا حاجة
إلى تقدير مضاف، وفي الكلام إطلاق السبب على المسبب لأن المحيط
بهم هو العذاب ونحوه لا الاستهزاء ولا المستهزأ به لكن وضع ذلك
موضعه مبالغة.
وقيل: إن المراد من الذي كانوا يستهزئون هو العذاب الذي كان
الرسل يخوفونهم إياه فلا حاجة إلى ارتكاب التجوز السابق أو
الحذف. وقد اختار ذلك الإمام الواحدي. والاعتراض عليه بأنه لا
قرينة على أن المراد بالمستهزأ به هو العذاب بل السياق دليل
على أن المستهزأ بهم الرسل عليهم الصلاة والسلام يدفعه أن
الاستهزاء بالرسل عليهم الصلاة والسلام مستلزم لاستهزائهم بما
جاؤوا به وتوعدوا قومهم بنزوله وإن مثله لظهوره لا يحتاج إلى
قرينة.
ومن الناس من زعم أن حاقَ بِهِمْ كناية عن إهلاكهم وإسناده إلى
ما أسند إليه مجاز عقلي من قبيل أقدمني بلدك حق لي على فلان إذ
من المعلوم من مذهب أهل الحق أن المهلك ليس إلا الله تعالى
فإسناده إلى غيره لا يكون إلا مجازا. وأنت تعلم أن الحيق
الإحاطة ونسبتها إلى العذاب لا شبهة في أنها حقيقة ولا داعي
إلى تفسيره بالإهلاك وارتكاب المجاز العقلي، ولعل مراد من فسر
بذلك بيان مؤدى الكلام ومجموع معناه. نعم إذا قلنا: إن الإحاطة
إنما تكون للأجسام دون المعاني فلا بد من ارتكاب تجوز في
الكلام على تقدير إسنادها إلى العذاب لكن لا على الوجه الذي
ذكره هذا الزاعم كما لا يخفى. وفي جمع كانُوا ويَسْتَهْزِؤُنَ
ما مر غير مرة في أمثاله.
وبِهِ متعلق بما بعده. وتقديمه لرعاية الفواصل.
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ
عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ خطاب لسيد المخاطبين صلّى الله عليه
وسلّم بإنذار قومه وتذكيرهم بأحوال الأمم الخالية وما حاق بهم
لسوء أفعالهم تحذيرا لهم عما هم عليه مما يحاكي تلك الأفعال.
وفي ذلك أيضا تكملة لتسليته عليه الصلاة والسلام بما في ضمنه
من العدة اللطيفة بأنه سيحيق بهم مثل ما حاق بأضرابهم الأولين،
وقد أنجز سبحانه وتعالى ذلك إنجازا أظهر من الشمس يوم بدر،
والمراد من النظر التفكر، وقيل: النظر بالإبصار، وجمع بينهما
الطبرسي بناء على القول بجواز مثل ذلك. وكَيْفَ خبر مقدم لكان
أو حال وهي تامة.
والعاقبة مآل الشيء وهي مصدر كالعافية، والتعبير بالمكذبين دون
المستهزئين قيل: للإشارة إلى أن مآل من كذب إذا كان كذلك فكيف
الحال في مآل من جمع بينه وبين الاستهزاء. وأورد عليه أن تعريف
المكذبين للعهد وهم الذين سخروا فيكونون جامعين بين الأمرين مع
أن الاستهزاء بما جاؤوا به يستلزم تكذيبه. ولا يخفى أن مقصود
القائل إن أولئك وإن جمعوا الأمرين لكن في الإشارة إليهم بهذا
العنوان هنا ما لا يخفى من الإشارة إلى فظاعة ما نالهم، وقيل:
إن وضع المكذبين موضع المستهزئين لتحقيق أنه مدار ما أصابهم هو
التكذيب لينزجر السامعون عنه لا عن الاستهزاء فقط مع بقاء
التكذيب بحاله بناء على توهم أنه المدار في ذلك، وعطف الأمر
بالنظر على الأمر بالسير بثم قيل للإيذان
(4/97)
بتفاوت ما بينهما وإن كان كل من الأمرين
واجبا لأن الأول إنما يطلب للثاني كما في قولك: توضأ ثم صل،
وقيل:
للإيذان بالتفاوت لأن الأول لإباحة السير في الأرض للتجارة
وغيرها من المنافع. والثاني لإيجاب النظر في آثار الهالكين،
ولا ريب في تباعد ما بين الواجب والمباح. وأورد عليه- كما قال
الشهاب- أنه يأباه سلامة الذوق لأن فيه إقحام أمر أجنبي وهو
بيان إباحة السير للتجارة بين الأخبار عن حال المستهزئين وما
يناسبه وما يتصل به من الأمر بالاعتبار بآثارهم وهو مما يخل
بالبلاغة إخلالا ظاهرا.
وتعقب بأن هذا وإن تراءى في بادىء النظر لكنه غير وارد إذ ذاك
غير أجنبي لأن المراد خذلانهم وتخليتهم وشأنهم من الإعراض عن
الحق بالتشاغل بأمر دنياهم كقوله تعالى: وَلِيَتَمَتَّعُوا
[العنكبوت: 66] . وهذا حاصل ما قيل: إن الكلام مجاز عن الخذلان
والتخلية وإن ذلك الأمر متسخط إلى الغاية كما تقول لمن عزم على
أمر مؤد إلى ضرر عظيم فبالغت في نصحه ولم ينجع فيه أنت وشأنك
وافعل ما شئت فإنك لا تريد بذلك حقيقة الأمر كيف والآمر بالشيء
مريد له وأنت شديد الكراهة متحسر ولكنك كأنك قلت له: إذ قد
أبيت النصح فأنت أهل لأن يقال لك: افعل ما شئت. ولا يخفى أن
انفهام ذلك من الآية في غاية البعد. وفرق الزمخشري بين هذه
الآية وقوله تعالى في سورة النمل: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ
ثُمَّ انْظُرُوا بحمل الأمر بالسير هنا على الإباحة المذكورة
آنفا، وحمل الأمر به هناك على السير لأجل النظر. ولهذا كان
العطف بالفاء في تلك الآية. ونظر فيه بعضهم بغير ما أشرنا إليه
أيضا.
وذكر أن التحقيق أنه سبحانه قال هنا: ثُمَّ انْظُرُوا وفي غير
ما موضع فَانْظُروا [آل عمران: 137، النحل: 36، النمل: 69،
العنكبوت: 20، الروم: 42] لأن المقام هنا يقتضي ثم دونه في
هاتيك المواضع. وذلك لتقدم قوله تعالى فيما نحن فيه أَلَمْ
يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ [الأنعام: 6] مع قوله سبحانه
وتعالى: وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ
[الأنعام: 6] والأول يدل على أن الهالكين طوائف كثيرة. والثاني
يدل على أن المنشأ بعدهم أيضا كثيرون فيكون أمرهم بالسير دعاء
لهم إلى العلم بذلك فيكون المراد به استقراء البلاد ومنازل أهل
الفساد على كثرتها ليروا الآثار في ديار بعد ديار وهذا مما
يحتاج إلى زمان ومدة طويلة تمنع من التعقيب الذي تقتضيه الفاء
ولا كذلك في المواضع الأخر اه، ولا يخلو عن دغدغة.
واختار غير واحد أن السير متحد هناك وهنا ولكنه أمر ممتد يعطف
النظر عليه بالفاء تارة نظرا إلى آخره، وتارة أخرى نظرا إلى
أوله وكذا شأن كل ممتد قُلْ على سبيل التقريع لهم والتوبيخ
لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من العقلاء وغيرهم أي
لمن الكائنات جميعا خلقا وملكا وتصرفا.
وقوله سبحانه وتعالى: قُلْ لِلَّهِ تقرير للجواب نيابة عنهم أو
إلجاء لهم إلى الإقرار بأن الكل له سبحانه وتعالى وفيه إشارة
إلى أن الجواب قد بلغ من الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره
منكر، ولا على دفعه دافع فإن أمر السائل بالجواب إنما يحسن-
كما قال الإمام- في موضع يكون فيه الجواب كذلك، قيل: وفيه
إشارة إلى أنهم تثاقلوا في الجواب مع تعينه لكونهم محجوجين،
وذكر عصام الملة أن قوله سبحانه وتعالى: قُلْ لِمَنْ إلخ معناه
الأمر بطلب هذا المطلب والتوجه إلى تحصيله. وقوله عز وجل: قُلْ
لِلَّهِ معناه أنك إذا طلبت وأدى نظرك إلى الحق فاعترف به ولا
تنكره. وهذا إرشاد إلى طريق التوحيد في الأفعال بعد الإرشاد
إلى التوحيد في الألوهية وهو الاحتراز عن حال المكذبين.
وفي هذا إشارة إلى وجه الربط وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا
ما يعلم منه الوجه الوجيه لذلك، والجار
(4/98)
والمجرور خبر مبتدأ محذوف أي لله تعالى ذلك
أو ذلك لله تعالى شأنه كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ جملة
مستقلة داخلة تحت الأمر صادحة بشمول رحمته عز وجل لجميع الخلق
إثر بيان شمول ملكه وقدرته سبحانه وتعالى للكل المصحح لإنزال
العقوبة بالمكذبين مسوقة لبيان أنه تعالى رؤوف بالعباد لا يعجل
عليهم بالعقوبة ويقبل منهم التوبة وما سبق وما لحق من أحكام
الغضب ليس إلا من سوء اختيار العباد لسوء استعدادهم الأزلي لا
من مقتضيات ذاته جل وعلا وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم
يظلمون، ومعنى كتب الرحمة على نفسه جل شأنه إيجابها بطريق
التفضل والإحسان على ذاته المقدسة بالذات لا بتوسط شيء. وقيل:
هو ما
أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قضى الله تعالى الخلق
كتب كتابا فوضعه عنده فوق العرش أن رحمتي سبقت غضبي» ،
وفي رواية الترمذي عنه مرفوعا «لما خلق الله تعالى الخلق كتب
كتابا عنده بيده على نفسه أن رحمتي تغلب غضبي» ،
وفي رواية ابن مردويه عنه «أن الله تعالى كتب كتابا بيده لنفسه
قبل أن يخلق السماوات والأرض فوضعه تحت عرشه فيه رحمتي سبقت
غضبي»
إلى غير ذلك من الأخبار، ومعنى سبق الرحمة وغلبتها فيها أنها
أقدم تعلقا بالخلق وأكثر وصولا إليهم مع أنها من مقتضيات الذات
المفيضة للخير.
وفي شرح مسلم للإمام النووي قال العلماء: غضب الله تعالى ورضاه
يرجعان إلى معنى الإرادة فإرادته الثواب للمطيع والمنفعة للعبد
تسمى رضا ورحمة وإرادته عقاب العاصي وخذلانه تسمى غضبا.
وإرادته سبحانه وتعالى صفة له قديمة يريد بها، قالوا: والمراد
بالسبق والغلبة هنا كثرة الرحمة وشمولها كما يقال غلب على فلان
الكرم والشجاعة إذا كثرا منه انتهى، وهو يرجع إلى ما قلنا.
وحاصل الكلام في ذلك أن السبق والغلبة في التعلقات في نفس
الصفة الذاتية إذ لا يتصور تقدم صفة على صفة فيه تعالى
لاستلزامه حدوث المسبوق، وكذا لا يتصور. الكثرة والقلة بين
صفتين لاستلزام ذلك الحدوث وقد يراد بالرحمة ما يرحم به وهي
بهذا المعنى تتصف بالتعدد والهبوط ونحو ذلك أيضا، وعليه يخرج
ما
أخرجه مسلم وابن مردويه عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه
قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن لله تعالى خلق
يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين
السماوات والأرض فجعل منها في الأرض رحمة فبها تعطف الوالدة
على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض فإذا كان يوم القيامة
أكملها بهذه الرحمة» .
وأخرج عبد بن حميد وغيره عن عبد الله بن عمرو وقال: «إن لله
تعالى مائة رحمة أهبط منها رحمة واحدة إلى أهل الدنيا يتراحم
بها الجن والإنس وطائر السماء وحيتان الماء ودواب الأرض
وهوامها وما بين الهواء واختزن عنده تسعا وتسعين رحمة حتى إذا
كان يوم القيامة اختلج الرحمة التي كان أهبطها إلى أهل الدنيا
فحواها إلى ما عنده فجعلها في قلوب أهل الجنة وعلى أهل الجنة»
،
والمراد بالرحمة في الآية ما يعم الدارين مع عموم متعلقها، فما
روي عن الكلبي من أن المعنى أوجب لنفسه الرحمة لأمة محمد صلّى
الله عليه وسلّم بأن لا يعذبهم عند التكذيب كما عذب من قبلهم
من الأمم الخالية والقرون الماضية عند ذلك بل يؤخرهم إلى يوم
القيامة لم يدع إليه إلا إظهار ما يناسب المقام من أفراد ذلك
العام. وفي التعبير عن الذات بالنفس رد على من زعم أن لفظ
النفس لا يطلق على الله تعالى وإن أريد به الذات إلا مشاكلة.
واعتبار المشاكلة التقديرية غير ظاهر كما هو ظاهر، وقوله
سبحانه: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ جواب قسم
محذوف وقع- على ما قال أبو البقاء- كتب موقعه. والجملة استئناف
نحوي مسوق للوعيد على إشراكهم وإغفالهم النظر، وقيل: بياني
كأنه قيل: وما تلك الرحمة فقيل: إنه تعالى لَيَجْمَعَنَّكُمْ
إلخ وذلك لأنه لولا خوف القيامة والعذاب لحصل الهرج والمرج
وارتفع الضبط وكثر الخبط. وأورد عليه أنه إنما يظهر ما ذكر لو
كانوا معترفين بالبعث وليس فليس.
(4/99)
وقال بعض المحققين أيضا: إنه تكلف ولا
يتوجه فيه الجواب إلا باعتبار ما يلزم التخويف من الامتناع عن
المناهي المستلزم للرحمة، وقيل: صلاحية ما في الآية للجواب
باعتبار أن المراد ليجمعنكم إلى يوم القيامة ولا يعاجلكم
بالعقوبة الآن على تكذيبكم على ما أشار إليه الكلبي، وقيل: إن
القسم وجوابه في محل نصب على أنه بدل من الرَّحْمَةَ بدل
البعض، وقد ذكر النحاة أن الجملة تبدل من المفرد. نعم لم
يتعرضوا لأنواع البدل في ذلك.
والجار والمجرور قيل متعلق بمحذوف أي ليجمعنكم في القبور
مبعوثين إلى يوم إلخ على أن البعث بمعنى الإرسال وهو مما يتعدى
بإلى ولا يحتاج إلى ارتكاب التضمين، واعترض بأن البعث يكون إلى
المكان لا إلى الزمان إلا أن يراد بيوم القيامة واقعتها في
موقعها وقيل: هو متعلق بالفعل المذكور، والمراد جمع فيه معنى
السوق والاضطرار كأنه قيل ليبعثنكم ويسوقنكم ويضطرنكم إلى يوم
القيامة أي إلى حسابه، وقيل: إنه متعلق بالفعل وإلى بمعنى في
كما في قوله:
لا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطلي به القار أجرب
ومنع بعضهم مجيء إلى بمعنى في في كلامهم ولو صح ذلك لجاز زيد
إلى الكوفة بمعنى في الكوفة وتأول البيت بتضمين مضافا أو مبغضا
أو مكرها، وأجيب بأن ذلك إنما يرد إذا قيل: إن استعمال إلى
بمعنى في قياس مطرد ولعل القائل بالاستعمال لا يقول بما ذكر،
وارتكاب التضمين خلاف الأصل، وارتكاب القول بأن إلى بمعنى في
وإن لم يكن مطردا أهون منه، وقيل: إنها بمعنى اللام، وقيل:
زائدة والخطاب للكافرين كما هو الظاهر من السياق، وقيل: عام
لهم وللمؤمنين بعد أن كان خاصا بالكافرين أي ليجمعنكم أيها
الناس إلى يوم القيامة لا رَيْبَ فِيهِ أي لا ينبغي لأحد أن
يرتاب فيه لوضوح أدلته وسطوع براهينه التي تقدم بعض منها.
والجملة حال من اليوم والضمير المجرور له، ويحتمل أن تكون صفة
لمصدر محذوف والضمير له أي جمعا لا ريب فيه، وجوز أن تكون
تأكيدا لما قبلها كما قالوا في قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا
رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2] .
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتضييع رأس مالهم وهو الفطرة
الأصلية والعقل السليم والاستعداد القريب الحاصل من مشاهدة
الرسول صلّى الله عليه وسلّم واستماع الوحي وغير ذلك من آثار
الرحمة، وموضع الموصول قيل: نصب على الذم أو رفع على أنه خبر
لمبتدأ محذوف أي أنتم الذين وهو نعت مقطوع ولا يلزم أن يكون كل
نعت مقطوع يصح اتباعه نعتا بل يكفي فيه معنى الوصف ألا ترى إلى
قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ
مالًا [الهمزة: 1، 2] كيف قطع فيه الَّذِي مع عدم صحة اتباعه
نعتا للنكرة فلا يرد أن القطع إنما يكون في النعت والضمير لا
ينعت، وقيل:
هو بدل من الضمير بدل بعض من كل بتقدير ضمير أو هو خبر مبتدأ
على القطع على البدلية أيضا ولا اختصاص للقطع بالنعت، ولعلهم
إنما لم يجعلوه منصوبا بفعل مقدر أو خبرا لمبتدأ محذوف من غير
حاجة لما ذكر لدعواهم أن مجرد التقدير لا يفيد الذم أو المدح
إلا مع القطع. واختار الأخفش البدلية، وتعقب ذلك أبو البقاء
بأنه بعيد لأن ضمير المتكلم والمخاطب لا يبدل منهما لوضوحهما
غاية الوضوح وغيرهما دونهما في ذلك، وقيل: هو مبتدأ خبره
فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ والفاء للدلالة على أن عدم إيمانهم
وإصرارهم على الكفر مسبب عن خسرانهم فإن إبطال العقل باتباع
الحواس والوهم والانهماك في التقليد أدى بهم إلى الإصرار على
الكفر والامتناع عن الإيمان، وفي الكشاف فإن قلت:
كيف يكون عدم إيمانهم مسببا عن خسرانهم والأمر على العكس؟ قلت:
معناه الذين خسروا أنفسهم في علم الله تعالى لاختيارهم الكفر
فهم لا يؤمنون.
وحاصل الكلام على هذا الذين حكم الله تعالى بخسرانهم لاختيارهم
الكفر فهم لا يؤمنون، والحكم بالخسران سابق على عدم الإيمان
لأنه مقارن للعلم باختيار الكفر لا لحصوله بالفعل فيصح ترتب
عدم الإيمان عليه من هذا الوجه،
(4/100)
وأنت تعلم أن هذا السؤال يندفع بحمل
الخسران على ما ذكرناه، ولعله أولى مما في الكشاف لما فيه من
الدغدغة، والجملة كما قال غير واحد تذييل مسوق من جهته تعالى
لتقبيح حالهم غير داخلة تحت الأمر.
وقيل: الظاهر على تقدير الابتداء عطف الجملة على لا رَيْبَ
فِيهِ فيحتاج الفصل إلى تكلف تقدير سؤال كأنه قيل: فلم يرتاب
الكافرون به؟ فأجيب بأن خسرانهم أنفسهم صار سببا لعدم الإيمان،
وجوز على ذلك التقدير كون الجملة حالية وهو كما ترى.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي سماوات عالم الأرواح وأرض
عالم الجسم، ويقال: الروح سماء القلب لأن منها ينزل غيث
الإلهام والقلب أرضها لأنه فيه ينبت زهر الحكمة ونور المعرفة
وَجَعَلَ الظُّلُماتِ أي وأنشأ في عالم الجسم ظلمات المراتب
التي هي حجب ظلمانية للذات المقدس وأنشأ في عالم الأرواح نور
العلم والإدراك، ويقال: الظلمات الهواجس والخواطر الباطلة
والنور الإلهام. وقال بعضهم: الظلمات أعمال البدن والنور أحوال
القلب. ثم بعد ظهور ذلك الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
يَعْدِلُونَ غيره ويثبتون معه سبحانه وتعالى من يساويه في
الوجود وهو الله الذي لا نظير له في سائر صفاته هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وهو طين المادة الهيولانية ثُمَّ قَضى
أَجَلًا أي حدا معينا من الزمان إذا بلغه السالك إلى ربه
سبحانه وتعالى فنى فيه عز شأنه وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ وهو
البقاء بعد الفناء، وقيل: الأجل الأول هو الذي يقتضيه
الاستعداد طبعا بحسب الهوية وهو المسمى أجلا طبيعيا للشخص
بالنظر إلى مزاجه الخاص وتركيبه المخصوص بلا اعتبار عارض من
العوارض الزمانية. ونكر لأنه من أحكام القضاء السابق الذي هو
أم الكتاب وهي كلية منزهة عن التشخصات إذ محلها الروح الأول
المقدس. والأجل الثاني هو الأجل المقدر الزماني الذي يقع عند
اجتماع الشرائط وارتفاع الموانع وهو مثبت في كتاب النفس
الفلكية التي هي لوح القدر ثُمَّ أَنْتُمْ بعد ما علمتم ذلك
تَمْتَرُونَ وتشكون في تصرفه فيكم كما يشاء وَهُوَ اللَّهُ فِي
السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ أي سواء ألوهيته بالنسبة إلى
العالم العلوي والسفلي يَعْلَمُ سِرَّكُمْ في عالم الأرواح وهو
عالم الغيب وَجَهْرَكُمْ في عالم الأجسام وهو عالم الشهادة
وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ فيهما من العلوم والحركات والسكنات
وغيرها فيجازيكم بحسبها، وقيل: المعنى يعلم جولان أرواحكم في
السماء لطلب معادن الأفراح وتقلب أشباحكم في الأرض لطلب
الوسيلة إلى مشاهدته ويعلم ما تحصلونه بذلك وَما تَأْتِيهِمْ
مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ الأنفسية والآفاقية إِلَّا
كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ لسوء اختيارهم وعمى أعينهم عن
مشاهدة أنوار الله تعالى الساطعة على صفحات الوجود وَقالُوا
لضعف يقينهم لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ فنراه لتزول
شبهتنا وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي أمر
هلاكهم لعدم قدرتهم على تحمل مشاهدته وَلَوْ جَعَلْناهُ
مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا ليمكنهم مشاهدته قُلْ لِمَنْ ما
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ما في العالمين قُلْ لِلَّهِ
إيجادا وإفناء كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ.
قال سيدي الشيخ الأكبر قدس الله تعالى سره: إن رحمة الله تعالى
عامة وهي نعمة الامتنان التي تنال من غير استحقاق. وهي المرادة
في قوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ
[آل عمران: 159] وإليها الإشارة بالرحمن في البسملة. وخاصة وهي
الواجبة المرادة بقوله تعالى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ
يَتَّقُونَ [الأعراف: 156] وإليها الإشارة بالرحيم فيها. ويشير
كلامه قدس الله تعالى سره في الفتوحات إلى أن ما في الآية هو
الرحمة الخاصة، ومقتضى السياق أنها الرحمة العامة.
وذكر قدس الله تعالى سره في أثناء الكلام على الرحمة وقول الله
عز شأنه يوم القيامة
«شفعت الملائكة
(4/101)
وشفعت النبيون والمؤمنون وبقي أرحم
الراحمين إن رحمة الله تعالى سبقت غضبه» كما في الخبر
فهي امام الغضب فلا يزال غضب الله تعالى يجري في شأواه
بالانتقام من العباد حتى ينتهي إلى آخر مداه فيجد الرحمة قد
سبقته فتتناول منه العبد المغضوب عليه فتبسط عليه ويرجع الحكم
لها فيه، والمدى الذي يقطعه الغضب ما بين الرحمن الرحيم الذي
في البسملة وبين الرحمن الرحيم الذي بعد الحمد لله رب
العالمين. فالحمد لله رب العالمين هو المدى وأوله وآخره ما قد
علمت، وإنما كان ذلك عين المدى لأن فيه يظهر السراء والضراء،
ولهذا كان فيه الحمد وهو الثناء ولم يقيد بسراء ولا ضراء
فيعمهما، ويقول الشرع في حمد السراء: الحمد لله المنعم
المتفضل، ويقول في حمد الضراء:
الحمد لله على كل حال فالحمد لله قد جاء في السراء والضراء
فلهذا كان عين المدى، وما من أحد في الدار الآخرة إلا وهو يحمد
الله تعالى ويرجو رحمته ويخاف عذابه واستمراره عليه فجعل الله
تعالى عقيب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2]
الرحمن الرحيم فالعالم بينهما بما هو عليه من محمود ومذموم،
وهذا شبيه بما جاء في سورة ألم نشرح وهو تنبيه عجيب منه سبحانه
وتعالى لعباده ليتقوى عندهم الرجاء والطمع في رحمة الله تعالى.
وأنت إذا التفت أدنى التفات تعلم أنه ما من أثر من آثار البطش
إلا وهو مطرز برحمة الله تعالى بل ما من سعد ونحس إلا وقد خرج
من مطالع أفلاك الرحمة التي أفاضت شآبيبها على القوابل حسب
القابليات ومما يظهر سبق الرحمة أن كل شيء موجود مسبوق بتعلق
الإرادة بإيجاده وإخراجه من حيز العدم الذي هو معدن كل نقص ولا
ريب في أن ذلك رحمة كما أنه لا ريب في سبقه، نعم تنقسم الرحمة
من بعض الحيثيات إلى قسمين، رحمة محضة لا يشوبها شيء من النقمة
كنعيم الجنة وهي الطالعة من بروج اسمه سبحانه الرحيم ولكونه
صلّى الله عليه وسلّم يحب دخول أمته الجنة ويكره لهم النار
سماه الحق عز اسمه الرحيم في قوله سبحانه وتعالى: عَزِيزٌ
عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ
رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] ، ورحمة قد يشوبها نقمة كتأديب
الولد بالضرب رحمة به وكشرب الدواء المر البشع وهي المشرقة من
مطالع آفاق اسمه عز اسمه الرحمن، ولعل هذه الرحمة العامة هي
المرادة في قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ثم اعلم أن سبق الرحمة الغضب
يقتضي ظاهرا سبق تجليات الجمال على تجليات الجلال لأن الرحمة
من الجمال والغضب من الجلال.
وذكر مولانا الشيخ عبد الكريم الجيلي قدس سره أن الجلال أسبق
من الجمال.
فقد ورد في الحديث: «العظمة إزاري والكبرياء ردائي»
ولا أقرب من ثوب الرداء والإزار إلى الشخص. ثم قال: ولا يناقض
هذا قوله جل شأنه: «سبقت رحمتي غضبي» فإن الرحمة السابقة إنما
هي بشرط العموم والعموم من الجلال. وادعى أن الصفة الواحدة
الجمالية إذا استوفت كمالها في الظهور أو قاربت سميت جلالا
لقوة ظهور سلطان الجمال فمفهوم الرحمة من الجمال وعمومها
وانتهاؤها جلال، وأنت تعلم أنه إذا فسر السبق بالمعنى الذي
نقله النووي عن العلماء سابقا وهو الكثرة والشمول فهو مما لا
ريب في تحققه في الرحمة إذ في كل غضب رحمة وليس في كل رحمة غضب
كما لا يخفى على من حقق النظر.
وبالجملة في رحمته سبحانه مطمع أي مطمع حتى أن إبليس يرجوها
يوم القيامة على ما يدل عليه بعض الآثار.
وأحظى الناس بها إن شاء الله تعالى هذه الأمة. نسأل الله تعالى
لنا ولكم الحظ الأوفر منها لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ الصغرى أو الكبرى لا رَيْبَ فِيهِ في نفس الأمر
وإن لم يشعر به المحجوبون الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
بإهلاكها في الشهوات واللذات الفانية فحجبوا عن الحقائق
الباقية النورانية واستبدلوا بها المحسوسات الفانية الظلمانية
فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لذلك، نسأل الله سبحانه وتعالى العفو
والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
(4/102)
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ
وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي
أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ
الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ
فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ
فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ
فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ
أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ
لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ
أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ
إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا
تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ
بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا
أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ
رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
(24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ
وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا
حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ
يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا
لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا
وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا
كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا
نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ
هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ
بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى
رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى
وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ
اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا
يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ
يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا
يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ
وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ
أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ
الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ
الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ
كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا
كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا
مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ
الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ
إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي
الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ
بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى
فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
وَلَهُ عطف على لِلَّهِ فهو داخل تحت قُلْ
على أنه احتجاج ثان على المشركين وإليه ذهب غير واحد.
(4/103)
وقال أبو حيان: الظاهر أنه استئناف اخبار
وليس مندرجا تحت الأمر أي ولله سبحانه وتعالى خاصة ما سَكَنَ
فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي الوقتين المخصوصين. وما موصولة.
وسَكَنَ إما من السكنى فيتناول الكلام المتحرك والساكن من غير
تقدير، وتعديتها بفي إلى الزمان مع أن حق استعمالها في المكان
لتشبيه الاستقرار بالزمان بالاستقرار بالمكان، وجوز أن يكون
هناك مشاكلة تقديرية لأن معنى لله ما في السماوات والأرض ما
سكن فيهما واستقر، والمراد وله ما اشتملا عليه، وإما من السكون
ضد الحركة كما قيل، وفي الكلام الاكتفاء بأحد الضدين كما في
قوله تعالى:
سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] والتقدير ما سكن
فيهما وتحرك وإنما اكتفى بالسكون عن ضده دون العكس لأن السكون
أكثر وجودا وعاقبة كل متحرك السكون كما قيل:
إذا هبت رياحك فاغتنمها ... فإن لكل خافقة سكون
ولأن السكون في الغالب نعمة لكونه راحة ولا كذلك الحركة. ورد
بأنه لا وجه للاكتفاء بالسكون عن التحرم في مقام البسط
والتقرير وإظهار كمال الملك والتصرف. وأجيب بأن هذا المحذوف في
قوة المذكور لسرعة انفهامه من ذكر ضده والمقام لا يستدعي الذكر
وإنما يستدعي عموم التغيرات والتصرفات الواقعة في الليل
والنهار، ومتى التزم كون السكون مع ضده السريع الانفهام كناية
عن جميع ذلك ناسب المقام.
وقيل: إن ما سكن يعم جميع المخلوقات إذ ليس شيء منها غير متصف
بالسكون حتى المتحرك حال ما يرى متحركا بناء على ما حقق في
موضعه من أن تفاوت الحركات بالسرعة والبطء لقلة السكنات
المتخللة وكثرتها، وفي معنى الحركة والسكون وبيان أقسام الحركة
المشهورة كلام طويل يطلب من محله وَهُوَ السَّمِيعُ أي المبالغ
في سماع كل مسموع فيسمع هواجس كل ما يسكن في الملوين
الْعَلِيمُ أي المبالغ في العلم بكل معلوم من الأجناس المختلفة
والجملة مسوقة لبيان إحاطة سمعه وعلمه سبحانه وتعالى بعد بيان
إحاطة قدرته جل شأنه أو للوعيد على أقوالهم وأفعالهم ولذا خص
السمع والعلم بالذكر، وهي تحتمل أن تكون من مقول القول وأن
تكون من مقول الله تعالى: قُلْ للمشركين بعد توبيخهم بما سبق
أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا إنكار لاتخاذ غير الله
تعالى وليا لا لاتخاذ الولي مطلقا ولذا قدم المفعول الأول
وأولى الهمزة. ونحوه أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي
أَعْبُدُ [الزمر: 64] والمراد بالولي هنا المعبود لأنه رد لمن
دعاه صلّى الله عليه وسلّم، فقد قيل: إن أهل مكة قالوا له عليه
الصلاة والسلام: يا محمد تركت ملة قومك وقد علمنا أنه لا يحملك
على ذلك إلا الفقر فارجع فإنا نجمع لك من أموالنا حتى تكون من
أغنانا فنزلت. واعترض بأن المشرك لم يخص عبادته بغير الله
تعالى فالرد عليه إنما يكون لو قيل: أأتخذ غير الله وليا.
وأجيب بأن من أشرك بالله تعالى غيره لم يتخذ الله تعالى معبودا
لأنه لا يجتمع عبادته سبحانه مع عبادة غيره كما قيل:
إذا صافى صديقك من تعادي ... فقد عاداك وانقطع الكلام
وقيل: الولي بمعنى الناصر كما هو أحد معانيه المشهورة، ويعلم
من إنكار اتخاذ غير الله تعالى ناصرا أنه لا يتخذه معبودا من
باب الأولى، ويحتمل الكلام- على ما قيل- أن يكون من الإخراج
على خلاف مقتضى الظاهر قصدا إلى إمحاض النصح ليكون أعون على
القبول كما في قوله تعالى: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي
فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس: 22] . فاطِرِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبدعهما كما أخرجه ابن أبي حاتم عن
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وأخرج أبو عبيدة وابن جرير، وابن الأنباري عنه رضي الله تعالى
عنه قال: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني
أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها يقول: أنا
ابتدأتها، وهو نعت للجلالة مؤكد
(4/104)
للإنكار، وصح وقوعه نعتا للمعرفة لأنه
بمعنى الماضي سواء كان كلاما من الله تعالى ابتداء أو محكيا عن
الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذ المعتبر زمان الحكم لا زمان
التكلم، ويدل على إرادة المضي أنه قرأ الزهري «فطر» ولا يضر
الفصل بينهما بالجملة لأنها ليست بأجنبية إذ هي عاملة في عامل
الموصوف، وقيل: بدل من الاسم الجليل، ورجحه أبو حيان بأن الفصل
فيه أسهل، وقرىء بالرفع والنصب على المدح أي هو فاطر أو أمدح
فاطر، وجوز أن يكون النصب على البدلية من وَلِيًّا لا الوصفية
لأنه معرفة، نعم يجوز على قراءة الزهري أن تكون الجملة صفة له.
وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ أي يرزق ولا يرزق كما أخرجه ابن
جرير وغيره عن السدي، فالمراد من الطعم الرزق بمعناه اللغوي
وهو كل ما ينتفع به بدليل وقوعه مقابلا له في قوله تعالى: ما
أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ
[الذاريات: 57] وعبر بالخاص عن العام مجازا لأنه أعظمه وأكثره
لشدة الحاجة إليه، ويحتمل أنه اكتفى بذكره عن ذكره لأنه يعلم
من ذلك نفي ما سواه فهو حقيقة، والجملة في محل نصب على
الحالية، وعن أبي عمرو والأعمش وعكرمة أنهم قرؤوا «ولا يطعم»
بفتح الياء والعين أي ولا يأكل والضمير لله تعالى، ومثله قراءة
أبي عبلة بفتح الياء وكسر العين، وقرأ يعقوب بعكس القراءة
الأولى أعني بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل، والضمير حينئذ
في الفعلين لغير الله تعالى أي اتخذ من هو مرزوق غير رازق
وليا، والكلام وإن كان مع عبدة الأصنام إلا أنه نظر إلى عموم
غير الله تعالى وتغليب أولي العقول كعيسى عليه الصلاة والسلام
لأن فيه إنكار أن يصلح الأصنام للألوهية من طريق الأولى، وقد
يقال: الكلام كناية عن كونه مخلوقا غير خالق كقوله تعالى: لا
يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النحل: 20] ويحمل
الفعل على معنى النفع لا يرد شيء رأسا، وقرأ الأشهب وَهُوَ
يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ ببنائهما للفاعل، ووجهت إما بأن أفعل
بمعنى استفعل كما ذكره الأزهري أي وهو يطعم ولا يستطعم أي لا
يطلب طعاما ويأخذه من غيره أو بأن المعنى يطعم تارة ولا يطعم
أخرى كقوله سبحانه وتعالى يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ [البقرة: 245]
والضميران لله تعالى، ورجوع الضمير الثاني لغير الله تعالى
تكلف يحتاج إلى التقدير قُلْ بعد بيان أن اتخاذ غيره تعالى
وليا مما يقضي ببطلانه بديهة العقول إِنِّي أُمِرْتُ من جناب
ولي جل شأنه أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وجهه لله
سبحانه وتعالى مخلصا له لأن النبي عليه الصلاة والسلام مأمور
بما شرعه إلا ما كان من خصائصه عليه الصلاة والسلام وهو إمام
أمته ومقتداهم وينبغي لكل آمر أن يكون هو العامل أولا بما أمر
به ليكون أدعى للامتثال، ومن ذلك ما حكى الله تعالى عن موسى
عليه الصلاة والسلام سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا
أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 143] .
وقيل: إن ما ذكر للتحريض كما يأمر الملك رعيته بأمر ثم يقول
وأنا أول من يفعل ذلك ليحملهم على الامتثال وإلا فلم يصدر عنه
صلّى الله عليه وسلّم امتناع عن ذلك حتى يؤمر به وفيه نظر وَلا
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي في أمر من أمور الدين، وفي
الكلام قول مقدر أي وقيل لي: لا تكونن، فالواو من الحكاية
عاطفة للقول المقدر على أُمِرْتُ، وحاصل المعنى إني أمرت
بالإسلام ونهيت عن الشرك، وقيل: إنه معطوف على مقول قُلْ على
المعنى إذ هو في معنى قل إني قيل لي كن أول مسلم ولا تكونن
فالواو من المحكي، وقيل: إنه عطف على قُلْ على معنى أنه عليه
الصلاة والسلام أمر بأن يقول كذا ونهى عن كذا، وتعقب بأن
سلاسلة النظم تأبى عن فصل الخطابات التبليغية بعضها عن بعض
بخطاب ليس منها، وجوز أن يعطفه على إِنِّي أُمِرْتُ داخلا في
حيز قُلْ والخطاب لكل من المشركين، ولا يخفى تكلفه وتعسفه،
وعدم صحة عطف على أَكُونَ ظاهر إذ لا وجه للالتفات ولا معنى
لأن يقال أمرت أن لا تكونن: قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ
رَبِّي أي بمخالفة أمره ونهيه أي عصيان كان فيدخل فيه ما ذكر
دخولا أوليا، وقوله سبحانه وتعالى عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي
عذاب يوم القيامة. وعظمه لعظم ما يقع فيه مفعول
(4/105)
أَخافُ والشرطية معترضة بينهما وجواب الشرط
محذوف وجوبا. وما تقدم على الأداة شبيه به فهو دليل عليه وليس
إياه على الأصح خلافا للكوفيين. والمبرد، والتقدير إن عصيت أخف
أو أخاف عذاب إلخ، وقيل: صرت مستحقا لعذاب ذلك اليوم. وفي
الكلام مبالغة أخرى بالنظر إلى ما يفهم مما تقدم في قطع
أطماعهم وتعريض بأنهم عصاة مستحقون للعذاب حيث أسند إلى ضمير
المتكلم ما هو معلوم الانتفاء وقرن بأن التي تفيد الشك وجيء
بالماضي إبرازا له في صورة الحاصل على سبيل الفرض. ويؤول
المعنى في الآخرة إلى تخويفهم على صدور ذلك الفعل منهم فليس في
الكلام دلالة على أنه عليه الصلاة والسلام يخاف على نفسه
المقدسة الكفر والمعصية مع أنه ليس كذلك لعصمته صلّى الله عليه
وسلّم. وأورد بعضهم دلالة الآية على ما ذكر بحثا ثم قال، وأجيب
عنه بأن الخوف تعلق بالعصيان الممتنع الوقوع امتناعا عاديا فلا
تدل إلا على أنه عليه الصلاة والسلام يخاف لو صدر عنه وحاشاه
الكفر والمعصية وهذا لا يدل على حصول الخوف، وأنت تعلم أن فيما
قدمنا غنى عن ذلك. ويفهم من كلام بعضهم أن خوف المعصوم من
المعصية لا ينافي العصمة لعلمه أن الله سبحانه وتعالى فعال لما
يريد وأنه لا يجب عليه شيء، وفي بعض الآثار أنه عز شأنه قال
لموسى عليه السلام: يا موسى لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط.
وجاء في غير ما خبر أنه صلّى الله عليه وسلّم إذا عصفت الريح
يصفر وجهه الشريف ويقول: أخاف أن تقوم الساعة
مع أن الله تعالى أخبره أن بين يديها ظهور المهدي، وعيسى
عليهما السلام، وخروج الدجال، وطلوع الشمس من مغربها إلى غير
ذلك من الأمارات التي لم توجد إذ ذاك ولم تحقق بعد. وصح أنه
صلّى الله عليه وسلّم اعتذر عن عدم خروجه عليه الصلاة والسلام
لصلاة التراويح بعد أن صلاها أول رمضان وتكاثر الناس رغبة فيها
بقوله «خشيت أن تفرض عليكم»
مع أن ما كان ليلة الإسراء إذ فرضت الصلوات يشعر بأنه تعالى لا
يفرض زيادة عن الخمس وكل ذلك يدل على أن لله تعالى أن يفعل ما
شاء وقصارى ما يلزم في أمثال ذلك لو فعل تغير تعلق الصفة وهو
لا يستلزم تغير الصفة ليلزم الحدوث وقيام الحوادث به تعالى
شأنه وهذا بحث طويل الذيل ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه إن شاء
الله تعالى.
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ أي من يصرف العذاب عنه فنائب
الفاعل ضمير العذاب، وضمير عَنْهُ يعود على مَنْ وجوز العكس أي
من يصرف عن العذاب. ومَنْ على الوجهين مبتدأ خبره الشرط أو
الجواب أو هما على الخلاف، والظرف متعلق بالفعل أو بالعذاب أو
بمحذوف وقع حالا من الضمير.
وجوز أن يكون نائب الفاعل. وهل يحتاج حينئذ إلى تقدير مضاف أي
عذاب يومئذ أم لا فيه خلاف فقيل: لا بد منه لأن الظرف غير
التام أي المقطوع عن الإضافة كقبل وبعد لا يقام مقام الفاعل
إلا بتقدير مضاف ويَوْمَئِذٍ له حكمه. وفي الدر المصون لا حاجة
إليه لأن التنوين لكونه عوضا يجعل في قوة المذكور خلافا
للأخفش. وذكر الأجهوري أن التنوين هنا عوض عن جملة محذوفة
يتضمنها الكلام السابق والأصل يوم إذ يكون الجزاء ونحو ذلك،
والجملة مستأنفة مؤكدة لتهويل العذاب وجوز أن تكون صفة عَذابَ.
وقرأ حمزة، والكسائي، ويعقوب، وأبو بكر عن عاصم «من يصرف» على
أن الضمير فيه لله تعالى. وقرأ أبي «من يصرف الله» بإظهار
الفاعل والمفعول به محذوف أي العذاب أو «يومئذ» بحذف المضاف أو
يجعل اليوم عبارة عما يقع فيه، ومَنْ في هذه القراءة أيضا
مبتدأ.
وجوز أبو البقاء أن تجعل في موضع نصب بفعل محذوف تقديره من
يكرم يصرف الله العذاب عنه فجعل يصرف تفسيرا للمحذوف، وأن يجعل
منصوبا بيصرف ويجعل ضمير عَنْهُ للعذاب أي أي إنسان يصرف الله
تعالى عنه العذاب فَقَدْ رَحِمَهُ أي الرحمة العظمى وهي النجاة
كقولك: إن أطعمت زيدا من جوعة فقد أحسنت
(4/106)
إليه تريد فقد أتممت الإحسان إليه، وعلى
هذا يكون الكلام من قبيل- من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك-
«ومن كانت هجرته إلى الله تعالى»
الخبر، ومن قبيل صرف المطلق إلى الكامل، وقيل: المراد فقد
أدخله الجنة فذكر الملزوم وأريد اللازم لأن إدخال الجنة من
لوازم الرحمة إذ هي دار الثواب اللازم لترك العذاب.
ونقض بأصحاب الأعراف. وأجيب بأن قوله تعالى: وَذلِكَ الْفَوْزُ
الْمُبِينُ حال مقيدة لما قبله، والفوز المبين إنما هو بدخول
الجنة لقوله تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ
الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [آل عمران: 185] وأنت تعلم أنه إذا
قلنا: إن الأعراف جبل في الجنة عليه خواص المؤمنين كما هو أحد
الأقوال لا يرد النقض، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك،
وما ذكر من الجواب مبني على ما لا يخفى بعده، والداعي إلى
التأويل اتحاد الشرط والجزاء الممتنع عندهم.
وقال بعض الكاملين: إن ما في النظم الجليل نظير
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لن يجزي ولد والده إلا أن يجده
مملوكا فيشتريه فيعتقه»
يعني بالشراء المذكور، وإن اختلاف العنوان يكفي في صحة الترتيب
والتعقيب، ولك أن تقول: إن الرحمة سبب للصرف سابق عليه على ما
تلوح إليه صيغة الماضي والمستقبل والترتيب باعتبار الأخبار.
وتعقبه الشهاب بأنه تكلف لأن السبب والمسبب لا بد من تغايرهما
معنى، والحديث المذكور منهم من أخذ بظاهره ومنهم من أوله بأن
المراد لا يجزيه أصلا وهو دقيق لأنه تعليق بالمحال. وأما كون
الجواب ماضيا لفظا ومعنى ففيه خلاف حتى منعه بعضهم في غير كان
لعراقتها في المضي اه فليفهم.
والإشارة إما إلى الصرف الذي في ضمن يُصْرَفْ وإما إلى الرحمة،
وذكر لتأويل المصدر بأن والفعل.
ومنهم من اعتبر الرحم بضم فسكون أو بضمتين وهو- على ما في
القاموس- بمعنى الرحمة. ومعنى البعد للإيذان بعلو درجة ما أشير
إليه، والفوز الظفر بالبغية، وآل لقصره على المسند إليه.
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ أي ببلية كمرض وحاجة فَلا
كاشِفَ أي لا مزيل ولا مفرج لَهُ عنك إِلَّا هُوَ والمراد لا
قادر على كشفه سواه سبحانه وتعالى من الأصنام وغيرها وَإِنْ
يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ من صحة وغنى فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ ومن جملته ذلك فيقدر جل شأنه عليه فيمسك به ويحفظه
عليك من غير أن يقدر على دفعه ورفعه أحد كقوله تعالى: فَلا
رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس: 107] ويظهر من هذا ارتباط الجزاء
بالشرط.
وقيل: إن الجواب محذوف تقديره فلا راد له غيره تعالى، والمذكور
تأكيد للجوابين لأن قدرته تعالى على كل شيء من الخير والشر
تؤكد أنه سبحانه وتعالى كاشف الضر وحافظ النعم ومديمها، وزعم
أنه لا تعلق له بالجواب الأول بل هو علة الجواب الثاني ظاهر
البطلان إذ القدرة على كل شيء تؤكد كشف الضر بلا شبهة وإنكار
ذلك مكابرة، وأصل المس- كما قال أبو حيان- تلاقي الجسمين،
والمراد به هنا الإصابة. وجعل غير واحد الباء في بضر وفي بخير
للتعدية (1) وإن كان الفعل متعديا كأنه قيل: وإن يمسسك الله
الضر. وفسروا الضر بالضم بسوء الحال في الجسم وغيره وبالفتح
بضد النفع، وعدل عن الشر المقابل للخير إلى الضر- على ما في
البحر- لأن الشر أعم فأتى بلفظ الأخص مع الخير الذي هو عام
رعاية لجهة الرحمة، وقال ابن عطية: إن مقابلة الخير بالضر مع
أن مقابلة الشر وهو أخص منه من خفي الفصاحة للعدول عن قانون
الضعة وطرح رداء التكلف وهو أن يقرن بأخص من ضده ونحوه لكونه
أوفق بالمعنى وألصق بالمقام كقوله تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا
تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا
تَضْحى [طه: 118]
__________
(1) كان في الأصل تحريف وأصلحناه من تفسير البحر المحيط.
(4/107)
فجيء بالجوع مع العري وبالظمأ مع الضحو
وكان الظاهر خلافه. ومنه قول امرئ القيس:
كأني لم أركب جوادا للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أسأل الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
وإيضاحه أنه في الآية قرن الجوع الذي هو خلو الباطن بالعري
الذي هو خلو الظاهر والظمأ الذي فيه حرارة الباطن بالضحى الذي
فيه حرارة الظاهر. وكذلك قرن امرئ القيس علوه على الجواد بعلوه
على الكاعب لأنهما لذتان في الاستعلاء وبذل المال في شراء
الراح ببذل الأنفس في الكفاح لأن في الأول سرور الطرب وفي
الثاني سرور الظفر.
وكذا هنا أوثر الضر لمناسبته ما قبله من الترهيب فإن انتقام
العظيم عظيم. ثم لما ذكر الإحسان أتى بما يعم أنواعه، والآية
من قبيل اللف والنشر فإن مس الضر ناظر إلى قوله تعالى: إِنِّي
أَخافُ إلخ ومس الخير ناظر إلى قوله سبحانه: مَنْ يُصْرَفْ
عَنْهُ إلخ. وهي على ما قيل داخلة في حيز قُلْ والخطاب عام لكل
من يقف عليه أو لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم ولا نافية
للجنس، وكاشِفَ اسمها ولَهُ خبرها والضمير المنفصل بدل من موضع
فَلا كاشِفَ أو من الضمير في الظرف، ولا يجوز- على ما قال أبو
البقاء- أن يكون مرفوعا بكاشف ولا بدلا من الضمير فيه لأنك في
الحالين تعمل اسم لا ومتى أعملته في ظاهر نونته. وفي هذه الآية
الكريمة رد على من رجا كشف الضر من غيره سبحانه وتعالى وأمل
أحدا سواه.
وفي فتوح الغيب للقطب الرباني سيدي عبد القادر الجيلاني قدس
الله تعالى سره من كلام طويل إن من أراد السلامة في الدنيا
والآخرة فعليه بالصبر والرضا وترك الشكوى إلى خلقه وإنزال
حوائجه بربه عز وجل ولزوم طاعته وانتظار الفرج منه سبحانه
وتعالى والانقطاع إليه فحرمانه عطاء وعقوبته نعماء وبلاؤه دواء
ووعده حال، وقوله فعل وكل أفعاله حسنة وحكمة ومصلحة غير أنه عز
وجل طوى علم المصالح عن عباده وتفرد به فليس إلا الاشتغال
بالعبودية من أداء الأوامر واجتناب النواهي والتسليم في القدر
وترك الاشتغال بالربوبية والسكون عن لم وكيف ومتى؟ وتستند هذه
الجملة
إلى حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «بينما أنا رديف
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ قال: يا غلام احفظ الله
تعالى يحفظك احفظ الله تعالى تجده أمامك وإذا سألت فاسأل الله
وإذا استعنت فاستعن بالله جف القلم بما هو كائن ولو جهد العباد
أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله سبحانه وتعالى لك لم يقدروا عليه
ولو جهدوا أن يضروك بشيء لم يقضه الله تعالى عليك لم يقدروا
عليه فإن استطعت أن تعمل لله تعالى بالصدق في اليقين فاعمل فإن
لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا واعلم أن النصر
مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا»
فينبغي لكل مؤمن أن يجعل هذا الحديث مرآة قلبه وشعاره ودثاره
وحديثه فيعمل به من جهة حركاته وسكناته حتى يسلم في الدنيا
والآخرة ويجد العزة برحمة الله عز وجل.
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ قيل هو استعارة تمثيلية
وتصوير لقهره سبحانه وتعالى وعلوه عز شأنه بالغلبة والقدرة،
وجوز أن تكون الاستعارة في الظرف بأن شبه الغلبة بمكان محسوس،
وقيل: إنه كناية عن القهر والعلو بالغلبة والقدرة، وقيل: إن
فَوْقَ زائدة. وصحح زيادتها وإن كانت اسما كونها بمعنى على وهو
كما ترى، والداعي إلى التزام ذلك كله أن ظاهر الآية يقتضي
القول بالجهة والله تعالى منزه عنها لأنها محدثة بإحداث العالم
وإخراجه من العدم إلى الوجود، ويلزم أيضا من كونه سبحانه
وتعالى في جهة مفاسد لا تخفى، وأنت تعلم أن مذهب السلف إثبات
الفوقية لله تعالى كما نص عليه الإمام الطحاوي. وغيره واستدلوا
لذلك بنحو ألف دليل،
وقد روى الإمام أحمد في حديث الأوعال عن العباس رضي الله تعالى
عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «والعرش فوق ذلك
والله تعالى فوق ذلك كله»
وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده
قوله صلّى الله عليه وسلّم للرجل الذي استشفع بالله
(4/108)
تعالى عليه: «ويحك أتدري ما الله تعالى؟ إن
الله تعالى فوق عرشه وعرشه فوق سماواته وقال بأصابعه مثل القبة
وأنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب» .
وأخرج الأموي في مغازيه من حديث صحيح أن النبي صلّى الله عليه
وسلّم قال لسعد يوم حكم في بني قريظة: «لقد حكمت فيهم بحكم
الملك من فوق سبع سماوات»
وروى ابن ماجة يرفعه قال: «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع
لهم نور فرفعوا إليه رؤوسهم فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف
عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنة سلام عليكم ثم قرأ صلّى
الله عليه وسلّم قوله تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ
رَحِيمٍ [يس: 58] فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى
شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه» . وصح أن عبد الله بن
رواحة أنشد بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبياته
التي عرض بها عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته وهي:
شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا
فأقره عليه الصلاة والسلام على ما قال وضحك منه، وكذا أنشد
حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه قوله:
شهدت بإذن الله أن محمدا ... رسول الذي فوق السماوات من عل
وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما ... له عمل من ربه متقبل
وأن الذي عادى اليهود ابن مريم ... رسول أتى من عند ذي العرش
مرسل
وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم ... يقوم بذات الله فيهم ويعدل
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: وأنا أشهد.
وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى
حكاية عن إبليس: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ
[الأعراف: 17] أنه قال: لم يستطع أن يقول ومن فوقهم لأنه قد
علم أن الله تعالى سبحانه من فوقهم، والآيات والأخبار التي
فيها التصريح بما يدل على الفوقية كقوله تعالى: تَنْزِيلُ
الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر: 1،
الجاثية: 2، الأحقاف: 2] . وإِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ
الطَّيِّبُ [فاطر: 10] . وبَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ
[النساء: 158] . وتَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ
[المعارج: 4] .
وقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه مسلم: «وأنت الظاهر
فليس فوقك شيء»
كثيرة جدا، وكذا كلام السلف في ذلك فمنه ما روى شيخ الإسلام
أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق بسنده إلى أبي مطيع
البلخي أنه سأل أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه عمن قال: لا أعرف
ربي سبحانه في السماء أم في الأرض فقال: قد كفر لأن الله تعالى
يقول: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] وعرشه فوق
سبع سماوات فقال: قلت فإن قال إنه على العرش ولكن لا أدري
العرش في السماء أم في الأرض؟ فقال رضي الله تعالى عنه: هو
كافر لأنه أنكر آية في السماء ومن أنكر آية في السماء فقد كفر،
وزاد غيره لأن الله تعالى في أعلى عليين وهو يدعى من أعلى لا
من أسفل اه.
وأيد القول بالفوقية أيضا بأن الله تعالى لما خلق الخلق لم
يخلقهم في ذاته المقدسة تعالى عن ذلك فإنه الأحد الصمد الذي لم
يلد ولم يولد فتعين أنه خلقهم خارجا عن ذاته ولو لم يتصف
سبحانه بفوقية الذات مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم لكان
متصفا بضد ذلك لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده وضد
الفوقية السفول، وهو مذموم على الإطلاق، والقول بأنا لا نسلم
أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها مدفوع بأنه
سبحانه لو لم يكن قابلا للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة
بنفسها فمتى سلم بأنه جل شأنه ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم
وأنه
(4/109)
موجود في الخارج ليس وجوده ذهنيا فقط بل
وجوده خارج الأذهان قطعا وقد علم كل العقلاء بالضرورة أن ما
كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارج عنه وإنكار ذلك
إنكار ما هو أجلى البديهيات فلا يستدل بدليل على ذلك إلا كان
العلم بالمباينة أظهر منه وأوضح، وإذا كان صفة الفوقية صفة
كمال لا نقص فيها ولا يوجب القول بها مخالفة كتاب ولا سنة ولا
إجماع كان نفيها عين الباطل لا سيما والطباع مفطورة على قصد
جهة العلو عند التضرع إلى الله تعالى.
وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر
مجلس إمام الحرمين وهو يتكلم في نفي صفة العلو ويقول: كان الله
تعالى ولا عرش وهو الآن على ما كان فقال الشيخ أبو جعفر:
أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا فإنه ما
قال عارف قط يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة بطلب العلو لا
يلتفت يمنة ولا يسرة فكيف تدفع هذه الضرورة عن أنفسنا قال:
فلطم الإمام على رأسه ونزل وأظنه قال وبكى وقال حيرني
الهمداني، وبعضهم تكلف الجواب عن هذا بأن هذا التوجه إلى فوق
إنما هو لكون السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة،
ثم هو أيضا منقوض بوضع الجبهة على الأرض مع أنه سبحانه ليس في
جهة الأرض، ولا يخفى أن هذا باطل، أما أولا فلأن السماء قبلة
للدعاء لم يقله أحد من سلف الأمة ولا أنزل الله تعالى به من
سلطان والذي صح أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة فقد صرحوا بأنه
يستحب للداعي أن يستقبل القبلة. وقد استقبل النبي صلّى الله
عليه وسلّم الكعبة في دعائه في مواطن كثيرة فمن قال: إن للدعاء
قبلة غير قبلة الصلاة فقد ابتدع في الدين وخالف جماعة
المسلمين. وأما ثانيا فلأن القبلة ما يستقبله الداعي بوجهه كما
تستقبل الكعبة في الصلاة وما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه مثلا
لا يسمى قبلة أصلا فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع
أن يوجه الداعي وجهه إليها ولم يثبت ذلك في شرع أصلا، وأما
النقض بوضع الجبهة فما أفسده من نقض فإن واضع الجبهة إنما قصده
الخضوع لمن فوقه بالذل لا أن يميل إليه إذ هو تحته بل هذا لا
يخطر في قلب ساجد. ثم سمع عن بشر المريسي أنه يقول: سبحان ربي
الأسفل تعالى الله سبحانه عما يقول الجاحدون والظالمون علوا
كبيرا.
وتأول بعضهم كل نص فيه نسبة الفوقية إليه تعالى بأن فوق فيه
بمعنى خير وأفضل كما يقال: الأمير فوق الوزير والدينار فوق
الدرهم. وأنت تعلم أن هذا مما تنفر منه العقول السليمة وتشمئز
منه القلوب الصحيحة فإن قول القائد ابتداء: الله تعالى خير من
عباده أو خير من عرشه من جنس قوله: الثلج بارد والنار حارة
والشمس أضوأ من السراج والسماء أعلى من سقف الدار ونحو ذلك
وليس في ذلك أيضا تمجيد ولا تعظيم لله تعالى بل هو من أرذل
الكلام فكيف يليق حمل الكلام المجيد عليه وهو الذي لو اجتمع
الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم
لبعض ظهيرا، على أن في ذلك تنقيصا لله تعالى شأنه ففي المثل
السائر:
ألم تر ان السيف ينقص قدره ... إذا قيل إن السيف خير من العصا
نعم إذا كان المقام يقتضي ذلك بأن كان احتجاجا على مبطل كما في
قول يوسف الصديق عليه السلام أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ
أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف: 39] وقوله تعالى:
آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل:
59] وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى [طه: 73] فهو أمر لا اعتراض
عليه ولا توجه سهام الطعن إليه، والفوقية بمعنى الفوقية في
الفضل مما يثبتها السلف لله تعالى أيضا وهي متحققة في ضمن
الفوقية المطلقة، وكذا يثبتون فوقية القهر والغلبة كما يثبتون
فوقية الذات ويؤمنون بجميع ذلك على الوجه اللائق بجلال ذاته
وكمال صفاته سبحانه وتعالى منزهين له سبحانه عما يلزم ذلك مما
يستحيل عليه جل شأنه ولا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ولا يعدلون
عن الألفاظ الشرعية نفيا ولا
(4/110)
إثباتا لئلا يثبتوا معنى فاسدا أو ينفوا
معنى صحيحا فهم يثبتون الفوقية كما أثبتها الله تعالى لنفسه.
وأما لفظ الجهة فقد يراد به ما هو موجود وقد يراد به ما هو
معدوم ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق فإذا أريد
بالجهة أمر موجود غير الله تعالى كان مخلوقا والله تعالى لا
يحصره شيء ولا يحيط به شيء من المخلوقات تعالى عن ذلك وإن أريد
بالجهة أمر عدمي وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله تعالى
وحده فإذا قيل: إنه تعالى في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح
عندهم، ومعنى ذلك أنه فوق العالم حيث انتهت المخلوقات، ونفاه
لفظ الجهة الذين يريدون بذلك نفي العلو يذكرون من أدلتهم أن
الجهات كلها مخلوقة وأنه سبحانه كان قبل الجهات وأنه من قال:
إنه تعالى في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم وأنه جل شأنه
كان مستغنيا عن الجهة ثم صار فيها. وهذه الألفاظ ونحوها تنزل
على أنه عز اسمه ليس في شيء من المخلوقات سواء سمى جهة أم لم
يسم وهو كلام حق ولكن الجهة ليست أمرا وجوديا بل هي أمر
اعتباري ولا محذور في ذلك، وبالجملة يجب تنزيه الله تعالى عن
مشابهة المخلوقين وتفويض علم ما جاء من المتشابهات إليه عز
شأنه والإيمان بها على الوجه الذي جاءت عليه. والتأويل القريب
إلى الذهن الشائع نظيره في كلام العرب مما لا بأس به عندي على
أن بعض الآيات ما أجمع على تأويلها السلف والخلف والله تعالى
أعلم بمراده وَهُوَ الْحَكِيمُ أي ذو الحكمة البالغة وهي العلم
بالأشياء على ما هي عليه والإتيان بالأفعال على ما ينبغي أو
المبالغ في الأحكام وهو إتقان التدبير وإحسان التقدير
الْخَبِيرُ أي العالم بما دق من أحوال العباد وخفي من أمورهم.
واللام هنا وفيما تقدم للقصر قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ
شَهادَةً
روى الكلبي أن كفار مكة قالوا لرسول الله صلّى الله عليه
وسلّم:
يا محمد أما وجد الله تعالى رسولا غيرك ما نرى أحدا يصدقك فيما
تقول ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم
ذكر فأرنا من يشهد أنك رسول الله فنزلت.
وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:
جاء النحام بن زيد وقردم بن كعب وبحري ابن عمرو فقالوا: يا
محمد ما تعلم مع الله إلها غيره؟ فقال رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم: لا إله إلا الله تعالى بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو
فأنزل الله تعالى هذه الآية،
والأول أوفق بأول الآية والثاني بآخرها.
فأي مبتدأ وأَكْبَرُ خبره وشَهادَةً تمييز. والشيء في اللغة ما
يصح أن يعلم ويخبر عنه، فقد ذكر سيبويه في الباب المترجم بباب
مجاري أواخر الكلم وإنما يخرج التأنيث من التذكير ألا ترى أن
الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى
والشيء مذكر انتهى. وهل يطلق على الله تعالى أم لا؟ فيه خلاف
فمذهب الجمهور أنه يطلق عليه سبحانه فقال: شيء لا كالأشياء
واستدلوا على ذلك بالسؤال والجواب الواقعين في هذه الآية
وبقوله سبحانه: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:
88] حيث إنه استثنى من كل شيء الوجه وهو بمعنى الذات عندهم
وبأنه أعم الألفاظ فيشمل الواجب والممكن.
ونقل الإمام أن جهما أنكر صحة الإطلاق محتجا بقوله تعالى:
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الأعراف: 180] فقال: لا يطلق
عليه سبحانه إلا ما يدل على صفة من صفات الكمال والشيء ليس
كذلك، وفي المواقف وشرحه الشيء عند الأشاعرة يطلق على الموجود
فقط فكل شيء عندهم موجود وكل موجود شيء، ثم سيق فيهما مذاهب
الناس فيه ثم قيل: والنزاع لفظي متعلق بلفظ الشيء وأنه على
ماذا يطلق، والحق ما ساعد عليه اللغة والنقل إذ لا مجال للعقل
في إثبات اللغات. والظاهر معنا فأهل اللغة في كل عصر يطلقون
لفظ الشيء على الموجود حتى لو قيل عندهم الموجود شيء تلقوه
بالقبول، ولو قيل: ليس بشيء تلقوه بالإنكار. ونحو قوله سبحانه:
وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم: 9]
ينفي إطلاقه بطريق الحقيقة على المعدوم لأن الحقيقة لا يصح
فيها انتهى.
(4/111)
وفي شرح المقاصد أن البحث في أن المعدوم
شيء حقيقة أم لا لغوي يرجع فيه إلى النقل والاستعمال وقد وقع
فيه اختلافات نظر إلى الاستعمالات. فعندنا هو اسم للموجود لما
نجده شائع الاستعمال في هذا المعنى ولا نزاع في استعماله في
المعدوم مجازا ثم قال: وما نقل عن أبي العباس أنه اسم للقديم.
وعن الجهمية أنه اسم للحادث، وعن هشام أنه اسم للجسم فبعيد جدا
من جهة أنه لا يقبله أهل اللغة انتهى. وفي ذلك كله بحث فإن
دعوى الأشاعرة التساوي بين الشيء والموجود لغة أو الترادف كما
يفهم مما تقدم من الكليتين ليس لها دليل يعول عليه، وقوله: إن
أهل اللغة في كل عصر إلخ إنما يدل على أن كل موجود شيء، وأما
أن كل ما يطلق عليه لفظ الشيء حقيقة لغوية موجود فلا دلالة فيه
عليه إذ لا يلزم من أن يطلق على الموجود لفظ شيء دون لا شيء أن
يختص الشيء لغة بالموجود لجواز أن يطلق الشيء على المعدوم
والموجود حقيقة لغوية مع اختصاص الموجود بإطلاق الشيء دون
اللاشيء.
وإنكار أهل اللغة على من يقول: الموجود ليس بشيء لكونه سلبا
للأعم عن الأخص وهو لا يصح لا لكونهما مترادفين أو متساويين.
وقد أطلق على المعدوم الخارجي كتابا وسنة فقد قال الله تعالى:
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا
أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الكهف: 23] وقال سبحانه: إِنَّما
قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ [النحل: 40]
وأخرج الطبراني عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم وقد سأله رجل فقال: «إني لأحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به
لأحبطت أجري يقول: لا يلقي ذلك الكلام إلا مؤمن» ونحوه عن معاذ
بن جبل.
والأصل في الإطلاق الحقيقة فلا يعدل عنها إلا إذا وجد صارف.
وشيوع الاستعمال لا يصلح أن يكون صارفا بعد صحة النقل عن
سيبويه.
ولعل سبب ذلك الشيوع أن تعلق الغرض في المحاورات بأحوال
الموجودات أكثر لا لاختصاص الشيء بالموجود لغة.
وقوله تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ
شَيْئاً [مريم: 9] إنما يلزم منه نفي إطلاقه بطريق الحقيقة على
المعدوم وهو يضرنا لو كان المدعى تخصيص إطلاق الشيء لغة
بالمعدوم وليس كذلك. فإن التحقيق عندنا أن الشيء بمعنى المشيء
العلم به والإخبار عنه وهو مفهوم كلي يصدق على الموجود
والمعدوم الواجب والممكن وتخصيص إطلاقه ببعض أفراده عند قيام
قرينة لا ينافي شموله لجميع أفراده حقيقة لغوية عند انتفاء
قرينة مخصصة وإلا لكان شموله المعدوم والموجود معا في قوله
تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 282،
النساء: 176، النور: 35، 64، الحجرات: 16، التغابن: 11] جمعا
بين الحقيقة والمجاز وهي مسألة خلافية. ولا خلاف في الاستدلال
على عموم تعلق علمه تعالى بالأشياء مطلقا بهذه الآية فهو دليل
على أن شموله للمعدوم والموجود معا حقيقة لغوية، وذكر بعض
الأجلة بعد زعمه اختصاص الشيء بالموجود أنه في الأصل مصدر
استعمل بمعنى شاء أو مشيء فإن كان بمعنى شاء صح إطلاقه عليه
تعالى وإلا فلا.
وأنت تعلم أنه على ما ذكرنا من التحقيق لا مانع من إطلاق الشيء
عليه تعالى من غير حاجة إلى هذا التفصيل لأنه بمعنى المشيء
العلم به والإخبار عنه فيكون إطلاق الشيء بهذا المعنى عليه عز
وجل كإطلاق المعلوم مثلا، ومعنى أَكْبَرُ شَهادَةً أعظم وأصدق
قُلِ اللَّهُ أمر له صلّى الله عليه وسلّم أن يتولى الجواب
بنفسه بنفسي هو عليه الصلاة والسلام لما مر قريبا. والاسم
الجليل مبتدأ محذوف الخبر أي الله أكبر شهادة، وجوز العكس.
ومذهب سيبويه أنه إذا كانت النكرة اسم استفهام أو أفعل تفضيل
تقع مبتدأ يخبر عنه بمعرفة، وقوله سبحانه:
شَهِيدٌ خبر مبتدأ محذوف أي هو سبحانه شهيد بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ فهو ابتداء كلام، وجوز أن يكون خبر اللَّهُ
والمجموع على ما ذهب إليه الزمخشري هو الجواب لدلالته على أن
الله عز وجل إذا كان هو الشهيد بينه
(4/112)
وبينهم فأكبر شيء شهادة شهيد له، ونقل في
الكشف أنه إن جعل تمام الجواب عند قوله سبحانه: اللَّهُ فهو
للتسلق من إثبات التوحيد إلى إثبات النبوة بأن هذا الشاهد الذي
لا أصدق منه شهد لي بإيحاء هذا القرآن. وإن جعل الكلام بمجموعه
الجواب فهو من الأسلوب الحكيم لأن الوهم لا يذهب إلى أن هذا
الشاهد يحتمل أن يكون غيره تعالى بل الكلام في أنه يشهد لنبوته
أولا فليفهم وَأُوحِيَ إِلَيَّ من قبله تعالى: هذَا الْقُرْآنُ
العظيم الشاهد بصحة رسالتي لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ بما فيه من
الوعيد. واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة لأنه المناسب
للمقام، وقيل: إن الكلام مع الكفار وليس فيهم من يبشر، وفي
الدر المصون أن الكلام على حد سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ
[النحل: 81] وَمَنْ بَلَغَ عطف على ضمير المخاطبين أي لأنذركم
به يا أهل مكة وسائر من بلغه القرآن ووصل إليه من الأسود
والأحمر أو من الثقلين أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن سيوجد
إلى يوم القيامة. قال ابن جرير: من بلغه القرآن فكأنما رأى
محمدا صلّى الله عليه وسلّم.
وأخرج أبو نعيم وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بلغه القرآن فكأنما
شافهته»
واستدل بالآية على أن أحكام القرآن تعم الموجودين يوم نزوله
ومن سيوجد بعد إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. واختلف
في ذلك هو بطريق العبارة في الكل أو بالإجماع في غير الموجودين
وفي غير المكلفين. فذهب الحنابلة إلى الأول والحنفية إلى
الثاني وتحقيقه في الأصول. وعلى أن من لم يبلغه القرآن غير
مؤاخذ بترك الأحكام الشرعية، ويؤيده ما
أخرجه أبو الشيخ عن أبي بن كعب قال «أتي رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم بأسارى فقال لهم: هل دعيتم إلى الإسلام؟ فقالوا: لا
فخلى سبيلهم ثم قرأ وَأُوحِيَ إِلَيَّ الآية»
وهو مبني على القول بالمفهوم كما ذهب إليه الشافعية، واعترض
بأنه لا دلالة للآية على ذلك بوجه من الوجوه لأن مفهومها
انتفاء الإنذار بالقرآن عمن لم يبلغه وذلك ليس عين انتفاء
المؤاخذة وهو ظاهر ولا مستلزما له خصوصا عند القائلين بالحسن
والقبح العقليين إلا أن يلاحظ قوله تعالى: وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] وفيه أن
عدم استلزام انتفاء الإنذار بالقرآن لانتفاء المؤاخذة ممنوع،
والحسن والقبح العقليان قد طوى بساط ردهما، وجوز أن يكون مَنْ
عطفا على الفاعل المستتر في لِأُنْذِرَكُمْ للفصل بالمفعول أي
لأنذركم أنا بالقرآن وينذركم به من بلغه القرآن أيضا، وروى
الطبرسي ما يقتضيه عن العياشي عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي
الله تعالى عنهما ولا يخفى أنه خلاف المنساق إلى الذهن.
أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى
جملة مستأنفة أو مندرجة في القول والاستفهام للتقرير أو
للإنكار، وقيل: لهما، وفيه جمع بين المعاني المجازية وأُخْرى
صفة لآلهة. وصفة جمع ما لا يعقل- كما قال أبو حيان- كصفة
الواحدة المؤنثة نحو مَآرِبُ أُخْرى [طه: 18] ولله تعالى
الأسماء الحسنى. ولما كانت الآلهة حجارة وخشبا مثلا أجريت هذا
المجرى تحقيرا لها قُلْ لهم لا أَشْهَدُ بذلك وإن شهدتم به
فإنه باطل صرف.
قُلْ تكرير للأمر للتأكيد إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أي بل
إنما أشهد أنه تعالى لا إله إلا هو وما كافة.
وجوز أبو البقاء- وزعم أنه الأليق بما قبله- كونها موصولة
ويبعده كونها موصولة وعليه يكون واحِدٌ خبرا وهو خلاف الظاهر
وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ من الأصنام أو من
إشراككم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ جواب عما سبق في
الرواية الأولى من قولهم: سألنا اليهود والنصارى إلخ أخر عن
تعيين الشهيد مسارعة إلى الجواب عن تحكمهم بقولهم: أرنا من
يشهد لك فالمراد من الموصول ما يعم الصنفين اليهود والنصارى
ومن الكتاب جنسه الصادق على التوراة والإنجيل، وإيرادهم بعنوان
إيتاء الكتاب للإيذان بمدار ما أسند إليهم بقوله تعالى:
يَعْرِفُونَهُ أي يعرفون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
بحليته ونعوته المذكورة فيهما، وفيه التفات، وقيل: الضمير
للكتاب، واختاره أبو البقاء. والأول
(4/113)
هو الذي تؤيده الأخبار كما ستعرفه كَما
يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ بحلاهم بحيث لا يشكون في ذلك أصلا.
روى أبو حمزة وغيره أنه لما قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم
المدينة قال عمر رضي الله تعالى عنه لعبد الله بن سلام: إن
الله تعالى أنزل على نبيه عليه الصلاة والسلام أن أهل الكتاب
يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فكيف هذه المعرفة؟ فقال ابن سلام:
نعرف نبي الله صلّى الله عليه وسلّم بالنعت الذي نعته الله
تعالى به إذا رأيناه فيكم عرفناه كما يعرف أحدنا ابنه إذا رآه
بين الغلمان وايم الله الذي يحلف به ابن سلام لأنا بمحمد أشد
معرفة مني بابني لأني لا أدري ما أحدثت أمه فقال عمر رضي الله
تعالى عنه:
وفقت وصدقت.
وزعم بعضهم أن المراد بالمعرفة هنا ما هو بالنظر والاستدلال
لأن ما يتعلق بتفاصيل حليته صلّى الله عليه وسلّم إما إن يكون
باقيا وقت نزول الآية أولا بل محرفا مغيرا والأول باطل ولا
يتأتى لهم إخفاء ذلك لأن إخفاء ما شاع في الآفاق محال وكذا
الثاني لأنهم لم يكونوا حينئذ عارفين حليته الشريفة عليه
الصلاة والسلام كما يعرفون حلية أبنائهم.
وفيه أن الإخفاء مصرح به في القرآن كما في قوله تعالى:
تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً
[الأنعام: 91] وإخفاؤها ليس بإخفاء النصوص بل بتأويلها،
وبقولهم: إنه رجل آخر سيخرج وهو معنى قوله سبحانه:
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: 14] .
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ من أهل الكتابين والمشركين
فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بما يجب الإيمان به، وقد تقدم الكلام في
هذا التركيب آنفا وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللَّهِ كَذِباً بادعائه أن له جل شأنه شريكا وبقوله الملائكة
بنات الله، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله. وعد من ذلك وصف النبي
عليه الصلاة والسلام الموعود في الكتابين بخلاف أوصافه،
والاستفهام للاستعظام الادعائي. والمشهور أن المراد إنكار أن
يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك أو مساويا له، والتركيب وإن لم يدل
على إنكار المساواة وضعا كما قال العلامة الثاني في شرح
المقاصد وحواشي الكشاف يدل عليه استعمالا فإذا قلت: لا أفضل في
البلد من زيد فمعناه أنه أفضل من الكل بحسب العرف، والسر في
ذلك أن النسبة بين الشيئين إنما تتصور غالبا لا سيما في باب
المغالبة بالتفاوت زيادة ونقصانا فإذا لم يكن أحدهما أزيد
يتحقق النقصان لا محالة.
وادعى بعض المتأخرين أنه سنح له في توجيه ذلك نكتة حسنة ودقيقة
مستحسنة وهي أن المتساويين بل المتقاربين في نفس الأمر لا يسلم
كل واحد منهما أن يفضل عليه صاحبه فإن كل أحد لا يقدر على أن
يقدر كل شيء حق قدره وكل إنسان لا يقوى على أن يعرف كل أمر على
ما هو عليه فإن الافهام في مقابلة الأوهام متفاوتة والعقول في
مدافعة الشكوك متباينة. فإذا حكم بعض الناس مثلا بالمساواة بين
المتساويين في نفس الأمر فقد يحكم البعض الآخر برجحان ذلك على
حسب منتهى أفهامهم ومبلغ عقولهم ومدرك إدراكهم فكل ما يوجد من
يساويه في نفس الأمر يوجد من يفضل عليه بحسب اعتقاد الناس بل
كلما يوجد من يقاربه فيه يوجد من يفوقه في ظنون العامة وينعكس
بعكس النقيض إلى قولنا. كلما لا يوجد من يفضل عليه لا يوجد من
يساويه بل من يقاربه أيضا وهو المطلوب، وبالجملة أن إثبات
المساوي يستلزم إثبات الراجح الفاضل ففي الفاضل يستلزم نفي
المساوي لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم كما أن إثبات
الملزوم يستلزم إثبات اللازم وفيه تأمل.
وادعى بعض المحققين أن دلالة التركيب على نفي المساواة وضعية
لأن غير الأفضل إما مساو أو أنقص فاستعمل في أحد فرديه. قال
ابن الصائغ في مسألة الكحل: إن ما رأيت رجلا أحسن في عينه
الكحل منه في عين زيد وإن كان نصا في نفي الزيادة وهي تصدق
بالزيادة والنقصان إلا أن المراد الأخير وهو من قصر الشيء على
بعض أفراده
(4/114)
كالدابة انتهى. وأنت تعلم أن هذا مشعر
باعتبار العرف أيضا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ كأن كذب بالقرآن
الذي من جملته الآية الناطقة بأن أهل الكتاب يعرفونه كما
يعرفون أبناءهم أو بسائر المعجزات التي أيد بها رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم بأن سماها سحرا، وعد من ذلك تحريف الكتاب
وتغيير نعوته صلّى الله عليه وسلّم التي ذكرها الله تعالى فيه،
وإنما ذكر أَوْ وهم جمعوا بين الأمرين إيذانا بأن كلّا منهما
وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم على النفس، وقيل: نبه بكلمة
أَوْ على أنهم جمعوا بين أمرين متناقضين يعني أنهم أثبتوا
المنفي ونفوا الثابت، والمراد بالمتناقضين أمران من شأنهما أن
لا يجمع بينهما عرفا. أو يقال: إن من نفى الثابت بالبرهان يكون
بنفي ما لم يثبت به أولى، كذلك في الطرف الآخر فالجمع بينهما
جمع بين المتناقضين من هذا الوجه.
وادعى بعضهم أن وجه التناقض المشعر به هذا العطف أن الافتراء
على الله تعالى دعوى وجوب القبول بلا حجة ما ينسب إليه تعالى
وتكذيب الآيات دعوى أنه يجب أن لا يقبل ما ينسب إليه تعالى ولو
أقيم عليه بينة ويجب أن ينكر التنبيه ويرتكب المكابرة بناء على
أن الرسول يجب أن يكون ملكا.
ولا يخفى أن في دعوى التناقض خفاء، وهذه التوجيهات لا ترفعه
إِنَّهُ أي الشأن، والمراد أن الشأن الخطير هذا وهو لا
يُفْلِحُ أي لا يفوز بمطلوب ولا ينجو من مكروه الظَّالِمُونَ
من حيث إنهم ظالمون فكيف يفلح الأظلم من حيث إنه أظلم وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً منصوب على الظرفية بمضمر يقدر مؤخرا
وضمير نَحْشُرُهُمْ للكل أو للعابدين للآلهة الباطلة مع
معبوداتهم وجَمِيعاً خال منه أي ويوم نحشر كل الخلق أو الكفار
وآلهتهم جميعا ثم نقول لهم ما نقول كان كيت وكيت. وترك هذا
الفعل من الكلام ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في التخويف
والتهويل. وقدر ماضيا ليدل على التحقيق ويحسن عطف ثُمَّ لَمْ
تَكُنْ إلخ عليه، وجوز نصبه على المفعولية بمضمر مقدر أي واذكر
لهم للتخويف والتحذير يوم نحشرهم. واختاره أبو البقاء، وقيل:
التقدير ليتقوا أو ليحذروا يوم نحشرهم إلخ ثُمَّ نَقُولُ
للتوبيخ والتقريع على رؤوس الأشهاد لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا
بالله تعالى ما لم ينزل به سلطانا: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ أي
آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله عز اسمه فالإضافة لأدنى ملابسة
وأَيْنَ للسؤال عن غير الحاضر، وظاهر قوله تعالى: احْشُرُوا
الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ
[الصافات: 22] وغيره من الآيات يقتضي حضورهم معهم في المحشر
فأما أن يقال: إن هذا السؤال حين يحال بينهم بعد ما شاهدوهم
ليشاهدوا خيبتهم كما قيل:
كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ... فلما رأوها أقشعت وتجلت
وإما أن يقال: إنه حال مشاهدتهم لهم لكنهم لما لم ينفعوهم
نزلوا منزلة الغيب كما تقول لمن جعل أحدا ظهيرا يعينه في
الشدائد إذا لم يعنه وقد وقع في ورطة بحضرته أين زيد؟ فتجعله
لعدم نفعه وإن كان حاضرا كالغائب أو الكلام على تقدير مضاف أي
أين نفعهم وجدواهم؟، والتزم بعضهم القول بأنهم غيب لظاهر
لسؤال، وقوله تعالى:
وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ إلى قوله سبحانه:
وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 94] .
وأجيب أن يكون ذلك في موطن آخر جمعا بين الآيات أو المعنى وما
نرى شفاعة شفعائكم.
وقال شيخ الإسلام: إن هذا السؤال المنبئ عن غيبة الشركاء مع
عموم الحشر لها للآيات الدالة على ذلك إنما يقع بعد ما جرى
بينها وبينهم من التبري من الجانبين وتقطع ما بينهم من الأسباب
حسبما يحكيه قوله سبحانه: فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ [يونس: 28]
إلخ ونحوه إما لعدم حضورها حينئذ في الحقيقة بإبعادها من ذلك
الموقف، وإما بتنزيل عدم حضورها بعنوان الشركة والشفاعة منزلة
عدم حضورها في الحقيقة إذ ليس السؤال عنها من حيث هي شركاء كما
(4/115)
يعرب عنه الوصف بالموصول، ولا ريب في أن
عدم الوصف يوجب عدم الموصوف من حيث هو موصوف فهي من حيث هي
شركاء غائبة لا محالة وإن كانت حاضرة من حيث ذواتها أصناما
كانت أو لا.
وأما ما يقال من أنه يحال بينها وبينهم وقت التوبيخ ليفقدوهم
في الساعة التي علقوا بها الرجاء فيروا مكان حزنهم وحسرتهم
فربما يشعر بعدم شعورهم بحقيقة الحال وعدم انقطاع حبال رجائهم
عنها بعد. وقد عرفت أنهم شاهدوها قبل ذلك وانصرمت عروة أطماعهم
عنها بالكلية على أنها معلومة لهم من حين الموت والابتلاء
بالعذاب في البرزخ. وإنما الذي يحصل في الحشر الانكشاف الجلي
واليقين القوي المترتب على المحاضرة والمحاورة اه.
وتعقبه مولانا الشهاب بأنه تخيل لا أصل له لأن التوبيخ مراد في
الوجوه كلها. ولا يتصور حينئذ التوبيخ إلا بعد تحقق خلافه. مع
أن كون هذا واقعا بعد التبري في موقف آخر ليس في النظم ما يدل
عليه ومثله لا يجزم به من غير نقل لاحتمال أن يكون هذا في موقف
التبري والإشعار المذكور لا يتأتى مع أنه توبيخ. وأما العلاوة
التي زيل بها كلامه فواردة عليه أيضا مع أنها غير مسلمة لأن
عذاب البرزخ لا يقتضي أن يشفع لهم بعد ذلك فكم من معذب في قبره
يشفع له اه.
وأنت تعلم أن عذابهم البرزخي إن كان سبب اعتقادهم النفع فيهم
ورجاء شفاعتهم وعلم أولئك المعذبون أن عذابهم لذلك فقوله: لأن
عذاب البرزخ لا يقتضي إلخ ليس في محله، وكذا قوله: فكم من معذب
في قبره يشفع له إن أراد به فكم من معذب لمعصية من المعاصي في
قبره يشفع له من يشفع فمسلم لكن لا يفيد. وإن أراد فكم من معذب
في قبره بسبب عبادة شيء يشفع له ذلك الشيء فمنعه ظاهر كما لا
يخفى فتدبر. وقرأ يعقوب «يحشرهم ثم يقول» بالياء فيهما والضمير
فيهما لله تعالى. وقوله سبحانه للمشركين: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ
الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ إما بالواسطة أو بغير واسطة.
والتكليم المنفي في قوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ إلخ تكليم
تشريف ونفع لا مطلقا. فقد كلم إبليس عليه اللعنة بما كلم.
والزعم يستعمل في الحق كما في
قوله صلّى الله عليه وسلّم «زعم جبريل عليه السلام» وفي حديث
ضمام بن ثعلبة رضي الله تعالى عنه «زعم رسولك»
وقول سيبويه في أشياء يرتضيها: زعم الخليل، ويستعمل في الباطل
والكذب كما في هذه الآية.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل زعم في القرآن فهو بمعنى
الكذب. وكثيرا ما يستعمل في الشيء الغريب الذي تبقى عهدته على
قائله وهو هنا متعد لمفعولين وحذفا لانفهامهما من المقام أي
تزعمونهم شركاء.
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا أصل معنى
الفتنة على ما حققه الراغب من الفتن وهو إدخال الذهب النار
لتعلم جودته من رداءته ثم استعمل في معان كالعذاب والاختبار
والبلية والمصيبة والكفر والإثم والضلال والمعذرة، واختلف في
المراد هنا فقيل: الشرك، واختار هذا القول الزجاج ورواه عطاء
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكأن التعبير عن الشرك
بالفتنة أنها ما تفتتن به ويعجبك وهم كانوا معجبين بكفرهم
مفتخرين به. والكلام حينئذ إما على حذف مضاف كما يقتضيه ظاهر
كلام البعض، وإما على جعل عاقبة الشيء عينه ادعاء وهو أحلى
مذاقا وأبعد مغزى. والحصر إضافي بالنسبة إلى جنس الأقوال أو
ادعائي.
وقوله تعالى: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ كناية
عن التبري عن الشرك وانتفاء التدين به أي ثم لو لم يكن عاقبة
شركهم شيئا إلا تبرئهم منه، ونص الزجاج أن مثل ما في الآية أن
ترى إنسانا يحب غاويا فإذا وقع في مهلكة تبرأ منه فيقال له: ما
كان محبتك لفلان إلا أن تبرأت منه وليس ذلك من قبيل عتابك
السيف ولا من تقدير المضاف وإن
(4/116)
صح ذلك فيه وهو معنى حسن لطيف لا يعرفه إلا
من عرف كلام العرب، وقيل: المراد بها العذر واستعملت فيه لأنها
على ما تقدم التخليص من الغش والعذر يخلص من الذنب فاستعيرت
له.
وروي ذلك عن ابن عباس أيضا، وأبي عبد الله، وقتادة، ومحمد بن
كعب رضي الله تعالى عنهم، وقيل:
الجواب بما هو كذب. ووجه الإطلاق أنه سبب الفتنة فتجوز بها عنه
إطلاقا للمسبب على السبب، ويحتمل أن يكون هناك استعارة لأن
الجواب مخلص لهم أيضا كالمعذرة قيل: والحصر على هذين القولين
حقيقي والجملة القسمية على ظاهرها، وتَكُنْ بالتاء الفوقانية،
وفِتْنَتُهُمْ بالرفع قراءة ابن كثير، وابن عامر، وحفص عن
عاصم، وقرأ حمزة، والكسائي «يكن» بالياء التحتانية و «فتنتهم»
بالنصب، وكذا قرأ «ربنا» بالنصب على النداء أو المدح.
وقرىء في الشواذ «ربنا» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. وهو
توطئة لنفي إشراكهم. وفائدته رفع توهم أن يكون نفي الإشراك
بنفي الإلهية عنه تقدس وتعالى. وقرأ الباقون بالتاء من فوق
ونصب «فتنتهم» أيضا، وخرجوا قراءة الأولين على أن «فتنتهم» اسم
«تكن» وتأنيث الفعل لإسناده إلى مؤنث وأَنْ قالُوا خبره.
وقرأ حمزة والكسائي على أن «قالوا» هو الاسم ولم يؤنث الفعل
لإسناده إلى مذكر وفِتْنَتُهُمْ هو الخبر.
وقراءة الباقين على نحو هذا خلا أن التأنيث فيها بناء على مذهب
الكوفيين فإنهم يجيزون في سعة الكلام تأنيث اسم كان إذا كان
مصدرا مذكرا وكان الخبر مؤنثا مقدما كقوله:
وقد خاب من كانت سريرته العذر ويستشهدون على ذلك بهذه القراءة،
وذهب البصريون إلى أن ذلك ضرورة، وقيل: إن التأنيث على معنى
المقالة وهو من قبيل جاءته كتابي أي رسالتي. ولا يخفى أن هذا
قليل في كلامهم، وقال الزمخشري ونقل بعينه عن أبي علي: إن ذلك
من قبيل من كانت أمك؟ ونوقش بما لا طائل فيه، وزعم بعضهم أن
القراءتين الأخيرتين أفصح من القراءة الأولى لأن فيها جعل
الأعرف خبرا وغير الأعرف اسما لأن أَنْ قالُوا يشبه المضمر
والمضمر أعرف المعارف وهو خلاف الشائع المعروف دونهما. وفيه
نظر إذ لا يلزم من مشابهة شيء لشيء في حكم مشابهته له في جميع
الأحكام، والجملة على سائر القراءات عطف على الفعل المقدر
العامل في يوم نحشرهم إلخ على ما مرت الإشارة إليه. وجعلها غير
واحد عطفا على الجملة قبلها وثُمَّ إما على ظاهرها بناء على
القول الأول وإما للتراخي في الرتبة بناء على القولين الأخيرين
لأن معذرتهم أو جوابهم هذا أعظم من التوبيخ السابق.
وأنت تعلم أنه لا ضرورة للعدول عن الظاهر لجواز أن يكون هناك
تراخ في الزمان بناء على أن الموقف عظيم.
فيمكن أن يقال: إنهم لما عاينوا هول ذلك اليوم وتجلى الملك
الجبار جل جلاله عليهم بصفة الجلال كما تنبىء عنه الجملة
السابقة حاروا ودهشوا فلم يستطيعوا الجواب إلا بعد زمان. ومما
ينبىء على دهشتهم وحيرتهم أنهم كذبوا وحلفوا في كلامهم هذا ولو
لم يكونوا حيارى مدهوشين لما قالوا الذي قالوا لأن الحقائق
تنكشف يوم القيامة فإذا اطلع أهلها عليها وعلى أنها لا تخفى
عليه سبحانه وأنه لا منفعة لهم في مثل ذلك استحال صدوره عنهم.
وللغفلة عن بناء الأمر عن الدهشة والحيرة منع الجبائي،
والقاضي، ومن وافقهما جواز الكذب على أهل القيامة مستدلين بما
ذكرنا. وأجابوا عن الآية بأن المعنى ما كنا مشركين في اعتقادنا
وظنوننا وذلك لأنهم كانوا يعتقدون في أنفسهم أنهم موحدون
متباعدون عن الشرك. واعترضوا على أنفسهم بأنهم على هذا التقدير
يكونون صادقين فيما أخبروا فلم قال سبحانه: انْظُرْ كَيْفَ
كَذَبُوا أي في قولهم ما كُنَّا مُشْرِكِينَ وأجابوا بأنه ليس
المراد أنهم
(4/117)
كذبوا في الآخرة بل المراد انظر كيف كذبوا
عَلى أَنْفُسِهِمْ في الدنيا. ورد بأن الآية لا تدل على هذا
المعنى بوجه ولا تنطبق عليه لأنها في شأن خسرهم وأمرهم في
الآخرة لا في الدنيا بل تنبو عنه أشد نبو لأن أول النظم الكريم
وآخره في ذلك فتخلل بيان حالهم في الدنيا تفكيك له وتعسف جدا.
ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور أيضا قوله تعالى:
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما
يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا
إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ [المجادلة:
18] بعد قوله سبحانه: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ [المجادلة: 14] حيث شبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في
الدنيا، ويشير إلى هذا التشبيه أيضا الأمر بالنظر كما لا يخفى
على من نظر.
وذكر ابن المنير أن في الآية دليلا بينا على أن الإخبار بالشيء
على خلاف ما هو به كذب وإن لم يعلم المخبر مخالفة خبره لمخبره
ألا تراه سبحانه جعل أخبارهم وتبرؤهم كذبا مع أنه جل شأنه أخبر
عنهم بقوله تعالى: وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي
سلبوا علمه حينئذ دهشا وحيرة فلم يرفع ذلك إطلاق الكذب عليهم،
وأنت تعلم أن تفسير هذه الجملة بما ذكر غير ظاهر. والمروي عن
الحسن أن ما موصولة والمراد بها الأصنام التي كانوا يعبدونها
ويقولون فيها: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18]
أو نحو ذلك. وإيقاع الافتراء عليها مع أنه في الحقيقة واقع على
أحوالها للمبالغة في أمرها كأنها نفس المفتري أي زالت وذهبت
عنهم أوثانهم التي يفترون فيها ما يفترون فلم تغن عنهم من الله
شيئا، وقيل: إن ما مصدرية أي ضل افتراءهم كقوله سبحانه: ضَلَّ
سَعْيُهُمْ [الكهف: 104] أي لم ينفعهم ذلك. والجملة قيل:
مستأنفة، وقيل: واختاره شيخ الإسلام أنها عطف على كَذَبُوا
داخل معه في حكم التعجب إذ الاستفهام السابق المعلق لا نظر
لذلك. وجعل المعنى على احتمال الموصول والمصدرية انظر كيف
كذبوا باليمين الفاجرة المغلظة على أنفسهم بإنكار صدور ما صدر
عنهم وكيف ضل عنهم أي زال وذهب افتراؤهم أو ما كانوا يفترونه
من الإشراك حتى نفوا صدوره عنهم بالكلية وتبرؤوا بالمرة.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ كلام مسوق لحكاية ما صدر
في الدنيا عن بعض المشركين من أحكام الكفر ثم بيان ما سيصدر
عنهم يوم الحشر تقريرا لما قبله وتحقيقا لمضمونه. وضمير
مِنْهُمْ للذين أشركوا. والاستماع بمعنى الإصغاء وهو لازم يعدى
باللام وإلى كما صرح به أهل اللغة، وقيل: إنه مضمن معنى
الإصغاء ومفعوله مقدر وهو القرآن.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية أبي صالح: إن أبا
سفيان بن حرب والوليد بن المغيرة والنضر ابن الحارث، وعتبة،
وشيبة ابنا ربيعة، وأمية وأبي بن خلف استمعوا إلى رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم وهو يقرأ القرآن فقالوا للنضر: يا أبا
قتيلة ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول
إلا أني أرى تحرك شفتيه يتكلم بشيء فما يقول إلا أساطير
الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية.
وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى وكان يحدث قريشا
فيستملحون حديثه فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وأفرد ضمير مَنْ في يستمع وجمعه في قوله سبحانه وَجَعَلْنا
عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً نظرا إلى لفظه ومعناه وعن الكرخي
إنما قيل: هنا يَسْتَمِعُ وفي يَسْتَمِعُونَ [يونس: 42] لأن ما
هنا في قوم قليلين فنزلوا منزلة الواحد وما هناك في جميع
الكفار فناسب الجمع، وإنما لم يجمع ثم في قوله سبحانه:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ [يونس: 43] لأن المراد
النظر المستتبع لمعاينة أدلة الصدق وأعلام النبوة والناظرون
كذلك أقل من المستمعين للقرآن.
والجعل بمعنى الإنشاء. والأكنة جمع كنان كغطاء وأغطية لفظا
ومعنى لأن فعالا بفتح الفاء وكسرها يجمع في القلة على أفعلة
كأحمرة وأقذلة وفي الكثرة على فعل كحمر إلا أن يكون مضاعفا أو
معتل اللام فيلزم جمعه على أفعلة
(4/118)
كأكنة وأخبية إلا نادرا. وفعل الكن ثلاثي
ومزيد يقال: كنه وأكنه كما قال الطبرسي وغيره، وفرق بينهما
الراغب فقال:
أكننت يستعمل لما يستر في النفس والثلاثي لغيره. والتنوين
للتفخيم والواو للعطف. والجملة معطوفة على الجملة قبلها عطف
الفعلية على الاسمية، وقيل: الواو للحال أي وقد جعلنا. وعَلى
قُلُوبِهِمْ متعلق بالفعل قبله.
وزعم أبو حيان أنه إن كان بمعنى ألقي فالظرف متعلق به وإن كان
بمعنى صير فمتعلق بمحذوف إذ هو في موضع المفعول الثاني.
والمعنى على ما ذكرنا وأنشأنا على قلوبهم أغطية كثيرة لا يقادر
قدرها أَنْ يَفْقَهُوهُ أي كراهة أن يفهموا ما يستمعونه من
القرآن المدلول عليه بذكر الاستماع فالكلام على تقدير مضاف
ومنهم من قدر لا دونه أي أن لا يفقهوه. وكذلك يفعلون في
أمثاله، وجوز أن يكون مفعولا به لما دل عليه قوله تعالى:
وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أي منعناهم أن يفقهوه
أو لما دل عليه أَكِنَّةً وحده من ذلك وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً
أي صمما وثقلا في السمع يمنع من استماعه على ما هو حقه.
والكلام عند غير واحد تمثيل معرب عن كمال جهلهم بشؤون النبي
صلّى الله عليه وسلّم وفرط نبو قلوبهم عن فهم القرآن الكريم
ومج أسماعهم أصمها الله تعالى، وجوز أن يكون هناك استعارة
تصريحية أو مكنية أو مشاكلة. وقد مر لك في البقرة ما ينفعك هنا
فتذكره.
وقرأ طلحة «وقرأ» بالكسر- وهو- على ما نص عليه الزجاج. حمل
البغل ونحوه. ونصبه على القراءتين بالعطف على أَكِنَّةً كما
قال أبو البقاء وَإِنْ يَرَوْا أي يشاهدوا ويبصروا كُلَّ آيَةٍ
أي معجزة دالة على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم على ما نقل
عن الزجاج وهو الذي يقتضيه كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
كانشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة. وتكثير
القليل من الطعام وما أشبه ذلك لا يُؤْمِنُوا بِها لفرط عنادهم
واستحكام التقليد فيهم. والكلام من باب عموم النفي ككل ذلك لم
يكن لا من باب نفي العموم.
والمراد ذمهم بعدم الانتفاع بحاسة البصر بعد أن ذكر سبحانه عدم
انتفاعهم بعقولهم وأسماعهم، ونقل عن بعضهم أنه لا بد من تخصيص
الآية في الآية بغير الملجئة دفعا للمخالفة بين هذا وقوله
تعالى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً
فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشعراء: 4] . واكتفى
بعضهم بحمل الإيمان على الإيمان بالاختيار وفرق بينه وبين خضوع
الأعناق فليفهم. وخص شيخ الإسلام الآية بما كان من الآيات
القرآنية أي وإن يروا شيئا من ذلك بأن يشاهدوه بسماعه لا
يؤمنوا به، ولعل ما قدمناه أحلى لدى الذوق السليم.
حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ أي يخاصمونك وينازعونك.
وحَتَّى هي التي تقع بعدها الجمل ويقال لها: حتى الابتدائية.
ولا محل للجملة الواقعة بعدها خلافا للزجاج وابن درستويه زعما
أنها في محل جر بحتى.
ويرده أن حروف الجر لا تعلق عن العمل وإنما تدخل على المفرد أو
ما في تأويله. والجملة هنا قوله تعالى: إِذا جاؤُكَ مع جواب
الشرط أعني قوله سبحانه وتعالى: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا
وما بينهما حال من فاعل جاؤوا. وإنما وضع الموصول موضع الضمير
ذما لهم بما في حيز الصلة وإشعارا بعلة الحكم. وإِذا منصوبة
المحل على الظرفية بالشرط أو الجواب على الخلاف الشهير في ذلك،
واعترض بأن جعل يُجادِلُونَكَ في موضع الحال ويَقُولُ
الَّذِينَ جوابا مفض إلى جعل الكلام لغوا لأن المجادلة نفس هذا
القول إلا أن تؤول المجادلة بقصدها.
ولا يخفى ما فيه فإن المجادلة مطلق المنازعة. وسميت بذلك لما
فيها من الشدة أو لأن كل واحد من المتجادلين يريد أن يلقي
صاحبه على الجدالة أي الأرض. والقول المذكور فرد منها فالكلام
مفيد أبلغ فائدة كقولك إذا أهانك زيد شتمك، وذكر بعض النحويين
أن حتى إذا وقع بعدها إذا يحتمل أن تكون بمعنى الفاء وأن تكون
بمعنى إلى والغاية معتبرة في الوجهين أي بلغوا من التكذيب
والمكابرة إلى أنهم إذا جاؤوك مجادلين لك لا يكتفون بمجرد
(4/119)
عدم الإيمان بل يقولون إِنْ هذا أي ما هذا
إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي أحاديثهم المسطورة التي لا
يعول عليها، وقال قتادة: كذبهم وباطلهم.
وحاصل ما ذكر أن تكذيبهم بلغ النهاية بما ذكر لأنه الفرد
الكامل منه. ونظير ذلك- مات الناس حتى الأنبياء- وجوز أن تكون
حَتَّى هي الجارة وإِذا جاؤُكَ في موضع الجر وهو قول الأخفش
وتبعه ابن مالك في التسهيل. ورده أبو حيان في شرحه. وعليه فإذا
خارجة عن الظرفية كما صرحوا به وعن الشرطية أيضا فلا جواب لها
فيقول حينئذ: تفسير «ليجادلونك» وهو في موضع الحال أيضا.
والأساطير عند الأخفش جمع لا مفرد له كأبابيل ومذاكير، وقال
بعضهم: له مفرد. وفي القاموس إنه جمع أسطار وأسطير بكسرهما
وإسطور وبالهاء في الكل، وقيل:
جمع أسطار بفتح الهمزة جمع سطر بفتحتين كسبب وأسباب فهو جمع
جمع وأصل السطر بمعنى الخط وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ الضمير
المرفوع للمشركين والمجرور للقرآن أي لا يقنعون بما ذكر من
تكذيبه وعده حديث خرافة بل ينهون الناس عن استماعه لئلا يقفوا
على حقيقته فيؤمنوا به وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ أي يتباعدون عنه
بأنفسهم إظهارا لغاية نفورهم عنه وتأكيدا لنهيهم فإن اجتناب
الناهي عن المنهي عنه من متممات النهي، ولعل ذلك- كما قال شيخ
الإسلام- هو السر في تأخير النأي عن النهي. وهذا هو التفسير
الذي أخرجه ابن أبي شيبة، وابن حميد، وابن جرير وابن المنذر،
وغيرهم عن مجاهد رحمة الله تعالى عليه، وقيل: الضمير المجرور
للرسول صلّى الله عليه وسلّم على معنى ينهون الناس عن الإيمان
به عليه الصلاة والسلام ويتباعدون عنه، وهو التفسير الذي أخرجه
أبناء جرير، والمنذر، وأبي حاتم، ومردويه من طريق علي ابن أبي
طلحة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج أيضا ابن جرير
من طريق العوفي. وروي ذلك عن محمد ابن الحنفية، والسدي،
والضحاك، وقيل: الضمير المرفوع لأبي طالب وأتباعه أو أضرابه
والمجرور للنبي صلّى الله عليه وسلّم على معنى ينهون عن أذيته
عليه الصلاة والسلام ولا يؤمنون به.
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن هلال أنه قال: إن الآية نزلت في
عمومة النبي صلّى الله عليه وسلّم وكانوا عشرة وكانوا أشد
الناس معه في العلانية وأشد الناس عليه عليه الصلاة والسلام في
السر، وقيل: ضمير الجمع لأبي طالب وحده وجمع استعظاما لفعله
حتى كأنه مما لا يستقل به واحد، وقيل: إنه نزل منزلة أفعال
متعددة فيكون كقوله: قفا عند المازني، ولا يخفى بعده. وروى هذا
القول جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا.
وروي عن مقاتل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان عند أبي
طالب يدعوه إلى الإسلام فاجتمعت قريش إليه يريدون سوءا بالنبي
صلّى الله عليه وسلّم فقال منشدا:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وابشر وقر بذاك منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصح ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت دينا لا محالة أنه ... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذاري سبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا
فنزلت هذه الآية.
وفيها على هذا القول والذي قبله التفات، ورد الإمام القول
الأخير بأن جميع الآيات المتقدمة في ذم فعل المشركين فلا
يناسبه ذكر النهي عن أذيته عليه الصلاة والسلام وهو غير مذموم.
ونظر فيه بأن الذم بالمجموع من حيث هو مجموع. وبهذه الآية على
هذه الرواية استدل بعض من ادعى أن أبا طالب لم يؤمن برسول الله
صلّى الله عليه وسلّم وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق هذا
المطلب في موضعه.
(4/120)
والنأي لازم يتعدى بعن كما في الآية. ونقل
عن الواحدي أنه سمع تعديته بنفسه عن المبرد وأنشد:
أعاذل إن يصبح صدى بقفرة ... بعيدة نآني زائري وقريبي
وخرجه البعض على الحذف والإيصال ولا يخفى ما في «ينهون وينأون»
من التجنيس البديع. وقرىء «وينون» عنه وَإِنْ يُهْلِكُونَ أي
وما يهلكون بذلك إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بتعريضها لأشد العذاب
وأفظعه وهو عذاب الضلال والإضلال. وقوله تعالى: وَما
يَشْعُرُونَ حال من ضمير يهلكون أي يقصرون الإهلاك على أنفسهم
والحال أنهم غير شاعرين لا بإهلاكهم أنفسهم ولا باقتصار ذلك
عليها من غير أن يضروا بذلك شيئا من القرآن أو النبي صلّى الله
عليه وسلّم. وإنما عبر عنه بالإهلاك مع أن المنفي عن غيرهم
مطلق الضرر للإيذان بأن ما يحيق بهم هو الهلاك لا الضرر
المطلق. على أن مقصدهم لم يكن مطلق الممانعة فيما ذكروا بل
كانوا يبغون الغوائل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي هو
نظام عقد لآلىء الآيات القرآنية.
وجوز أن يكون الإهلاك معتبرا بالنسبة إلى الذين يضلونهم بالنهي
فقصره على أنفسهم حينئذ مع شموله للفريقين مبني على تنزيل عذاب
الضلال عند عذاب الإضلال منزلة العدم. ونفي الشعور- على ما في
البحر- أبلغ من نفي العلم كأنه قيل. وما يدركون ذلك أصلا
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ شروع في حكاية ما
سيصدر عنهم يوم القيامة من القول المناقض لما صدر عنهم في
الدنيا من القبائح المحكية مع كونه كاذبا في نفسه. والخطاب
للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من له أهلية ذلك قصدا إلى
بيان سوء حالهم وبلوغها من الشناعة إلى حيث لا يختص بها راء
دون راء. ولَوْ شرطية على أصلها وجوابها محذوف لتذهب نفس
السامع كل مذهب فيكون أدخل في التهويل. ونظير ذلك قول امرئ
القيس:
وجدك لو شيء أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
وقولهم لو ذات سوار لطمتني. وتَرى بصرية وحذف مفعولها لدلالة
ما في حيز الظرف عليه. والإيقاف إما من الوقوف المعروف أو من
الوقوف بمعنى المعرفة كما يقال: أوقفته على كذا إذا فهمته
وعرفته. واختاره الزجاج أي ولو ترى حالهم حين يوقفون على النار
حتى يعاينوها أو يرفعوا على جسرها وهي تحتهم فينظرونها أو
يدخلونها فيعرفون مقدار عذابها لرأيت ما لا يحيط به نطاق
التعبير. وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق.
وقيل: إن لو بمعنى إن وجوزوا أن تكون ترى علمية وهو كما ترى.
وقرىء وُقِفُوا بالبناء للفاعل من وقف عليه اللازم ومصدره
غالبا الوقوف. ويستعمل وقف متعديا أيضا ومصدره الوقف وسمع فيه
أوقف لغة قليلة.
وقيل: إنه بطريق القياس فَقالُوا لعظم أمر ما تحققوه يا
لَيْتَنا نُرَدُّ أي إلى الدنيا. ويا للتنبيه أو للنداء
والمنادى محذوف أي يا قومنا مثلا وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ
رَبِّنا أي القرآن كما كنا نكذب من قبل ونقول:
أساطير الأولين. وفسر بعضهم الآيات بما يشمل ذلك والمعجزات،
وقال شيخ الإسلام: يحتمل أن يراد بها الآيات الناطقة بأحوال
النار وأهوالها الآمرة باتقائها بناء على أنها التي تخطر حينئذ
ببالهم ويتحسرون على ما فرطوا في حقها.
ويحتمل أن يراد بها جميع الآيات المنتظمة لتلك الآيات انتظاما
أوليا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بها حتى لا نرى هذا
الموقف الهائل كما لم ير ذلك المؤمنون. ونصب الفعلين- على ما
قال الزمخشري وسبقه إليه كما قال الحلبي الزجاج- بإضمار أن على
جواب التمني. والمعنى إن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين. ورده
أبو حيان بأن نصب الفعل بعد الواو ليس على الجوابية لأنها لا
تقع في جواب الشرط فلا ينعقد مما قبلها وما بعدها شرط وجواب
وإنما هي واو تعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها وهي
عاطفة يتعين مع النصب أحد محاملها الثلاث وهي المعية ويميزها
عن
(4/121)
الفاء صحة حلول مع محلها أو الحال. وشبهة
من قال: إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء
فتوهم أنها جواب. ويوضح لك أنها ليست به انفراد الفاء دونها
بأنها إذا حذفت انجزم الفعل بعدها بما قبلها لما تضمنه من معنى
الشرط، وأجيب بأن الواو أجريت هنا مجرى الفاء. وجعلها ابن
الأنباري مبدلة منها. ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود وابن إسحاق
«فلا نكذب» ، واعترض أيضا ما ذكره الزمخشري من معنى الجزائية
بأن ردهم لا يكون سببا لعدم تكذيبهم. وأجيب بأن السببية يكفي
فيها كونها في زعمهم. ورد بأن مجرد الرد لا يصلح لذلك فلا بد
من العناية بأن يراد الرد الكائن بعد ما ألجأهم إلى ذلك إذ قد
انكشفت لهم حقائق الأشياء. ولهذه الدغدغة اختار من اختار العطف
على مصدر متوهم قبل كأنه قيل: ليت لنا ردا وانتفاء تكذيب وكونا
من المؤمنين، وقرأ نافع، وابن كثير، والكسائي برفع الفعلين،
وخرج على أن ذلك ابتداء كلام منهم غير معطوف على ما قبله
والواو كالزائدة كقول المذنب لمن يؤذيه على ما صدر منه: دعني
ولا أعود يريد لا أعود تركتني أو لم تركتني. ومن ذلك على ما
قاله الإمام عبد القاهر قوله:
اليوم يومان مذ غيبت عن نظري ... نفسي فداؤك ما ذنبي فاعتذر
وكأن المقتضي لنظمه في هذا السلك إفادة المبالغة المناسبة
لمقام المغازلة، واختار بعضهم كونه ابتداء كلام بمعنى كونه
مقطوعا عما في حيز التمني معطوفا عليه عطف اخبار على إنشاء.
ومن النحاة من جوزه مطلقا، ونقله أبو حيان عن سيبويه، وجوز أن
يكون داخلا في حكم التمني على أنه عطف على نُرَدُّ أو حال من
الضمير فيه، فالمعنى- كما قال الشهاب- على تمني مجموع الأمرين
الرد وعدم التكذيب أي التصديق الحاصل بعد الرد إلى الدنيا لأن
الرد ليس مقصودا بالذات هنا، وكونه متمنى ظاهر لعدم حصوله حال
التمني وإن كان التمني منصبا على الإيمان والتصديق فتمنيه لأن
الحاصل الآن لا ينفعهم لأنهم ليسوا في دار تكليف فتمنوا إيمانا
ينفعهم وهو إنما يكون بعد الرد المحال والمتوقف على المحال
محال. وقرأ ابن عامر برفع الأول ونصب الثاني على ما علمت آنفا،
والجوابية إما بالنظر إلى المجموع أو بالنظر إلى الثاني وعدم
التكذيب بالآيات مغاير للإيمان والتصديق فلا اتحاد.
وقرىء شاذا بعكس هذه القراءة بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا
يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ إضراب عما يؤذن به تمنيهم من الوعد
بتصديق الآيات والإيمان بها أي ليس ذلك عن عزم صحيح ناشىء عن
رغبة في الإيمان وشوق إلى تحصيله والاتصاف به بل لأنه بدا وظهر
لهم في وقوفهم ذلك ما كانوا يخفونه في الدنيا من ثالثة الأثافي
والداهية الدهياء فلشدة هول ذلك ومزيد ضجرهم منه قالوا ما
قالوا، فالمراد من الموصول النار على ما يقتضيه السوق ومن
إخفائها ستر أمرها وذلك بإنكار تحققها وعدم الإيمان بثبوتها
أصلا فكأنه قيل: بل بدا لهم ما كانوا يكذبون به في الدنيا
وينكرون تحققه.
وإنما لم يصرح سبحانه بالتكذيب كما في قوله عز شأنه: هذِهِ
جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ [الرحمن:
43] وقوله عز من قائل: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها
تُكَذِّبُونَ [الطور: 14] مع أن ذلك أنسب بما قبل من قولهم:
«ولا نكذب بآيات ربنا» مراعاة لما في مقابله من البدو في
الجملة مع ما في ذلك من الرمز الخفي إلى أن تكذيبهم هذا لم يكن
في محله رأسا لقوة الدليل، وقيل: المراد بما كانا يخفونه
قبائحهم من غير الشرك التي كانوا يكتمونها عن الناس فتظهر في
صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم، وقيل: المراد به الشرك الذي
أنكروه في بعض مواقف القيامة بقولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما
كُنَّا مُشْرِكِينَ، وقيل: المراد به أمر البعث والنشور،
والضمير المرفوع لرؤساء الكفار والمجرور لأتباعهم أي ظهر
للتابعين ما كان الرؤساء المتبوعون يخفونه في الدنيا عنهم من
أمر البعث والنشور، ونسب إلى الحسن واختاره الزجاج.
(4/122)
وقيل: الآية في المنافقين، والضمير المرفوع
لهم، والمجرور للمؤمنين، والمراد بالموصول الكفر أي بل ظهر
للمؤمنين ما كان المنافقون يخفونه من الكفر ويكتمونه عنهم في
الدنيا، وقيل: هي في أهل الكتاب مطلقا أو علمائهم، والذي أخفوه
نبوة خاتم الرسل صلّى الله عليه وسلّم، والضميران المرفوع
والمجرور لهم وللمؤمنين أو للخواص والعوام. وتعقب كل ذلك بأنه
بعد الإغضاء عما فيه من الاعتساف لا سبيل إليه هنا لأن سوق
النظم الجليل لتهويل أمر النار وتفظيع حال أهلها، وقد ذكر
وقوفهم عليها وأشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية
والحيرة والدهشة ما لا يحيط به الوصف، ورتب عليهم تمنيهم
المذكور بالفاء القاضية بسببية ما قبلها لما بعدها فإسقاط
النار بعد ذلك من السببية وهي في نفسها أدهى الدواهي وأزجر
الزواجر إلى ما دونها في ذلك مع عدم جريان ذكره ثمة أمر ينبغي
تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله، ونقل عن المبرد أن الكلام على
حذف مضاف أي بدا لهم وبال ما كانوا يخفون ولا يخفى ما فيه أيضا
فتدبر.
وَلَوْ رُدُّوا من موقفهم ذلك إلى الدنيا لَعادُوا لِما نُهُوا
عَنْهُ من الكفر والتكذيب أو من الأعم من ذلك ويدخل فيه ما ذكر
دخولا أوليا ولا يخفى حسنه، ووجه اللزوم في هذه الشرطية سبق
قضاء الله تعالى عليهم بذلك التابع لخبث طينتهم ونجاسة جبلتهم
وسوء استعدادهم ولهذا لا ينفعهم مشاهدة ما شاهدوه، وقيل: إن
المراد أنهم لو ردوا إلى حالهم الأولى من عدم العلم والمشاهدة
لعادوا، ولا يخفى أنه لا يناسب مقام ذمهم بغلوهم في الكفر
والإصرار وكون هذا جوابا لما مر من تمنيهم. وذكر بعض الناس في
توجيه عدم نفع المشاهدة في الآخرة لأهوالها المترتبة على
المعاصي بعد الرد إلى الدنيا أنها حينئذ كخبر النبي صلّى الله
عليه وسلّم المؤيد بالمعجزات الباهرة فحيث لم ينتفعوا به وصدهم
ما صدهم لا ينتفعون بما هو مثله ويصدهم أيضا ما يصدهم.
وأنت تعلم أن هذا بعد تسليم كون المشاهدة بعد الرد كخبر الصادق
يرجع في الآخرة إلى ما أشرنا إليه من سبق القضاء وسوء
الاستعداد، ومن خلق للشقاء والعياذ بالله سبحانه وتعالى للشقاء
يكون وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي لقوم كاذبون فيما تضمنه
تمنيهم من الخبر بأن ذلك مراد لهم، ويحتمل أن يكون هذا ابتداء
إخبار منه تعالى بأن ديدن هؤلاء وهجيراهم الكذب. وليس الكذب
على الاحتمالين متوجها إلى التمني نفسه لأنه إنشاء والإنشاء لا
يحتمل الصدق والكذب. وقال الربعي: لا بأس بتوجه الكذب إلى
التمني لأنه يحتمل الصدق والكذب بنفسه. واحتج على ذلك بقوله:
منى إن تكن حقا أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
لأن الحق بمعنى الصدق وهو ضد الباطل والكذب، ولا يخفى ما فيه
مع أنه لو سلّم فهو مجاز أيضا. وقيل:
الخبر الضمني هنا هو الوعد بالإيمان وعدم التكذيب. واعترض بأن
الوعد كالوعيد من قبيل الإنشاء كما حقق في موضعه فلا يتوجه
إليه الكذب والصدق كما لا يتوجهان إلى الإنشاء وأجيب بأن ذلك
أحد قولين في المسألة، ثانيهما أن الوعد والوعيد من قبيل الخبر
لا الإنشاء، وهذا القيل مبني عليه على أنه يحتمل أن المراد
بالكذب المتوجه إلى الوعد عدم الوفاء به لا عدم مطابقته للواقع
كما ذكره الراغب وَقالُوا عطف على لَعادُوا كما عليه الجمهور.
واعترضه ابن الكمال بأن حق وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ حينئذ أن
يؤخر عن المعطوف أو يقدم على المعطوف عليه.
وأجيب بأن توسيطه لأنه اعتراض مسوق لتقرير ما أفادته الشرطية
من كذبهم المخصوص ولو أخر لأوهم أن المراد تكذيبهم في إنكارهم
البعث. وجوز أن يكون عطفا على إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أو على
خبر إن أو على نُهُوا والعائد
(4/123)
محذوف أي قالوه، وأن يكون استئنافا بذكر ما
قالوا في الدنيا إِنْ هِيَ أي ما هي إِلَّا حَياتُنَا
الدُّنْيا والضمير للحياة المذكورة بعده كما في قول المتنبي:
هو الجد حتى تفضل العين أختها ... وحتى يكون اليوم لليوم سيدا
وقد نصوا على صحة عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة في مواضع،
منها ما إذا كان خبر الضمير مفسرا له كما هنا. وجعله بعضهم
ضمير الشأن. ولا يتأتى على مذهب الجمهور لأنهم اشترطوا في خبره
أن يكون جملة. وخالفهم في ذلك الكوفيون فقد حكي عنهم جواز كون
خبره مفردا إما مطلقا أو بشرط كون المفرد عاملا عمل الفعل كاسم
الفاعل نحو إنه قائم زيد بناء على أنه حينئذ يسد مسد الجملة.
وقيل- وفيه بعد-: يحتمل أن يكون الضمير المذكور عبارة عما في
الذهن وهو الحياة. والمعنى أن الحياة إلا حياتنا التي نحن
فيها. وهو المراد بقولهم: الدنيا لا القريبة الزوال أو الدنيئة
أو المتقدمة على الآخرة كما يقول المؤمنون إذ كل ذلك خلاف
الظاهر لا سيما الأخير.
وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ أي إذا فارقتنا هذه الحياة أصلا
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ تمثيل لحبسهم للسؤال
والتوبيخ أو كناية عنه عند من لم يشترط فيها إمكان الحقيقة
وجوز اعتبار التجوز في المفرد إلا أن الأرجح عندهم اعتباره في
الجملة، وقيل: الوقوف بمعنى الاطلاع المتعدي بعلى أيضا وفي
الكلام مضاف مقدر أي وقفوا على قضاء ربهم أو جزائه، ولا حاجة
إلى التضمين وجعله من القلب كما توهم، وقيل: هو بمعنى الاطلاع
من غير حاجة إلى تقدير مضاف على معنى عرفوه سبحانه وتعالى حق
التعريف ولا يلزم من حق التعريف حق المعرفة ليقال كيف هذا وقد
قيل: ما عرفناك حق معرفتك، واستدل بعض الظاهرية بالآية على أن
أهل القيامة يقفون بالقرب من الله تعالى في موقف الحساب ولا
يخفى ما فيه.
قالَ استئناف نشأ من الكلام السابق كأنه قيل: فماذا قال لهم
ربهم سبحانه وتعالى إذ ذاك؟ فقيل: قال:
إلخ. وجوز أن يكون في موضع الحال أي قائلا أَلَيْسَ هذا أي
البعث وما يتبعه بِالْحَقِّ أي حقا لا باطلا كما زعمتم، وقيل:
الإشارة إلى العقاب وحده وليس بشيء، ولا دلالة في فَذُوقُوا
عند أرباب الذوق على ذلك، والهمزة للتقريع على التكذيب قالُوا
استئناف كما سبق بَلى هو حق وَرَبِّنا أكدوا اعترافهم باليمين
إظهارا لكمال تيقنهم بحقيقته وإيذانا بصدور ذلك عنهم برغبة
ونشاط طمعا بأن ينفعهم وهيهات قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ الذي
كفرتم به من قبل وأنكرتموه بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي بسبب
كفركم المستمر أو ببدله أو بمقابلته أو بالذي كنتم تكفرون به،
فما إما مصدرية أو موصولة والأول أولى، ولعل هذا التوبيخ
والتقريع- كما قيل- إنما يقع بعد ما وقفوا على النار فقالوا ما
قالوا إذ الظاهر أنه لا يبقى بعد هذا إلا العذاب، ويحتمل العكس
وأمر سهل قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ هم
الكفار الذين حكيت أحوالهم لكن وضع الموصول موضع الضمير
للإيذان بتسبب خسرانهم عما في حيز الصلة من التكذيب بلقاء الله
تعالى والاستمرار عليه، والمراد به
لقاء ما وعد سبحانه وتعالى على ما روي عن ابن عباس والحسن رضي
الله تعالى عنهم،
وصرح بعضهم بتقدير المضاف أي لقاء جزاء بالله تعالى، وصرح
آخرون بأن لقاء الله تعالى استعارة تمثيلية عن البعث وما يتبعه
حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ أي الوقت المخصوص وهو يوم
القيامة، وأصل الساعة القطعة من الزمان وغلبت على الوقت
المعلوم كالنجم للثريا، وسمي ساعة لقلته بالنسبة لما بعده من
الخلود أو بسرعة الحساب فيه على الباري عز اسمه. وفسرها بعضهم
هنا بوقت الموت، والغاية المذكورة للتكذيب.
وجوز أن تكون غاية للخسران لكن بالمعنى المتعارف والكلام حينئذ
على حد قوله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي
(4/124)
إِلى يَوْمِ الدِّينِ
[ص: ج 78] أي أنك مذموم مدعو عليك باللعنة إلى ذلك اليوم فإذا
جاء اليوم لقيت ما تنسى اللعن معه فكأنه قيل: خسر المكذبون إلى
قيام الساعة بأنواع المحن والبلاء فإذا قامت الساعة يقعون فيما
ينسون معه هذا الخسران وذلك هو الخسران المبين بَغْتَةً أي
فجأة وبغتة بالتحريك مثلها، وبغتة كمنعه فجأة أي هجم عليه من
غير شعور، وانتصابها على أنها مصدر واقع موقع الحال من فاعل
جاءَتْهُمُ أي مباغته أو من مفعوله أي مبغوتين، وجوز أن تكون
منصوبة على أنها مفعول مطلق لجاءتهم على حد رجع القهقرى أو
لفعل مقدر من اللفظ أو من غيره.
وقوله سبحانه وتعالى: قالُوا جواب إذا يا حَسْرَتَنا نداء
للحسرة وهي شدة الندم كأنه قيل: يا حسرتنا تعالى فهذا أوانك،
قيل: وهذا التحسر وإن كان يعتريهم عند الموت لكن لما كان الموت
من مقدمات الآخرة جعل من جنس الساعة وسمي باسمها، ولذا
قال صلّى الله عليه وسلّم: «من مات فقد قامت قيامته»
أو جعل مجيء الساعة بعد الموت لسرعته كالواقع بغير فترة، وقال
أبو البقاء: التقدير يا حسرة احضري هذا أوانك، وهو نداء مجازي
ومعناه تنبيه أنفسهم لتذكير أسباب الحسرة لأن الحسرة نفسها لا
تطلب ولا يتأتى إقبالها وإنما المعنى على المبالغة في ذلك حتى
كأنهم ذهلوا فنادوها، ومثل ذلك نداء الويل ونحوه ولا يخفى
حسنه.
عَلى ما فَرَّطْنا أي على تفريطنا، فما مصدرية فالتفريط
التقصير فيما قدر على فعله، وقال أبو عبيدة: معناه التضييع،
وقال ابن بحر: معناه السبق ومنه الفارط للسابق. ومعنى فرط خلا
السبق لغيره فالتضعيف فيه للسلب كجلدت البعير أزلت جلده وسلبته
فِيها أي الحياة الدنيا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما أو في الساعة كما روي عن الحسن، والمراد من التفريط في
الساعة التقصير في مراعاة حقها والاستعداد لها بالإيمان
والأعمال الصالحة.
وقيل: الضمير للجنة أي على ما فرطنا في طلبها ونسب إلى السدي
ولا يخفى بعده، وقول الطبرسي ويدل عليه ما
رواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه
وسلّم أنه قال في هذه الآية: «يرى أهل النار منازلهم من الجنة
فيقولون يا حَسْرَتَنا إلخ
لا يخلو عن نظر لقيام الاحتمال بعد وهو يبطل الاستدلال، وعن
محمد بن جرير أن الهاء يعود إلى الصفة لدلالة الخسران عليها
وهو بعيد أيضا، ومثل ذلك ما قيل: إن ما موصولة بمعنى التي،
والمراد بها الأعمال والضمير عائد إليها كأنه قيل يا حسرتنا
على الأعمال الصالحة التي قصرنا فيها، نعم مرجع الضمير على هذا
مذكور في كلامهم دونه على الأقوال السابقة فإنه غير مذكور فيه
بل ولا في كلامه تعالى في قص حال هؤلاء القائلين على القول
الأول عند بعض فتدبر وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى
ظُهُورِهِمْ في موضع الحال من فاعل قالُوا وهي حال مقارنة أو
مقدرة. والوزر في الأصل الثقل ويقال للذنب وهو المراد هنا أي
يحملون ذنوبهم وخطاياهم كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما. وذكر الظهور لأن المعتاد الأغلب الحمل عليها كما في-
كسبت أيديكم- فإن الكسب في الأكثر بالأيدي. وفي ذلك أيضا إشارة
إلى مزيد ثقل المحمول، وجعل الذنوب والآثام محمولة على الظهر
من باب الاستعارة التمثيلية، والمراد بيان سوء حالهم وشدة ما
يجدونه من المشقة والآلام والعقوبات العظيمة بسبب الذنوب،
وقيل: حملها على الظهر حقيقة وإنها تجسم،
فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنه قال: ليس من رجل
ظالم يموت فيدخل قبره إلا جاءه رجل قبيح الوجه أسود اللون منتن
الريح عليه ثياب دنسة حتى يدخل معه قبره فإذا رآه قال: ما أقبح
وجهك؟ قال كذلك كان عملك قبيحا قال: ما أنتن ريحك؟ قال: كذلك
كان عملك منتنا قال: ما أدنس ثيابك؟ فيقول: إن عملك كان دنسا
قال: من أنت؟ قال: أنا عملك فيكون معه في قبره فإذا بعث يوم
القيامة قال له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات
فأنت اليوم تحملني فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخله النار،
وأخرجا عن عمرو بن قيس قال: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله
عمله في أحسن شيء صوره وأطيبه
(4/125)
ريحا فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا
أن الله تعالى قد طيب ريحك وحسن صورتك فيقول: كذلك كنت في
الدنيا أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت
اليوم وتلا يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ
وَفْداً [مريم: 85] وإن كان الكافر يستقبله أقبح شيء صورة
وأنتنه ريحا فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا أن الله تعالى قد
قبح صورتك ونتن ريحك فيقول: كذلك كنت في الدنيا أنا عملك
السيّء طالما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك وتلا وَهُمْ
يَحْمِلُونَ الآية.
وبعضهم يجعل كل ما ورد في هذا الباب مما ذكر تمثيلا أيضا. ولا
مانع من الحمل على الحقيقة وإجراء الكلام على ظاهره، وقد قال
كثير من أهل السنة بتجسيم الأعمال في تلك الدار وهو الذي
يقتضيه ظاهر الوزن.
أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ تذييل مقرر لما قبله وتكملة له، وساءَ
تحتمل- كما قيل- هنا ثلاثة أوجه، أحدها أن تكون المتعدية
المتصرفة وزنها فعل بفتح العين، والمعنى ألا ساءهم ما يزرون
وما موصولة أو مصدرية أو نكره موصوفة فاعل لها والكلام خبر،
وثانيها أنها حولت إلى فعل اللازم بضم العين وأشربت معنى
التعجب، والمعنى ما أسوأ الذي يزرونه أو ما أسوأ وزرهم.
وثالثها أنها حولت أيضا للمبالغة في الذم فتساوي بئس في المعنى
والأحكام.
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ لما حقق
سبحانه وتعالى فيما سبق أن وراء الحياة الدنيا حياة أخرى يلقون
فيها من الخطوب ما يلقون بين جل شأنه حال تينك الحياتين في
أنفسهما وجعله بعضهم جوابا لقولهم: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا
الدُّنْيا وفيه بعد، وكيفما كان فالمراد وما أعمال الحياة
الدنيا المختصة بها إلا كاللعب واللهو في عدم النفع والثبات،
وبهذا التقدير خرج- كما قال غير واحد- ما فيها من الأعمال
الصالحة كالعبادة إنما كان لضرورة المعاش، والكلام من التشبيه
البليغ ولو لم يقدر مضاف، وجعلت الدنيا نفسها لعبا ولهوا
مبالغة كما في قوله:
وإنما هي إقبال وإدبار صح، واللهو واللعب- على ما في درة
التنزيل- يشتركان في أنهما الاشتغال بما لا يعني العاقل ويهمه
من هوى وطرب سواء كان حراما أو لا وفرق بينهما بأن اللعب ما
قصد به تعجيل المسرة والاسترواح به واللهو كل ما شغل من هوى
وطرب وإن لم يقصد به ذلك، وإذا أطلق اللهو فهو- على ما قيل-
اجتلاب المسرة بالنساء كما في قوله:
ألا زعمت بسياسة اليوم أنني ... كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي
وقال قتادة: اللهو في لغة اليمن المرأة، وقيل: اللعب طلب
المسرة والفرح بما لا يحسن أن يطلب به واللهو صرف الهم بما لا
يصلح أن يصرف به، وقيل: إن كل شغل أقبل عليه لزم الإعراض عن كل
ما سواه لأن من لا يشغله شأن عن شأن هو الله تعالى فإذا أقبل
على الباطل لزم الإعراض عن الحق فالإقبال على الباطل لعب
والإعراض عن الحق لهو، وقيل: العاقل المشتغل بشيء لا بد له من
ترجيحه وتقديمه على غيره فإن قدمه من غير ترك للآخر فلعب وإن
تركه ونسيه به فهو لهو، وقد بين صاحب الدرة بعد أن سرد هذه
الأقوال سر تقديم اللعب على اللهو حيث جمعا كما هنا وتأخيره
عنه كما في العنكبوت بأنه لما كان هذا الكلام مسوقا للرد على
الكفرة فيما يزعمونه من إنكار الآخرة والحصر السابق وليس في
اعتقادهم لجهلهم إلا ما عجل من المسرة بزخرف الدنيا الفانية
قدم اللعب الدال على ذلك وتمم باللهو أو لما طلبوا الفرح بها
وكان مطمح نظرهم وصرف الهم لازم وتابع له قدم ما قدم أو لما
أقبلوا على الباطل في أكثر أقوالهم وأفعالهم قدم ما يدل على
ذلك أو لما كان التقديم مقدما على الترك والنسيان قدم اللعب
على اللهو رعاية للترتيب الخارجي، وأما في العنكبوت فالمقام
لذكر قصر مدة الحياة الدنيا بالقياس إلى الآخرة وتحقيرها
بالنسبة إليها
(4/126)
ولذا ذكر اسم الإشارة المشعر بالتحقير وعقب
ذلك بقوله سبحانه وتعالى: إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ
الْحَيَوانُ [العنكبوت: 64] والاشتغال باللهو مما يقصر به
الزمان وهو أدخل من اللعب فيه، وأيام السرور فصار كما قيل:
وليلة إحدى الليالي الزهر ... لم تك غير شفق وفجر
وينزل على هذا الوجوه في الفرق، وتفصيله في الدرة قاله مولانا
شهاب الدين فليفهم وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ التي هي محل الحياة
الأخرى خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الكفر والمعاصي لخلوص
منافعها عن المضار والآلام وسلامة لذاتها عن الانصرام أَفَلا
تَعْقِلُونَ ذلك حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والعصيان،
والفاء للعطف على محذوف أي أتغفلون أو ألا تتفكرون فلا تعقلون،
وكان الظاهر أن يقال- كما قال الطيبي- وما الدار الآخرة إلا جد
وحق لمكان وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ
إلا أنه وضع خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ. موضع ذلك إقامة
للمسبب مقام السبب، وقال في الكشف: إن في ذلك دليلا على أن ما
عدا أعمال المتقين لعب ولهو لأنه لما جعل الدار الآخرة في
مقابلة الحياة الدنيا وحكم على الأعمال المقابل بأنها لعب ولهو
علم تقابل العملين حسب تقابل ما أضيفا إليه أعني الدنيا
والآخرة فإذا خص الخيرية بالمتقين لزم منه أن ما عدا أعمالهم
ليس من أعمال الآخرة في شيء فهو لعب ولهو لا يعقب منفعة.
وقرأ ابن عامر «ولدار الآخرة» بالإضافة وهي من إضافة الصفة إلى
الموصوف وقد جوزها الكوفيون، ومن لم يجوز ذلك تأوله بتقدير
ولدار النشأة الآخرة أو إجراء الصفة مجرى الاسم، وقرأ ابن كثير
وغيره «يعقلون» بالياء والضمير للكفار القائلين إِنْ هِيَ
إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا، وقيل: للمتقين والاستفهام للتنبيه
والحث على التأمل. قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي
يَقُولُونَ استئناف مسوق لتسلية رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم عن الحزن الذي يعتريه عليه الصلاة والسلام مما حكي عن
الكفرة من الإصرار على التكذيب والمبالغة، وكلمة قد للتكثير
وهو- كما قال الحلبي رادا به اعتراض أبي حيان- راجع إلى
متعلقات العلم لا العلم نفسه إذ صفة القديم لا تقبل الزيادة
والتكثير وإلا لزم حدوثها المستلزم لحدوث من قامت به سبحانه
وتعالى، وقال السفاقسي: قد تصح الكثرة باعتبار المعلومات وما
في حيز العلم هنا كثير بناء على أن الفعل المذكور دال على
الاستمرار التجددي، وأنشدوا على إفادتها ذلك بقول الهذلي:
قد أترك القرن مصفرا أنامله ... كأن أثوابه مجت بفرصاد
وادعى أبو حيان أن إفادتها للتكثير قول غير مشهور للنحاة وإن
قال به بعضهم. وكلام سيبويه حيث قال: وتكون قد بمنزلة ربما ليس
نصا في ذلك وما استشهدوا به على دعواهم إنما فهم التكثير فيه
من سياق الكلام ومنه البيت فإن التكثير إنما فهم فيه لأن الفخر
إنما يحصل بكثرة وقوع المفتخر به. وذكر بعض المحققين أن الحق
ما قاله ابن مالك أن إطلاق سيبويه أنها بمنزلة ربما يوجب
التسوية بينهما في التقليل والصرف إلى المضي والبيت دليل عليه
فإن الفخر يقع بترك الشجاع قرنه وقد صبغت أثوابه بدمائه في بعض
الأحيان.
وقول أبي حيان: إن الفخر إنما يحصل بكثرة إلخ غير مسلم على
إطلاقه بل هو فيما يكثر وقوعه وأما ما يندر فيفتخر بوقوعه
نادرا لأن قرن الشجاع لو غلبه كثيرا لم يكن قرنا له لأن القرن
بكسر القاف وسكون الراء المقاوم المساوي.
وفي القاموس القرن كفؤك في الشجاعة أو أعم، فلفظه يقتضي بحسب
دقيق النظر أنه لا يغلبه إلا قليلا وإلا لم يكن قرنا ويتناقض
أول الكلام وآخره، وادعى الطيبي أن لفظ قد للتقليل، وقد يراد
به في بعض المواضع ضده. وهو من
(4/127)
باب استعارة أحد الضدين للآخر، والنكتة
هاهنا تصبير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أذى قومه
وتكذيبهم، يعني من حقك وأنت سيد أولي العزم أن لا تكثر الشكوى
من أذى قومك وأن لا يعلم الله تعالى من إظهارك الشكوى إلا
قليلا وأن يكون تهكما بالمكذبين وتوبيخا لهم.
ونص بعضهم على أن قد هنا للتقليل على معنى أن ما هم فيه أقل
معلوماته تعالى، وضمير إِنَّهُ للشأن وهو اسم إن وخبرها الجملة
المفسرة له، والموصول فاعل يحزنك وعائده محذوف أي الذي يقوله،
وهو ما حكي عنهم من قولهم إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ [الأنعام: 25، الأنفال: 31، المؤمنون: 83،
النمل: 68] أو هو وما يعمه وغيره من هذيانهم وجملة إِنَّهُ إلخ
سادة مسد مفعولي يعلم.
وقرأ نافع «ليحزنك» من أحزن المنقول من حزن اللازم، وقوله
سبحانه: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ تعليل لما يشعر به
الكلام السابق من النهي عن الاعتداد بما قالوا بطريق التسلي
بما يفيده من بلوغه صلّى الله عليه وسلّم في جلالة القدر ورفعة
الشأن غاية ليس وراءها غاية حيث نفى تكذيبهم قاتلهم الله تعالى
عنه صلّى الله عليه وسلّم وأثبته لآياته تعالى على طريقة قوله
سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما
يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] إيذانا بكمال القرب واضمحلال
شؤونه صلّى الله عليه وسلّم في شأن الله عز وجل. وفيه أيضا
استعظام لجنايتهم منبىء عن عظم عقوبتهم كأنه قيل: لا تعتد به
وكله إلى الله تعالى فإنهم في تكذيبهم ذلك لا يكذبونك في
الحقيقة وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ
أي ولكنهم بآياته تعالى يكذبون، فوضع المظهر موضع المضمر
تسجيلا عليهم بالرسوخ في الظلم الذي جحودهم هذا فن من فنونه،
وقيل: إن كان المراد من الظلم مطلقه فالوضع للإشارة إلى أن ذلك
دأبهم وديدنهم وأنه علة الجحود لأن التعليق بالمشتق يفيد علية
المأخذ، وإن أريد به الظلم المخصوص فهو عين الجحد وواقع به نحو
ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ [البقرة:
54] فيكون المبتدأ مشيرا إلى وجه بناء الخبر كقوله:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول
وقيل: إن أل في الظَّالِمِينَ إن كانت موصولة واسم الفاعل
بمعنى الحدوث أفاد الكلام سببية الجحد للظلم، وإن كانت حرف
تعريف واسم الفاعل بمعنى الثبوت أفاد سببية الظلم للجحد، لا
يخفى ما فيه، والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة
واستعظاما لما قدموا عليه، وإيراد الجحود في مورد التكذيب
للإيذان بأن آياته سبحانه من الوضوح بحيث يشاهد صدقها كل أحد
وأن من ينكرها فإنما ينكرها بطريق الجحود وهو كالجحد نفى ما في
القلب ثباته أو إثبات ما في القلب نفيه. والباء متعلق بيجحدون
والجحد يتعدى بنفسه وبالباء فيقال جحده حقه وبحقه وهو الذي
يقتضيه ظاهر كلام الجوهري والراغب، وقيل: إنه إنما يتعدى بنفسه
والباء هاهنا لتضمينه معنى التكذيب، وأيا ما كان فتقديم الجار
والمجرور مراعاة لرؤوس الآي أو للقصر. ونقل الطبرسي عن أبي علي
أن الجار متعلق بالظالمين وفيه خفاء. وما ذكر من أن الفاء
لتعليل ما يشعر به الكلام هو الذي قرره بعض المحققين، وقيل:
إنها تعليل لقوله سبحانه:
قَدْ نَعْلَمُ إلخ بناء على أن معناه لا تحزن كما يقال في مقام
المنع والزجر: نعلم ما تفعل فكأنه قيل: لا تحزن مما يقولون فإن
التكذيب في الحقيقة لي وأنا الحليم الصبور فتخلق بأخلاقي،
ويحتمل أن يكون المعنى أنه يحزنك قولهم لأنه تكذيب لي فأنت لم
تحزن لنفسك بل لما هو أهم وأعظم، ولا يخفى أن هذا خلاف
المتبادر، وقيل معنى الآية فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم
يجحدون بألسنتهم وروي ذلك عن قتادة وغيره ويؤيده ما
رواه السدي أنه التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل فقال الأخنس
لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد صلّى الله عليه وسلّم
أصادق هو أم كاذب فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيري؟ فقال
أبو جهل: والله إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم لصادق وما كذب
محمد عليه الصلاة
(4/128)
والسلام قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء
والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش
فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وكذا ما
أخرجه الواحدي عند مقاتل قال: كان الحارث بن عامر بن نوفل بن
عبد مناف بن قصي بن كلاب يكذب النبي صلّى الله عليه وسلّم في
العلانية فإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد صلّى الله عليه
وسلّم من أهل الكذب ولا أحسبه إلا صادقا فأنزل الله تعالى
الآية،
وقيل: المعنى أنهم ليس قصدهم تكذيبك لأنك عندهم موسوم بالصدق
وإنما يقصدون تكذيبي والجحود بآياتي، ونسب هذا إلى الكسائي،
وأيد بما
أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه عن علي كرم الله تعالى وجهه أن
أبا جهل كان يقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم ما نكذبك وإنك
عندنا لصادق ولكنا نكذب ما جئتنا به فنزلت. وكذا أخرج الواحدي
عن أبي ميسرة.
واعترض الرضي هذا القول بأنه لا يجوز أن يصدقوه صلّى الله عليه
وسلّم في نفسه ويكذبوا ما أتى به لأن من المعلوم أنه عليه
الصلاة والسلام كان يشهد بصحة ما أتى به وصدقه وأنه الدين
القيم والحق الذي لا يجوز العدول عنه فكيف يجوز أن يكون صادقا
في خبره ويكون الذي أتى به فاسدا بل إن كان صادقا فالذي أتى به
صحيح وإن كان الذي أتى به فاسدا فلا بد أن يكون كاذبا فيه،
وقال مولانا سنان: إن حاصل المعنى أنهم لا يكذبونك في نفس
الأمر لأنهم يقولون إنك صادق ولكن يتوهمون أنه اعترى عقلك
وحاشاك نوع خلل فخيل إليك أنك نبي وليس الأمر بذاك وما جئت به
ليس بحق وقال الطيبي: مرادهم أنك لا تكذب لأنك الصادق الأمين
ولكن ما جئت به سحر، ويعلم من هذا الجواب عن اعتراض الرضي
فتدبر، وقيل: معنى الآية أنهم لا يكذبونك فيما وافق كتبهم وإن
كذبوك في غيره، وقيل:
المعنى لا يكذبك جميعهم وإن كذبك بعضهم وهم الظالمون المذكورون
في هذه الآية، وعلى هذا لا يكون ذكر الظَّالِمِينَ من وضع
المظهر موضع المضمر، وقيل: غير ذلك ولا يخفى ما هو الأليق
بجزالة التنزيل.
وقرأ نافع، والكسائي والأعمش عن أبي بكر
«لا يكذبونك» من الإكذاب وهي قراءة علي كرم الله تعالى وجهه،
ورويت أيضا عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه، فقال الجمهور
كلاهما بمعنى كأكثر وكثر وأنزل ونزل وقيل: معنى أكذبته وجدته
كاذبا كأحمدته بمعنى وجدته محمودا، ونقل أحمد بن يحيى عن
الكسائي أن العرب تقول:
كذبت بالتشديد إذا نسبت الكذب إليه وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى
ما جاء به دونه، وقوله تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ
قَبْلِكَ تسلية إثر تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن
عموم البلوى ربما يهونها بعض تهوين وفيه إرشاد له عليه الصلاة
والسلام إلى الاقتداء بمن قبله من الرسل الكرام في الصبر على
الأذى وعدة ضمنية بمثل ما منحوه من النصر، وتصدير الكلام
بالقسم لتأكيد التسلية، وتنوين رُسُلٌ للتفخيم والتكثير، ومن
متعلقة بكذبت وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع صفة لرسل، ورده أبو
البقاء بأن الجثة لا توصف بالزمان، وفيه منع ظاهر، والمعنى
تالله لقد كذبت من قبل تكذيبك رسل أولو شأن خطير وعدد كثير أو
كذبت رسل كانوا من زمان قبل زمانك فَصَبَرُوا عَلى ما
كُذِّبُوا ما مصدرية وقوله: وَأُوذُوا عطف على كُذِّبُوا داخل
في حكمه ومصدر كذب التكذيب، وآذى أذى وأذاة وأذية كما في
القاموس وإيذاء كما أثبته الراغب وغيره، وقول صاحب القاموس:
ولا تقل إيذاء خطأ، والذي غره ترك الجوهري وغيره له، وهو وسائر
أهل اللغة لا يذكرون المصادر القياسية لعدم الاحتياج إلى
ذكرها، والمصدران هنا من المبني للمفعول وهو ظاهر أي فصبروا
على تكذيب قومهم لهم وإيذائهم إياهم فتأس بهم واصبر على ما
نالك من قومك، والمراد بإيذائهم إما عين تكذيبهم أو ما يقارنه
من فنون الإيذاء، واختاره الطبرسي ولم يصرح به ثقة باستلزام
التكذيب إياه غالبا، وفيه تأكيد للتسلية، وجوز العطف على
كُذِّبَتْ أو على فَصَبَرُوا، وجوز أبو البقاء أن يكون هذا
استئنافا ثم رجح الأول.
وقوله سبحانه: حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا غاية للصبر، وفيه
إيماء إلى وعد النصر للصابرين، وجوز أن يكون غاية
(4/129)
للإيذاء وهو مبني على احتمال الاستئناف،
والالتفات إلى نون العظمة للإشارة إلى الاعتناء بشأن النصر.
وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ تقرير لمضمون ما قبله من
إتيان نصره سبحانه إياهم، والمراد بكلماته تعالى- كما قال
الكلبي- وقتادة- الآيات التي وعد فيها نصر أنبيائه عليهم
الصلاة والسلام الدالة على نصر النبي صلّى الله عليه وسلّم
أيضا كقوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا
وَرُسُلِي [المجادلة: 21] وقوله عز شأنه: إِنَّهُمْ لَهُمُ
الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
[الصافات: 172] .
وجوز أن يراد بها جميع كلماته سبحانه التي من جملتها الآيات
المتضمنة للمواعيد الكريمة ويدخل فيها المواعيد الواردة في حقه
صلّى الله عليه وسلّم دخولا أوليا، والالتفات إلى الاسم
الجليل- كما قيل- للإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية من موجبات
أن لا يغالبه سبحانه أحد في فعل من الأفعال ولا يقع منه جل
شأنه خلف في قول من الأقوال، وظاهر الآية أن أحدا غيره تعالى
لا يستطيع أن يبدل كلمات الله عز وجل بمعنى أن يفعل خلاف ما
دلت عليه ويحول بين الله عز اسمه وبين تحقيق ذلك وأما أنه
تعالى لا يبدل فلا تدل عليه الآية، والذي دلت عليه النصوص أنه
سبحانه ربما يبدل الوعيد ولا يبدل الوعد وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ
نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ تقرير أي تقرير لما منحوا من النصر
وتأكيد لما أشعر به الكلام من الوعد لرسول الله صلّى الله عليه
وسلّم أو تقرير لجميع ما ذكر من تكذيب الرسل عليهم الصلاة
والسلام وإيذائهم ونصرهم، والنبأ كالقصص لفظا ومعنى.
وفي القاموس النبأ محركة الخبر جمعه أنباء وقيده بعضهم، وقد
مرت الإشارة إليه بما له شأن، وهو عند الأخفش المجوز زيادة من
في الإثبات وقبل المعرفة مخالفا في ذلك لسيبويه فاعل «جاء» ،
وصحح أن الفاعل ضمير مستتر تقديره هو أي النبأ أو البيان،
والجار متعلق بمحذوف وقع حالا منه، وقيل: وإليه يشير كلام
الرماني- أنه محذوف والجار والمجرور صفته أي ولقد جاءك نبأ
كائن من نبأ المرسلين، وفيه أن الفاعل لا يجوز حذفه هنا، وقال
أبو حيان:
الذي يظهر لي أن الفاعل ضمير عائد على ما دل عليه المعنى من
الجملة السابقة أي ولقد جاءك هذا الخبر من التكذيب وما يتبعه.
وقيل- وربما يشعر به كلام الكشاف-: أن من هي الفاعل، والمراد
بعض أنبائهم وَإِنْ كانَ كَبُرَ أي شق وعظم وأتى بكان- على ما
قيل- ليبقى الشرط على المضي ولا ينقلب مستقبلا لأن كانَ لقوة
دلالته على المضي لا تقلبه إن للاستقبال بخلاف سائر الأفعال،
وهو مذهب المبرد، والنحويون يؤولون ذلك بنحو وإن تبين وظهر أنه
كبر عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ أي الكفار عن الإيمان بك وبما جئت
به من القرآن المجيد حسبما يفصح عنه قولهم فيه أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ وينبىء عنه فعلهم من النأي والنهي، ولعل التعبير
بالإعراض دون التكذيب مع أن التسلية على ما ينبىء عنه قوله
تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ كانت عنه
لتهويل أمر التكذيب وهو فاعل كَبُرَ، وتقديم الجار والمجرور
لما مر مرارا. والجملة خبر كانَ مفسرة لاسمها الذي هو ضمير
الشأن. ولا حاجة إلى تقدير قد، وقيل: اسم كان إِعْراضُهُمْ،
وكَبُرَ مع فاعله المستتر الراجع إلى الاسم خبر لها مقدم على
اسمها، والكلام استئناف مسوق لتأكيد إيجاب الصبر المستفاد من
التسلية ببيان أن ذلك أمر لا محيد عنه أصلا.
وفي بعض الآثار أن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أتى
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في محضر من قريش فقالوا: يا
محمد ائتنا بآية من عند الله تعالى كما كانت الأنبياء تفعل
وإنا نصدقك فأبى الله تعالى أن يأتيهم بآية مما اقترحوا
فأعرضوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشق ذلك عليه عليه
الصلاة والسلام لما أنه كان صلّى الله عليه وسلّم شديد الحرص
على إيمان قومه فكان إذا سألوه آية يود أن ينزلها الله تعالى
طمعا في إيمانهم فنزلت فَإِنِ اسْتَطَعْتَ
أي إن قدرت وتهيأ لك أَنْ
(4/130)
تَبْتَغِيَ
أي تطلب نَفَقاً فِي الْأَرْضِ هو السرب فيها له مخلص إلى مكان
كما في القاموس، وأصل معناه جحر اليربوع، ومنه النافقاء لأحد
منافذه. ويقال لها النفقة كهمزة وهي التي يكتمها ويظهر غيرها
فإذا أتى من القاصعاء ضربها برأسه فانتفق ومنه أخذ النفاق،
والجار متعلق بمحذوف وقع صفة «نفقا» والكلام على التجريد في
رأي، وجوز تعلقه بتبتغي وبمحذوف وقع حالا من ضميره المستتر أي
نفقا كائنا في الأرض أو تبتغي في الأرض أو تبتغي أنت حال كونك
في الأرض أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ أي مرقاة فيها أخذا من
السلامة. قال الزجاج: لأنه الذي يسلمك إلى مصعدك.
وهو كما قال الفراء: مذكر واستشهدوا لتذكيره بقوله تعالى: أَمْ
لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ [الطور: 38] ثم قال:
وأنشدت في تأنيثه بيتا أنسيته انتهى.
قال الغضائري: البيت الذي أنسيه الفراء بيت أوس وهو:
لنا سلم في المجد لا يرتقونها ... وليس لهم في سورة المجد سلم
وأنشدوا أيضا في تذكيره:
الشعر صعب وطويل سلمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
يريد أن يعربه فيعجمه وفي السَّماءِ نظير ما في الجار قبله من
الاحتمالات فَتَأْتِيَهُمْ أي منهما بِآيَةٍ مما اقترحوه من
الآيات. والفاء في صدر هذه الشرطية جوابية وجواب الشرط فيه
محذوف. ولك تقديره أتيت بصيغة الخبر أو فافعل فعل أمر والجملة
جواب للشرط الأول، والمعنى إن شق عليك إعراضهم عن الإيمان
وأحببت أن تجيبهم عما سألوه اقتراحا ليؤمنوا فإن استطعت كذا
فتأتيهم بآية فافعل، وفيه إشارة إلى مزيد حرصه صلّى الله عليه
وسلّم على إيمان قومه وتحصيل مطلوبهم واقتراحهم مع الإيماء إلى
توبيخ القوم أو المعنى إن شق عليك إعراضهم فلو قدرت أن تأتي
بالمحال أتيت به، والمقصود بيان أنه صلّى الله عليه وسلّم بلغ
في الحرص على إيمانهم إلى هذه الغاية، وفيه إشعار ببعد إسلامهم
عن دائرة الوجود كما لا يخفى على المتدبر، وإيثار الابتغاء على
الاتخاذ ونحوه للإيذان بأن ما ذكر من النفق والسلم مما لا
يستطيع ابتغاءه فكيف باتخاذه.
وجوز أن يكون ابتغاء ذينك الأمرين أعني نفس النفوذ في الأرض
والصعود إلى السماء آية، فالفاء في فَتَأْتِيَهُمْ حينئذ
تفسيرية وتنوين «آية» للتفخيم، والمعنى عليه فإن استطعت
ابتغاءهما فتجعل ذلك آية لهم فعلت.
ورده أبو حيان بأن هذا لا يظهر من ظاهر اللفظ إذ لو كان كذلك
لكان التركيب فتأتيهم بذلك آية أي آية، وأيضا فأي آية في دخول
سرب في الأرض وإن صح أن يكون الرقي إلى السماء آية، وما ذكرناه
من أن إيتاء الآية منهما هو الظاهر المتبادر إلى الأذهان.
ورواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء
والصفات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: إن المراد
فتأتيهم بآية من السماء وابتغاء النفق للهرب، وأيد بما أخرجه
الطستي عن نافع بن الأزرق أنه قال لابن عباس رضي الله تعالى
عنهما: أخبرني عن قوله تعالى: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ
تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ فقال رضي الله تعالى عنه
سربا في الأرض فتذهب هربا وفيه بعد، وخبر ابن الأزرق قد قيل
فيه ما قيل وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى أي
لو شاء الله تعالى جمعهم على ما أنتم عليه من الهدى لجمعهم
عليه بأن يوفقهم للإيمان فيؤمنوا معكم ولكن لم يشأ ذلك سبحانه
لسوء اختيارهم حسبما علمه الله تعالى منهم في أزل الآزال،
وقالت المعتزلة: المراد لو شاء سبحانه جمعهم على الهدى لفعل
بأن يأتيهم بآية ملجئة إليه لكنه جل شأنه لم يفعل ذلك
(4/131)
لخروجه عن الحكمة، والحق ما عليه أهل السنة
فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ أي إذا عرفت أنه سبحانه لم
يشأ هدايتهم وإيمانهم فلا تكن بالحرص الشديد على إسلامهم أو
الميل إلى نزول مقترحاتهم من قوم ينسبون إلى الجهل بدقائق
شؤونه تعالى، وجوز أن يراد بالجاهلين- على ما نقل عن المعتزلة-
المقترحون، ويراد بالنهي منعه صلى الله تعالى عليه وسلّم من
المساعدة على اقتراحهم، وإيرادهم بعنوان الجهل دون الكفر لتحقق
مناط النهي.
وقال الجبائي: المراد لا تجزع في مواطن الصبر فيقارب حالك حال
الجاهلين بأن تسلك سبيلهم والأول أولى، وفي خطابه سبحانه لنبيه
صلّى الله عليه وسلّم بهذا الخطاب دون خطابه بما خوطب به نوح
عليه السلام من قوله سبحانه له: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ
مِنَ الْجاهِلِينَ [هود: 46] إشارة إلى مزيد شفقته صلّى الله
عليه وسلّم واشتداد حرصه عليه الصلاة والسلام فافهم هذا.
ومن باب الإشارة في الآيات: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ
وَالنَّهارِ [الأنعام: 13] يحتمل أن يكون الليل والنهار إشارة
إلى قلب الكافر وقلب المؤمن وما سكن فيهما الكفر والإيمان
ومعنى كون ذلك له سبحانه أنه من آثار جلاله وجماله، ويحتمل أن
يكون إشارة إلى قلب العارف في حالتي القبض والبسط فكأنه قيل:
وله ما سكن في قلوب العارفين المنقبضة والمنبسطة من آثار
التجليات فلا تلتفت في الحالتين إلى سواه عز شأنه وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فيسمع خواطرها السيئة والحسنة ويعلم
شرها وخيرها أو فيسمع أنينها في شوقه ويعلم انسهابه أو نحو
ذلك.
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا أي ناصرا ومعينا
فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبدعهما فهي ملكه سبحانه
ونسبة المملوك إلى المالك نسبة اللاشيء إلى الشيء وَهُوَ
يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ فهو الغنى المطلق وغيره جل شأنه محتاج
بحت وطلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة من عقله قُلْ
إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ نفسه لربه
عز شأنه. والمراد بالأمر بذلك الأمر الكوني أي قل إني قيل لي:
كن أول من أسلم فكنت، وذلك قبل ظهور هذه التعينات وإليه
الإشارة بما شاع من
قوله صلّى الله عليه وسلّم «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين»
فأول روح ركضت في ميدان الخضوع والانقياد والمحبة روح نبينا
صلّى الله عليه وسلّم وقد أسلم نفسه لمولاه بلا واسطة وكل
إخوانه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما أسلموا نفوسهم
بواسطته عليه الصلاة والسلام فهو صلّى الله عليه وسلّم المرسل
إلى الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام في عالم الأرواح
وكلهم أمته وهم نوابه في عالم الشهادة، ولا ينافي ذلك أمره
عليه الصلاة والسلام باتباع بعضهم في النشأة الجسمانية لأن ذلك
لمحض استجلاب المعتقدين بأولئك البعض على أحسن وجه وَلا
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي وقيل لي: لا تكونن ممن أشرك
مع الله تعالى أحدا بشيء من الأشياء. وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ
عِبادِهِ بإفنائهم والتصرف بهم كيف شاء وَهُوَ الْحَكِيمُ أي
الذي يفعل ما يفعل في عباده بالحكمة الْخَبِيرُ الذي يطلع على
خفايا الأحوال ومراتب الاستحقاق قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ
شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ بإظهار
المعجزات، وأعظم من ذلك عند العارفين ظهور أنوار الله تعالى في
مرآة وجهه الشريف صلّى الله عليه وسلّم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ
الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ
[البقرة: 146] وذلك بالصفات التي وجدوها في كتابهم لا بالنور
المتلألئ على صفحات ذلك الوجه الكريم وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ
افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بإثبات وجود غيره تعالى أَوْ
كَذَّبَ بِآياتِهِ فأظهر صفات نفسه إِنَّهُ لا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ لاحتجابهم بما وضعوه في موضع ذات الله تعالى
وصفاته جل وعلا وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً وهو يوم
القيامة الكبرى وعين الجمع ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ
أَشْرَكُوا بإثبات الغير أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ
كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنهم شركاء ولهم وجود ثُمَّ لَمْ تَكُنْ
فِتْنَتُهُمْ أي نهاية شركهم عند ظهور الأمر وبروز الكل لله
الواحد القهار إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا
مُشْرِكِينَ لامتناع وجود شيء نشركه
(4/132)
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ
بنفي الشرك عنها مع رسوخ ذلك الاعتقاد فيها وَضَلَّ أي ضاع
عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ فلم يجدوه وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ من حيث أنت وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ
أَكِنَّةً حسبما اقتضاه استعدادهم أَنْ يَفْقَهُوهُ وهي ظلمات
النفس الأمارة وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وهو وقر الضلالة وَإِنْ
يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها لأن على أبصارهم غشاوة
العجب والجهل وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ وهي
نار الحرمان فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ
بِآياتِ رَبِّنا من تجليات صفاته وَنَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أي الموحدين بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا
يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ في أنفسهم من الملكات الرديئة والهيئات
المظلمة والصفات المهلكة وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا
عَنْهُ لرسوخ ذلك فيهم وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في الدنيا
والآخرة لأن الكذب عن ملكه فيهم وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا
عَلى رَبِّهِمْ الآية قال بعض أهل التأويل: هذا تصوير لحالهم
في الاحتجاب والبعد وإن كانوا في عين الجمع المطلق. والوقوف
على الشيء غير الوقوف معه فإن الأول لا يكون إلا كرها والثاني
يكون طوعا ورغبة، فالواقف مع الله سبحانه بالتوحيد لا يوقف
للحساب، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ
مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ
[الكهف: 28] ويثاب هذا بأنواع النعيم في الجنان كلها. ومن وقف
مع الغير بالشرك وقف على الرب تعالى وعذب بأنواع العذاب لأن
الشرك ظلم عظيم. ومن وقف مع الناسوت بمحبة الشهوات وقف على
الملكوت وعذب بنيران الحرمان وسلط عليه زبانية الهيئات المظلمة
وقرن بشياطين الأهواء المردية ومن وقف مع الأفعال وقف على
الجبروت وعذب بنار الطمع والرجاء ورد إلى مقام الملكوت، ومن
وقف مع الصفات. وقف على الذات وعذب بنار الشوق والهجران. وليس
هذا هو الوقوف على الرب لأن فيه حجاب الآنية وفي الوقوف على
الذات معرفة الرب الموصوف بصفات اللطف. والمشرك موقوف أولا على
الرب فيحجب بالرد والطرد اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ
[المؤمنون: 108] ثم على الجبروت فيطرد بالسخط واللعن وَلا
يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ [البقرة: 174، آل عمران: 77] ثم على الملكوت فيزجر
بالغضب واللعن قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ [الزمر: 72]
ثم على النار يسجرون فيعذب بأنواع النيران أبدا فيكون وقفه على
النار متأخرا عن وقفه على الرب تعالى معلولا له كما قال تعالى:
ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ
الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ [يونس: 70] وأما الواقف مع
الناسوت فيوقف للحساب على
الملكوت ثم على النار. وقد ينجو لعدم السخط وقد لا ينجو
لوجوده. والواقف مع الأفعال لا يوقف على النار أصلا بل يحاسب
ويدخل الجنة. وأما الواقف مع الصفات فهو من الذين رضي الله
تعالى عنهم ورضوا عنه انتهى. فتأمل فيه قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ
بَغْتَةً وهي القيامة الصغرى أعني الموت. حكي عن بعض الكبار
أنه قيل له: إن فلانا مات فجأة فقال: لا عجب إذ من لم يمت فجأة
مرض فجأة فمات قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها
أي في حق تلك الساعة بترك العمل النافع وَهُمْ يَحْمِلُونَ
أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ تصوير لحالهم وَمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا أي الحياة الحسية فإن المحسوس أدنى وأقرب من المعقول
إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ لا أصل له ولا حقيقة سريع الفناء
والانقضاء وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ أي عالم الروحانيات خَيْرٌ
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وهم المتجردون عن ملابس الصفات البشرية
واللذات البدنية قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ لمقتضى
البشرية الَّذِي يَقُولُونَ ما يقولون فَإِنَّهُمْ لا
يُكَذِّبُونَكَ في الحقيقة وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ
اللَّهِ التي تجلى بها يَجْحَدُونَ فهو سبحانه ينتقم منهم
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما
كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نصرنا فتأس بهم وانتظر
الغاية وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ التي يتجلى بها
لعباده فليطمئن قلبك ولا تكونن من الجاهلين الذين لا يطلعون
على حكمة تفاوت الاستعدادات فتتأسف على احتجاب من احتجب وتكذيب
من كذب. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(4/133)
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ
الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ
ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ
عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى
أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
(37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ
بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي
الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ
(38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي
الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ
يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ
أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ
أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ
مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا
تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ
قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ
لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ
بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا
نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ
كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا
أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى
قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ
انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ
(46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ
بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ
الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا
يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ
اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي
مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ
(50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا
إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا
شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا
مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ
فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ
بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى
نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا
بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ
وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ
تقرير لما يفهمه الكلام السابق من أنهم لا يؤمنون. والاستجابة
بمعنى الإجابة، وكثيرا ما أجري استفعل مجرى أفعل كاستخلص بمعنى
أخلص واستوقد بمعنى أوقد إلى غير ذلك. ومنه قول الغنوي:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
ويدل على ذلك أنه قال مجيب ولم يقل: مستجيب. ومنهم من فرق بين
استجاب وأجاب بأن استجاب يدل على قبول، والمراد بالسماع الفرد
الكامل وهو سماع الفهم والتدبر بجعل ما عداه كلا سماع أي إنما
يجيب دعوتك إلى الإيمان الذين يسمعون ما يلقى إليهم سماع فهم
وتدبر دون الموتى الذين هؤلاء منهم كقوله تعالى:
(4/134)
فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى [الروم:
52] وَالْمَوْتى أي الكفار كما قال الحسن، ورواه عنه غير واحد
يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ من قبورهم إلى المحشر، وقيل: بعثهم
هدايتهم إلى الإيمان وليس بشيء ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
للجزاء فحينئذ يسمعون، وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى سماعهم لما
أن على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا، وفي إطلاق الموتى على
الكفار استعارة تبعية مبنية على تشبيه كفرهم وجهلهم بالموت كما
قيل:
لا يعجبن الجهول بزيه ... فذاك ميت ثيابه كفن
وقيل: الموتى على حقيقته، والكلام تمثيل لاختصاصه تعالى
بالقدرة على توفيق أولئك الكفار للإيمان باختصاصه سبحانه
بالقدرة على بعث الموتى الذين رمت عظامهم من القبور، وفيه
إشارة إلى أنه صلّى الله عليه وسلّم لا يقدر على هدايتهم لأنها
كبعث الموتى. وتعقب بأنه على هذا ليس لقوله سبحانه ثُمَّ
إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ كبير دخل في التمثيل إلا أن يراد أنه
إشارة إلى ما يترتب على الإيمان من الآثار، وفي إعراب
الْمَوْتى وجهان أحدهما أنه مرفوع على الابتداء، والثاني أنه
منصوب بفعل محذوف يفسره ما بعده واختاره أبو البقاء، ويفهم من
كلام مجاهد أنه مرفوع بالعطف على الموصول، والجملة بعده في
موضع الحال والظاهر خلافه. وقرىء «يرجعون» على البناء للفاعل
من رجع رجوعا. والمتواترة أوفى بحق المقام لانبائها عن كون
مرجعهم إليه تعالى بطريق الاضطرار.
وَقالُوا أي رؤساء قريش الذين بلغ بهم الجهل والضلال إلى حيث
لم يقنعوا بما شاهدوه من الآيات التي تخر لها صم الجبال ولم
يعتدوا به لَوْلا أي هلا نُزِّلَ أي أنزل عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ
رَبِّهِ ملجئة للإيمان قُلْ يا محمد إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى
أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً من الآيات الملجئة وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ
لا يَعْلَمُونَ فلا يدرون أن عدم تنزيلها مع ظهور قدرته سبحانه
وتعالى عليه لما أن في تنزيلها قلعا لأساس التكليف المبني على
قاعدة الاختيار أو استئصالا لهم بالكلية إذ ذلك من لوازم جحد
الآية الملجئة.
وجوز أن لا يكونوا قد طلبوا الملجئ ولا يلزم من عدم الاعتداد
بالمشاهد طلبه بل يجوز أن يكونوا قد طلبوا غير الحاصل مما لا
يلجىء لجاجا وعنادا، ويكون الجواب بالملجئ حينئذ من أسلوب
الحكيم أو يكون جوابا بما يستلزم مطلوبهم بطريق أقوى وهو أبلغ.
ومن لابتداء الغاية. والجار والمجرور يجوز أن يكون متعلقا
بنزل، وأن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لآية. وما يفيده التعرض
لعنوان ربوبيته تعالى له عليه الصلاة والسلام من الإشعار
بالعلية إنما هو بطريق التعريض بالتهكم من جهتهم. والاقتصار في
الجواب على بيان قدرته سبحانه وتعالى على التنزيل مع أنها ليست
في حيز الإنكار للإيذان بأن عدم تنزيله تعالى للآية مع قدرته
عليه بحكمة بالغة يجب معرفتها وهم عنها غافلون كما ينبىء عنه
الاستدراك. وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة مع الإشعار
بالعلية، ومفعول يَعْلَمُونَ إما مطروح بالكلية على معنى أنهم
ليسوا من أهل العلم أو محذوف مدلول عليه بقرينة المقام أي لا
يعلمون شيئا. وتخصيص عدم العلم بأكثرهم لما أن بعضهم واقفون
على حقيقة الحال وإنما يفعلون ما يفعلون مكابرة وعنادا. وقرأ
ابن كثير «ينزل» بالتخفيف، والمعنى هنا- كما قيل- واحد لأنه لم
ينظر إلى التدريج وعدمه.
وقوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ كلام مستأنف
مسوق- كما قال الطبرسي. وغيره- لبيان كمال قدرته عز وجل وحسن
تدبيره وحكمته وشمول علمه سبحانه وتعالى فهو كالدليل على أنه
تعالى قادر على الإنزال وإنما لا ينزل محافظة على الحكم
الباهرة، وقيل: إنه دليل على أنه سبحانه وتعالى قادر على البعث
والحشر والأول أنسب، وزيدت مِنْ تنصيصا على الاستغراق. والدابة
ما يدب من الحيوان، وأصله من دب يدب دبيبا إذا مشى مشيا فيه
تقارب خطو، والجار والمجرور متعلق بمحذوف أو مجرور أو مرفوع
وقع صفة لدابة، ووصفت بذلك لزيادة التعميم
(4/135)
كأنه قيل: وما من فرد من أفراد الدواب
يستقر في قطر من أقطار الأرض وجهها أو جوفها، وكذا الوصف في
قوله سبحانه وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ لزيادة التعميم
أيضا أي ولا فرد من أفراد الطير يطير في ناحية من نواحي الجو
بجناحيه، وقيل: إنه لقطع مجاز السرعة فقد استعمل الطيران في
ذلك كقوله:
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا
وكذا استعمل الطائر في العمل والنصيب مجازا كما في قوله تعالى:
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء:
13] .
واحتمال التجوز مع ذلك بجعله ترشيحا للمجاز بعيد لا يلتفت إليه
بدون قرينة، واختار بعض المتأخرين أن وجه الوصف تصوير تلك
الهيئة الغريبة الدالة على كمال القوة والقدرة. وأورد على
الوجهين السابقين أنه لو قيل: ولا طائر في السماء لكان أخضر
وفي إفادة ذينك الأمرين أظهر مع ما فيه من رعاية المناسبة بين
القرينتين بذكر جهة العلو في إحداهما وجهة السفل في الأخرى،
ورد- كما قال الشهاب- بأنه لو قيل: في السماء يطير بجناحيه لم
يشمل أكثر الطيور لعدم استقرارها في السماء، ثم إن قصد التصوير
لا ينافي قطع المجاز إذ لا مانع من إرادتهما جميعا كما لا
يخفى، ثم لما كان المقصود من ذكر هذين الأمرين الدلالة على
كمال قدرته جل وعلا ببيان ما يعرفونه ويشاهدونه من هذين
الجنسين وشمول قدرته وعلمه سبحانه لهما كان غيرهما غير مقصود
بالبيان، فالاعتراض بأن أمثال حيتان البحر خارجة عنهما،
والجواب بأنها داخلة في القسم الأول لأن الأرض فيه بمعنى جهة
السفل مما لا يلتفت إليه، وقرأ ابن أبي عبلة وَلا طائِرٍ
بالرفع عطف على محل الجار والمجرور كأنه قيل: وما دابة ولا
طائر إِلَّا أُمَمٌ أي طوائف متخالفة أَمْثالُكُمْ في أن
أحوالها محفوظة وأمورها معنية ومصالحها مرعية جارية على سنن
السداد منتظمة في سلك التقديرات الإلهية والتدبيرات الربانية،
وجمع الأمم باعتبار الحمل على معنى الجمعية المستفاد من العموم
كما اختاره غير واحد، وهو يقتضي جواز أن يقال: لا رجل قائمون،
والقياس- كما قيل- لا يأباه إلا أنه لم يرد إلا مع الفصل. وصرح
السيد السند بأن النكرة هاهنا محمولة على المجموع من حيث هو
مجموع، ولعل مراده أن النكرة المذكورة من حيث الإخبار عنها
محمولة على المجموع لا أنه مراد منها، فلا يرد أن الحكم بقوله
سبحانه وتعالى:
إِلَّا أُمَمٌ يأبى أن يكون التنكير فيما سبق على ما أشير إليه
للفردية لأن الفرد ليس بجماعة، وكذا يأبى أن يكون للنوعية أيضا
لأن الفرد ليس بجماعات وهو ظاهر، وأما ما قيل: إن النوع يشتمل
على أصناف وكل صنف أمة أو الأمة كل جماعة في زمان فيدفعه توصيف
أمم «بأمثالكم» إذ الخطاب بكم لافراد نوع الإنسان فالمناسب
تشبيه النوع بالنوع في كونهما محفوظي الأحوال لا تشبيه الصنف
بالنوع أو تشبيه جماعة في وقت بالنوع، نعم قال السكاكي في
المفتاح: إن ذكر فِي الْأَرْضِ مع دابة ويَطِيرُ بِجَناحَيْهِ
مع طائر لبيان أن القصد من لفظ دابة ولفظ طائر إنما هو إلى
الجنسين وإلى تقريرهما، وعليه لا إشكال في صحة الحمل لاشتمال
كل من الجنسين على أنواع كثيرة كل منها أمة كالإنسان فكأنه
قيل: ما من جنس من هذين الجنسين إلا أمم إلخ، وهذا كما يقال:
ما من رجل من هذين الرجلين إلا كذا، ومراده أن لفظ دَابَّةٍ
وطائِرٍ حامل لمعنى الجنس والواحدة فلبيان أن القصد من كل
منهما إلى الجنس من حيث هو دون الوحدة والكثرة وصف بصفة لازمة
للجنس من حيث هو أي بلا شرط شيء منهما والاستغراق المستفاد من
كلمة من بالنظر إلى الجنسين، وبهذا يندفع القول بوجوب تأويل
كلام السكاكي وإرجاعه إلى ما ذكره الزمخشري في هذا المقام،
وعليه لا يتصور كون الوصف مفيدا لزيادة التعميم والإحاطة لأن
الجنس من حيث هو أي لا بشرط شيء مفهوم واحد كما لا يخفى.
(4/136)
واعترض أيضا القول بالعموم بأنه كيف يصح مع
وجوب خروج المشبه به عنه. وأجيب بأن القصد أولا إلى العام
والمشبه به في حكم المستثنى بقرينة التشبيه كأنه قيل: ما من
واحد من أفراد هذين الجنسين بعمومهما سواكم إلا أمم أمثالكم،
ولك أن تدعي دخول كل فرد من أفراد المخاطبين بالتزام أن له
اعتبارين اعتبار أنه مشبه واعتبار أنه مشبه به فتأمل جميع ذلك
ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ التفريط التقصير،
وأصله أن يتعدى بفي وقد ضمن هنا معنى أغفلنا وتركنا، فمن شيء
في موضع المفعول به ومن زائدة للاستغراق، ويبعد جعلها تبعيضية
أي ما فرطنا في الكتاب بعض شيء وإن جوزه بعضهم، والمراد من
الكتاب القرآن واختاره البلخي وجماعة فإنه ذكر فيه جميع ما
يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا بل وغير ذلك إما مفصلا وإما
مجملا، فعن الشافعي عليه الرحمة ليست تنزل بأحد في الدين نازلة
إلا في كتاب الله تعالى الهدى فيها.
وروى البخاري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: «لعن
الله تعالى الواشمات والمتوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن
المغيرات خلق الله تعالى فقالت له امرأة في ذلك: فقال: ما لي
لا ألعن من لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في كتاب
الله تعالى فقالت له: قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما
تقول قال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت وَما آتاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
[الحشر: 7] قالت: بلى قال: فإنه عليه الصلاة والسلام قد نهى
عنه» وقال الشافعي رحمه الله تعالى مرة بمكة: سلوني عما شئتم
أخبركم عنه من كتاب الله تعالى فقيل له: ما تقول في المحرم
يقتل الزنبور؟ فأجاب بأنه يقتله واستدل عليه بنحو استدلال ابن
مسعود رضي الله تعالى عنه.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أنه قال: أنزل في هذا القرآن
كل علم وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في
القرآن.
وأخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة عن أبي هريرة رضي الله تعالى
عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله سبحانه
وتعالى لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة»
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لو ضاع لي عقال بعير
لوجدته في كتاب الله تعالى، وقال المرسي: جمع القرآن علوم
الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به
ثم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلا ما استأثر الله تعالى
به، وقد سمعت من بعضهم والعهدة عليه أن الشيخ الأكبر محيي
الدين بن العربي قدس الله تعالى سره وقع يوما عن حماره فرضت
رجله فجاؤوا ليحملوه فقال: امهلوني فأمهلوه يسيرا ثم أذن لهم
فحملوه فقيل له في ذلك فقال: راجعت كتاب الله تعالى فوجدت خبر
هذه الحادثة قد ذكر في الفاتحة، وهذا أمر لا تصله عقولنا.
ومثله استخراج بعضهم من الفاتحة أيضا أسماء سلاطين آل عثمان
وأحوالهم ومدة سلطنتهم إلى ما شاء الله تعالى من الزمان، ولا
بدع فهي أم الكتاب وتلد كل أمر عجيب، وعلى هذا لا حاجة إلى
القول بتخصيص الشيء بما يحتاج إليه من دلائل التوحيد
والتكاليف، وقال أبو البقاء:
إن شيئا هنا واقع موقع المصدر أي تفريطا، ولا يجوز أن يكون
مفعولا به لأن فَرَّطْنا لا تتعدى بنفسها بل بحرف الجر وقد
عديت بفي إلى الكتاب فلا تتعدى بحرف آخر وتبعه في ذلك غير
واحد، وجعلوا ما يفهم من القاموس من تعدي هذا الفعل بنفسه حيث
قال: فرط الشيء وفرط فيه تفريطا ضيعه وقدم العجز فيه وقصر مما
تفرد به في مقابلة من هو أطول باعا منه مع أنه يحتمل أن تعديته
المذكورة فيه ليست وضيعة بل مجازية أو بطريق التضمين الذي أشير
إليه سابقا، وعلى هذا لا يبقى- كما قال أبو البقاء- في الآية
حجة لمن ظن أن الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء، والكلام حينئذ
نظير قوله تعالى: لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل
عمران: 120] أي ضيرا. وأورد عليه أنه ليس كما ذكر لأنه إذا
تسلط النفي على المصدر كان منفيا على جهة العموم ويلزمه نفي
أنواع المصدر وهو يستلزم نفي جميع
(4/137)
أفراده وليس بشيء لأنه يريد أن المعنى
حينئذ أن جميع أنواع التفريط منفية عن القرآن وهو مما لا شبهة
فيه ولا يلزمه أن يذكر فيه كل شيء كما لزم على الوجه الآخر،
وأيا ما كان فالجملة اعتراضية مقررة لمضمون ما قبلها فإن من
جملة الأشياء أنه تعالى مراع لمصالح جميع مخلوقاته على ما
ينبغي، وعن الحسن وقتادة أن المراد بالكتاب الكتاب الذي عند
الله تعالى وهو مشتمل على ما كان ويكون وهو اللوح المحفوظ،
والمراد بالاعتراض حينئذ الإشارة إلى أن أحوال الأمم مستقصاة
هناك غير مقصورة على هذا القدر المجمل، وعن أبي مسلم أن المراد
منه الأجل أي ما من شيء إلا وقد جعلنا له أجلا هو بالغه ولا
يخفى بعده.
وقرأ علقمة «ما فرطنا» بالتخفيف وهو والمشدد بمعنى. وقال أبو
العباس: معنى فرطنا المخفف أخرنا كما قالوا فرط الله تعالى عنك
المرض أي أزاله ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ الضمير للأمم
المذكورة في الكريم، وصيغة جمع العقلاء لإجرائها مجراهم
والتعبير عنها بالأمم، وقيل: هو للأمم مطلقا وتكون صيغة الجمع
للتغليب أي إلى مالك أمورهم لا إلى غيره يحشرون يوم القيامة
فيجازيهم وينصف بعضهم من بعض حتى أنه سبحانه وتعالى يبلغ من
عدله أن يأخذ للجماء من القرناء كما جاء في حديث صحيح رواه
الشيخان.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما أن حشر الحيوانات موتها، ومراده رضي الله تعالى
عنه- على ما قيل- إن قوله سبحانه وتعالى إِلى رَبِّهِمْ
يُحْشَرُونَ مجموعه مستعار على سبيل التمثيل للموت كما
ورد في الحديث «من مات فقد قامت قيامته»
فلا يرد عليه أن الحشر بعث من مكان إلى آخر، وتعديته بإلى
تنصيص على أنه لم يرد به الموت مع أن في الموت أيضا نقلا من
الدنيا إلى الآخرة، نعم ما ذكره الجماعة أوفق بمقام تهويل
الخطب وتفظيع الحال، هذا وفي رسالة المعاد لأبي علي قال
المعترفون بالشريعة من أهل التناسخ: إن هذه الآية دليل عليه
لأنه سبحانه قال: وَما مِنْ دَابَّةٍ إلخ، وفيه الحكم بأن
الحيوانات الغير الناطقة أمثالنا وليسوا أمثالنا بالفعل فيتعين
كونهم أمثالنا بالقوة لضرورة صدق هذا الحكم وعدم الواسطة بين
الفعل والقوة، وحينئذ لا بد من القول بحلول النفس الإنسانية في
شيء من تلك الحيوانات وهو التناسخ المطلوب.
ولا يخفى أنه دليل كاسد على مذهب فاسد، ومن الناس من جعلها
دليلا على أن للحيوانات بأسرها نفوسا ناطقة كما لأفراد
الإنسان، وإليه ذهب الصوفية وبعض الحكماء الإسلاميين. وأورد
الشعراني في الجواهر والدرر لذلك أدلة غير ما ذكر، منها أنه
صلّى الله عليه وسلّم لما هاجر وتعرض كل من الأنصار لزمام
ناقته.
قال عليه الصلاة والسلام: «دعوها فإنها مأمورة»
ووجه الاستدلال بذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم أخبر أن الناقة
مأمورة ولا يعقل الأمر إلا من له نفس ناطقة، وإذا ثبت أن
للناقة نفسا كذلك ثبت للغير إذ لا قائل بالفرق، ومنها ما يشاهد
في النحل وصنعتها أقراص الشمع والعناكب واحتيالها لصيد الذباب
والنمل وادخاره لقوته على وجه لا يفسد معه ما ادخره. وأورد
بعضهم دليلا لذلك أيضا النملة التي كلمت سليمان عليه الصلاة
والسلام بما قص الله تعالى لنا عنها مما لا يهتدي إلى ما فيه
إلا العالمون وخوف الشاة من ذئب لم تشاهد فعله قبل فإن ذلك لا
يكون إلا عن استدلال وهو شأن ذوي النفوس الناطقة، وعدم افتراس
الأسد المعلم مثلا صاحبه فإن ذلك دليل على اعتقاد النفع ومعرفة
الحسن وهو من شأن ذوي النفوس. وأغرب من هذا دعوى الصوفية.
ونقله الشعراني عن شيخه على الخواص قدس الله تعالى سره أن
الحيوانات مخاطبة مكلفة من عند الله تعالى ومن حيث لا يشعر
المحجوبون ثم قال: ويؤيده قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ
إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: 24] حيث نكر سبحانه وتعالى
الأمة والنذير وهم من جملة الأمم.
ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول: جميع ما
في الأمم فينا حتى أن فيهم ابن عباس
(4/138)
مثلي. وذكر في الأجوبة المرضية أن فيهم
أنبياء. وفي الجواهر أنه يجوز أن يكون النذير من أنفسهم وأن
يكون خارجا عنهم من جنسهم. وحكى شيخه عن بعضهم أنه قال: إن
تشبيه الله تعالى من ضل من عباده بالأنعام في قوله سبحانه
وتعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ [الفرقان: 44] ليس
لنقص فيها وإنما هو لبيان كمال مرتبتها في العلم بالله تعالى
حتى حارت فيه فالتشبيه في الحقيقة واقع في الحيرة لا في المحار
فيه فلا أشد حيرة من العلماء بالله تعالى فأعلى ما يصل إليه
العلماء بربهم سبحانه وتعالى هو مبتدأ البهائم الذي لم تنتقل
عنه أي عن أصله وإن كانت منتقلة في شؤونه بتنقل الشؤون الإلهية
لأنها لا تثبت على حال. ولذلك كان من وصفهم الله عز وجل من
هؤلاء القوم أضل سبيلا من الأنعام لأنهم يريدون الخروج من
الحيرة من طريق فكرهم ونظرهم ولا يمكن ذلك لهم والبهائم علمت
ذلك ووقفت عنده ولم تطلب الخروج عنه وذلك لشدة علمها بالله
تعالى اه.
ونقل الشهاب عن ابن المنير أن من ذهب إلى أن البهائم والهوام
مكلفة لها رسل من جنسها فهو من الملاحدة الذين لا يعول عليهم
كالجاحظ وغيره، وعلى إكفار القائل بذلك نص كثير من الفقهاء
والجزاء الذي يكون يوم القيامة للحيوانات عندهم ليس جزاء
تكليف، على أن بعضهم ذهب إلى أن الحيوانات لا تحشر يوم القيامة
وأول الظواهر الدالة على ذلك. وما نقل عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما لا أصل له.
والمثلية في الآية لا تدل على شيء مما ذكر. وأغرب الغريب عند
أهل الظاهر أن الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم جعلوا كل شيء في
الوجود حيا دراكا يفهم الخطاب ويتألم كما يتألم الحيوان وما
يزيد الحيوان على الجماد إلا بالشهوة، ويستندون في ذلك إلى
الشهود. وربما يستدلون بقوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ مِنْ
شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44] ولكن لا
تفقهون تسبيحهم وبنحو ذلك من الآيات والأخبار.
والذي ذهب إليه الأكثرون من العلماء أن التسبيح حالي لا قالي،
ونظير ذلك.
شكى إلى جملي طول السرى و ... امتلأ الحوض وقال قطني
وما يصدر عن بعض الجمادات من تسبيح قالي كتسبيح الحصى في كفه
الشريف صلّى الله عليه وسلّم مثلا إنما هو عن خلق إدراك إذ
ذاك، وما يشاهد من الصنائع العجيبة لبعض الحيوانات ليس كما قال
الشيخ الرئيس مما يصدر عن استنباط وقياس بل عن إلهام وتسخير،
ولذلك لا تختلف ولا تتنوع، والنقض بالحركة الفلكية لا يرد بناء
على قواعدنا. وعدم افتراس الأسد المعلم مثلا صاحبه ليس عن
اعتقاد بل هناك هيئة أخرى نفسانية وهي أن كل حيوان يحب بالطبع
ما يلذه والشخص الذي يطعمه محبوب عنده فيصير ذلك مانعا عن
افتراسه. وربما يقع هذا العارض عن إلهام إلهي مثل حب كل حيوان
ولده. وعلى هذا الطرز يخرج الخوف مثلا الذي يعتري بعض
الحيوانات.
وقد أطالوا الكلام في هذا المقام، وأنا لا أرى مانعا من القول
بأن للحيوانات نفوسا ناطقة وهي متفاوتة الإدراك حسب تفاوتها في
أفراد الإنسان وهي مع ذلك كيفما كانت لا تصل في إدراكها
وتصرفها إلى غاية يصلها الإنسان والشواهد على هذا كثيرة وليس
في مقابلتها قطعي يجب تأويلها لأجله. وقد صرح غير واحد أنها
عارفة بربها جل شأنه، وأما أن لها رسلا من جنسها فلا أقول به
ولا أفتي بكفر من قال به. وأما أن الجمادات حية مدركة فأمر
وراء طور عقلي، والله تعالى على كل شيء قدير وهو العليم الخبير
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي القرآن أو سائر الحجج
ويدخل دخولا أوليا، والموصول عبارة عن المعهودين في قوله عز
وجل وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الأنعام: 25] إلخ أو
الأعم من أولئك، والكلام متعلق بقوله سبحانه ما فَرَّطْنا إلخ
أو بقوله جل شأنه إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ
(4/139)
والواو للاستئناف وما بعدها مبتدأ خبره
صُمٌّ وَبُكْمٌ وجوز أن يكون هذا خبر مبتدأ محذوف أي بعضهم صم
وبعضهم بكم. والجملة خبر المبتدأ والأول أولى. وهو من التشبيه
البليغ على القول الأصح في أمثاله أي أنهم كالصم وكالبكم فلا
يسمعون الآيات سماعا تتأثر منه نفوسهم ولا يقدرون على أن
ينطقوا بالحق ولذلك لا يستجيبون ويقولون في الآيات ما يقولون.
وقوله سبحانه: فِي الظُّلُماتِ أي في ظلمات الكفر وأنواعه أو
في ظلمة الجهل وظلمة العناد وظلمة التقليد في الباطل إما خبر
بعد خبر للموصول على أنه واقع موقع عُمْيٌ كما في قوله تعالى:
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة: 18، 171] ووجه ترك العطف فيه دون
ما تقدمه الإيماء إلى أنه وحده كاف في الذم والإعراض عن الحق،
واختير العطف فيما تقدم للتلازم، وقد يترك رعاية لنكتة أخرى
وإما متعلق بمحذوف وقع حالا من المستكن في الخبر كأنه قيل:
ضالون خابطين أو كائنين في الظلمات. ورجحت الحالية بأنها أبلغ
إذ يفهم حينئذ أن صممهم وبكمهم مقيد بحال كونهم في ظلمات الكفر
أو الجهل وأخويه حتى لو أخرجوا منها لسمعوا ونطقوا، وعليها لا
يحتاج إلى بيان وجه ترك العطف. وجوز أبو البقاء أن يكون خبر
مبتدأ محذوف أي هم في الظلمات وأن يكون صفة لبكم أو ظرفا له أو
لصم أو لما ينوب عنهما من الفعل، وعن أبي علي الجبائي أن
المراد بالظلمات ظلمات الآخرة على الحقيقة أي أنهم كذلك يوم
القيامة عقابا لهم على كفرهم في الدنيا والكلام عليه متعلق
بقوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ على أن الضمير
للأمم على الإطلاق وفيه بعد. وقوله سبحانه: مَنْ يَشَأِ
اللَّهُ يُضْلِلْهُ تحقيق للحق وتقرير لما سبق من حالهم ببيان
أنهم من أهل الطبع لا يتأتى منهم الإيمان أصلا فمن مبتدأ خبره
ما بعده ومفعول يشأ محذوف أي إضلاله. ولا يجوز أن يكون من
مفعولا مقدما له لفساد المعنى، والمراد من يرد سبحانه أن يخلق
فيه الضلال عن الحق يخلقه فيه حسب اختياره الناشئ عن استعداده،
وجوز بعضهم أن يكون مَنْ في موضع نصب بفعل مقدر بعده يفسره ما
بعده أي من يشق أو يعذب يشأ إضلاله وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ
عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ عطف على ما تقدم، والكلام فيه كالكلام
فيه، والآية دليل لأهل السنة على أن الكفر والإيمان بإرادته
سبحانه وأن الإرادة لا تتخلف عن المراد. والزمخشري لما رأى
تخرق عقيدته الفاسدة رام رقعها كما هو دأبه فقال: معنى
يُضْلِلْهُ يخذله ولم يلطف به ويَجْعَلْهُ إلخ بلطف به، وقال
غيره: المراد من يشأ إضلاله يوم القيامة عن طريق الجنة يضلله
ومن يشأ يجعله على الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة وهو
كما ترى.
وكان الظاهر على ما قيل: أن يقال ومن يشأ يهده إلا أنه عدل عنه
لأن هدايته تعالى وهي إرشاده إلى الهدى غير مختصة ببعض دون
بعض. ولهذا قيل في تفسير يَجْعَلْهُ إلخ أي يرشده إلى الهدى
ويحمله عليه قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ أمر لرسول الله صلّى الله
عليه وسلّم بأن يبكتهم ويلقمهم الحجر بما لا سبيل لهم إلى
إنكاره. والتاء على ما قاله أبو البقاء ضمير الفاعل وما بعده
حرف خطاب جيء به للتأكيد. وليس اسما لأنه لو كان كذلك لكان إما
مجرورا ولا جار هنا. أو مرفوعا وليس من ضمائر الرفع. ولا مقتضي
له أيضا أو منصوبا وهو باطل لثلاثة أوجه، الأول أن هذا الفعل
قلبي بمعنى علم يتعدى إلى مفعولين كقولك: أرأيت زيدا ما فعل
فلو جعل المذكور مفعولا لكان ثالثا.
والثاني أنه لو جعل مفعولا لكان هو الفاعل في المعنى. وليس
المعنى على ذلك إذ ليس الغرض أرأيت نفسك بل أرأيت غيرك. ولذلك
قلت: أرأيتك زيدا وزيد غير المخاطب ولا هو بدل منه. والثالث
أنه لو جعل كذلك لظهرت علامة التثنية. والجمع والتأنيث في
التاء فكنت تقول: أرأيتما كما وأ رأيتموكم وأ رأيتكن وهذا مذهب
البصريين.
والمفعولان في هذه الآية قيل: الأول منهما محذوف تقديره
أرأيتكم إياه أو إياها أي العذاب أو الساعة الواقعين في قوله
سبحانه: إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أي الدنيوي حسبما أتى من
قبلكم أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أي هو لها كما يدل
(4/140)
عليه ما بعد لأن الكلام من باب التنازع حيث
تنازع رأي وأتى في معمول واحد وهو عَذابُ اللَّهِ والساعة
فاعمل الثاني وأضمر في الأول. والثاني منهما جملة الاستفهام
وهي قوله تعالى أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ والرابط لها
بالمفعول الأول محذوف أي أغير الله تدعون لكشف ذلك. وقيل: لا
تنازع والتقدير أرأيتكم عبادتكم للأصنام أو الأصنام التي
تعبدونها هل تنفعكم، وقيل: إن الجملة الاستفهامية سادة مسد
المفعولين.
وذهب الرضي تبعا لغيره أن رأى هنا بصرية. وقيل: قلبية بمعنى
عرف. وهي على القولين متعدية لواحد وأصل اللفظ الاستفهام عن
العلم أو العرفان أو الإبصار إلا أنه تجوز به عن معنى أخبرني
ولا يستعمل إلا في الاستخبار عن حالة عجيبة لشيء. وفيه- على ما
قال الكرماني-. وغيره تجوزان إطلاق الرؤية وإرادة الإخبار لأن
الرؤية بأي معنى كانت سبب له. وجعل الاستفهام بمعنى الأمر
بجامع الطلب. وقول بعضهم: إن الاستفهام للتعجيب لا ينافي كون
ذلك بمعنى أخبرني لما قيل: إنه بالنظر إلى أصل الكلام. ونقل عن
أبي حيان أن الأخفش قال: إن العرب أخرجت هذا اللفظ عن معناه
بالكلية فقالوا: أرأيتك وأريتك بحذف الهمزة الثانية إذا كان
بمعنى أخبرت. وإذا كان بمعنى أبصرت لم تحذف همزته وألزمته أيضا
الخطاب على هذا المعنى فلا تقول أبدا أراني زيد عمرا ما صنع
وتقول هذا على معنى أعلم، وأخرجته أيضا عن موضوعه بالكلية
لمعنى إما بدليل دخول الفاء بعده كقوله تعالى: أَرَأَيْتَ إِذْ
أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ [الكهف: 63] الآية. فما دخلت الفاء
إلا وقد خرجت لمعنى أما. والمعنى أما إذا أوينا إلى الصخرة
فالأمر كذا وكذا.
وقد أخرجته أيضا إلى معنى أخبرني كما قدمنا، وإذا كان بهذا
المعنى فلا بد بعده من اسم المستخبر عنه وتلزم الجملة بعد
الاستفهام. وقد يخرج لهذا المعنى وبعده الشرط وظرف الزمان اه
ولم يوافق في جميع ذلك.
وذهب شيخ أهل الكوفة الكسائي إلى أن التاء ضمير الفاعل وأداة
الخطاب اللاحقة في موضع المفعول الأول.
وذهب الفراء إلى أن التاء حرف خطاب واللواحق بعده في موضع
الرفع على الفاعلية وهي ضمائر نصب استعملت استعمال ضمائر
الرفع. والكلام على ذلك مبسوط في محله. والمختار عند كثير من
المحققين ما ذهب إليه البصريون من جعل كم هنا وكذا سائر
اللواحق حرف خطاب ومتعلق الاستخبار عندهم ومحط التبكيت قوله
تعالى: أَغَيْرَ اللَّهِ إلخ. وقوله سبحانه: إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ متعلق بأريتكم مؤكد للتبكيت كاشف عن كذبهم. وجواب
الشرط محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه، والتقدير- على ما قيل-
إن كنتم صادقين في أن أصنامكم آلهة أو أن عبادتكم لها نافعة أو
إن كنتم قوما من شأنكم الصدق فأخبروني أإلها غير الله تعالى
تدعون إن أتاكم عذاب الله إلخ فإن صدقهم من موجبات أخبارهم
بدعائهم غيره سبحانه.
وقيل: إن الجواب ما يدل عليه قوله تعالى: أَغَيْرَ اللَّهِ
تَدْعُونَ أعني فادعوه على أن الضمير لغير الله، واعترض بأنه
يخل بجزالة النظم الكريم كيف لا والمطلوب منهم إنما هو الإخبار
بدعائهم غيره جل شأنه عند إتيان ما يأتي لا نفس دعائهم إياه،
وجوز آخرون كون متعلق الاستخبار محذوفا تقديره أخبروني إن
أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة من تدعون، وجعلوا قوله
سبحانه: أَغَيْرَ اللَّهِ إلخ استئنافا للتبكيت على معنى
أتخصون آلهتكم بالدعوة كما هو عادتكم إذا أصابكم ضر أم تدعون
الله تعالى دونها، وعليه فتقديم المفعول للتخصيص.
وبعضهم جعل تقديمه لأن الإنكار متعلق به وأنكر تعلقه بالتخصيص،
نعم التقديم في قوله تعالى: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ للتخصيص
أي بل تخصونه سبحانه بالدعاء وليس لرعاية الفواصل، والتخصيص
مستفاد مما بعد وهو عطف على جملة منفية تفهم من الكلام السابق
كأنه قيل: لا غير الله تدعون بل إياه تدعون، وجعله في الكشف
عطفا على أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ وأورد الزمخشري على كون
أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ متعلق الاستخبار أن قوله سبحانه:
(4/141)
فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ أي ما
تدعونه إلى كشفه مع قوله تعالى: أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ
يأباه فإن قوارع الساعة لا تكشف عن المشركين. وأجاب بأنه قد
اشترط في الكشف المشيئة بقوله جل شأنه: إِنْ شاءَ وهو عز وجل
لا يشاء كشف هاتيك القوارع عنهم، وخص الإيراد بذلك الوجه- على
ما في الكشف- لأن الشرطين فيه لما كانا متعلقين بقوله سبحانه:
أَغَيْرَ إلخ وكان بَلْ إِيَّاهُ إلخ عطفا عليه إضرابا عنه
والمعطوف في حكم المعطوف عليه وجب أن يكونا متعلقين به أيضا.
ولما كان الكشف مستعقب الدعاء مستفادا عنه وجب أن يكونا
متعلقين به أيضا فجاء سؤال أن قوارع الساعة لا تكشف. وأما في
الوجه الآخر فلأن أَغَيْرَ إلخ لما كان كلاما مستقلا لم تتعلق
به الشرطان لفظا بل جاز أن يقدرا أو هو الظاهران ساعد المعنى،
وأن يقدر واحد منهما حسب استدعاء المقام وذلك أنه سبحانه بكتهم
بما كانوا عليه من اختصاصهم إياه تعالى بالدعاء عند الكرب ألا
ترى إلى قوله جل شأنه: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ
فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [النحل: 53] فلا مانع من ذكر أمرين
والتقريع على أحدهما دون الآخر لا سيما عند اختصاصه بالتقريع
انتهى. وربما يقال: إن كشف القوارع الدنيوية والأخروية بدعاء
المؤمن أو المشرك بل قبول الدعاء مطلقا مشروط بالمشيئة وبذلك
تقيد آية ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] وَإِذا
سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة: 186] لكن انتفاء المشيئة متحقق
في بعض الصور كما في قبول دعاء الكفار بكشف قوارع الساعة وما
يلقونه من سواء الجزاء على كفرهم وكشف بعض الأهوال عنهم ككرب
طول الوقوف حين يشفع صلّى الله عليه وسلّم فيشفع في الفصل بين
الخلائق يومئذ ليس من باب استجابة دعائهم في شيء.
على أن كرب طول الوقوف الذي يفارقونه نعيم بالنسبة إلى ما
يلاقونه بعد وإن لم يعلموا ذلك قبل فالقوارع محيطة بهم في ذلك
اليوم لا تفارقهم أصلا وإنما ينتقلون فيها من شديد إلى أشد.
فقول بعضهم إثر قول الزمخشري:
فإن قوارع الساعة لا تكشف عن المشركين الأحسن عندي
أن هول القيامة يكشف أيضا ككرب الموقف إذا طال كما ورد في حديث
الشفاعة العظمى
إلا أن الزمخشري لم يذكره لأن المعتزلة قائلون بنفي الشفاعة
وقد غفل عن هذا من اتبعه كلام خال عن التحقيق، والمعتزلة على
ما في مجمع البحار لا ينفون الشفاعة في فصل القضاء وإنما
ينكرون الشفاعة لأهل الكبائر والكفار في النجاة من النار.
هذا واختلف المفسرون في جواب الشرط الأول فقيل محذوف تقديره
فمن تدعون، وقيل: وعليه أبو البقاء تقديره دعوتم الله تعالى،
وقيل: إنه مذكور وهو أرأيتكم، وقيل: ونسب للرضي هو الجملة
المتضمنة للاستفهام بعده وهو كالمتعين على بعض الأقوال، ورده
الدماميني بأن الجملة كذلك لا تقع جوابا للشرط بدون فاء.
وبحث في ذلك الشهاب في حواشيه على شرح الكافية للرضي وقال أبو
حيان وتبعه غير واحد الذي أذهب إليه أن يكون الجواب محذوفا
لدلالة أَرَأَيْتَكُمْ عليه تقديره إن أتاكم عذاب الله تعالى
فأخبروني عنه أتدعون غير الله تعالى لكشفه كما تقول: أخبرني عن
زيد إن جاءك ما تصنع به فإن التقدير إن جاءك فأخبرني فحذف
الجواب لدلالة أخبرني عليه. ونظير ذلك أنت ظالم إن فعلت انتهى
فافهم ولا تغفل. وقوله تعالى: وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ عطف
على تَدْعُونَ والنسيان مجاز عن الترك كما روي عن ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما أي تتركون ما تشركون به تعالى من الأصنام
تركا كليا، وقيل: يحتمل أن يكون على حقيقته فإنهم لشدة الهول
ينسون ذلك حقيقة، ولا يخطر لهم ببال ولا يلزم حينئذ أن ينسى
الله تعالى لأن المعتاد في الشدائد أن يلهج بذكره تعالى وينسى
ما سواه سبحانه، وقدم الكشف مع تأخره عن النسيان كتأخره عن
الدعاء لإظهار كمال العناية بشأنه والإيذان بترتبه على الدعاء
خاصة
(4/142)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ
قَبْلِكَ كلام مستأنف سيق لبيان أن من المشركين من لا يدعو
الله تعالى عند إتيان العذاب لتماديه في الغي والضلال ولا
يتأثر بالزواجر التكوينية كما لا يتأثر بالزواجر التنزيلية،
وقيل: مسوق لتسليته صلّى الله عليه وسلّم. وتصدير الجملة
بالقسم لإظهار مزيد الاهتمام بمضمونها، والمفعول محذوف لأن
مقتضى المقام بيان حال المرسل إليهم لا حال المرسلين وتنوين
أُمَمٍ للتكثير ومِنْ ابتدائية أو بمعنى في أو زائدة بناء على
جواز زيادتها في الإثبات وضعف أي تالله لقد أرسلنا رسلا إلى
أمم كثيرة كائنة من زمان أو في زمان قبل زمانك فَأَخَذْناهُمْ
أي فكذبوا فعاقبناهم بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ أي البؤس
والضر.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن جبير أنه قال: خوف السلطان. وغلاء
السعر. وقيل: البأساء القحط والجوع والضراء المرض ونقصان
الأنفس والأموال وهما صيغتا تأنيث لا مذكر لهما على أفعل كأحمر
حمراء كما هو القياس فإنه لم يقل أضر وأبأس صفة بل للتفضيل
لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ أي لكي يتذللوا فيدعوا ويتوبوا من
كفرهم فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا أي فلم
يتضرعوا حينئذ مع وجود المقتضي وانتفاء المانع الذي يعذرون به،
«ولولا» عند الهروي تكون نافية حقيقة وجعل من ذلك قوله تعالى:
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا
قَوْمَ يُونُسَ [يونس: 98] والجمهور حملوه على التوبيخ
والتنديم وهو يفيد الترك وعدم الوقوع ولذا ظهر الاستدراك
والعطف في قوله تعالى:
وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وليست لولا هنا تحضيضية كما توهم
لأنها تختص بالمضارع، واختار بعضهم ما ذهب إليه الهروي. ولما
كان التضرع ناشئا من لين القلب كان نفيه نفيه فكأنه قيل: فما
لانت قلوبهم ولكن قست، وقيل: كان الظاهر أن يقال لكن يجب عليهم
التضرع إلا أنه عدل إلى ما ذكر لأن قساوة القلب التي هي المانع
يشعر بأن عليهم ما ذكر، ومعنى قَسَتْ إلخ استمرت على ما هي
عليه من القساوة أو ازدادت قساوة وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الكفر والمعاصي فلم يخطروا ببالهم أن
ما اعتراهم من البأساء والضراء ما اعتراهم إلا لأجله. والتزيين
له معان، أحدها إيجاد الشيء حسنا مزينا في نفس الأمر كقوله
تعالى: زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا [الصافات: 6] والثاني
جعله مزينا من غير إيجاد كتزيين الماشطة العروس. والثالث جعله
محبوبا للنفس مشتهى للطبع وإن لم يكن في نفسه كذلك وهذا إما
بمعنى خلق الميل في النفس والطبع وإما بمعنى تزويقه وترويجه
بالقول وما يشبه كالوسوسة والإغواء، وعلى هذا يبنى أمر إسناده
فإنه جاء في النظم الكريم تارة مسندا إلى الشيطان كما في هذه
الآية وتارة إليه سبحانه كما في قوله سبحانه: وكَذلِكَ
زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام: 108] وتارة
إلى البشر كقوله عز وجل: زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الأنعام:
137] فإن كان بالمعنى الأول فإسناده إلى الله تعالى حقيقة،
وكذا إذا كان بالمعنى الثالث بناء على المراد منه أولا، وإن
كان بالمعنى الثاني أو الثالث بناء على المراد منه ثانيا
فإسناده إلى الشيطان أو البشر حقيقة، ولا يمكن إسناد ما يكون
بالإغواء والوسوسة إليه سبحانه كذلك. وجاء أيضا غير مذكور
الفاعل كقوله سبحانه زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ [يونس: 12]
وحينئذ يقدر في كل مكان ما يليق به، وقد مر لك ما يتعلق بهذا
البحث فتذكر.
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي تركوا ما دعاهم الرسل
عليهم الصلاة والسلام إليه وردوه عليهم ولم يتعظوا به كما روي
عن ابن جريج، وقيل: المراد أنهم انهمكوا في معاصيهم ولم يتعظوا
بما نالهم من البأساء والضراء فلما لم يتعظوا فَتَحْنا
عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ من النعم الكثيرة كالرخاء
وسعة الرزق مكرا بهم واستدراجا لهم.
فقد روى أحمد، والطبراني، والبيهقي في شعب الإيمان من حديث
عقبة بن عامر مرفوعا «إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد في
الدنيا وهو مقيم على معاصيه فإنما هو استدراج ثم تلا رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم فَلَمَّا نَسُوا الآية وما
(4/143)
بعدها» .
وروي عن الحسن أنه لما سمع الآية قال: «مكر بالقوم ورب الكعبة
أعطوا حاجتهم ثم أخذوا» وقيل: المراد فتحنا عليهم ذلك إلزاما
للحجة وإزاحة للعلة، والظاهر أن فَتَحْنا جواب لما لأن فيها
سواء قيل بحرفيتها أو اسميتها معنى الشرط.
واستشكل ذلك بأنه لا يظهر وجه سببية النسيان لفتح أبواب الخير.
وأجيب بأن النسيان سبب للاستدراج المتوقف على فتح أبواب الخير،
وسببية شيء لآخر تستلزم سببيته لما يتوقف عليه. ويقال: إن
الجواب ما ذكر باعتبار ماله ومحصله وهو ألزمناهم الحجة ونحوه
وتسببه عنه ظاهر، وقيل: إنه مسبب عنه باعتبار غايته وهو أخذهم
بغتة. وقرأ أبو جعفر وابن عامر «فتّحنا» بالتشديد للتكثير
حَتَّى إِذا فَرِحُوا فرح بطر بِما أُوتُوا من النعم ولم
يقوموا بحق المنعم جل شأنه أَخَذْناهُمْ عاقبناهم وأنزلنا بهم
العذاب بَغْتَةً أي فجأة ليكون أشد عليهم وأفظع هولا، وهي نصب
على الحالية من الفاعل أو المفعول أي مباغتين أو مبغوتين أو
على المصدرية أي بغتناهم بغتة فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ أي
آيسون من النجاة والرحمة كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما. وقال البلخي: أذلة خاضعون، وعن السدي الإبلاس تغير
الوجه.
ومنه سمي إبليس لأن الله تعالى نكس وجهه وغيره، وعن مجاهد هو
بمعنى الاكتئاب.
وفي الحواشي الشهابية للإبلاس ثلاثة معان في اللغة، الحزن،
والحسرة، واليأس وهي معان متقاربة. وقال الراغب: هو الحزن
المعترض من شدة اليأس، ولما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت
وينسى ما يعنيه قيل: أبلس فلان إذا سكت وإذا انقطعت حجته وإِذا
هي الفجائية وهي ظرف مكان كما نص عليه أبو البقاء وعن جماعة
أنها ظرف زمان، ومذهب الكوفيين أنها حرف وعلى القولين الأولين
الناصب لها خبر المبتدأ أي أبلسوا في مكان إقامتهم أو في
زمانها فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي آخرهم
كما قال غير واحد، وهو من دبره إذا تبعه فكأنه في دبره أي
خلفه، ومنه إن من الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبرا أي في آخر
الوقت.
وقال الأصمعي: الدابر الأصل ومنه قطع الله دابره أي أصله وأيّا
ما كان فالمراد أنهم استؤصلوا بالعذاب ولم يبق منهم أحد، ووضع
الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على ما جرى عليهم من
النكال والإهلاك فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص
لأهل الأرض من شؤم عقائدهم الفاسدة وأعمالهم الخبيثة نعمة
جليلة يحق أن يحمد عليها فهذا منه تعالى تعليم للعباد أن
يحمدوه على مثل ذلك، واختار الطبرسي أنه حمد منه عز اسمه لنفسه
على ذلك الفعل قُلْ يا محمد على سبيل التبكيت والإلزام أيضا
أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ
أي أصمكم وأعماكم فأخذهما مجاز عما ذكر لأنه لازم له،
والاستدلال بالآية على بقاء العرض زمانين محل نظر.
وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ بأن غطى عليها بما لا يبقى لكم معه
عقل وفهم أصلا. وقيل: يجوز أن يكون الختم عطفا تفسيريا للأخذ
فإن البصر والسمع طريقان للقلب منهما يرد ما يرده من المدركات
فأخذهما سد لبابه بالكلية وهو السر في تقديم أخذهما على الختم
عليها. واعترض بأن من المدركات ما لا يتوقف على السمع والبصر،
ولهذا قال غير واحد بوجوب الإيمان بالله تعالى على من ولد أعمى
أصم وبلغ سن التكليف، وقيل في التقديم: إنه من باب تقديم ما
يتعلق بالظاهر على ما يتعلق بالباطن. ووجه تقديم السمع وافراده
قد تقدمت الإشارة إليه مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ
بِهِ أي بذلك على أن الضمير مستعار لاسم الإشارة المفرد لأنه
الذي كثر في الاستعمال التعبير به عن أشياء عدة وأما الضمير
المفرد فقد قيل فيه ذلك. ونقل عن الزجاج أن الضمير راجع إلى
المأخوذ والمختوم عليه في ضمن ما مر أي المسلوب منكم أو راجع
إلى السمع وما بعده داخل معه في القصد ولا يخفى بعده.
(4/144)
وجوز أن يكون راجعا إلى أحد هذه المذكورات،
ومَنْ مبتدأ وإِلهٌ خبره وغَيْرُ صفة للخبر ويَأْتِيكُمْ صفة
أخرى، والجملة- كما قال غير واحد- متعلق الرؤية ومناط
الاستخبار أي أخبروني أن سلب الله تعالى مشاعركم من إله غيره
سبحانه يأتيكم به وترك كاف الخطاب هنا قيل: لأن التخويف فيه
أخف مما تقدم ومما يأتي.
وقيل: اكتفاء بالسابق واللاحق لتوسط هذا الخطاب بينهما، وقيل:
لما كان هذا العذاب مما لا يبقى القوم معه أهلا للخطاب حذفت
كافه إيماء لذلك ورعاية لمناسبة خفية انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ
الْآياتِ أي نكررها على أنحاء مختلفة، ومنه تصريف الرياح.
والمراد من الآيات- على ما روي عن الكلبي- الآيات القرآنية وهل
هي على الإطلاق أو ما ذكر من أول السورة إلى هنا أو ما ذكر قبل
هذا أقوال أقربها عندي الأقرب وفيها الدال على وجود الصانع
وتوحيده وما فيه الترغيب والترهيب والتنبيه والتذكير. وهذا
تعجيب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: لمن يصلح للخطاب
من عدم تأثرهم بما مر من الآيات الباهرات.
ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ أي يعرضون عن ذلك: وعن ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما أنشد لهذا المعنى قول أبي سفيان بن الحارث:
عجبت لحكم الله فينا وقد بدا ... له صدفنا عن كل حق منزل
وذكر بعضهم أنه يقال: صدف عن الشيء صدوفا إذا مال عنه. وأصله
من الصدف الجانب والناحية ومثله الصدفة وتطلق على كل بناء
مرتفع.
وجاء في الخبر أنه صلّى الله عليه وسلّم مر بصدف مائل فأسرع.
والجملة عطف على «نصرف» داخل معه في حكمه وهو العمدة في
التعجيب. وثُمَّ للاستبعاد أي أنهم بعد ذلك التصريف الموجب
للإقبال والإيمان يدبرون ويكفرون قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ تبكيت
آخر لهم بإلجائهم إلى الاعتراف باختصاص العذاب بهم إِنْ
أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أي العاجل الخاص بكم كما أتى أضرابكم
من الأمم قبلكم بَغْتَةً أي فجأة من غير ظهور أمارة وشعور.
ولتضمنها بهذا الاعتبار ما في الخفية من عدم الشعور صح
مقابلتها بقوله سبحانه: أَوْ جَهْرَةً وبدأ بها لأنها أردع من
الجهرة. وإنما لم يقل: خفية لأن الإخفاء لا يناسب شأنه تعالى.
وزعم بعضهم أن البغتة استعارة للخفية بقرينة مقابلتها بالجهرة
وأنها مكنية من غير تخييلية. ولا يخفى أنه على ما فيه تعسف لا
حاجة إليه فإن المقابلة بين الشيء والقريب من مقابله كثيرة في
الفصيح. ومنه
قوله صلّى الله عليه وسلّم «بشروا ولا تنفروا» .
وعن الحسن أن البغتة أن يأتيهم ليلا. والجهرة أن يأتيهم نهارا.
وقرىء «بغتة أو جهرة» بفتح الغين والهاء على أنهما مصدران
كالغلبة أي إتيانا بغتة أو إتيانا جهرة. وفي المحتسب لابن جني
أن مذهب أصحابنا في كل حرف حلق ساكن بعد فتح لا يحرك إلا على
أنه لغة فيه كالنهر والنهر والشعر والشعر والحلب والحلب والطرد
والطرد.
ومذهب الكوفيين أنه يجوز تحريك الثاني لكونه حرفا حلقيا قياسا
مطردا كالبحر والبحر، وما أرى الحق إلا معهم، وكذا سمعت من
عامه عقيل. وسمعت الشجري يقول: أنا محموم بفتح الحاء. وليس في
كلام العرب مفعول بفتح الفاء. وقالوا: اللحم يريد اللحم.
وسمعته يقول تغدوا بمعنى تغدوا. وليس في كلامهم مفعل بفتح
الفاء وقالوا: سار نحوه بفتح الحاء ولو كانت الحركة أصلية ما
صحت اللام أصلا اه. وهي- كما قال الشهاب- فائدة ينبغي حفظها.
وقرىء «بغتة وجهرة» بالواو الواصلة.
هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ أي إلا أنتم.
ووضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم وإيذانا بأن مناط
إهلاكهم ظلمهم ووضعهم الكفر موضع الإيمان والإعراض موضع
الإقبال. وهذا- كما قال الجماعة- متعلق
(4/145)
الاستخبار والاستفهام للتقرير أي قل تقريرا
لهم باختصاص الهلاك بهم أخبروني إن أتاكم عذابه جل شأنه حسبما
تستحقونه هل يهلك بذلك العذاب إلا أنتم أي هل يهلك غيركم ممن
لا يستحقه، وقيل: المراد بالقوم الظالمين الجنس وهم داخلون فيه
دخولا أوليا. واعترض بأنه يأباه تخصيص الإتيان بهم، وقيل:
الاستفهام بمعنى النفي لأن الاستثناء مفرغ والأصل فيه النفي،
ومتعلق الاستخبار حينئذ محذوف كأنه قيل: أخبروني إن أتاكم
عذابه عز وجل بغتة أو جهرة ماذا يكون الحال. ثم قيل: بيانا
لذلك ما يهلك إلا القوم الظالمون أي ما يهلك بذلك العذاب الخاص
بكم إلا أنتم.
وقيد الطبرسي وغيره الهلاك بهلاك التعذيب والسخط توجيها للحصر
إذ قد يهلك غير الظالم لكن ذلك رحمة منه تعالى به ليجزيه
الجزاء الأوفى على ابتلائه، ولعله اشتغال بما لا يعني. وقرىء
«يهلك» بفتح الياء.
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إلى الأمم إِلَّا مُبَشِّرِينَ
من أطاع منهم بالثواب وَمُنْذِرِينَ من عصى منهم بالعذاب،
واقتصر بعضهم على الجنة والنار لأنهما أعظم ما يبشر به وينذر
به، والمتعاطفان منصوبان على أنهما حالان مقدرتان مفيدتان
للتعليل. وصيغة المضارع للإيذان بأن ذلك أمر مستمر جرت عليه
العادة الإلهية، والآية مرتبطة بقوله سبحانه: وَيَقُولُونَ
لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [يونس: 20] أي ما
نرسل المرسلين إلا لأجل أن يبشروا قومهم بالثواب على الطاعة
وينذروهم بالعذاب على المعصية ولم نرسلهم ليقترح عليهم ويسخر
بهم فَمَنْ آمَنَ بما يجب الإيمان به وَأَصْلَحَ ما يجب إصلاحه
والإتيان به على وفق الشريعة، والفاء لترتيب ما بعدها على ما
قبلها ومن موصولة ولشبه الموصول بالشرط دخلت الفاء في قوله
سبحانه: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العذاب الذي أنذر الرسل به
وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لفوات الثواب الذي بشروا به، وقد تقدم
الكلام في هذه الآية غير مرة، وجمع الضمائر الثلاثة الراجعة
إلى من باعتبار معناها كما أن إفراد الضميرين السابقين باعتبار
لفظها.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي التي بلغتها الرسل عليهم
الصلاة والسلام عند التبشير والإنذار، وقيل: المراد بها نبينا
صلّى الله عليه وسلّم ومعجزاته والأول هو الظاهر، والموصول
مبتدأ وقوله تعالى: يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ خبره والجملة عطف
على «من آمن» إلخ. والمراد بالعذاب العذاب الذي أنذروه عاجلا
أو آجلا أو حقيقة العذاب وجنسه المنتظم لذلك انتظاما أوليا وفي
جعله ماسا إيذان بتنزيله منزلة الحي الفاعل لما يريد ففيه
استعارة مكنية على ما قيل. وجوز الطيبي أن يكون في المس
استعارة تبعية من غير استعارة في العذاب، والظاهر أن ما ذكر
مبني على أن المس من خواص الأحياء، وفي البحر أنه يشعر
بالاختيار، ومنع ذلك بعضهم، وادعى عصام الملة أنه أشير بالمس
إلى أن العذاب لا يأخذهم بحيث يعدمهم حتى يتخلصوا بالهلاك وله
وجه بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم.
نعم أخرج ابن جرير عن ابن زيد أن كل فسق في القرآن معناه
الكذب، ولعله في حيز المنع وخروجهم المستمر عن حظيرة الإيمان
والطاعة، وقد يقال: الفاسق لمن خرج عن التزام بعض الأحكام لكنه
غير مناسب هاهنا.
قُلْ أيها الرسول البشير النذير للكفرة الذين يقترحون عليك ما
يقترحون: لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ أي
مقدوراته جمع خزينة أو خزانة وهي في الأصل ما يحفظ فيه الأشياء
النفيسة تجوز فيها عما ذكر، وعلى ذلك الجبائي وغيره، ولم يقل:
لا أقدر على ما يقدر عليه الله قيل: لأنه أبلغ لدلالته على أنه
لقوة قدرته كأن مقدوراته مخزونة حاضرة عنده، وقيل: إن الخزائن
مجاز عن المرزوقات من إطلاق المحل على الحال أو اللازم على
الملزوم وقيل: الكلام على حذف مضاف أي خزائن رزق الله تعالى أو
مقدوراته، والمعنى لا أدعي أن هاتيك الخزائن مفوضة
(4/146)
إلي أتصرف فيها كيفما أشاء استقلالا أو
استدعاء حتى تقترحوا علي تنزل الآيات أو إنزال العذاب أو قلب
الجبال ذهبا أو غير ذلك مما لا يليق بشأني.
وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ عطف على محل عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ
فهو مقول أَقُولُ أيضا، ونظر فيه الحلبي من حيث إنه يؤدي إلى
أن يصير التقدير ولا أقول لكم لا أعلم الغيب وليس بصحيح. وأجيب
بأن التقدير ولا أقول لكم أعلم الغيب بإضمار القول بين لا
وأعلم لا بين الواو وَلا، وقيل: لا في- لا أعلم- مزيدة مؤكدة
للنفي.
وقال أبو حيان: الظاهر أنه عطف على لا أَقُولُ لا معمول له فهو
أمران يخبر عن نفسه بهذه الجمل فهي معمولة للأمر الذي هو قُلْ،
وتعقب بأنه لا فائدة في الإخبار بأني لا أعلم الغيب وإنما
الفائدة في الإخبار بأني لا أقول ذلك ليكون نفيا لادعاء
الأمرين اللذين هما من خواص الإلهية ليكون المعنى إني لا أدعي
الإلهية.
وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ولا أدعي الملكية، ويكون
تكرير لا أَقُولُ إشارة إلى هذا المعنى. وقال بعض المحققين: إن
مفهومي عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ. وإِنِّي مَلَكٌ لما كان
حالهما معلوما عند الناس لم يكن حاجة إلى نفيهما وإنما الحاجة
إلى نفي ادعائهما تبريا عن دعوى الباطل، ومفهوم إني لا أعلم
الغيب لما لم يكن معلوما احتيج هنا إلى نفيه فدعوى أنه لا
فائدة في الاخبار بذلك منظور فيها. والذي اختاره مولانا شيخ
الإسلام القول الأول وأن المعنى ولا أدعي أيضا أني أعلم الغيب
من أفعاله عز وجل حتى تسألوني عن وقت الساعة أو وقت إنزال
العذاب أو نحوهما.
وخص ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الغيب بعاقبة ما يصيرون
إليه أي لا أدعي ذلك ولا أدعي أيضا الملكية حتى تكلفوني من
الأفاعيل الخارقة للعادات ما لا يطيقه البشر من الرقي في
السماء ونحوه أو تعدوا عدم اتصافي بصفاتهم قادحا في أمري كما
ينبىء عنه قولهم: مالِ هذَا الرَّسُولِ [الفرقان: 7] يأكل
الطعام ويمشي في الأسواق وليس في الآية على هذا دليل على تفضيل
الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيما هو محل
النزاع كما زعم الجبائي لأنها إنما وردت ردا على الكفار في
قولهم مالِ هذَا الرَّسُولِ إلخ وتكليفهم له عليهم الصلاة
والسلام بنحو الرقي في السماء. ونحن لا ندعي تميز الأنبياء على
الملائكة عليهم الصلاة والسلام في عدم الأكل مثلا والقدرة على
الأفاعيل الخارقة كالرقي ونحوه ولا مساواتهم لهم في ذلك بل كون
الملائكة متميزين عليهم عليهم الصلاة والسلام في ذلك مما أجمع
عليه الموافق والمخالف ولا يوجب ذلك اتفاقا على أن الملائكة
أفضل منهم بالمعنى المتنازع فيه وإلا لكان كثير من الحيوانات
أفضل من الإنسان ولا يدعي ذلك إلا جماد.
وهذا الجواب أظهر مما نقل عن القاضي زكريا من أن هذا القول منه
صلّى الله عليه وسلّم من باب التواضع وإظهار العبودية نظير
قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تفضلوني على ابن متى»
في رأي بل هو ليس بشيء كما لا يخفى. وقيل: إن الأفضلية مبنية
على زعم المخاطبين وهو من ضيق العطن، وقيل: حيث كان معنى الآية
لا أدعي الألوهية ولا الملكية لا يكون فيها ترق من الأدنى إلى
الأعلى بل هي حينئذ ظاهرة في التدلي، وبذلك تهدم قاعدة استدلال
الزمخشري في قوله تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ
يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
[النساء: 172] على تفضيل الملك على البشر إذ لا يتصور الترقي
من الألوهية إلى ما هو أعلا منها إذ لا أعلا ليترقى إليه.
وتعقب بأنه لا هدم لها مع إعادة لا أَقُولُ الذي جعله أمرا
مستقلا كالإضراب إذ المعنى لا أدعي الألوهية بل ولا الملكية،
ولذا كرر لا أقول.
وقال بعضهم في التفرقة بين المقامين: إن مقام نفي الاستنكاف
ينبغي فيه أن يكون المتأخر أعلا لئلا يلغو ذكره، ومقام نفي
الادعاء بالعكس فإن من لا يتجاسر على دعوى الملكية أولى أن لا
يتجاسر على دعوى الألوهية الأشد
(4/147)
استبعادا، نعم في كون المراد من الأول نفي
دعوى الألوهية والتبري منها نظر وإلا لقيل لا أقول لكم إني إله
كما قيل وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ وأيضا في الكناية
عن الألوهية بعندي خزائن الله ما لا يخفى من البشاعة، وإضافة
الخزائن إليه تعالى منافية لها. ودفع المنافاة بأن دعوى
الألوهية ليس دعوى أن يكون هو الله تعالى بل أن يكون شريكا له
عز اسمه في الألوهية فيه نظر لأن إضافة الخزائن إليه تعالى
اختصاصية فتنافي الشركة اللهم إلا أن يكون خزائن مثل خزائن أو
تنسب إليه وهو كما ترى. ومن هنا قال شيخ الإسلام: إن جعل ذلك
تبريا عن دعوى الألوهية مما لا وجه له قطعا.
إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ أي ما أفعل إلا اتباع
ما يوحى إلي من غير أن يكون لي مدخل ما في الوحي أو في الموحى
بطريق الاستدعاء أو بوجه آخر من الوجوه أصلا. وحاصله أني عبد
يمتثل أمر مولاه ويتبع ما أوحاه ولا أدعي شيئا من تلك الأشياء
حتى تقترحوا علي ما هو من آثارها وأحكامها وتجعلوا عدم إجابتي
إلى ذلك دليلا على عدم صحة ما أدعيه من الرسالة. ولا يخفى أن
هذا أبلغ من أني نبي أو رسول ولذا عدل إليه.
ولا دلالة فيه لنفاة القياس ولا لمانعي جواز اجتهاده عليه
الصلاة والسلام كما لا يخفى. وذهب البعض إلى أن المقصود من هذا
الرد على الكفرة كأنه قيل: إن هذه دعوى وليست مما يستبعد إنما
المستبعد ادعاء البشر الألوهية أو الملكية ولست أدعيهما. وقد
علمت آنفا ما في دعوى أن المقصود مما تقدم نفي ادعاء الألوهية
والملكية قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أي الضال
والمهتدي على الإطلاق كما قال غير واحد.
والاستفهام إنكاري، والمراد إنكار استواء من لا يعلم ما ذكر من
الحقائق ومن يعلمها مع الإشعار بكمال ظهورها والتنفير عن
الضلال والترغيب في الاهتداء، وتكرير الأمر لتثبيت التبكيت
وتأكيد الإلزام أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ عطف على مقدر يقتضيه
المقام أي ألا تسمعون هذا الكلام الحق فلا تتفكرون فيه أو
أتسمعونه فلا تتفكرون.
والاستفهام للتقرير والتوبيخ. والكلام داخل تحت الأمر. ومناط
التوبيخ عدم الأمرين على الأول وعدم التفكر مع تحقق ما يوجبه
على الثاني.
وذكر بعضهم أن في الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ثلاث احتمالات إما أن
يكونا مثالا للضال والمهتدي أو مثالا للجاهل والعالم أو مثالا
لمدعي المستحيل كالألوهية والملكية. ومدعي المستقيم كالنبوة.
وإن المعنى لا يستوي هذان الصنفان أفلا تتفكرون في ذلك فتهتدوا
أي فتميزوا بين ادعاء الحق والباطل أو فتعلموا أن اتباع الوحي
مما لا محيص عنه. والجملة تذييل لما مضى إما من أول السورة إلى
هنا أو لقوله سبحانه إِنْ أَتَّبِعُ إلخ أو لقوله عز شأنه لا
أَقُولُ. ورجح في الكشف الأول ثم الثاني ولا يخفى بعد هذا
الترجيح. واعترض القول بإحالة الملكية بأنها من الممكنات لأن
الجواهر متماثلة والمعاني القائمة ببعضها يجوز أن تقوم بكلها.
وأجيب بعد تسليم ما فيه أن البشر حال كونه بشرا محال أن يكون
ملكا لتمايزهما بالعوارض المتنافية- بلا خلاف. وإقدام آدم عليه
الصلاة والسلام بعد سماع ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ
الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ
الْخالِدِينَ [الأعراف: 20] على الأكل ليس طمعا في الملكية حال
البشرية على أنه يجوز أن يقال: إنه لم يطمع في الملكية أصلا
وإنما طمع في الخلود فأكل وَأَنْذِرْ أي عظ وخوف يا محمد بِهِ
أي بما يوحى أو بالقرآن كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما والزجاج، وقيل: أي بالله تعالى. وروي ذلك عن الضحاك.
وهذا أمر منه سبحانه وتعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم بعد ما
حكى سبحانه وتعالى له أن من الكفرة من لا يتعظ ولا يتأثر قد
التحق بالأموات وانتظم في سلك الجمادات فما ينجع فيه دواء
الإنذار ولا يفيده العظة والتذكار إذ ينذر من يتوقع في
(4/148)
الجملة منهم الانتفاع ويرجى منهم القبول
والسماع وهم المشار إليهم بقوله سبحانه: الَّذِينَ يَخافُونَ
أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ فالمراد من الموصول المجوزون
للحشر على الوجه الآتي سواء كانوا جازمين بأصله كأهل الكتاب
وبعض المشركين المعترفين بالبعث المترددين في شفاعة آبائهم
الأنبياء كالأولين أو في شفاعة الأصنام كالآخرين أو المترددين
فيهما معا كبعض الكفرة الذين يعلم من حالهم أنهم إذا سمعوا
بحديثه يخافون أن يكون حقا، وأما المنكرون للحشر رأسا.
والقائلون به القاطعون بشفاعة آبائهم أو بشفاعة الأصنام فهم
خارجون ممن أمر بإنذارهم كذا قال شيخ الإسلام.
وروي عن ابن عباس، والحسن رضي الله تعالى عنهم أن المراد
بالموصول المؤمنون.
وارتضاه غير واحد إلا أنهم قيدوا بالمفرطين لأنه المناسب
للإنذار ورجاء التقوى. وتعقبه الشيخ بأنه مما لا يساعده السباق
ولا السياق بل فيه ما يقضي بعدم صحته وبينه بما سيذكر قريبا إن
شاء الله تعالى، وقيل: المراد المؤمنون والكافرون. وعلله
الإمام الرازي بأنه لا عاقل إلا وهو يخاف الحشر سواء قطع
بحصوله أو كان شاكا فيه لأنه بالاتفاق غير معلوم البطلان
بالضرورة فكان هذا الخوف قائما في حق الكل وبأنه عليه الصلاة
والسلام كان مبعوثا إلى الكل فكان مأمورا بالتبليغ إليه ولا
يخفى ما فيه، والمفعول الثاني للإنذار إما العذاب الأخروي
المدلول عليه بما في حيز الصلة، وإما مطلق العذاب الذي ورد به
الوعيد. والتعرض لعنوان الربوبية بتحقيق المخافة إما باعتبار
أن التربية المفهومة منها مقتضية خلاف ما خافوا لأجله الحشر.
وإما باعتبار أنها منبئة عن المالكية المطلقة والتصرف الكلي
كما قيل. والمراد من الحشر إليه سبحانه الحشر إلى المكان الذي
جعله عز وجل محلا لاجتماعهم وللقضاء عليهم فلا تصلح الآية
دليلا للمجسمة.
وقوله سبحانه: لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا
شَفِيعٌ في حيز النصب على الحالية من ضمير يُحْشَرُوا والعامل
فيه فعله. ونقل الإمام عن الزجاج أنه حال من ضمير يَخافُونَ
والأول أولى. ومِنْ دُونِهِ متعلق بمحذوف وقع حالا من اسم ليس
لأنه في الأصل صفة له فلما قدم عليه انتصب على الحالية، والحال
الأولى لإخراج الحشر الذي لم يقيد بها عن حيز الخوف وتحقيق أن
ما نيط به الخوف تلك الحالة لا الحشر كيفما كان ضرورة أن
المعترفين به الجازمين بنصرة غيره تعالى بمنزلة المنكرين له في
عدم الخوف الذي يدور عليه أمر الإنذار والحال الثانية لتحقيق
مدار خوفهم وهو فقدان ما علقوا به رجاءهم وذلك إنما هو غيره
سبحانه كما في قوله جل شأنه: وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ
فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءُ [الأحقاف: 32] وليست لإخراج الولي الذي لم يقيد بها
عن حيز الانتفاء لاستلزامه ثبوت ولايته تعالى لهم كما في قوله
سبحانه: وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا
نَصِيرٍ [البقرة: 107] وذلك فاسد. والمعنى أنذر به الذين
يخافون حشرهم غير منصورين من جهة أنصارهم بزعمهم قاله شيخ
الإسلام، ثم قال: ومن هذا اتضح أن لا سبيل إلى كون المراد
بالخائفين المفرطين من المؤمنين إذ ليس لهم ولي ولا شفيع سواه
عز وجل ليخافوا الحشر بدون نصرته وإنما الذي يخافونه الحشر
بدون نصرته سبحانه انتهى. وهو تحقيق لم أره لغيره ويصغر لديه
ما في التفسير الكبير، ولعل ما روي عن ابن عباس والحسن رضي
الله تعالى عنهم لم يثبت عنهما فتدبر.
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي لكي يخافوا في الدنيا وينتهوا عن
الكفر والمعاصي كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو
على هذا تعليل للأمر بالإنذار، وجوز أن يكون حالا عن ضمير
الأمر أي أنذرهم راجيا تقواهم أو من الموصول أي أنذرهم مرجوا
منهم التقوى وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ.
لما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بإنذار المذكورين لعلهم
ينتظمون في سلك المتقين نهى عليه الصلاة والسلام عن كون ذلك
(4/149)
بحيث يؤدي إلى طردهم ويفهم من بعض الروايات
أن الآيتين نزلتا معا ولا يفهم ذلك من البعض الآخر،
فقد أخرج أحمد والطبراني وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى
عنه قال: «مر الملأ من قريش على النبي صلّى الله عليه وسلّم
وعنده صهيب، وعمار، وبلال، وخباب، ونحوهم من ضعفاء المسلمين
فقالوا: يا محمد رضيت بهؤلاء من قومك أهؤلاء منّ الله تعالى
عليهم من بيننا أنحن نكون تبعا لهؤلاء اطردهم عنك فلعلك إن
طردتهم أن نتبعك فأنزل الله تعالى فيهم القرآن وَأَنْذِرْ بِهِ
الَّذِينَ إلى قوله سبحانه: وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِالظَّالِمِينَ.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، والبيهقي في الدلائل، وغيرهم عن
خباب رضي الله تعالى عنه قال: جاء الأقرع ابن حابس التميمي
وعيينة بن حصن الفزاري فوجدا النبي صلّى الله عليه وسلّم قاعدا
مع بلال، وصهيب، وعمار، وخباب في أناس ضعفاء من المؤمنين فلما
رأوهم حوله حقروهم فأتوه فخلوا به فقالوا: نحب أن تجعل لنا منك
مجلسا تعرف لنا العرب له فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن
ترانا قعودا مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا فإذا
نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت قال: نعم قالوا: فاكتب لنا عليك
بذلك كتابا فدعا بالصحيفة ودعا عليا كرم الله تعالى وجهه ليكتب
ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرائيل بهذه الآية وَلا تَطْرُدِ
الَّذِينَ إلخ ثم دعانا فأتيناه وهو يقول: «سلام عليكم كتب
ربكم على نفسه الرحمة» فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام
وتركنا فأنزل الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الكهف: 28] إلخ فكان رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا
وتركناه حتى يقوم،
وأخرج ابن المنذر وغيره عن عكرمة قال: مشى عتبة وشيبة ابنا
ربيعة وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل والحارث بن عامر بن نوفل
ومطعم بن عدي في أشراف الكفار من عبد مناف إلى أبي طالب
فقالوا: لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعبد والحلفاء كان
أعظم له في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقه
فذكر ذلك أبو طالب للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال عمر بن
الخطاب رضي الله تعالى عنه: لو فعلت يا رسول الله حتى ننظر ما
يريدون بقولهم: وما يصيرون إليه من أمرهم فأنزل الله سبحانه:
وَأَنْذِرْ بِهِ إلى قوله سبحانه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ
بِالشَّاكِرِينَ وكانوا بلالا، وعمار بن ياسر، وسالم مولى أبي
حذيفة، وصبيحا مولى أسيد، والحلفاء ابن مسعود، والمقداد بن
عمرو، وواقد بن عبد الله الحنظلي، وعمرو بن عبد عمرو، ومرثد بن
أبي مرثد، وأشباههم، ونزل في أئمة الكفر من قريش، والموالي،
والحلفاء وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ الآية فلما
نزلت أقبل عمر رضي الله تعالى عنه فاعتذر من مقالته فأنزل الله
تعالى: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا الآية.
والغداة أصله غدوة قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها،
وأصل العشي عشوى قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وفاء
بالقاعدة، والظاهر أنه مفرد كالعشية وجمعه عشايا وعشيات، وقيل:
هو جمع عشية وفيه بعد، ومعنى الأول لغة البكرة أو ما بين صلاة
الفجر وطلوع الشمس، ومعنى الثاني آخر النهار، والمراد بهما
هاهنا الدوام كما يقال فعله مساء وصباحا إذا داوم عليه،
والمراد بالدعاء حقيقته أو الصلاة أو الذكر أو قراءة القرآن
أقوال.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أنهما عبارة عن صلاتي
الصبح والعصر لأن الزمان كثيرا ما يذكر ويراد به ما يقع فيه
كما يقال صلى الصبح والمراد صلاته وقد يعكس فيراد بالصلاة
زمانها نحو قربت الصلاة أي وقتها، وقد يراد بها مكانها كما قيل
في قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى
[النساء: 43] أن المراد بالصلاة المساجد، وخصا بالذكر لشرفهما.
والأقوال في الدعاء جارية على هذا القول خلا الثاني، وقرأ ابن
عامر هنا وفي الكهف «الغدوة» بالواو وهي قراءة الحسن، ومالك بن
دينار، وأبي رجاء العطاردي، وغيرهم، وزعم أبو عبيد أن من قرأ
بالواو فقد أخطأ لأن غدوة علم جنس لا تدخله الألف واللام،
ومنشأ خطئه أنه اتبع رسم الخط لأن الغداة تكتب بالواو
(4/150)
كالصلاة والزكاة وقد أخطأ في هذه التخطئة
لأن غدوة وإن كان المعروف فيها ما ذكره لكن قد سمع مجيئها اسم
جنس أيضا منكرا مصروفا فتدخلها أل حينئذ، وقد نقل ذلك سيبويه
عن الخليل، وتصديره بالزعم لا يدل على ضعفه كما يشير إليه كلام
الإمام النووي في شرح مسلم وذكره جم غفير من أهل اللغة.
وذكر المبرد أيضا عن العرب تنكير غدوة وصرفها وإدخال اللام
عليها إذا لم يرد بها غدوة يوم بعينه والمثبت مقدم على النافي
ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وكفى بوروده في القراءة المتواترة
حجة فلا حاجة- كما قيل- إلى التزام أنها علم لكنها نكرت
فدخلتها أل لأن تنكير العلم وإدخال أل عليه أقل قليل في كلامهم
بل إن تنكير علم الجنس لم يعهد ولا إلى التزام أنها معرفة
ودخلتها اللام لمشاكلة العشي كما دخلت على يزيد لمشاكلة الوليد
في قوله:
رأيت الوليد بن اليزيد مباركا ... شديدا بأعباء الخلافة كاهله
لأن هذا النوع من المشاكلة وهو المشاكلة الحقيقية قليل أيضا،
والكثير في المشاكلة المجاز ولا دلالة في الآية على أنه صلّى
الله عليه وسلّم وقع منه الطرد ليخدش وجه العصمة، والذي تحكيه
الآثار أنه عليه الصلاة والسلام هم أن يجعل لأولئك الداعين
المتقين وقتا خاصا ولأشراف قريش وقتا آخر ليتألفوا فيقودهم إلى
الإيمان وأولئك رضي الله تعالى عنهم يعلمون ما قصد صلّى الله
عليه وسلّم فلا يحصل لهم إهانة وانكسار قلب منه عليه الصلاة
والسلام.
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ في موضع الحال من ضمير يَدْعُونَ. وفي
المراد بالوجه عند المؤولين خلاف فقيل- وهو المشهور- إنه الذات
أي مريدين ذاته تعالى، ومعنى إرادة الذات على ما قيل الإخلاص
لها بناء على استحالة كون الله تعالى مرادا لذاته سبحانه
وتعالى لأن الإرادة صفة لا تتعلق إلا بالممكنات لأنها تقتضي
ترجيح أحد طرفي المراد على الآخر وذلك لا يعقل إلا فيها أي
يدعون ربهم مخلصين له سبحانه فيه، وقيد بذلك لتأكيد عليته
للنهي فإن الإخلاص من أقوى موجبات الإكرام المضاد للطرد، وقيل:
المراد به الجهة والطريق، والمعنى مريدين الطريق الذي أمرهم جل
شأنه بإرادته وهو الذي يقتضيه كلام الزجاج، وقيل: إنه كناية عن
المحبة وطلب الرضا لأن من أحب ذاتا أحب أن يرى وجهه فرؤية
الوجه من لوازم المحبة فلهذا جعل كناية عنها قاله الإمام وهو
كما ترى.
وجوز أيضا أن يكون ذكر الوجه للتعظيم كما يقال: هذا وجه الرأي
وهذا وجهه الدليل، والمعنى يريدونه ما عَلَيْكَ مِنْ
حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ضمير الجمع للموصول السابق كما روي عن
عطاء وغالب المفسرين.
وجوز في ما أن تكون تميمية وحجازية. وفي شَيْءٍ أن يكون فاعل
الظرف المعتمد على النفي ومِنْ حِسابِهِمْ وصف له قدم فصار
حالا، وأن يكون في موضع رفع بالابتداء والظرف متعلق بمحذوف وقع
خبرا مقدما له و «من» زائدة للاستغراق، وكلام الزمخشري يشير
إلى اختياره، والجملة اعتراض وسط بين النهي وجوابه تقريرا له
ودفعا لما عسى أن يتوهم كونه مسوغا لطرد المتقين من أقاويل
الطاعنين في دينهم كدأب قوم نوح عليه السلام حيث قالوا: ما
نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ
الرَّأْيِ [هود: 27] ، والمعنى ما عليك شيء ما من حساب إيمانهم
وأعمالهم الباطلة كما يقوله المشركون حتى تتصدى له وتبني على
ذلك ما تراه من الأحكام وإنما وظيفتك حسبما هو شأن منصب
الرسالة النظر إلى ظواهر الأمور وإجراء الأحكام على موجبها
وتفويض البواطن وحسابها إلى اللطيف الخبير، وظواهر هؤلاء دعاء
ربهم بالغداة والعشي وروي عن ابن زيد أن المعنى ما عليك شيء من
حساب رزقهم أي من فقرهم، والمراد لا يضرك فقرهم شيئا ليصح لك
الإقدام على ما أراده المشركون منك فيهم.
وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ عطف على ما قبله،
وجيء به مع أن الجواب قد تم بذلك مبالغة في بيان كون انتفاء
حسابهم عليه عليه الصلاة والسلام بنظمه في سلك ما لا شبهة فيه
أصلا وهو انتفاء كون حسابه صلّى الله عليه وسلّم
(4/151)
عليهم فهو على طريقة قوله سبحانه: فَإِذا
جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا
يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34] في رأي.
وقال الزمخشري: إن الجملتين في معنى جملة واحدة تؤدي مؤدى وَلا
تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164] كأنه قيل: لا
تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه، وحينئذ لا بد من الجملتين،
وتعقب بأنه غير حقيق بجلالة التنزيل وتقديم خطابه صلّى الله
عليه وسلّم في الموضعين- قيل- للتشريف له عليه أشرف الصلاة
وأفضل السلام وإلا كان الظاهر وما عليهم من حسابك من شيء
بتقديم على ومجرورها كما في الأول، وقيل: إن تقديم عليك في
الجملة الأولى للقصد إلى إيراد النفي على اختصاص حسابهم به
صلّى الله عليه وسلّم إذ هو الداعي إلى تصديه عليه الصلاة
والسلام لحسابهم.
وذهب بعض المفسرين إلى أن ضمير الجمع للمشركين وروي ذلك عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما، والمعنى أنك لا تؤاخذ بحسابهم حتى
يهمك إيمانهم ويدعوك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين، والضمير
في قوله سبحانه فَتَطْرُدَهُمْ للمؤمنين على كل حال، والفعل
منصوب على أنه جواب النفي، والمراد انتفاء الطرد لا انتفاء كون
حسابهم عليه عليه الصلاة والسلام ضرورة انتفاء المسبب لانتفاء
سببه كأنه قيل: ما يكون منك ذلك فكيف يقع منك طرد وهو أحد
معنيين في مثل هذا التركيب يمتنع ثانيهما هنا، وقوله تعالى:
فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ جواب للنهي، وجوز الإمام
والزمخشري أن يكون عطفا على فَتَطْرُدَهُمْ على وجه التسبب لأن
الكون ظالما معلول طردهم وسبب له. واعترض بأن الاشتراك في
النصب بالعطف يقتضي الاشتراك في سبب النصب وهو توقف الثاني على
الأول بحيث يلزم من انتفاء الأول انتفاؤه والكون من الظالمين
منتف سواء لوحظ ابتداء أو بعد ترتبه على الطرد وجعله مترتبا
على الطرد بلا اعتبار كونه مترتبا على المنفي ومنتفيا بانتفائه
يفوت وجود سببية العطف. وأجيب بأن الظلم بالطرد يتوقف انتفاؤه
على انتفاء الطرد كما لا يتوقف وجوده على وجوده وانتفاء الطرد
متوقف على انتفاء كون حسابهم عليه عليه الصلاة والسلام فانتفاء
الظلم بالطرد يتوقف على ذلك أيضا فيلزم من الانتفاء الانتفاء
ويتحقق الاشتراك في سبب النصب وهو ظاهر وإنكاره مكابرة. واعترض
أيضا بأن العطف مؤذن بأن عدم الظلم لعدم تفويض الحساب إليه
صلّى الله عليه وسلّم فيفهم منه أنه لو كان حسابهم عليه صلّى
الله عليه وسلّم وطردهم لكان ظلما وليس كذلك لأن الظلم وضع
الشيء في غير موضعه. وأجيب بأنه على حد- نعم العبد صهيب لو لم
يخف الله لم يعصه-. وفي الكشف في بيان مراد صاحب الكشاف أنه
أراد أن الطرد سبب للظلم فقيل: ما عليك من حسابهم لتطردهم
فتظلم به ويفهم منه أنه لو كان عليه حسابهم لم يكن طرده إياهم
ظلما وذلك لأن الطرد جعل سببا للظلم على تقدير أن لا يملك
حسابهم وعليه لا حاجة إلى جعله على حد- نعم العبد- إلخ بل هو
خروج عن الحد، وجوز بعضهم أن يكون الأول جوابا للنهي كما جاز
أن يكون جوابا للنفي، ونقل عن الدر المصون وقال: الكلام عليه
بحسب الظاهر ولا تطردهم فتطردهم وهو كما ترى، وجعل بعضهم
اجتماع ذينك النفيين السابقين على هذا الجواب من قبيل التنازع
خلا أنه لا يمكن كون الجواب للثاني بوجه أصلا إذ يلزم المعنى
حينئذ أنه لو كان عليهم شيء من حسابه عليه الصلاة والسلام كان
طرده إياهم حسنا وهو خلف لا يجوز حمل القرآن عليه وليس في هذا
خروج عن مختار البصريين لأعمال الثاني لأن شرطه عندهم أن يكون
المعنى مستقيما فيهما فإن لم يستقم أعمل الأول اتفاقا كما في
قوله:
ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال
وأنت إذا علمت أن الجملة الثانية لماذا أتى بها علمت ما في هذا
الكلام فافهم وأيّا ما كان فالمراد فتكون من
(4/152)
الظالمين لأنفسهم أو لأولئك المؤمنين أو
فتكون ممن اتصف بصفة الظلم وَكَذلِكَ فَتَنَّا أي ابتلينا
واختبرنا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ والمراد عاملناهم معاملة المختبر
وذلك إشارة إلى الفتن المذكور في النظم الكريم، وعبر عنه بذلك
إيذانا بتفخيمه كقولك: ضربت ذلك الضرب. والكاف مقحمة بمعنى أن
التشبيه غير مقصود منها بل المقصود لازمه الكنائي أو المجازي
وهو التحقق والتقرر وهو إقحام مطرد وليست زائدة كما توهم.
والمعنى مثل ذلك الفتن العظيم البديع فتنا بعض الناس ببعضهم
حيث قدمنا الآخرين في أمر الدين على الأولين المتقدمين عليهم
في أمر الدنيا، ويؤول إلى أن هذا الأمر العظيم متحقق منا. ومن
ظن أن التشبيه هو المقصود لم يجوز أن يكون ذلك إشارة إلى
المذكور لما يلزمه من تشبيه الشيء بنفسه. وتكلف لوجه التشبيه
والمغايرة بجعل المشبه به الأمر المقرر في العقول والمشبه ما
دل عليه الكلام من الأمر الخارجي، وقيل: المراد مثل ما فتنا
الكفار بحسب غناهم وفقر المؤمنين حتى أهانوهم لاختلافهم في
الأسباب الدنيوية فتناهم بحسب سبق المؤمنين إلى الإيمان
وتخلفهم عنه حتى حسدوهم وقالوا ما قالوا لاختلاف أديانهم، ولا
يخفى أن الأول أدق نظرا وأعلى كعبا وقد سلف بعض الكلام على ذلك
لِيَقُولُوا أي البعض الأولون مشيرين إلى الآخرين محقرين لهم
أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بأن وفقهم لإصابة الحق
والفوز بما يسعدهم عنده سبحانه مِنْ بَيْنِنا أي من دوننا ونحن
المقدمون والرؤساء وهم العبيد والفقراء وغرضهم بذلك إنكار المن
رأسا على حد قولهم: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ
[الأحقاف: 11] لا تحقير الممنون عليهم مع الاعتراف بوقوعه
بطريق الاعتراض عليه سبحانه، وذكر الإمام أنه سبحانه وتعالى
بين في هذه الآية أن كلّا من الفريقين المؤمنين والكفار مبتلى
بصاحبه فأولئك الكفار الرؤساء الأغنياء كانوا يحسدون فقراء
الصحابة رضي الله تعالى عنهم على كونهم سابقين في الإسلام
متسارعين إلى قبوله فقالوا: لو دخلنا في الإسلام لوجب علينا أن
ننقاد لهؤلاء الفقراء وكان ذلك يشق عليهم. ونظيره قوله تعالى:
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا [القمر: 25]
ولَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وأما فقراء الصحابة
فكانوا يرون أولئك الكفار في الراحة والمسرة والخصب والسعة
فكانوا يقولون: كيف حصلت هذه الأحوال لهؤلاء الكفار مع أنا في
الشدة والضيق والقلة، وأما المحققون المحقون فهم الذين يعلمون
أن كل ما فعله الله تعالى فهو حق وصدق وحكمة وصواب ولا اعتراض
عليه إما بحكم المالكية كما نقول أو بحسب المصلحة كما يقول
المعتزلة انتهى. وفيه نظر لأن صدر كلامه صريح في أن الكفار
معترفون بوقوع المن للمشار إليهم حاسدون لهم على وقوعه وهو
مناف لتنظيره بقولهم: لَوْ كانَ خَيْراً إلخ. وأيضا كلامه
كالصريح في أن فقراء المؤمنين حسدوا الكفار على دنياهم
واعترضوا على الله سبحانه بالترفيه على أعدائه والتضييق على
أحبائه وذلك مما يجل عنه أدنى المؤمنين فكيف أولئك الذين يدعون
ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وأيضا مقابلة فقراء الصحابة
رضي الله تعالى عنهم بالمحققين المحقين يدل على أنهم وحاشاهم
لم يكونوا كذلك وهو بديهي البطلان عند المحققين المحقين فتدبر.
واللام ظاهرة في التعليل وهي متعلقة بفتنا وما بعدها علة له.
والسلف- كما قال شيخنا إبراهيم الكوراني وقاضي القضاة تقي
الدين محمد التنوخي. وغيرهما- على إثبات العلة لأفعاله تعالى
استدلالا بنحو عشرة آلاف دليل على ذلك. واحتج النافون لذلك
بوجوه ردها الثاني في المحتبر، وذكر الأول في مسلك السداد ما
يعلم منه ردها، وهذا بحث قد فرغ منه وطوي بساطه، وقال غير
واحد: هي لام العاقبة، ونقل عن شرح المقاصد ما يأبى ذلك وهو أن
لام العاقبة إنما تكون فيما لا يكون للفاعل شعور بالترتب وقت
الفعل أو قبله فيفعل لغرض ولا يحصل له ذلك بل ضده فيجعل كأنه
فعل الفعل لذلك الغرض الفاسد تنبيها على خطئه ولا يتصور هذا في
كلام علام الغيوب بالنظر إلى أفعاله وإن وقع فيه بالنظر إلى
فعل غيره سبحانه كقوله عز وجل: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ
لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إذ ترتب
(4/153)
فوائد أفعاله تعالى عليها مبنية على العلم
التام، نعم إن ابن هشام وكثيرا من النحاة لم يعتبروا هذا
القيد، وقالوا: إنها لام تدل على الصيرورة والمآل مطلقا فيجوز
أن تقع في كلامه تعالى حينئذ على وجه لا فساد فيه. ومن الناس
من قال: إنها للتعليل مقابلا به احتمال العاقبة على أن
فَتَنَّا متضمن معنى خذلنا أو على أن الفتن مراد به الخذلان من
إطلاق المسبب على السبب.
واعترض بأن التعليل هنا ليس بمعناه الحقيقي بناء على أن أفعاله
تعالى منزهة عن العلل فيكون مجازا عن مجرد الترتب وهو في
الحقيقة معنى لام العاقبة فلا وجه للمقابلة. وأجيب بأنهما
مختلفان بالاعتبار فإن اعتبر تشبيه الترتب بالتعليل كانت لام
تعليل وإن لم يعتبر كانت لام عاقبة، واعترض بأن العاقبة أيضا
استعارة فلا يتم هذا الفرق إلا على القول بأنه معنى حقيقي وعلى
خلافه يحتاج إلى فرق آخر، وقد يقال: في الفرق أن في التعليل
المقابل للعاقبة سببية واقتضاء وفي العاقبة مجرد ترتب وإفضاء
وفي التعليل الحقيقي يعتبر البعث على الفعل وهذا هو مراد من
قال: إن أفعال الله تعالى لا تعلل: وحينئذ يصح أن يقال: إن
اللام على تقدير تضمين فَتَنَّا معنى خذلنا أو أن الفتن مراد
به الخذلان للتعليل مجازا لأن هناك تسببا واقتضاء فقد من دون
بعث، وعلى تقدير عدم القول بالتضمين وإبقاء اللفظ على المتبادر
منه هي لام العاقبة وهو تعليل مجازي أيضا لكن ليس فيه إلا
التأدي فإن ابتلاء بعضهم ببعض مؤد للحسد وهو مؤد إلى القول
المذكور وليس هناك تسبب ولا بعث أصلا. والحاصل أن كلّا من
العاقبة والتعليل المقابل لها مجاز عن التعليل الحقيقي إلا أن
التعليل المقابل أقرب إليه من العاقبة ومنشأ الأقربية هو
الفارق، والبحث بعد محتاج إلى تأمل فتأمل وإذا فتح لك فاشكر
الله سبحانه.
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ رد لقولهم ذلك
وإشارة إلى أن مدار استحقاق ذلك الأنعام معرفة شأن النعمة
والاعتراف بحق المنعم. والاستفهام للتقرير بعلمه البالغ بذلك،
والباء الأولى سيف خطيب والثانية متعلقة بأعلم ويكفي أفعل
العمل في مثله. وفي الدر المصون العلم يتعدى بالباء لتضمنه
معنى الإحاطة وهو كثير في كلام الناس نحو علم بكذا وله علم به،
والمعنى أليس الله تعالى عالما على أتم وجه محيطا علمه
بالشاكرين لنعمه حتى يستبعدوا أنعامه عز وجل عليهم، وفيه من
الإشارة إلى أن أولئك الضعفاء عارفون بحق نعم الله تعالى عليهم
من التوفيق للإيمان والسبق إليه وغير ذلك شاكرون عليه مع
التعريض بأن القائلين في مهامه الضلال بمعزل عن ذلك كله ما لا
يخفى.
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا هم كما روي عن
عكرمة الذين نهى صلّى الله عليه وسلّم عن طردهم، والمراد
بالآيات الآيات القرآنية أو الحجج مطلقا، وجوز في الباء أن
تكون صلة الإيمان وأن تكون سببية أي يؤمنون بكل ما يجب الإيمان
به بسبب نزول الآيات أو النظر فيها والاستدلال بها. وفي وصف
أولئك الكرام بالإيمان بعد وصفهم بما وصفهم سبحانه به تنبيه
على حيازتهم لفضيلتي العلم والعمل، وتأخير هذا الوصف مع أنه
كالمنشأ للوصف السابق لما أن مدار الوعد بالرحمة هو الإيمان
كما أن مناط النهي عن الطرد فما سبق هو المداومة على العبادة،
وتقدم في رواية ابن المنذر عن عكرمة ما يشير إلى أنها نزلت في
عمر رضي الله تعالى عنه، وروي ذلك أيضا عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما.
وأمر صيغة الجمع على هذا ظاهر.
وأخرج عبد بن حميد، ومسدد في مسنده، وابن جرير، وآخرون عن
ماهان قال: أتى قوم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إنا
أصبنا ذنوبا عظاما فما رد عليه الصلاة والسلام عليهم شيئا
فانصرفوا فأنزل الله تعالى الآية فدعاهم صلّى الله عليه وسلّم
فقرأها عليهم.
وروي عن أنس مثل ذلك،
وقيل: لم تنزل في قوم بأعيانهم بل هي محمولة على إطلاقها
واختاره الإمام. والمشهور الأول وسياق الآية يرجح ما روي عن
ماهان.
(4/154)
فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أمر منه تعالى
لنبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يبدأهم بالسلام في محل لا
ابتداء به فيه إكراما لهم بخصوصهم كما روي عن عكرمة، واختاره
الجبائي، وقيل: أمره سبحانه أن يبلغهم تحيته عز شأنه وروي ذلك
عن الحسن، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعنى اقبل
عذرهم واعترافهم وبشرهم بالسلامة مما اعتذروا منه.
وعليه لا يكون السلام بمعنى التحية وهو أيضا مبني على سبب
النزول عنده رضي الله تعالى عنه، واختار بعضهم أنه بهذا المعنى
أيضا على تقدير أن يراد بالموصول ما روي عن عكرمة فيكون الكلام
أمرا له عليه الصلاة والسلام أن يبشرهم بالسلام من كل مكروه
بعد إنذار مقابليهم.
وقوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي
أوجبها على ذاته المقدسة تفضلا وإحسانا بالذات لا بتوسط شيء.
أصلا وفيه احتمال آخر تقدم تبشير لهم بسعة رحمة الله تعالى.
ولم يعطف على جملة السلام مع أنه محكي بالقول أيضا قيل لأنها
دعائية إنشائية، وقيل: إشارة إلى استقلال كل من مضموني
الجملتين وهما السلامة من المكاره ونيل المطالب بالبشارة. وفي
التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم إظهار للطف بهم
وإشعار بعلة الحكم. وتمام الكلام في الآية قد مر عن قريب.
وقوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بفتح الهمزة
كما قرأ بذلك نافع، وابن عامر، وعاصم، ويعقوب بدل من
الرَّحْمَةَ كما قال أبو علي الفارسي وغيره. وقيل: إنه مفعول
كَتَبَ والرحمة مفعول له، وقيل: إنه على تقدير اللام، وجوز أبو
البقاء أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي عليه سبحانه أنه إلخ ودل
على ذلك ما قبله. وقرأ الباقون «إنه» بالكسر على الاستئناف
النحوي أو البياني كأنه قيل: وما هذه الرحمة؟ والضمير للشأن.
ومن موصولة أو شرطية وموضعها مبتدأ ومِنْكُمْ في موضع الحال من
ضمير الفاعل. وقوله سبحانه: بِجَهالَةٍ حال أيضا على الأظهر أي
من عمل ذنبا وهو جاهل أي فاعل فعل الجهلة لأن من عمل ما يؤدي
إلى الضرر في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل الجهل
والسفه لا من أهل الحكمة والتدبير أو جاهل بما يتعلق به من
المكروه والمضرة.
وعن الحسن كل من عمل معصية فهو جاهل ثُمَّ تابَ عن ذلك مِنْ
بَعْدِهِ أي العمل أو السوء وَأَصْلَحَ أي في توبته بأن أتى
بشروطها من التدارك والعزم على عدم العود أبدا فَأَنَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ أي فشأنه سبحانه وأمره مبالغ في المغفرة
والرحمة له. فإن وما بعدها خبر مبتدأ محذوف، والجملة خبر مَنْ
أو جواب الشرط، والخبر حينئذ على الخلاف، وقدر بعضهم فله أنه
إلخ أو فعلية إنه إلخ، وحينئذ يجوز الرفع على الابتداء والرفع
على الفاعلية، وقيل: إن المنسبك في موضع نصب بفعل محذوف أي
فليعلم أنه إلخ، وقيل: إن هذا تكرير لما تقدم لبعد العهد،
وقيل: بدل منه، قال أبو البقاء: وكلاهما ضعيف لوجهين الأول أن
البدل لا يصحبه حرف معنى إلا أن يجعل الفاء زائدة وهو ضعيف،
والثاني أن ذلك يؤدي إلى أن لا يبقى لمن خبر ولا جواب على
تقدير شرطيتها، والتزام الحذف بعيد، وفتح الهمزة هنا قراءة من
فتح هناك سوى نافع فإنه كباقي القراء قرأ بالكسر.
وأجاز الزجاج كسر الأولى وفتح الثانية، وهي قراءة الأعرج،
والزهري، وأبي عمرو الداني، ولم يطلع- على ما قيل- أبو شامة
عليه الرحمة على ذلك فقال: إنه محتمل أعرابي وإن لم يقرأ به،
وليس كما قال: ومن الناس من قال: إن هذه الآية تقوي مذهب
المعتزلة حيث ذكر سبحانه في بيان سعة رحمته أن عمل السوء إذ
قارن الجهل والتوبة والإصلاح فإنه يغفر، ولذا قيل: إنها نزلت
في عمر رضي الله تعالى عنه حيث قال لرسول الله صلّى الله عليه
وسلّم: لو أجبتهم لما قالوا لعل الله تعالى يأتي بهم ولم يكن
يعلم المضرة ثم إنه تاب وأصلح حتى أنه بكى وقال معتذرا: ما
أردت إلا خيرا. وأورد
(4/155)
عليه أنه من المقرر أن العبرة بعموم اللفظ
لا بخصوص السبب فنزولها في حق عمر رضي الله تعالى عنه لا يدفع
الإشكال.
وتعقب بأن مراد المجيب أن اللفظ ليس عاما وخطاب مِنْكُمْ لمن
كان في تلك المشاورة والعامل لذلك منهم عمر رضي الله تعالى عنه
فلا إشكال. وأنت تعلم أن بناء الجواب على هذه الرواية ليس من
المتانة بمكان إذ للخصم أن يقول: لا نسلم تلك الرواية. فلعل
الأولى في الجواب أن ما ذكر في الآية إنما هو المغفرة الواجبة
حسب وجوب الرحمة في صدر الآية. ولا يلزم من تقييد ذلك بما تقدم
تقييد مطلق المغفرة به. فحينئذ يمكن أن يقال: إنه تعالى قد
يغفر لمن لم يتب مثلا إلا أنه سبحانه لم يكتب ذلك على نفسه جل
شأنه فافهمه فإنه دقيق.
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ أي دائما الْآياتِ أي القرآنية في صفة أهل
الطاعة وأهل الإجرام المصرين منهم والأوابين. والتشبيه هنا
مثله فيما تقدم آنفا وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ
بتأنيث الفعل بناء على تأنيث الفاعل.
وهي قراءة ابن كثير، وابن عامر، وأبي عمرو، ويعقوب، وحفص عن
عاصم، وهو عطف على علة محذوفة للفعل المذكور لم يقصد تعليله
بها بخصوصها، وإنما قصد الإشعار بأن له فوائد جمة من جملتها ما
ذكر أو علة لفعل مقدر وهو عبارة عن المذكور كما يشير إليه أبو
البقاء فيكون مستأنفا أي ولتتبين سبيلهم نفعل ما نفعل من
التفصيل. وقرأ نافع بالتاء ونصب السبيل على أن الفعل متعد أي
ولتستوضح أنت يا محمد سبيل المجرمين فتعاملهم بما يليق بهم.
وقرأ الباقون بالياء التحتية ورفع السبيل على أن الفعل مسند
للمذكر. وتأنيث السبيل وتذكيره لغتان مشهورتان.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ
يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ
يُرْجَعُونَ قال ابن عطاء: أخبر سبحانه بهذه الآية أن أهل
السماع هم الأحياء وهم أهل الخطاب والجواب. وأخبر أن الآخرين
هم الأموات. وقال غيره: المعنى أنه لا يستجيب إلا من فتح الله
سبحانه سمع قلبه بالهداية الأصلية ووهب له الحياة الحقيقية
بصفاء الاستعداد ونور الفطرة لا موتى الجهل الذين ماتت غرائزهم
بالجهل المركب أو بالحجب الجبلية أو لم يكن لهم استعداد بحسب
الفطرة فإنهم قد صموا عن السماع ولا يمكنهم ذلك بل يبعثهم الله
تعالى إليه بالنشأة الثانية ثم يرجعون إليه سبحانه في عين
الجمع المطلق للجزاء والمكافأة مع احتجابهم، وقيل: الآية إشارة
إلى أهل الصحو وأهل المحو وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ
وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ
حيث فطروا على التوحيد وجبلوا على المعرفة ولهم مشارب من بحر
خطاب الله تعالى وأفنان من أشجار رياض كلماته سبحانه وحنين
إليه عز وجل وتغريد باسمه عز اسمه. قيل: إن سمنون المحب كان
إذا تكلم في المحبة يسقط الطير من الهواء.
وروي في بعض الآثار أن الضب بعد أن تكلم مع رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم وشهد برسالته أنشأ يقول:
ألا يا رسول الله إنك صادق ... فبوركت مهديا وبوركت هاديا
وبوركت في الآزال حيا وميتا ... وبوركت مولودا وبوركت ناشيا
وإن فيهم أيضا المحتجبين ومرتكبي الرذائل وغير ذلك. وقد تقدم
الكلام في هذا المبحث مفصلا ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ أي
كتاب أعمالهم مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ في
عين الجمع وَالَّذِينَ كَذَّبُوا لاحتجابهم بغواشي صفات نفوسهم
بِآياتِنا وهي تجليات الصفات صُمٌّ فلا يسمعون بآذان القلوب
وَبُكْمٌ فلا ينطقون بألسنة العقول فِي الظُّلُماتِ وهي ظلمات
الطبيعة وغياهب الجهل مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ
(4/156)
بإسبال حجب جلاله وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ
عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بإشراق سبحات جماله قُلْ
أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ من المرض وسائر
أنواع الشدائد أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ الصغرى أو الكبرى
أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ لكشف ما ينالكم إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ لكشف ذلك. قال بعض العارفين
مرجع الخواص إلى الحق جل شأنه من أول البداية ومرجع العوام
إليه سبحانه بعد اليأس من الخلق وكان هذا في وقت هذا العارف.
وأما في وقتنا فنرى العامة إذا ضاق بهم الخناق تركوا دعاء
الملك الخلاق ودعوا سكان الثرى ومن لا يسمع ولا يرى. وَلَقَدْ
أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ
بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ أي
ليطيعوا ويبرزوا من الحجاب وينقادوا متضرعين عند تجلي صفة
القهر وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ أي ما تضرعوا لقساوة قلوبهم
بكثافة الحجاب وغلبة غشي الهوى وحب الدنيا وأصل كل ذلك سوء
الاستعداد قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ
فلم تسمعوا خطابه وَأَبْصارَكُمْ فلم تشاهدوا عجائب قدرته
وأسرار صنعته وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ فلم يدخلها شيء من
معرفته سبحانه مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ أي
هل يقدر أحد سواه جلت قدرته على فتح باب من هذه الأبواب كلا بل
هو القادر الفعال لما يريد قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي أي
من حيث أنا خَزائِنُ اللَّهِ أي مقدوراته وَلا أَعْلَمُ
أي من حيث أنا أيضا الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي
مَلَكٌ أي روح مجرد لا أحتاج إلى طعام ولا شراب إِنْ أَتَّبِعُ
أي من تلك الحيثية إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ من الله تعالى. وله
صلّى الله عليه وسلّم مقام وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ
وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى. وإِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ
إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
[الأنفال: 17] وليس لطير العقل طيران في ذلك الجو قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الْأَعْمى عن نور الله تعالى وإحاطته بكل ذرة من
العرش إلى الثرى وظهوره بما شاء حسب الحكمة وعدم تقيده سبحانه
بشيء من المظاهر وَالْبَصِيرُ بذلك فيتكلم في كل مقام بمقال
وَلا تَطْرُدِ أي لأجل التربية والتهذيب والامتحان الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الذي أوصلهم حيث أوصلهم من معارج الكمال
بِالْغَداةِ أي وقت تجلي الجمال وَالْعَشِيِّ أي وقت تجلي
العظمة والجلال يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي يريدونه سبحانه بذاته
وصفاته ويطلبون تجليه عز وجل لقلوبهم ما عَلَيْكَ مِنْ
حِسابِهِمْ أي حساب أعمالهم القلبية من شيء لأن الله تعالى قد
تولى حفظ قلوبهم وأمطر عليها سحائب عنايته فاهتزت وربت وأنبتت
من كل زوج بهيج، وقول تعالى: وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ
مِنْ شَيْءٍ عطف على سابقه أتى به للمبالغة على ما مر في
العبارة. ويحتمل أن يراد لا تطرد السالكين لأجل المحجوبين فما
عليك من حساب السالكين أو المحجوبين شيء ومعنى ذلك يعرف بأدنى
التفات فَتَطْرُدَهُمْ عن الجلوس معك فَتَكُونَ مِنَ
الظَّالِمِينَ لهم بنقص حقوقهم وعدم القيام برعاية شأنهم. ومن
المؤولين من قال: إن الآية في أهل الوحدة أي لا تزجر الواصلين
الكاملين ولا تنذرهم فإن الإنذار كما لا ينجع في الذين قست
قلوبهم لا ينجع في الذين طاشوا وتلاشوا في الله تعالى وهم
الذين يخصونه سبحانه بالعبادة دائما بحضور القلب وعدم مشاهدة
شيء سواه حتى ذواتهم ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ فيما يعملون
مِنْ شَيْءٍ إذ لا واسطة بينهم وبين ربهم وَما مِنْ حِسابِكَ
عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي لا يخوضون في أمور دعوتك بنصر
وإعانة لاشتغالهم به سبحانه عمن سواه ودوام حضورهم معه
فَتَطْرُدَهُمْ عما هم عليه من دوام الحضور بدعوتك لهم لشغل
ديني فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ لتشويشك عليهم أوقاتهم.
والله تعالى أعلم بحقيقة كلامه وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ
أي الناس وهم المحجوبون بِبَعْضٍ وهم العارفون لِيَقُولُوا أي
المحجوبون مشيرين إلى العارفين مستحقرين لهم حيث لم يروا منهم
سوى حالهم في الظاهر وفقرهم ولم يروا قدرهم ومرتبتهم وحسن
حالهم في الباطن وغرهم ما
هم فيه من المال والجاه والتنعم وخفض العيش أَهؤُلاءِ مَنَّ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ بالهداية والمعرفة مِنْ بَيْنِنا أرادوا
أنه سبحانه لم يمن عليهم أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ
بِالشَّاكِرِينَ أي الذين يشكرونه حق شكره فيمن عليهم بعظيم
جوده.
(4/157)
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِآياتِنا أي بواسطتها فَقُلْ لهم أنت أيها الوسيلة: سَلامٌ
عَلَيْكُمْ وهذا لأنهم في مقام الوسائط ولو بلغوا إلى درجة أهل
المشاهدة لمنحهم سبحانه بسلامه كما قال عز شأنه: سَلامٌ
قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] وباقي الآية ظاهر.
وقال الإمام الرازي: إن قوله سبحانه: وَإِذا جاءَكَ إلخ مشتمل
على أسرار عالية وذلك لأن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود
الله تعالى وآيات صفات جلاله وإكرامه وآيات وحدانيته وما سواه
سبحانه لا نهاية له فلا سبيل للعقل إلى الوقوف عليه على
التفصيل التام إلا أن الممكن هو أن يطلع على بعض الآيات ويتوسل
بمعرفتها إلى معرفة الله تعالى ثم يؤمن بالبقية على سبيل
الإجمال ثم إنه يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار وكالسائح
في تلك القفار. ولما كان لا نهاية لها فكذلك لا نهاية لترقي
العبد في معارج تلك الآيات. وهذا شرح إجمالي لا نهاية
لتفاصيله.
ثم إن العبد إذا صار موصوفا بهذه الصفة فعند هذا أمر الله
تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بأن يقول لهم: سَلامٌ
عَلَيْكُمْ فيكون هذا التسليم بشارة بحصول السلامة: وقوله
سبحانه: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ بشارة
بحصول الكرامة عقيب تلك السلامة. أما السلامة فبالنجاة من بحر
عالم الظلمات ومركز الجسمانيات ومعدن الآفات والمخافات وموضع
التغيرات والتبدلات، وأما الكرامة فبالوصول إلى الباقيات
الصالحات والمجردات القدسيات والوصول إلى فسحة عالم الأنوار
والترقي إلى معارج سرادقات الجلال انتهى.
وقال آخر: الإشارة إلى نوع من السالكين أي إذا جاءك الذين
يؤمنون بآياتنا بمحو صفاتهم في صفاتنا فَقُلْ سَلامٌ
عَلَيْكُمْ لتنزهكم عن عيوب صفاتكم وتجردكم عن ملابسها كَتَبَ
رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي ألزم ذاته المقدسة
رحمة إبدال صفاتكم بصفاته لكم لأن في الله سبحانه خلفا عن كل
ما فات أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ أي ظهر
عليه في تلوينه صفة من صفاته بغيبة أو غفلة ثُمَّ تابَ مِنْ
بَعْدِهِ أي بعد ظهور تلك الصفة بأن رجع عن تلوينه وفاء إلى
الحضور وَأَصْلَحَ أي ما ظهر منه بالخضوع والتضرع بين يديه
سبحانه والرياضة فَأَنَّهُ عز شأنه غَفُورٌ يسترها عنه رَحِيمٌ
يرحمه بهبة التمكين ونعمة الاستقامة وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ
الْآياتِ أي مثل ذلك التبيين الذي بيناه لهؤلاء المؤمنين نبين
لك صفاتنا وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ وهم
المحجوبون بصفاتهم الذين يفعلون لذلك ما يفعلون. والله تعالى
الموفق للصواب.
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أمر له صلّى الله عليه وسلّم بالرجوع إلى
خطاب المصرين على الشرك إثر ما أمر بمعاملة من عداهم بما يليق
بحالهم أي قل لهم قطعا لأطماعهم الفارغة عن ركونك إليهم وبيانا
لكون ما هم عليه هوى محضا وضلالا صرفا إني صرفت ومنعت بالأدلة
الحقانية والآيات القرآنية أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ أي عن
عبادة الآلهة الذين تَدْعُونَ أي تعبدونهم أو تسمونهم آلهة
مِنْ دُونِ اللَّهِ سواء كانوا ذوي عقول أم لا.
(4/159)
وقد يقال: إن المراد بهم الأصنام إلا أنه
عبر بصيغة العقلاء جريا على زعمهم قُلْ لا أَتَّبِعُ
أَهْواءَكُمْ تكرير الأمر مع قرب العهد اعتناء بشأن المأمور به
وإيذانا باختلاف القولين من حيث إن الأول حكاية لما مر من جهته
تعالى من النهي والثاني لما من جهته عليه الصلاة والسلام من
الانتهاء عن عبادة ما يعبدون. وفي هذا القول استجهال لهم
وتنصيص على أنهم فيما هم فيه من عبادة غير الله تعالى تابعون
لأهواء باطلة وليسوا على شيء مما ينطلق عليه الدين أصلا وإشعار
بما يوجب النهي والانتهاء. وفيه- كما قيل- إشارة إلى عدم كفاية
التقليد الصرف في مثل هذه المطالب، وقيل وهو في غاية البعد: إن
المراد لا أتبع أهواءكم في طرد المؤمنين قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً
أي إن اتبعت أهواءكم فقد ضللت. وهو استئناف مؤكد لانتهائه عليه
الصلاة والسلام عما نهي عنه مقرر لكونه في غاية الضلال.
وقرأ يحيى بن وثاب «ضللت» بكسر اللام وهو لغة فيه، والفتح كما
قال أبو عبيدة- هو الغالب-.
وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ عطف على ما قبله، والعدول إلى
الاسمية للدلالة على الدوام والاستمرار أي دوام النفي
واستمراره لا نفي الدوام والاستمرار، والمراد- كما قيل-، وما
أنا إذا في شيء من الهدى حتى أعد في عدادهم، وفيه تعريض بأن
المقول لهم كذلك قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ تبيين للحق الذي
عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبيان لاتباعه إياه إثر
إبطال الباطل الذي فيه الكفرة وبيان عدم اتباعه عليه الصلاة
والسلام له في وقت من الأوقات. والبينة- كما قال الراغب-
الدلالة الواضحة من بان يبين إذا ظهر أو الحجة الفاصلة بين
الحق والباطل على أنها من البينونة أي الانفصال، وأيا ما كان
فالمراد بها القرآن- كما قال الجبائي- وعن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما أن المراد أني على يقين. وعن الحسن أن المراد بها
النبوة وهو غير ظاهر كتفسيرها بالحجج العقلية أو ما يعمها،
والتنوين للتفخيم أن بينة جليلة الشأن مِنْ رَبِّي أي كائنة من
جهته سبحانه. ووصفها بذلك لتأكيد ما أفاده التنوين.
وجوز أن تكون مِنْ اتصالية، وفي الكلام مضاف أي بينة متصلة
بمعرفة ربي، وقيل: هي أجلية متعلقة بما تعلق به الخبر ويقدر
المضاف أيضا أي كائن على بينة لأجل معرفة ربي والأول أظهر، وفي
التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلّى الله عليه
وسلّم من التشريف ورفع المنزلة ما لا يخفى.
وقوله سبحانه: وَكَذَّبْتُمْ بِهِ- كما قال أبو البقاء- جملة
إما مستأنفة أو حالية بتقدير قد في المشهور جيء بها لاستقباح
مضمونها واستبعاد وقوعه مع تحقق ما يقتضي عدمه أو للتفرقة بينه
عليه الصلاة والسلام وبينهم، والضمير للبينة، والتذكير باعتبار
المعنى المراد، وقال الزجاج: لأنها بمعنى البيان، وجوز أن يكون
الضمير لربي على معنى إني صدقت به ووحدته وأنتم كذبتم به
وأشركتم.
وقوله تعالى: ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ استئناف مبين
لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأ لتكذيبهم بالقرآن وهو عدم مجيء ما
وعد فيه من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بقولهم بطريق
الاستهزاء أو الإلزام زعمهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين،
وقال الإمام: إنه عليه الصلاة والسلام كان يخوفهم بنزول العذاب
عليهم بسبب هذا الشرك والقوم لإصرارهم على الكفر كانوا
يستعجلون نزول ذلك فقال لهم: ما عِنْدِي إلخ وكأن الكلام مبين
أيضا لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأ لعدم الالتفات إلى نهي
الرسول صلّى الله عليه وسلّم عنه والإخبار بنزول العذاب بسببه
أي ليس عندي ما يستعجلونه من العذاب الموعود به وتجعلون تأخره
ذريعة إلى تكذيب القرآن أو عدم الالتفات إلى النهي عنه والوعيد
عليه في حكمي وقدرتي حتى أجيء به أي ليس أمره مفوضا إلي إِنِ
الْحُكْمُ أي ما الحكم في تأخير ذلك إِلَّا لِلَّهِ وحده من
غير أن يكون لغيره سبحانه خل ما فيه بوجه من الوجوه.
(4/160)
واختار بعضهم التعميم في متعلق الحكم أي ما
الحكم في ذلك تأخيرا أو تعجيلا أو ما الحكم في جميع الأشياء
فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا ورجح الأول بأن المقصود من قوله
سبحانه: إِنِ الْحُكْمُ إلخ التأسف على وقوع خلاف المطلوب كما
يشهد به موارد استعماله وهو على التأخير فقط يَقُصُّ أي يتبع
الْحَقَّ والحكمة فيما يحكم به ويقدره كائنا ما كان أو يبينه
بيانا شافيا من قص الأثر أو الخبر وهو من قبيل التكميل للخاص
على ما اخترناه بإردافه بأمر عام كقوله تعالى: بِيَدِهِ
الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك: 1] . وقرأ
الكسائي وغيره «يقضي» من القضاء وحذفت الياء في الخط تبعا
لحذفها في اللفظ لالتقاء الساكنين، وأصله أن يتعدى بالباء لا
بنفسه فنصب الْحَقَّ إما على المصدرية لأنه صفة مصدر محذوف
قامت مقامه أي يقضي القضاء الحق أو على أنه مفعول به ويقضي
متضمن معنى ينفذ أو هو متعد من قضى الدرع إذا صنعها أي يصنع
الحق ويدبره كقول الهذلي.
مسرودتان قضاهما داود. وفي الكلام على هذا استعارة تبعية،
واحتج مجاهد للقراءة الأولى بعدم الباء المحتاج إليها في
الثانية وقد علمت فساده.
واحتج أبو عمرو للثانية بقوله سبحانه: وَهُوَ خَيْرُ
الْفاصِلِينَ فإن الفصل إنما يكون في القضاء لا في القصص ولو
كان ذلك في الآية لقيل خير القاصين. وأجاب أبو علي الفارسي بأن
القصص هاهنا بمعنى القول وقد جاء الفصل فيه قال تعالى: إِنَّهُ
لَقَوْلٌ فَصْلٌ [الطارق: 13] كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ
فُصِّلَتْ [هود: 1] وَنُفَصِّلُ الْآياتِ [التوبة: 11] على أنك
تعلم بأدنى التفات إلى أن القصص هنا قد يؤول بلا تكلف وبعد إلى
معنى القضاء. وفي إرشاد العقل السليم أن أصل القضاء الفصل
بتمام الأمر وأصل الحكم المنع فكأنه يمنع الباطل عن معارضة
الحق أو الخصم عن التعدي إلى صاحبه، وجملة وَهُوَ خَيْرُ إلخ
تذييل مقرر لمضمون ما قبله مشير إلى أن قص الحق هاهنا بطريق
خاص هو الفصل بين الحق والباطل فافهم.
واحتج بعض أهل السنة بقوله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إلخ لإفادته
الحصر على أنه لا يقدر العبد على شيء من الأشياء إلا إذا قضى
الله تعالى به فيمتنع منه فعل الكفر إلا إذا قضى الله تعالى به
وحكم، وكذلك في جميع الأفعال.
وقالت المعتزلة: إن قوله سبحانه: «يقضي الحق» معناه أن كل ما
يقضي به فهو الحق، وهذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر
والمعصية من العاصي لأن ذلك ليس بحق ولا يخفى ما فيه قُلْ لَوْ
أَنَّ عِنْدِي أي في قدرتي وإمكاني ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من
العذاب لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي بأن ينزل
عليكم إثر استعجالكم، وفي بناء الفعل للمفعول من الإيذان بتعين
الفاعل الذي هو الله جلت عظمته وتهويل الأمر ومراعاة حسن الأدب
ما لا يخفى.
وقال الزمخشري ومن تبعه: المعنى لو كان ذلك في مكنتي لأهلكتكم
عاجلا غضبا لربي عز وجل وامتعاضا من تكذيبكم به ولتخلصت منكم
سريعا، ولا يساعده المقام، ومثله حمل ما يستعجلون به على
الآيات المقترحة وقضاء الأمر على قيام الساعة وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ أي بحالهم وبأنهم مستحقون للإمهال
بطريق الاستدراج لتشديد العذاب، ولذلك لم يفوض الأمر إلي ولم
يقض بتعجيل العذاب، والجملة مقررة لما أفادته الجملة
الامتناعية من انتفاء كون أمر العذاب مفوضا إليه عليه الصلاة
والسلام والمستتبع لانتفاء قضاء الأمر وتعليل له.
وقيل: هي في معنى الاستدراك كأنه قيل: لو قدرت أهلكتكم ولكن
الله تعالى أعلم بمن يهلك عن غيره وله حكمة في عدم التمكين
منه، وأيا ما كان فلا حاجة إلى حذف مضاف، وزعم بعضهم ذلك،
والتقدير وقت عقوبة الظالمين وهو كما ترى والله تعالى أعلم.
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ أي مفاتيحه كما قرىء به فهو جمع
مفتح بكسر الميم وهو كمفتاح آلة الفتح.
(4/161)
وقيل: إنه جمع مفتاح كما قيل في جمع محراب
محارب، والكلام على الاستعارة حيث شبه الغيب بالأشياء المستوثق
منها بالإقفال وأثبت له المفاتيح تخييلا وهي باقية على معناها
الحقيقي، وجعلها بمعنى العلم قرينة المكنية بناء على أنه لا
يلزم أن تكون حقيقة بعيد، وأبعد منه تكلف التمثيل. وقيل:
الأقرب أن يعتبر هناك استعارة مصرحة تحقيقية بأن يستعار العلم
للمفاتح وتجعل القرينة الإضافة إلى الغيب. وأخرج ابن جرير وابن
أبي حاتم عن السدي أن المراد من المفاتح الخزائن فهي حينئذ جمع
مفتح بفتح الميم وهو المخزن.
وجوز الواحدي أن يكون مصدرا بمعنى الفتح وليس بالمتبادر. وفي
الكلام استعارة مكنية تخييلية، وتقديم الخبر لإفادة الحصر.
والمراد بالغيب المغيبات على سبيل الاستغراق، والمقصود على كل
تقدير أنه سبحانه هو العالم بالمغيبات جميعها كما هي ابتداء لا
يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ في موضع الحال من مفاتح، والعامل فيها-
كما قال أبو البقاء- ما تعلق به الظرف أو نفسه إن رفعت به،
ويجوز أن يكون تأكيدا لمضمون ما قبله، والكلام إما مسوق لبيان
اختصاص المقدورات الغيبية به سبحانه من حيث العلم إثر بيان
اختصاص كلها به تعالى من حيث القدرة، والمعنى أن ما تستعجلون
به من العذاب ليس مقدورا لي حتى ألزمكم بتعجيله ولا معلوما لدي
حتى أخبركم بوقت نزوله بل هو مما يختص به جل شأنه قدرة وعلما
فينزله حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم، وأما لإثبات
العلم العام له سبحانه وهو علمه بكل شيء بعد إثبات العلم الخاص
وهو علمه بالظالمين، وذكر الإمام أن معنى الآية على تقدير أن
يراد بالمفاتح الخزائن أنه سبحانه القادر على جميع الممكنات
كما في قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا
خَزائِنُهُ [الحجر: 21] .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
أنه قال: مفاتح الغيب خمس وتلا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ [لقمان: 34] الآية، وروي نحوه عن ابن مسعود، وأخرج
أحمد، والبخاري، وغيرهما عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما
مرفوعا نحو ذلك، ولعل الحمل على الاستغراق أولى، وما في
الأخبار يحمل على بيان البعض المهم لا على دعوى الحصر إذ لا
شبهة في أن ما عدا الخمس من المغيبات لا يعلمه أيضا إلا الله
تعالى.
وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ عطف على جملة
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ إلخ أو على الجملة قبله وهو ظاهر على
تقدير حاليتها، وأما على تقدير كونها تأكيدا فقد منعه البعض
لأن المعطوف لا يصلح للتأكيد ولو كان علمه سبحانه بالمغيبات
عند المحقين على وجه التفصيل والاختصاص لأن علم الغيب والشهادة
متغايران فلا يؤكد أحدهما الآخر.
نعم قيل: من لم يجعلها مؤكدة جوز العطف عليها فيكون الجملتان
مستأنفتين لتفصيل علمه سبحانه وشموله لا غير، وجوز أن يكون
المجموع مؤكدا لاشتماله على مضمون ما قبله لأنه ليس توكيدا
اصطلاحيا، والمراد من هذه الجملة- كما قال غير واحد- بيان تعلق
علمه تعالى بالمشاهدات إثر بيان تعلقه بالمغيبات تكملة له
وتنبيها على أن الكل بالنسبة إلى علمه المحيط سواء، والمراد من
من البر الصحراء ومن البحر خلافه، وفي القاموس أنه الماء
الكثير أو الملح فقط ويجمع وجمعه أبحر وبحوز وبحار وتصغيره
أبيحر لا بحير. وعن مجاهد أن المراد بالبر القفار وبالبحر كل
قرية فيها ماء وهو خلاف الظاهر، وأيا ما كان فالمعنى يعلم ما
فيهما من الموجودات مفصلة على اختلاف أجناسها وأنواعها وتكثر
أفرادها.
وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها أي وما تسقط
ورقة من أي شجرة كانت إلا عالما بها، فمن زائدة في الفاعل،
والجملة بعد إلا في موضع الحال منه، وجاءت الحال من النكرة
لاعتمادها على النفي، والتفريغ في الحال شائع سائغ.
(4/162)
وجوز أن تكون في موضع النعت للنكرة،
والكلام مسوّق- كما قيل- لبيان تعلق علمه تعالى بأحوال
المشاهدات المتغيرة بعد بيان تعلقه بذواتها فإن تخصيص حال
السقوط بالذكر ليس إلا بطريق الاكتفاء بذكرها عن ذكر سائر
الأحوال كما أن ذكر أحوال الورقة وما عطف عليها خاصة دون أحوال
سائر ما في البر والبحر من الموجودات التي لا يحيط بها نطاق
الحصر باعتبار أنها أنموذج لأحوال سائرها، قيل: ولعل الاكتفاء
بحال السقوط دون الاكتفاء بغيرها من الأحوال لشدة ملاءمتها لما
سيأتي إن شاء الله تعالى في آية التوفي، ولأن التغيير فيها
أظهر فهو أوفق بما سيقت له الآية، وقيل: لأن العلم بالسقوط
لكونه من الأحوال الساقطة التي يغفل عنها يستلزم العلم بغيره
من الأحوال المعتنى بها فتدبر، فكأنه قيل: وما تتغير ورقة من
حال إلى حال إلا يعلمها وَلا حَبَّةٍ عطف على وَرَقَةٍ.
وقوله سبحانه: فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ متعلق بمحذوف وقع صفة
لحبة مفيدة لكمال ظهور علمه تعالى.
والمراد من ظلمات الأرض بطونها، وكني بالظلمة عن البطن لأنه لا
يدرك فيه كما لا يدرك في الظلمة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما المراد ظلمات الأرض ما تحت الصخرة في أسفل الأرضين السبع
أو تحت حجر أو شيء، وقوله تعالى: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ عطف
على «ورقة» أيضا داخل معها في حكمها، والمراد بالرطب واليابس
رطب ويابس من شأنهما السقوط كالثمار مثلا لاقتضاء العطف ذلك
وقوله سبحانه: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ كالتكرير لقوله
سبحانه إِلَّا يَعْلَمُها لأن معناهما واحد في المآل سواء أريد
بالكتاب المبين علمه تعالى أو اللوح المحفوظ الذي هو محل
معلوماته سبحانه، وإلى هذا ذهب الزمخشري وأراد كما قال السعد:
إنه تكرير من جهة المعنى، وأما من جهة اللفظ فهو صفة للمذكورات
كما أن إِلَّا يَعْلَمُها صفة لورقة. وأورد عليه بأن صفة شيء
كيف تكون تكريرا لصفة شيء آخر معنى. وأجيب بأنه غير وارد لأن
الورقة داخلة في الرطب واليابس فلا تغاير بحسب المعنى فيصح ما
ذكر، وقيل: إنه بدل من الاستثناء الأول بدل الكل إن فسر الكتاب
بالعلم وبدل الاشتمال إن فسر باللوح وفيه تأمل. وقرىء «ولا
حبة» ، «ولا رطب ولا يابس» بالرفع على العطف على محل وَرَقَةٍ
وخص بعضهم هذه القراءة بالأخيرين.
وجوز أن يكون الرفع على الابتداء والخبر إِلَّا فِي كِتابٍ قيل
وهو الأنسب بالمقام لشمول الرطب واليابس حينئذ لما ليس من شأنه
السقوط. وقد جعلهما غير واحد شاملين لجميع الأشياء لأن الأجسام
كلها لا تخلو من أن تكون رطبة أو يابسة ويدخل في ذلك الحار
والبارد، والمراد من كل معناه اللغوي لا مصطلح الأطباء كما لا
يخفى. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالرطب ما
ينبت وباليابس ما لا ينبت. وفي رواية أخرى عنه أن الأول الماء
والثاني الثرى. وروى أبو الشيخ عنه ما يفيد العموم، ولعله
الأولى بالقبول، وقيل: الرطب الحي واليابس الميت.
وروى الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال:
الورقة السقط والحبة الولد وظلمات الأرض الأرحام والرطب ما
يحيا واليابس ما يغيض،
وأنا أجل أبا عبد الله رضي الله تعالى عنه عن التفوه بهذا
التفسير إذ هو خلاف الظاهر جدا، ومثله في عدم التبادر ما أخرجه
أبو الشيخ عن محمد بن جحادة أنه قال: إن لله تعالى شجرة تحت
العرش ليس مخلوق إلا له فيها ورقة فإذا سقطت ورقته خرجت روحه
من جسده، وذلك قوله سبحانه: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ ثم إن
تفسير الكتاب باللوح هو الذي مشى عليه جماعة من المفسرين منهم
الزجاج فقد قال: إنه تعالى أثبت المعلومات في كتاب من قبل أن
يخلق الخلق كما قال سبحانه: إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَبْرَأَها [الحديد:
22] .
وفي رواية لمسلم «أن الله تعالى كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق
السماء والأرض بخمسين ألف سنة» .
(4/163)
وفائدة ذلك أمور: أحدها اعتبار الملائكة
عليهم السلام موافقات المحدثات للمعلومات الإلهية. وثانيها
وعليه اقتصر الحسن تنبيه المكلفين على عدم إهمال أحوالهم
المشتملة على الثواب والعقاب حيث ذكر أن الورقة والحبة في
الكتاب. وثالثها عدم تغيير الموجودات عن الترتيب السابق في
الكتاب، ولذا
جاء «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» ،
وهذا الكتاب يسمى اللوح المحفوظ لحفظه عن التحريف ووصول
الشياطين إليه أو من المحو والإثبات بناء على أنهما إنما
يكونان في صحف الملائكة دونه. والبلخي اختار أن معنى قوله
تعالى: فِي كِتابٍ مُبِينٍ أنه محفوظ غير منسي ولا مغفول عنه،
كما يقول القائل لغيره ما تصنعه مسطور مكتوب عندي فإنه إنما
يريد أنه حافظ له يريد مكافأته عليه. وأنشد ذلك:
إن لسلمى عندنا ديوانا وذكر الإمام هاهنا ما سماه دقيقة، وهو
أن القضايا العقلية المحضة يصعب تحصيل العلم بها على سبيل
التمام والكمال إلا للعقلاء الكاملين الذين تعودوا الإعراض عن
قضايا الحس والخيال وألفوا استحضار المعقولات المجردة وهم
كالكبريت الأحمر وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ من تلك القضايا
وحيث أريد إيصالها إلى كل عقل لأن القرآن إنما نزل لينتفع به
جميع الخلق ذكر مثال من الأمور المحسوسة الداخلة تحت تلك
القضية العقلية الكلية ليصير ذلك المعقول بمعاونة هذا المثال
المحسوس مفهوما لكل واحد فذكر وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ ليكشف به عن حقيقة عظمة ذلك المعقول. وقدم ذكر
البر لأن الإنسان قد شاهد أحواله وكثرة ما فيه.
وأما البحر فإحاطة العقل بأحواله أقل إلا أن الحس يدل على أن
عجائب البحار في الجملة أكثر وطولها وعرضها أعظم وما فيها من
الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب فإذا استحضر الخيال معلومات
البر والبحر وعرف أن مجموعها حقير من جنب ما دخل في دائرة
عموم، وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ يصير ذلك مقويا ومكملا
للعظمة الحاصلة تحت ذلك، ثم كشف سبحانه عن عظمة البر والبحر
بقوله عز وجل: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها،
وذلك لأن العقل يستحضر جميع ما في الأرض من المدن والقرى
والمفاوز والمهالك ثم يستحضركم فيها من النجم والشجر. ثم
يستحضر أنه لا يتغير حال ورقة إلا والحق يعلمها، ثم ذكر مثالا
أشد هيبة وهو وَلا حَبَّةٍ إلخ.
وذلك لأن الحبة تكون في غاية الصغر، وظُلُماتِ الْأَرْضِ يخفى
فيها أكبر الأجسام وأعظمها فإذا سمع العاقل أن تلك الحبة
الصغيرة الملقاة في ظلمات الأرض على اتساعها وعظمتها لا تخرج
من علمه سبحانه انتبه غاية الانتباه وفاز من مجموع ذلك بالحظ
الأوفر من المعنى المشار إليه في صدر الآية، ثم إنه تعالى لما
قوى ذلك المعقول المحض المجرد بذكر هذه الجزئيات المحسوسة عاد
إلى ذكر تلك القضية بعبارة أخرى وهي قوله عز اسمه وَلا رَطْبٍ
وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ فإنه عين ما تقدم، وهذا مبني
على أحد الوجوه في الآية فلا تغفل، وفيها دليل على أن الله
تعالى عالم بالجزئيات.
ونسبت المخالفة فيه للفلاسفة، والحق أنهم لا ينكرون ذلك. وإنما
ينكرون علمه سبحانه بها بوجه جزئي وهو بحث طويل الذيل. وكذا
بحث علمه تعالى من حيث هو. وقد ألفت فيه الرسائل وصار معترك
أفهام الأواخر والأوائل وسبحان من لا يقدر قدره غيره.
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أي ينيمكم فيه كما
نقل عن الزجاج، والجبائي، ففيه استعارة تبعية حيث استعير
التوفي من الموت للنوم لما بينهما من المشاركة في زوال إحساس
الحواس الظاهرة والتمييز، قيل: والباطنة أيضا، وأصله قبض الشيء
بتمامه، ويقال: توفيت الشيء واستوفيته بمعنى وَيَعْلَمُ ما
جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ أي ما كسبتم
(4/164)
وعملتم فيه من الإثم كما أخرج ذلك ابن
جرير، وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقتادة
وهو الذي يقتضيه سياق الآية فإنه للتهديد والتوبيخ، ولهذا أوثر
يَتَوَفَّاكُمْ على ينيمكم ونحوه وجَرَحْتُمْ على كسبتم إدخالا
للمخاطبين الكفرة في جنس جوارح الطير والسباع، وبعضهم يجعل
الخطاب عاما والمراد من الليل والنهار الجنس المتحقق في كل فرد
من أفرادهما إذ بالتوفي والبعث الموجودين فيهما متحقق قضاء
الأجل المسمى المترتب عليهما، والباء في الموضعين بمعنى في كما
أشرنا إليه.
والمراد بعلمه سبحانه ذلك كما قيل: علمه قبل الجرح كما يلوح به
تقديم ذكره على البعث أي يعلم ما تجرحون، وصيغة الماضي للدلالة
على التحقق، وتخصيص التوفي بالليل والجرح بالنهار للجري على
السنن المعتاد وإلا فقد يعكس ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أي
يوقظكم في النهار، وهل هي حقيقة في هذا المعنى أو مجاز فيه
قولان.
والمتبادر منه في عرف الشرع إحياء الموتى في الآخرة وجعلوه
ترشيحا للتوفي وهو ظاهر جدا على المتبادر في عرف الشرع
لاختصاصه بالمشبه به. ويقال على غيره: إنه لا يشترط في الترشيح
اختصاصه بالمشبه به بل أن يكون أخص به بوجه كما قرروه في قوله:
له لبد أظفاره لم تقلم والبعث في الموتى أقوى لأن عدم الإحساس
فيه كذلك فإزالته أشد. وقد صرحوا أيضا أن الترشيح يجوز أن يكون
باقيا على حقيقته تابعا للاستعارة لا يقصد به إلا تقويتها.
ويجوز أن يكون مستعارا من ملائم المستعار منه لملائم المستعار
له، والجملة عطف على يَتَوَفَّاكُمْ وتوسيط وَيَعْلَمُ إلخ
بينهما لبيان ما في بعثهم من عظيم الإحسان إليهم بالتنبيه على
أن ما يكسبونه من الإثم مع كونه مما يستأهلون به إبقاءهم على
التوفي بل إهلاكهم بالمرة يفيض سبحانه عليهم الحياة ويمهلهم
كما ينبىء عنه كلمة التراخي كأنه قيل: هو الذي يتوفاكم في جنس
الليالي ثم يبعثكم في جنس الأنهار مع علمه جل شأنه بما يرتكبون
فيها لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى معين لكل فرد وهو أجل بقائه في
الدنيا، وتكلف الزمخشري في تفسير الآية فجعل ضمير «فيه» جاريا
مجرى اسم الإشارة عائدا على مضمون كونهم متوفين وكاسبين و «في»
بمعنى لام العلة كما في قولك: فيم دعوتني، والأجل المسمى هو
الكون في القبور أي ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم
به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار ومن أجله
ليقضي الأجل الذي سماه سبحانه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على
أعمالهم، وما ذكرناه هو الذي ذهب إليه الزجاج، والجبائي، وغالب
المفسرين وهو عري عن التكلف الذي لا حاجة إليه.
وزعم بعضهم أن الداعي إليه هو أن قوله تعالى: وَيَعْلَمُ ما
جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ دال على حال اليقظة وكسبهم فيها،
وكلمة- ثم- تقتضي تأخير البعث عنها فلهذا عدل الزمخشري إلى ما
عدل إليه، وقال بعض المحققين: إن قوله سبحانه: وَيَعْلَمُ إلخ
إشارة إلى ما كسب في النهار السابق على ذلك الليل والواو للحال
ولا دلالة فيه على الإيقاظ من هذا التوفي وأن الإيقاظ متأخر عن
التوفي وأن قولنا: يفعل ذلك التوفي لتقضي مدة الحياة المقدرة
كلام منتظم غاية الانتظام، ولا يخفى أن فيه تكلفا أيضا مع أن
واو الحال لا تدخل على المضارع إلا شذوذا أو ضرورة في المشهور»
ووجه سنان التراخي المفاد بثم بأن حقيقة الإماتة في الليل
تتحقق في أوله والإيقاظ متراخ عنه وإن لم يتراخ عن جملته.
واعترض بأنه حينئذ لا وجه لتوسيط وَيَعْلَمُ إلخ بينهما وفيه
نظر يعلم مما ذكرنا ثُمَّ إِلَيْهِ سبحانه لا
(4/165)
إلى غيره أصلا مَرْجِعُكُمْ أي رجوعكم
ومصيركم بالموت ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
بالمجازاة بأعمالكم التي كنتم داومتم على عملها في الدنيا.
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ فلا يعجزه أحد منهم ولا يحول
بينه سبحانه وبين ما يريده فيهم، وفَوْقَ نصب على الظرفية حال
أو خبر بعد خبر، وقد تقدم الكلام مبسوطا فيما للعلماء في هذه
الآية وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً من الملائكة وهم الكرام
الكاتبون المذكورون في قوله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ [الانفطار: 10، 11] أو المعقبات
المذكورة في قوله سبحانه: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ
[الرعد: 11] ، وقيل: المراد ما يشمل الصنفين، ويقدر المحفوظ
الأعمال والأنفس والأعم. وعن قتادة يحفظون العمل والرزق
والأجل.
والذي ذهب إليه أكثر المفسرين المعنى الأول في الحفظة، وهم عند
بعض يكتبون الطاعات والمعاصي والمباحات بأسرها كما يشعر بذلك
مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً
إِلَّا أَحْصاها [الكهف: 49] وجاء في الأثر تفسير الصغيرة
بالتبسم والكبيرة بالضحك وما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا
لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18] وقال آخرون: لا يكتبون
المباحات إذ لا يترتب عليها شيء.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن مع كل إنسان ملكين
أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره فإذا تكلم الإنسان بحسنة
كتبها من على اليمين وإذا تكلم بسيئة قال من على اليمين لمن
على اليسار: لتنتظره لعله يتوب منها فإن لم يتب كتب عليه
والمشهور أنهما على الكتفين، وقيل: على الذقن، وقيل: في الفم
يمينه ويساره. واللازم الإيمان بهما دون تعيين محلهما والبحث
عن كيفية كتابتهما، وظواهر الآيات تدل على أن اطلاع هؤلاء
الحفظة على الأقوال والأفعال كقوله تعالى: ما يَلْفِظُ مِنْ
قَوْلٍ، إلخ، وقوله سبحانه: يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ
[الانفطار: 12] وأما على صفات القلوب كالإيمان والكفر مثلا
فليس في الظواهر ما يدل على اطلاعهم عليها، والأخبار بعضها يدل
على الاطلاع
كخبر «إذا هم العبد بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة»
فإن الهم من أعمال القلب كالإيمان والكفر، وبعضها يدل على عدم
الاطلاع
كخبر «إذا كان يوم القيامة يجاء بالأعمال في صحف محكمة فيقول
الله تعالى اقبلوا هذا وردوا هذا فتقول الملائكة وعزتك ما
كتبنا إلا ما عمل فيقول سبحانه: «إن عمله كان لغيري وإني لا
أقبل اليوم إلا ما كان لوجهي»
وفي رواية مرسلة لابن المبارك «إن الملائكة يرفعون أعمال العبد
من عباد الله تعالى فيستكثرونه ويزكونه حتى يبلغوا به حيث شاء
الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة عمل
عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا لم يخلص في عمله
فاجعلوه في سجين» الحديث.
والقائل بأنهم لا يكتبون إلا الأعمال الظاهرة يقول: معنى-
كتبت- في حديث الهم بالحسنة ثبتت عندنا وتحققت لا كتبت في صحف
الملائكة.
والقائل بأنهم يكتبون الأعمال القلبية يقول باستثناء الرياء
فيكتبون العمل دونه ويخفيه الله تعالى عنهم ليبطل سبحانه به
عمل المرائي بعد كتابته إما في الآخرة أو في الدنيا زيادة في
تنكيله وتفظيع حاله، ولعل هذا كما يفعل به يوم القيامة من رده
إلى النار بعد تقريبه من الجنة.
فقد روى أبو نعيم، والبيهقي، وابن عساكر، وابن النجار أنه يؤمر
بناس يوم القيامة إلى الجنة حتى إذا دنوا منها واستنشقوا ريحها
ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله تعالى لأهلها نودوا أن
اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون
والآخرون بمثلها فيقولون: ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا
ما أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا
قال: ذلك أردت بكم يا أشقياء كنتم إذا خلوتم بارزتموني
بالعظائم وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين تراؤون الناس
بأعمالكم خلاف ما تعطوني من قلوبكم هبتم الناس ولم تهابوني
وأجللتم الناس
(4/166)
ولم تجلوني وتركتم للناس ولم تتركوا لي
فاليوم أذيقكم العذاب مع ما حرمتم من الثواب،
والكل عندي محتمل ولا قطع فتدبر.
واختلفوا في أن الحفظة هل يتجددون كل يوم وليلة أم لا؟ فقيل:
إنهم يتجددون وملائكة الليل غير ملائكة النهار دائما إلى
الموت، وقيل: إن ملائكة الليل يذهبون فتأتي ملائكة النهار ثم
إذا جاء الليل ذهبوا ونزل ملائكة الليل الأولون لا غيرهم
وهكذا، وقيل: إن ملائكة الحسنات يتجددون دون ملائكة السيئات
وهو الذي يقتضيه حسن الظن بالله تعالى. واختلف في مقرهم بعد
موت المكلف فقيل: يرجعون مطلقا إلى معابدهم في السماء، وقيل:
يبقون حذاء قبر المؤمن يستغفرون له حتى يقوم من قبره. وصحح غير
واحد أن كاتب الحسنات لا ينحصر في واحد لحديث رأيت كذا وكذا
يبتدرونها أيهم يكتبها أول، والحكمة في هؤلاء الحفظة أن المكلف
إذا علم أن أعماله تحفظ عليه وتعرض على رؤوس الأشهاد كان ذلك
أزجر له عن تعاطي المعاصي والقبائح وأن العبد إذا وثق بلطف
سيده واعتمد على ستره وعفوه لم يحتشم منه احتشامه من خدمه
المطلعين عليه، وقول الإمام: يحتمل أن تكون الفائدة في الكتابة
أن توزن تلك الصحائف يوم القيامة لأن وزن الأعمال غير ممكن
بخلاف وزن الصحائف فإنه ممكن ليس بشيء كما لا يخفى، والقول
بوزن الصحائف أنفسها قول لبعضهم، هذا وَيُرْسِلُ إما مستأنف أو
عطف على في الْقاهِرُ لأنه بمعنى الذي يقهر، وعطفه كما زعم أبو
البقاء على يَتَوَفَّاكُمْ وما بعده من الأفعال المضارعة ليس
بشيء كاحتمال جعله حالا من الضمير في الْقاهِرُ أو في الظرف
لأن الواو الحالية كما أشرنا إليه آنفا لا تدخل على المضارع،
وتقدير المبتدأ لا يخرجه عن الشذوذ على الصحيح. وعَلَيْكُمْ
متعلق بيرسل لما فيه من معنى الاستيلاء، وتقديمه على المفعول
الصريح لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى
المؤخر، وقيل: هو متعلق بمحذوف وقع حالا من حفظه إذ لو تأخر
لكان صفة أي كائنين عليكم.
وقيل: متعلق بحفظة وهو جمع حافظ ككتبة وكاتب، و «حتى» في قوله
تعالى: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ هي التي يبتدأ
بها الكلام وهي مع ذلك تجعل ما بعدها من الجملة الشرطية غاية
لما قبلها كأنه قيل: ويرسل عليكم حفظة يحفظون ما يحفظون منكم
مدة حياتكم حتى إذا انتهت مدة أحدكم وجاء أسباب الموت ومباديه
تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا الآخرون المفوض إليهم ذلك وانتهى هناك
حفظ الحفظة والمراد بالرسل على ما أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم أعوان ملك الموت، ونحوه ما
أخرجاه عن قتادة قال: إن ملك الموت له رسل يباشرون قبض الأرواح
ثم يدفعونها إلى ملك الملك.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الكلبي أن ملك الموت هو الذي
يلي ذلك ثم يدفع الروح إن كانت مؤمنة إلى ملائكة الرحمة وإن
كانت كافرة إلى ملائكة العذاب. والأكثرون على أن المباشر ملك
الموت وله أعوان من الملائكة، وإسناد الفعل إلى المباشر
والمعاون معا مجاز كما يقال بنو فلان قتلوا قتيلا والقاتل واحد
منهم، وقد جاء إسناد الفعل إلى ملك الموت فقط باعتبار أنه
المباشر وإلى الله تعالى باعتبار أنه سبحانه الآمر الحقيقي.
وقد أشرنا فيما تقدم أن بعض الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم
قال: إن المتوفى تارة يكون هو الله تعالى بلا واسطة وتارة
الملك وتارة الرسل وغيره وذلك حسب اختلاف أحوال المتوفى. وعن
الزجاج وهو غريب أن المراد بالرسل هنا الحفظة فيكون المعنى
يرسلهم للحفظ في الحياة والتوفي عند مجيء الممات. وقرأ حمزة
«توفاه» بألف ممالة. وقرىء في الشواذ «تتوفاه» وَهُمْ أي الرسل
لا يُفَرِّطُونَ بالتواني والتأخير.
وقرأ الأعرج «يفرطون» بالتخفيف من الإفراط. وهو مجاوزة الحد
وتكون بالزيادة والنقصان أي لا يجاوزون ما حد لهم بزيادة أو
نقصان، والجملة حال من رُسُلُنا وقيل: مستأنفة سيقت لبيان
اعتنائهم بما أمروا به ثُمَّ رُدُّوا
(4/167)
عطف على «توفته» والضمير- كما قيل- للكل
المدلول عليه بأحد وهو السر في مجيئه بطريق الالتفات، والإفراد
أولا والجمع آخرا لوقوع التوفي على الانفراد والرد على
الاجتماع.
وذهب بعض المحققين أن فيه التفاتا من الخطاب إلى الغيبة ومن
التكلم إليها لأن الرد يناسبه الغيبة بلا شبهة وإن لم يكن الرد
حقيقة لأنهم ما خرجوا من قبضة حكمه سبحانه طرفة عين. ونقل
الإمام القول بعود الضمير على الرسل أي أنهم يموتون كما يموت
بنو آدم، والأول هو الذي عليه غالب المفسرين. والمراد «ثم
ردوا» بعد البعث والحشر أو من البرزخ إِلَى اللَّهِ أي إلى
حكمه وجزائه أو إلى موضع العرض والسؤال مَوْلاهُمُ أي مالكهم
الذي يلي أمورهم على الإطلاق ولا ينافي ذلك قوله تعالى:
وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ [محمد: 11] لأن المولى
فيه بمعنى الناصر الْحَقِّ أي العدل أو مظهر الحق أو الصادق
الوعد.
وذكر حجة الإسلام قدس سره أن الحق مقابل الباطل وكل ما يخبر
عنه فإما باطل مطلقا وإما حق مطلقا وإما حق من وجه باطل من
وجه، فالممتنع بذاته هو الباطل مطلقا والواجب بذاته هو الحق
مطلقا والممكن بذاته الواجب بغيره حق من وجه باطل من وجه، فمن
حيث ذاته لا وجود له فهو باطل ومن جهة غيره مستفيد للوجود فهو
حق من الوجه الذي يلي مفيد الوجود، فمعنى الحق المطلق هو
الموجود الحقيقي بذاته الذي منه يؤخذ كل حقيقة وليس ذلك إلا
الله تعالى، وهذا هو مراد القائل إن الحق هو الثابت الباقي
الذي لا فناء له، وفي التفسير الكبير أن لفظ المولى والولي
مشتقان من القرب وهو سبحانه القريب ويطلق المولى أيضا على
المعتق وذلك كالمشعر بأنه جل شأنه أعتقهم من العذاب وهو المراد
من
قوله سبحانه «سبقت رحمتي غضبي»
وأيضا أضاف نفسه إلى العبيد وما أضافهم إلى نفسه وذلك نهاية
الرحمة، وأيضا قال عز اسمه: مَوْلاهُمُ الْحَقِّ والمعنى أنهم
كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس،
والشهوة، والغضب كما قال سبحانه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ
إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية: 23] فلما مات الإنسان تخلص من تصرفات
الموالي الباطلة وانتقل إلى تصرف المولى الحق انتهى. وهو كما
ترى.
وادعى أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن الإنسان ليس عبارة
عن مجرد هذه البنية لأن صريحها يدل على حصول الموت للعبد ويدل
على أنه بعد الموت يرد إلى الله تعالى والميت مع كونه ميتا لا
يمكن أن يرد إلى الله تعالى لأن ذلك الرد ليس بالمكان والجهة
لتعاليه سبحانه عنهما بل يجب أن يكون مفسرا بكونه منقادا لحكم
الله تعالى مطيعا لقضائه وما لم يكن حيا لا يصح هذا المعنى فيه
فثبت أنه حصل هاهنا موت وحياة أما الموت فنصيب البدن فتبقى
الحياة نصيب الروح ولما قال سبحانه: رُدُّوا وثبت أن المردود
هو الروح ثبت أن الإنسان ليس إلا هي وهو المطلوب، وكذا تشعر
بكون الروح موجودة قبل التعلق بالبدن لأن الرد من هذا العالم
إلى حضرة الجلال إنما يكون لو كانت موجودة كذلك، ونظيره قوله
سبحانه: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] وقوله تعالى: ثُمَّ
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ولا يخفى ما في ذلك فتدبر. وقرىء «الحق»
بالنصب على المدح.
وجوز أن يكون على أنه صفة للمفعول المطلق أي الرد الحق فلا
يكون حينئذ المراد به الله عز وجل والأول أظهر أَلا لَهُ
الْحُكْمُ يومئذ صورة ومعنى لا لغيره بوجه من الوجوه. واستدل
بذلك على أن الطاعة لا توجب الثواب والمعصية لا توجب العقاب إذ
لو ثبت ذلك لثبت للمطيع على الله تعالى حكم وهو أخذ الثواب وهو
ينافي ما دلت عليه الآية من الحصر وَهُوَ أَسْرَعُ
الْحاسِبِينَ يحاسب جميع الخلائق بنفسه في أسرع زمان وأقصره،
ويلزم هذا أن لا يشغله حساب عن حساب ولا شأن عن شأن.
وفي الحديث أنه تعالى يحاسب الكل في مقدار حلب شاة.
وفي بعض الأخبار في مقدار نصف يوم.
وذهب بعضهم إلى أنه تعالى لا يحاسب الخلق بنفسه بل يأمر سبحانه
الملائكة عليهم السلام فيحاسب كل واحد منهم واحدا من العباد.
وذهب آخرون إلى أنه عز وجل إنما يحاسب
(4/168)
المؤمنين بنفسه وأما الكفار فتحاسبهم
الملائكة لأنه تعالى لو حاسبهم لتكلم معهم وذلك باطل لقوله
تعالى في صفتهم: وَلا يُكَلِّمُهُمُ وأجاب الأولون عن هذا بأن
المراد أنه تعالى لا يكلمهم بما ينفعهم فإن ظواهر الآيات ومنها
ما تقدم في هذه السورة من قوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ
جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ
شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 22]
وقوله سبحانه وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ
أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا
الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام: 30] تدل على
تكليمه تعالى لهم في ذلك اليوم، ثم إن كيفية ذلك الحساب مما لا
تحيط بتفصيلها عقول البشر من طريق الفكر أصلا وليس لنا إلا
الإيمان به مع تفويض الكيفية وتفصيلها إلى عالم الغيب
والشهادة. وادعى الفلاسفة أن كثرة الأفعال وتكررها يوجب حدوث
الملكات الراسخة وأنه يجب أن يكون لكل واحد من تلك الأعمال أثر
في حصول تلك الملكة بل يجب أن يكون لكل جزء من أجزاء العمل
الواحد أثر بوجه ما في ذلك وحينئذ يقال: إن الأفعال الصادرة من
اليد هي المؤثرة في حصول الملكة المخصوصة وكذلك الأفعال
الصادرة من الرجل فتكون الأيدي والأرجل شاهدة على الإنسان
بمعنى أن تلك الآثار النفسانية إنما حصلت في جواهر النفوس
بواسطة هذه الأفعال الصادرة عن هذه الجوارح فكأن ذلك الصدور
جاريا مجرى الشهادة بحصول تلك الآثار في جواهر النفس. وأما
الحساب فالمقصود منه استعلام ما بقي من الدخل والخرج، ولما كان
لكل ذرة من الأعمال أثر حسن أو قبيح حسب حسن العمل وقبحه ولا
شك أن تلك الأعمال كانت مختلفة فلا جرم كان بعضها معارضا
بالبعض وبعد حصول المعارضة يبقى في النفس قدر مخصوص من الخلق
الحميد وقدر آخر من الذميم فإذا مات الجسد ظهر مقدار ذلك وهو
إنما يحصل في الآن الذي لا ينقسم وهو الآن الذي فيه فيقطع فيه
تعلق النفس من البدن فعبر عن هذه الحالة بسرعة الحساب، وزعم من
نقل هذا عنهم أنه من تطبيق الحكمة النبوية على الحكمة
الفلسفية، وأنا أقول:
راحت مشرقة ورحت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي
قل لهم تقريرا بانحطاط شركائهم عن رتبة الإلهية، والمراد من
ظلمات البر والبحر كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
شدائدهما وأهوالهما التي تبطل الحواس وتدهش العقول. والعرب-
كما قال الزجاج- تقول لليوم الذي يلقى فيه شدة: يوم مظلم حتى
أنهم يقولون: يوم ذو كواكب أي أنه يوم قد اشتدت ظلمته حتى صار
كالليل في ظلمته، وأنشد:
بني أسد هل تعلمون بلاءنا ... إذا كان يوم ذو كواكب أشهب
ومن الأمثال القديمة- رأى الكواكب ظهرا- أي أظلم عليه يومه
لاشتداد الأمر فيه حتى كأنه أبصر النجم نهارا، ومن ذلك قول
طرفة:
أن تنوله فقد تمنعه ... وتريه النجم يجري بالظهر
وقيل: المراد ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة البحر، وقيل: ظلمة
البر بالخسف فيه وظلمة البحر بالغرق فيه، والظلمات على الأول-
كما قيل- استعارة وعلى الأخيرين حقيقة. ومنهم من جعلها كناية
عن الخسف والغرق والكلام في الكناية معلوم. ومن جوز جمع
الحقيقة والمجاز فسر الظلمات بظلمة الليل، والغيم، والبحر،
والتيه، والخوف، وقرأ يعقوب وسهل «ينجيكم» بالتخفيف من الإنجاء
والمعنى واحد، وقوله تعالى: تَدْعُونَهُ في موضع الحال من
مفعول يُنَجِّيكُمْ كما قال أبو البقاء، والضمير لمن أي من
ينجيكم منها حال كونكم داعين له.
(4/169)
وجوز أن يكون حالا من فاعله أي من ينجيكم
منها حال كونه مدعوا من جهتكم تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً أي إعلانا
وإسرارا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن
فنصبهما على المصدرية، وقيل: بنزع الخافض، والإعلان والإسرار
يحتمل أن يراد بهما ما باللسان، ويحتمل أن يراد بهما ما
باللسان والقلب، وجوز أن يكونا منصوبين على الحال من فاعل
«تدعون» أي معلنين ومسرين.
وقرأ أبو بكر عن عاصم «خفية» بكسر الخاء وهو لغة فيه كالأسوة
والأسوة، وقوله سبحانه لَئِنْ أَنْجانا في محل النصب على
المفعولية لقول مقدر وقع حالا من فاعل تدعون أيضا أي قائلين:
لئن أنجيتنا، والكوفيون يحكون بما يدل على معنى القول كتدعون
من غير تقدير والصحيح التقدير، وقيل: إن الجملة القسمية تفسير
للدعاء فلا محل لها.
وقرأ أهل الكوفة «أنجانا» بلفظ الغيبة مراعاة لتدعونه دون
حكاية خطابهم في حالة الدعاء غير أن عاصما قرأ بالتفخيم
والباقون بالإمالة، وقوله سبحانه مِنْ هذِهِ إشارة إلى ما هم
فيها المعبر عنها بالظلمات لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي
الراسخين في الشكر المداومين عليه لأجل هذه النعمة الجليلة أو
جميع النعم التي هذه من جملتها قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ
مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ أي غم يأخذ بالنفس، والمراد به إما
ما يعم ما تقدم والتعميم بعد التخصيص كثير أو ما يعتري المرء
من العوارض النفسية التي لا تتناهى كالأمراض والأسقام، وأمره
صلّى الله عليه وسلّم بالجواب مع كونه من وظائفهم للإيذان
بظهوره وتعينه أو للإهانة لهم مع بناء قوله سبحانه: ثُمَّ
أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ عليه أي الله تعالى وحده ينجيكم مما
تدعونه إلى كشفه ومن غيره ثم أنتم بعد ما تشاهدون هذه النعم
الجليلة تعودون إلى الشرك في عبادته سبحانه ولا توفون بالعهد.
ووضع تُشْرِكُونَ موضع لا تشكرون الذي هو الظاهر المناسب
لوعدهم السابق المشار إليه بقوله تعالى: لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ للتنبيه على أن من أشرك في عبادة الله تعالى
فكأنه لم يعبده رأسا إذا التوحيد ملاك الأمر وأساس العبادة،
وقيل: لعل المقصود التوبيخ بأنهم مع علمهم بأنه لم ينجهم إلا
الله تعالى كما أفاده تقديم المسند إليه أشركوا ولم يخصوا الله
تعالى بالعبادة فذكر الإشراك في موقعه، وكلمه- ثم- ليس للتراخي
الزماني بل لكمال البعد بين إحسان الله تعالى عليهم وعصيانهم،
ولم يذكر متعلق الشرك لتنزيله منزلة اللازم تنبيها على استبعاد
الشرك في نفسه.
وقرأ أهل الكوفة، وأبو جعفر، وهشام عن ابن عامر «ينجّيكم»
بالتشديد والباقون بالتخفيف.
قُلْ يا محمد لهؤلاء الكفار هُوَ الْقادِرُ لا غيره سبحانه
عَلى أَنْ يَبْعَثَ أي يرسل عَلَيْكُمْ متعلق بيبعث. وتقديمه
على المفعول الصريح وهو قوله سبحانه: عَذاباً للاعتناء به
والمسارعة إلى بيان كون المبعوث مما يضرهم ولتهويل أمر المؤخر،
والكلام استئناف مسوق لبيان أنه تعالى هو القادر على إلقائهم
في المهالك إثر بيان أنه سبحانه هو المنجي لهم منها، وفيه وعيد
ضمني بالعذاب لإشراكهم المذكور، والتنوين للتفخيم أي عذابا
عظيما مِنْ فَوْقِكُمْ أي من جهة العلو كالصيحة، والحجارة،
والريح، وإرسال السماء أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أي من
جهة السفل كالرجفة، والخسف، والإغراق، وأخرج أبو الشيخ عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: من فوقكم أي من قبل
أمرائكم وأشرافكم ومن تحت أرجلكم أي من قبل سفلتكم وعبيدكم وفي
رواية أخرى عنه تفسير الأول بأئمة السوء والثاني بخدم السوء
والمتبادر ما قدمنا وهو المروي عن غير واحد من المفسرين.
والجار والمجرور متعلق بيبعث أيضا، ويجوز أن يكون متعلقا
بمحذوف وقع صفة لعذاب. وأو لمنع الخلو دون الجمع فلا منع لما
كان من الجهتين معا كما فعل بقوم نوح عليه الصلاة والسلام.
أَوْ يَلْبِسَكُمْ أي يخلط أمركم عليكم ففي الكلام مقدر، وخلط
أمرهم عليهم يجعلهم مختلفي الأهواء،
(4/170)
وقيل: المراد اختلاط الناس في القتال بعضهم
ببعض فلا تقدير، وعليه قول السلمي:
وكتيبة لبستها بكتيبة ... حتى إذا التبست نفضت لها يدي
وقرىء «يلبسكم» بضم الياء وهو عطف على يَبْعَثَ وقوله تعالى:
شِيَعاً جمع شيعة كسدرة وسدر وهم كل قوم اجتمعوا على أمر نصب
على الحال، وقيل: إنه مصدر منصوب بيلبسكم من غير لفظه، وجوز
على هذا أن يكون حالا أيضا أي مختلفين، وقوله سبحانه:
وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ عطف على «يبعث» كما نقل عن
السمين، ويفهم من كلام البعض أنه عطف على يلبس وهو من قبيل عطف
التفسير أو من عطف المسبب على السبب.
وقرىء «نذيق» بنون العظمة على طريق الالتفات لتهويل الأمر
والمبالغة في التحذير. والبعض الأول على- ما قيل- الكفار
والثاني المؤمنون ففيه حينئذ وعد ووعيد، وقيل: كلا البعضين من
الكفار أي نذيق كلّا بأس الآخر وقيل البعضان من المؤمنين فقد
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال في
قوله سبحانه: عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِكُمْ هذا للمشركين وفي قوله تعالى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ
شِيَعاً وَيُذِيقَ إلخ هذا للمسلمين ولا يخفى أنه تفكيك للنظم
الكريم، ولعل مراد الحسن أن هذا يكون للمسلمين ويقع فيهم دون
الأول،
وأخرج ابن جرير عنه أيضا أنه قال: «لما نزلت هذه الآية قام
النبي صلّى الله عليه وسلّم فتوضأ فسأل ربه عز وجل أن لا يرسل
عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم ولا يلبس أمته شيعا
ويذيق بعضهم بأس بعض كما أذاق بني إسرائيل فهبط إليه صلّى الله
عليه وسلّم جبرائيل عليه السلام فقال: يا محمد إنك سألت ربك
أربعا فأعطاك اثنتين ومنعك اثنتين لن يأتيهم عذاب من فوقهم ولا
من تحت أرجلهم يستأصلهم فإنهما عذابان لكل أمة استجمعت على
تكذيب نبيها ورد كتاب ربها ولكنهم يلبسون شيعا ويذيق بعضهم بأس
بعض، وهذان عذابان لأهل الإقرار بالكتب والتصديق بالأنبياء
عليهم السلام»
وأخرج أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة والحاكم
وصححه واللفظ له عن ثوبان أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم يقول: «إن ربي زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها
وأعطاني الكنزين الأحمر والأبيض وإن أمتي سيبلغ ملكا ما زوى لي
منها وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة فأعطانيها
وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا عن غيرهم فأعطانيها وسألته أن لا
يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها وقال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء
لم يرد إني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكها بسنة عامة ولا أظهر
عليهم عدوا من غيرهم فيستبيحهم عامة ولو اجتمع من بين أقطارها
حتى يكون بعضهم هو يهلك بعضا وبعضهم هو يسبي بعضا» الحديث.
وأخرج أحمد، والطبراني وغيرهما عن أبي بصرة الغفاري عن النبي
صلّى الله عليه وسلّم قال: «سألت ربي أربعا فأعطاني ثلاثا
ومنعني واحدة سألت الله تعالى أن لا يجمع أمتي على ضلالة
فأعطانيها وسألت الله تعالى أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم
فأعطانيها وسألت الله تعالى أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلكت
الأمم فأعطانيها وسألت الله تعالى أن لا يلبسهم شيعا ويذيق
بعضهم بأس بعض فمنعنيها»
والأخبار في هذا المعنى كثيرة. وفي بعضها دلالة على عد اللبس
والإذاقة أمرا واحدا وفي بعضها دلالة على عد ذلك أمرين، ومن
هنا نشأ الاختلاف السابق في العطف، وأيد بعضهم العطف على يلبس
لا على يَبْعَثَ بكونه بالواو دون أو. ولا يعارض ما روي عن
الحسن من عدم وقوع الأولين في هذه الأمة ما
أخرجه أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى
عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في هذه الآية: أما أنها
كائنة ولم يأت تأويلها بعد،
وكذا ما أخرج الأول في مسنده من طريق أبي العالية عن ابن كعب
أنه قال في الآية: هن أربع وكلهن واقع لا محالة لجواز أن يراد
بالوقوع وقوع لا على وجه الاستئصال وبعدم الوقوع عدمه على وجه
الاستئصال وكلام الحسن كالصريح في هذا فافهم.
(4/171)
انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي
نحولها من نوع إلى آخر من أنواع الكلام تقريرا للمعنى وتقريبا
إلى الفهم أو نصرفها بالوعد والوعيد لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ
أي كي يعلموا جلية الأمر فيرجعوا عما هم عليه من المكابرة
والعناد، واستدل بعض أهل السنة بالآية على أن الله تعالى خالق
للخير والشر، وقال بعض الحشوية والمقلدة: إنها من أدل الدلائل
على المنع من النظر والاستدلال لما أن في ذلك فتح باب التفرق
والاختلاف المذموم بحكم الآية وليس بشيء كما لا يخفى وَكَذَّبَ
بِهِ أي القرآن كما قال الأزهري وروي ذلك عن الحسن وقيل:
الضمير لتصريف الآيات، واختاره الجبائي، والبلخي، وقيل: هو
للعذاب واختاره غالب المفسرين قَوْمُكَ أي قريش، وقيل: هم
وسائر العرب، وأيا ما كان فالمراد المعاندون منهم، قيل: ولعل
إيرادهم بهذا العنوان للإيذان بكمال سوء حالهم فإن تكذيبهم
بذلك مع كونهم من قومه عليه الصلاة والسلام مما يقضي بغاية
عتوهم ومكابرتهم، وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر
مرارا.
وَهُوَ الْحَقُّ أي الكتاب الصادق في كل ما نطق به لا ريب فيه
أو المتحقق الدلالة أو الواقع لا محالة.
والواو حالية والجملة بعدها في موضع الحال من الضمير المجرور،
وقيل: الواو استئنافية (1) وبعدها مستأنفة. وأيّا ما كان ففيه
دلالة على عظم جنايتهم ونهاية قبحها قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ
بِوَكِيلٍ أي بموكل فوض أمركم إلى أحفظ أعمالكم لأجازيكم بها
إنما أنا منذر ولم آل جهدا في الإنذار والله سبحانه هو المجازي
قاله الحسن.
وقال الزجاج: المراد أني لم أؤمر بحربكم ومنعكم عن التكذيب.
وفي معناه ما نقل عن الجبائي. والآية على ما روي عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما منسوخة بآية القتال ولا بعد في ذلك على
المعنى الثاني.
لِكُلِّ نَبَإٍ أي لكل شيء ينبأ به من الأنباء التي من جملتها
عذابكم أو لكل خبر من الأخبار التي من جملتها خبر مجيئه
مُسْتَقَرٌّ أي وقت استقرار ووقوع البتة أو وقت استقراره بوقوع
مدلوله وليس مصدرا ميميا.
وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أي حال نبئكم في الدنيا أو في الآخرة أو
فيهما معا، وسوف للتأكيد.
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا بالتكذيب
والاستهزاء بها والطعن فيها كما هو دأب قريش وديدنهم في
أنديتهم وهم المراد بالموصول. وعن مجاهد أهل الكتاب فإن ديدنهم
ذلك أيضا، ولذا أتى بإذا الدالة على التحقيق، وهذا بخلاف
النسيان الآتي، وأصل الخوض من خاض القوم في الحديث وتخاوضوا
إذا تفاوضوا فيه، وقال الطبرسي: الخوض التخليط في المفاوضة على
سبيل العبث واللعب وترك التفهم والتبيين، وقال بعض المحققين:
أصل معنى الخوض عبور الماء استعير للتفاوض في الأمور، وأكثر ما
ورد في القرآن للذم فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي اتركهم ولا تجالسهم
حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ أي كلام غَيْرِهِ أي غير آياتنا.
والتذكير باعتبار كونها حديثا فإن وصف الحديث بمغايرتها مشير
إلى اعتبارها بعنوان الحديثية، وقيل: باعتبار كونها قرآنا،
والمراد بالخوض هنا التفاوض لا بقيد التكذيب والاستهزاء. وادعى
بعضهم أن المعنى حتى يشتغلوا بحديث غيره وأن ذكر يَخُوضُوا
للمشاكلة، واستظهر عود الضمير إلى الخوض. واستدل بعض العلماء
بالآية على أن إِذا تفيد التكرار لحرمة القعود مع الخائض كما
خاض. ونظر فيه بأن التكرار ليس من إذا بل من ترتب الحكم على
مأخذ الاشتقاق.
واستدلال بعض الحشوية بها على النهي عن الاستدلال والمناظرة في
ذات الله تعالى وصفاته زاعما أن ذلك
__________
(1) قوله وبعدها مستأنفة كذا بخطه والأمر سهل
(4/172)
خوض في آيات الله تعالى مما لا ينبغي أن
يلتفت إليه وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ بأن يشغلك
فتنسى الأمر بالإعراض عنهم فتجالسهم ابتداء أو بقاء، وهذا على
سبيل الفرض إذ لم يقع وأنى للشيطان سبيل إلى إشغال رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم، ولذا عبر بأن الشرطية المزيدة ما بعدها.
وذهب بعض المحققين أن الخطاب هنا وفيما قبل لسيد المخاطبين
عليه الصلاة والسلام والمراد غيره، وقيل: «لغيره ابتداء أي إذا
رأيت أيها السامع وإن أنساك أيها السامع» والمشهور عن الرافضة
اختيار أن النبي صلّى الله عليه وسلّم منزه عن النسيان لقوله
تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى: 6] وإن غيرهم ذهب
إلى جوازه. وعلى نسبة الأول إليهم نص صاحب الأحكام، والجبائي،
وغيرهما، وقال الأخير: إن الآية دليل على بطلان قولهم ذلك.
والذي وقفت عليه في معتبرات كتبهم أنهم لا يجوزون النسيان،
وكذا السهو على النبي صلّى الله عليه وسلّم وكذا على سائر
الأنبياء عليهم السلام فيما يؤديه عن الله تعالى من القرآن
والوحي. وأما ما سوى ذلك فيجوزون عليه عليه الصلاة والسلام أن
ينساه ما لم يؤد إلى إخلال بالدين.
وأنا أرى أن محل الخلاف النسيان الذي لا يكون منشؤه اشتغال
السر بالوساوس والخطرات الشيطانية فإن ذلك مما لا يرتاب مؤمن
في استحالته على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتفصيل
الكلام في ذلك على ما في معتبرات كتبنا أن مذهب جمهور العلماء
جواز النسيان عليه صلّى الله عليه وسلّم في أحكام الشرع وهو
ظاهر القرآن والأحاديث لكن اتفقوا على أنه عليه الصلاة والسلام
لا يقر عليه بل يعلمه الله تعالى به، ثم قال الأكثرون: يشترط
تنبهه عليه الصلاة والسلام على الفور متصلا بالحادثة ولا يقع
فيه تأخير، وجوزت طائفة تأخيره مدة حياته صلّى الله عليه وسلّم
واختاره إمام الحرمين، ومنعت ذلك طائفة من العلماء في الأفعال
البلاغية والعبادات كما أجمعوا على منعه واستحالته عليه صلّى
الله عليه وسلّم في الأقوال البلاغية، وأجابوا عن الظواهر
الواردة في ذلك. وإليه مال الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني،
وصحح النووي الأول فإن ذلك لا ينافي النبوة، وإذا لم يقر عليه
لم يتحصل منه مفسدة ولا ينافي الأمر بالاتباع بل يحصل منه
فائدة وهو بيان أحكام الناسي وتقرر الأحكام.
وذكر القاضي أنهم اختلفوا في جواز السهو عليه صلّى الله عليه
وسلّم في الأمور التي لا تتعلق بالبلاغ وبيان أحكام الشرع من
أفعاله وعاداته وأذكار قلبه فجوزه الجمهور. وأما السهو في
الأقوال البلاغية فأجمعوا على منعه كما أجمعوا على امتناع
تعمده، وأما السهو في الأقوال الدنيوية وفيما ليس سبيله البلاغ
من الكلام الذي لا يتعلق بالأحكام ولا أخبار القيامة وما يتعلق
بها ولا يضاف إلى وحي فجوزه قوم إذ لا مفسدة فيه، ثم قال:
والحق الذي لا شك فيه ترجيح قول من قال:
يمتنع ذلك على الأنبياء عليهم السلام في كل خبر من الأخبار كما
لا يجوز عليهم خلف في خبر لا عمدا ولا سهوا لا في صحة ولا مرض
ولا رضى ولا غضب، وحسبك في ذلك أن سيره صلّى الله عليه وسلّم
وكلامه وأفعاله مجموعة يعتني بها على مر الزمان ويتناولها
الموافق والمخالف والمؤمن والمرتاب فلم يأت في شيء منها
استدراك غلط في قول ولا اعتراف بوهم في كلمة ولو كان لنقل كما
نقل سهوه في الصلاة ونومه عليه الصلاة والسلام عنها واستدراكه
رأيه في تلقيح النخل وفي نزوله بأدنى مياه بدر إلى غير ذلك.
وأما جواز السهو في الاعتقادات في أمور الدنيا فغير ممتنع.
وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام على هذا المبحث عند
تفسير قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ
وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ [الحج: 52] الآية.
وقرأ ابن عامر «ينسّينّك» بتشديد السين ونسي بمعنى أنسى، وقال
ابن عطية: نسي أبلغ من أنسى والنون في القراءتين مشددة وهي نون
التوكيد، والمشهور أنها لازمة في الفعل الواقع بعد أن الشرطية
المصحوبة بما الزائدة، وقيل:
لا يلزم فيه ذلك، وعليه قول ابن دريد:
(4/173)
أما ترى رأسي حاكى لونه ... طرة صبح تحت
أذيال الدجى
فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى أي بعد تذكر الأمر بالإعراض
كما عليه جمهور المفسرين. وقال أبو مسلم:
المعنى بعد أن تذكرهم بدعائك إياهم إلى الدين ونهيك لهم عن
الخوض في الآيات وليس بشيء.
وجوز الزمخشري أن تكون الذِّكْرى بمعنى تذكير الله تعالى إياه
وأن المعنى وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة
المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد أن ذكرناك
قبحها ونبهناك عليه، ولا يخفى أنه وجه بعيد مبني على قاعدة
القبح والحسن التي هدمتها معاول أفكار العلماء الراسخين، ثم
إنا لا نسلم أن مجالسة المستهزئين مما ينكره العقول مطلقا،
وذكر ابن المنير أن اللائق على ما قال- وإن أنساك- دون
وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ على أن إنساء الشيطان إن صح فعن السمعي
أيسر، وليس هذا أول خوض من الزمخشري في تأويل الآيات بل ذلك
دأبه مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي معهم فوضع المظهر موضع
المضمر نعيا عليهم أنهم بذلك الخوض ظالمون واضعون للتكذيب
والاستهزاء موضع التصديق والتعظيم راسخون في ذلك، وفي الآية-
كما قال غير واحد- إيذان بعدم تكليف الناسي، وهذه من المسائل
المتنازع فيها بينهم وعنونوها بمسألة تكليف الغافل وعدوا منه
الناسي. وللأشعري فيها قولان وصوب عدم التكليف لعدم الفائدة
فيه أصلا بخلاف التكليف بالمحال.
ونقل ابن برهان في الأوسط عن الفقهاء القول بصحة تكليفه على
معنى ثبوت الفعل بالذمة، وعن المتكلمين المنع إذ لا يتصور ذلك
عندهم، وقد يظن أن الشافعي لنصه على تكليف السكران يرى تكليف
الغافل وهو من بعض الظن فإنه إنما كلف السكران عقوبة له لأنه
تسبب بمحرم حصل باختياره ولهذا وجب عليه الحد بخلاف الغافل.
وأورد على القول بالامتناع أن العبد مكلف بمعرفة الله تعالى
بدون العلم بالأمر وذلك لأن الأمر بمعرفته سبحانه وارد فلا
جائز أن يكون واردا بعد حصولها لامتناع تحصيل الحاصل فيكون
واردا قبله فيستحيل الإطلاق على هذا الأمر لأن معرفة أمره
تعالى بدون معرفته سبحانه مستحيل فقد كلف معرفة الله تعالى مع
غفلته عن ذلك التكليف.
وأجيب: بأن المعرفة الإجمالية كافية في انتفاء الغفلة والمكلف
به هو المعرفة التفصيلية أو بأن شرط التكليف إنما هو فهم
المكلف له بأن يفهم الخطاب قدر ما يتوقف عليه الامتثال لا بأن
يصدق بتكليفه وإلا لزم الدور وعدم تكليف الكفار وهو هنا قد فهم
ذلك وإن لم يصدق به. وصاحب المنهاج تبعا لصاحب الحاصل أجاب بأن
التكليف بمعرفة الله تعالى خارج عن القاعدة بالإجماع، وتمام
البحث يطلب من كتب الأصول. وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ
قال أبو جعفر عليه الرحمة: لما نزلت فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ
الذِّكْرى إلخ قال المسلمون: لئن كنا نقول كلما استهزأ
المشركون بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ولا نطوف
بالبيت فنزلت: أي وما يلزم الذين يتقون قبائح إعمال الخائضين
وأحوالهم.
مِنْ حِسابِهِمْ أي مما يحاسب الخائضون الظالمون عليه من
الجرائر مِنْ شَيْءٍ أي شيء ما على أن من زائدة للاستغراق و
«شيء» في محل الرفع مبتدأ وما تميمية أو اسم لها وهي حجازية
ومِنْ حِسابِهِمْ كما قال أبو البقاء حال منه لأن نعت النكرة
إذا قدم عليها أعرب حالا. وليست مِنْ بمعنى الأجل خلافا لمن
تكلفه.
وعَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ متعلق بمحذوف مرفوع وقع خبرا
للمبتدأ أو لما الحجازية على رأي من لا يجيز إعمالها في الخبر
المقدم مطلقا أو منصوب وقع خبرا لما على رأي من يجوز إعمالها
في الخبر المقدم عند كونه ظرفا أو حرف جر.
وَلكِنْ ذِكْرى استدراك من النفي السابق أي ولكن عليهم أن
يذكروهم ويمنعوهم عما هم فيه من القبائح بما
(4/174)
أمكن من العظة والتذكير ويظهروا لهم
الكراهة والنكير، ومحل ذِكْرى عند كثير من المحققين إما النصب
على أنه مصدر مؤكد للفعل المحذوف أي عليهم أن يذكروهم تذكيرا
أو الرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف أي ولكن عليهم ذكرى، وجوز
أبو البقاء النصب والرفع أيضا لكن قدر في الأول نذكرهم ذكرى
بنون العظمة، وفي الثاني، هذه ذكرى، وإلى ذلك يشير كلام
البلخي، ولم يجوز الزمخشري عطفه على محل «من شيء» لأن من
حسابهم يأباه إذ يصير المعنى «ولكن ذكرى» من حسابهم وهو كما
ترى.
واعترض بأنه لا يلزم من العطف على مقيد اعتبار ذلك القيد في
المعطوف، والعلامة الثاني يقول: إنه إذا عطف مفرد على مفرد لا
سيما بحرف الاستدراك فالقيود المعتبرة في المعطوف عليه السابقة
في الذكر عليه معتبرة في المعطوف البتة بحكم الاستعمال تقول:
ما جاءني يوم الجمعة أو في الدار أو راكبا أو من هؤلاء القوم
رجل ولكن امرأة فيلزم مجيء المرأة في يوم الجمعة وفي الدار
وبصفة الركوب وتكون من القوم البتة ولم يجىء الاستعمال بخلافه
ولا يفهم من الكلام سواه بخلاف ما جاءني رجل من العرب ولكن
امرأة فإنه لا يبعد كون المرأة من غير العرب، قالوا:
والسر فيه أن تقدم القيود يدل على أنها أمر مسلم مفروغ عنه
وأنها قيد للعامل منسحب على جميع معمولاته وأن هذه القاعدة
مخصوصة بالمفرد لذلك، وأما في الجمل فالقيد إن جعل جزءا من
المعطوف عليه وإن سبق لم يشاركه فيه المعطوف كما في قوله
تعالى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا
يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34] على ما في شرح المفتاح، وهذا
إذا لم تقم القرينة على خلافه كما في قولك: جاءني من تميم رجل
وامرأة من قريش.
وتخصيص هذه القاعدة بتقدم القيد وادعاء اطرادها كما ذكره بعض
المحققين ما يقتضيه الذوق، ومنهم من عمها كما قال الحلبي: إن
أهل اللسان والأصوليين يقولون: إن العطف للتشريك في الظاهر.
فإذا كان في المعطوف عليه قيد فالظاهر تقييد المعطوف بذلك
القيد إلا أن تجيء قرينة صارفة فيحال الأمر عليها فإذا قلت:
ضربت زيدا يوم الجمعة وعمرا فالظاهر اشتراك زيد وعمرو في الضرب
مقيدا بيوم الجمعة. وإذا قلت: وعمرا يوم السبت لم يشاركه في
قيده. والآية من القبيل الأول. فالظاهر مشاركته في قيده ويكفي
في المنع. وبحث فيه السفاقسي وغيره فتدبر.
ومن منع العطف على محل مِنْ شَيْءٍ لما تقدم منع العطف على
«شيء» لذلك أيضا ولأن من لا تقدر عاملة بعد الإثبات لأنها إذا
عملت كانت في قوة المذكورة المزيدة وهي لا تزاد في الإثبات في
غير الظروف أو مطلقا عند الجمهور لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي
يجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم. وجوز أن يكون الضمير
للذين يتقون أي لكن يذكر المتقون الخائضين ليثبت المتقون على
تقواهم ولا يأثموا بترك ما وجب عليهم من النهي عن المنكر أو
ليزدادوا تقوى بذلك. وهذه الآية- كما أخرج النحاس عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما. وأبو الشيخ عن السدي وابن جبير- منسوخة
بقوله تعالى النازل في المدينة وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها
[النساء: 14] إلخ وإليه ذهب البلخي والجبائي وفي الطود الراسخ
في المنسوخ والناسخ أنه لا نسخ عند أهل التحقيق في ذلك لأن
قوله سبحانه: وَما عَلَى الَّذِينَ إلخ خبر ولا نسخ في الأخبار
فافهم.
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ الذي فرض عليهم وكلفوه
وأمروا بإقامة مواجبه وهو الإسلام لَعِباً وَلَهْواً حيث سخرا
به واستهزؤوا، وجوز أن يكون المعنى اتخذوا الدين الواجب شيئا
من جنس اللعب واللهو كعبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب
ونحو ذلك أو اتخذوا ما يتدينون به وينتحلونه بمنزلة الدين لأهل
الأديان شيئا من اللعب واللهو. وحاصله أنهم اتخذوا اللعب
واللهو دينا، وقيل: المراد بالدين العيد الذي يعاد إليه كل حين
معهود بالوجه الذي شرعه الله تعالى كعيد المسلمين أو بالوجه
الذي لم يشرع من اللعب واللهو كأعياد الكفرة لأن أصل معنى
الدين
(4/175)
العادة والعيد معتاد كل عام» ونسب ذلك لابن
عباس رضي الله تعالى عنهما، والمعنى على سائر الأقوال لا تبال
بهؤلاء وامض لما أمرت به.
وأخرج ابن جرير وغيره أن المعنى على التهديد كقوله تعالى:
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر: 11] وذَرْهُمْ
يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا [الحجر: 3] ، وقيل: المراد الأمر
بالكف عنهم وترك التعرض لهم. والآية عليه منسوخة بآية السيف،
وهو مروي عن قتادة. ونصب لَعِباً على أنه مفعول ثان لاتخذوا
وهو اختيار السفاقسي، ويفهم من ظاهر كلام البعض أنه مفعول أول
و «دينهم» ثان، وفيه أخبار عن النكرة بالمعرفة. ويفهم من كلام
الإمام أنه مفعول لأجله واتخذ متعد لواحد فإنه قال بعد سرد
وجوه التفسير في الآية: والخامس وهو الأقرب أن المحق في الدين
هو الذي ينصر الدين لأجل أن قام الدليل على أنه حق وصدق وصواب
فأما الذين ينصرونه ليتوسلوا به إلى أخذ المناصب والرياسة
وغلبة الخصم وجمع الأموال فهم نصروا الدين للدنيا، وقد حكم
الله تعالى عليها في سائر الآيات بأنها لعب ولهو. فالمراد من
قوله سبحانه: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا إلخ هو الإشارة إلى
من يتوسل بدينه إلى دنياه. وإذا تأملت في حال أكثر الخلق
وجدتهم موصوفين بهذه الصفة وداخلين تحت هذه الآية اه.
ولا يفى أنه أبعد من العيوق فلا تغتر به وإن جل قائله
وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي خدعتهم وأطمعتهم بالباطل
حتى أنكروا البعث وزعموا أن لا حياة بعدها واستهزؤوا بآيات
الله تعالى. وجعل بعضهم غر من الغر وهو ملء الفم أي أشبعتهم
لذاتها حتى نسوا الآخرة. وعليه قوله:
ولما التقينا بالعشية غرني ... بمعروفه حتى خرجت أفوق
وَذَكِّرْ بِهِ أي بالقرآن. وقد جاء مصرحا به في قوله سبحانه:
فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق:
45] والقرآن يفسر بعضه بعضا. وقيل: الضمير لحسابهم، وقيل:
للدين. وقيل: إنه ضمير يفسره قوله سبحانه: أَنْ تُبْسَلَ
نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ فيكون بدلا منه واختاره أبو حيان. وعلى
الأوجه الأخر هو مفعول لأجله أي لئلا تبسل أو مخافة أو كراهة
أن تبسل. ومنهم من جعله مفعولا به لذكر. ومعنى «تبسل» تحبس كما
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأنشد له قول زهير:
وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع وقلبي مبسل علقا
وفي رواية ابن أبي حاتم عنه تسلم. وروي ذلك أيضا عن الحسن،
ومجاهد، والسدي واختاره الجبائي والفراء، وفي رواية ابن جرير
وغيره تفضح. وقال الراغب: تُبْسَلَ هنا بمعنى تحرم الثواب.
وذكر غير واحد أن الإبسال والبسل في الأصل المنع، ومنه أسد
باسل لأن فريسته لا تفلت منه أو لأنه متمنع، والباسل الشجاع
لامتناعه من قرنه، وجاء البسل بمعنى الحرام وفرق الراغب بينهما
بأن الحرام عام لما منع منه بحكم أو قهر والبسل الممنوع
بالقهر، ويكون بسل بمعنى أجل ونعم، واسم فعل بمعنى اكفف وتنكير
نَفْسٌ للعموم مثله في قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما
أَحْضَرَتْ [التكوير: 14] أي لئلا تحبس وترهن كل نفس في الهلاك
أو في النار أو تسلم إلى ذلك أو تفضح أو تحرم الثواب بسبب
عملها السوء أو ذكر بحبس أو حبس كل نفس بذلك، وحمل النكرة على
العموم مع أنها في الإثبات لاقتضاء السياق له، وقيل: إنها هنا
في النفي معنى، وفيما اختاره أبو حيان من التفخيم وزيادة
التقرير ما لا يخفى.
وقوله تعالى: لَيْسَ لَها أي النفس مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ
وَلا شَفِيعٌ إما استئناف للأخبار بذلك أو في محل رفع صفة
نَفْسٌ أو في محل نصب على الحالية من ضمير كَسَبَتْ أو من نفس
فإنه في قوة نفس
(4/176)
كافرة أو نفوس كثيرة واستظهر بعض الحالية.
ومن دون الله متعلق بمحذوف وقع حالا من «ولي» ، وقيل: خبرا
لليس، ولَها حينئذ متعلق بمحذوف على البيان، ومن جعلها زائدة
لم يعلقها بشيء، والمراد أنه لا يحول بينها وبين الله تعالى
بأن يدفع عقابه سبحانه عنها ولي ولا شفيع وَإِنْ تَعْدِلْ أي
إن تفد تلك النفس كُلَّ عَدْلٍ أي كل فداء. و «كل» نصب على
المصدرية لأنه بحسب ما يضاف إليه لا مفعول به، وقيل: إنه صفة
لمحذوف وهو بمعنى الكامل كقولك: هو رجل كل رجل أي كامل في
الرجولية. والتقدير عدلا كل عدل. ورد بأن كلا بهذا المعنى يلزم
التبعية والإضافة إلى مثل المتبوع نعتا لا توكيدا كما في
التسهيل ولا يجوز حذف موصوفه.
وقوله تعالى: لا يُؤْخَذْ مِنْها جواب الشرط، والفعل مسند إلى
الجار والمجرور كسير من البلد لا إلى ضمير العدل لأن العدل كما
علمت مصدر وليس بمأخوذ بخلافه في قوله تعالى: لا يُؤْخَذُ
مِنْها عَدْلٌ [البقرة:
48] فإنه فيه بمعنى المفدى به، وجوز كون الإسناد إلى ضميره
مرادا به الفدية على الاستخدام إلا أنه لا حاجة إليه مع صحة
الإسناد إلى الجار والمجرور، وبذلك يستغنى أيضا عن القول بكونه
راجعا إلى المعدول به المأخوذ من السياق.
وقيل: معنى الآية وإن تقسط تلك النفس كل قسط في ذلك اليوم لا
يقبل منها لأن التوبة هناك غير مقبولة وإنما تقبل في الدنيا
أُولئِكَ أي المتخذون دينهم لعبا ولهوا المغترون بالحياة
الدنيا الَّذِينَ أُبْسِلُوا أي حرموا الثواب وسلموا للعذاب أو
بأحد المعاني الباقية للإبسال بِما كَسَبُوا أي بسبب أعمالهم
القبيحة وعقائدهم الزائغة.
واسم الإشارة مبتدأ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجة
المشار إليهم في سوء الحال، وخبره الموصول بعده، والجملة
استئناف سيق إثر تحذير أولئك من الإبسال المذكور لبيان أنهم
المبتلون بذلك.
وقوله سبحانه لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ استئناف آخر مبين
لكيفية الإبسال المذكور مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل:
ماذا لهم حين أبسلوا؟ فقيل: لهم شراب من حميم أي ماء حار
يتجرجر ويتردد في بطونهم ويتقطع به أمعاؤهم وَعَذابٌ أَلِيمٌ
بنار تشتعل بأبدانهم كما هو المتبادر من العذاب بِما كانُوا
يَكْفُرُونَ أي بسبب كفرهم المستمر في الدنيا، ويطلق الحميم
على الماء البارد فهو ضد كما في القاموس. وجوز أبو البقاء أن
تكون جملة لَهُمْ شَرابٌ حالا من ضمير أُبْسِلُوا وأن تكون
خبرا لاسم الإشارة ويكون الَّذِينَ نعتا له أو بدلا منه.
وأن تكون خبرا ثانيا. واختار كما يشير إليه كلامه أن تكون
الإشارة إلى النفس المدلول عليها بنفس وجعلت الجملة لبيان تبعة
الإبسال. واختار كثير من المحققين ما أشرنا إليه.
وترتيب ما ذكر من العذابين على كفرهم مع أنهم معذبون بسائر
معاصيهم أيضا حسبما ينطق به قوله سبحانه بِما كَسَبُوا لأنه
العمدة في أسباب العذاب والأهم في باب التحذير أو أريد- كما
قيل-: بكفرهم ما هو أعم منه ومن مستتبعاته من المعاصي.
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا
يَضُرُّنا أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن السدي
أن المشركين قالوا للمؤمنين: اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد
صلّى الله عليه وسلّم فقال الله تعالى: قُلْ إلخ.
وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين دعاه
ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأصنام. وفي توجيه الأمر إليه صلّى
الله عليه وسلّم ما لا يخفى من تعظيم شأن المؤمنين أو أبي بكر
الصديق رضي الله تعالى عنه أي أنعبد متجاوزين عبادة الله تعالى
الجامع لجميع صفات الألوهية التي من جملتها القدرة على النفع
والضر ما لا يقدر على نفعنا إن عبدناه ولا على ضرنا إذا
تركناه، وأدنى مراتب المعبودية القدرة على ذلك. وفاعل «ندعو»
وكذا ما عطف عليه من قوله سبحانه: وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا
عام لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم ولغيره وليس مخصوصا
بالصديق رضي الله تعالى عنه
(4/177)
بناء على أنه سبب النزول. وفي الآية تغليب
إذ لا يتصور الرد على العقب المراد به الرجوع إلى الشرك منه
صلّى الله عليه وسلّم.
والمعنى أيليق بنا معشر المسلمين ذلك. والأعقاب جمع عقب وهو
مؤخر الرجل يقال: رجع على عقبه إذا انثنى راجعا.
ويكنى به- كما قيل- عن الذهاب من غير رؤية موضع القدم وهو ذهاب
بلا علم بخلاف الذهاب مع الإقبال وقيل:
الرد على الأعقاب بمعنى الرجوع إلى الضلال والجهل شركا أو
غيره. والجمهور على الأول. والتعبير عن الرجوع إلى الشرك بالرد
على الأعقاب- كما قال شيخ الإسلام- لزيادة تقبيحه بتصويره
بصورة ما هو علم في القبح مع ما فيه من الإشارة إلى كون الشرك
حالة قد تركت ونبذت وراء الظهر. وإيثار نُرَدُّ على نرتد
لتوجيه الإنكار إلى الارتداد برد الغير تصريحا بمخالفة المضلين
وقطعا لأطماعهم الفارغة وإيذانا بأن الارتداد من غير راد ليس
في حيز الاحتمال ليحتاج إلى نفيه وإنكاره بَعْدَ إِذْ هَدانَا
اللَّهُ أي إلى التوحيد والإسلام أو إلى سائر ما يترتب عليه
الفوز في الآخرة على ما قيل. والظرف متعلق بنرد مسوق لتأكيد
النكير لا لتحقيق معنى الرد وتصويره فقط وإلا لكفى أن يقال:
بعد إذ اهتدينا كأنه قيل: أنرد إلى ذلك بإضلال المضل بعد إذ
هدانا الله الذي لا هادي سواه. وليست الآية من باب التنازع
فيما يظهر. ولا أن جملة «نرد» في موضع الحال من ضمير «ندعو» أي
ونحن نرد وجوزه أبو البقاء.
وقوله سبحانه: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ نعت لمصدر
محذوف أي أنرد ردا مثل رد الذي استهوته إلخ.
وقدر الطبرسي أندعو دعاء مثل دعاء الذي إلخ وليس بشيء كما لا
يخفى، وقيل: إنه في موضع الحال من فاعل «نرد» أي أنرد على
أعقابنا مشبهين بذلك. واعترضه صاحب الفرائد بأن حاصل الحالية
أنرد في حال مشابهتنا كقولك: جاء زيدا راكبا أي في حال ركوبه
والرد ليس في حال المشابهة كما أن المجيء في حال الركوب.
وأجاب عنه الطيبي بأن الحال مؤكدة كقوله سبحانه: ثُمَّ
وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة: 25] فلا يلزم ذلك ولا يخفى
أنه في حيز المنع. والاستهواء استفعال من هوى في الأرض يهوي
إذا ذهب كما هو المعروف في اللغة كأنها طلبت هويه وحرصت عليه
أي كالذي ذهبت به مردة الجن في المهامة والقفار. والكلام من
المركب العقلي أو من التمثيل حيث شبه فيه من خلص من الشرك ثم
نكص على عقبيه بحال من ذهبت به الشياطين في المهمة وأضلته بعد
ما كان على الجادة المستقيمة. وليس هذا مبنيا على زعمات العرب
كما زعم من استهوته الشياطين. وادعى بعضهم أن استهوى من هوى
بمعنى سقط يقال: هوى يهوي هويا بفتح الهاء إذا سقط من أعلى إلى
أسفل. والمقصود تشبيه حال هذا الضال بحال من سقط من الموضع
العالي إلى الوهدة السافلة العميقة لأنه في غاية الاضطراب
والضعف والدهشة. ونظير ذلك قوله تعالى: مَنْ يُشْرِكْ
بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ [الحج: 31] وفيه
بعد وإن قال الإمام:
إنه أولى من المعنى الأول مع أنه يتوقف على ورود الاستفعال من
هوى بهذا المعنى، وجوز أبو البقاء في «الذي» أن يكون مفردا أي
كالرجل أو كالفريق الذي وأن يكون جنسا. والمراد الذين.
وقرأ حمزة «استهواه» بألف ممالة مع التذكير فِي الْأَرْضِ أي
جنسها. والجار متعلق باستهوته أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله أي
كائنا في الأرض. وكذا قوله سبحانه: حَيْرانَ حال منه أيضا على
أنها بدل من الأولى أو حال ثانية عند من يجيزها أو من «الذي»
أو من المستكن في الظرف. وجوز أبو البقاء أن يكون الجار حالا
من حَيْرانَ وهو ممنوع من الصرف ومؤنثه حيرى أي تائها ضالا عن
الجادة لا يدري ما يصنع.
لَهُ أي للمستهوي أَصْحابٌ أرى رفقة يَدْعُونَهُ إِلَى
الْهُدَى أي الطريق المستقيم أطلق عليه مبالغة على حد- زيد
عدل- والجار الأول متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما وأَصْحابٌ
مبتدأ، والجملة إما في محل نصب على أنها صفة لحيران أو حال من
الضمير فيه أو من الضمير في الظرف أو بدل من الحال التي قبلها.
وإما
(4/178)
لا محل لها على أنها مستأنفة، وجملة
يَدْعُونَهُ صفة لأصحاب. وقوله سبحانه: ائْتِنا يقدر فيه قول
على أنه بدل من يَدْعُونَهُ أو حال من فاعله. وقيل: محكي
بالدعاء لأنه بمعنى القول. وهذا مبني على الخلاف بين البصريين
والكوفيين في أمثال ذلك. والمشهور التقدير أي يقول ائتنا. وفيه
إشارة إلى أنهم مهتدون ثابتون على الطريق المستقيم وأن من
يدعونه ليس ممن يعرف الطريق ليدعى إلى إتيانه وإنما يدرك سمت
الداعي ومورد النعيق.
وقرأ ابن مسعود كما رواه ابن جرير وابن الأنباري عن أبي إسحاق
«بينا» على أنه حال من الهدى أي واضحا قُلْ لهؤلاء الكفار
إِنَّ هُدَى اللَّهِ الذي هدانا إليه وهو الإسلام هُوَ الْهُدى
أي وحده كما يدل عليه تعريف الطرفين أو ضمير الفصل وما عداه
ضلال محض وغي صرف. وتكرير الأمر للاعتناء بشأن المأمور به أو
لأن ما سبق للزجر عن الشرك وهذا حث على الإسلام وهو توطئة لما
بعده فإن اختصاص الهدى بهداه تعالى مما يوجب امتثال الأوامر
بعده وَأُمِرْنا عطف على إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى
داخل معه تحت القول، واللام في قوله سبحانه: لِنُسْلِمَ
للتعليل ومفعول أمرنا الثاني محذوف أي أمرنا بالإخلاص لكي
ننقاد ونستسلم لِرَبِّ الْعالَمِينَ، وقيل: هي بمعنى الباء أي
«أمرنا» بالإسلام. وتعقبه أبو حيان بأنه غريب لا تعرفه النحاة،
وقيل: زائدة أي أمرنا أن نسلم على حذف الباء، وقال الخليل،
وسيبويه، ومن تابعهما: الفعل في هذا وفي نحو يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء: 26] مؤول بالمصدر وهو مبتدأ
واللام وما بعدها خبره أي أمرنا للإسلام، وهو نظير- تسمع
بالمعيدي خير من أن تراه- ولا يخفى بعده.
وذهب الكسائي والفراء إلى أن اللام حرف مصدري بمعنى أن بعد
أردت وأمرت خاصة فكأنه قيل: وأمرنا أن نسلم، والتعرض لوصف
ربوبيته تعالى للعالمين لتعليل الأمر وتأكيد وجوب الامتثال به.
وقوله تعالى: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ أي الرب
في مخالفة أمره سبحانه بتقدير حرف الجر وهو عطف على الجار
والمجرور السابق، وقد صرح بدخول أن المصدرية على الأمر سيبويه
وجماعة، وجوز أن يعطف أَنْ أَقِيمُوا على موضع لِنُسْلِمَ كأنه
قيل: أمرنا أن نسلم وأن أقيموا. وقيل: العطف على مفعول الأمر
المقدر أي أمرنا بالإيمان وإقامة الصلاة، وقيل: على قوله
تعالى: إِنَّ هُدَى اللَّهِ إلخ. أي قل لهم إن هدى الله هو
الهدى وأن أقيموا، وقيل: على ائْتِنا، وقيل: غير ذلك.
وذكر الإمام أنه كان الظاهر أن يقال: أمرنا لنسلم ولأن نقيم
إلا أنه عدل لما ذكر للإيذان بأن الكافر ما دام كافرا كان
كالغائب الأجنبي فخوطب بما خوطب به الغيب وإذا أسلم ودخل في
زمرة المؤمنين صار كالقريب الحاضر فخوطب بما يخاطب به
الحاضرون.
وقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ جملة
مستأنفة موجبة للامتثال بما أمر به سبحانه من الأمور الثلاثة،
وتقديم المعمول لإفادة الحصر مع رعاية الفواصل أي إليه سبحانه
لا إلى غيره تحشرون يوم القيامة.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي هذين
الأمرين العظيمين. ولعله أريد بخلقهما خلق ما فيهما أيضا، وعدم
التصريح بذلك لظهور اشتمالهما على جميع العلويات والسفليات.
وقوله سبحانه: بِالْحَقِّ متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل
خَلَقَ أي قائما بالحق، ومعنى الآية حينئذ كما قيل كقوله
تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما
باطِلًا [ص: 27] وجوز أن يكون حالا من المفعول أي متلبسة
بالحق، وأن يكون صفة لمصدر الفعل المؤكد أي خلقا متلبسا بالحق
وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ تذييل لما
تقدم والواو للاستئناف. واليوم بمعنى الحين متعلق بمحذوف وقع
خبرا مقدما وقَوْلُهُ مبتدأ والْحَقُّ صفته. والمراد
(4/179)
بالقول المعنى المصدري أي القضاء الصواب
الجاري على وفق الحكمة فلذا صح الإخبار عنه بظرف الزمان أي
وقضاؤه سبحانه المعروف بالحقية كائن حين يقول سبحانه لشيء من
الأشياء كن فيكون ذلك الشيء وتقديم الخبر للاهتمام بعموم الوقت
كما قيل، ونفي السعد كونه للحصر لعدم مناسبته وجعل التقديم
لكونه الاستعمال الشائع.
وتعقب بأن المعروف الشائع تقديم الخبر الظرفي إذا كان المبتدأ
نكرة غير موصوفة أو نكرة موصوفة أما إذا كان معرفة فلم يقله
أحد. وقيل: إن قَوْلُهُ الْحَقُّ مبتدأ وخبر ويَوْمَ ظرف
لمضمون الجملة والواو بحسب المعنى داخلة عليها والتقديم
للاعتناء به من حيث إنه مدار الحقية، وترك ذكر المقول له للثقة
بغاية ظهوره. والمراد بالقول كلمة كُنْ تحقيقا أو تمثيلا
والمعنى وأمره سبحانه المتعلق بكل شيء يريد خلقه من الأشياء
حين تعلقه به لا قبله ولا بعده من أفراد الأحيان الحق أي
المشهود له بالحقية، وقيل: إن الواو للعطف ويَوْمَ إما معطوف
على السَّماواتِ فهو مفعول لخلق مثله، والمراد به يوم الحشر أي
وهو الذي أوجد السماوات والأرض وما فيهما وأوجد يوم الحشر
والمعاد، وإما على الهاء في «اتقوه» فهو مفعول به مثله أيضا،
والكلام على حذف مضاف أي اتقوا الله تعالى واتقوا هول ذلك
اليوم وعقابه وفزعه. وإما متعلق بمحذوف دل عليه «بالحق» أي
يقوم بالحق يوم إلخ، وهو إعراب متكلف كما قال أبو حيان. وقيل:
إنه معطوف على «بالحق» وهو ظرف لخلق أي خلق السماوات والأرض
بعظمها حين قال كن فكان. والتعبير بصيغة الماضي إحضار للأمر
البديع. وفيه أنه يتوقف على صحة عطف الظرف على الحال بناء على
أن الحال ظرف في المعنى وهو تكلف. «وقوله الحق» مبتدأ وخبر أو
فاعل يكون على معنى وحين يقول لقوله الحق أي لقضائه كن فيكون.
والمراد به حين يكون الأشياء ويحدثها أو حين يقوم القيامة
فيكون التكوين إحياء الأموات للحشر. وقيل غير ذلك فتدبر.
وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ أي استقر الملك
له في ذلك اليوم صورة ومعنى بانقطاع العلائق المجازية الكائنة
في الدنيا المصححة للمالكية في الجملة فلا يدعيه غيره بوجه.
والصور قرن ينفخ فيه كما ثبت في الأحاديث والله تعالى أعلم
بحقيقته. وقد فصلت أحواله في كتب السنة. وصاحبه إسرافيل عليه
السلام على المشهور.
وأخرج البزار والحاكم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا أن ملكين
موكلين بالصور ينتظران متى يؤمران فينفخان.
وقرأ قتادة «في الصّور» جمع صورة والمراد بها الأبدان التي
تقوم بعد نفخ الروح فيها لرب العالمين عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ أي كل غيب وشهادة وَهُوَ الْحَكِيمُ في كل ما
يفعله الْخَبِيرُ بجميع الأمور الخفية والجلية.
والجملة تذييل لما تقدم وفيه لف ونشر مرتب هذا.
ومن باب الإشارة في الآيات: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا
يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ. اعلم أن بعض ساداتنا الصوفية قدس الله
تعالى أسرارهم ذكروا أن للغيب مراتب، أولاها غيب الغيوب وهو
علم الله تعالى المسمى بالعناية الأولى.
وثانيتها غيب عالم الأرواح وهو انتقاش صورة كل ما وجد وسيوجد
من الأزل إلى الأبد في العالم الأول العقلي الذي هو روح العالم
المسمى بأم الكتاب على وجه كلي وهو القضاء السابق. وثالثتها
غيب عالم القلوب وهو ذلك الانتقاش بعينه مفصلا تفصيلا علميا
كليا وجزئيا في عالم النفس الكلية التي هي قلب العالم المسمى
باللوح المحفوظ. ورابعتها غيب عالم الخيال وهو انتقاش الكائنات
بأسرها في النفوس الجزئية الفلكية منطبعة في أجرامها معينة
مشخصة مقارنة لأوقاتها على ما يقع بعينه. وذلك العالم هو الذي
يعبر عنه بالسماء الدنيا إذ هو أقرب مراتب الغيوب إلى عالم
الشهادة ولوح القدر الإلهي الذي هو تفصيل قضائه سبحانه، وذكروا
أن علم الله تعالى الذي هو العناية الأولى عبارة عن إحاطته
سبحانه بالكل حضورا فالخزائن المشتملة على جميع الغيوب حاضرة
لذاته وليس هناك شيء زائد ولا يعلمها إلا هو
(4/180)
سبحانه. وكذا أبواب تلك الخزائن مغلقة
ومفاتيحها بيده تعالى لا يطلع على ما فيها أحد غيره عز وجل وقد
يفتح منها ما شاء لمن يشاء.
هذا وقد يقال: حقق كثير من الراسخين في العلم أن حقائق الأشياء
وماهياتها ثابتة في الأزل وهي في ثبوتها غير مجعولة وإنما
المجعول الصور الوجودية وهي لا تتبدل ولا تتغير ولا تتصف
بالهلاك أصلا كما يشير إليه قوله تعالى:
كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] بناء على عود
الضمير إلى الشيء وتفسير الوجه بالحقيقة وعلم الله تعالى بها
حضوري وهي كالمرايا لصورها الحادثة فتكون تلك الصورة مشهودة
لله تعالى أزلا مع عدمها في نفسها ذهنا وخارجا، وقد بينوا
انطواء العلم بها في العلم بالذات بجميع اعتباراته التي منها
كونه سبحانه مبدأ لإفاضة وجوداتها عليها بمقتضى الحكمة فيمكن
أن يقال: إن المفاتح بمعنى الخزائن إشارة إلى تلك الماهيات
الأزلية التي هي كالمرايا لما غاب عنا من الصور وتلك حاضرة
عنده تعالى أزلا ولا يعلمها علما حضوريا غير محتاج إلى صورة
ظلية إلا هو جل وعلا، وهذا ظاهر لمن أخذت العناية بيده.
وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ أي بر النفوس من ألوان الشهوات
ومراتبها وَالْبَحْرِ أي بحر القلوب من لآلىء الحكم ومرجان
العرفان. وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ من أوراق أشجار اللطف
والقهر في مهيع النفس وخصم القلب إِلَّا يَعْلَمُها في سائر
أحوالها. وَلا حَبَّةٍ من بذر الجلال والجمال فِي ظُلُماتِ
الْأَرْضِ وهو عالم الطبائع والأشباح وَلا رَطْبٍ من الإلهامات
التي ترد على القلب بلطف من غير انزعاج وَلا يابِسٍ من الوساوس
والخطرات التي تفزغ منها النفس حين ترد عليها إِلَّا فِي
كِتابٍ مُبِينٍ وهو علمه سبحانه الجامع، وبعضهم لم يؤول شيئا
من المذكورات وفسر الكتاب بسماء الدنيا لتعين هذه الجزئيات
فيها، ويمكن أن يقال: إن الكتاب إشارة إلى ماهيات الأشياء وهي
المسماة بالأعيان الثابتة، ومعنى كونها فيها ما أشرنا إليه أن
تلك الأعيان كالمرايا لهذه الموجودات الخارجية وَهُوَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أي ينيمكم وقيل: يتوفاكم بطيران
أرواحكم في الملكوت وسيرها في رياض حضرات اللاهوت.
وقيل: يمكن أن يكون المعنى وهو الذي يضيق عليكم إلى حيث يكاد
تزهق أرواحكم في ليل القهر وتجلي الجلال وَيَعْلَمُ ما
جَرَحْتُمْ أي كسبتم بِالنَّهارِ من الأعمال مطلقا، وقيل من
الأعمال الشاقة على النفس المؤلمة لها كالطاعات.
وقيل: يحتمل أن يكون المعنى ويعلم ما كسبتموه بنهار التجلي
الجمالي من الأنس أو شوارد العرفان ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ
أي فيما جرحتم من صور أعمالكم ومكاسبكم الحسنة والقبيحة، وقيل
الحسنة، وقيل فيما كسبتموه في نهار التجلي، وأول الأقوال هنا
وفيما تقدم أولى لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى أي معين عنده ثُمَّ
إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ في عين الجمع المطلق ثُمَّ
يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بإظهار صور أعمالكم
عليكم وجزائكم بها وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ لأنه
الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق وله الظهور حسبما تقتضيه
الحكمة ولا تقيده المظاهر وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ
[البروج: 20] .
وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً وهي للقوى التي ينطبع فيها
الخير والشر ويصير هيئة أو ملكة ويظهر عند انسلاخ الروح ويتمثل
بصور مناسبة أو القوى السماوية التي تنتقش فيها الصور الجزئية
ولا تغادر صغيرة ولا كبيرة حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا قيل: هم نفس أولئك الحفظة وقد
أودع الله تعالى فيهم القدرة على التوفي ثُمَّ رُدُّوا إِلَى
اللَّهِ في عين الجمع المطلق مَوْلاهُمُ أي مالكهم الذي يلي
سائر أحوالهم إذ لا وجود لها إلا به الْحَقِّ وكل ما سواه
باطل. وذكر بعض أهل الإشارة أن هذه أرجى آية في كتاب الله
تعالى بناء على أن الله تعالى
(4/181)
أخبر برجوع العبد إليه سبحانه وخروجه من
سجن الدنيا وأيدي الكاتبين واصفا نفسه له بأنه مولاه الحق
المشعر بأن غيره سبحانه لا يعد مولى حقا، ولا شك أنه لا أعز
للعبد من أن يكون مرده إلى مولاه أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ
أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ إذ ظهور الأعمال بالصور المناسبة آن
مفارقة الروح للجسد.
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وهي الغواشي
النفسانية وَالْبَحْرِ وهي حجب صفات القلب تَدْعُونَهُ إلى
كشفها تَضَرُّعاً في نفوسكم وَخُفْيَةً في أسراركم لَئِنْ
أَنْجانا مِنْ هذِهِ الغواشي والحجب لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ نعمة الإنجاء بالاستقامة والتمكين قُلِ اللَّهُ
يُنَجِّيكُمْ مِنْها بأنوار تجليات صفاته ومن كل كرب سوى ذلك
بأن يمن عليكم بالفناء ثُمَّ أَنْتُمْ بعد علمكم بقدرته تعالى
على ذلك تُشْرِكُونَ به أنفسكم وأهواءكم فتعبدونها قُلْ هُوَ
الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ
فَوْقِكُمْ بأن يحجبكم عن النظر في الملكوت أو بأن يقهركم
باحتجابكم بالمعقولات والحجب الروحانية أَوْ مِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِكُمْ بأن لا يسهل عليكم القيام على باب الربوبية بنعت
الخدمة وطلب الوصلة أو بأن يحجبكم بالحجب الطبيعية أَوْ
يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً فرقا مختلفة كل فرقة على دين قوة من
القوى تقابل الفرقة الأخرى أو يجعل أنفسكم مختلفة العقائد كل
فرقة على دين دجال وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ
بالمنازعات والمجادلات حسبما يقتضيه الاختلاف لِكُلِّ نَبَإٍ
أي ما ينبأ عنه مُسْتَقَرٌّ أي محل وقوع واستقرار وَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ حين يكشف عنكم حجب أبدانكم وَإِذا رَأَيْتَ
الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا بإظهار صفات نفوسهم وإثبات
العلم والقدرة لها فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ لأنهم محجوبون مشركون
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ وهم المتجردون عن صفاتهم مِنْ
حِسابِهِمْ أي من حساب هؤلاء المحجوبين مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ
ذِكْرى أي فليذكروهم بالزجر والردع لعلهم يتقون يحترزون عن
الخوض.
وجوز أن يكون المعنى أن المتجردين لا يحتجبون بواسطة مخالطة
المحجوبين ولكن ذكرناهم لعلهم يزيدون في التقوى وَذَرِ
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً أي اترك
الذين عادتهم اللعب واللهو إلخ فإنهم قد حجبوا بما رسخ فيهم عن
سماع الإنذار وتأثيره فيهم وَذَكِّرْ بِهِ أي بالقرآن كراهة
أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ أي تحجب بكسبها بأن يصير
لها ملكة أي ذكر من لم يكن دينه اللعب واللهو لئلا يكون دينه
ذلك وأما من وصل إلى ذلك الحد فلا ينفعه التذكير أُولئِكَ
الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ
حَمِيمٍ وهو شدة الشوق إلى الكمال وَعَذابٌ أَلِيمٌ وهو
الحرمان عنه بسبب الاحتجاب بما كسبوا قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ
دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا أي أنعبد من
ليس له قدرة على شيء أصلا إذ لا وجود له حقيقة وَنُرَدُّ عَلى
أَعْقابِنا بالشرك بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ إلى التوحيد
الحقيقي كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ من الوهم
والتخيل فِي الْأَرْضِ أي أرض الطبيعة ومهامه النفس حَيْرانَ
لا يدري أين يذهب لَهُ أَصْحابٌ من الفكر والقوى النظرية
يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى الحقيقي يقولون ائْتِنا فإن الطريق
الحق عندنا وهو لا يسمع قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ وهو طريق
التوحيد هُوَ الْهُدى وغيره غيره وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ
لِرَبِّ الْعالَمِينَ بمحو صفاتنا وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ
الحقيقية وهو الحضور القلبي.
قال ابن عطاء: إقامة الصلاة حفظها مع الله تعالى بالأسرار
وَاتَّقُوهُ أي اجعلوه سبحانه وقاية بالتخلص عن وجودكم وَهُوَ
الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ بالفناء فيه سبحانه وَهُوَ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
أي سماوات الأرواح وَالْأَرْضَ أي أرض الجسم بِالْحَقِّ أي
قائما بالعدل الذي هو مقتضى ذاته وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ
فَيَكُونُ
(4/182)
وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً
إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا
جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي
فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا
رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ
قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ
الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ
بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا
أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ
(78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ
هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ
يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا
أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا
أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا
فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ
مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا
إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ
إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
وهو وقت تعلق إرادته سبحانه القديمة
بالظهور في التعينات قَوْلُهُ الْحَقُّ لاقتضائه ما اقتضاه على
أحسن نظام وليس في الإمكان أبدع مما كان وَلَهُ الْمُلْكُ
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وهو وقت إفاضة الأرواح على صور
المكنونات التي هي ميتة بأنفسها بل لا وجود لها ولا حياة.
عالِمُ الْغَيْبِ أي حقائق عالم الأرواح ويقال له الملكوت
وَالشَّهادَةِ أي صور عالم الأشباح ويقال له الملك وَهُوَ
الْحَكِيمُ الذي أفاض على القوابل حسب القابليات الْخَبِيرُ
بأحوالها ومقدار قابلياتها لا حكيم غيره ولا خبير سواه.
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ نصب- عند بعض المحققين- على أنه مفعول
به لفعل مضمر خوطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم معطوف على
قُلْ أَنَدْعُوا لا على أَقِيمُوا لفساد المعنى أي واذكر يا
محمد لهؤلاء الكفار بعد أن أنكرت عليهم عبادة ما لا يقدر على
نفع ولا ضر وحققت أن الهدى هو هدى الله تعالى وما يتبعه من
شؤونه تعالى وقت قول إبراهيم عليه السلام الذي يدعون أنهم على
ملته موبخا لِأَبِيهِ آزَرَ على عبادة الأصنام فإن ذلك مما
يبكتهم وينادي بفساد طريقتهم. وآزر بزنة آدم علم أعجمي لأبي
إبراهيم عليه السلام وكان من قرية من سواد الكوفة، وهو بدل من
«إبراهيم» أو عطف بيان عليه. وقال الزجاج: ليس بين النسابين
اختلاف في أن اسم أبي إبراهيم عليه السلام تارح بتاء مثناة
فوقية وألف بعدها راء مهملة مفتوحة وحاء مهملة ويروى بالخاء
المعجمة. وأخرج ابن المنذر بسند صحيح عن ابن جريج أن اسمه تيرح
أو تارح.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن اسم
أبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام يأزر واسم أمه مثلى. وإلى كون
آزر ليس اسما له وهب مجاهد وسعيد بن المسيب وغيرهما. واختلف
الذاهبون إلى ذلك فمنهم من قال: إن آزر لقب لأبيه عليه السلام.
ومنهم من قال: اسم جده ومنهم من قال: اسم عمه والعم والجد
يسميان أبا
(4/183)
مجازا. ومنهم من قال: هو اسم صنم. وروي ذلك
عن ابن عباس، والسدي، ومجاهد رضي الله تعالى عنهم. ومنهم من
قال: هو وصف في لغتهم ومعناه المخطئ. وعن سلمان التيمي قال:
بلغني أن معناه الأعوج. وعن بعضهم أنه الشيخ الهرم
بالخوارزمية. وعلى القول بالوصفية يكون منع صرفه للحمل على
موازنه وهو فاعل المفتوح العين فإنه يغلب منع صرفه لكثرته في
الاعلام الأعجمية. وقيل: الأولى أن يقال: إنه غلب عليه فالحق
بالعلم. وبعضهم يجعله نعتا مشتقا من الأزر بمعنى القوة أو
الوزر بمعنى الإثم. ومنع صرفه حينئذ للوصفية ووزن الفعل لأنه
على وزن أفعل. وعلى القول بأنه بمعنى الصنم يكون الكلام على
حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي عابد آزر.
وقرأ يعقوب «آزر» بالضم على النداء، واستدل بذلك على العلمية
بناء على أنه لا يحذف حرف النداء إلا من الإعلام وحذفه من
الصفات شاذ أي ياء آزر أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً أي
أتجعلها لنفسك آلهة على توجيه الإنكار إلى اتخاذ الجنس من غير
اعتبار الجمعية وإنما إيراد صيغة الجنس باعتبار الوقوع وقرىء
«أأزرا» بهمزتين الأولى استفهامية مفتوحة والثانية مفتوحة
ومكسورة وهي إما أصلية أو مبدلة من الواو. ومن قرأ بذلك قرأ
«تتخذ» بإسقاط الهمزة وهو مفعول به لفعل محذوف أي أتعبد آزرا
على أنه اسم صنم ويكون تَتَّخِذُ إلخ بيانا لذلك وتقريرا وهو
داخل تحت الإنكار أو مفعول له على أنه بمعنى القوة أي الأجل
القوة تتخذ أصناما آلهة. والكلام إنكار لتعززه بها على طريقة
قوله تعالى: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ [النساء:
139] وجوز أن يكون حالا أو مفعولا ثانيا لتتخذ.
وأعرب بعضهم آزَرَ على قراءة الجمهور على أنه مفعول لمحذوف وهو
بمعنى الصنم أيضا أي أتعبد آزر.
وجعل قوله سبحانه أَتَتَّخِذُ إلخ تفسيرا وتقريرا بمعنى أنه
قرينة على الحذف لا بمعنى التفسير المصطلح عليه في باب
الاشتغال لأن ما بعد الهمزة لا يعمل فيما قبلها وما لا يعمل لا
يفسر عاملا كما تقرر عندهم. والذي عول عليه الجم الغفير من أهل
السنة أن آزر لم يكن والد إبراهيم عليه السلام وادعوا أنه ليس
في آباء النبي صلّى الله عليه وسلّم كافر أصلا
لقوله عليه الصلاة والسلام: «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين
إلى أرحام الطاهرات والمشركون نجس» .
وتخصيص الطهارة بالطهارة من السفاح لا دليل له يعول عليه.
والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
وقد ألفوا في هذا المطلب الرسائل واستدلوا له بما استدلوا،
والقول بأن ذلك قول الشيعة كما ادعاه الإمام الرازي ناشىء من
قلة التتبع، وأكثر هؤلاء على أن آزر اسم لعم إبراهيم عليه
السلام. وجاء إطلاق الأب على العم في قوله تعالى: أَمْ
كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ
لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ
إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ
[البقرة: 133] وفيه إطلاق الأب على الجد أيضا.
وعن محمد بن كعب القرظي أنه قال: الخال والد والعم والد وتلا
هذه الآية.
وفي الخبر «ردوا على أبي العباس»
وأيد بعضهم دعوى أن أبا إبراهيم عليه السلام الحقيقي لم يكن
كافرا وإنما الكافر عمه بما أخرجه ابن المنذر في تفسيره بسند
صحيح عن سليمان بن صرد قال: لما أرادوا أن يلقوا إبراهيم عليه
السلام في النار جعلوا يجمعون الحطب حتى إن كانت العجوز لتجمع
الحطب فلما تحقق ذلك قال: حسبي الله تعالى ونعم الوكيل فلما
ألقوه قال الله تعالى: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى
إِبْراهِيمَ [الأنبياء: 69] فكانت فقال عمه من أجلي دفع عنه
فأرسل الله تعالى عليه شرارة من النار فوقعت على قدمه فأحرقته.
وبما أخرج عن محمد بن كعب وقتادة، ومجاهد، والحسن، وغيرهم أن
إبراهيم عليه السلام لم يزل يستغفر لأبيه حتى مات فلما مات
تبين له أنه عدو الله فلم يستغفر له ثم هاجر بعد موته وواقعة
النار إلى الشام ثم دخل مصر واتفق له مع الجبار ما اتفق ثم رجع
إلى الشام ومعه هاجر ثم أمره الله تعالى أن ينقلها وولدها
إسماعيل إلى مكة فنقلهما
(4/184)
ودعا هناك فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ
مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ إلى قوله رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ [إبراهيم: 37- 41]
فإنه يستنبط من ذلك أن المذكور في القرآن بالكفر هو عمه حيث
صرح في الأثر الأول أن الذي هلك قبل الهجرة هو عمه ودل الأثر
الثاني على أن الاستغفار لوالديه كان بعد هلاك أبيه بمدة مديدة
فلو كان الهالك هو أبوه الحقيقي لم يصح منه عليه السلام هذا
الاستغفار له أصلا فالذي يظهر أن الهالك هو العم الكافر المعبر
عنه بالأب مجازا وذلك لم يستغفر له بعد الموت وأن المستغفر له
إنما هو الأب الحقيقي وليس بآزر، وكان في التعبير بالوالد في
آية الاستغفار وبالأب في غيرها إشارة إلى المغايرة.
ومن الناس من احتج على أن آزر ما كان والد إبراهيم عليه السلام
بأن هذه دالة على أنه عليه السلام شافهة بالغلظة والجفاء لقوله
تعالى فيها: إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ أي الذين يتبعونك في
عباداتها فِي ضَلالٍ عظيم عن الحق مُبِينٍ أي ظاهر لا اشتباه
فيه أصلا، ومشافهة الأب بالجفاء لا يجوز لما فيه من الإيذاء.
وآية التأفيف بفحواها تعم سائر أنواع الإيذاءات كعمومها للأب
الكافر والمسلم. وأيضا أن الله تعالى لما بعث موسى عليه السلام
إلى فرعون أمره بالرفق معه. والقول اللين له رعاية لحق التربية
وهي في الوالد أتم. وأيضا الدعوة بالرفق أكثر تأثيرا فإن
الخشونة توجب النفرة فلا تليق من غير إبراهيم عليه السلام مع
الأجانب فكيف تليق منه مع أبيه وهو الأواه الحليم.
وأجيب بأن هذا ليس من الإيذاء المحرم في شيء وليس مقتضى المقام
إلا ذاك ولا نسلم أن الداعي لأمر موسى عليه السلام باللين مع
فرعون مجرد رعاية حق التربية وقد يقسو الإنسان أحيانا على شخص
لمنفعته كما قال أبو تمام:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم
وقال أبو العلاء المعري:
اضرب وليدك وادلله على رشد ... ولا تقل هو طفل غير محتلم
فرب شق برأس جر منفعة ... وقس على شق رأس السهم والقلم
وقال ابن خفاجة الأندلسي:
نبه وليدك من صباه بزجره ... فلربما أغفى هناك ذكاؤه
وانهره حتى تستهل دموعه ... في وجنتيه وتلتظي أحشاؤه
فالسيف لا يذكو بكفك ناره ... حتى يسيل بصفحتيه ماؤه
وكون الرفق أكثر تأثيرا غير مسلم على الإطلاق فإن المقامات
متفاوتة كما ينبىء عن ذلك قوله تعالى لنبيه عليه الصلاة
والسلام تارة: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:
125] وأخرى وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة: 73، التحريم: 9] نعم
لو ادعى أن ما ذكر مؤيد لكون آزر ليس أبا حقيقيا لإبراهيم عليه
السلام لربما قبل وحيث ادعى أنه حجة على ذلك فلا يقبل فتدبر.
والرؤية إما علمية والظرف مفعولها الثاني وإما بصرية فهو حال
من المفعول. والجملة تعليل للإنكار والتوبيخ ومنشأ ضلال عبدة
الأصنام على ما يفهم من كلام أبي معشر جعفر بن محمد المنجم
البلخي في بعض كتبه اعتقاد أن الله تعالى جسم. فقد نقل عنه
الإمام أنه قال: إن كثيرا من أهل الصين والهند كانوا يثبتون
الإله والملائكة إلا أنهم يعتقدون أنه سبحانه جسم ذو صورة
كأحسن ما يكون من الصور وللملائكة أيضا صور حسنة إلا أنهم كلهم
محتجبون بالسماوات عندهم فلا جرم اتخذوا صورا وتماثيل أنيقة
المنظر حسنة الرواء والهيكل وجعلوا الأحسن هيكل الإله وما دونه
هيكل الملك وواظبوا على عبادة ذلك قاصدين الزلفى من الله تعالى
ومن الملائكة، وذكر الإمام نفسه في أصل عبادة الأصنام أن الناس
رأوا تغيرات أحوال هذا العالم الأسفل مربوطة بتغيرات أحوال
(4/185)
الكواكب فزعموا ارتباط السعادة والنحوسة
بكيفية وقوعها في الطوالع ثم غلب على ظن أكثر الخلق أن مبدأ
حدوث الحوادث في هذا العالم هو الاتصالات الفلكية والمناسبات
الكوكبية فبالغوا في تعظيم الكواكب. ثم منهم من اعتقد أنها
واجبة الوجود لذاتها. ومنهم من اعتقد حدوثها وكونها مخلوقة
للإله الأكبر إلا أنهم قالوا: إنها مع ذلك هي المدبرة لأحوال
العالم. وعلى كلا التقديرين اشتغلوا بعبادتها. ولما رأوها قد
تغيب عن الأبصار اتخذوا لكل كوكب صنما من الجوهر المنسوب إليه
بزعمهم وأقبلوا على عبادته وغرضهم من ذلك عبادة تلك الكواكب
والتقرب إليها. ولهذا أقام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
الأدلة على أن الكواكب لا تأثير لها البتة في أحوال هذا العالم
كما قال سبحانه: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:
54] بعد أن بين أن الكواكب مسخرة. وعلى أنها لو قدر صدور فعل
منها وتأثير في هذا العالم لا تخلو عن دلائل الحدوث وكونها
مخلوقة فيكون الاشتغال بعبادة الفرع دون عبادة الأصل ضلالا
محضا.
ويرشد إلى أن حاصل دين عبدة الأصنام ما ذكر أنه سبحانه بعد أن
حكى توبيخ إبراهيم عليه السلام لأبيه على اتخاذها أقام الدليل
على أن الكواكب والقمر لا يصلح شيء منها للإلهية. وأنا أقول:
لعل هذا سبب في عبادة الأصنام أولا وأما سبب عبادة العرب لها
فغير ذلك. قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم أن عمرو بن الحي
وهو أول من غير دين إبراهيم عليه السلام خرج من مكة إلى الشام
في بعض أسفاره فلما قدم من أرض البلقاء وبها يومئذ العمالقة
أولاد عملاق ويقال عمليق بن لاود بن سام بن نوح عليه السلام
رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم: ما هذه التي أراكم تعبدون؟
فقالوا: هذه الأصنام نعبدها ونستمطر بها فتمطرنا ونستنصر بها
فتنصرنا فقال لهم: ألا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض
العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنما يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه
وأمر الناس بعبادته. وقال ابن إسحاق: يزعمون أن أول ما كانت
عبادة الحجارة في بني إسماعيل عليه السلام. وذلك أنه كان لا
يظعن من مكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم والتمسوا الفسح في
البلاد إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم فحيث ما
نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة حتى خلفهم الخلف ونسوا
ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام
غيره فعبدوا الأوثان فصاروا على ما كانت الأمم قبلهم من
الضلالات، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام على ذلك
وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ هذه الإراءة من الرؤية البصرية
المستعارة استعارة لغوية للمعرفة من إطلاق السبب على المسبب أي
عرفناه وبصرناه، وكان الظاهر أرينا بصيغة الماضي إلا أنه عدل
إلى صيغة المستقبل حكاية للحال الماضية استحضارا لصورتها حتى
كأنها حاضرة مشاهدة، وقيل: إن التعبير بالمستقبل لأن متعلق
الإراءة لا يتناهى وجه دلالته فلا يمكن الوقوف على ذلك إلا
بالتدريج وليس بشيء. والإشارة إلى مصدر «نري» لا إلى إراءة
أخرى مفهومة من قوله تعالى إِنِّي أَراكَ ولا إلى ما أنذر به
أباه وضلل قومه من المعرفة والبصارة. وجوز كل، وقيل: يجوز أن
يجعل المشبه التبصير من حيث إنه واقع والمشبه به التبصير من
حيث إنه مدلول اللفظ، ونظيره وصف النسبة بالمطابقة للواقع وهي
عين الواقع، وجوز كون الكاف بمعنى اللام والإشارة إلى القول
السابق، وأنت تعلم ما هو الأجزل والأولى مما تقدم لك في نظائره
وليس هو إلا الأول أي ذلك التبصير البديع نبصره عليه السلام
مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ربوبيته تعالى ومالكيته
لهما لا تبصيرا آخر أدنى منه، فالملكوت مصدر كالرغبوت والرحموت
كما قاله ابن مالك.
وغيره من أهل اللغة، وتاؤه زائدة للمبالغة ولهذا فسر بالملك
العظيم والسلطان القاهر، وهو- كما قال الراغب- مختص به تعالى
خلافا لبعضهم. وعن مجاهد أن المراد بالملكوت الآيات، وقيل:
العجائب التي في السماوات والأرض فإنه عليه السلام فرجت له
السماوات السبع فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش
وفرجت له الأرضون السبع فنظر إلى ما فيهن.
وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: «قال رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم: لما رأى إبراهيم ملكوت السماوات
والأرض أشرف على رجل على معصية من معاصي الله تعالى فدعا عليه
فهلك ثم أشرف على آخر على
(4/186)
معصية من معاصي الله تعالى فدعا عليه فهلك
ثم أشرف على آخر فذهب يدعو عليه فأوحى الله تعالى إليه أن يا
إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة فلا تدع على عبادي فإنهم مني
على ثلاث، إما أن يتوب العاصي فأتوب عليه، وإما أن أخرج من
صلبه نسمة تملأ الأرض بالتسبيح. وإما أن أقبضه إليّ فإن شئت
عفوت وإن شئت عاقبت»
وروي نحوه موقوفا ومرفوعا من طرق شتى ولا خلاف فيها لدلائل
المعقول خلافا لمن توهمه، وقيل: ملكوت السماوات الشمس، والقمر،
والنجوم وملكوت الأرض، الجبال، والأشجار، والبحار.
وهذه الأقوال- على ما قيل- لا تقتضي أن تكون الإراءة بصرية إذ
ليس المراد بإراءة ما ذكر من الأمور الحسية مجرد تمكينه عليه
السلام من إبصارها ومشاهدتها في أنفسها بلا اطلاعه عليه السلام
على حقائقها وتعريفها من حيث دلالتها على شؤونه عز وجل، ولا
ريب في أن ذلك ليس مما يدرك حسا كما ينبىء عنه التشبيه السابق.
وقرىء «ترى» بالتاء وإسناد الفعل إلى الملكوت أي تبصره عليه
السلام دلائل الربوبية وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أي من
زمرة الراسخين في الإيقان البالغين درجة عين اليقين من معرفة
الله تعالى، وهذا لا يقتضي سبق الشك كما لا يخفى، واللام
متعلقة بمحذوف مؤخر، والجملة اعتراض مقرر لما قبلها أي وليكون
كذلك فعلنا ما فعلنا من التبصير البديع المذكور، والحصر
باعتبار أن هذا الكون هو المقصود الأصلي من ذلك التبصير ونحو
إرشاد الخلق وإلزام الكفار من مستتبعاته، وبعضهم لم يلاحظ ذلك
فقدر الفعل مقدما لعدم انحصار العلة فيما ذكر.
وقيل: هي متعلقة بالفعل السابق، والجملة معطوفة على علة مقدرة
ينسحب عليها الكلام أي ليستدل وليكون.
واعترض بأن الاستدلال مع قطع النظر عن كونه سببا للالتفات لا
يكون علة للإراءة فكيف يعطف عليه بإعادة اللام وليس بشيء،
وادعى بعضهم أنه ينبغي على ذلك أن يراد بملكوت السماوات والأرض
بدائعهما وآياتهما لأن الاستدلال من غايات إراءتها لا من غاية
إراءة نفس الربوبية، وأنت تعلم أن رؤية الربوبية إنما هي برؤية
دلائلها وآثارها، ومن الناس من جوز كون الواو زائدة واللام
متعلقة بما قبل وفيه بعد وإن ذكروه وجها كالأولين في كل ما جاء
في القرآن من هذا القبيل.
وقوله تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ يحتمل أن يكون
عطفا على إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ وما بينهما اعتراض مقرر لما
سبق ولحق، فإن تعريفه عليه السلام ربوبيته ومالكته تعالى
للسماوات والأرض وما فيهن وكون الكل مقهورا تحت ملكوته مفتقرا
إليه عز شأنه في جميع أحواله وكونه من الراسخين في المعرفة
الواصلين إلى ذروة عين اليقين مما يقتضي بأن يحكم باستحالة
ألوهية ما سواه سبحانه من الأصنام والكواكب التي كان يعبدها
قومه، واختاره بعض المحققين، ويحتمل أن يكون تفصيلا لما ذكر من
إراءة الملكوت وبيانا لكيفية استدلاله عليه السلام ووصوله إلى
رتبة الإيقان، والترتيب ذكرى لتأخر التفصيل عن الإجمال في
الذكر، ومعنى فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ سترة بظلامه،
وهذه المادة بمتصرفاتها تدل على الستر، وعن الراغب أصل الجن
الستر عن الحاسة يقال: جنه الليل وأجنه وجن عليه فجنه وجن عليه
ستره وأجنه جعل له ما يستره.
وقوله سبحانه: رَأى كَوْكَباً جواب لما فإن رؤيته إنما تتحقق
عادة بزوال نور الشمس عن الحس وهذا- كما قال شيخ الإسلام- صريح
في أنه لم يكن في ابتداء الطلوع بل كان بعد غيبته عن الحس
بطريق الاضمحلال بنور الشمس، والتحقيق عنده أنه كان قريبا من
الغروب وسيأتي إن شاء الله تعالى الإشارة إلى سبب ذلك، والمراد
بالكوكب فيما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم المشتري.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أنه الزهرة
قالَ هذا رَبِّي استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام السابق،
وهذا منه عليه السلام على سبيل الفرض وإرخاء العنان مجاراة مع
أبيه وقومه الذين كانوا يعبدون الأصنام والكواكب فإن المستدل
على فساد قول
(4/187)
يحكيه ثم بكر عليه بالإبطال وهذا هو الحق
الحقيق بالقبول. وقيل: إن في الكلام استفهاما إنكاريا محذوفا،
وحذف أداة الاستفهام كثير في كلامهم، ومنه قوله:
ثم قالوا تحبها قلت بهرا، وقوله:
فقلت وأنكرت الوجوه: هم هم وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما أنه قال في قوله تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ
[البلد: 11] إن المعنى أفلا اقتحم وجعل من ذلك قوله تعالى:
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ [الشعراء: 22] وقيل: إنه
مقول على سبيل الاستهزاء كما يقال لذليل ساد قوما: هذا سيدكم
على سبيل الاستهزاء، وقيل: إنه عليه السلام أراد أن يبطل قولهم
بربوبية الكواكب إلا أنه عليه السلام كان قد عرف من تقليدهم
لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة إلى
الله تعالى لم يقبلوا ولم يلتفتوا فمال إلى طريق يستدرجهم إلى
استماع الحجة وذلك بأن ذكر كلاما يوهم كونه مساعدا لهم على
مذهبهم مع أن قلبه كان مطمئنا بالإيمان، ومقصوده من ذلك أن
يتمكن من ذكر الدليل على إبطاله وإن لم يقبلوا، وقرر الإمام
هذا بأنه عليه السلام لما لم يجد إلى الدعوة طريقا سوى هذا
الطريق وكان مأمورا بالدعوة إلى الله تعالى كان بمنزلة المكره
على كلمة الكفر ومعلوم أنه عند الإكراه يجوز إجراء كلمة الكفر
على اللسان، وإذا جاء ذلك لبقاء شخص واحد فبأن يجوز لتخليص
عالم من العقلاء عن الكفر والعقاب المؤبد كان ذلك أولى، فكلام
إبراهيم عليه السلام كان من باب الموافقة ظاهرا للقوم حتى إذا
أورد عليهم الدليل المبطل لقولهم كان قبولهم له أتم وانتفاعهم
باستماعه أكمل، ثم قال: ومما يقوي هذا القول أنه تعالى حكى عنه
مثل هذا الطريق في موضع آخر وهو قوله تعالى: فَنَظَرَ نَظْرَةً
فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 88، 89] وذلك
لأن القوم كانوا يستدلون بعلم النجوم على حصول الحوادث
المستقبلة فوافقهم في الظاهر مع أنه كان بريئا عنه في الباطن
ليتوصل بذلك إلى كسر الأصنام، فمتى جازت الموافقة لهذا الغرض
فلم لا تجوز في مسألتنا لمثل ذلك، وقيل: إن القوم بينما كانوا
يدعونه عليه السلام إلى عبادة النجوم وكانت المناظرة بينهم
قائمة على ساق إذ طلع النجم فقال: هذا رَبِّي على معنى هذا هو
الرب الذي تدعونني إليه، وقيل وقيل والكل ليس بشيء عند
المحققين لا سيما ما قرره الإمام، وتلك الأقوال كلها مبنية على
أن هذا القول كان بعد البلوغ ودعوة القوم إلى التوحيد وسياق
الآية وسباقها شاهدا عدل على ذلك.
وزعم بعضهم أنه كان قبل البلوغ ولا يلزمه اختلاج شك مؤد إلى
كفر لأنه لما آمن بالغيب أراد أن يؤيد ما جزم به بأنه لو لم
يكن الله تعالى إلها وكان ما يعبده قومه لكان إما كذا وإما كذا
والكل لا يصلح لذلك فيتعين كون الله تعالى إلها وهو خلاف
الظاهر ويأباه السياق والسباق كما لا يخفى. وزعم أنه عليه
السلام قال ما قال إذ لم يكن عارفا بربه سبحانه والجهل حال
الطفولية قبل قيام الحجة لا يضر ولا يعد ذلك كفرا مما لا يلتفت
إليه أصلا، فقد قال المحققون المحقون: إنه لا يجوز أن يكون لله
تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد
وبه عارف ومن كل معبود سواه بريء، وقد قص الله تعالى من حال
إبراهيم عليه السلام خصوصا في صغره ما لا يتوهم معه شائبة مما
يناقض ذلك فالوجه الأول لا غير. ولعل سلوك تلك الطريقة في بيان
استحالة ربوبية الكوكب دون بيان استحالة إلهية الأصنام- كما
قيل- لما أن هذا أخفى بطلانا واستحالة من الأول فلو صدع بالحق
من أول الأمر كما فعله في حق عبادة الأصنام لتمادوا في
المكابرة والعناد ولجوا في طغيانهم يعمهون، وكان تقديم بطلان
إلهية الأصنام
(4/188)
على ما ذكر من باب الترقي من الخفي إلى
الأخفى. وقيل: إن القوم كانوا يعبدون الكواكب فاتخذوا لكل كوكب
صنما من المعادن المنسوبة إليه كالذهب للشمس والفضة للقمر
ليتقربوا إليها فكان الصنم كالقبلة لهم فأنكر أولا عبادتهم
للأصنام بحسب الظاهر ثم أبطل منشآتها وما نسبت إليه من الكواكب
بعدم استحقاقها لذلك أيضا، ولعلهم كانوا يعتقدون تأثيرها
استقلالا دون تأثير الأصنام ولهذا تعرض لبطلان الإلهية في
الأصنام والربوبية فيها. وقرأ أبو عمرو وورش من طريق البخاري
«رأي» بفتح الراء وكسر الهمزة حيث كان. وقرأ ابن عامر، وحمزة،
والكسائي، وخلف، ويحيى عن أبي بكر «رأئي» بكسر الراء والهمزة
فَلَمَّا أَفَلَ أي غرب: قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أي
الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان المتغيرين من حال إلى حال،
ونفي المحبة قيل: إشارة إلى نفي اعتقاد الربوبية.
وقيل كني بعدم المحبة عن عدم العبادة لأنه يلزم من نفيها نفيها
بالطريق الأولى، وقدر بعضهم في الكلام مضافا أي لا أحب عبادة
الآفلين، وأيّا ما كان فمبتدأ الاشتقاق علة للحكم لأن الأفول
انتقال واحتجاب وكل منهما ينافي استحقاق الربوبية والألوهية
التي هي من مقتضيات الربوبية لاقتضاء ذلك الحدوث والإمكان
المستحيلين على الرب المعبود القديم فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ
بازِغاً أي مبتدأ في الطلوع منتشر الضوء، ولعله- كما قال
الأزهري- مأخوذ من البزغ وهو الشق كأنه بنوره يشق الظلمة شقا
ويقال: بزغ الناب إذا ظهر وبزغ البيطار الدابة إذا أسال دمها،
ويقال:
بزغ الدم أي سال، وعلى هذا فيمكن أن يكون بزوغ القمر مشبها بما
ذكر وكلام الراغب صريح فيه، وظاهر الآية أن هذه الرؤية بعد
غروب الكوكب.
وقوله سبحانه: قالَ هذا رَبِّي جواب لما وهو على طرز الكلام
السابق فَلَمَّا أَفَلَ كما أفل الكوكب قالَ لَئِنْ لَمْ
يَهْدِنِي رَبِّي إلى جنابه الحق الذي لا محيد عنه
لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فإن شيئا مما رأيته
لا يصلح للربوبية، وهذا مبالغة منه عليه السلام في النصفة،
وفيه- كما قال الزمخشري- تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر
إلها وهو نظير الكواكب في الأفول فهو ضال، والتعريض بضلالهم
هنا- كما قال ابن المنير- أصرح وأقوى من قوله أولا لا أُحِبُّ
الْآفِلِينَ وإنما ترقى عليه السلام إلى ذلك لأن الخصوم قد
قامت عليهم بالاستدلال الأول حجة فأنسوا بالقدح في معتقدهم ولو
قيل هذا في الأول فلعلهم كانوا ينفرون ولا يصغون إلى
الاستدلال، فما عرض لهم عليه السلام بأنهم على ضلالة إلا بعد
أن وثق بإصغائهم إلى تمام المقصود واستماعهم له إلى آخره.
والدليل على ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم ترقى في النوبة
الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم والتصريح بأنهم على شرك حين
تم قيام الحجة عليهم وتبلج الحق وبلغ من الظهور غايته.
وفي هذه الجملة دليل من غير وجه على أن استدلاله عليه السلام
ليس لنفسه بل كان محاجة لقومه، وكذا ما سيأتي.
وحمل هذا على أنه عليه الصلاة والسلام استعجز نفسه فاستعان
بربه عز وجل في درك الحق وما سيأتي على أنه إشارة إلى حصول
اليقين من الدليل خلاف الظاهر جدا، على أنه قيل: إن حصول
اليقين من الدليل لا ينافي المحاجة مع القوم، ثم الظاهر- على
ما قال شيخ الإسلام- إنه عليه السلام كان إذ ذاك في موضع كان
في جانبه الغربي جبل شامخ يستتر به الكوكب والقمر وقت الظهر من
النهار أو بعده بقليل وكان الكوكب قريبا منه وأفقه الشرقي
مكشوف أولا وإلا فطلوع القمر بعد أفول الكوكب ثم أفوله قبل
طلوع الشمس كما ينبىء عنه قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَى
الشَّمْسَ بازِغَةً أي مبتدأة في الطلوع مما لا يكاد يتصور،
وقال آخر: إن القمر لم يكن حين رآه في ابتداء الطلوع. بل كان
(4/189)
وراء جبل ثم طلع منه أو في جانب آخر لا
يراه وإلا فلا احتمال لأن يطلع القمر من مطلعه بعد أفول الكوكب
ثم يغرب قبل طلوع الشمس انتهى.
وأنت تعلم أن القول بوجود جبل في المغرب أو المشرق خلاف الظاهر
لا سيما على قول شيخ الإسلام لأن هذا الاحتجاج كان في نواحي
بابل على ما يشير إليه كلام المؤرخين وأهل الأثر وليس هناك
اليوم جبل مرتفع بحيث يستتر به الكوكب وقت الظهر من النهار أو
بعده بقليل، واحتمال كونه كان إذ ذاك ولم يبق بتتالي الأعوام
بعيد، وكذا يقال على القول المشهور عند الناس اليوم: إن واقعة
إبراهيم عليه السلام كانت قريبا من حلب لأنه أيضا ليس هناك جبل
شامخ كما يقوله الشيخ على أن المتبادر من البزوغ والأفول
البزوع من الأفق الحقيقي لذلك الموضع والأفول عنه لا مطلق
البزوغ والأفول.
وقال الشهاب: إن الذي ألجأهم إلى ما ذكر التعقيب بالفاء ويمكن
أن يكون تعقيبا عرفيا مثل تزوج فولد له إشارة إلى أنه لم تمض
أيام وليال بين ذلك سواء كان استدلالا أو وضعا واستدراجا لا
أنه مخصوص بالثاني كما توهم على أنا لا نسلم ما ذكر إذا كان
كوكبا مخصوصا وإنما يرد لو أريد جملة الكواكب أو واحد لا على
التعيين فتأمل انتهى. ولا يخفى أن القول بالتعقيب العرفي
والتزام أن هذا الاستدلال لم يكن في ليلة واحدة وصبيحتها هو
الذي يميل إليه القلب، ودعوى إمكان طلوع القمر بعد أفول الكوكب
حقيقة وقبل طلوع الشمس وأفوله قبل طلوعها لا يدعيها عارف
بالهيئة في هذه الآفاق التي نحن فيها لأن امتناع ذلك عادة ولو
أريد كوكب مخصوص أمر ظاهر لا سيما على ما جاء عن ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما من أن رؤية القمر كانت في آخر الشهر. نعم قد
يمكن ذلك في بعض البروج في عروض مخصوصة لكن بيننا وبينها مهامه
فيح، ولعله لذلك أمر بالتأمل فتأمل قالَ أي على المنوال السابق
هذا رَبِّي إشارة إلى الجرم المشاهد من حيث هو لا من حيث هو
مسمى باسم من الأسامي فضلا عن حيثية تسميته بالشمس ولذا ذكر
اسم الإشارة.
وقال أبو حيان يمكن أن يقال: إن أكثر لغة العجم لا تفرق في
الضمائر ولا في الإشارة بين المذكر والمؤنث ولا علامة عندهم
للتأنيث بل المؤنث والمذكر عندهم سواء فأشير في الآية إلى
المؤنث بما يشار به إلى المذكر حين حكي كلام إبراهيم عليه
السلام وحين أخبر سبحانه عن المؤنث «ببازغة» . «وأفلت» أنث على
مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية.
وتعقب بأن هذا إنما يظهر لو حكي كلامهم بعينه في لغتهم أما إذا
عبر عنه بلغة العرب فالمعتبر حكم لغة العرب، وقد صرح غير واحد
بأن العبرة في التذكير والتأنيث بالحكاية لا المحكي ألا ترى
أنه لو قال أحد: الكوكب النهاري طلع فحكيته بمعناه وقلت: الشمس
طلعت لم يكن لك ترك التأنيث بغير تأويل لما وقع في عبارته،
وإذا تتبعت ما وقع في النظم الكريم رأيته إنما يراعى فيه
الحكاية على أن القول بأن محاورة إبراهيم عليه السلام كانت
بالعجمية دون العربية مبني على أن إسماعيل عليه السلام أول من
تكلم بالعربية والصحيح خلافه.
وقيل: التذكير لتذكير الخبر وقد صرحوا في الضمير واسم الإشارة
مثله أن رعاية الخبر فيه أولى من رعاية المرجع لأنه مناط
الفائدة في الكلام وما مضى فات، وفي الكشاف بعد جعل التذكير
لتذكير الخبر وكان اختيار هذه الطريقة واجبا لصيانة الرب عن
شبهة التأنيث ألا تراهم قالوا في صفة الله تعالى: علام ولم
يقولوا علامة وإن كان العلامة أبلغ احترازا من علامة التأنيث،
واعترض عليه بأن هذا في الرب الحقيقي مسلم وما هنا ليس كذلك.
وأجيب بأن ذلك على تقدير أن يكون مسترشدا ظاهر، والمراد على
المسلك الآخر إظهار صون الرب ليستدرجهم إذ لو حقر بوجه ما
(4/190)
كان سببا لعدم إصغائهم، وقوله تعالى: هذا
أَكْبَرُ تأكيد لما رامه عليه الصلاة والسلام من إظهار النصفة
مع إشارة خفية- كما قيل- إلى فساد دينهم من جهة أخرى ببيان أن
الأكبر أحق بالربوبية من الأصغر، وكون الشمس أكبر مما قبلها
مما لا خفاء فيه، والآثار في مقدار جرمها مختلفة. والذي عليه
محققو أهل الهيئة أنها مائة وستة وستون مثلا وربع وثمن مثل
الأرض وستة آلاف وستمائة وأربعة وأربعون مثلا وثلثا مثل للقمر،
وذكروا أن الأرض تسعة وثلاثون مثلا وخمس وعشر مثل للقمر،
وتحقيق ذلك في شرح مختصر الهيئة للبرجندي فَلَمَّا أَفَلَتْ
كما أفل ما قبلها قالَ لقومه صادحا بالحق بين ظهرانيهم: يا
قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أي من إشراككم أو من
الذي تشركونه من الاجرام المحدثة المتغيرة من حال إلى أخرى
المسخرة لمحدثها، وإنما احتج عليه السلام بالأفول دون البزوغ
مع أنه أيضا انتقال قيل لتعدد دلالته لأنه انتقال مع احتجاب
والأول حركة وهي حادثة فيلزم حدوث محلها، والثاني اختفاء
يستتبع إمكان موصوفه ولا كذلك البزوغ لأنه وإن كان انتقالا مع
البروز لكن ليس للثاني مدخل في الاستدلال.
واعترض بأن البزوغ أيضا انتقال مع احتجاب لأن الاحتجاب في
الأول لا حق وفي الثاني سابق، وكونه عليه السلام رأى الكوكب
الذي يعبدونه في وسط السماء- كما قيل- ولم يشاهد بزوغه فإنما
يصير نكتة في الكوكب دون القمر والشمس إلا أن يقال بترجح
الأفول بعمومه بخلاف البزوغ.
والأولى ما قيل: إن ترتيب هذا الحكم ونظيريه على الأفول دون
البزوغ والظهور من ضروريات سوق الاحتجاج على هذا المساق الحكيم
فإن كلّا منهما وإن كان في نفسه انتقالا منافيا لاستحقاق
معروضه للربوبية قطعا لكن لما كان الأول حالة موجبة لظهور
الآثار والأحكام ملائمة لتوهم الاستحقاق في الجملة رتب عليه
الحكم الأول أعني هذا ربي على الطريقة المذكورة، وحيث كان
الثاني حالة مقتضية لانطماس الآثار وبطلان الأحكام المنافيين
للاستحقاق المذكور منافاة بينة يكاد يعترف بها كل مكابر عنيد
رتب عليها ما رتب انتهى.
وبمعنى هذا ما قاله الإمام في وجه الاستدلال بالأفول من أن
دلالته على المقصود ظاهرة يعرفها كل أحد، فإن الآفل يزول
سلطانه وقت الأفول، ونقل عن بعض المحققين أن الهوي في حضيض
الإمكان أفول وأحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص وحصة
الأوساط وحصة العوام فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان وكل
ممكن محتاج والمحتاج لا يكون مقطعا للحاجة فلا بد من الانتهاء
إلى ما يكون منزها عن الإمكان حتى تنقطع الحاجات بسبب وجوده
كما قال سبحانه: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم: 42]
وأما الأوساط فهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة وكل متحرك محدث
وكل محدث فهو محتاج إلى القديم القادر فلا يكون الآفل إلها بل
الإله هو الذي احتاج إليه ذلك الآفل، وأما العوام فإنهم يفهمون
من الأفول الغروب وهم يشاهدون أن كل كوكب يقرب من الأفول
والغروب فإنه يزول نوره وينتقص ضوءه ويذهب سلطانه ويصير
كالمعزول ومن كان كذلك لم يصلح للإلهية ثم قال: فكلمة لا أحب
الآفلين مشتملة على نصيب المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال
فكانت أكمل الدلائل وأفضل البراهين، وهناك أيضا دقيقة أخرى وهو
أنه عليه السلام إنما كان يناظرهم وهم كانوا منجمين ومذهب أهل
النجوم أن الكوكب إذا كان في الربع الشرقي وكان صاعدا إلى وسط
السماء كان قويا عظيم التأثير. أما إذا كان غريبا وقريبا من
الأفول فإنه يكون ضعيف الأثر قليل القوة فنبه بهذه الدقيقة على
أن الإله هو الذي لا تتغير قدرته إلى العجز وكماله إلى
النقصان، ومذهبكم أن الكوكب حال كونه في الربع الغربي يكون
ضعيف القوة ناقص التأثير عاجزا عن التدبير وذلك يدل على القدح
في إلهيته.
(4/191)
ويظهر من هذا أن للأفول على قول المنجمين
مزيد خاصية في كونه موجبا للقدح في إلهيته، ولا يخفى أن فهم
الهوى في حضيض الإمكان من فَلَمَّا أَفَلَ في هذه الآية مما لا
يكاد يسلم، وكون المراد فلما تحقق إمكانه لظهور أمارات ذلك من
الجسمية والتحيز مثلا قال إلخ لا يخفى ما فيه، نعم فهم هذا
المعنى من لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ربما يحتمل على بعد، ونقل عن
حجة الإسلام الغزالي أنه حمل الكوكب على النفس الحيوانية التي
لكل كوكب والقمر على النفس الناطقة التي لكل فلك، والشمس على
العقل المجرد الذي لكل فلك، وعن بعضهم أنه حمل الكوكب على
الحس، والقمر على الخيال والوهم والشمس على العقل، والمراد أن
هذه القوى المدركة قاصرة متناهية القوة ومدبر العالم مستولي
عليها قاهر لها وهو خلاف الظاهر أيضا، وسيأتي إن شاء الله
تعالى في باب الإشارة نظير ذلك، وإنما لم يقتصر عليه السلام في
الاحتجاج على قومه بأفول الشمس مع أنه يلزم من امتناع صفة
الربوبية فيها لذلك امتناعها في غيرها من باب أولى.
وفيه أيضا رعاية الإيجاز والاختصار ترقيا من الأدون إلى الأعلى
مبالغة في التقرير والبيان على ما هو اللائق بذلك المقام ولم
يحتج عليهم بالجسمية والتحيز ونحوهما مما يدركه الرائي عند
الرؤية في أمارات الحدوث والإمكان اختيارا لما هو أوضح من ذلك
في الدلالة وأتم، ثم إنه عليه السلام لما تبرأ منه توجه إلى
مبدع هذه المصنوعات وموجدها فقال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ
لِلَّذِي فَطَرَ أي أوجد وأنشأ السَّماواتِ التي هذه الأجرام
من أجزائها وَالْأَرْضَ التي تلك الأصنام من أجزائها حَنِيفاً
أي مائلا عن الأديان الباطلة والعقائد الزائغة كلها وَما أَنَا
مِنَ الْمُشْرِكِينَ أصلا في شيء من الأقوال والأفعال، والمراد
من توجيه الوجه للذي فطر إلخ قصده سبحانه بالعبادة.
وقال الإمام: المراد وجهت عبادتي وطاعتي، وسبب جواز هذا الجواز
أن من كان مطيعا لغيره منقادا لأمره فإنه يتوجه بوجهه إليه
فجعل توجه الوجه إليه كناية عن الطاعة، والظاهر أن اللام صلة
وجه. وفي الصحاح وجهت وجهي لله وتوجهت نحوك وإليك، وظاهره
التفرقة بين وجه وتوجه باستعمال الأول باللام والثاني بإلى،
وعليه وجه اللام هنا دون إلى ظاهر، وليس في القاموس تعرض لهذا
الفرق. وادعى الإمام أنه حيث كان المعنى توجيه وجه القلب إلى
خدمته تعالى وطاعته لأجل عبوديته لا توجه القلب إليه جل شأنه
لأنه متعال عن الحيز والجهة تركت إلى واكتفى باللام فتركها.
والاكتفاء باللام هاهنا دليل ظاهر على كون المعبود متعاليا عن
الحيز والجهة وفي القلب من ذلك شيء. فإن قيل: إن قصارى ما يدل
عليه الدليل أن الكوكب والشمس والقمر لا يصلح شيء منها
للربوبية والألوهية ولا يلزم من هذا القدر نفي الشرك مطلقا
وإثبات التوحيد فلم جزم عليه السلام بإثبات التوحيد ونفي الشرك
بعد إقامة ذلك الدليل، فالجواب بأن القوم كانوا مساعدين على
نفي سائر الشركاء وإنما نازعوا في هذه الصورة المعينة فلما ثبت
بالدليل على أن هذه الأشياء ليست أربابا ولا آلهة وثبت
بالاتفاق نفي غيرها لا جرم حصل الجزم بنفي الشركاء على
الإطلاق. ثم إن المشهور أن هذا الاستدلال من أول ضروب الشكل
الثاني.
والشخصية عندهم في حكم الكلية كأنه قيل: هذا أو القمر أو هذه
أفل أو أفلت ولا شيء من الإله بآفل أو ربي ليس بآفل ينتج هذا
أو القمر أو هذه ليس بإله أو ليس بربي. أما الصغرى فهي كالمصرح
بها في قوله تعالى: فَلَمَّا أَفَلَتْ في الموضعين، وقوله
سبحانه: فَلَمَّا أَفَلَ في الأخير، وأما الكبرى فمأخوذة من
قوله تعالى: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ لأنه يشير إلى قياس. وهو
كل آفل لا يستحق العبودية. وكل من لا يستحق العبودية فلبس بإله
ينتج من الأول كل آفل ليس بإله، ويستلزم لا شيء من الآفل بإله
لاستلزام الموجبة المعدولة السالبة المحصلة. ويصح جعل
(4/192)
الكبرى ابتداء سالبة فينتج ما ذكر وينعكس
إلى لا شيء من الإله بآفل، وهي إحدى الكبريين. ويعلم من هذا
بأدنى التفات كيفية أخذ الكبرى الثانية.
وقال الملوي: الأحسن أن يقال إن قوله تعالى: لا أُحِبُّ
الْآفِلِينَ يتضمن قضية وهي لا شيء من الآفل يستحق العبودية
فتجعل كبرى لصغرى ضرورية وهي الإله المستحق للعبودية ينتج لا
شيء من الإله بآفل القمر وإذا ضمت هذه النتيجة إلى القضية
السابقة وهي هذا آفل ونحوه أنتج من الثاني هذا ليس بإله أو لا
شيء من القمر بإله، وإن ضممت عكسها المستوي إليها أنتج من
الأول المطلوب بعينه فلا يتعين الثاني في الآية بل الأول مأخوذ
منها أيضا اهـ. فتأمل فيه ولا تغفل.
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ أي خاصموه- كما قال الربيع- أو شرعوا في
مغالبته في أمر التوحيد تارة بإيراد أدلة فاسدة واقعة في حضيض
التقليد وأخرى بالتخويف والتهديد قالَ منكرا عليهم محاجتهم له
عليه السلام مع قصورهم عن تلك المرتبة وعزة المطلب وقوة الخصم
ووضوح الحق أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ أي في شأنه تعالى
ووحدانيته سبحانه. وقرأ نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان
بتخفيف النون ففيه حذف إحدى النونين.
واختلف في أيهما المحذوفة. فقيل: نون الرفع وهو مذهب سيبويه.
ورجح بأن الحاجة دعت إلى نون مكسورة من أجل الياء ونون الرفع
لا تكسر. وبأنه جاء حذفها كما في قوله:
كل له نية في بغض صاحبه ... بنعمة الله نقليكم وتقلونا
أراد تقلوننا والنون الثانية هنا ليست وقاية بل هي من الضمير
وحذف بعض الضمير لا يجوز وبأنها نائبة عن الضمة وهي قد تحذف
تخفيفا كما في قراءة أبي عمرو ينصركم ويشعركم ويأمركم. وقيل
نون الوقاية وهو مذهب الأخفش، ورجح بأنها الزائدة التي حصل بها
الثقل. وقوله تعالى: وَقَدْ هَدانِ في موضع الحال من ضمير
المتكلم مؤكدة للإنكار. فإن كونه عليه الصلاة والسلام مهديا من
جهة الله تعالى ومؤيدا من عنده سبحانه مما يوجب الكف عن محاجته
صلّى الله عليه وسلّم وعدم المبالاة بها والالتفات إليها إذا
وقعت. قيل: والمراد وقد هدان إلى إقامة الدليل عليكم بوحدانيته
عز شأنه، وقيل هدان إلى الحق بعد ما سلكت طريقتكم بالفرض
والتقدير وتبين بطلانها تبينا تاما كما شاهدتموه، وعلى القولين
لا يقتضي سبق ضلال له عليه الصلاة والسلام وجهل بمعرفة ربه جل
وعلا. وهَدانِ يرسم- كما قال الأجهوري- بلا ياء.
وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ جواب كما روي عن ابن جريج عما
خوفوه عليه السلام من إصابة مكروه من جهة معبودهم الباطل كما
قال لهود عليه السلام قومه إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ
بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود: 54] وهذا التخويف قيل: كان على
ترك عبادة ما يعبدونه، وقيل: بل على الاستخفاف به واحتقاره
بنحو الكسر والتنقيص. وقيل:
ولعل ذلك حين فعل بآلهتهم ما فعل مما قص الله تعالى علينا، وفي
بعض الآثار أنه عليه السلام لما شب وكبر جعل آزر يصنع الأصنام
فيعطيها له ليبيعها فيذهب وينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه
فلا يشتريها أحد فإذا بارت ذهب بها إلى نهر وضرب فيه رؤوسها
وقال لها اشربي استهزاء بقومه حتى فشا فيهم استهزاؤه فجادلوه
حينئذ وخوفوه. وما موصولة اسمية حذف عائدها، والضمير المجرور
لله تعالى أي لا أخاف الذي تشركونه به سبحانه. وجوز أن يكون
عائدا إلى الموصول والباء سببية. أي الذي تشركون بسببه، وأن
تكون نكرة موصوفة وأن تكون مصدرية.
وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً بتقدير الوقت
عند غير واحد غير مستثنى من أعم الأوقات استثناء
(4/193)
مفرغا. وقال بعضهم: إن المصدر منصوب على
الظرفية من غير تقدير وقت، ومنع ذلك ابن الأنباري مفرقا بين
المصدر الصريح فيجوز نصبه على الظرفية وغير الصريح فلا يجوز
فيه ذلك. وابن جني لا يفرق بين الصريح وغيره ويجوز ذلك فيهما
على السواء، والاستثناء متصل في رأي. وشَيْئاً مفعول به أو
مفعول مطلق أي لا أخاف ما تشركون به في وقت من الأوقات إلا في
وقت مشيئته تعالى شيئا من إصابة مكروه لي من جهتها أو شيئا من
مشيئته تعالى إصابة مكروه لي من جهتها وذلك إنما هو من جهته
تعالى من غير دخل لآلهتكم في إيجاده وإحداثه. وجوز بعضهم أن
يكون الاستثناء منقطعا على معنى ولكن أخاف أن يشأ ربي خوفي ما
أشركتم به، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره
عليه السلام إشارة إلى أن مشيئته تلك إن وقعت غير خالية عن
مصلحة تعود إليه بالتربية أو إظهار منه عليه الصلاة والسلام
لانقياده لحكمه سبحانه وتعالى واستسلام لأمره واعتراف بكونه
تحت ملكوته وربوبيته تعالى.
وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً كأنه تعليل للاستثناء أي
أحاط بكل شيء علما فلا يبعد أن يكون في علمه سبحانه إنزال
المكروه بي من جهتها بسبب من الأسباب، ونصب عِلْماً على
التمييز المحول عن الفاعل، وجوز أن يكون نصبا على المصدرية
لوسع من غير لفظه، وفي الإظهار في موضع الإضمار تأكيد للمعنى
المذكور واستلذاذ بذكره تعالى: أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ أي
أتعرضون بعد ما أوضحته لكم عن التأمل في أن آلهتكم بمعزل عن
القدرة على شيء ما من النفع أو الضر فلا تتذكرون أنها غير
قادرة على إضراري. وفي إيراد التذكر دون التفكر ونحوه إشارة
إلى أن أمر آلهتهم مركوز في العقول لا يتوقف إلا على التذكير.
وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ استئناف- كما قال شيخ
الإسلام- مسوق لنفي الخوف عنه عليه السلام بحسب زعم الكفرة
بالطريق الإلزامي بعد نفيه عنه بحسب الواقع ونفس الأمر
والاستفهام لإنكار الوقوع ونفيه بالكلية وفي توجيه الإنكار إلى
كيفية الخوف من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى نفسه بأن يقال:
أأخاف لما أن كل موجود لا يخلو عن كيفية فإذا انتفى جميع
كيفياته فقد انتفى وجوده من جميع الجهات بالطريق البرهاني،
وكَيْفَ حال والعوامل فيها أَخافُ وما موصولة أو نكرة موصوفة
والعائد محذوف، وجوز أن تكون مصدرية. وقوله تعالى: وَلا
تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ في موضع الحال من
ضمير أخاف بتقدير مبتدأ لمكان الواو. وقيل: لا حاجة إلى
التقدير لأن المضارع المنفي قد يقرن بالفاء، ولا حاجة هنا إلى
ضمير عائد إلى ذي الحال لأن الواو كافية في الربط وهو مقرر
لإنكار الخوف ونفيه عنه عليه السلام ومفيد لاعترافهم بذلك
فإنهم حيث لم يخافوا في محل الخوف فلأن لا يخاف عليه السلام في
محل الأمن أولى وأحرى أي كيف أخاف أنا ما ليس في حيز الخوف
أصلا وأنتم لا تخافون غائلة ما هو أعظم المخوفات وأهولها وهو
إشراككم بالله تعالى الذي فطر السماوات والأرض ما هو من جملة
مخلوقاته، وعبر عنه بقوله سبحانه: ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
عَلَيْكُمْ سُلْطاناً أي حجة على طريق التهكم- قيل- مع الإيذان
بأن الأمور الدينية لا يعول فيها إلا على الحجة المنزلة من عند
الله تعالى. وضمير بِهِ عائد على الموصول والكلام على حذف مضاف
أي بإشراكه. وجوز أن يكون راجعا إلى الإشراك المقيد بتعلقه
بالموصول ولا حاجة إلى العائد، وهو- على ما قيل- مبني على مذهب
الأخفش في الاكتفاء في الربط برجوع العائد إلى ما يتلبس
بصاحبه. وذكر متعلق الإشراك وهو الاسم الجليل في الجملة
الحالية دون الجملة الأولى- قيل- لأن المراد في الجملة الحالية
تهويل الأمر وذكر المشرك به أدخل في ذلك.
وقال بعض المحققين: الظاهر أن يقال في وجه الذكر في الثانية
والترك في الأولى إنه لما قيل قبيل هذا وَلا
(4/194)
أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ به كان ما هنا
كالتكرار له فناسب الاختصار وأنه عليه السلام حذفه إشارة إلى
بعد وحدانيته تعالى عن الشرك فلا ينبغي عنده نسبته إلى الله
تعالى ولا ذكر معه. ولما ذكر حال المشركين الذين لا ينزهونه
سبحانه عن ذلك صرح به، وقيل: إن ذكر الاسم الجليل في الجملة
الثانية ليعود إليه الضمير في «ما لم ينزل» وليس بشيء لأنه
يكفي سبق ذكره في الجملة، وقيل: لأن المقصود إنكاره عليه
السلام عدم خوفهم من إشراكهم بالله تعالى لأنه المنكر المستبعد
عند العقل السليم لا مطلق الإنكار ولا كذلك في الجملة الأولى
فإن المقصود فيها إنكار أن يخاف عليه السلام غير الله تعالى
سواء كان مما يشركه الكفار أو لا وليس بشيء أيضا لأن الجملة
الثانية ليست داخلة مع الأولى في حكم الإنكار إلا عند مدعي
العطف وهو مما لا سبيل إليه أصلا لإفضائه إلى فساد المعنى قطعا
لما تقدم أن الإنكار بمعنى النفي بالكلية فيؤول المعنى إلى نفي
الخوف عنه عليه السلام ونفي نفيه عنهم وأنه بين الفساد، وأيضا
أن ما أَشْرَكْتُمْ كيف يدل على ما سوى الله تعالى غير الشريك
أن هذا لا شيء عجاب ثم إن الآية نص في أن الشرك مما لم ينزل به
سلطان. وهل يمتنع عقلا حصول السلطان في ذلك أم لا؟ ظاهر كلام
بعضهم. وفي أصول الفقه ما يؤيده في الجملة الثانية والذي
اختاره الأول، وقول الإمام: إنه لا يمتنع عقلا أن يؤمر باتخاذ
تلك التماثيل والصور قبلة للدعاء ليس من محل الخلاف كما لا
يخفى على الناظر فانظر.
فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ كلام مرتب على
إنكار خوفه عليه السلام في محل الأمن مع تحقق عدم خوفهم في محل
الخوف مسوق لإلجائهم إلى الاعتراف باستحقاقه عليه السلام لما
هو عليه من الأمن وبعدم استحقاقهم لما هم عليه، وبهذا يعلم ما
في دعوى أن الإنكار في الجملة الأولى لنفي الوقوع وفي الثانية
لاستبعاد الواقع، وإنما جيء بصيغة التفضيل المشعرة باستحقاقهم
له في الجملة لاستنزالهم عن رتبة المكابرة والاعتساف بسوق
الكلام على سنن الإنصاف، والمراد بالفريقين الفريق الآمن في
محل الأمن والآمن في محل الخوف، فإيثار ما في النظم الكريم-
كما قيل- على أن يقال: فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم؟ لتأكيد
الإلجاء إلى الجواب بالتنبيه على علة الحكم والتفادي عن
التصريح بتخطئتهم التي ربما تدعو إلى اللجاج والعناد مع
الإشارة بما في النظم إلى أن أحقية الأمن لا تخصه عليه السلام
بل تشمل كل موحد ترغيبا لهم في التوحيد إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ أي من هو أحق بذلك أو شيء من الأشياء أو إن كنتم
من أولي العلم فأخبروني بذلك. وقرىء «سلطانا» بضم اللام، وهي
لغة اتبع فيها الضم الضم الَّذِينَ آمَنُوا استئناف يحتمل أن
يكون من جهته تعالى مبين للجواب الحق الذي لا محيد عنه.
وروي ذلك عن محمد بن إسحاق، وابن زيد، والجبائي، ويحتمل أن
يكون من جهة إبراهيم عليه السلام. وروي ذلك عن علي كرم الله
تعالى وجهه، واستشكل كونه استئنافا بأنه لا يمكن جعله بيانيا
لأنه ما كان جواب سؤال مقدر، وهذا جواب سؤال محقق ولا نحويا
لما قال ابن هشام: إن الاستئناف النحوي ما كان في ابتداء
الكلام ومنقطعا عما قبله وهذا مرتبط بما قبله لارتباط الجواب
والسؤال ضرورة وليس عندنا غيرهما.
وأجيب باختيار كونه نحويا. ومعنى كونه منقطعا عما قبله أن لا
يعطف عليه ولا يتعلق به من جهة الإعراب وإن ارتبط بوجه آخر،
وقيل: المراد بابتداء الكلام ابتداؤه تحقيقا أو تقديرا أي
الفريق الذين آمنوا بما يجب الإيمان به وَلَمْ يَلْبِسُوا أي
لم يخالطوا إِيمانَهُمْ ذلك بِظُلْمٍ أي شرك كما يفعله الفريق
المشركون حيث يزعمون أنهم مؤمنون بالله تعالى وإن عبادتهم
لغيره سبحانه معه من تتمات إيمانهم وأحكامه لكونها لأجل
التقريب والشفاعة كما ينبىء عنه قوله: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا
لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] وإلى تفسير
الظلم بالشرك هنا ذهب ابن عباس
(4/195)
رضي الله تعالى عنهما، وابن المسيب،
وقتادة، ومجاهد، وأكثر المفسرين. ويؤيد ذلك أن الآية واردة
مورد الجواب عن حال الفريقين.
ويدل عليه ما
أخرجه الشيخان، وأحمد، والترمذي، عن ابن مسعود رضي الله تعالى
عنه أن الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة رضي الله تعالى عنهم
وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: ليس ما
تظنون إنما هو ما قال لقمان عليه السلام لابنه يا بُنَيَّ لا
تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:
13]
ولا يقال: إنه لا يلزم من قوله: إِنَّ الشِّرْكَ إلخ أن غير
الشرك لا يكون ظلما لأنهم قالوا: إن التنوين في بِظُلْمٍ
للتعظيم فكأنه قيل: لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم، ولما تبين أن
الشرك ظلم عظيم علم أن المراد لم يلبسوا إيمانهم بشرك أو أن
المتبادر من المطلق أكمل افراده، وقيل: المراد به المعصية وحكي
ذلك عن الجبائي، والبلخي، وارتضاه الزمخشري تبعا لجمهور
المعتزلة.
واستدلوا بالآية على أن صاحب الكبيرة لا أمن له ولا نجاة من
العذاب حيث دلت بتقديم لهم الآتي على اختصاص الأمن بمن لم يخلط
إيمانه بظلم أي بفسق وادعوا أن تفسيره بالشرك يأباه ذكر اللبس
أي الخلط إذ هو لا يجامع الإيمان للضدية وإنما يجامع المعاصي،
والحديث خبر واحد فلا يعمل به في مقابلة الدليل القطعي، والقول
بأن الفسق أيضا لا يجامع الإيمان عندهم أيضا فلا يتم لهم
الاستدلال لكونه اسما لفعل الطاعات واجتناب السيئات حتى أن
الفاسق ليس بمؤمن كما أنه ليس بكافر مدفوع- كما قيل- بأنه
كثيرا ما يطلق الإيمان على نفس التصديق بل لا يكاد يفهم منه
بلفظ الفعل غير هذا حتى أنه يعطف عليه عمل الصالحات كما جاء في
غير ما آية. وأجيب بأنه أريد بالإيمان تصديق القلب وهو قد
يجامع الشرك كأن يصدق بوجود الصانع دون وحدانيته كما أشرنا
إليه آنفا، ومن ذلك قوله تعالى: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ
بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106] وكذا إذا
أريد به مطلق التصديق سواء كان باللسان أو غيره بل المجامعة
على هذا أظهر كما في المنافق ولو أريد به التصديق بجميع ما يجب
التصديق به بحيث يخرج عن الكفر يقال: إنه لا يلزم من لبس
الإيمان بالشرك الجمع بينهما بحيث يصدق عليه أنه مؤمن ومشرك بل
تغطيته بالكفر وجعله مغلوبا مضمحلا أو اتصافه بالإيمان ثم
الكفر ثم الإيمان ثم الكفر مرارا، وبعد تسليم جميع ما ذكر
نقول:
إن قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ إنما يدل على اختصاص
الأمن بغير العصاة وهو لا يوجب كون العصاة معذبين البتة بل
خائفين ذلك موقعين للاحتمال ورجحان جانب الوقوع. وقيل المراد
من الأمن الأمن من خلود العذاب لا الأمن من العذاب مطلقا،
والموصول مبتدأ واسم الإشارة مبتدأ ثان والإشارة إلى الموصول
من حيث اتصافه بما في حيز الصلة وفي الإشارة إليه بما فيه معنى
البعد بعد وصفه بما ذكر ما لا يخفى، وجملة لَهُمُ الْأَمْنُ من
الخبر المقدم والمبتدأ المؤخر خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر
الأول، وجوز أن يكون «أولئك» بدلا من الموصول أو عطف بيان له
ولَهُمُ هو الخبر والْأَمْنُ فاعلا للظرف لاعتماده على
المبتدأ، وأن يكون «لهم» خبرا مقدما والْأَمْنُ مبتدأ مؤخرا
والجملة خبر الموصول، وجوز أبو البقاء كون الموصول خبر مبتدأ
محذوف وقال: التقدير هم الذين ولا يخلو عن بعد والأكثرون على
الأول وَهُمْ مُهْتَدُونَ إلى الحق ومن عداهم في ضلال مبين،
وقدر بعضهم إلى طريق توجب الأمن من خلود العذاب وَتِلْكَ إشارة
إلى ما احتج به إبراهيم عليه السلام من قوله سبحانه: فَلَمَّا
جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام: 76] إلخ، وقيل من قوله
سبحانه: أَتُحاجُّونِّي- إلى- وَهُمْ مُهْتَدُونَ وتركيب حجة
اصطلاحية منه يحتاج إلى تأمل وما في اسم الإشارة من معنى البعد
لتفخيم شأن المشار إليه، وهو مبتدأ وقوله عز شأنه:
حُجَّتُنا خبره، وفي إضافته إلى نون العظمة من التفخيم ما لا
يخفى، وقوله تعالى:
آتَيْناها إِبْراهِيمَ أي أرشدناه إليها أو علمناه إياها في
موضع الحال من حجة والعالم فيه معنى الإشارة أو
(4/196)
في محل الرفع على أنه خبر ثان أو هو الخبر
وحُجَّتُنا بدل أو بيان للمبتدأ، وجوز أن تكون جملة آتَيْناها
إلخ معترضة أو تفسيرية ولا يخفى بعده، وإِبْراهِيمَ مفعول أول
لآتينا قدم على الثاني لكونه ضميرا.
وقوله سبحانه: عَلى قَوْمِهِ متعلق بحجتنا إن جعل خبرا لتلك أو
بمحذوف إن جعل بدلا لئلا يلزم الفصل بين أجزاء البدل بأجنبي أي
آتيناها إبراهيم حجة على قومه، ولم يجوز أبو البقاء تعلقه
بحجتنا أصلا للمصدرية والفصل، ولعل المجوز لا يرى المصدرية
مانعة عن تعلق الظرف ويجعل الفصل مغتفرا، وقيل: يصح تعلقه
بآيتنا لتضمنه معنى الغلبة. وقوله عز شأنه: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ
أي رتبا عظيمة عالية من العلم والحكمة مستأنف لا محل له من
الإعراب مقرر لما قبله، وجوز أبو البقاء أن يكون في محل نصب
على أنه حال من فاعل آتَيْناها أي حال كوننا رافعين، ونصب
«درجات» إما على المصدرية بتأويل رفعات أو على الظرفية أو على
نزع الخافض أي إلى درجات أو على التمييز ومفعول نرفع قوله
تعالى: مَنْ نَشاءُ وتأخيره على الأوجه الثلاثة الأخيرة لما مر
غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، ومفعول
المشيئة محذوف أي من نشاء رفعه حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه
المصلحة، وإيثار صيغة المضارع للدلالة على أن ذلك سنة مستمرة
فيما بين المصطفين الأخيار غير مختصة بإبراهيم عليه السلام.
وقرىء «يرفع» بالياء على طريقة الالتفات وكذا نَشاءُ وقرأ غير
واحد من السبعة «درجات من» بالإضافة على أنه مفعول نَرْفَعُ
ورفع درجات الإنسان رفع له، وجوز بعضهم جعله مفعولا أيضا على
قراءة التنوين وجعل من بتقدير لمن وهو بعيد.
وقوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ أي في كل ما يفعل من رفع
وخفض عَلِيمٌ أي بحال من يرفعه واستعداده له على مراتب
متفاوتة، وإن شئت عممت ويدخل حينئذ ما ذكر دخولا أوليا تعليل
لما قبله، وفي وضع الرب مضافا إلى ضميره عليه الصلاة والسلام
موضع نون العظمة بطريق الالتفات في تضاعيف بيان حال إبراهيم
عليه السلام ما لا يخفى من إظهار مزيد اللطف والعناية به صلّى
الله عليه وسلّم. هذا وقد ذكر الإمام في هذه الآيات
الإبراهيمية عدة أحكام، الأول أن قوله سبحانه: لا أُحِبُّ
الْآفِلِينَ يدل على أنه عز وجل ليس بجسم إذ لو كان جسما لكان
غائبا عنا فيكون آفلا والأفول ينافي الربوبية، ولا يخفى أن عد
تلك الغيبة المفروضة أفولا لا يخلو عن شيء لأن الأفول احتجاب
مع انتقال وتلك الغيبة المفروضة لم تكن كذلك بل هي مجرد احتجاب
فيما يظهر. نعم إنه ينافي الربوبية أيضا لكن الكلام في كونه
أفولا ليتم الاحتجاج بالآية، لا يقال قد جاء في حديث الإسراء
ذكر الحجاب فكيف يصح القول بأن الاحتجاب مناف للربوبية لأنا
نقول: الحجاب الوارد- كما قال القاضي عياض- إنما هو في حق
العباد لا في حقه تعالى فهم المحجوبون والباري جل اسمه منزه
عما يحجبه إذ الحجاب إنما يحيط بمقدر محسوس، ونص غير واحد أن
ذكر الحجاب له تعالى تمثيل لمنعه سبحانه الخلق عن رؤيته. وقال
السيد النقيب في الدرر والغرر: العرب تستعمل الحجاب بمعنى
الخفاء وعدم الظهور فيقول أحدهم لغيره إذا استبعد فهمه: بيني
وبينك حجاب ويقولون لما يستصعب طريقه: بيني وبينه كذا حجب
وموانع وسواتر وما جرى مجرى ذلك. والظاهر على هذا أن فيما ذكر
مجاز في المفرد فتدبر. الثاني أن هذه الآية تدل على أنه يمتنع
أن يكون تعالى بحيث ينزل من العرش إلى السماء تارة ويصعد من
السماء إلى العرش أخرى وإلا لحصل معنى الأفول. وأنت تعلم أن
الواصفين ربهم عز شأنه بصفة النزول حيث سمعوا حديثه الصحيح عن
رسولهم صلّى الله عليه وسلّم لا يقولون: إنه حركة وانتقال كما
هو كذلك في الأجسام بل يفوضون تعيين المراد منه إلى الله تعالى
بعد تنزيهه سبحانه عن مشابهة المخلوقين وحينئذ لا يرد عليه أنه
في معنى الأفول الممتنع على الرب جل جلاله.
(4/197)
الثالث: أنها تدل على أنه جل شأنه ليس محلا
للصفات المحدثة كما تقول الكرامية وإلا لكان متغيرا وحينئذ
يحصل معنى الأفول وهو ظاهر. الرابع أن ما ذكر يدل على أن الدين
يجب أن يكون مبنيا على الدليل لا على التقليد وإلا لم يكن
للاستدلال فائدة البتة. الخامس أنه يدل على أن معارف الأنبياء
بربهم استدلالية لا ضرورية وإلا لما احتاج إبراهيم عليه السلام
إلى الاستدلال. السادس أنه يدل على أنه لا طريق إلى تحصيل
معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال في أحوال مخلوقاته إذ
لو أمكن تحصيلها بطريق آخر لما عدل عليه السلام إلى هذه
الطريقة، ولا يخفى عليك ما في هذين الأخيرين. السابع أن قوله
سبحانه: وَتِلْكَ حُجَّتُنا إلخ يدل على أن تلك الحجة إنما
حصلت في عقل إبراهيم عليه السلام بإيتاء الله تعالى وإظهارها
في عقله وذلك يدل على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بخلق
الله تعالى ويتأكد ذلك بقوله سبحانه: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ إلخ
الثامن أن قوله سبحانه نَرْفَعُ إلخ. يدل على فساد طعن الحشوية
في النظر وتقرير الحجة وذكر الدليل، وفيها أحكام أخر لا تخفى
على من يتدبر.
ومن باب الإشارة فيها: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ
آزَرَ حين رآه محتجبا بظواهر عالم الملك عن حقائق الملكوت
وربوبيته تعالى للأشياء معتقدا تأثير الأكوان والأجرام ذاهلا
عن الملكوت جل شأنه أَتَتَّخِذُ أَصْناماً أي أشباحا خالية
بذواتها عن الحياة آلِهَةً فتعتقد تأثيرها إِنِّي أَراكَ
وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظاهر عند من كشف عن عينه الغين
وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أي نوقفه على القوى الروحانية التي ندبر بها أمر
العالم العلوي والسفلي أو نوقفه على حقيقتها وَلِيَكُونَ مِنَ
الْمُوقِنِينَ أي أهل الإيقان العالمين أن لا تأثير إلا لله
تعالى يدبر الأمر بأسمائه سبحانه فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ
اللَّيْلُ أي أظلم عليه ليل عالم الطبيعة الجسمانية، وذلك عند
الصوفية في صباه وأول شبابه رَأى كَوْكَباً وهو كوكب النفس
المسماة روحا حيوانية الظاهر في ملكوت الهيكل الإنساني- فقال-
حين رأى فيضه وحياته وتربيته من ذلك بلسان الحال هذا رَبِّي
وكان الله تعالى يريه في ذلك الحين باسمه المحيي فَلَمَّا
أَفَلَ بطلوع نور القلب قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا
رَأَى الْقَمَرَ أي قمر القلب بازِغاً من أفق النفس ووجد فيضه
بمكاشفات الحقائق والمعارف وتربيته منه قالَ هذا رَبِّي وكان
الله تعالى يريه إذ ذاك باسمه العالم والحكيم فَلَمَّا أَفَلَ
قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي إلى نور وجهه لَأَكُونَنَّ
مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ المحتجبين بالبواطن عنه سبحانه
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ أي شمس الروح بازِغَةً متجلية عليه
قالَ إذ وجد فيضه وشهوده وتربيته منها هذا رَبِّي وكان سبحانه
يريه حينئذ باسمه الشهيد والعلي العظيم هذا أَكْبَرُ من
الأولين فَلَمَّا أَفَلَتْ بتجلي أنوار الحق وتشعشع سبحات
الوجه قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إذ لا
وجود لغيره سبحانه إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ أي أسلمت ذاتي
ووجودي لِلَّذِي فَطَرَ أوجد السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي
سماوات الأرواح وأرض النفس حَنِيفاً مائلا عن كل ما سواه حتى
عن وجودي وميلي بالفناء فيه جل جلاله وَما أَنَا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ في شيء وَحاجَّهُ قَوْمُهُ في ترك السوي قالَ
أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ إلى وجوده الحق
وتوحيده الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان الحقيقي وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ من ظهور نفس أو قلب أو وجود بقية
أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ الحقيقي وَهُمْ مُهْتَدُونَ حقيقة
إلى الحق.
وقال النيسابوري: قد يدور في الخلد أن إبراهيم عليه السلام جن
عليه ليل الشبهة وظلمتها فنظر أولا في عالم الأجسام فوجدها
آفلة في أفق التغيير فلم يرها تصلح للإلهية فارتقى منها إلى
عالم النفوس المدبرة للأجسام فرآها آفلة في أفق الاستكمال فكان
حكمها حكم ما دونها فصعد منها إلى عالم العقول المجرد فصادفها
آفلة في أفق الإمكان
(4/198)
|