روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني وَإِلَى ثَمُودَ
أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا
تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ
فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ
جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي
الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا
وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ
وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ
الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ
صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ
بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا
بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا
النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا
صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا
فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ
يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ
لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا
سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ
النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ
جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ
قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ
الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى
مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا
اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ
بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ
وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ
تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ
وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا
فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا
بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا
فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ
الْحَاكِمِينَ (87)
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً عطف على
ما سبق من قوله تعالى: «وإلى عاد أخاهم» موافق له في تقديم
المجرور على المنصوب، وثَمُودَ قبيلة من العرب كانت مساكنهم
الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وسميت باسم أبيهم
الأكبر ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح، وقيل: ابن عاد بن
عوص بن إرم إلخ وهو المنقول عن الثعلبي.
وقال عمرو بن العلاء: إنما سموا بذلك لقلة مائهم فهو من ثمد
الماء إذا قل، والثمد الماء القليل وورد فيه
(4/400)
الصرف وعدمه، أما الأول فباعتبار الحي أو
لأنه لما كان في الأصل اسما للجد أو للقليل من الماء كان
مصروفا لأنه علم مذكر أو اسم جنس فبعد النقل حكى أصله، وأما
الثاني فباعتبار أنه اسم القبيلة ففيه العلمية والتأنيث.
وصالح عليه السلام من ثمود فالأخوة نسبية، وهو على ما قال محيي
السنة البغوي بن عبيد بن أسف بن ماشح ابن عبيد بن حاذر بن ثمود
وهو أخو طسم. وجديس فيما قيل، وقال وهب: هو ابن عبيد بن جابر
بن ثمود بن جابر بن سام بن نوح بعث إلى قومه حين راهق الحلم
وكان رجلا أحمر إلى البياض سبط الشعر فلبث فيهم أربعين عاما.
وقال الشامي: إنه بعث شابا فدعا قومه حتى شمط وكبر، ونقل
النووي أنه أقام فيهم عشرين سنة ومات بمكة وهو ابن ثمان وخمسين
سنة.
قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ قد مر الكلام في نظائره قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ أي
آية ومعجزة ظاهرة الدلالة شاهدة بنبوتي وهي من الألفاظ الجارية
مجرى الأبطح والأبرق في الاستغناء عن ذكر موصوفاتها حالة
الأفراد والجمع، والتنوين للتفخيم أي بينة عظيمة مِنْ
رَبِّكُمْ متعلق بمحذوف وقع صفة لبينة على ما مر غير مرة أو
بجاءتكم، ومِنْ لابتداء الغاية مجازا أو للتبعيض أن قدر من
بينات ربكم، والمراد بهذه البينة الناقة وليس هذا الكلام منه
عليه السلام أول ما خاطبهم به إثر الدعوة إلى التوحيد بل إنما
قاله بعد ما نصحهم وذكرهم بنعم الله تعالى فلم يقبلوا كلامه
وكذبوه كما ينبىء عن ذلك ما في سورة هود. وقوله تعالى: هذِهِ
ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً استئناف نحوي مسوق لبيان البينة
والمعجزة وجوز أن يكون استئنافا بيانيا جوابا لسؤال مقدر
تقديره أين هي؟ وعلى التقديرين لا محل للجملة من الإعراب. وجوز
أن يكون بدلا من بَيِّنَةٌ بدل جملة من مفرد للتفسير. ولا يخفى
بعده، وإضافة الناقة إلى الاسم الجليل لتعظيمها كما يقال: بيت
الله للمسجد بيد أن الإضافة فيه لأدنى ملابسة ولا كذلك ما نحن
فيه أو لأنها ليست بواسطة نتاج معتاد وأسباب معهودة كما سيتضح
إن شاء الله تعالى لك ولذلك كانت آية وأي آية. وقيل:
لأنها لم يملكها أحد سواه سبحانه. وقيل: لأنها كانت حجة الله
على قوم صالح. وانتصاب آيَةً على الحالية من ناقَةُ والعامل
فيها معنى الإشارة وسماه النحاة العامل المعنوي ولَكُمْ بيان
لمن هي آية له كما في سقيا لك فيتعلق بمقدر. وجوز أن يكون
ناقَةُ بدل من هذِهِ أو عطف بيان له أو مبتدأ ثانيا ولَكُمْ
خبرا فآية حينئذ حال من الضمير المستتر فيه والعامل هو أو
متعلقة فَذَرُوها تفريغ على كونها آية من آيات الله تعالى.
وقيل: على كونها ناقة له سبحانه فإن ذلك مما يوجب عدم التعرض
لها أي فاتركوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ العشب وحذف للعلم
به والفعل مجزوم لأنه جواب الأمر.
وقرأ أبو جعفر في رواية عنه تَأْكُلْ بالرفع فالجملة حالية أي
أكلة. والجار والمجرور متعلق بما عنده أو بالأمر السابق فهما
متنازعان. وأضيفت الأرض إلى الله سبحانه قطعا لعذرهم في التعرض
كأنه قيل: الأرض أرض الله تعالى والناقة ناقة الله تعالى فذروا
ناقة الله تأكل في أرضه فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات
من أنباتكم فأي عذر لكم في منعها. وعدم التعرض للشرب للاكتفاء
عنه بذكر الأكل. وقيل: لتعميمه له أيضا كما في قوله:
علفتها تبنا وماء باردا وقد ذكر ذلك بقوله سبحانه: لَها شِرْبٌ
وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء: 155] وَلا
تَمَسُّوها بِسُوءٍ نهي عن المس الذي هو مقدمة الإصابة بالشر
الشامل لأنواع الأذى مبالغة في الزجر فهو كقوله تعالى: وَلا
تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
[الأنعام: 152، الإسراء: 34] . والجار والمجرور متعلق بالفعل.
والتنكير للتعميم أي لا تتعرضوا لها بشيء مما يسوؤها أصلا
كالطرد والعقر وغير ذلك. وقيل: الجار والمجرور متعلق بمحذوف
وقع حالا من فاعل الفعل. والمعنى لا تمسوها مع قصد السوء بها
فضلا عن الإصابة فهو كقوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ
وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: 43] .
(4/401)
فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ منصوب في
جواب النهي. والمعنى لا تجمعوا بين المس وأخذ العذاب إياكم.
والأخير وإن لم يكن من صنيعهم حقيقة لكن لتعاطيهم أسبابه كأنه
من صنيعهم.
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ أي
خلفاء في الأرض أو خلفاء لهم قيل: ولم يقل: خلفاء عاد مع أنه
أخصر إشارة إلى أن بينهما زمانا طويلا وَبَوَّأَكُمْ أي أنزلكم
وجعل لكم مباءة فِي الْأَرْضِ أي أرض الحجر بين الحجاز والشام
تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أي تبنون في سهولها
مساكن رفيعة. فمن بمعنى في كما في قوله تعالى: إِذا نُودِيَ
لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة: 9] ويجوز أن تكون
ابتدائية أو تبعيضية أي تعملون القصور من مادة مأخوذة من السهل
كاللبن والآجر المتخذين من الطين- والجار والمجرور- على ما قال
أبو البقاء- يجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالا مما بعده. وأن يكون
مفعولا ثانيا لتتخذون. وأن يكون متعلقا به وهو متعد لواحد.
والسهل خلاف الحزن وهو موضع الحجارة والجبال. والجملة استئناف
مبين لكيفية التبوئة فإن هذا الاتخاذ بأقداره سبحانه
وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ أي تنجرونها، والنحت معروف في كل صلب
ومضارعه مكسور الحاء.
وقرأ الحسن بالفتح لحرف الحلق، وفي القاموس عنه أنه قرأ
«تنحاتون» بالإشباع كينباع، وانتصاب الْجِبالَ على المفعولية،
وقوله سبحانه: بُيُوتاً نصب على أنه حال مقدرة منها لأنها لم
تكن حال النحت بيوتا كخطت الثوب جبة، والحالية- كما قال
الشهاب- باعتبار أنها بمعنى مسكونة إن قيل بالاشتقاق فيها،
وقيل:
انتصاب الْجِبالَ ينزع الخافض أي من الجبال، ويرجحه أنه وقع في
آية أخرى كذلك، ونصب بُيُوتاً على المفعولية، وجوز أن يضمن
النحت معنى الاتخاذ فانتصابهما على المفعولية. روي عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما أنهم اتخذوا القصور في السهول ليصيفوا
فيها ونحتوا من الجبال بيوتا ليشتّوا فيها، وقيل: إنهم نحتوا
الجبال بيوتا لطول أعمارهم وكانت الأبنية تبلى قبل أن تبلى
أعمارهم فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي نعمه التي أنعم بها
عليكم مما ذكر أو جميع نعمه ويدخل فيها ما ذكر دخولا أوليا،
وليس المراد مجرد الذكر باللسان كما علمت.
وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فإن حق آلائه تعالى
أن تشكروا ولا يغفل عنها فكيف بالكفر، والعثي الإفساد فمفسدين
حال مؤكدة كما في وَلَّوْا مُدْبِرِينَ قالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ [النمل: 80، والروم:
52] أي الأشراف الذين عتوا وتكبروا، والجملة استئناف كما مر
غيره مرة. وقرأ ابن عامر «وقال» بالواو عطفا على ما قبله من
قوله تعالى: قالَ يا قَوْمِ إلخ، واللام في قوله سبحانه:
لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي عدوا ضعفاء أذلاء للتبليغ كما في
أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ [البقرة: 33، يوسف: 96، القلم: 28] ،
وقوله تعالى: لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من الموصول بإعادة
العامل بدل الكل من الكل كقولك مررت بزيد بأخيك. والضمير
المجرور راجع إلى قومه.
وجوز أن يكون بدل بعض من كل على أن الضمير للذين استضعفوا
فيكون المستضعفون قسمين مؤمنين وكافرين، ولا يخفى بعده،
والاستفهام في قوله جل شأنه. أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً
مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ للاستهزاء لأنهم يعلمون أنهم عالمون
بذلك ولذلك لم يجيبوهم على مقتضى الظاهر كما حكى سبحانه عنهم
بقوله: قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ فإن
الجواب الموافق لسؤالهم نعم أو نعلم أنه مرسل منه تعالى. ومن
هنا قال غير واحد إنه من الأسلوب الحكيم فكأنهم قالوا: العلم
بإرساله وبما أرسل به ما لا كلام فيه ولا شبهة تدخله لوضوحه
وإنارته وإنما الكلام في وجوب الإيمان به فنخبركم أنا به
مؤمنون.
واختار في الانتصاف أن ذلك ليس إخبارا عن وجوب الإيمان به بل
عن امتثال الواجب فإنه أبلغ من ذلك فكأنهم قالوا: العلم
بإرساله وبوجوب الإيمان به لا نسئل عنه وإنما الشأن في امتثال
الواجب والعمل به ونحن قد امتثلنا قالَ
(4/402)
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
استئناف كما تقدم، وأعيد الموصول مع صلته مع كفاية الضمير
إيذانا بأنهم قالوا ما قالوه بطريق العتو والاستكبار إِنَّا
بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ عدول عن مقتضى الظاهر أيضا
وهو أنا بما أرسل به كافرون، وفائدته- كما قالوا- الرد جعله
المؤمنون معلوما وأخذوه مسلما كأنهم قالوا: ليس ما جعلتموه
معلوما مسلما من ذلك القبيل، وقال في الانتصاف: عدلوا عن ذلك
حذرا مما في ظاهره من إثابتهم لرسالته وهم يجحدونها، وليس هذا
موضع التهكم ليكون كقول فرعون إن رسولكم الذي أرسل إليكم
لمجنون فإن الغرض إخبار كل واحد من المؤمنين والمكذبين عن حاله
فلذا خلص الكافرون قولهم عن إشعار الإيمان بالرسالة احتياطا
للكفر وغلوا في الإصرار فَعَقَرُوا النَّاقَةَ أن نحروها. قال
الأزهري: أصل العقر عند العرب قطع عرقوب البعير ثم استعمل في
النحر لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره وإسناده إلى الكل مع أن
المباشر البعض مجاز لملابسة الكل لذلك الفعل لكونه بين أظهرهم
وهم متفقون على الضلال والكفر أو لرضا الكل به أو لأمرهم كلهم
به كما ينبىء عنه قوله تعالى: فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى
فَعَقَرَ [القمر: 29] ، وقيل: إن العقر مجاز لغوي عن الرضا
بالنسبة إلى غير فاعله وليس بشيء.
وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي استكبروا عن امتثاله وهو
ما بلغهم صالح عليه السلام من الأمر السابق فالأمر واحد
الأوامر، وجوز أن يكون واحد الأمور أي استكبروا عن شأن الله
تعالى ودينه وهو بعيد.
وأوجب بعضهم على الأول أن يضمن عَتَوْا معنى التولي أي تولوا
عن امتثال أمره عاتين أو معنى الإصدار أي صدر عتوهم عن أمرهم
ربهم وبسببه لأنه تعالى لما أمرهم بقوله: فَذَرُوها إلخ
ابتلاهم فما امتثلوا فصاروا عاتين بسببه ولولا الأمر ما ترتب
العقر والداعي للتأول بتولوا أو صدر أن عتا لا يتعدى بعن
فتعديته به لذلك كما في قوله تعالى: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ
أَمْرِي [الكهف: 82] وبعضهم لا يقول بالتضمين بناء على أن عتا
بمعنى استكبر كما في القاموس وهو يتعدى بعن فافهم وَقالُوا
مخاطبين له عليه السلام بطريق التعجيز والإفحام على زعمهم
الفاسد: يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب وأطلق
للعلم به إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فإن كونك منهم يقتضي
صدق ما تقول من الوعد والوعيد فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قال
الفراء والزجاج: أي الزلزلة الشديدة.
وقال مجاهد والسدي: هي الصيحة، وجمع بين القولين بأنه يحتمل
أنه أخذتهم الزلزلة من تحتهم والصيحة من فوقهم، وقال بعضهم:
الرجفة خفقان القلب واضطرابه حتى ينقطع، وجاء في موضع آخر
الصيحة وفي آخر بالطاغية ولا منافاة بين ذلك كما زعم بعض
الملاحدة فإن الصيحة العظيمة الخارقة للعادة حصل منها الرجفة
لقلوبهم ولعظمها وخروجها عن الحد المعتاد تسمى الطاغية لأن
الطغيان مجاوزة الحد، ومنه قوله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى
الْماءُ حَمَلْناكُمْ أو يقال: إن الإهلاك بذلك بسبب طغيانهم
وهو معنى بالطاغية وهذا الأخذ ليس أثر ما قالوا ما قالوا بل
بعد ما جرى عليهم ما جرى من مبادئ العذاب في الأيام الثلاث كما
ستعلمه إن شاء الله تعالى والفاء لا تأبى ذلك.
فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ هامدين موتى لا حراك بهم،
وأصل الجثوم البروك على الركب.
وقال أبو عبيدة: الجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل
فجثوم الطير هو وقوعه لاطئا بالأرض في حال سكونه بالليل، وأصبح
يحتمل أن تكون تامة فجاثمين حال وأن تكون ناقصة فجاثمين خبر،
والظرف على التقديرين متعلق به. وقيل: وهو خبر وجاثِمِينَ حال
وليس بشيء لإفضائه إلى كون الإخبار بكونهم في دارهم مقصودا
بالذات، والمراد من الدار البلد كما في قولك دار الحرب ودار
الإسلام وقد جمع في آية آخري بإرادة منزل كل واحد الخاص به،
وذكر النيسابوري أنه حيث ذكرت الرجفة وجدت الدار وحيث ذكرت
الصيحة جمعت لأن الصيحة كانت من السماء كما في غالب الروايات
لا من الأرض كما قبل فبلوغها أكثر وأبلغ من الزلزلة فقرن كل
منهما بما هو أليق به فتدبر.
(4/403)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ بعد أن جرى عليهم ما
جرى على ما هو الظاهر مغتما متحسرا على ما فاتهم من الإيمان
متحزنا عليهم وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ
رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ بالترغيب والترهيب ولم آل جهدا فلم
يجد نفعا ولم تقبلوا مني. وصيغة المضارع في قوله سبحانه:
وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ حكاية حال ماضية أي شأنكم
الاستمرار على بغض الناصحين وعداوتهم، وخطابه عليه السلام لهم
كخطاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قتلى المشركين حين ألقوا
في قليب بدر حين نادى يا فلان بأسمائهم إنا وجدنا ما عدنا ربنا
حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم وذلك مبني على أن الله تعالى برد
أرواحهم إليهم فيسمعون وذلك مما خص به الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام. ويحتمل أنه عليه السلام ذكر ذلك على سبيل التحزن
والتحسر كما تخاطب الديار والأطلال، وجوز عطف فَتَوَلَّى على
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فيكون الخطاب لهم حين أشرفوا على
الهلاك لكنه خلاف الظاهر، وأبعد من ذلك ما قيل إن الآية على
التقديم والتأخير فتقديرها: فتولى عنهم وقال يا قوم لقد
أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين فأخذتهم
الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين.
وقصة ثمود على ما ذكر ابن إسحاق. وغيره أن عادا لما هلكوا عمرت
ثمود بعدها واستخلفوا في الأرض وعمروا حتى جعل أحدهم يبني
المسكن من المدر فينهدم والرجل حي فلما رأوا ذلك اتخذوا من
الجبال بيوتا وكانوا في سعة من معاشهم فعتوا في الأرض وعبدوا
غير الله تعالى فبعث الله تعالى إليهم صالحا وكانوا قوما عربا
وكان صالح عليه السلام من أوسطهم نسبا وبعث إليهم وهو شاب
فدعاهم إلى الله تعالى حتى شمط وكبر ولم يتبعه منهم إلا قليل
مستضعفون فلما ألح عليهم بالدعاء والتخويف سألوه أن يريهم آية
تصدق ما يقول فقال لهم: أية آية تريدون؟
فقالوا: تخرج غدا معنا إلى عيدنا وكان لهم عيد يخرجون فيه
بأصنامهم فتدعو إلهك وندعوا آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن
استجيب لنا اتبعتنا فقال لهم صالح: نعم فخرجوا وخرج معهم فدعوا
أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو به ثم قال
جندع بن عمرو بن حراش وهو يومئذ سيد ثمود: يا صالح أخرج لنا من
هذه الصخرة- الصخرة منفردة ناحية الحجر يقال لها الكاثبة- ناقة
مخترجة أي تشاكل البخت أو مخرجة على خلقة الجمل جوفاء وبراء
فإن فعلت صدقناك وآمنا بك فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت
لتصدقني ولتؤمنن بي قالوا: نعم فصلى ركعتين ودعا ربه فتمخضت
الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء
كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى عظما وهم
ينظرون ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه
وأراد أشرافهم أن يؤمنوا به فمنعهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد
والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صعر كاهنهم فلما خرجت الناقة
قال لهم: هذه ناقة الله لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فمكثت
الناقة ومعها سقبها في أرضهم ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت
ترده غبا فإذا كان يومها وضعت رأسها في بئر في الحجر يقال له
الآن بئر الناقة فما ترفع رأسها حتى تشرب كل ما فيها ثم ترفع
رأسها وتتفحج لهم فيحلبون ما شاؤوا من اللبن فيشربون ويدخرون
ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه لا تقدر تصدر من حيث ترد
لضيقه عنها حتى إذا كان الغد يومهم فيشربون ما شاؤوا ويدخرون
ما شاؤوا ليوم الناقة ولم يزالوا في سعة ورغد وكانت الناقة
تصيف إذا كان الحر بظهر الوادي فتهرب منها مواشيهم وتهبط إلى
بطن الوادي في حره وجدبه وتشتو في بطن الوادي فتهرب مواشيهم
إلى ظهره في برد وجدب فأضر ذلك بمواشيهم للأمر الذي يريده الله
تعالى بهم والبلاء والاختبار فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم
فأجمعوا على عقرها وكانت امرأتان من ثمود يقال لأحداهما عنيزة
بنت غنم بن مجلز وتكنى بأم غنم وكانت امرأة ذؤاب بن عمرو وكانت
عجوزا مسنة ذات بنات حسان وذات مال من إبل، وبقر، وغنم ويقال
للأخرى: صدوق بنت المختار وكانت جميلة غنية ذات مواش كثيرة
وكانت من أشد الناس عداوة لصالح: عليه السلام وكانتا يحبان عقر
الناقة لما
(4/404)
أضرت من مواشيهما فدعت صدوق رجلا يقال له
الحباب لعقر الناقة وعرضت عليه نفسها إن هو فعل فأبى فدعت ابن
عم لها يقال له مصدع ابن مهرج وجعلت له نفسها إن هو فعل
فأجابها إلى ذلك ودعت عنيزة أم غنم قدار بن سالف وكان رجلا
أحمر أزرق قصيرا يزعمون إنه لزانية ولم يكن لسالف لكنه ولد على
فراشه فقالت: أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة وكان
عزيزا منيعا في قومه فرضي وانطلق وهو ومصدع فاستغويا غواة ثمود
فاتبعهم سبعة فكانوا تسعة رهط فانطلقوا ورصدوا الناقة حتى صدرت
عن الماء وقد كمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها وكمن لها
مصدع في أصل أخرى فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة
ساقها وخرجت أم غنم فأمرت إحدى بناتها وكانت من أحسن الناس
وجها فسفرت عن وجهها ليراها قدار ثم حثته على عقرها فشد على
الناقة بالسيف فكشف عن عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة فتحدر
سقبها من الجبل ثم طعن قدار في لبتها فنحرها فخرج أهل البلدة
فاقتسموا لحمها فلما رأى سقبها ذلك انطلق هاربا حتى أتى جبلا
منيعا يقال له قارة فرغا ثلاثا وكان صالح عليه السلام قال لهم:
أدركوا الفصيل عسى أن يدفع عنكم العذاب فخرجوا في طلبه فرأوا
على الجبل وراموه فلم ينالوه وانفجت الصخرة بعد رغائه فدخلها
فقال لهم صالح: لكل رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام
ذلك وعد غير مكذوب.
وعن ابن إسحاق أنه تبع السقب من التسعة أربعة وفيهم مصدع فرماه
بسهم فأصاب قلبه ثم جر برجله فأنزله وألقوا لحمه مع لحم أمه
وقال لهم صالح: انتهكتم حرمة الله تعالى فأبشروا بعذابه ونقمته
فكانوا يهزؤأون به ويقولون متى هو وما آيته؟ فقال: تصبحون غدا
وكان يوم الخميس ووجوهكم مصفرة وبعد غد ووجوهكم محمرة واليوم
الثالث ووجوهكم مسودة ثم يصبحكم العذاب فهم أولئك الرهط بقتله
فأتوه ليلا فدمغتهم الملائكة بالحجارة فلما أبطؤوا على أصحابهم
أتوا منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح: أنت
قتلتهم ثم هموا به فمنع عنه عشيرته ثم لما رأوا العلامات طلبوه
ليقتلوه فهرب ولحق بحي من ثمود يقال لهم: بنو غنم فنزل على
سيدهم واسمه نفيل ويكنى بأبي هدب فطلبوه منه فقال: ليس لكم
إليه سبيل فتركوه وشغلهم ما نزل بهم ثم خرج عليه السلام ومن
معه إلى الشام فنزل رملة فلسطين ولما كان اليوم الرابع وارتفع
الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء
فتقطعت قلوبهم وهلكوا جميعا إلا جارية مقعدة يقال لها ذريعة
بنت سلف وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه السلام فأطلق
الله تعالى رجليها بعد أن عاينت العذاب فخرجت مسرعة حتى أتت
وادي القرى فأخبرتهم الخبر ثم استسقت ماء فسقيت فلما شربت ماتت
وكان رجل منهم يقال له: أبو رغال وهو أبو ثقيف في حرم الله
تعالى فمنعه الحرم من عذاب الله تعالى فلما خرج أصابه ما
أصابهم فدفن ومعه غصن من ذهب.
وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مر بقبره فأخبر بخبره
فابتدره الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأسيافهم فحفروا عنه
واستخرجوا ذلك الغصن.
وروي أنه عليه السلام خرج في مائة وعشرين من المسلمين وهو يبكي
فالتفت فرأى الدخان ساطعا فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفا
وخمسمائة دار.
وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم.
وأخرج أبو الشيخ عن وهب قال: إن صالحا لما نجا هو والذين معه
قال: يا قوم إن هذه دار قد سخط الله تعالى عليها وعلى أهلها
فأظعنوا وألحقوا بحرم الله تعالى وأمنه فأهلوا من ساعتهم بالحج
وانطلقوا حتى وردوا مكة فلم يزالوا بها حتى ماتوا فتلك قبورهم
في غربي الكعبة.
وروى ابن الزبير عن جابر أن نبينا صلّى الله عليه وسلّم لما مر
بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه: «لا يدخلن أحد منكم القرية
ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن
تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم»
وذكر محيي السنة البغوي أن المؤمنين الذين مع صالح كانوا أربعة
آلاف وأنه خرج بهم إلى حضرموت فلما دخلها مات عليه السلام
فسميت لذلك حضرموت ثم بني الأربعة آلاف مدينة يقال لها
حاضوراء، ثم نقل عن قوم من أهل العلم أنه توفي بمكة وهو ابن
ثمان وخمسين سنة ولعله المعول عليه،
وجاء أن أشقى
(4/405)
الأولين عاقر الناقة وأشقى الآخرين قاتل
علي كرم الله تعالى وجهه وقد أخبر صلّى الله عليه وسلّم بذلك
عليا رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه.
وعندي أن أشقى الآخرين أشقى من أشقى الأولين. والفرق بينهما
كالفرق بين علي كرم الله تعالى وجهه والناقة. وقد أشارت
الأخبار بل نطقت بأن قاتل الأمير كان مستحلا قتله بل معتقدا
الثواب عليه وقد مدحه أصحابه على ذلك فقال عمران بن حطان غضب
الله تعالى عليه:
يا ضربة من تقى ما أراد بها ... ألا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا
ولله در من قال:
يا ضربة من شقي أوردته لظى ... فسوف يلقى بها الرحمن غضبانا
كأنه لم يرد شيئا بضربته ... إلا ليصلى غدا في الحشر نيرانا
إني لأذكره يوما فألعنه ... كذاك ألعن عمران بن حطانا
وكون فعله كان عن شبهة تنجيه مما لا شبهة في كونه ضربا من
الهذيان ولو كان مثل تلك الشبهة منجيا من عذاب مثل هذا الذنب
فليفعل الشخص ما شاء سبحانك هذا بهتان عظيم. وقد ضربت بقدار
عاقر الناقة الأمثال، وما ألطف قول عمارة اليمني:
لا تعجبا لقدار ناقة صالح ... فلكل عصر ناقة وقدار
وفي هذه القصة روايات أخر تركناها اقتصارا على ما تقدم لأنه
أشهر وَلُوطاً نصب بفعل مضمر أي أرسلنا معطوف على ما سبق أو به
من غير حاجة إلى تقدير، وإنما لم يذكر المرسل إليهم على طرز ما
سبق وما لحق لأن قومه- على ما قيل- لم يعهدوا باسم معروف يقتضي
الحال ذكره عليه السلام مضافا إليهم كما في القصص من قبل ومن
بعد وهو ابن هاران بن تارخ. وابن إسحاق ذكر بدل تاريخ آزر
وأكثر النسابين على أنه عليه السلام ابن أخي إبراهيم صلّى الله
عليه وسلّم ورواه في المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما.
وأخرج ابن عساكر عن سليمان بن صرد أن أبا لوط عليه السلام عم
إبراهيم عليه السلام، وقيل: إن لوطا كان ابن خالة إبراهيم
وكانت سارة زوجته أخت لوط وكان في أرض بابل من العراق مع
إبراهيم فهاجر إلى الشام ونزل فلسطين وأنزل لوطا الأردن وهو
كرة بالشام فأرسله الله تعالى إلى أهل سدوم وهي بلدة بحمص.
وأخرج إسحاق بن بشر، وابن عساكر عن ابن عباس قال: أرسل لوط إلى
المؤتفكات وكانت قرى لوط أربع مدائن سدوم، وأمورا، وعامورا،
وصبوير وكان في كل قرية مائة ألف مقاتل وكانت أعظم مدائنهم
سدوم وكان لوط يسكنها وهي من بلاد الشام ومن فلسطين مسيرة يوم
وليلة، وهذا اللفظ- على ما قال الزجاج- اسم أعجمي غير مشتق
ضرورة أن العجمي لا يشتق من العربي وإنما صرف لخفته بسكون
وسطه، وقيل: إنه مشتق من لطت الحوض إذا ألزقت عليه الطين،
ويقال: هذا لوط بقلبي من ذلك أي ألصق به ولاط الشيء أخفاه.
وقوله تعالى: إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ظرف لأرسلنا كما قال غير
واحد. واعترض بأن الإرسال قبل وقت القول لا فيه كما تقتضيه هذه
الظرفية، ودفع بأنه يعتبر الظرف ممتدا كما يقال زيد في أرض
الروم فهو ظرف غير حقيقي يعتبر وقوع المظروف في بعض أجزائه كما
قرره القطب، وجوز أن يكون لُوطاً منصوبا با ذكر محذوفا فيكون
من عطف القصة على القصة، وإِذْ بدل من لوط بدل اشتمال بناء على
أنها لا تلزم الظرفية، وقال أبو البقاء: إنه ظرف الرسالة
محذوفا أي واذكر رسالة لوط إذ قال:
أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ استفهام على سبيل التوبيخ والتقريع أي
أتفعلون تلك الفعلة التي بلغت أقصى القبح وغايته
(4/406)
ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ
الْعالَمِينَ أي ما عملها أحد قبلكم في زمن من الأزمان فالباء
للتعدية كما في الكشاف من قولك: سبقته بالكرة (1) إذا ضربتها
قبله، ومنه ما صح من
قوله صلّى الله عليه وسلّم «سبقك بها عكاشه»
وتعقبه ابن حيان بأن معنى التعدية هنا قلق جدا لأن الباء
المعدية في الفعل المعدي إلى واحد تجعل المفعول الأول يفعل ذلك
الفعل بما دخلت عليه الباء فهي كالهمزة فإذا قلت: صككت الحجر
بالحجر كان معناه أصككت الحجر الحجر أي جعلت الحجر يصك الحجر
وكذلك دفعت زيدا بعمرو عن خالد معناه أدفعت زيدا عمرا عن خالد
أي جعلت زيدا يدفع عمرا عن خالد فللمفعول الأول تأثير في
الثاني ولا يصح هذا المعنى فيما ذكر إلا بتكلف فالظاهر أن
الباء للمصاحبة أي ما سبقكم أحد مصاحبا وملتبسا بها، ودفع بأن
المعنى على التعدية، ومعنى سبقته بالكرة أسبقت كرتي كرته لأن
السبق بينهما لا بين الشخصين أو الضربين وكذا في الآية ومثله
يفهم من غير تكلف، وقال القطب الرازي: إن المعنى سبقت ضربه
الكرة بضربي الكرة أي جعلت ضربي الكرة سابقا على ضربه الكرة.
ثم استظهر جعل الباء للظرفية لعدم احتياجه إلى ما يحتاجه جعلها
للتعدية أي ما سبقكم في فعل الفاحشة أحد ولعل الأمر كما قال،
ومِنْ الأولى صلة لتأكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق والثانية
للتبعيض، والجملة مستأنفة استئنافا نحويا مسوقة لتأكيد النكير
وتشديد التقريع والتوبيخ، وجوز أن يكون بيانا كأنه قيل: لم لا
نأتيها؟ فقال: ما سبقكم بها أحد فلا تفعلوا ما لم تسبقوا إليه
من المنكرات لأنه أشد، ولا يتوهم أن سبب إنكار الفاحشة كونها
مخترعة ولولاه لما أنكرت إذ لا مجال له بعد كونها فاحشة. ووجه
كون هذه الجملة مؤكدة للنكير أنها مؤذنة باختراع السوء ولا شك
أن اختراعه أسوأ إذ لا مجال للاعتذار عنه كما اعتذروا عن
عبادتهم الأصنام مثلا بقولهم: إنا وجدنا آباءنا.
وجوز أبو البقاء كون الجملة في موضع الحال من المفعول أو
الفاعل، والنيسابوري جوز كونها صفة للفاحشة على حد:
ولقد أمر على اللئيم يسبني ورد بأن الفاحشة هنا متعينة دون
اللئيم، وكيفما كان فالمراد من نفي سبق أحد بها إياهم كونهم
سابقين بها كل أحد ممن عداهم من العالمين لا مساواتهم الغير
بها فقد أخرج البيهقي وغيره عن عمرو بن دينار قال ما نزا ذكر
على ذكر حتى كان قوم لوط، والذي حملهم على ذلك- كما أخرج ابن
عساكر. وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- أنهم كانت لهم
ثمار في منازلهم وحوائطهم وثمار خارجة على ظهر الطريق وأنهم
أصابهم قحط وقلة من الثمار فقال بعضهم لبعض: إنكم إن منعتم
ثماركم هذه الظاهرة من أبناء السبيل كان لكم فيها عيش قالوا:
بأي شيء نمنعها؟
قالوا: اجعلوا سنتكم أن تنكحوا من وجدتم في بلادكم غريبا
وتغرموه أربعة دراهم فإن الناس لا يظهرون ببلادكم إذا فعلتم
ذلك ففعلوه واستحكم فيهم. وفي بعض الطرق أن إبليس عليه اللعنة
جاءهم عند ذكرهم ما ذكروا في هيئة صبي أجمل صبي رآه الناس
فدعاهم إلى نفسه فنكحوه ثم جرؤوا على ذلك. وجاء من رواية ابن
أبي الدنيا عن طاوس أن قوم لوط إنما أتوا أولا النساء في
أدبارهن ثم أتوا الرجال. وفي قوله: مِنَ الْعالَمِينَ دون من
الناس مبالغة لا تخفى.
وقوله سبحانه: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ يحتمل
الاستئناف البياني والنحوي وهو مبين لتلك الفاحشة، والإتيان
هنا بمعنى الجماع، وقرأ ابن عامر. وجماعة أإنكم بهمزتين
صريحتين، ومنهم من قرأ بتليين الثانية بغير مد، ومنهم من مد
وهو حينئذ تأكيدا للإنكار السابق وتشديد للتوبيخ، وفي الإتيان
بأن واللام مزيد تقبيح وتقريع كأن ذلك أمر لا
__________
(1) قوله كرة بخطه والصواب كورة وهي معروفة حاكمها الآن الأمير
عبد الله بوساطة الانكليز.
(4/407)
يتحقق صدوره عن أحد فيؤكد تأكيدا قويا، وفي
إيراد لفظ الرِّجالَ دون الغلمان والمردان ونحوهما- كما قال
شيخ الإسلام- مبالغة في التوبيخ كأنه قال: لتأتون أمثالكم
شَهْوَةً نصب على أنه مفعول له أي لأجل الاشتهاء لا غير أو على
الحالية بتأويل مشتهين، وجوز أن يكون منصوبا على المصدرية
وناصبة تأتون لأنه بمعنى تشتهون، وفي تقييد الجماع الذي لا
ينفك عن الشهوة بها إيذان بوصفهم بالبهيمية الصرفة وأن ليس
غرضهم قضاء الشهوة، وفيه تنبيه على أنه ينبغي للعاقل أن يكون
الداعي إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النوع لإقضاء الشهوة،
وجوز أن يكون المراد الإنكار عليهم وتقريعهم على اشتهائهم تلك
الفعلة القذرة الخبيثة كما ينبىء عنه قوله تعالى: مِنْ دُونِ
النِّساءِ أي متجاوزين النساء اللاتي هن محل الاشتهاء عند ذوي
الطباع السليمة كما يؤذن به قوله سبحانه: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
مُسْرِفُونَ فالجار والمجرور في موضع الحال من ضمير تأتون،
وجوز أن يكون حالا من الرجال- على ما قاله أبو البقاء- أي
تأتونهم منفردين عن النساء، وأن يكون في موضع الصفة لشهوة- على
ما قيل- واستبعد تعلقه به، و «بل» للإضراب وهو إضراب انتقالي
عن الإنكار المذكور إلى الإخبار بما أدى إلى ذلك وهو اعتياد
الإسراف في كل شيء أو إلى بيان استجماعهم للعيوب كلها.
ويحتمل أن يكون إضرابا عن غير مذكور وهو ما توهموه من العذر في
ذلك أي لا عذر لكم فيه بل أنتم قوم عادتكم الإسراف والخروج عن
الحدود، وهذا في معنى ذمهم بالجهل كما في سورة النمل إلا أنه
عبر بالاسم هنا وبالفعل هناك لموافقة رؤوس الآي المتقدمة في كل
والله تعالى أعلم بأسرار كلامه وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ أي
المستكبرين منهم المتصدين للعقد والحل إِلَّا أَنْ قالُوا
استثناء مفرغ من أعم الأشياء أي ما كان جوابهم شيء من الأشياء
إلا قولهم أي لبعضهم الآخرين المباشرين للأمور أو ما كان جواب
قومه الذين خاطبهم بما خاطبهم شيء من الأشياء إلا قول بعضهم
لبعض معرضين عن مخاطبته عليه السلام أَخْرِجُوهُمْ أي لوطا ومن
معه مِنْ قَرْيَتِكُمْ أي بلدتكم التي أجمعتم فيها وسكنتم بها.
والنظم الكريم من قبيل:
تحية بينهم ضرب وجيع والقصد منه نفي الجواب على أبلغ وجه لأن
ما ذكر في حيز الاستثناء لا تعلق له بكلامه عليه السلام من
إنكار الفاحشة وتعظيم أمرها ووسمهم بما هو أصل الشر كله. ولو
قيل: وقالوا أخرجوهم لم يكن بهذه المثابة من الإفادة.
وقوله سبحانه: إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ تعليل للأمر
بالإخراج. ومقصود الأشقياء بهذا الوصف السخرية بلوط ومن معه
وبتطهرهم من الفواحش وتباعدهم عنها وتنزههم عما في المحاش
والافتخار بما كانوا فيه من القذارة كما يقول الشطار من الفسقة
لبعض الصلحاء إذا وعظهم: أخرجوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من
هذا المتزهد. وقرىء برفع «جواب» على أنه اسم كان، و «إلا أن
قالوا» إلخ خبر قيل: وهو أظهر وإن كان الأول أقوى في الصناعة
لأن الأعراف أحق بالاسمية. وقد تقدم ما ينفعك هنا فتذكر.
وأيا ما كان فليس المراد أنهم لم يصدر عنهم في مقابلة كلام لوط
عليه السلام ومواعظه إلا هذه المقالة الباطلة كما ينساق إلى
الذهن بل إنه لم يصدر عنهم في المرة الأخيرة من مرات المحاورات
الجارية بينه عليه السلام وبينهم إلا هذه الكلمة الشنيعة، وإلا
فقد صدر عنهم قبل ذلك كثير من الترهات كما حكي عنهم في غير
موضع من الكتاب الكريم وكذا يقال في نظائره، قيل: وإنما جيء
بالواو في وَما كانَ إلخ دون الفاء كما في النمل. والعنكبوت
لوقوع الاسم قبل هنا والفعل هناك والتعقيب بالفعل بعد الفعل
حسن دون التعقيب به بعد الاسم وفيه تأمل.
ولعل ذكر أَخْرِجُوهُمْ هنا وأَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ في [النمل:
56] إشارة إلى أنهم قالوا مرة هذا وأخرى
(4/408)
ذاك أو أن بعضا قال كذا وآخر قال كذا. وقال
النيسابوري: إنما جاء في النمل أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ ليكون
تفسيرا لهذه الكناية، وقيل: إن تلك السورة نزلت قبل الأعراف.
وقد صرح في الأولى، وكني في الثانية اه. ولعل ما ذكرناه أولى
فتأمل فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ أي من اختص به واتبعه من
المؤمنين سواء كانوا من ذوي قرابته عليه السلام أم لا؟. وقيل:
ابنتاه ريثا ويغوثا. وللأهل معان ولكل مقام مقال. وهو عند
الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه في باب الوصية الزوجة للعرف.
ولقوله سبحانه: «قال لأهله امكثوا. وسار بأهله» فتدفع الوصية
لها إن كانت كتابية أو مسلمة وأجازت الورثة.
وعند الإمامين أهل الرجل كل من في عياله ونفقته غير مماليكه
وورثته، وقولهما- كما في شرح التكملة- استحسان.
وأيده ابن الكمال بهذه الآية لأنه لا يصح فيها أن يكون بمعنى
الزوجة أصلا لقوله سبحانه: إِلَّا امْرَأَتَهُ فإنه استثناء من
أهله وحينئذ لا يصح الاستثناء، وأنت تعلم أن الكلام في المطلق
على القرينة لا في الأهل مطلقا واسم امرأته عليه السلام وأهله.
وقيل: وآلهة كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي بعضا منهم فالتذكير
للتغليب ولبيان استحقاقهما لما يستحقه المباشرون للفاحشة وكانت
تسر الكفر وتوالي أهله فهلكت كما هلكوا.
وجوز أن يكون المعنى كانت مع القوم الغابرين فلا تغليب والغابر
بمعنى الباقي ومنه قول الهذلي:
فغبرت بعدهم بعيش ناصب ويجيء بمعنى الماضي والذاهب ومنه قول
الأعشى: في الزمن الغابر فهو من الأضداد كما في الصحاح. وغيره،
ويكون بمعنى الهالك أيضا. وفي بقاء امرأته مع أولئك القوم
روايتان ثانيتهما أنه عليه السلام أخرجها مع أهله ونهاهم عن
الالتفات فالتفتت هي فأصابها حجر فهلكت. والآية هنا محتملة
للأمرين. والحسن وقتادة يفسران الغبور هنا بالبقاء في عذاب
الله تعالى. وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة لهذا الكلام.
والجملة استئناف وقع جوابا نشأ عن الاستثناء كأنه قيل:
فما كان حالها؟ فقيل: كانت من الغابرين.
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي نوعا من المطر عجيبا وقد
بينه قوله سبحانه: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ
سِجِّيلٍ [الحجر: 74] . وفي الخازن أن تلك الحجارة كانت معجونة
بالكبريت والنار. وظاهر الآية أنه أمطر عليهم كلهم. وجاء في
بعض الآثار أنه خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على
مسافريهم وشذاذهم حتى إن تاجرا منهم كان في الحرم فوقفت له حجر
أربعين يوما حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه. وفرق بين
مطر وأمطر فعن أبي عبيدة أن الثلاثي في الرحمة والرباعي في
العذاب ومثله عن الراغب، وفي الصحاح عن أناس أن مطرت السماء
وأمطرت بمعنى، وفي القاموس لا يقال أمطرهم الله تعالى إلا في
العذاب. وظاهر كلام الكشاف في الأنفال الترادف كما في الصحاح
لكنه قال: وقد كثر الإمطار في معنى العذاب وذكر هنا أنه يقال:
مطرتهم السماء وواد ممطور ويقال:
أمطرت عليهم كذا أي أرسلته إرسال المطر. وحاصل الفرق- كما في
الكشف- ملاحظة معنى الإصابة في الأول والإرسال في الثاني ولهذا
عدّي بعلى، وذكر ابن المنير أن مقصود الزمخشري الرد على من
يقول: إن مطرت في الخير وأمطرت في الشر ويتوهم أنها تفرقة
وضعية فبين أن أمطرت معناه أرسلت شيئا على نحو المطر وإن لم
يكن إياه حتى لو أرسل الله تعالى من السماء أنواعا من الخير
لجاز أن يقال فيه: أمطرت السماء خيرا أي أرسلته إرسال المطر
فليس للشر خصوصية في هذه الصيغة الرباعية ولكن اتفق أن السماء
لم ترسل شيئا سوى المطر إلا وكان عذابا فظن أن الواقع اتفاقا
مقصود في الوضع وليس به انتهى. ويعلم منه- كما قال الشهاب- أن
كلام أبي عبيدة. وإضرابه مؤول وأن رد بقوله تعالى: عارِضٌ
مُمْطِرُنا [الأحقاف: 24] فإنه عنى به الرحمة. ولا يخفى أنه لو
قيل: إن التفرقة الاستعمالية إنما هي بين الفعلين دون
متصرفاتهما لم يتأت هذا الرد إلا أن كلامهم غير صريح في ذلك،
ولعل البعض صرح بما يخالفه ثم إن مطرا إما مفعول به أو مفعول
مطلق فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أي مآل
أولئك الكافرين
(4/409)
المقترفين لتلك الفعلة الشنعاء. وهذا خطاب
لكل من يتأتى منه التأمل والنظر تعجيبا من حالهم وتحذيرا من
أفعالهم.
وقد مكث لوط عليه السلام فيهم- على ما في بعض الآثار- ثلاثين
سنة يدعوهم إلى ما فيه صلاحهم فلم يجيبوه وكان إبراهيم عليه
السلام يركب على حماره فيأتيهم وينصحهم فيأبون أن يقبلوا فكان
يأتي بعد أن أيس منهم فينظر إلى سدوم ويقول: سدوم أي يوم لك من
الله تعالى سدوم حتى بلغ الكتاب أجله فكان ما قص الله تعالى
على نبيه صلّى الله عليه وسلّم. وسيأتي إن شاء الله تعالى
تفصيل ذلك.
ثم إن لوطا عليه السلام- كما أخرج إسحاق بن بشر. وابن عساكر عن
الزهري- لما عذب قومه لحق بإبراهيم عليه السلام فلم يزل معه
حتى قبضه الله تعالى إليه. وفي هذه الآيات دليل أن اللواطة من
أعظم الفواحش.
وجاء في خبر أخرجه البيهقي في الشعب عن أبي هريرة رضي الله
تعالى عنه وصححه الحاكم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«لعن الله تعالى سبعة من خلقه فوق سبع سماوات فردد لعنة على
واحد منها ثلاثا ولعن بعد كل واحد لعنة فقال: ملعون ملعون
ملعون من عمل عمل قوم لوط» الحديث.
وجاء أيضا أربعون يصبحون في غضب الله تعالى ويمسون في سخط الله
تعالى وعد منهم من يأتي الرجل.
وأخرج ابن أبي الدنيا. وغيره عن مجاهد رضي الله تعالى عنه إن
الذي يعمل ذلك العمل لو اغتسل بكل قطرة من السماء وكل قطرة من
الأرض لم يزل نجسا أي إن الماء لا يزيل عنه ذلك الإثم العظيم
الذي بعده عن ربه. والمقصود تهويل أمر تلك الفاحشة.
وألحق بها بعضهم السحاق وبدا أيضا في قوم لوط عليه السلام
فكانت المرأة تأتي المرأة فعن حذيفة رضي الله تعالى عنه إنما
حق القول على قوم لوط عليه السلام حين استغنى النساء بالنساء
والرجال بالرجال.
وعن أبي حمزة رضي الله تعالى عنه قلت لمحمد بن علي: عذب الله
تعالى نساء قوم لوط بعمل رجالهم فقال:
الله تعالى أعدل من ذلك استغنى الرجال بالرجال والنساء
بالنساء. وآخرون إتيان المرأة في عجيزتها واستدل بما
أخرج غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال على المنبر:
سلوني؟ فقال ابن الكواء: تؤتى النساء في أعجازهن؟
فقال كرم الله تعالى وجهه: سفلت سفل الله تعالى بك ألم تسمع
قوله تعالى: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ الآية.
ولا يخفى أن ذلك لا يتم إلا بطريق القياس وإلا فالفاحشة في
الآية مبينة بما علمت. نعم جاء في آثار كثيرة ما يدل على حرمة
إتيان الزوجة في عجيزتها والمسألة كما تقدم خلافية والمعتمد
فيها الحرمة.
ولا فرق في اللواطة بين أن تكون بمملوك أو تكون بغيره. واختلاف
في كفر مستحل وطء الحائض ووطء الدبر.
وفي التتار خانية نقلا عن السراجية اللواطة بمملوكة أو مملوكته
أو امرأته حرام إلا أنه لو استحله لا يكفر وهذا بخلاف اللواطة
بأجنبي فإنه يكفر مستحلها قولا واحدا. وما ذكر مما يعلم ولا
يعلم كما في الشرنبلالية لئلا يتجرأ الفسقة عليهم بظنهم حله.
واختلف في حد اللواطة فقال الإمام: لا حد بوطء الدبر مطلقا
وفيه التعزير ويقتل من تكرر منه على المفتى به كما في الأشباه.
والظاهر على ما قال البيري أنه يقتل في المرة الثانية لصدق
التكرار عليه وقال الإمامان: إن فعل في الأجانب حد كحد الزنا
وإن في عبده أو أمته أو زوجته بنكاح صحيح أو فاسد فلا حد
إجماعا كما في الكافي وغيره بل يعزر في ذلك كله ويقتل من
اعتاده. وفي الحاوي القدسي وتكلموا في هذا التعزير من الجلد
ورميه من أعلى موضع وحبسه في أنتن بقعة وغير ذلك الإخصاء والجب
والجلد أصح. وفي الفتح يعزر ويسجن حتى يموت أو يتوب، وعن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما حد اللواطة القتل للفاعل والمفعول
ورواه مرفوعا، وفي رواية أخرى عنه أنه سئل ما حد اللوطي فقال:
ينظر أعلى بناء في القرية فيلقى منه منكسا ثم يتبع بالحجارة.
قال في الفتح: وكأن مأخذ هذا أن قوم لوط أهلكوا بذلك حيث حملت
قراهم ونكست بهم ولا شك في اتباع الهدم بهم وهم نازلون. وعن
علي كرم الله
(4/410)
تعالى وجهه أنه رجم لوطيا وهو أشبه شيء بما
قص الله تعالى من إهلاك قوم لوط عليه السلام بإمطار الحجارة
عليهم.
وصححوا أنها لا تكون في الجنة لأنه سبحانه استقبحها وسماها
فاحشة والجنة منزهة عن ذلك. وفي الأشباه أن حرمتها عقلية فلا
وجود لها في الجنة، وقيل: سمعية فتوجد أي فيمكن أن توجد. وكأنه
أراد بالحرمة هنا القبح إطلاقا لاسم السبب على المسبب أي إن
قبحها عقلي بمعنى أنه يدرك بالعقل وإن لم يرد به الشرع. وليس
هذا مذهب المعتزلة كما لا يخفى ونقل الجلال السيوطي عن ابن
عقيل الحنبلي قال: جرت هذه المسألة بين أبي علي ابن الوليد
المعتزلي وبين أبي يوسف القزويني فقال ابن الوليد: لا يمنع أن
يجعل ذلك من جملة اللذات في الجنة لزوال المفسدة لأنه إنما منع
في الدنيا لما فيه من قطع النسل وكونه محلا للأذى وليس في
الجنة ذلك ولهذا أبيح شرب الخمر لما ليس فيه من السكر والعربدة
وزوال العقل بل اللذة الصرفة فقال أبو يوسف رضي الله تعالى
عنه. الميل إلى الذكور عاهة وهو قبيح في نفسه لأنه محل لم يخلق
للوطء ولهذا لم يبح في شريعة بخلاف الخمر فقال ابن الوليد: هو
قبيح وعاهة للتلويث بالأذى ولا أذى في الجنة فلم يبق إلا مجرد
الالتذاذ انتهى. وأنا أرى أن إنكار قبح اللواطة عقلا مكابرة
ولهذا كانت الجاهلية تعير بها ويقولون في الذم فلان مصفر استه
ولا أدري هل يرضى ابن الوليد لنفسه أن يؤتى في الجنة أم لا فإن
رضي اليوم أن يؤتى غدا فغالب الظن أن الرجل مأبون أو قد ألف
ذلك وإن لم يرض لزمه الإقرار بالقبح العقلي.
وإن ادعى أن عدم رضائه لأن الناس قد اعتادوا التعبير به وذلك
مفقود في الجنة قلنا له: يلزمك الرضا به في الدنيا إذا لم
تعيّر ولم يطلع عليك أحد فإن التزمه فهو كما ترى ولا ينفعه
ادعاء الفرق بين الفاعل والمفعول كما لا يخفى على الأحرار.
وصرحوا بأن حرمة اللواطة أشد من حرمة الزنا لقبحها عقلا وطبعا
وشرعا والزنا ليس بحرام كذلك وتزول حرمته بتزويج وشراء بخلافها
وعدم الحد عند الإمام لا لخفتها بل للتغليظ لأنه مطهر على قول
كثير من العلماء وإن كان خلاف مذهبنا، وبعض الفسقة اليوم دمرهم
الله تعالى يهونون أمرها ويتمنون بها ويفتخرون بالإكثار منها.
ومنهم من يفعلها أخذا للثأر ولكن من أين، ومنهم يحمد الله
سبحانه عليها مبنية للمفعول وذلك لأنهم نالوا الصدارة بإعجازهم
نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
واعلم أن للواطة أحكاما أخر فقد قالوا: إنه لا يجب بها المهر
ولا العدة في النكاح الفاسد ولا في المأتي بها لشبهة ولا يحصل
بها التحليل للزوج الأول ولا تثبت بها الرجعة ولا حرمة
المصاهرة عند الأكثر ولا الكفارة في رمضان في رواية ولو قذف
بها لا يحد ولا يلاعن خلافا لهما في المسألتين كما في البحر
أخذا من المجتبي. وفي الشرنبلالية عن السراج يكفي في الشهادة
عليها عدلان لا أربعة خلافا لهما أيضا. هذا ولم أقف للسادة
الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم على ما هو من باب الإشارة في
قصة قوم لوط عليه السلام، وذكر بعضهم في قصة قوم صالح عليه
السلام بعد الإيمان بالظاهر أن الناقة هي مركب النفس الإنسانية
لصالح عليه السلام ونسبتها إليه سبحانه لكونه مأمورة بأمره عز
وجل مختصة به في طاعته وقربه. وما قيل: إن الماء قسم بينها
وبينهم لها شرب يوم ولهم شرب يوم إشارة إلى أن مشربهم من القوة
العاقلة النظرية. وما روي أنها يوم شربها كانت تتفحج فيحلب
منها اللبن حتى تملأ الأواني إشارة إلى أن نفسه تستخرج بالفكر
من علوم الكلية الفطرية العلوم النافعة للناقصين من علوم
الأخلاق والشرائع. وخروجها من الجبل خروجها من بدن صالح عليه
السلام.
وقال آخرون: إن الناقة كانت معجزة صالح عليه السلام وذلك أنهم
سألوه أن يخرج لهم من حجارة القلب ناقة السر فخرجت فسقيت سر
السر فأعطت بلد القالب من القوى والحواس لبن الواردات الإلهية
ثم قال لهم. ذروها ترتع في رياض القدس وحياض الإنس وَلا
تَمَسُّوها بِسُوءٍ من مخالفات الشريعة ومعارضات الطريقة
فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وهو عذاب الانقطاع عن الوصول
إلى الحقيقة وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ أي مستعدين
للخلافة وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي أرض القلب
تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها وهي المعاملات بالصدق قُصُوراً
تسكنون
(4/411)
فيها وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ وهي جبال
أطوار القلب بُيُوتاً هي مقامات السائرين إلى الله.
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهي الأوصاف البشرية
والأخلاق الذميمة لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا من أوصاف القلب
والروح أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ
ليدعو إلى الأوصاف النورانية فَعَقَرُوا النَّاقَةَ بسكاكين
المخالفة فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لضعف قلوبهم وعدم قوة
علمه فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ موتى لا حراك بهم
إلى حظيرة القدس.
وذكر البعض أن الناقة والسقب صورتا الإيمان بالله تعالى
والإيمان برسوله عليه الصلاة والسلام وقد ظهرا بالذات
وبالواسطة من الحجر الذي تشبهه قلوب القوم وعقرهم للناقه من
قبيل ذبح يحيى عليه السلام للموت الظاهر في صورة الكبش يوم
القيامة. وفي ذلك دليل على أنهم من أسوأ الناس استعدادا وأتمهم
حرمانا. ويدل على سوء حالهم. أن الشيخ الأكبر قدس سره لم
ينظمهم في فصوص الحكم في سلك قوم نوح عليه السلام حيث حكم لهم
بالنجاة على الوجه الذي ذكره. وكذا لم ينظم في ذلك السلك قوم
لوط عليه السلام وكأن ذلك لمزيد جهلهم وبعدهم عن الحكمة
وإتيانهم البيوت من غير أبوابها وقذارتهم ودناءة نفوسهم. والذي
عليه المتشرعون أن أولئك الأقوام كلهم حصب جهنم لا ناجي فيهم
والله تعالى أحكم الحاكمين.
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً عطف على ما مر. والمراد
أرسلنا إلى مدين إلخ. ومدين وسمع مديان في الأصل علم لابن
إبراهيم الخليل عليه السلام ومنع صرفه للعلمية والعجمة ثم سميت
به القبيلة، وقيل: هو عربي اسم لماء كانوا عليه، وقيل: اسم بلد
ومنع صرفه للعلمية والتأنيث فلا بد من تقدير مضاف حينئذ أي أهل
مدين مثلا أو المجاز. والياء على هذا عند بعض زائدة. وعن ابن
بري الميم زائدة إذ ليس في كلامهم فعيل وفيه مفعل.
وقال آخرون: إنه شاذ كمريم إذ القياس إعلاله كمقام. عند المبرد
ليس بشاذ قيل وهو الحق لجريانه على الفعل وشعيب قيل تصغير شعب
بفتح فسكون اسم جبل أو شعب بكسر فسكون الطريق في الجبل. واختير
أنه وضع مرتجلا هكذا. والقول بأن القول بالتصغير باطل لأن
أسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز تصغيرها فيه نظر
لأن الممنوع التصغير بعد الوضع لا المقارن له ومدعي ذلك قد
يدعي هذا وهو على ما وجد بخط النووي في تهذيبه ابن ميكيل بن
يشجر بن مدين بن إبراهيم عليه السلام، وقيل: ابن ميكيل بن يشجر
بن لاوي بن يعقوب، وبعضهم يقول:
ميكائيل بدل ميكيل، ونقل ذلك عن خط الذهبي في اختصار المستدرك.
وآخر يقول ملكاني بدله.
وذكر ابن أم ميكيل بنت لوط عليه السلام. وأخرج ابن عساكر من
طريق إسحاق بن بشر عن الشرقي ابن القطامي- وكان نسابة- أن
شعيبا هو يثروب بالعبرانية وهو ابن عيفاء بن يوبب- بمثناة
تحتية أوله وواو وموحدتين بوزن جعفر- بن إبراهيم عليه السلام،
وقيل في نسبه غير ذلك،
وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم كما أخرج ابن عساكر عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما إذ ذكر شعيب يقول: «ذلك خطيب
الأنبياء لحسن مراجعته قومه»
أي محاورته لهم، وكأنه- كما قيل- عنى عليه الصلاة والسلام ما
ذكر في هذه السورة كما يعلم بالتأمل فيه. وبعث رسولا إلى أمتين
مدين وأصحاب الأيكة، قال السدس: وعكرمة رضي الله تعالى عنهما.
ما بعث الله تعالى نبيا مرتين إلا شعيبا مرة إلى مدين فأخذهم
الله تعالى بالصيحة، ومرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله تعالى
بعذاب يوم الظلة.
وأخرج ابن عساكر في تاريخه من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا أن
قوم مدين. وأصحاب الأيكة آيتان بعث الله تعالى إليهما شعيبا.
وهو- كما قال ابن كثير- غريب وفي رفعه نظر واختار أنهما أمة
واحدة، واحتج له بأن كلا
(4/412)
منهما وعظ بوفاء الميزان والمكيال وهو يدل
على أنهما واحدة وفيه ما لا يخفى. ومن الناس من زعم أنه عليه
السلام بعث إلى ثلاث أمم، والثالثة أصحاب الرس. والقول بأنه
عليه السلام كان أعمى لا عكاز له يعتمد عليه بل قد نص العلماء
ذوو البصيرة على أن الرسول لا بد أن يكون سليما من منفر ومثلوه
بالعمى، والبرص، والجذام، ولا يرد بلاء أيوب. وعمى يعقوب بناء
على أنه حقيقي لطروئه بعد الأنباء والكلام فيما قارنه، والفرق
أن هذا منفر بخلافه فيمن استقرت نبوته. وقد يقال: إن صح ذلك
فهو من هذا القبيل.
قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية إرساله إليهم كأنه
قيل: فماذا قال لهم؟ فقيل قال: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما
لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ مر تفسيره قَدْ جاءَتْكُمْ
بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي معجزة عظيمة ظاهرة من مالك
أموركم.
ولم تذكر معجزته عليه السلام في القرآن العظيم كما لم تذكر
أكثر معجزات نبينا صلّى الله عليه وسلّم والأنبياء عليهم
السلام فيه.
والقول بأنه لم يكن له عليه السلام معجزة غلط لأن الفاء في
قوله سبحانه: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ لترتيب الأمر
على مجيء البينة، واحتمال كونها عاطفة على اعْبُدُوا بعيد، وإن
كانت عبادة الله تعالى موجبة للاجتناب عن المناهي التي معظمها
بعد الكفر البخس فكأنه قيل: قد جاءتكم معجزة شاهدة بصحة نبوتي
أوجبت عليكم الإيمان بها والأخذ بما أمرتكم به فأوفوا إلخ ولو
ادعى مدع النبوة بغير معجزة لم تقبل منه لأنها دعوى أمر غير
ظاهر وفيه إلزام للغير ومثل ذلك لا يقبل من غير بينة ومن الناس
من زعم أن البينة نفس شعيب. ومنهم من زعم أن المراد بالبينة
الموعظة وأنها نفس فَأَوْفُوا إلخ وليس بشيء كما لا يخفى. وقال
الزمخشري: إن من معجزاته عليه السلام ما روي من محاربة عصا
موسى عليه السلام التنين حين دفع إليه غنمه وولادة الغنم.
الدرع خاصة حين وعده أن يكون له الدرع من أولادها ووقوع عصا
آدم عليه السلام على يده في المرات السبع وغير ذلك من الآيات
لأن هذه كلها كانت قبل أن يستنبأ موسى عليه السلام فكانت
معجزات لشعيب اه.
وفيه نظر لأن ذلك متأخر عن المقاولة فلا يصح تفريع الأمر عليه،
ولأنه يحتمل أن يكون كرامة لموسى عليه السلام أو إرهاصا لنبوته
بل في الكشف أن هذا متعين لأن موسى أدرك شعيبا عليه السلام بعد
هلاك قومه ولأن ذلك لم يكن معرض التحدي.
وزعم الإمام أن الإرهاص غير جائز عند المعتزلة، ولهذا جعل ذلك
معجزة لشعيب عليه السلام نظر فيه الطيبي بأن الزمخشري قال في
آل عمران في تكليم الملائكة عليهم السلام لمريم. إنه معجزة
لزكريا أو إرهاص لنبوة عيسى عليهما السلام، والمراد بالكيل ما
يكاد به مجازا كالعيش بمعنى ما يعاش به. ويؤيده أنه قد وقع في
سورة الْمِكْيالَ [هود: 84، 85] ، وكذا عطف الْمِيزانَ عليه
هنا، فإن المتبادر منه الآلة وإن جاز كونه مصدرا بمعنى الوزن
كالميعاد بمعنى الوعد، وقيل: إن الكيل وما عطف عليه مصدران
والكلام على الإضمار أي أوفوا آلة الكيل والوزن وَلا
تَبْخَسُوا النَّاسَ أي لا تنقصوهم يقال بخسه حقه إذا نقصه
إياه ومنه قيل للمكس البخس. وفي أمثالهم تحسبها حمقاء وهي باخس
أي ذات بخس. وتعدى إلى مفعولين أولهما النَّاسَ والثاني
أَشْياءَهُمْ أي الكائنة في المبايعات من الثمن والمبيع،
وفائدة التصريح بالنهي عن النقص بعد الأمر بالإيفاء تأكيد ذلك
الأمر وبيان قبح ضده، وقد يراد بالأشياء الحقوق مطلقا فإنهم
كانوا مكّاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوه.
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا قوما
طغاة بغاة يجلسون على الطريق فيبخسون الناس أموالهم وكانوا إذا
دخل عليهم الغريب يأخذون دراهمه الجياد ويقولون دارهمك هذه
زيوف فيقطعونها ثم يشترونها منه بالبخس. وروي أنه يعطونه أيضا
بدلها زيوفا فكأنه لما نهوا عن البخس في الكيل والوزن نهوا عن
البخس والمكس في كل شيء قيل: ويدخل في ذلك بخس الرجل حقه من
حسن المعاملة والتوقير اللائق به وبيان فضله على ما هو عليه
(4/413)
للسائل عنه. وكثير ممن انتسب إلى أهل العلم
اليوم مبتلون بهذا البخس وليتهم قنعوا به بل جمعوا حشفا وسوء
كيلة فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وبدأ عليه السلام بذكر هذه الواقعة- على ما قال الإمام- لأن
عادة الأنبياء عليهم السلام أنهم إذا رأوا قومهم مقبلين على
نوع من أنواع المفاسد إقبالا أكثر من إقبالهم على سائر الأنواع
بدؤوا بمنعهم عن ذلك النوع، وكان قومه عليه السلام مشغولين
بالبخس والتطفيف أكثر من غيره، والمراد من الناس ما يعمهم
وغيرهم أي لا تبخسوا غيركم ولا يبخس بعضكم بعضا وَلا
تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالجور أو به وبالكفر بَعْدَ
إِصْلاحِها أي إصلاح أمرها أو أهلها بالشرائع، فالإضافة من
إضافة المصدر إلى مفعوله بحذف المضاف، والفاعل الأنبياء
وأتباعهم.
وجوز أن لا يقدر مضاف ويعتبر التجوز في النسبة الإيقاعية لأن
إصلاح من في الأرض إصلاح لها، وأن تكون الإضافة من إضافة
المصدر إلى الفاعل على الإسناد المجازي للمكان، وأن تكون على
معنى في أي بعد إصلاح الأنبياء فيها. ويأبى الحمل على الظاهر
لأن الإصلاح يتعلق بالأرض نفسها كتعميرها وإصلاح طرقها لا
تفسدوا في الأرض ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إشارة إلى ما ذكر من
الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد أو إلى العمل بما
أمرهم به ونهاهم عنه، وأيا ما كان فإفراد اسم الإشارة وتذكيره
ظاهر.
ومعنى الخيرية إما الزيادة مطلقا أو في الإنسانية وحسن
الأحدوثة وما يطلبونه من التكسب والتربح لأن الناس إذا عرفوهم
بالأمانة رغبوا في معاملتهم ومتاجرتهم، وقيل: ليس المراد من
خَيْرٌ هنا معنى الزيادة لأنه ليس للتفضيل بل المعنى ذلكم نافع
لكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قيل: المراد بالإيمان معناه
اللغوي، وتخص الخيرية بأمر الدينا أي إن كنتم مصدقين لي في
قولي، ومثل هذا الشرط- على ما قال الطيبي- إنما يجاء به في آخر
الكلام للتأكيد، ويعلم من هذا أن شعيبا عليه السلام كان مشهورا
عندهم بالصدق والأمانة كما كان نبينا صلّى الله عليه وسلّم
مشهورا عند قومه بالأمين، وقال بعض الذاهبين إلى ما ذكر: إن
تعليق الخيرية على هذا التصديق بتأويل العلم بها وإلا فهو خير
مطلقا.
وقال القطب الرازي: إن ذلك ليس شرطا للخيرية نفسها بل لفعلهم
كأنه قيل: فأتوا بهم إن كنتم مصدقين بي فلا يرد أنه لا توقف
للخيرية في الإنسانية على تصديقهم به. قيل: المراد به مقابل
الكفر وبالخيرية ما يشمل أمر الدنيا والآخرة أي ذلكم خير لكم
في الدارين بشرط أن تؤمنوا، وشرط الإيمان لأنّ الفائدة من حصول
الثواب مع النجاة من العقاب ظاهرة مع الإيمان خفية مع فقده
للانغماس في غمرات الكفر، وبنى بعضهم نفع ترك البخس ونحوه في
الآخرة على أن الكفار يعذبون على المعاصي كما يعذبون على الكفر
فيكون الترك خيرا لهم بلا شبهة لكن لا يخفى أنه إذا فسر
الإفساد في الأرض بالإفساد فيها بالكفر لا يكون لهذا التعليق
على الإيمان معنى كما لا يخفى، وإخراجه من حيز الإشارة بعيد
جدا.
وزعم الخيالي أن الأظهر أن ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ معترضة
والشرط متعلق بما سبق من الأوامر والنواهي، وكأنه التزم ذلك
لخفاء أمر الشرطية عليه. وقد فر من هرة وقع في أسد وهرب من
القطر ووقف تحت الميزاب فاعتبروا يا أولي الألباب.
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ أي طريق من الطرق الحسية
تُوعِدُونَ أي تخوفون من آمن بالقتل كما نقل عن الحسن، وقتادة،
ومجاهد، وروي عن ابن عباس أن بلادهم كانت يسيرة وكان الناس
يمتارون منهم فكانوا يقعدون على الطريق ويخوفون الناس أن يأتوا
شعيبا ويقولون لهم: إنه كذاب فلا يفتنكم عن دينكم.
ويجوز أن يكون القعود على الصراط خارجا مخرج التمثيل كما فيما
حكي عن قول الشيطان: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ
الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف: 16] أي ولا تقعدوا بكل طريق من طرق
الدين كالشيطان، وإليه يشير ما روي عن مجاهد أيضا. والكلية مع
أن دين الله الحق واحد باعتبار تشعبه إلى معارف وحدود. وأحكام
وكانوا إذا رأوا أحدا يشرع
(4/414)
في شيء منها منعوه بكل ما يمكن من الحيل.
وقيل: كانوا يقطعون الطريق فنهوا عن ذلك. وروي عن أبي هريرة.
وعبد الرحمن بن زيد. ولعل المراد به ما يرجع إلى أحد القولين
الأولين وإلا ففيه خفاء وإن قيل: إن في الآية عليه مبالغة في
الوعيد وتغليظ ما كانوا يرومونه من قطع السبيل.
وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي الطريق الموصلة إليه وهي
الإيمان أو السبيل الذي قعدوا عليه فوضع المظهر موضع المضمر
بيانا لكل صراط دلالة على عظم ما تصدق عليه وتقبيحا لما كانوا
عليه، وقوله سبحانه: مَنْ آمَنَ بِهِ مفعول تَصُدُّونَ على
أعمال الأقرب لا تُوعِدُونَ خلافا لما يوهمه كلام الزمخشري إذ
يجب عند الجمهور في مثل ذلك حينئذ إظهار ضمير الثاني. ولا يجوز
حذفه إلا في ضرورة الشعر فيلزم أن يقال: تصدونهم وإذا جعل
تَصُدُّونَ بمعنى تعرضون يصير لازما ولا يكون مما نحن فيه.
وضمير بِهِ لله تعالى أو لكل صراط أو سبيل الله تعالى لأن
السبيل يذكر ويؤنث كما قيل، وجملة تُوعِدُونَ وما عطف عليه في
موضع الحال من ضمير تَقْعُدُوا أي موعدين وصادين: وقيل: هي على
التفسير الأول استئناف بياني، والأظهر ما ذكرنا وَتَبْغُونَها
عِوَجاً أي وتطلبون لسبيل الله تعالى عوجا بإلقاء الشبه أو
بوصفها للناس بما ينقصها وهي أبعد من شائبة الاعوجاج:
وهذا أخبار فيه معنى التوبيخ وقد يكون تهكما بهم حيث طلبوا ما
هو محال إذ طريق الحق لا يعوج. وفي الكلام ترق كأنه قيل: ما
كفاكم أنكم توعدون الناس على متابعة الحق وتصدونهم عن سبيل
الله تعالى حتى تصفونه بالاعوجاج ليكون الصد بالبرهان والدليل.
وعلى ما روي عن أبي هريرة. وابن زيد جاز أن يراد يبتغونها عوجا
عيشهم في الأرض واعوجاج الطريق عبارة عن فوات أمنها.
وذكر الطيبي أن معنى هذا الطلب حينئذ معنى اللام في قوله
سبحانه: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: 8] سائر
الأوجه في الكلام الحذف والإيصال.
وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا عددكم فَكَثَّرَكُمْ فوفر
عددكم بالبركة في النسل كما روي عن ابن عباس.
وحكي أن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله تعالى
في نسلها البركة والنماء فكثروا وفشوا.
وجوز الزجاج أن يكون المعنى إذ كنتم مقلين فقراء فجعلكم مكثرين
موسرين، أو كنتم أقلة أذلة فأعزكم بكثرة العدد والعدد. وإِذْ
مفعول اذْكُرُوا أو ظرف لمقدر كالحادث أو النعم أي اذكروا ذلك
الوقت أو ما فيه وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُفْسِدِينَ أي آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم كقوم نوح،
وعاد، وثمود واعتبروا بهم وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ
آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ من الشرائع والأحكام
وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا به أو لم يفعلوا فَاصْبِرُوا
حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا خطاب للكفار ووعيد لهم أي
تربصوا لترواحكم الله تعالى بيننا وبينكم فإنه سبحانه سينصر
المحق على المبطل ويظهره عليه أو هو خطاب للمؤمنين وموعظة لهم
وحث على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من أذى المشركين إلى أن
يحكم الله تعالى بينهم وينتقم لهم منهم. ويجوز أن يكون خطابا
للفريقين أي ليصبر المؤمنون على أذى الكفار وليصبر الكفار على
ما يسوؤهم من إيمان من آمن منهم حتى يحكم فيميز الخبيث من
الطيب، والظاهر الاحتمال الأول. وكان المقصود إن أيمان البعض
لا ينفعكم في دفع بلاء الله تعالى وعذابه وَهُوَ خَيْرُ
الْحاكِمِينَ إذ لا معقب لحكمه ولا حيف فيه فهو في غاية
السداد.
(4/415)
قَالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا
شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ
لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ
(88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا
فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا
يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ
اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى
اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ
اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ
جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ
يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ
الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ
لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ
فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا
فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا
بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى
عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ
وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا
وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ
يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى
وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا
يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ
أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ
وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ
جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا
لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ
اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا
لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ
لَفَاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى
بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى
اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ
إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ
مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ
لِلنَّاظِرِينَ (108)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
(5/3)
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
مِنْ قَوْمِهِ استئناف مبني على سؤال ينساق إليه المقال كأنه
قيل له: فماذا قالوا له عليه السلام بعد ما سمعوا منه هذه
المواعظ؟ فقيل: قال أشراف قومه المستكبرون متطاولين عليه عليه
السلام غير مكتفين بمجرد الاستعصاء بل بالغين من العتو مبلغا
عظيما لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ
مِنْ قَرْيَتِنا بغضا لكم ودفعا لفتنتكم المترتبة على المساكنة
والجوار، والتأكيد القسمي للمبالغة والاعتناء بالحكم ومَعَكَ
متعلق بالإخراج لا بالإيمان، ونسبة الإخراج إليه عليه السلام
أولا وإلى المؤمنين ثانيا للتنبيه على أصالته عليه السلام في
ذلك وتبعيتهم له فيه، وتوسيط النداء باسمه العلي بين المعطوفين
لزيادة التقرير والتهديد الناشئة عن غاية الوقاحة والطغيان،
وقوله تعالى: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا عطف على جواب
القسم أي والله ليكونن أحد الأمرين البتة الإخراج أو العود على
أن المقصد الأهم هو العود وإنما ذكر الأول لمجرد القسر
والإلجاء كما يفصح عنه عدم تعرضه عليه السلام بجواب الإخراج،
والمتبادر من العود الرجوع إلى الحالة الأولى وهذا مما لا يمكن
في حق شعيب عليه السلام لأن الأنبياء عليهم السلام معصومون عما
دون الكفر بمراتب. نعم هو ممكن في حق من آمن به فإسناده إليه
عليه السلام من باب التغليب، قيل: وقد غلب عليه المؤمنون هنا
كما غلب هو عليهم في الخطاب فيكون في الآية حينئذ تغليبان،
وقال غير واحد: إن تعود بمعنى تصير كما أثبته بعض النحاة
واللغويين فلا يستدعي العود إلى حالة سابقة وعلى ذلك قوله:
فإن لم تك الأيام تحسن مرة ... اليّ فقد عادت لهنّ ذنوب
فكأنهم قالوا: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو
لتصيرن مثلنا فحينئذ لا إشكال ولا تغليب، وكذا يقال فيما بعد
وهو حسن ولا يأباه إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها لاحتمال أن
يقال بالتغليب فيه أو يقال إن التنجية لا يلزم أن تكون بعد
الوقوع في المكروه، ألا ترى إلى قوله سبحانه: فَأَنْجَيْناهُ
وَأَهْلَهُ [الأعراف: 83] وأمثاله.
وقال ابن المنير: على احتمال تسليم استعمال العود بمعنى الرجوع
إلى أمر سابق يجاب بأنه على نهج قوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى
النُّورِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ
يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [البقرة:
257] فإن الإخراج يستدعي دخولا سابقا فيما وقع الإخراج منه،
وهو غير متحقق في المؤمن والكافر الأصليين، لكن لما كان
الإيمان والكفر من الأفعال الاختيارية التي خلق الله تعالى
العبد ميسرا لكل واحد منهما متمكنا منه لو أراده عبر عن تمكن
المؤمن من الكفر، ثم عدوله عنه إلى الإيمان اختيارا بالإخراج
من الظلمات إلى النور توفيقا من الله تعالى له ولطفا به
وبالعكس في حق الكافر ويأتي نظير ذلك في قوله تعالى: أُولئِكَ
الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [البقرة: 16، 175]
وهذا من المجاز المعبر فيه عن السبب بالمسبب. وفائدة اختياره
في هذه المواضع تحقيق التمكن والاختيار لإقامة حجة الله تعالى
على عباده.
وقيل: إن هذا القول كان جاريا على ظنهم أنه عليه السلام كان في
ملتهم لسكوته قبل البعثة عن الإنكار عليهم أو أنه صدر عن
رؤسائهم تلبيسا على الناس وإيهاما لأنه كان على دينهم، وما صدر
عنه عليه السلام في أثناء المحاورة وقع على طريق المشاكلة،
وذكر الشهاب احتمالا آخر في الجواب وهو أن الظاهر أن العود هو
المقابل للخروج إلى ما
(5/4)
خرج منه وهو القرية، والجار والمجرور في
موضع الحال أي ليكن منكم الخروج من قريتنا أو العود إليها
كائنين في ملتنا فينحل الاشكال من غير حاجة إلى ما تقدم، ولا
يخفى بعده. وإنما لم يقولوا أو لنعيدنكم على طريقة ما قبله لما
أن مرادهم أن يعودوا بصورة الطواعية حذر الإخراج عن الوطن
باختيار أهون الشرين لا إعادتهم بسائر وجوه الإكراه والتعذيب،
ومن الناس من زعم أن تعودن لا يصلح أن يكون جوابا للقسم لأنه
ليس فعل المقسم، وجعل ما أشرنا إليه أولى في بيان المعنى مخلصا
من ذلك وهو باطل لأنه يقتضي أن القسم لا يكون على فعل الغير
ولم يقل أحد به، وقد شاع نحو والله ليضربن زيد من غير نكير
وعدي العود بفي إيماء إلى أن الملة لهم بمنزلة الوعاء المحيط
بهم قالَ استئناف كنظائره أي قال شعيب عليه السلام ردا
لمقالتهم الباطلة وتكذيبا لهم في أيمانهم الفاجرة: أَوَلَوْ
كُنَّا كارِهِينَ على أن الهمزة لإنكار الوقوع ونفيه، والواو
للعطف على محذوف، وقد يقال: لها في مثل هذا الموضع واو الحال
أيضا ولَوْ هي التي يؤتى بها لبيان ما يفيده الكلام السابق
بالذات أو بالواسطة من الحكم الموجب أو المنفي على كل حال
مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها
منه وأشدها منافاة له ليظهر بثبوته أو انتفائه مع ثبوته أو
انتفاؤه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية، والكلام هاهنا
في تقدير أنعود فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا كارهين غير
مبالين بالإكراه، فالجملة في موضع الحال من ضمير الفعل المقدر
والمآل أنعود فيها حال عدم الكراهة وحال الكراهة إنكارا لما
تفيده كلمتهم الشنيعة بإطلاقها من العود على أي حالة غير أنه
اكتفى بذكر الحالة التي هي أشد الأحوال منافاة للعود وأكثرها
بعدا منه تنبيها على أنها هي الواقعة في نفس الأمر وثقة
باغنائها عن ذكر الأولى إغناء واضحا لأن العود الذي تعلق به
الإنكار حين تحقق مع الكراهة على ما يوجبه كلامهم فلأن يتحقق
مع عدمها أولى، وهذا بعض مما ذكره شيخ الإسلام في هذا المقام،
وقد أطنب فيه الكلام وأتى بالنقض والإبرام فارجع إليه، وقد جوز
أن يكون الاستفهام باقيا على حاله، وجعل بعضهم الهمزة بمعنى
كيف، ووجه التعجب إلى العود أي كيف نعود فيها ونحن كارهون لها
وتقدير فعل العود لقوة دلالة الكلام عليه أولى من تقدير فعل
الإعادة كما فعل الزمخشري، وفي التيسير تقدير فعل الإخراج أي
تخرجوننا من غير ذنب ونحن كارهون لمفارقة الأوطان، وقد وجه بأن
العود مفروغ عنه لا يتصور من عاقل فلا يكون إلا الإخراج، ولا
يخفى ضعف هذا التقدير.
وذكر أبو البقاء أن لَوْ هنا بمعنى إن لأنها للمستقبل، وجوز أن
تكون على أصلها وما أشار إليه شيخ الإسلام في هذا المقام أبعد
مغزى فليتأمل قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً عظيما لا
يقادر قدره.
إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ التي هي الشرك وزعمنا كما زعمتم
أن لله سبحانه ندا تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وعلمنا بطلانها وأن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما
قبله أي إن عدنا في ملتكم فقد افترينا، واستشكل ذلك بأن الظاهر
فيما إذا كان الجواب مثل ما ذكر أن يتعلق ظهوره والعلم به
بالشرط نحو إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ
[يوسف: 77] وإِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ
[التوبة: 40] وإن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس، والمقصود هنا
تقييد نفس الافتراء بالعود، ولفظ قد وصيغة الماضي يمنعانه،
والجواب ما أشار إليه الزمخشري من أنه من باب الإخراج لا على
مقتضى الظاهر وإيثار قد والماضي الدالين على التأكيد إما لأنه
جواب قسم مقدر أو لأنه تعجب على معنى ما أكذبنا إن عدنا إلخ.
ووجه التعجب أن المرتد أبلغ في الافتراء من الكافر لأن الكافر
مفتر على الله تعالى الكذب حيث يزعم أن لله سبحانه ندا ولا ند
له والمرتد مثله في ذلك وزائد عليه حيث يزعم أنه قد تبين له ما
خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل والحمل على التعجب على
ما في الكشف أولى لأن حذف اللام ضعيف، وجوز أبو حيان تبعا لابن
عطية أن يكون الفعل المذكور
(5/5)
قسما كما يقال: برئت من الله تعالى إن فعلت
كذا، وكقول مالك بن الأشتر النخعي:
أبقيت وفري وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس
إن لم أشن على ابن هند غارة ... لم تخل يوما من ذهاب نفوس
وهذا نوع من أنواع البديع وقد ذكره غير واحد من أصحاب
البديعيات، ومثله عز الدين الموصلي بقوله:
برئت من سلفي والشم من هممي ... إن لم أدن بتقى مبرورة القسم
والباغونية بقولها:
لا مكنتنى المعالي من سيادتها ... إن لم أكن لهم من جملة الخدم
وَما يَكُونُ لَنا أي ما يصح لنا وما يقع فيكون تامة، وقد يأتي
ذلك بمعنى ما ينبغي وما يليق.
أَنْ نَعُودَ فِيها في حال من الأحوال أو وقت من الأوقات
إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا أي إلا حال أو وقت مشيئة
الله لعودنا، والتعرض لعنوان الربوبية للتصريح بأنه المالك
الذي لا يسأل عما يفعل.
وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فهو سبحانه يعلم كل حكمة
ومصلحة ومشيئته على موجب الحكمة فكل ما يقع مشتمل عليها، وهذا
إشارة إلى عدم الأمن من مكر الله سبحانه فإنه لا يأمن مكر الله
إلا القوم الكافرون، وفيه من الانقطاع إلى الله تعالى ما لا
يخفى، ويؤكد ذلك قوله تعالى: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا فإن
التوكل عليه سبحانه إظهار العجز والاعتماد عليه جل شأنه،
وإظهار الاسم الجليل للمبالغة، وتقديم المعمول لإفادة الحصر.
وفي الآية دلالة على أن لله تعالى أن يشاء الكفر.
وادعى شيخ الإسلام أن المراد استحالة وقوع ذلك كأنه قيل: وما
كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله تعالى العود وهيهات
ذلك، ولا يكاد يكون كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية،
وقولهم: بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ فإن تنجيته تعالى إياهم
منها من دلائل عدم مشيئته سبحانه لعودهم فيها، وفرع على قوله
تعالى: وَسِعَ إلخ بعد أن فسره بما فسره محالية مشيئته العود
لكن لطفا وهو وجه في الآية، ولعل ما ذهبت إليه فيها أولى، ولا
يرد على تقدير العود مفعولا للمشيئة أنه ليس لذكر سعة العلم
بعد حينئذ كبير معنى، بل كان المناسب ذكر شمول الإرادة وأن
الحوادث كلها بمشيئة الله تعالى لما لا يخفى، ولا يحتاج إلى
القول بأن ذلك منه عليه السلام رد لدعوى الحصر باحتمال قسم
ثالث، والزمخشري بنى تفسيره على عقيدته الفاسدة من وجوب رعاية
الصلاح والأصلح وأن الله تعالى لا يمكن أن يشاء الكفر بوجه
لخروجه عن الحكمة، واستدل بقوله سبحانه: وَسِعَ إلخ، ورده ابن
المنير بأن موقع ما ذكر الاعتراف بالقصور عن علم العاقبة
والاطلاع على الأمور الغائبة. ونظير ذلك قول إبراهيم عليه
السلام: وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ
رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [الأنعام:
80] فإنه عليه السلام لما رد الأمر إلى المشيئة وهي مغيبة مجد
الله تعالى بالانفراد بعلم الغائبات انتهى، وإلى كون المراد من
الاستثناء التأبيد ذهب جعفر بن الحارث والزجاج أيضا وجعلوا ذلك
كقول الشاعر:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي ... وصار القار كاللبن الحليب
وأنت خبير بأن ذلك مخالف للنصوص النقلية والعقلية وللعبارة
والإشارة، وقال الجبائي، والقاضي: المراد بالملة الشريعة وفيها
ما لا يرجع إلى الاعتقاد، ويجوز أن يتعبد الله تعالى عباده به
ومفعول المشيئة العود إلى ذلك أي ليس لنا أن نعود إلى ملتكم
إلا أن يشاء الله بأن يتعبدنا بها وينقلنا وينسخ ما نحن فيه من
الشريعة، وقيل: المراد إلا أن
(5/6)
يشاء الله تعالى أن يمكنكم من إكراهنا
ويخلي بينكم وبينه فنعود إلى اظهار ملتكم مكرهين، وقوي بسبق
أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ.
وقيل: إن الهاء في قوله سبحانه فِيها يعود إلى القرية لا الملة
فيكون المعنى أنا سنخرج من قريتكم ولا نعود فيها إلا أن يشاء
الله بما ينجزه لنا من الوعد في الإظهار عليكم والظفر بكم
فنعود فيها وقيل: إن التقدير إلا أن يشاء الله أن يردكم إلى
الحق فنكون جميعا على ملة واحدة، ولا يخفى أن كل ذلك مما يضحك
الثكلى، وبالجملة الآية ظاهرة فيما ذهب إليه أهل السنة وسبحان
من سد باب الرشد عن المعتزلة.
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ إعراض
عن مفاوضتهم إثر ما ظهر من عتوهم وعنادهم وإقبال على الله
تعالى بالدعاء والفتح بمعنى الحكم والقضاء لغة لحمير أو لمراد.
والفتاح عندهم القاضي والفتاحة بالضم الحكومة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال: الفتح القضاء لغة
يمانية. وأخرج البيهقي وجماعة عن ابن عباس قال:
ما كنت أدري ما قوله رَبَّنَا افْتَحْ حتى سمعت ابنة ذي يزن
وقد جرى بيني وبينها كلام فقالت أفاتحك تريد أقاضيك وبَيْنَنا
منصوب على الظرفية والتقييد بالحق لإظهار النصفة، وجوز أن يكون
مجازا عن البيان والإظهار وإليه ذهب الزجاج، ومنه فتح المشكل
لبيانه وحله تشبيها له بفتح الباب وإزالة الاغلاق حتى يوصل إلى
ما خلفها وبيننا على ما قيل مفعول به بتقدير ما بيننا وَأَنْتَ
خَيْرُ الْفاتِحِينَ أي الحاكمين لخلو حكمك عن الجور والحيف أو
المظهرين لمزيد علمك وسعة قدرتك والجملة تذييل مقرر لمضمون ما
قبله.
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ عطف على
قالَ الْمَلَأُ إلخ والمراد من هؤلاء الملأ يحتمل أن يكون
أولئك المستكبرين وتغيير الصلة لما أن مناط قولهم السابق هو
الاستكبار ويكون هذا حكاية لإضلالهم بعد حكاية ضلالهم على ما
قيل، ويحتمل أن يكون غيرهم ودونهم في الرتبة شأنهم الوساطة
بينهم وبين العامة والقيام بأمورهم حسبما يراه المستكبرون، أي
قالوا لأهل ملتهم تنفيرا لهم وتثبيطا عن الإيمان بعد أن شاهدوا
صلابة شعيب عليه السلام ومن معه من المؤمنين فيه وخافوا أن
يفارقوهم لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً ودخلتم في ملته
وفارقتم ملة آبائكم إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أي مغبونون
لاستبدالكم الضلالة بالهدى ولفوات ما يحصل لكم بالبخس والتطفيف
فالخسران على الأول استعارة وعلى الثاني حقيقة وإلى تفسير
الخاسرين بالمغبونين ذهب ابن عباس، وعن عطاء تفسيره بالجاهلين،
وعن الضحاك تفسيره بالفجرة، وإذا حرف جواب وجزاء معترض كما قال
غير واحد بين اسم إن وخبرها. وقيل: هي إذا الظرفية الاستقبالية
وحذفت الجملة المضاف إليها وعوض عنها التنوين، ورده أبو حيان
بأنه لم يقله أحد من النحاة، والجملة جواب للقسم الذي وطأته
اللام بدليل عدم الاقتران بالفاء وسادة مسد جواب الشرط وليست
جوابا لهما معا كما يوهمه كلام بعضهم لأنه كما قيل مع مخالفته
للقواعد النحوية يلزم فيه أن يكون جملة واحدة لها محل من
الاعراب ولا محل لها وان جاز باعتبارين فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ أي الزلزلة كما قال الكلبي وفي سورة [هود: 94]
وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ أي صيحة جبريل عليه
السلام، ولعلها كانت من مبادئ الرجفة فأسند إهلاكهم إلى السبب
القريب تارة وإلى البعيد أخرى، وقال بعضهم: إن القصة غير واحدة
فإن شعيبا عليه السلام بعث إلى أمتين أهل مدين وأهل الأيكة
فأهلكت إحداهما بالرجفة والأخرى بالصيحة، وفيه أنه إنما يتم لو
لم يكن هلاك أهل مدين بالصيحة، والمروي عن قتادة أنهم الذين
أهلكوا بها وأن أهل الأيكة أهلكوا بالظلة.
وجاء في بعض الآثار أن أهل مدين أهلكوا بالظلة والرجفة،
فقد روي عن ابن عباس وغيره في هذه الآية أن الله تعالى فتح
عليهم بابا من جهنم فأرسل عليهم حرا شديدا فأخذ بأنفاسهم ولم
ينفعهم ظل ولا ماء فكانوا يدخلون
(5/7)
الأسراب فيجدونها أشد حرا من الظاهر فخرجوا
إلى البرية فبعث الله تعالى سحابة فيها ريح طيبة فأظلتهم
فوجدوا لها بردا فنادى بعضهم بعضا حتى اجتمعوا تحتها رجالهم
ونساؤهم وصبيانهم فألهبها عليهم نارا ورجفت بهم الأرض فاحترقوا
كما يحترق الجراد المقلي وصاروا رمادا. ويشكل على هلاكهم جميعا
نساء ورجالا ما نقل عن عبد الله البجلي قال: كان أبو جاد وهوز
وحطي وكلمن وسعفص وقرشت ملوك مدين وكان ملكهم في زمن شعيب عليه
السلام كلمن فلما هلك يوم الظلة رثته ابنته بقولها:
كلمن قد هد ركني ... هلكه وسط المحلة
سيد القوم أتاه الح ... تف نار تحت ظله
جعلت نار عليهم ... دارهم كالمضمحله
اللهم إلا أن يقال: إنها كانت مؤمنة فنجت، وقد يقال: إن هذا
الخبر مما ليس له سند يعوّل عليه.
فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ تقدم نظيره الَّذِينَ
كَذَّبُوا شُعَيْباً استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم:
لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ
قَرْيَتِنا والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ
يَغْنَوْا فِيهَا أي لم يقيموا في دارهم، وقال قتادة: المعنى
كأن لم يعيشوا فيها مستغنين، وذكر غير واحد أنه يقال: غني
بالمكان يغنى غنى وغنيانا إذا أقام به دهرا طويلا، وقيده بعضهم
بالإقامة في عيش رغد، وقال ابن الأنباري كغيره: إنه من الغنى
ضد الفقر كما في قول حاتم:
غنينا زمانا بالتصعلك والغنى ... فكلّا سقاناه بكأسهما الدهر
فما زادنا بغيا على ذي قرابة ... غنانا ولا أزرى بأحسابنا
الفقر
وعلى هذا تفسير قتادة، ورد الراغب غني بمعنى أقام إلى هذا
المعنى فقال: غني بالمكان طال مقامه فيه مستغنيا به عن غيره،
وقول بعضهم في بيان الآية: إنهم استؤصلوا بالمرة بيان لحاصل
المعنى، وفي بناء الخبر على الموصول إيماء إلى أن علة الحكم هي
الصلة فكأنه قيل: الذين كذبوا شعيبا هلكوا لتكذيبهم إياه هلاك
الأبد، ويشعر ذلك هنا بأن مصدقيه عليه السلام نجوا نجاة الأبد،
وهذا مراد من قال بالاختصاص في الآية، وقيل: إنه مبني على أن
مثل هذا التركيب كما يفيد التقوى قد يفيد الاختصاص نحو اللَّهُ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ [الرعد: 26] والقرينة عليه هنا أنه سبحانه
ذكر فيما سبق المؤمنين والكافرين ولم يذكر هنا إلا هلاك
المكذبين، ويرجع حاصل المعنى بالآخرة إلى أنهم عوقبوا بتوعدهم
السابق بالإخراج وصاروا هم المخرجين من القرية إخراجا لا دخول
بعده دون شعيب عليه السلام ومن معه، وقوله تعالى: الَّذِينَ
كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ استئناف آخر
لبيان ابتلائهم بعقوبة قولهم الأخير، واستفادة الحصر هنا أوضح
من استفادته فيما تقدم، أي الذين كذبوه عليه السلام عوقبوا
بقولهم لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً
لَخاسِرُونَ فصاروا هم الخاسرين للدنيا والدين لتكذيبهم لا
المتبعون له عليه السلام المصدقون إياه عليه السلام، وبهذا
القصر اكتفى عن التصريح بالانجاء كما وقع في سورة [هود: 94] من
قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ إلخ، وفي الكشاف أن في هذا
الاستئناف وتكرير الموصول والصلة مبالغة في رد مقالة الملأ
لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم بقومهم واستعظام لما
جرى عليهم. وأنت تعلم أن في استفادة ذلك كله من نفس هذه الآية
خفاء، والظاهر أن مجموع الاستئنافين مؤذن به. وبين الطيبي ذلك
بأنه تعالى لما رتب العقاب بأخذ الرجفة وتركهم هامدين لا حراك
بهم علي التكذيب والعناد اتجه لسائل أن يسأل إلى ماذا صار مآل
أمرهم بعد الجثوم؟
فقيل: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا
فِيهَا أي إنهم استؤصلوا وتلاشت جسومهم كأن لم يقيموا فيها. ثم
سأل
(5/8)
أخصص الدمار بهم أم تعدى إلى غيرهم؟ فقيل:
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ أي
اختص بهم الدمار فجعلت الصلة الأولى ذريعة إلى تحقيق الخبر
كقوله:
إن التي ضربت بيتا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول
وكذلك بولغ في الإخبار عن دمار القوم وجيء بتقوى الحكم
والتخصيص وجعلت الصلة الثانية علة لوجود الخبر، وجاء تسفيه
الرأي من الرد عليهم بعين ما تلفظوا به في نصح قومهم،
والاستهزاء من الإشارة إلى أن ما جعلوه نصيحة صار فضيحة وانعكس
الحال الذي زعموه ويستفاد عظم الخسران من تعريف الخبر بلام
الجنس. وأما استعظام ما جرى فمن قوله سبحانه: كَأَنْ لَمْ إلخ
وكذا من مجموع الكلام، ولا يخفى أن القول بالاستئناف من غير
عطف جار على عادة العرب في مثل هذا المقام فإن عادتهم
الاستئناف كذلك في الذم والتوبيخ فيقولون:
أخوك الذي نهب مالنا أخوك الذي هتك سترنا أخوك الذي ظلمنا،
وجوز أبو البقاء أن يكون الموصول الثاني بدلا من الضمير في
يَغْنَوْا وأن يكون في محل نصب بإضمار أعنى، وأن يكون الأول
مبتدأ والخبر الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا وكَأَنْ
لَمْ يَغْنَوْا حال من ضمير كَذَّبُوا وأن يكون الأول صفة
للذين كفروا أو بدلا منه وعلى الوجهين يكون كَأَنْ لَمْ إلخ
حالا، وما اخترناه هو الأولى كما هو ظاهر فليتدبر وقوله
سبحانه: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ
أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ تقدم الكلام
على نظيره، بيد أن هذا القول يحتمل أن يكون تأنيبا وتوبيخا لهم
وقوله سبحانه: فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ إنكار
لمضمونه، أي لقد أعذرت لكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما
حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تصدقوني فَكَيْفَ آسى أي لا آسى
عليكم لأنكم لستم أحقاء بالأسى وهو الحزن كما في الصحاح
والقاموس أو شدة الحزن كما في الكشاف ومجمع البيان، ويحتمل أن
يكون تأسفا بهم لشدة حزنه عليهم، وقوله سبحانه: فَكَيْفَ إلخ
إنكار على نفسه لذلك، وفيه تجريد والتفات على ما قيل حيث جرد
عليه السلام من نفسه شخصا وأنكر عليه حزنه على قوم لا يستحقونه
والتفت من الخطاب إلى التكلم، وذكر بعض المحققين أن الظاهر أنه
ليس من الالتفات والتجريد في شيء فإن قال يقتضي صيغة التكلم
وهي تنافي التجريد، وإنما هو نوع من البديع يسمى الرجوع وهو
العود على الكلام السابق بالنقض لأنه إذا كان قد أبلغتكم تأسفا
ينافي ما بعده فكأنه بدا له ورجع عن التأسف منكرا لفعله الأول،
وقد جاء ذلك كثيرا في كلامهم ومن ذلك قول زهير:
قف بالديار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيرها الأرواح والديم
والنكتة فيه الاشعار بالتوله والذهول من شدة الحيرة لعظم الأمر
بحيث لا يفرق بين ما هو كالمتناقض من الكلام وغيره، وابن حجة
لا يفرق بين هذا النوع ونوع السلب والإيجاب وكأن منشأ ذلك
اعتماده في النوع الأخير على تعريف أبي هلال العسكري له ولو
اعتمد على تعريف إمام الصناعة ابن أبي الإصبع لما اشتبه عليه
الفرق، وعلى الاحتمالين في قوله سبحانه: عَلى قَوْمٍ إلخ إقامة
الظاهر مقام الضمير للاشعار بعدم استحقاقهم التأسف عليهم
لكفرهم، وقرأ يحيى بن ثابت «فكيف إيسى» بكسر الهمزة وقلب الألف
ياء على لغة من يكسر حرف المضارعة كقوله:
قعيدك أن لا تسمعيني ملامة ... ولا تنكئي جرح الفؤاد فييجعا
وإمالة الألف الثانية، هذا ثم إن شعيبا عليه السلام بعد هلاك
من أرسل إليهم نزل مع المؤمنين به بمكة حتى ماتوا
(5/9)
هناك وقبورهم على ما روي عن وهب بن منبه في
غربي الكعبة بين دار الندوة وباب سهم. وأخرج ابن عساكر عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في المسجد الحرام قبران ليس
فيه غيرهما قبر إسماعيل وقبر شعيب عليهما السلام أما قبر
إسماعيل ففي الحجر وأما قبر شعيب فمقابل الحجر الأسود،
وروي عنه أيضا أنه عليه السلام كان يقرأ الكتب التي كان الله
تعالى أنزلها على إبراهيم عليه السلام،
ومن الغريب ما نقل الشهاب أن شعيبا اثنان وأن صهر موسى عليهما
الصلاة والسلام من قبيلة من العرب تسمى عنزة وعنزة بن أسد بن
ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وبينه وبين من تقدم دهر طويل
فتبصر والله تعالى أعلم.
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إشارة إجمالية إلى
بيان أحوال سائر الأمم المذكورة تفصيلا، وفيه تخويف لقريش
وتحذير، و «من» جيء بها لتأكيد النفي، وفي الكلام حذف صفة نبي
أي كذب أو كذبه أهلها إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها استثناء مفرغ
من أعم الأحوال وأَخَذْنا في موضع نصب على الحال من فاعل
أَرْسَلْنا وفي الرضى أن الماضي الواقع حالا إذا كان بعد إلا
فاكتفاؤه بالضمير من دون الواو، وقد كثر نحو ما لقيته إلا
وأكرمني لأن دخول إلا في الأغلب الأكثر على الاسم فهو بتأويل
إلا مكرما لي فصار كالمضارع المثبت وما في هذه الآية من هذا
القبيل، وقد يجيء مع الواو وقد نحو ما لقيته إلا وقد أكرمني،
ومع الواو وحدها نحو ما لقيته إلا وأكرمني لأن الواو مع إلا
تدخل في خبر المبتدأ فكيف بالحال ولم يسمع فيه قد من دون
الواو، وقال المرادي في شرح الألفية: إن الحال المصدرة بالماضي
المثبت إذا كان تاليا ل إلا يلزمها الضمير والخلو من الواو
ويمتنع دخول قد وقوله:
متى يأت هذا الموت لم تلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
نادر، وقد نص على ذلك الأشموني وغيره أيضا، والظاهر أن امتناع
قد بعد إلا فيما ذكر إذا كان الماضي حالا لا مطلقا، وإلا فقد
ذكر الشهاب أن الفعل الماضي لا يقع بعد إلا إلا بأحد شرطين إما
تقدم فعل كما هنا. وإما مع قد نحو ما زيد إلا قد قام، ولا يجوز
ما زيد إلا ضرب، ويعلم مما ذكرنا أن ما وقع في غالب نسخ تفسير
مولانا شيخ الإسلام من أن الفعل الماضي لا يقع بعد إلا إلا
بأحد شرطين إما تقدير قد كما في هذه الآية أو مقارنة قد كما في
قولك: ما زيد إلا قد قام ليس على ما ينبغي بل هو غلط ظاهر كما
لا يخفى، والمعنى فيما نحن فيه وما أرسلنا في قرية من القرى
المهلكة نبيا من الأنبياء عليهم السلام في حال من الأحوال إلا
حال كوننا آخذين أهلها بِالْبَأْساءِ أي بالبؤس والفقر
وَالضَّرَّاءِ بالضر والمرض، وبذلك فسرهما ابن مسعود وهو معنى
قول من قال: البأساء في المال والضراء في النفس وليس المراد أن
ابتداء الإرسال مقارن للأخذ المذكور بل إنه مستتبع له غير منفك
عنه لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ أي كي يتضرعوا ويخضعوا ويتوبوا
من ذنوبهم وينقادوا لأمر الله تعالى ثُمَّ بَدَّلْنا عطف على
أخذنا داخل في حكمه مَكانَ السَّيِّئَةِ التي أصابتهم لما تقدم
الْحَسَنَةَ وهي السعة والسلامة، ونصب مَكانَ كما قيل على
الظرفية بدل متضمن معنى أعطى الناصب لمفعولين وهما هنا الضمير
المحذوف والحسنة أي أعطيناهم الحسنة في مكان السيئة، ومعنى
كونها في مكانها أنها بدل منها. وقال بعض المحققين: الأظهر أن
مكان مفعول به لبدلنا لا ظرف، والمعنى بدلنا مكان الحال السيئة
الحال الحسنة فالحسنة هي المأخوذة الحاصلة في مكان السيئة
المتروكة والمتروك هو الذي تصحبه الباء في نحو بدلت زيدا بعمرو
حَتَّى عَفَوْا أي كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم، وبذلك فسره
ابن عباس وغيره من عفا النبات وعفا الشحم والوبر إذا كثرت،
ومنه
قوله صلّى الله عليه وسلّم «أحفوا الشوارب واعفوا اللحى»
وقول الحطيئة:
بمستأسد القريان عاف نباته ... تساقطني والرحل من صوت هدهد
(5/10)
وقوله
ولكنا نعض السيف منها ... بأسوق عافيات الشحم كوم
وتفسير أبي مسلم له بالاعراض عن الشكر ليس بيانا للمعنى اللغوي
كما لا يخفى، وحَتَّى هذه الداخلة على الماضي ابتدائية لا
غائية عند الجمهور، ولا محل للجملة بعدها كما نقل ذلك الجلال
السيوطي في شرح جمع الجوامع له عن بعض مشايخه، وأما زعم ابن
مالك أنها جارة غائية وأن مضمرة بعدها على تأويل المصدر فغلطه
فيه أبو حيان وتبعه ابن هشام فقال: لا أعرف له في ذلك سلفا،
وفيه تكلف إضمار من غير ضرورة، ولا يشكل عليه ولا على من يقول:
إن معنى الغاية لازم لحتى ولو كانت ابتدائية أن الماضي لمضيه
لا يصلح أن يكون غاية لما قبل لتأخر الغاية عن ذي الغاية لأن
الفعل وإن كان ماضيا لكنه بالنسبة إلى ما صار غاية له مستقبل
فافهم.
وَقالُوا غير واقفين على أن ما أصابهم من الأمرين ابتلاء منه
سبحانه قَدْ مَسَّ آباءَنَا كما مسنا.
الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ وما ذلك إلا من عادة الدهر يعاقب في
الناس بين الضراء والسراء ويداولهما بينهم من غير أن يكون هناك
داعية إليهما أو تبعة تترتب عليهما وليس هذا كقول القائل:
ثمانية عمت بأسبابها الورى ... فكل امرئ لا بد يلقى الثمانية
سرور وحزن واجتماع وفرقة ... وعسر ويسر ثم سقم وعافية
كما لا يخفى ولعل تأخير السراء للإشعار بأنها تعقب الضراء فلا
ضير فيها فَأَخَذْناهُمْ عطف على مجموع عفوا وقالوا أو على
قالوا لأنه المسبب عنه أي فأخذناهم إثر ذلك بَغْتَةً أي فجأة.
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بشيء من ذلك ولا يخطرون ببالهم شيئا من
المكاره، والجملة حال مؤكدة لمعنى لبغتة، وهذا أشد أنواع الأخذ
كما قيل: وأنكأ شيء يفجؤك البغت، وقيل: المراد بعدم الشعور عدم
تصديقهم بأخبار الرسل عليهم السلام بذلك لا خلو أذهانهم عنه
ولا عن وقته لقوله تعالى: ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ
مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ [الأنعام:
131] ولا يخفى ما فيه من الغفلة عن معنى الغفلة وعن محل
الجملة.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى أي القرى المهلكة المدلول عليها
بقوله سبحانه: فِي قَرْيَةٍ فاللام للعهد الذكري والقرية وإن
كانت مفردة لكنها في سياق النفي فتساوي الجمع، وجوز أن تكون
اللام للعهد الخارجي إشارة إلى مكة وما حولها. وتعقب ذلك بأنه
غير ظاهر من السياق، ووجه بأنه تعالى لما أخبر عن القرى
الهالكة بتكذيب الرسل وأنهم لو آمنوا سلموا وغنموا انتقل إلى
إنذار أهل مكة وما حولها مما وقع بالأمم والقرى السابقة.
وجوز في الكشاف أن تكون للجنس، والظاهر أن المراد حينئذ ما
يتناول القرى المرسل إلى أهلها من المذكورة وغيرها لا ما لا
يتناول قرى أرسل إليها نبي وأخذ أهلها بما أخذ وغيرها كما قيل
لإباء ظاهر ما في حيز الاستدراك الآتي عنه آمَنُوا أي بما أنزل
على أنبيائهم وَاتَّقَوْا أي ما حرم الله تعالى عليهم كما قال
قتادة ويدخل في ذلك ما أرادوه من كلمتهم السابقة.
لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي
ليسرنا عليهم الخير من كل جانب، وقيل: المراد بالبركات
السماوية المطر وبالبركات الأرضية النبات. وأيا ما كان ففي
فتحنا استعارة تبعية. ووجه الشبه بين المستعار منه والمستعار
له الذي أشرنا إليه سهولة التناول، ويجوز أن يكون هناك مجاز
مرسل والعلاقة اللزوم ويمكن أن يتكلف
(5/11)
لتحصيل الاستعارة التمثيلية، وفي الآية على
ما قيل إشكال وهو أنه يفهم بحسب الظاهر منها أنه لم يفتح عليهم
بركات من السماء والأرض، وفي [الأنعام: 44] فَلَمَّا نَسُوا ما
ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ وهو
يدل على أنه فتح عليهم بركات من السماء والأرض وهو معنى قوله
سبحانه: أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ لأن المراد منها الخصب والرخاء
والصحة والعافية لمقابلة أخذناهم بالبأساء والضراء، وحمل فتح
البركات على ادامته أو زيادته عدول عن الظاهر وغير ملائم
لتفسيرهم الفتح بتيسير الخير ولا المطر والنبات. وأجاب عنه
الخيالي بأنه ينبغي أن يراد بالبركات غير الحسنة أو يراد آمنوا
من أول الأمر فنجوا من البأساء والضراء كما هو الظاهر، والمراد
في سورة الأنعام بالفتح ما أريد بالحسنة هاهنا فلا يتوهم
الاشكال انتهى. وأنت خبير بأن إرادة آمنوا من أول الأمر إلى
آخره غير ظاهرة بل الظاهر أنهم لو أنهم آمنوا بعد أن ابتلوا
ليسرنا عليهم ما يسرنا مكان ما أصابهم من فنون العقوبات التي
بعضها من السماء كإمطار الحجارة وبعضها من الأرض كالرجفة وبهذا
ينحل الاشكال لأن آية الأنعام لا تدل على أنه فتح لهم هذا
الفتح كما هو ظاهر لتاليها، وما ذكر من أن المراد بالفتح هناك
ما أريد بالحسنة هاهنا إن كان المراد به أن الفتح هناك واقع.
وقع إعطاء الحسنة بدل السيئة هنا حيث كان ذكر كل منهما بعد ذكر
الأخذ بالبأساء والضراء وبعده الأخذ بغتة فربما يكون له وجه
لكنه وحده لا يجدي نفعا، وإن كان المراد به أن مدلول ذلك العام
المراد به التكثير هو مدلول الحسنة فلا يخفى ما فيه فتدبر،
وقيل: المراد بالبركات السماوية والأرضية الأشياء التي تحمد
عواقبها ويسعد في الدارين صاحبها وقد جاءت البركة بمعنى
السعادة في كلامهم فلتحمل هنا على الكامل من ذلك الجنس ولا
يفتح ذلك إلا للمؤمن بخلاف نحو المطر والنبات والصحة والعافية
فإنه يفتح له وللكافر أيضا استدراجا ومكرا، ويتعين هذا الحمل
على ما قيل إذا أريد من القرى ما يتناول قرى أرسل إليها نبي
وأخذ أهلها بما أخذ وغيرها، وقيل: البركات السماوية إجابة
الدعاء والأرضية قضاء الحوائج فليفهم.
وقرأ ابن عامر «لفتّحنا» بالتشديد وَلكِنْ كَذَّبُوا أي ولكن
لم يؤمنوا ولم يتقوا، وقد اكتفى بذكر الأول لاستلزامه الثاني
للإشارة إلى أنه أعظم الأمرين فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ من أنواع الكفر والمعاصي التي من جملتها قولهم
السابق، والظاهر أن هذا الأخذ والمتقدم في قوله سبحانه:
فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ واحد وليس
عبارة عن الجدب والقحط كما قيل: لأنهما قد زالا بتبديل الحسنة
مكان السيئة، وحمل أحد الأخذين على الأخذ الأخروي والآخر على
الدنيوي بعيد، ومن ذهب إلى حمل أل على الجنس على الوجه الأخير
فيه يلزمه أن يحمل كذبوا فأخذناهم على وقوع التكذيب والأخذ
فيما بينهم ولا يخفى بعده أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى الهمزة
لانكار الواقع واستقباحه، وقيل: لانكار الوقوع ونفيه، وتعقب
بأن فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلخ يأباه، والفاء للتعقيب
مع السبب، والمراد بأهل القرى قيل: أهل القرى المذكورة على وضع
المظهر موضع المضمر للايذان بأن مدار التوبيخ أمن كل طائفة ما
أتاهم من البأس لا أمن مجموع الأمم، وقيل: المراد بهم أهل مكة
وما حواليها ممن بعث إليه نبينا صلّى الله عليه وسلّم وهو
الأولى عندي وإلى ذلك ذهب محيي السنة، والعطف على القولين على
فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً لا على محذوف ويقدر بما يناسب المقام
كما وقع نحو ذلك في القرآن كثيرا، وأمر صدارة الاستفهام سهل،
وقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا إلخ اعتراض
توسط بينهما للمسارعة إلى بيان أن الأخذ المذكور مما كسبته
أيديهم نظرا للأول ولأنه يؤيد ما ذكر من أن الأخذ بغتة ترتب
على الإيمان والتقوى، ولو عكس لانعكس الأمر نظرا للثاني، ولو
جعلت اللام فيما تقدم للجنس أكد كذا هذا الاعتراض المعطوف
والمعطوف عليها وشملهما شمولا سواء على ما في الكشف ولم يجعل
العطف على فأخذناهم الأقرب لأنه لم يسق لبيان القرى وقصة
هلاكها قصدا كالذي قبله فكان العطف عليه
(5/12)
دونه أنسب وهذا إذا أريد بالقرى القرى
المدلول عليها بما سبق، وأما إذا أريد بها مكة وما حولها فوجه
ذلك أظهر لأن منشأ الإنكار ما أصاب الأمم السالفة لا ما أصاب
أهل مكة ومن حولها من القحط وضيق الحال، وربما يقال: إذا كان
المراد بأهل القرى في الموضعين أهل مكة وما حولها يكون العطف
على الأقرب أنسب، والمعنى أبعد ذلك الأخذ لمن استكبر وتعزز
وخالف الرسل عليهم السلام وشيوعه والعلم به يأمن أهل القرى
المشاركون لهم في ذلك أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا أي عذابنا
بَياتاً أي وقت بيات وهو مراد من قال ليلا، وهو مصدر بات ونصبه
على الظرفية بتقدير مضاف، ويجوز أن يكون حالا من المفعول أي
بائتين، وجوز أن يكون مصدر بيت ونصبه على أنه مفعول مطلق
ليأتيهم من غير لفظه أي تبييتا أو حال من الفاعل بمعنى مبيتا
بالكسر أو من المفعول بمعنى مبيتين بالفتح، واختار غير واحد
الظرفية ليناسب ما سيأتي وَهُمْ نائِمُونَ حال من ضميرهم
البارز أو المستتر في بياتا لتأويله بالصفة كما سمعت وهو حال
متداخلة حينئذ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى انكار بعد إنكار
للمبالغة في التوبيخ والتشديد، ولم يقصد الترتيب بينهما فلذا
لم يؤت بالفاء.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر. أَوَبسكون الواو وهي لأحد
الشيئين والمراد الترديد بين أن يأتيهم العذاب بياتا وما دل
عليه قوله سبحانه: أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى أي ضحوة
النهار وهو في الأصل ارتفاع الشمس أو شروقها وقت ارتفاعها ثم
استعمل للوقت الواقع فيه ذلك وهو أحد ساعات النهار عندهم وهي
الذرور والبزوغ والضحى والغزالة والهاجرة والزوال والدلوك
والعصر والأصيل والصنوت والحدور والغروب وبعضهم يسميها البكور
والشروق والإشراق والراد والضحى والمنوع والهاجرة والأصيل
والعصر والطفل والحدور والغروب، ويكون كما قال الشهاب متصرفا
إن لم يرد به وقت من يوم بعينه وغير متصرف إن أريد به ضحوة يوم
معين فيلزم النصب على الظرفية وهو مقصور فإن فتح مد، وقد عدوا
لفظ الضحى مما يذكر ويؤنث.
وَهُمْ يَلْعَبُونَ أي يلهون من فرط الغفلة وهو مجاز مرسل في
ذلك، ويحتمل أن يكون هناك استعارة أي يشتغلون بما لا نفع فيه
كأنهم يلعبون أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ تكرير لمجموع
الانكارين السابقين جمعا بين التفريق قصدا إلى زيادة التحذير
والإنذار، وذكر جمع من جلة المحققين أنه لو جعل تكرير له ولما
سلف من غرة أهل القرى السابقة أيضا على معنى أن الكل نتيجة
الأمن من مكر الله تعالى لجاز إلا أنه لما جعل تهديدا
للموجودين كان الأنسب التخصيص، وفيه تأمل. والمكر في الأصل
الخداع ويطلق على الستر يقال: مكر الليل أي ستر بظلمته ما هو
فيه، وإذا نسب إليه سبحانه فالمراد به استدراجه العبد العاصي
حتى يهلكه في غفلته تشبيها لذلك بالخداع، وتجوز هذه النسبة
إليه سبحانه من غير مشاكلة خلافا لبعضهم، وهو هنا إتيان البأس
في الوقتين والحالين المذكورين، وهل كان تبديل مكان السيئة
الحسنة المذكور قبل مكرا واستدراجا أو ملاطفة ومراوحة؟ فيه
خلاف والكل محتمل فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا
الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ أي الذين خسروا أنفسهم فأضاعوا فطرة
الله التي فطر الناس عليها والاستعداد القريب المستفاد من
النظر في الآيات والفاء هنا متعلق كما قال القطب الرازي وغيره
بمقدر كأنه قيل فلما آمنوا خسروا فلا يأمن إلخ.
وقال أبو البقاء إنها للتنبيه على تعقيب العذاب أمن مكر الله
تعالى، وقد يقال: إنها لتعليل ما يفهمه الكلام من ذم الأمن
واستقباحه أو يقال إنها فصيحة، ويقدر ما يستفاد من الكلام شرطا
أي إذا كان الأمن في غاية القبح فلا يرتكبه إلا من خسر نفسه،
واستدلت الحنفية بالآية على أن الأمن من مكر الله تعالى وهو
كما في جميع الجوامع الاسترسال في المعاصي اتكالا على عفو الله
تعالى كفر، ومثله اليأس من رحمة الله تعالى لقوله تعالى:
إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ
الْكافِرُونَ [يوسف: 87] وذهبت الشافعية إلى أنهما من الكبائر
لتصريح ابن مسعود رضي الله تعالى عنه
(5/13)
بذلك (1)
وروى ابن أبي حاتم. والبزار عن ابن عباس أنه صلّى الله عليه
وسلّم سئل ما الكبائر؟ فقال: الشرك بالله تعالى واليأس من روح
الله والأمن من مكر الله وهذا أكبر الكبائر
قالوا: وما ورد من أن ذلك كفر محمول على التغليظ وآية لا ييأس
إلخ كقوله تعالى الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ
[النور: 3] ولا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ
[المجادلة: 22] في قوله. وقال بعض المحققين: إن كان في الأمن
اعتقاد أن الله تعالى لا يقدر على الانتقام منه وكذا إذا كان
في اليأس اعتقاد عدم القدرة على الرحمة والإحسان أو نحو ذلك
فذلك مما لا ريب في أنه كفر وإن خلا عن نحو هذا الاعتقاد ولم
يكن فيه تهاون وعدم مبالاة بالله تعالى فذلك كبيرة وهو
كالمحاكمة بين القولين أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ
الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أي يخلفون من خلا قبلهم من
الأمم، والمراد بهم كما روي عن السدي المشركون وفسروا بأهل مكة
ومن حولها، وعليه لا يبعد أن يكون في الآية إقامة الظاهر مقام
الضمير إذا كان المراد بأهل القرى سابقا أهل مكة وما حولها،
وتعدية فعل الهداية باللام لأنها كما روي عن ابن عباس. ومجاهد
بمعنى التبيين وهو على ما قيل: إما بطريق المجاز أو التضمين أو
لتنزيله منزلة اللازم كأنه قيل: أغفلوا ولم يفعل الهداية لهم
أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أي بجزاء ذنوبهم
كما أصبنا من قبلهم، وإذا ضمن أصبنا معنى أهلكنا لا يحتاج إلى
تقدير مضاف. وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر وخبره
الجملة الشرطية والمصدر المؤول فاعل يَهْدِ ومفعوله على احتمال
التضمين محذوف أي أو لم يتبين لهم مآل أمرهم أو نحو ذلك. وجوز
أن يكون الفاعل ضمير الله تعالى وأن يكون ضميرا عائدا على ما
يفهم مما قبل، أي أو لم يهد لهم ما جرى على الأمم السابقة.
وقرأ عبد الرحمن السلمي وقتادة، وروي عن مجاهد. ويعقوب «نهد»
بالنون فالمصدر حينئذ مفعول، ومن الناس من خص اعتبار التضمين
أو المجاز بهذه القراءة واعتبار التنزيل منزلة اللازم بقراءة
الياء، وفيه بحث، وقوله تعالى: وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ
جملة معترضة تذييلية أي ونحن من شأننا وسنتنا أن نطبع على قلب
من لم نرد منه الايمان حتى لا يتعظ بأحوال من قبله ولا يلتفت
إلى الأدلة، ومن أراد من أهل القرى فيما تقدم أهل مكة جعله
تأكيدا لما نعى عليهم من الغرة والأمن والخسران أي ونحن نطبع
على قلوبهم فلذلك اقتفوا آثار من قبلهم ولم يعتبروا بالآيات
وأمنوا من البيات لمستخلفيهم حذو النعل بالنعل. وجوز عطفه على
مقدر دل عليه قوله تعالى أَوَلَمْ يَهْدِ وعطفه عليه أيضا وهو
وإن كان إنشاء إلا أن المقصود منه الإخبار بغفلتهم وعدم
اهتدائهم أي لا يهتدون أو يغفلون عن الهداية أو عن التأمل
والتفكر ونطبع إلخ.
وجوز أن يكون عطفا على يرثون، واعترض بأنه صلة والمعطوف على
الصلة صلة ففيه الفصل بين أبعاض الصلة بأجنبي وهو أَنْ لَوْ
نَشاءُ سواء كانت فاعلا أو مفعولا، ونقل أبو حيان عن الأنباري
أنه قال: يجوز أن يكون معطوفا على أَصَبْناهُمْ إذ كان بمعنى
نصيب فوضع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال كما
في قوله تعالى:
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ
[الفرقان: 10] أي إن يشأ، يدل عليه وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً
[الفرقان: 10] فجعل لو شرطية بمعنى إن ولم يجعلها التي هي لما
كان سيقع لوقوع غيره وجعل أصبنا بمعنى نصيب، وقد يرتكب التأويل
في جانب المعطوف فيؤول «نطبع» بطبعنا، ورد الزمخشري هذا العطف
بأنه لا يساعد عليه المعنى لأن القوم كانوا مطبوعا على قلوبهم
موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها وذلك
يؤدي إلى خلوهم عن هذه الصفة وأن الله تعالى لو شاء لا تصفوا
بها، وتعقبه ابن المنير بأنه لا يلزم أن يكون المخاطبون
موصوفين بالطبع ولا بد وهم وإن كانوا كفارا ومقترفين للذنوب
فليس الطبع من لوازم الاقتراف البتة إذ هو التمادي على الكفر
__________
(1) قيل الأشبه أن يكون الخبر مرفوعا اهـ منه
(5/14)
والإصرار والغلو في التصميم حتى يكون
الموصوف به مأيوسا من قبوله للحق ولا يلزم أن يكون كل كافر
بهذه المثابة بلى إن الكافر يهدد لتماديه على الكفر بأن يطبع
الله تعالى على قلبه فلا يؤمن أبدا وهو مقتضى العطف على
أَصَبْناهُمْ فتكون الآية قد هددتهم بأمرين الإصابة بذنوبهم
والطبع على قلوبهم والثاني أشد من الأول وهو أيضا نوع من
الإصابة بالذنوب والعقوبة عليها ولكنه أنكى أنواع العذاب وأبلغ
صنوف العقاب، وكثيرا ما يعاقب الله تعالى على الذنوب بالإيقاع
في ذنب أكبر منه، وعلى الكفر بزيادة التصميم عليه والغلو فيه
كما قال سبحانه: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ
[التوبة: 125] كما زادت المؤمنين إيمانا إلى إيمانهم وهذا
النوع من الثواب والعقاب مناسب لما كان سببا فيه وجزاء عليه
فثواب الإيمان إيمان وثواب الكفر كفر، وإنما الزمخشري يحاذر من
هذا الوجه دخول الطبع في مشيئة الله تعالى وذلك عنده محال لأنه
بزعمه قبيح والله سبحانه عنه متعال، وفي التقريب نحو ذلك فإنه
نظر فيما ذكره الزمخشري بأن المذكور كونهم مذنبين دون الطبع
وأيضا جاز أن يراد لو شئنا زدنا في طبعهم أو لأمناه، والحق كما
قال غير واحد من المحققين أن منعه من هذا العطف ليس بناء على
أنه لا يوافق رأيه فقط بل لأن النظم لا يقتضيه فإن قوله
سبحانه: فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي سماع تفهم واعتبار يدل على
أنهم مطبوع على قلوبهم لأن المراد استمرار هذه الحال لا أنه
داخل في حكم المشيئة لأن عدم السماع كان حاصلا ولو كان كذلك
لوجب أن يكون منفيا، وأيضا التحقيق لا يناسب الغرض، وكَذلِكَ
يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ ظاهر الدلالة على
أن الوارثين والموروثين كل من أهل الطبع وكذا قوله سبحانه:
فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا يدل على أن حالهم منافية للإيمان
وأنه لا يجيء منه البتة وأيضا إدامة الطبع أو زيادته لا يصلح
عقوبة للكافرين بل قد يكون عقوبة ذنب المؤمن كما ورد في الصحيح
وما يورد من الدغدغة على هذا مما لا يلتفت إليه تِلْكَ الْقُرى
نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها جملة مستأنفة جارية مجرى
الفذلكة مما قبلها منبئة عن غاية غواية الأمم المذكورة وتلك
إشارة إلى قرى الأمم المحكية من قوم نوح وعاد وثمود وأضرابهم،
واللام للعهد وجوز أن تكون للجنس، وهو مبتدأ والقرى صفته
والجملة بعده خبر.
وجوز الزمخشري أن تكون تلك مبتدأ، والقرى خبر، والجملة خبر بعد
خبر على رأي من يرى جواز كون الخبر الثاني جملة، وأن تكون
الجملة حالا، وإفادة الكلام بالتقييد بها، واعترضه في التقريب
بأنه جعل شرط الإفادة التقييد بالحال وعلى تقدير كون ذلك خبرا
بعد خبر ينتفي الشرط إلا أن يريد تلك القرى المعلومة حالها أو
صفتها على أن اللام للعهد لكنه يوجب الاستغناء عن اشتراط
إفادته بالحال انتهى، وفيه أن حديث الاستغناء ممنوع فإن المعنى
كما في الكشف على التقديرين مختلف لأنه إذا جعل حالا يكون
المقصود تقييده بالحال كما ذكره الزجاج في نحو هذا زيد قائما
إذا جعل قيدا للخبر إن الكلام إنما يكون مع من يعلم أنه زيد
وإلا جاء الاحالة لأنه يكون زيد قائما كان أو لا، وإذا جعل
خبرا بعد خبر فتلك القرى على أسلوب ذلك الكتاب على أحد الوجوه
ونَقُصُّ خبر ثان تفخيما على تفخيم حيث نبه على أن لها قصصا
وأحوالا أخرى مطوية.
وقال الطيبي: إن الحال لما كانت فضلة كان الاشكال قائما في عدم
إفادة الخبر فأجيب بأنها ليست فضلة من كل وجه وأما الخبر فلا
عجب من كونه كالجزء من الأول كما في قولك هذا حلو حامض، وهو
بمنزلته، وفيه أن عد ما نحن فيه من ذلك القبيل حامض ومستغنى
عنه بالحلو، ومثله، بل أدهى وأمر. الجواب بأنه لما اشترك
الحلوان في ذات المبتدأ كفى إفادة أحدهما وصيغة المضارع
للإيذان بعدم انقضاء القصة بعد ومِنْ للتبعيض أي بعض أخبارها
التي فيها عظة وتذكير، وتصدير الكلام بذكر القرى وإضافة
الأنباء أي الأخبار العظيمة الشأن إليها مع أن المقصود أنباء
أهلها وبيان أحوالهم حسبما يؤذن به قوله سبحانه: وَلَقَدْ
جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ لما ذكره شيخ الإسلام من
أن
(5/15)
حكاية هلاكهم بالمرة على وجه الاستئصال
بحيث يشمل أماكنهم أيضا بالخسف والرجفة وبقائها خاوية معطلة
أهول وأفظع، والباء في قوله تعالى: بِالْبَيِّناتِ متعلقة إما
بالفعل المذكور على أنها للتعدية، وإما بمحذوف وقع حالا من
فاعله أي متلبسين بالبينات على معنى أن رسول كل أمة من الأمم
المهلكة الخاص بهم جاءهم بالمعجزات البينة الجمة لا أن كل رسول
جاء بينة واحدة، وما ذكروه من أن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي
انقسام الآحاد على الآحاد لا يقتضي كما قال المولى المدقق أبو
القاسم السمرقندي في تعليقاته على المطول أن يلزم في كل مقابلة
مقارنة الواحد للواحد لأن انقسام الآحاد على الآحاد كما يجوز
أن يكون على السواء يجوز أن يكون على التفاوت، مثلا إذا قيل:
باع القوم دوابهم يفهم أن كلّا منهم باع ما له من دابة، ويجوز
أن تتعدد دابة البعض، ولهذا قيل في قوله سبحانه: فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ [المائدة: 6] إن غسل يدي كل شخص
ثابت بالكتاب والمقام هنا يقتضي ما ذكرناه فإن الجملة مستأنفة
مبينة لكمال عتوهم وعنادهم، وقوله عز شأنه: فَما كانُوا
لِيُؤْمِنُوا بيان لاستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضي لا
لعدم استمرار إيمانهم، ونظير ذلك فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا
هُمْ يَحْزَنُونَ [المائدة: 69] ، وترتيب حالهم هذه على مجيء
الرسل بالبينات بالفاء لما أن الاستمرار على فعل بعد ورود ما
يوجب الإقلاع عنه يعد بحسب العنوان فعلا جديدا وصنعا حادثا كما
في وعظته فلم ينزجر ودعوته فلم يجب، واللام لتأكيد النفي أي
فما صح وما استقام لقوم من أولئك الأقوام في وقت من الأوقات
ليؤمنوا بل كان ذلك ممتنعا منهم إلى أن لقوا ما لقوا لغاية
عتوهم وشدة شكيمتهم في الكفر والطغيان ثم إن كان المحكيّ آخر
حال كل قوم منهم فالمراد بعدم إيمانهم هو إصرارهم على ذلك بعد
اللتيا والتي وبما أشير إليه بقوله تعالى: بِما كَذَّبُوا مِنْ
قَبْلُ تكذيبهم من لدن مجيء الرسل عليهم السلام إلى وقت
الإصرار والعناد، وهذا معنى كلام الزجاج فما كانوا ليؤمنوا بعد
رؤية تلك المعجزات بما كذبوا قبل رؤيتها، يعني أول ما جاؤوهم
فاجاؤهم بالتكذيب فأتوا بالمعجزات فأصروا على التكذيب وإلى هذا
ذهب الحسن أيضا، وإنما لم يجعل ذلك مقصودا بالذات كالأول بل
جعل صلة للموصول المحذوف عائده أي الذي كذبوه إيذانا بأنه بين
في نفسه، وإنما المحتاج إلى البيان عدم إيمانهم بعد تواتر
البينات الباهرة وتظاهر المعجزات الظاهرة التي كانت تضطرهم إلى
القبول لو كانوا من ذوي العقول، والموصول الذي تعلق به الإيمان
والتكذيب إيجابا وسلبا عبارة عن جميع الشرائع التي جاء بها كل
رسول أصولها وفروعها وإن كان المحكي أحوال كل قوم منهم فالمراد
على ما قيل بما ذكر أولا كفرهم المستمر من حين مجيء الرسل
عليهم السلام إلى آخر أمرهم وبما أشير إليه آخرا تكذيبهم قبل
مجيئهم فلا بد من جعل الموصول عبارة عن أصول الشرائع التي لا
تقبل التبدل والتغير واجتمعت الرسل قاطبة عليها ودعوا الأمم
إليها كلمة التوحيد ولوازمها ومعنى تكذيبهم بها قبل مجيء الرسل
أنهم كانوا يسمعونها من بقايا من قبلهم فيكذبونها لا أن العقل
يرشد إليها ويحكم بها ويخالفونه ثم كانت حالهم بعد مجيء الرسل
إليهم كحالهم قبل كأن لم يبعث إليهم أحد وتخصيص التكذيب وعدم
الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدلالة النص فانهم
حين لم يؤمنوا بما اجتمعت عليه كافة الرسل فلأن لا يؤمنوا بما
تفرد به بعضهم أولى، وعدم جعل هذا التكذيب مقصودا بالذات لما
أنه ليس مدار العذاب بل مداره التكذيب بعد البعثة كما يفصح عنه
قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ
رَسُولًا [الإسراء: 15] وإنما ذكر ما وقع قبلها بيانا لعراقتهم
في الكفر والتكذيب، وقيل: المراد بما أشير إليه آخرا تكذيبهم
الذي أسروه يوم الميثاق، وروي ذلك عن أبي بن كعب والربيع
والسدي ومقاتل واختاره الطبري.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما عن مجاهد أن الآية على
حد قوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ
[الأنعام: 28] فالمعنى ما كانوا لو أهلكناهم ثم أحييناهم
ليؤمنوا بما كذبوا قبل إهلاكهم، وعلى هذا فالمراد
(5/16)
بالموصول جميع الشرائع أصولها وفروعها وفيه
من المبالغة في إصرارهم وعتوهم ما لا يخفى إلا أنه في غاية
الخفاء، وأيّا ما كان فالضمائر الثلاثة متوافقة في المرجع،
وقيل ضمير كَذَّبُوا راجع إلى أسلافهم، والمعنى فما كان
الأبناء ليؤمنوا بما كذب به الآباء، ولا يخفى ما فيه من
التعسف، وذهب الأخفش إلى أن الياء سببية وما مصدرية والمعنى
عليه كما قيل: فما كانوا ليؤمنوا الآن أي عند مجيء الرسل لما
سبق منهم من التكذيب الذي ألفوه وتمرنوا عليه قبل مجيئهم أو لم
يؤمنوا قط واستمروا على تكذيبهم لما حصل منهم من التكذيب حين
مجيء الرسل.
كَذلِكَ أي مثل ذلك الطبع الشديد المحكم يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى
قُلُوبِ الْكافِرِينَ أي قلوبهم فوضع المظهر موضع المضمر ليدل
على أن الطبع بسبب الكفر وإلى هذا يشير كلام الزجاج وصرح به
بعضهم، ويجوز ولعله الأولى أن يراد بالكافرين ما يشمل
المذكورين وغيرهم وفي ذلك من تحذير السامعين ما لا يخفى،
وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وإدخال
الروعة وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ أي أكثر الأمم المذكورين،
ووجد متعدية لواحد واللام متعلقة بها كما في قولك: ما وجدت
لزيد مالا أي ما صادفت له مالا ولا لقيته أو بمحذوف كما قال
أبو البقاء وقع حالا من قوله تعالى: مِنْ عَهْدٍ لأنه في الأصل
صفة للنكرة فلما قدمت عليها انتصبت حالا ومن مزيدة للاستغراق
وجوز أن تكون وجد علمية والأول أظهر، والكلام على تقدير مضاف
أي ما وجدنا وفاء عهد كائن لأكثرهم فانهم نقضوا ما عاهدوا عليه
الله تعالى عند مساس البأساء والضراء قائلين لئن أنجيتنا من
هذه لنكونن من الشاكرين، وإلى هذا ذهب قتادة، وتخصيص هذا الشأن
بأكثرهم ليس لأن بعضهم كانوا يوفون بالعهد بل لأن بعضهم كانوا
لا يعهدون ولا يوفون، وقيل: المراد بالعهد ما وقع يوم أخذ
الميثاق، وروي ذلك عن أبي بن كعب. وأبي العالية، وقيل: المراد
به ما عهد الله تعالى إليهم من الإيمان والتقوى بنصب الدلائل
والحجج وإنزال الآيات، وفسره ابن مسعود بالإيمان كما في قوله
تعالى: اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً [مريم: 78] ، وقيل:
هو بمعنى البقاء أي ما وجدنا لهم بقاء على فطرتهم، والمراد
بالأكثر في الكل الكل، وذهب كثير من الناس إلى أن ضمير أكثرهم
للناس وهو معلوم لشهرته، والجملة إلى فاسقين اعتراض لأنه لا
اختصاص له بما قبله لكن لعمومه يؤكده. وعلى الأول تتميم على ما
نص عليه الطيبي وغيره وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ أي أكثر
الأمم أو أكثر الناس أي علمناهم كقولك: وجدت زيدا فاضلا وبين
وجد هذه ووجد السابق على المعنى الأول فيه الجناس التام
المماثل وإِنْ مخففة من الثقيلة وضمير الشأن محذوف ولا عمل لها
فيه لأنها ملغاة على المشهور، وتعين تفسير وجد بعلم الناصبة
للمبتدأ والخبر لدخولها عليهما، فقد صرح الجمهور أنها لا تدخل
إلا على المبتدأ أو على الأفعال الناسخة وخالف في ذلك الأخفش
فلا يرى ذلك.
وجوز دخولها على غيرهما، وذهب الكوفيون إلى أن إن نافية،
واللام في قوله سبحانه: لَفاسِقِينَ اللام الفارقة وعند
الكوفيين أن إن نافية واللام بمعنى إلا أي ما وجدنا أكثرهم الا
خارجين عن الطاعة ويدخل في ذلك نقض العهد، وذكر الطيبي أنه إذا
فسر الفاسقون بالناكثين يكون في الآية الطرد والعكس، وهو أن
يؤتى بكلامين يقرر الأول بمنطوقه مفهوم الثاني وبالعكس، وهو
كقوله تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ [النور: 58] إلى قوله سبحانه: لَيْسَ عَلَيْكُمْ
وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ [النور: 58] فمنطوق الأمر
بالاستئذان في الأوقات الثلاثة خاصة مقرر لمفهوم رفع الجناح
فيما عداها وبالعكس، وكذا قوله تعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما
أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] وهذا
النوع من الإطناب يقابله في الإيجاز نوع الاحتباك ثُمَّ
بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى أي أرسلناه عليه السلام بعد
الرسل أو بعد الأمم والأول متقدم في قوله سبحانه: وَلَقَدْ
جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ والثاني مدلول عليه بتلك القرى
والاحتمال الأول أولى، والتصريح بالبعدية مع ثم الدالة عليها
قيل للتنصيص على أنها للتراخي الزماني
(5/17)
فانها كثيرا ما تستعمل في غيره، وقيل:
للايذان بأن بعثه عليه السلام جرى على سنن السنة الإلهية من
إرسال الرسل تترى، ومِنْ لابتداء الغاية، وتقديم الجار
والمجرور على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم
والتشويق إلى المؤخر، وقوله سبحانه: بِآياتِنا متعلق بمحذوف
وقع حالا من مفعول بعثنا أو صفة لمصدره أي بعثناه عليه السلام
ملتبسا بها أو بعثناه بعثا ملتبسا بها وأريد بها الآيات التسع
المفصلة إِلى فِرْعَوْنَ هو علم شخص ثم صار لقبا لكل من ملك
مصر من العمالقة، كما أن كسرى لقب من ملك فارس، وقيصر لقب من
ملك الروم، والنجاشي لقب من ملك الحبشة، وتبع لقب من ملك
اليمن، وقيل: إنه من أول الأمر لقب لمن ذكر، واسمه الوليد بن
مصعب بن الريان، وقيل: قابوس وكنيته أبو العباس، وقيل: أبو
مرة، وقيل: أبو الوليد، وعن جماعة أن قابوسا والوليد اسمان
لشخصين أحدهما فرعون موسى والآخر فرعون يوسف عليهما السلام،
وعن النقاش. وتاج القراء أن فرعون موسى هو والد الخضر عليه
السلام، وقيل: ابنه وذلك من الغرابة بمكان، ويلقب به كل عات
ويقال فيه فرعون كزنبور، وحكى ابن خالويه عن الفراء ضم فائه
وفتح عينه وهي لغة نادرة، ويقال فيه: فريع كزبير وعليه قول
أمية بن الصلت:
حي داود بن عاد وموسى ... وفريع بنيانه بالثقال
وقيل: هو فيه ضرورة شعر ومنع من الصرف لأنه أعجمي، وحكى أبو
الخطاب بن دحية في مروج البحرين عن أبي النصر القشيري في
التيسير أنه بلغة القبط اسم للتمساح، والقول بأنه لم ينصرف
لأنه لا سميّ له كإبليس عند من أخذه من أبلس ليس بشيء، وقيل:
هو وأضرابه السابقة أعلام أشخاص وليست من علم الجنس لجمعها على
فراعنة وقياصرة وأكاسرة، وعلم الجنس لا يجمع فلا بد من القول
بوضع خاص لكل من تطلق عليه. وتعقب بأنه ليس بشيء لأن الذي غره
قول الرضي إن علم الجنس لا يجمع لأنه كالنكرة شامل للقليل
والكثير لوضعه للماهية فلا حاجة لجمعه، وقد صرح النحاة بخلافه
وممن ذكر جمعه السهيلي في الروض الأنف فكأن مراد الرضي أنه لا
يطرد جمعه وما ذكره تعسف نحن في غنى عنه وَمَلَائِهِ أي أشراف
قومه وتخصيصهم بالذكر مع عموم بعثته عليه السلام لقومه كافة
لأصالتهم في تدبير الأمور واتباع غيرهم لهم في الورود والصدور
فَظَلَمُوا بِها أي بالآيات، وأصل الظلم وضع الشيء في غير
موضعه وهو يتعدى بنفسه لا بالباء إلا أنه لما كان هو والكفر من
واد واحد عدّي تعديته أو هو بمعنى الكفر مجازا أو تضمينا أو هو
مضمن معنى التكذيب أي ظلموا كافرين بها أو مكذبين بها، وقول
بعضهم: إن المعنى كفروا بها مكان الإيمان الذي هو من حقها
لوضوحها ظاهر في التضمين كأنه قيل كفروا بها واضعين الكفر في
غير موضعه حيث كان اللائق بهم الإيمان.
وقيل: الباء للسببية ومفعول ظلموا محذوف أي ظلموا الناس بصدهم
عن الإيمان أو أنفسهم كما قال الحسن.
والجبائي بسببها، والمراد به الاستمرار على الكفر بها إلى أن
لقوا من العذاب ما لقوا.
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي آخر أمرهم،
ووضع المفسدين موضع ضميرهم للايذان بأن الظلم مستلزم للافساد،
والفاء لأنه كما أن ظلمهم بالآيات مستتبع لتلك العاقبة الهائلة
كذلك حكايته مستتبع للأمر بالنظر إليها، والخطاب إما للنبي
صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من يتأتى منه النظر، وكَيْفَ كما
قال أبو البقاء وغيره خبر كان قدم على اسمها لاقتضائه الصدارة،
والجملة في حيز النصب بإسقاط الخافض كما، قيل: أي فانظر بعين
عقلك إلى كيفية ما فعلنا بهم وَقالَ مُوسى كلام مبتدأ مسوق
لتفصيل ما أجمل فيما قبله.
يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ أي إليكم كما يشعر به قد جئتكم
أو إليك كما يشعر به فأرسل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ
(5/18)
أي سيدهم ومالك أمرهم حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا
أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ جواب لتكذيبه عليه
السلام المدلول عليه بقوله سبحانه: فَظَلَمُوا بِها، وحقيق صفة
رسول أو خبر بعد خبر.
وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي أنا حقيق وهو بمعنى جدير وعَلى بمعنى
الباء كما قال الفراء أو بمعنى حريص (1) وعَلى على ظاهرها، قال
أبو عبيدة: أو بمعنى واجب، واستشكل بأن قول الحق هو الواجب على
موسى عليه السلام لا العكس والكلام ظاهر فيه، وأجيب بأن أصله
«حقيق عليّ» بتشديد الياء كما في قراءة نافع.
ومجاهد أَنْ لا أَقُولَ إلخ فقلب لأمن الالتباس كما في قول
خراش بن زهير:
كذبتم وبيت الله حتى تعالجوا ... قوادم حرب لا تلين ولا تمري
هي وطن آبائهم، وكان عدو الله تعالى والقبط قد استبعدوهم بعد
انقراض الأسباط يستعملونهم ويكلفونهم الأفاعيل الشاقة كالبناء
وحمل الماء فأنقذهم الله تعالى بموسى عليه السلام، وكان بين
اليوم الذي دخل فيه يوسف عليه السلام مصر واليوم الذي دخل فيه
موسى عليه السلام على ما روي عن وهب أربعمائة سنة، واستعمال
الإرسال بما أشير إليه على ما يظهر من كلام الراغب حقيقة،
وقيل: إنه استعارة من إرسال الطير من القفص تمثيلية أو تبعية،
ولا يخفى أنه ساقط عن وكر القبول، والفاء لترتيب الإرسال أو
الأمر به على ما قبله من رسالته عليه السلام ومجيئه بالبينة
قالَ استئناف بياني كأنه قيل: فما قال فرعون؟ فقيل: قال:
إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ من عند من أرسلك كما تدعيه فَأْتِ
بِها أي فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك في دعواك، فالمغايرة بين
الشرط والجزاء مما لا غبار عليه، ولعل الأمر غني عن التزام ذلك
لحصوله بما لا أظنه يخفى عليك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
في دعواك فإن كونك من جملة المعروفين بالصدق يقتضي إظهار الآية
لا محالة فَأَلْقى عَصاهُ وكانت كما روى ابن المنذر. وابن أبي
حاتم من عوسج.
وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها كانت من لوز.
وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أنها
عصا آدم عليه السلام أعطاها لموسى ملك حين توجه إلى مدين فكانت
تضيء له بالليل ويضرب بها الأرض بالنهار فيخرج له رزقه ويهش
بها على غنمه، والمشهور أنها كانت من آس الجنة وكانت لآدم عليه
السلام ثم وصلت إلى شعيب فأعطاه إياها، وجاء عن ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما أن اسمها مأشا فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ أي حية
ضخمة طويلة. وعن الفراء أن الثعبان هو الذكر العظيم من الحيات.
وقال آخرون: إنه الحية مطلقا.
وفي مجمع البيان أنه مشتق من ثعب الماء إذا انفجر، فكأنه سمي
بذلك لأنه يجري كعنق الماء إذا انفجر مُبِينٌ أي ظاهر أمره لا
يشك في كونه ثعبانا فهو إشارة إلى أن الصيرورة حقيقية لا
تخييلية، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على كمال سرعة
الانقلاب وثبات وصف الثعبانية فيها كأنها في الأصل كذلك،
وروي عن ابن عباس.
والسدي أنه عليه السلام لما ألقاها صارت حية صفراء شعراء فاغرة
فاها بين لحييها ثمانون ذراعا وارتفعت من الأرض بقدر ميل وقامت
على ذنبها واضعة لحيها الأسفل في الأرض ولحيها الأعلى على سور
القصر وتوجهت نحو فرعون لتأخذه فوثب عن سريره هاربا وأحدث، وفي
بعض الروايات أنه أحدث في ذلك اليوم أربعمائة مرة، وفي أخرى
أنه
__________
(1) أي تضمينا اهـ منه
(5/19)
استمر معه داء البطن حتى غرق، وقيل: إنها
أخذت قبة فرعون بين أنيابها وأنها حملت على الناس فانهزموا
مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، فصاح فرعون يا موسى أنشدك
بالذي أرسلك أن تأخذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل،
فأخذها فعادت عصا كما كانت،
وعن معمر أنها كانت في العظم كالمدينة، وقيل: كان طولها ثمانين
ذراعا، وعن وهب بن منبه أن بين لحييها اثني عشر ذراعا، وعلى
جميع الروايات لا تعارض بين ما هنا وقوله سبحانه:
كَأَنَّها جَانٌّ [النمل: 10، القصص: 31] بناء على أن الجان هي
الحية الصغيرة لما قالوا: إن القصة غير واحدة، أو أن المقصود
من ذلك تشبيهها في خفة الحركة بالجان لا بيان جثتها، أو لما
قيل: إنها انقلبت جانا وصارت ثعبانا فحكيت الحالتان في آيتين،
وسيأتي إن شاء الله تعالى.
وتلحق خيل لا هوادة بينها ... وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر
وضعف بأن القلب سواء كان قلب الألفاظ بالتقديم والتأخير كخرق
الثوب المسمار أم قلب المعنى فقط كما هنا إنما يفصح إذا تضمن
نكنة كما في البيت، وهي فيه الإشارة إلى كثرة الطعن حتى شقيت
الرماح بهم لتكسرها بسبب ذلك، وقد أفصح عن هذا المتنبي بقوله:
والسيف يشقى كما تشقى الضلوع به ... وللسيوف كما للناس آجال
وبأن بين الواجب ومن يجب عليه ملازمة فعبر عن لزومه للواجب
بوجوبه على الواجب كما استفاض العكس، وليس هو من الكناية
الإيمائية كقول البحتري:
أو ما رأيت الجود ألقى رحله ... في آل طلحة ثم لم يتحول
وقول ابن هانىء:
فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يسير الجود حيث يسير
بل هو تجوز فيه مبالغة حسنة، وبان ذلك من الإغراق في الوصف
بالصدق بأن يكون قد جعل قول الحق بمنزلة رجل يجب عليه شيء ثم
جعل نفسه أي قابليته لقول الحق وقيامه به بمنزلة الواجب على
قول الحق فيكون استعارة مكنية وتخييلية، والمعنى أنا واجب على
الحق أن يسعى في أن أكون قائله والناطق به فكيف يتصور مني
الكذب، واعترضه القطب الرازي وغيره بأنه إنما يتم لو كان هو
حقيقا على قول الحق وليس كذلك بل على قوله الحق، وجعل قوله
الحق بحيث يجب عليه أن يسعى في أن يكون قائله لا معنى له.
وأجيب بأن مبنى ذلك على أن المصدر المؤول لا بد من إضافته إلى
ما كان مرفوعا به وليس بمسلم فإنه قد يقطع النظر عن ذلك.
وقد صرح بعض النحاة بأنه قد يكون نكرة نحو وَما كانَ هذَا
الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى [يونس: 37] أي افتراء، وهاهنا قد قطع
النظر فيه عن الفاعل إذ المعنى حقيق على قول الحق وهو محصل
مجموع الكلام فلا إشكال، وذكر ابن مقسم في توجيه الآية على
قراءة الجمهور وادعى أنه الأولى أن عَلى أَنْ لا أَقُولَ متعلق
برسول إن قلنا بجواز إعمال الصفة إذا وصفت وإن لم نقل به وهو
المشهور فهو متعلق بفعل يدل عليه أي أرسلت على أن لا أقول إلخ،
والأولى عندي كون على بمعنى الباء، ويؤيده قراءة أبي بأن لا
أقول.
وقرأ عبد الله «أن لا أقول» بتقدير الجار وهو على أو الباء،
وقد تقدم يقدر على بياء مشددة، وقوله سبحانه: قَدْ جِئْتُكُمْ
بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ استئناف مقرر لما قبله، ولم يكن
هذا وما بعده من جواب فرعون إثر ما ذكر هاهنا بل بعد ما جرى
بينهما من المحاورات التي قصها الله تعالى في غير ما موضع، وقد
طوى ذكرها هنا للايجاز ومِنْ متعلقة
(5/20)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ
قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا
تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي
الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ
عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ
لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ
نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا
مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ
الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا
سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا
بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ
أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)
فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا
بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ
إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ
لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ
ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا
إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا
إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا
رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ
(126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ
مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ
وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي
نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ
مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ
الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ
أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ
الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا
جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ
أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا
تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ
لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ
الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ
وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا
قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ
الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا
عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ
لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
(134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ
هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا
مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ
مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ
فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى
قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى
اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ
قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ
فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ
اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى
الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ
أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ
بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى
ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ
مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى
لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا
تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
إما بجئتكم على أنها لابتداء الغاية مجازا
وإما بمحذوف وقع صفة لبينة مفيدة لفخامتها الإضافية مؤكدة
لفخامتها الذاتية المستفادة من التنوين التفخيمي كما مر غير
مرة، وإضافة اسم الرب إلى ضمير المخاطبين بعد إضافته فيما قبل
إلى العالمين لتأكيد وجوب الإيمان بها، وذكر الاسم الجليل
الجامع في بيان كونه جديرا بقول الحق عليه سبحانه تهويلا لأمر
الافتراء عليه تعالى شأنه مع الإشارة إلى التعليل بما ليس
وراءه غاية فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي خلهم حتى
يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة التي تحقيق ذلك. والآية من أقوى
أدلة جواز انقلاب الشيء عن حقيقته كالنحاس إلى الذهب، إذ لو
كان ذلك تخييلا لبطل الاعجاز، ولم يكن لذكر مبين معنى مبين،
وارتكاب غير الظاهر غير ظاهر، ويدل لذلك أيضا أنه لا مانع في
القدرة من توجه الأمر التكويني إلى ما ذكر وتخصيص الإرادة له،
والقول بأن قلب الحقائق محال والقدرة لا تتعلق به فلا يكون
النحاس ذهبا رصاص مموه، والحق جواز الانقلاب إما بمعنى أنه
تعالى يخلق بدل النحاس ذهبا على ما هو رأي المحققين، أو بأن
يسلب عن أجزاء النحاس الوصف الذي صار به نحاسا ويخلق فيه الوصف
الذي يصير به ذهبا على ما هو رأي بعض المتكلمين من تجانس
الجواهر واستوائها في قبول الصفات، والمحال إنما هو انقلابه
ذهبا مع كونه نحاسا لامتناع كون الشيء في الزمن الواحد نحاسا
وذهبا، وعلى أحد هذين الاعتبارين توكأ أئمة التفسير في أمر
العصا وَنَزَعَ يَدَهُ أي أخرجها من جيبه لقوله تعالى:
أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ [النمل: 12] أو من تحت أبطه
لقوله سبحانه: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ [طه: 22] والجمع
بينهما ممكن في زمان واحد، وكانت اليد اليمنى كما صرح به في
بعض الآثار فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي بيضاء
بياضا نورانيا خارجا عن العادة يجتمع عليه النظار.
فقد روي أنه أضار له ما بين السماء والأرض،
وجاء في رواية أنه أرى فرعون يده، وقال عليه السلام: ما هذه؟
فقال: يدك. ثم أدخلها جيبه وعليه مدرعة صوف ونزعها فإذا هي
بيضاء بياضا نورانيا غلب شعاعه شعاع الشمس،
وقيل: المعنى بيضاء لأجل النظار لا أنها بيضاء في أصل خلقتها
لأنه عليه السلام كان آدم شديد الأدمة،
فقد أخرج البخاري عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم وأما موسى فآدم جثيم سبط كأنه من رجال الزط»
وعنى عليه الصلاة والسلام بالزط جنسا من السودان والهنود، ونص
البعض على أن ذلك البياض إنما كان في الكف وإطلاق اليد عليها
حقيقة.
وفي القاموس اليد الكف أو من أطراف الأصابع إلى الكف، وأصلها
يدي بدليل جمعها على أيدي ولم ترد اليد عند الإضافة إلى الضمير
لما تقرر في محله، وجاء في كلامهم يد بالتشديد وهو لغة فيه.
(5/21)
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أي
الأشراف منهم وهم أهل مشورته ورؤساء دولته.
إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ أي مبالغ في علم السحر ماهر فيه
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ أي من أرض مصر
فَماذا تَأْمُرُونَ أي تشيرون في أمره كما فسره بذلك ابن عباس،
فهو من الأمر بمعنى المشاورة، يقال: آمرته فآمرني أي شاورته
فأشار علي، وقيل من الأمر المعهود، وماذا في محل نصب على أنه
مفعول لتأمرون بحذف الجار، أي بأي شيء تأمرون، وقيل: فَما خبر
مقدم وذا اسم موصول مبتدأ مؤخر، أي ما الذي تأمرون به قالُوا
أَرْجِهْ وَأَخاهُ أي أخر أمرهما وأصدرهما عنك ولا تعجل في
أمرهما حتى ترى رأيك فيهما، وقيل: احبسهما، واعترض بأنه لم
يثبت منه الحبس.
وأجيب بأن الأمر به لا يوجب وقوعه، وقيل عليه أيضا: إنه لم يكن
قادرا على الحبس بعد أن رأى ما رأى، وقوله: لَأَجْعَلَنَّكَ
مِنَ الْمَسْجُونِينَ في الشعراء [29] كان قبل هذا، وأجيب بأن
القائلين لعلهم لم يعلموا ذلك منه، وقال أبو منصور: الأمر
بالتأخير دل على أنه تقدم منه أمر آخر وهم الهم بقتله، فقالوا:
أخره ليتبين حاله للناس، وليس بلازم كما لا يخفى وأصل أرجه
أرجئه بهمزة ساكنة وهاء مضمومة دون واو ثم حذفت الهمزة وسكنت
الهاء لتشبيه المنفصل بالمتصل، وجعل أرجه كإبل في إسكان وسطه،
وبذلك قرأ أبو عمرو. وأبو بكر. ويعقوب على أنه من أرجات، وكذلك
قراءة ابن كثير وهشام وابن عامر «أرجئهو» بهمزة ساكنة وهاء
متصلة بواو الإشباع.
وقرأ نافع في رواية ورش وإسماعيل والكسائي «أرجهي» بهاء مكسورة
بعدها ياء من أرجيت، وفي رواية قالون «أن أرجه» بحذف الياء
للاكتفاء عنها بالكسرة، وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان
«أرجئه» بالهمزة وكسر الهاء، وقد ذكر بعضهم أن ضم الهاء وكسرها
والهمز وعدمه لغتان مشهورتان، وهل هما مادتان أو الياء بدل من
الهمزة كتوضأت وتوضيت؟ قولان، وطعن في القراءة على رواية ابن
ذكوان، فقال الحوفي: إنها ليست بجيدة، وقال الفارسي: إن ضم
الهاء مع الهمزة لا يجوز غيره وكسرها غلط لأن الهاء لا تكسر
إلا بعد ياء ساكنة أو كسرة، وأجيب كما قال الشهاب عنه بوجهين:
أحدهما أن الهمزة ساكنة والحرف الساكن حاجز غير حصين فكأن
الهاء وليت الجيم المكسورة فلذا كسرت، والثاني أن الهمزة عرضة
للتغيير كثيرا بالحذف وإبدالها ياء إذا سكنت بعد كسرة فكأنها
وليت ياء ساكنة فلذا كسرت. وأورد على ذلك أبو شامة أن الهمزة
تعد حاجزا وأن الهمزة لو كانت ياء كان المختار الضم نظرا
لأصلها وليس بشيء بعد أن قالوا: إن القراءة متواترة وما ذكر
لغة ثابتة عن العرب، هذا واستشكل الجمع بين ما هنا وما في
الشعراء فإن فيها قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ
عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ
فَماذا تَأْمُرُونَ وهو صريح في أن إِنَّ هذا لَساحِرٌ إلى
فَماذا تَأْمُرُونَ كلام فرعون وما هنا صريح في نسبة قول ذلك
للملأ والقصة واحدة فكيف يختلف القائل في الموضعين وهل هذا إلا
منافاة؟ وأجيب بأنه لا منافاة لاحتمالين. الأول أن هذا الكلام
قال فرعون والملأ من قومه فهو كوقع الحافر على الحافر فنقل في
الشعراء كلامه وهنا كلامهم، والثاني أن هذا الكلام قاله فرعون
ابتداء ثم قاله الملأ إما بطريق الحكاية لأولادهم وغيرهم وإما
بطريق التبليغ لسائر الناس فما في الشعراء كلام فرعون ابتداء
وما هنا كلام الملأ نقلا عنه.
واختار الزمخشري أن ما هنا هو قال الملأ نقلا عن فرعون بطريق
التبليغ لا غير لأن القوم لما سمعوه خاطبوا فرعون بقولهم: أرجه
إلخ، ولو كان ذلك كلام الملأ ابتداء لكان المطابق أن يجيبوهم
بأرجئوا، ولا سبيل إلى أنه كان نقلا بطريق الحكاية لأنه حينئذ
لم يكن مؤامرة ومشاورة مع القوم فلم يتجه جوابهم أصلا، فتعين
أن يكون بطريق التبليغ فلذا خاطبوه بالجواب. بقي أن يقال هذا
الجواب بالتأخير في الشعراء كلام الملأ لفرعون وهاهنا كلام
سائر القوم. لكن
(5/23)
لا منافاة لجواز تطابق الجوابين. وقول شيخ
الإسلام: إن كون ذلك جواب العامة يأباه أن الخطاب لفرعون وأن
المشاورة ليست من وظائفهم ليس بشيء، لأن الأمر العظيم الذي
تصيب تبعته أهل البلد يشاور فيه الملك الحازم عوامهم وخواصهم،
وقد يجمعهم لذلك ويقول لهم: ماذا ترون فهذا أمر لا يصيبني وحدي
ورب رأي حسن عند من لم يظن به على أن في ذلك جمعا لقلوبهم عليه
وعلى الاحتفال بشأنه، وقد شاهدنا أن الحوادث العظام يلتفت فيها
إلى العوام، وأمر موسى عليه السلام كان من أعظم الحوادث عند
فرعون بعد أن شاهد منه ما شاهده ثم أنهم اختلفوا في قوله
تعالى: فَماذا تَأْمُرُونَ فقيل: إنه من تتمة كلام الملأ،
واستظهره غير واحد لأنه مسوق مع كلامهم من غير فاصل، فالأنسب
أن يكون من بقية كلامهم، وقال الفراء. والجبائي: إن كلام الملأ
قد تم عند قوله سبحانه: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ
أَرْضِكُمْ ثم قال فرعون: فماذا تأمرون قالوا: أرجه، وحينئذ
يحتمل كما قال القطب أن يكون كلام الملأ مع فرعون وخطاب الجمع
في يخرجكم إما لتفخيم شأنه أو لاعتباره مع خدمه وأعوانه.
ويحتمل أن يكون مع قوم فرعون والمشاورة منه. ثم قال: وإنما
التزموا هذا التعسف ليكون مطابقا لما في الشعراء في أن قوله:
فَماذا تَأْمُرُونَ من كلام فرعون وقوله: أَرْجِهْ وَأَخاهُ
كلام الملأ. لكن ما ارتفعت المخالفة بالمرة لأن قوله: إِنَّ
هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ كلام فرعون
للملأ. وفي هذه السورة على ما وجهوه كلام الملأ لفرعون، ولعلهم
يحملون على أنه قاله لهم مرة وقالوه له أخرى انتهى. ويمكن أن
يقال: إن الملأ لما رأوا من موسى عليه السلام ما رأوا قال
بعضهم لبعض: إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا
تشيرون وما تستحسنون في أمره؟ ولما رآهم فرعون أنهم مهتمون من
ذلك قال لهم تنشيطا لهم وتصويبا لما هم عليه قبل أن يجيب بعضهم
بعضا بما عنده مثل ما قالوه فيما بينهم فالتفتوا إليه وقالوا:
أرجه وأخاه، فحكى سبحانه هنا مشاورة بعضهم لبعض وعرض ما عندهم
على فرعون أول وهلة قبل ذكره فيما بينهم، وحكى في الشعراء
كلامه لهم ومشاورته إياهم التي هي طبق مشاورة بعضهم بعضا
المحكية هنا وجوابهم له بعد تلك المشاورة، وعلى هذا لا يدخل
العوام في الشورى، ويكون هاهنا أبلغ في ذم الملأ فليتدبر والله
تعالى أعلم بأسرار كلامه وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ أي البلاد
جمع مدينة، وهي من مدن بالمكان كنصر إذا أقام به، ولكون الياء
زائدة كما قال غير واحد تقلب همزة في الجمع، وأريد بها مطلق
المدائن، وقيل: مدائن صعيد مصر حاشِرِينَ أي رجالا يجمعون
السحرة، وفسره بعضهم بالشرط وهم أعوان الولاة لأنهم يجعلون لهم
علامة، ويقال للواحد شرطي بسكون الراء نسبة للشرطة، وحكى في
القاموس فتحها أيضا، وفي الأساس أنه خطأ لأنه نسبة إلى الشرط
الذي هو جمع، ونصب الوصف على أنه صفة المحذوف ومفعوله محذوف
أيضا كما أشير إليه، وقد نص على ذلك الاجهوري يَأْتُوكَ
بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ أي ماهر في السحر والفعل مجزوم في جواب
الطلب.
وقرأ حمزة والكسائي «سحار» وجاء فيه الإمالة وعدمها وهو صيغة
مبالغة، وفسره بعضهم بأنه الذي يديم السحر والساحر من أن يكون
قد سحر في وقت دون وقت، وقيل: الساحر هو المبتدئ في صناعة
السحر والسحار هو المنتهي الذي يتعلم منه ذلك وَجاءَ
السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ بعد ما أرسل إليهم الحاشرين وإنما لم
يصرح به للايذان بمسارعة فرعون بالإرسال ومبادرة الحاشرين
والسحرة إلى الامتثال.
واختلف في عدتهم. فعن كعب أنهم اثنا عشر ألفا، وعن ابن إسحاق
خمسة عشر ألفا، وعن أبي ثمامة سبعة عشر ألفا، وفي رواية تسعة
عشر ألفا وعن السدي بضعة وثلاثون ألفا، وعن أبي بزة أنهم سبعون
ألفا، وعن محمد بن كعب ثمانون ألفا. وأخرج أبو الشيخ عن ابن
جرير قال: السحرة ثلاثمائة من قومه وثلاثمائة من العريش ويشكون
في ثلاثمائة من الاسكندرية.
(5/24)
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم
كانوا سبعين ساحرا وقد أخذوا السحر من رجلين مجوسيين من أهل
نينوى مدينة يونس عليه السلام، وروي نحو ذلك عن الكلبي،
والظاهر عدم صحته لأن المجوسية ظهرت زمن زرادشت على المشهور،
وهو إنما جاء بعد موسى عليه السلام، واسم رئيسهم كما قال
مقاتل: شمعون وقال ابن جريج:
هو يوحنا، وقال ابن الجوزي نقلا عن علماء السير: إن رؤساءهم
سابور وعازور وحطحط ومصفى قالُوا استئناف بياني ولذا لم يعطف
كأنه قيل: فماذا قالوا له عند مجيئهم إياه؟ فقيل: قالوا إلخ،
وهذا أولى مما قيل إنه حال من فاعل جاؤوا أي جاؤوا قائلين
إِنَّ لَنا لَأَجْراً أي عوضا وجزاء عظيما.
إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ والمقصود من الإخبار إيجاب
الأجر واشتراطه كأنهم قالوا: بشرط أن تجعل لنا أجرا إن غلبنا،
ويحتمل أن يكون الكلام على حذف أداة الاستفهام وهو مطرد ويؤيد
ذلك أنه قرأ ابن عامر وغيره «أئن» بإثبات الهمزة وتوافق
القراءتين أولى من تخالفهما ومن هنا رجح الواحدي هذا الاحتمال،
وذكر الشرط لمجرد تعيين مناط ثبوت الأجر لا لترددهم في الغلبة،
وقيل: له، وتوسيط الضمير وتحلية الخبر باللام للقصر، أي كنا
نحن الغالبين لا موسى عليه السلام قالَ نَعَمْ إن لكم لأجرا.
وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عطف على مقدر هو عين
الكلام السابق الدال عليه حرف الإيجاب، ويسمى مثل هذا عطف
التلقين، ومن قال إنه معطوف على السابق أراد ما ذكرنا، والمعنى
إن لكم لأجرا وإنكم مع ذلك لمن المقربين، أي إني لا أقتصر لكم
على العطاء وحده وإن لكم معه ما هو أعظم منه وهو التقريب
والتعظيم لأن من أعطى شيئا إنما يتهنأ به، ويغتبط إذا نال معه
الكرامة والرفعة، وفي ذلك من المبالغة في الترغيب والتحريض ما
لا يخفى، وروي عن الكلبي أنه قال لهم: تكونون أول من يدخل
مجلسي وآخر من يخرج عنه قالُوا استئناف كنظيره السابق يا مُوسى
إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ما تلقي أولا وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ
نَحْنُ الْمُلْقِينَ لما نلقي أولا أو الفاعلين للإلقاء أو لا
خيروه عليه السلام بالبدء بالإلقاء مراعاة للأدب ولذلك كما قيل
منّ الله تعالى عليهم بما منّ، أو إظهارا للجلادة وأنه لا
يختلف عليهم الحال بالتقديم والتأخير، ولكن كانت رغبتهم في
التقديم كما ينبىء عنه تغييرهم للنظم بتعريف الخبر وتوسيط ضمير
الفصل وتوكيد الضمير المستتر، والظاهر أنه وقع في المحكي كذلك
بما يرادفه، وقول الجلال السيوطي: إن الضمير المنفصل إما أن
يكون فصلا أو تأكيدا ولا يمكن الجمع بينهما لأنه على الأول لا
محل له من الإعراب وعلى الثاني له محل كالمؤكد وهم كما لا
يخفى. وفرق الطيبي بين كون الضمير فصلا وبين كونه توكيدا بأن
التوكيد يرفع التجوز عن المسند إليه فيلزم التخصيص من تعريف
الخبر، أي نحن نلقي البتة لا غيرنا، والفصل يخصص الإلقاء بهم
لتخصيص المسند بالمسند إليه فيعرى عن التوكيد، وتحقيق ذلك يطلب
من محله قالَ أي موسى عليه السلام وثوقا بشأنه وتحقيرا لهم
وعدم مبالاة بهم أَلْقُوا أنتم ما تلقون أولا، وبما ذكرنا يعلم
جواب ما يقال: إن القاءهم معارضة للمعجزة بالسحر وهي كفر
والأمر به مثله فكيف أمرهم وهو هو؟ وحاصل الجواب أنه عليه
السلام علم أنهم لا بد وأن يفعلوا ذلك، وإنما وقع التخيير في
التقديم والتأخير كما صرح به في قوله سبحانه في آية أخرى:
أَوَّلَ مَنْ أَلْقى [طه: 65] فجوز لهم التقديم لا لإباحة
فعلهم بل لتحقيرهم، وليس هناك دلالة على الرضا بتلك المعارضة،
وقد يقال أيضا: إنه عليه السلام إنما أذن لهم ليبطل سحرهم فهو
إبطال للكفر بالآخرة وتحقيق لمعجزته عليه السلام، وعلى هذا
يحمل ما جاء في بعض الآثار من أنهم لما قالوا سمع موسى عليه
السلام مناديا يقول:
بل ألقوا أنتم يا أولياء الله تعالى فأوجس في نفسه خيفة من ذلك
حتى أمر عليه السلام، وسيجيء إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك
فَلَمَّا أَلْقَوْا ما ألقوا وكان مع كل واحد منهم حبل وعصا
سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ بأن خيلوا إليها ما
(5/25)
الحقيقة بخلافه، ولذا لم يقل سبحانه سحروا
فالآية على حد قوله جل شأنه: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ
سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [طه: 66] وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أي
أرهبوهم إرهابا شديدا كأنهم طلبوا إرهابهم وَجاؤُ بِسِحْرٍ
عَظِيمٍ في بابه،
يروى أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا فإذا حيات كأمثال
الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا.
وفي بعض الآثار أن الأرض كان سعتها ميلا في ميل وقد امتلأت من
الحيات والأفاعي، ويقال: إنهم طلوا تلك الحبال بالزئبق ولونوها
وجعلوا داخل العصيّ زئبقا أيضا وألقوها على الأرض فلما أثر حر
الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض حتى تخيل للناس أنها
حيات. واستدل بالآية من قال كالمعتزلة إن السحر لا حقيقة له
وإنما هو مجرد تخييل، وفيه أنهم إن أرادوا أن ما وقع في القصة
من السحر كان كذلك فمسلم والآية تدل عليه وإن أرادوا أن كل سحر
تخييل فممنوع والآية لا تدل عليه، والذي ذهب إليه جمهور أهل
السنة أن السحر أقسام وأن منه ما لا حقيقة له ومنه ما له حقيقة
كما يشهد بذلك سحر اللعين لبيد بن الأعصم اليهودي رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم، وسحر يهود خيبر ابن عمر رضي الله تعالى
عنهما حين ذهب ليخرص تمرهم.
وذكروا أنه قد يصل السحر إلى حد المشي على الماء والطيران في
الهواء ونحو ذلك، وترتب ذلك عليه كترتب الشبع على الأكل والري
على الشرب والإحراق على النار، والفاعل الحقيقي في كل ذلك هو
الله تعالى. نعم قال القرطبي: أجمع المسلمون على أنه ليس من
السحر ما يفعل الله تعالى عنده إنزال الجراد والقمل والضفادع
وفلق الحجر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق العجماء وأمثال
ذلك من آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام. ومن أنكر حقيقته
استدل بلزوم الالتباس بالمعجزة، وتعقب بأن الفرق مثل الصبح
ظاهر وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى بواسطة الملك كما هو الظاهر أَنْ
أَلْقِ عَصاكَ التي علمت من أمرها ما علمت وأَنْ تفسيرية لتقدم
ما فيه معنى القول دون حروفه، وجوز أن تكون مصدرية فالمصدر
مفعول الإيحاء، والفاء في قوله سبحانه:
فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ فصيحة أي فألقاها فصارت
حية فإذا هي إلخ، وإنما حذف للإيذان بمسارعة موسى عليه السلام
إلى الإلقاء وبغاية سرعة الانقلاب كأن لقفها لما يأفكون قد حصل
متصلا بالأمر بالإلقاء، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة
الغريبة، واللقف كاللقفان التناول بسرعة، وفسره الحسن هنا
بالسرط والبلع، والافك صرف الشيء وقلبه عن الوجه المعتاد ويطلق
على الكذب وبذلك فسره ابن عباس. ومجاهد لكونه مقلوبا عن وجهه
واشتهر ذلك فيه حتى صار حقيقة، وما موصولة أو موصوفة والعائد
محذوف أي ما يأفكونه ويكذبونه أو مصدرية وهي مع الفعل بمعنى
المفعول أي المأفوك لأنه المتلقف، وقرأ الجمهور «تلّقف»
بالتشديد وحذف إحدى التاءين فَوَقَعَ أي ظهر وتبين كما قال
الحسن ومجاهد والفراء الْحَقُّ وهو أمر موسى عليه السلام، وفسر
بعضهم وقع بثبت على أنه قد استعير الوقع للثبوت والحصول أو
للثبات والدوام لأنه في مقابل بطل والباطل زائل، وفائدة
الاستعارة كما قيل: الدلالة على التأثير لأن الوقع يستعمل في
الأجسام، وقيل: المراد من وقع الحق صيرورة العصا حية في
الحقيقة وليس بشيء وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ظهر
بطلان ما كانوا مستمرين على عمله فَغُلِبُوا أي فرعون وقومه
هُنالِكَ أي في ذلك المجمع العظيم وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ أي
صاروا أذلاء أو رجعوا إلى المدينة كذلك فالانقلاب إما مجاز عن
الصيرورة والمناسبة ظاهرة أو بمعنى الرجوع فصاغرين حال ورجح
الأول بقوله سبحانه:
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ لأن ذلك كان بمحضر من فرعون
قطعا، وجوز رجوع ضمير غلبوا وانقلبوا على الاحتمال الأول إلى
السحرة أيضا، وتعقب بأنهم لا ذلة لهم والحمل على الخوف من
فرعون أو على ما قبل الإيمان لا يخفى ما فيه، والمراد من
أُلْقِيَ السَّحَرَةُ إلخ أنهم خروا ساجدين، وعبر بذلك دونه
تنبيها على أن الحق بهرهم
(5/26)
واضطرهم إلى السجود بحيث لم يبق لهم تمالك
فكأن أحدا دفعهم وألقاهم أو أن الله تعالى ألهمهم ذلك وحملهم
عليه فالملقي هو الله تعالى بإلهامه لهم حتى ينكسر فرعون
بالذين أراد بهم كسر موسى عليه السلام وينقلب الأمر عليه،
ويحتمل أن يكون الكلام جاريا مجرى التمثيل مبالغة في سرعة
خرورهم وشدته وإليه يشير كلام الأخفش، وجوز أن يكون التعبير
بذلك مشاكلة لما معه من الإلقاء إلا أنه دون ما تقدم، يروى أن
اجتماع القوم كان بالاسكندرية وأنه بلغ ذنب الحية من وراء
البحر وأنها فتحت فاها ثمانين ذراعا فابتلعت ما صنعوا واحدا
بعد واحد وقصدت الناس ففزعوا ووقع الزحام فمات منهم لذلك خمسة
وعشرون ألفا ثم أخذها موسى عليه السلام فعادت في يده عصا كما
كانت وأعدم الله تعالى بقدرته تلك الأجرام العظام، ويحتمل أنه
سبحانه فرقها أجزاء لطيفة فلما رأى السحرة ذلك عرفوا أنه من
أمر السماء وليس من السحر في شيء فعند ذلك خروا سجدا،
والمتبادر من السجود حقيقته ولا يبعد أنهم كانوا عالمين
بكيفيته، وقيل: إن موسى وهارون عليهما السلام سجدا شكرا الله
تعالى على ظهور الحق فاقتدوا بهما وسجدوا معهما، وحمل السجود
على الخضوع أي أنهم خضعوا لما رأوا ما رأوا خلاف الظاهر الذي
نطقت به الآثار من غير داع إلى ارتكابه قالُوا استئناف.
وجوز أبو البقاء كونه حالا من ضمير انقلبوا وليس بشيء، وقيل:
هو حال من السحرة أو من ضميرهم المستتر في ساجدين أي أنهم
ألقوا ساجدين حال كونهم قائلين آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ
أي مالك أمرهم والمتصرف فيهم رَبِّ مُوسى وَهارُونَ بدل مما
قبل وإنما أبدلوا لئلا يتوهم أنهم أرادوا فرعون ولم يقتصروا
على موسى عليه السلام إذ ربما يبقى للتوهم رائحة لأنه كان ربّى
موسى عليه السلام في صغره، ولذا قدم هارون في محل آخر لأنه
أدخل في دفع التوهم أو لأجل الفاصلة أو لأنه أكبر سنا منه،
وقدم موسى هنا لشرفه أو للفاصلة، وأما كون الفواصل في كلام
الله تعالى لا في كلامهم فقد قيل: إنه لا يضر، وروي أنهم لما
قالوا: آمنا برب العالمين قال فرعون: أنا رب العالمين فقالوا
ردا عليه: رب موسى وهارون، وإضافة الرب إليهما كإضافته إلى
العالمين، وقيل: إن تلك الإضافة على معنى الاعتقاد أي الرب
الذي يعتقد ربوبيته موسى وهارون ويكون عدم صدقه على فرعون
بزعمه أيضا ظاهرا جدا إلا أن ذلك خلاف الظاهر من الإضافة،
ويعلم مما قدمنا سر تقديم السجود على هذا القول.
وقال الخازن في ذلك: إن الله تعالى لما قذف في قلوبهم الإيمان
خروا سجدا لله تعالى على ما هداهم إليه وألهمهم من الإيمان ثم
أظهروا بذلك إيمانهم، وقيل: إنهم بادروا إلى السجود تعظيما
لشأنه تعالى لما رأوا من عظيم قدرته ثم إنهم أظهروا الإيمان،
ومن جعل الجملة حالا قال بالمقارنة فافهم، وأول من بادر
بالإيمان كما روي عن ابن إسحاق الرؤساء الأربعة الذين ذكرهم
ابن الجوزي ثم اتبعتهم السحرة جميعا قالَ فِرْعَوْنُ منكرا على
السحرة موبخا لهم على ما فعلوه آمَنْتُمْ بِهِ أي برب موسى
وهارون أو بالله تعالى لدلالة ذلك عليه أو بموسى عليه السلام
قيل لقوله تعالى في آية أخرى: آمَنْتُمْ لَهُ [الشعراء: 49]
فإن الضمير فيها له عليه السلام لقوله سبحانه: إِنَّهُ
لَكَبِيرُكُمُ
[الشعراء: 49] إلخ، والمقصود من الجملة الخبرية التوبيخ لأن
الخبر إذا لم يقصد به فائدته ولا لازمها تولد منه بحسب المقام
ما يناسبه، وهنا لما خاطبهم الجبار بما فعلوا مخبرا لهم بذلك
مع ظهور عدم قصد إفادة أحد الأمرين والمقام هو المقام أفاد
التوبيخ والتقريع، ويجوز أن تقدر فيه الهمزة بناء على اطراد
ذلك والاستفهام للإنكار بمعنى أنه لا ينبغي ذلك، ويؤيد ذلك
قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم: وروح عن يعقوب «أآمنتم»
بهمزتين محققتين وتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين بين مما
قرىء به أيضا.
قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي قبل أن آمركم أنا بذلك وهو على حد
قوله تعالى: لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ
(5/27)
رَبِّي
[الكهف: 109] لا أن الإذن منه ممكن في ذلك وأصل آذن أأذن
بهمزتين الأولى للتكلم، والثانية من صلب الكلمة قلبت ألفا
لوقوعها ساكنة بعد همزة إِنَّ هذا الصنيع لَمَكْرٌ
مَكَرْتُمُوهُ لحيلة احتلتموها أنتم وموسى وليس مما اقتضى
الحال صدوره عنكم لقوة الدليل وظهور المعجزة، وهذا تمويه منه
على القبط يريهم أنهم ما غلبوا ولا انقطعت حجتهم، قيل: وكذا
قوله: قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ فِي الْمَدِينَةِ أي في مصر
قبل أن تخرجوا إلى الميعاد.
أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن مسعود وناس من الصحابة قال:
التقى موسى عليه السلام وأمير السحرة فقال له موسى: أرأيتك إن
غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق فقال الساحر: لآتين غدا
بسحر لا يغلبه سحر فو الله لئن غلبتني لأؤمنن بك ولأشهدن أنك
حق وفرعون ينظر إليهم
وهو الذي نشأ عنه هذا القول لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها أي
القبط وتخلص لكم ولبني إسرائيل فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة ما
فعلتم، وهذا وعيد ساقه بطريق الإجمال للتهويل ثم عقبه بالتفصيل
فقال: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ
أي من كل جانب عضوا مغايرا للآخر كاليد من جانب والرجل من آخر،
والجار في موضع الحال أي مختلفة، والقول بأن مِنْ تعليلية
متعلقة بالفعل أي لأجل خلافكم بعيد ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ
أَجْمَعِينَ تفضيحا لكم وتنكيلا لأمثالكم، والتصليب مأخوذ من
الصلب وهو الشد على خشبة أو غيرها وشاع في تعليق الشخص بنحو
حبل في عنقه ليموت وهو المتعارف اليوم، ورأيت في بعض الكتب أن
الصلب الذي عناه الجبار هو شد الشخص من تحت الإبطين وتعليقه
حتى يهلك، وهو كقطع الأيدي والأرجل أول من سنه فرعون على ما
أخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما،
وشرعه الله تعالى لقطاع الطريق تعظيما لجرمهم، ولهذا سماه
سبحانه محاربة لله ولرسوله قالُوا استئناف بياني إِنَّا إِلى
رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي إلى رحمته سبحانه وثوابه عائدون إن
فعلت بنا ذلك فيا حبذاه.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن السحرة حين خروا سجدا رأوا
منازلهم تبنى لهم، وأخرج عن الأوزاعي أنهم رفعت لهم الجنة حتى
نظروا إليها، ويحتمل أنهم أرادوا أنا ولا بد ميتون فلا ضير
فيما تتوعدنا به والأجل محتوم لا يتأخر عن وقته:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تعددت الأسباب والموت واحد
ويحتمل أيضا أن المعنى أنا جميعا ننقلب إلى الله تعالى فيحكم
بيننا:
إلى ديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
وضمير الجمع على الأول للسحرة فقط، وعلى الثاني لهم ولفرعون،
وعلى الثاني يحتمل الأمرين وَما تَنْقِمُ أي ما تكره، وجاء في
الماضي نقم ونقم على وزن ضرب وعلم مِنَّا معشر من آمن:
إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا وذلك أصل
المفاخر وأعظم المحاسن، والاستثناء مفرغ، والمصدر في موضع
المفعول به، والكلام على حد قوله:
ولا عيب فيهم غير أن ضيوفهم ... تعاب بنسيان الأحبة والوطن
وقيل: إن تَنْقِمُ مضارع نقم بمعنى عاقب، يقال: نقم منه نقما
وتنقاما وانتقم إذا عاقبه، وإلى هذا يشير ما روي عن عطاء،
وعليه فيكون أَنْ آمَنَّا في موضع المفعول له، والمراد على
التقديرين حسم طمع فرعون في نجع تهديده إياهم، ويحتمل أن يكون
على الثاني تحقيقا لما أشاروا إليه أولا من الرحمة والثواب. ثم
أعرضوا عن مخاطبته وفزعوا والتجئوا إليه سبحانه وقالوا:
رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي أفض علينا صبرا يغمرنا
كما يفرغ الماء، أو صب علينا ما يطهرنا من الآثام وهو الصبر
على وعيد فرعون، «فأفرغ» على الأول استعارة تبعية تصريحية
وصَبْراً قرينتها،
(5/28)
والمراد هب لنا صبرا تاما كثيرا، وعلى
الثاني يكون صَبْراً استعارة أصلية مكنية وأَفْرِغْ تخييلية،
وقيل:
الكلام على الأول كالكلام على الثاني إلا أن الجامع هناك الغمر
وهاهنا التطهير، وليس بذاك وإن جل قائله وَتَوَفَّنا
مُسْلِمِينَ أي ثابتين على ما رزقتنا من الإسلام غير مفتونين
من الوعيد. عن ابن عباس والكلبي والسدي أنه فعل بهم ما أوعدهم
به، وقيل: لم يقدر عليه لقوله تعالى: فَلا يَصِلُونَ
إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا
الْغالِبُونَ [القصص: 35] .
وأجاب الأولون عن ذلك بأن المراد الغلبة بالحجة أو في عاقبة
الأمر ونهايته وهذا لا ينافي قتل البعض وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ
قَوْمِ فِرْعَوْنَ مخاطبين له بعد ما شاهدوا من أمر موسى عليه
السلام ما شاهدوا أَتَذَرُ مُوسى أي أتتركه وَقَوْمَهُ
لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي في أرض مصر.
والمراد بالإفساد ما يشمل الديني والدنيوي، ومفعول الفعل محذوف
للتعميم أو أنه منزل منزلة اللازم أو يقدر يفسدوا الناس
بدعوتهم إلى دينهم والخروج عليك. أخرج ابن جرير عن ابن عباس
قال: لما آمنت السحرة أتبع موسى عليه السلام ستمائة ألف من بني
إسرائيل وَيَذَرَكَ عطف على يفسدوا المنصوب بأن، أو منصوب على
جواب الاستفهام كما ينصب بعد الفاء، وعلى ذلك قول الحطيئة:
ألم أك جاركم ويكون بيني ... وبينكم المودة والإخاء
والمعنى كيف يكون الجمع بين تركك موسى عليه السلام وقومه
مفسدين في الأرض وتركهم إياك إلخ أي لا يمكن وقوع ذلك. وقرأ
الحسن. ونعيم بن ميسرة بالرفع على أنه عطف على تَذَرُ أو
استئناف أو حال بحذف المبتدأ، أي وهو يذرك لأن الجملة
المضارعية لا تقترن بالواو على الفصيح، والجملة على تقدير
الاستئناف معترضة مؤكدة لمعنى ما سبق، أي تذره وعادته تركك،
ولا بد من تقدير هو على ما قال الطيبي كما في احتمال الحال
ليدل على الدوام، وعلى تقدير الحالية تكون مقررة لجهة الاشكال.
وعن الأشهب أنه قرأ بسكون الراء، وخرج ذلك ابن جني على أنه
تركت الضمة للتخفيف كما في قراءة أبي عمرو يَأْمُرُكُمْ بإسكان
الراء استقلالا للضمة عند توالي الحركات، واختاره أبو البقاء،
وقيل: إنه عطف على ما تقدم بحسب المعنى، ويقال له في غير
القرآن عطف التوهم، كأنه، قيل: يفسدوا ويذرك كقوله تعالى:
فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقين: 10]
وَآلِهَتَكَ أي معبوداتك. يروى أنه كان يعبد الكواكب فهي آلهته
وكان يعتقد أنها المربية للعالم السفلي مطلقا وهو رب النوع
الإنساني، وعن السدي أن فرعون كان قد اتخذ لقومه أصناما وأمرهم
بأن يعبدوها تقربا إليه، ولذلك قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى
[النازعات: 24] وقيل: إنه كانت له بقرة يعبدها وكان إذا رأى
بقرة حسنة أمر قومه بعبادتها، ولذلك أخرج السامري لبني إسرائيل
عجلا وهو رواية ضعيفة عن ابن عباس، وقال سليمان التيمي: بلغني
أنه كان يجعل في عنقه شيئا يعبده، وأمر الجمع عليه يحتاج إلى
عناية وقرأ ابن مسعود والضحاك ومجاهد والشعبي و «إلهتك»
كعبادتك لفظا ومعنى فهو مصدر.
وأخرج غير واحد عن ابن عباس أنه كان ينكر قراءة الجمع بالجمع
ويقرأ بالمصدر ويقول: إن فرعون كان يعبد ولا يعبد، ألا ترى
قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: 38] ومن
هنا قال بعضهم: الأقرب أنه كان دهريا منكرا للصانع، وقيل:
الإلهة اسم للشمس وكان يعبدها وأنشد أبو علي:
وأعجلنا الإلهة أن تؤبا قالَ مجيبا لهم سَنُقَتِّلُ
أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ كما كنا نفعل بهم ذلك
من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة، ولا يتوهم
أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده.
وقرأ ابن
(5/29)
كثير. ونافع سَنُقَتِّلُ بالتخفيف والتضعيف
كما في موتت الإبل.
وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ أي غالبون كما كنا لم يتغير
حالنا وهم مقهورون تحت أيدينا، وكان فرعون قد انقطع طمعه عن
قتل موسى عليه السلام فلم يعد الملأ بقتله لما رأى من علو أمره
وعظم شأنه وكأنه لذلك لم يعد بقتل قومه أيضا، والظاهر على ما
قيل: إن هذا من فرعون بيان لأنهم لا يقدرون على أن يفسدوا في
الأرض وإيذان بعدم المبالاة بهم وأن أمرهم فيما بعد كأمرهم
فيما قبل وأن قتلهم عبث لا ثمرة فيه، وذكر الطيبي أنه من
الأسلوب الحكيم وإن صدر من الأحمق، وأن الجملة الاسمية
كالتذييل لما قبلها فافهم.
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ تسلية لهم حين تضجروا مما سمعوا بأسلوب
حكيم اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا على ما سمعتم من
الأقاويل الباطلة إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ أي أرض مصر أو الأرض
مطلقا وهي داخلة فيها دخولا أوليا يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ
عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ الذين أنتم منهم،
وحاصله أنه ليس الأمر كما قال فرعون: إِنَّا فَوْقَهُمْ
قاهِرُونَ فإن القهر والغلبة لمن صبر واستعان بالله ولمن وعده
الله تعالى توريث الأرض وأنا ذلكم الموعود الذي وعدكم الله
تعالى النصرة به وقهر الأعداء وتوريث أرضهم، وقوله: «والعاقبة»
إلخ تقرير لما سبق.
وقرأ أبيّ وابن مسعود «والعاقبة» بالنصب عطفا على اسم أن
قالُوا أي قوم موسى له عليه السلام أُوذِينا من جهة فرعون مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بالرسالة يعنون بذلك قتل الجبار
أولادهم قبل مولده وبعده إذ قيل له: يولد لبني إسرائيل غلام
يسلبك ملكك ويكون هلاكك على يديه وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا أي
رسولا يعنون به ما توعدهم به من إعادة قتل الأبناء وسائر ما
كان يفعل بهم لعداوة موسى عليه السلام من فنون الجور والعذاب،
وقيل: إن نفس ذلك الإيعاد إيذاء، وقيل: جعل إيعاده بمنزلة فعله
لكونه جبارا.
وقيل: أرادوا الإيذاء بقتل الأبناء قبل مولد موسى عليه السلام
وبعد مولده، وقيل: المراد ما كانوا يستعبدون به ويمتهنون فيه
من أنواع الخدم والمهن، وتعقب بأن ذلك ليس مما يلحقهم بواسطة
موسى عليه السلام فليس لذكره كثير ملاءمة بالمقام، والظاهر أنه
لا فرق بين الإتيان والمجيء وأن الجمع بينهما للتفنن والبعد عن
التكرار اللفظي فإن الطباع مجبولة على معاداة المعادات، ولذلك
جيء بأن المصدرية أولا وبما أختها ثانيا.
وذكر الجلال السيوطي في الفرق بينهما أن الإتيان يستعمل في
المعاني والأزمان والمجيء في الجواهر والأعيان وهو غير ظاهر
هنا إلا أن يتكلف، ونقل عن الراغب في الفرق بينهما أن الإتيان
هو المجيء بسهولة فهو أخص من مطلق المجيء وهو كسابقه هنا أيضا،
وهذا منهم جار مجرى التحزن لعدم الاكتفاء بما كنى لهم عليه
السلام لفرط ما عراهم وفظاعة ما اعتراهم، والمقام يقتضي
الإطناب فإن شأن الحزين الشاكي إطالة الكلام رجاء أن يطفىء
بذلك بعض الأوام، وقيل: هو استبطاء منهم لما وعدهم عليه السلام
من النجاة والظفر والأول أولى فقوله تعالى: قالَ عَسى
رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ الذي فعل بكم ما فعل
وتوعدكم بما توعد.
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ أي يجعلكم خلفاء فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر
تصريح بما كنى عنه وتوكيد للتسلية على أبلغ وجه، وفيه ادماج
معنى من عادى أولياء الله تعالى فقد بارزه بالمحاربة وحق له
الدمار والخسار. وعسى في مثله قطع في إنجاز الموعود والفوز
بالمطلوب، ونص غير واحد على أن التعبير به للجري على سنن
الكرماء.
وقيل: تأدبا مع الله تعالى وإن كان الأمر مجزوما به بوحي
وإعلام منه سبحانه وتعالى، وقيل: إن ذلك لعدم الجزم منه عليه
السلام بأنهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم، فقد روي أن مصر
إنما فتحت في زمن داود عليه السلام.
(5/30)
وتعقب بأنه لا يساعده قوله تعالى:
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ
مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا [الأعراف: 137] فإن المتبادر
استخلاف المستضعفين أنفسهم لا استخلاف أولادهم، والمجاز خلاف
الأصل. نعم المشهور أن بني إسرائيل بعد أن خرجوا مع موسى عليه
السلام من مصر لم يرجعوا إليها في حياته، وفي قوله سبحانه:
فَيَنْظُرَ أي يرى أو يعلم كَيْفَ تَعْمَلُونَ أحسنا أم قبيحا
فيجازيكم حسبما يظهر منكم من الأعمال إرشاد لهم إلى الشكر
وتحذير لهم عن الوقوع في مهاوي الكفر، وقيل: فيه إشارة إلى ما
وقع منهم بعد ذلك.
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ شروع في تفصيل
مبادئ الهلاك الموعود به وإيذان بأنهم لم يمهلوا حتى تحولوا من
حال إلى حال إلى أن حل بهم عذاب الاستئصال، وتصدير الجملة
بالقسم لإظهار الاعتناء بمضمونها، والمراد بآل فرعون أتباعه من
القبط، وإضافة الآل إليه وهو لا يضاف إلا إلى الأشراف لما فيه
من الشرف الدنيوي الظاهر وإن كان في نفس الأمر خسيسا، وعن
الخطيب أن المراد فرعون وآله، والسنين جمع سنة والمراد بها عام
القحط وقد غلبت في ذلك حتى صارت كالعلم له لكثرة ما يذكر ويؤرخ
به ولا كذلك العام الخصب، ولامها واو أو هاء، وقد اشتقوا منها
فقالوا: أسنت القوم إذا قحطوا، وقلبوا اللام تاء ليفرقوا بين
ذلك وقولهم أسنى القوم إذا لبثوا في موضع سنة، قال المازني:
وهو شاذ لا يقاس عليه، وقال الفراء: توهموا أن الهاء أصلية إذ
وجدوها أصلية فقلبوها تاء وجاء أصابتنا سنية حمراء أي جدب شديد
فالتصغير للتعظيم وإجراء الجمع مجرى سائر الجموع السالمة
المعربة بالحروف هو اللغة المشهورة واللغة الأخرى إجراء
الاعراب على النون لكن مع الياء خاصة فيسلك فيه مسلك حين في
الاعراب بالحركات الثلاث مع التنوين عند بني عامر وبنو تميم لا
ينونون تخفيفا وحينئذ لا تحذف النون للإضافة وعلى ذلك جاء قول
الشاعر:
دعاني من نجد فإن سنينه ... لعبن بنا شيبا وشيبننا مردا
ومنه
قوله صلّى الله عليه وسلّم «اللهم اجعلها عليهم سنينا كسنين
يوسف عليه السلام» وجاء في رواية أخرى «اللهم أعني عليهم بسنين
كسني يوسف عليه السلام»
وهو على اللغة المشهورة وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ بكثرة عاهات
الثمار وخروج اليسير منها حتى لا تحمل النخلة كما روي عن رجاء
بن حيوة إلا بسرة واحدة وكان القحط على ما أخرج عبد بن حميد
وغيره عن قتادة في باديتهم وأهل ماشيتهم والنقص في أمصارهم
وقراهم، وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن أبي حاتم
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما أخذ الله تعالى آل
فرعون بالسنين يبس كل شيء لهم وذهبت مواشيهم حتى يبس نيل مصر
فاجتمعوا إلى فرعون وقالوا له: إن كنت كما تزعم فائتنا في نيل
مصر بماء فقال: غدوة يصبحكم الماء فلما خرجوا من عنده قال أي
شيء صنعت؟ أنا لا أقدر على ذلك فغدا يكذبونني، فلما كان جوف
الليل قام واغتسل ولبس مدرعة صوف ثم خرج حافيا حتى أتى النيل
فقام في بطنه فقال: اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر على أن
تملأ نيل مصر ماء فاملأه ماء فما علم إلا بخرير الماء يقبل
فخرج وأقبل النيل مترعا بالماء لما أراد الله تعالى بهم من
الهلكة، وهذا إن صح يدل على أن الرجل لم يكن دهريا نافيا
للصانع كما قال البعض لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي لكي يتعظوا
فيتركوا ما هم عليه أو لكي يذكروا الله تعالى فيتضرعوا له
ويلتجئوا إليه رغبة فيما عنده، وقيل: لكي يتذكروا أن فرعون لو
كان إلها لدفع ذلك الضر.
وعن الزجاج أنهم إنما أخذوا بالضراء لأن أحوال الشدة ترقق
القلوب وترغب فيما عند الله تعالى ألا ترى قوله تعالى وَإِذا
مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: 51] فَإِذا
جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ إلخ بيان لعدم تذكرهم
(5/31)
وتماديهم في الغي، والمراد بالحسنة كما
يفهمه ظاهر كلام البعض الخصب والرخاء، وفسرها مجاهد بالرخاء
والعافية وبعضهم بأعم من ذلك أي إذا جاءهم ما يستحسنونه قالُوا
لَنا هذِهِ أي إنا مستحقوها بيمن الذات وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ أي ضيقة وجدب أو جدب ومرض أو عقوبة وبلاء
يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أي يتشاءموا بهم ويقولوا:
ما أصابنا ذلك إلا بشؤمهم، وأصل إطلاق التطير على التشاؤم على
ما قال الأزهري إن العرب كانت تزجر الطير فتتشاءم بالبارح
وتتيمن بالسانح. وفي المثل من لي بالسانح بعد البارح، قال أبو
عبيدة: سأل يونس رؤبة وأنا شاهد عن السانح والبارح فقال:
السانح ما ولاك ميامنه والبارح ما ولاك مياسره، وقيل: البارح
ما يأتي من جهة الشمال والسانح ما يأتي من جهة اليمين وانشدوا:
زجرت لها طير الشمال فإن يكن ... هواك الذي تهوى يصبك اجتنابها
ثم إنهم سموا الشؤم طيرا وطائرا والتشاؤم تطيرا، وقد يطلقون
الطائر على الحظ والنصيب خيرا أو شرا حتى قيل: إن أصل التطير
تفريق المال وتطييره بين القوم فيطير لكل أحد نصيبه من خير أو
شر ثم غلب في الشر. وفي الآية إغراق في وصفهم بالغباوة
والقساوة فإن الشدائد ترقق القلوب وتذلل العرائك وتزيل التماسك
لا سيما بعد مشاهدة الآيات وقد كانوا بحيث لم يؤثر فيهم شيء
منها بل ازدادوا عتوا وعنادا، وتعريف الحسنة وذكرها بأداة
التحقيق كما قال غير واحد لكثرة وقوعها وتعلق الإرادة بأحداثها
بالذات لأن العناية الإلهية اقتضت سبق الرحمة وعموم النعمة قبل
حصول الأعمال، وتنكير السيئة وذكرها بأداة الشك لندورها وعدم
تعلق الإرادة بأحداثها إلا بالتبع فإن النقمة بمقتضى تلك
العناية إنما تستحق بالأعمال.
والزمخشري بين الحسنة بالخصب والرخاء ثم قال في تعليل ما ذكر:
لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه وأما السيئة فلا
تقع إلا في الندرة ولا يقع إلا شيء منها. وقال صاحب الكشف: ذلك
إشارة إلى أن التعريف للعهد الخارجي التقريري بدليل أنه ذكر في
مقابلة قوله سبحانه: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ
بِالسِّنِينَ وقوله:
لأن الجنس إلخ أي جنس الخصب والرخاء وفيه مبالغة أي أنه لكثرة
الوقوع كأن الجنس كله واجب الوقوع، ولهذا لا يزال يتكاثر حتى
يستغرق الجنس. وقوله: وأما السيئة إلخ في مقابلة ذلك دليل بين
على إرادة هذا المعنى فلا تخالف بين كلاميه ولم يرد بالجنس
العهد الذهني وهذا مراد صاحب المفتاح وبه يندفع ما توهمه صاحب
الإيضاح انتهى.
وفيه تعريض بشيخه الطيبي حيث حمل الجنس على العهد الذهني وقال
ما قال والبحث طويل الذيل فليطلب من شروح المفتاح وشرح التلخيص
للعلامة الثاني وحواشيه، وقوله سبحانه وتعالى: أَلا إِنَّما
طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ استئناف مسوق من قبله تعالى لرد
مقالتهم الباطلة وتحقيق للحق في ذلك وتصديره بكلمة التنبيه
لإبراز كمال العناية بمضمونه أي ليس شؤمهم إلا عند الله أي من
قبله وحكمه كما قال ابن عباس، وقال الزجاج: المعنى ليس الشؤم
الذي يلحقهم إلا الذي وعدوا به من العقاب عنده لا ما ينالهم في
الدنيا، وقال الحسن: المعنى الا أن ما تشاءموا محفوظ عليهم حتى
يجازيهم الله تعالى به يوم القيامة، وفسر بعضهم الطائر هنا
بالحظ أي إنما حظهم وما طار إليهم من القضاء والقدر بسبب شؤمهم
عند الله، وقرأ الحسن «إنما طيرهم» وهو اسم جمع طائر على
الصحيح لأنه على أوزان المفردات، وقال الأخفش هو جمع له، وروي
عن قطرب أن الطير يكون واحدا وجمعا وكذا الطائر، وأنشد ابن
الأعرابي:
كأنه تهتان يوم ماطر ... على رؤوس كرؤوس الطائر
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذلك فيقولون ما يقولون،
وإسناد عدم العلم إلى أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلم ولكن لا
يعمل بمقتضى علمه وَقالُوا شروع في بيان بعض آخر مما أخذوا به
من فنون العذاب التي هي في
(5/32)
أنفسها آيات بينات وعدم ارعوائهم عما هم
عليه من الكفر والعناد أي قالوا بعد ما رأوا ما رأوا من العصا
والسنين ونقص الثمرات مَهْما تَأْتِنا بِهِ كلمة مهما مما
اختلف فيها فقيل هي كلمة برأسها موضوعة لزيادة التعميم. وقيل:
هي مركبة من مه اسم فعل للكف إما باق على معناه أو مجرد عنه
وما الشرطية. وقال الخليل: أصلها ما ما على أن الأولى شرطية
والثانية إبهامية متصلة بها لزيادة التعميم فقلبت ألف ما
الأولى هاء فرارا من بشاعة التكرار، وأسلم الأقوال كما قال غير
واحد القول بالبساطة. وفي حاشية التسهيل لابن هشام ينبغي لمن
قال بالبساطة أن يكتب مهما بالياء ولمن قال أصلها ما ما أن
يكتبها بالألف، وفي الشرح وكذا إذا قيل أصلها مه ما. وتعقب ذلك
الشمني بأن القائلين بالأصلين المذكورين متفقون على أن مهما
أصل آخر فما ينبغي في كتب آخرها على القول الأول ينبغي على
القول الثاني، وفيه نظر.
وهي اسم شرط لا حرف على الصحيح، ومحلها الرفع هنا على الابتداء
وخبرها إما الشرط أو الجزاء أو هما على الخلاف أو النصب على
أنها مفعول به لفعل يفسره ما بعد أي أي شيء تحضره لدينا تأتنا
به، ومن الناس من جوز مجيئها في محل نصب على الظرفية، وشدد
الزمخشري الإنكار عليه في الكشاف، وذكر ابن المنير أنه غر
القائل بظرفيتها كلام الخليل أو شبهها بمتى ما، وخالف ابن مالك
في ذلك وقال: إنه مسموع عن العرب كقوله:
وإنك مهما تعط بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
ويوافقه كما قال الشهاب استعمال المنطقيين لها بمعنى كلما
وجعلها سور الكلية فإنها تفيد العموم كما صرحوا به وليس من
مخترعاتهم كما توهم، وأنت تعلم أن كونها هنا ظرفا مما لا ينبغي
الاقدام عليه بوجه لإباء قوله تعالى:
مِنْ آيَةٍ عنه لأنه بيان لمهما وليس بزمان، وتسميتهم إياها
آية من باب المجاراة لموسى عليه السلام والاستهزاء بها مع
الاشعار بأن هذا العنوان لا يؤثر فيهم وإلا فهم ينكرون كونها
آية في نفس الأمر ويزعمون أنها سحر كما ينبىء قولهم
لِتَسْحَرَنا بِها والضميران المجروران راجعان إلى مهما،
وتذكير الأول لرعاية جانب اللفظ لإبهامه، وتأنيث الثاني
للمحافظة على جانب المعنى لأنه إنما رجع إليه بعد ما بين بآية،
وادعى ابن هشام أن الأولى عود الضمير الثاني إلى آية، ولعله
راعى القرب والذاهب إلى الأول راعى أن آيَةٍ مسوقة للبيان
فالأولى رجوع الضمير على المفسر المقصود بالذات وإن كان المآل
واحدا أي لتسحر بتلك الآية أعيننا وتشبه علينا فَما نَحْنُ
لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أي بمصدقين لك ومؤمنين بنبوتك أصلا
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ عقوبة لجرائمهم لا سيما قولهم هذا
الطُّوفانَ أي ما طاف بهم وغشى أماكنهم وحروثهم من مطر أو سيل
فهو اسم جنس من الطواف، وقيل: إنه في الأصل مصدر كنقصان، وهو
اسم لكل شيء حادث يحيط بالجهات ويعم كالماء الكثير والقتل
الذريع والموت الجارف، وقد اشتهر في طوفان الماء وجاء تفسيره
هنا بذلك في عدة روايات عن ابن عباس، وجاء عن عطاء ومجاهد
تفسيره بالموت، وأخرج ذلك ابن جرير وغيره عن عائشة رضي الله
تعالى عنها مرفوعا، وعن وهب بن منبه أنه الطاعون بلغة اليمن
وعن أبي قلابة أنه الجدري، وهم أول من عذبوا به، وهذان القولان
ينجران إلى الخبر المرفوع وَالْجَرادَ هو المعروف واحده جرادة
سمي به لجرده ما على الأرض، وهو جند من جنود الله تعالى يسلطه
على من يشاء من عباده، وأخرج أبو داود وابن ماجه والطبراني
وغيرهم عن أبي زهير النميري مرفوعا النهي عن مقاتلته معللا بما
ذكر، وذكر البيهقي أن ذلك إن صح مراد به إذا لم يتعرض لإفساد
المزارع فإذا تعرض له جاز دفعه بما يقع به الدفع من القتال
والقتل أو أريد به الإشارة إلى تعذر مقاومته بذلك،
وأخرج أبو داود ومن معه عن سلمان قال: «سئل رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم عن الجراد فقال:
أكثر جنود الله تعالى لا آكله ولا أحرمه»
وزعم أنه مخلوق من ذنوب ابن آدم مؤول وَالْقُمَّلَ بضم القاف
وتشديد
(5/33)
الميم قيل: هو الدبى وهو الصغار من الجراد
ولا يسمى جرادا إلا بعد نبات أجنحته، وروي ذلك عن ابن عباس
ومجاهد وقتادة والسدي، وقيل: هو القردان جمع القراد المعروف،
وقيل: صغار الذر، وعن حبيب بن أبي ثابت أنها الجعلان، وعن ابن
زيد قال: زعم بعض الناس أنها البراغيث، وعن سعيد بن جبير أنها
السوس وهي الدابة التي تكون في الحنطة وغيرها، ويسمى قملا بفتح
فسكون وبذلك قرأ الحسن وَالضَّفادِعَ جمع ضفدع كزبرج وجعفر
وجندب ودرهم وهذا أقل أو مردود الدابة المائية المعروفة
وَالدَّمَ معروف وتشديد (1) داله لغة.
وروي أن موسى عليه السلام لما رأى من فرعون وقومه العناد
والإصرار دعا وقال: يا رب إن فرعون علا في الأرض وإن قومه قد
نقضوا العهد رب فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومي عظة
ولمن بعدهم آية وعبرة فأرسل الله تعالى عليهم المطر ثمانية
أيام في ظلمة شديدة لم يستطع أحد لها أن يخرج من بيته فدخل
الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم ولم يدخل بيوت بني
إسرائيل منه قطرة وكانت مشتبكة في بيوتهم وفاض الماء على أرضهم
وركد فمنعهم من الحرث والتصرف ودام ذلك الماء عليهم سبعة أيام
من السبت إلى السبت فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا ذلك
ونحن نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فنبت
من العشب والكلأ ما لم يعهد مثله قبله، فقالوا: ما كان هذا
الماء إلا نعمة علينا فلم يؤمنوا. فبعث الله تعالى عليهم
الجراد فأكل زروعهم وثمارهم وأبوابهم وسقوفهم وثيابهم وأمتعتهم
حتى أكل مسامير الحديد التي في الأبواب ولم يصب بني إسرائيل من
ذلك شيء فعجوا وضجوا إلى موسى عليه السلام، وقالوا له كما
قالوا أولا فخرج عليه السلام إلى الصحراء فأشار بعصاه نحو
المشرق والمغرب فرجع إلى النواحي التي جاء منها،
وقيل: جاءت ريح فألقته في البحر فلم يؤمنوا، فسلط الله تعالى
عليهم القمل فأكل ما أبقى الجراد وكان يدخل بين ثوب أحدهم
وجلدهم فيمصه وإذا أراد أن يأكل طعاما امتلأ قملا، وقال ابن
المسيب: ابتلوا بالسوس فكان الرجل منهم يخرج بعشرة أجربة إلى
الرحى فلا يرد إلا بثلاثة أقفزة منها وأخذ حواجبهم وأشفار
عيونهم وسائر شعورهم وفعل في جلودهم ما يفعله الجدري ومنعهم
النوم والقرار ففزعوا إلى موسى عليه السلام فرفع عنهم، فقالوا:
قد تحققنا الآن أنك ساحر، فأرسل الله تعالى عليهم الضفادع
فامتلأت بيوتهم وأفنيتهم وأمتعتهم وآنيتهم منها فلا يكشف أحد
إناء إلا وجدها فيه، وكان الرجل يجلس في الضفادع فتبلغ إلى
حلقه فإذا أراد أن يتكلم يشب الضفدع فيدخل في فيه وكانت تشب في
قدورهم فتفسد عليهم طعامهم وتطفئ نيرانهم، وإذا اضطجع أحدهم
ركبته حتى تكون عليه ركاما فلا يستطيع أن ينقلب وإذا أراد أن
يأكل سبقته إلى فيه ولا يعجن عجينا إلا امتلأ منها ففزعوا إليه
عليه السلام وتضرعوا فأخذ عليهم العهود والمواثيق ودعا فكشف
الله تعالى عنهم ذلك فنقضوا العهد، فأرسل الله تعالى عليهم
الدم فسال النيل عليهم دما عبيطا وصارت مياههم دماء فكان فرعون
يجمع بين القبطي والإسرائيلي في إناء واحد فيكون ما يلي
الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دما ويقومان إلى الجرة فيها
الماء فيخرج للقبطي دم وللإسرائيلي ماء حتى إن المرأة من آل
فرعون تأتي المرأة من بني إسرائيل فتقول لها اسقيني ماء فتصب
لها من قربتها فيصير في الإناء دما حتى كانت تقول: اجعليه في
فيك ثم مجيه في فيّ فتفعل ذلك فيصير دما.
وقال ابن أسلم: إن الدم الذي سلط عليهم كان الرعاف آياتٍ حال
من الأشياء المتقدمة.
مُفَصَّلاتٍ مبينات لا يشك عاقل أنها آيات إلهية لا سحر كما
يزعمون، أو مميزا بعضها من بعض منفصلة بالزمان لامتحان أحوالهم
وكان بين كل اثنين منها شهر وكان امتداد كل واحدة منها شهرا
كما أخرج ذلك ابن المنذر
__________
(1) قوله وتشديد داله لغة كذا بخطه اه.
(5/34)
عن ابن عباس، وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن
أسلم قال: كانت الآيات التسع في تسع سنين في كل سنة آية، وأخرج
أحمد في الزهد وغيره عن نوف الشامي قال: مكث موسى عليه السلام
في آل فرعون بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم الآيات الجراد
والقمل إلخ ... فأبوا أن يسلموا.
وفي رواية أبي الشيخ عن ابن عباس أنه مكث عليه السلام بعد أن
غلب أربعين سنة يريهم ما ذكر، ورأيت في مسامرات الشيخ ابن
العربي قدس سره أن موسى عليه السلام مكث ينذر آل فرعون ستة عشر
شهرا إلى أن أغرقوا فأدخلوا نارا ولم ينتفعوا بما رأوا من
الآيات فَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان بها.
وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ جملة معترضة مقررة لمضمون ما
قبلها وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي العذاب المذكور
على التفصيل كما روي عن الحسن وقتادة ومجاهد ولَمَّا لا تنافي
التفصيل والتكرير كما لا يخفى.
وعن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه أصابهم ثلج أحمر لم
يروه قبل فهلك منهم كثير،
وعن ابن جبير أنه الطاعون، وقد ورد إطلاقه عليه في حديث أسامة
بن زيد المرفوع «وهو الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني
إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا
عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه» وأخرج ابن
أبي حاتم عن ابن عباس قال: أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل
فقال: ليذبح كل منكم كبشا ثم ليخضب كفه في دمه ثم ليضرب على
بابه ففعلوا، فقال القبط لهم: لم تجعلون هذا الدم على أبوابكم؟
قالوا: إن الله تعالى يريد أن يرسل عليكم عذابا فنسلم وتهلكون،
قال القبط: فما يعرفكم الله تعالى إلا بهذه العلامة؟ قالوا:
هكذا أمرنا نبينا، فأصبحوا وقد طعن من قوم فرعون سبعون ألفا
فأمسوا وهم لا يتدافنون، والمعنى على الأول أنهم كلما وقع
عليهم عقوبة من العقوبات المذكورة.
قالُوا يا مُوسَى في كل مرة على القول بأن المراد بالرجز غير
ما تقدم أنه لما وقع عليهم الثلج المهلك أو الطاعون الجارف
قالوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بعهده
سبحانه عندك وهو النبوة كما قال أبو مسلم «فما» مصدرية، وسميت
النبوة عهدا كما قال العلامة الثاني: لأن الله تعالى عهد إكرام
الأنبياء عليهم السلام بها وعهدوا إليه تحمل أعبائها، أو لأن
لها حقوقا تحفظ كما تحفظ العهود، أو لأنها بمنزلة عهد ومنشور
منه جل وعلا أو بالذي عهد إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك
في آياتك، «فما» موصولة والجار والمجرور صلة- لادع- أو حال من
الضمير فيه، يعني ادع الله تعالى متوسلا بما عهد عندك، ويحتمل
أن تكون الباء للقسم الاستعطافي كما يقال: بحياتك افعل كذا،
فالمراد استعطافه عليه السلام لأن يدعو، وأن تكون للقسم
الحقيقي وجوابه لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ الذي وقع
علينا لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي
إِسْرائِيلَ أي أقسمنا بعهد الله تعالى عندك لَئِنْ كَشَفْتَ
إلخ، وخلاصة ما ذكروه في الباء هنا أنها إما للالصاق أو
للسببية أو للقسم بقسميه فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ
إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ أي إلى حد من الزمان هم واصلون
إليه ولا بد فمعذبون فيه أو مهلكون، وهو وقت الغرق كما روي عن
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو الموت كما روي عن الحسن،
والمراد أنجيناهم من العذاب إلى ذلك الوقت، ومن هنا صح تعلق
الغاية بالكشف، ولا حاجة إلى جعل الجار والمجرور متعلقا بمحذوف
وقع حالا من الرجز خلافا لزاعمه.
وقيل: المراد بالأجل ما عينوه لإيمانهم إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ
أي ينقضون العهد، وأصل النكث فل طاقات الصوف المغزول ليغزل
ثانيا فاستعير لنقض العهد بعد إبرامه، وجواب فَلَمَّا فعل مقدر
يؤذن به إذا الفجائية لا الجملة المقترنة بها، وإن قيل به
فتساهل، أي فلما كشفنا عنهم ذلك فاجؤوا بالنكث من غير توقف
وتأمل كذا قيل، وعليه فكلا الاسمين أعني لما وإذا معمول لذلك
الفعل على أن الأول ظرفه، والثاني مفعوله قاله العلامة،
والداعي لذلك
(5/35)
المحافظة على ما ذهبوا إليه من أن ما يلي
كلمة لما من الفعلين يجب أن يكون ماضيا لفظا أو معنى، إلا أن
مقتضى ما ذكروا من أن إذا وإذا المفاجأة في موقع المفعول به
للفعل المتضمنين هما إياه أن يكون التقدير فاجؤوا زمان النكث
أو مكانه.
وقد يقال أيضا: تقدير الفعل تكلف مستغنى عنه إذ قد صرحوا بأن
لما تجاب بإذا المفاجأة الداخلة على الجملة الاسمية، نعم هم
يذكرون ما يوهم التقدير وليس به بل هو بيان حاصل المعنى وتفسير
له فتدبر.
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي فأردنا الانتقام منهم، وأول بذلك
ليتفرع عليه قوله سبحانه: فَأَغْرَقْناهُمْ وإلا فالاغراق عين
الانتقام فلا يصح تفريعه عليه.
وجوز أن تكون الفاء تفسيرية وقد أثبتها البعض كما في قوله
تعالى: وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ [هود: 45] إلخ
وحينئذ لا حاجة إلى التأويل فِي الْيَمِّ أي البحر كما روي عن
ابن عباس. والسدي رضي الله تعالى عنهم، ويقع على ما كان ملحا
زعافا وعلى النهر الكبير العذب الماء ولا يكسر ولا يجمع جمع
السلامة، وقال الليث: هو البحر الذي لا يدرك قعره، وقيل: هو
لجة البحر وهو عربي في المشهور. وقال ابن قتيبة: إنه سرياني
وأصله كما قيل يما فعرب إلى ما ترى والقول بأنه اسم للبحر الذي
غرق فيه فرعون غريق في يم الضعف بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا
بِآياتِنا تعليل للإغراق يعني أن سبب الإغراق وما استوجبوا به
ذلك العقاب هو التكذيب بالآيات العظام وهو الذي اقتضى تعلق
إرادة الله تعالى به تعلقا تنجيزيا وهذا لا ينافي تفريع
الإرادة على النكث لأن التكذيب هو العلة الأخيرة والسبب القريب
ولا مانع من تعدد الأسباب وترتب بعضها على بعض قاله الشهاب
ونور الحق ساطع منه، وقال شيخ الإسلام: الفاء وإن دلت على ترتب
الإغراق على ما قبله من النكث لكنه صرح بالتعليل إيذانا بأن
مدار جميع ذلك تكذيب آيات الله تعالى وما عطف عليه ليكون مزجرة
للسامعين عن تكذيب الآيات الظاهرة على يد رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم انتهى، وفيه مناقشة لا تخفى.
وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ الضمير المجرور للآيات، والغفلة
مجاز عن عدم الذكر والمبالاة أي بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم
مبالاتهم بها وتفكرهم فيها بحيث صاروا كالغافلين عنها بالكلية
وإلا فالمكذب بأمر لا يكون غافلا عنه للتنافي بين الأمرين، وفي
ذلك إشارة إلى أن من شاهد مثلها لا ينبغي له أن يكذب بها مع
علمه بها، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الضمير للنقمة
وأريد بها الغرق كما يدل عليه ما قبله، وعليه فيجوز أن تكون
الجملة حالية بتقدير قد، ولا مجاز في الغفلة حينئذ والأول أولى
كما لا يخفى.
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ
بالاستعباد وذبح الأبناء، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل
للدلالة على استمرار الاستضعاف وتجدده، والمراد بهم بنو
إسرائيل، وذكروا بهذا العنوان إظهارا لكمال اللطف بهم وعظم
الإحسان إليهم حيث رفعوا من حضيض المذلة إلى أوج العزة، ولعل
فيه إشارة إلى أن الله سبحانه عند القلوب المنكسرة. ونصب القوم
على أنه مفعول أول لأورثنا والمفعول الثاني قوله سبحانه:
مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا أي جميع جهاتها ونواحيها،
والمراد بها على ما روي عن الحسن وقتادة وزيد ابن أسلم أرض
الشام، وذكر محيي السنة البغوي أنها أرض الشام ومصر، وفي رواية
أنها أرض مصر التي كانت بأيدي المستضعفين، وإلى ذلك ذهب
الجبائي، ورواه أبو الشيخ عن الليث بن سعد، أي أورثنا
المستضعفين أرض مستضعفيهم وملكهم، ومعنى توريثهم إياها على
القول بأنهم لم يدخلوها بعد أن خرجوا منها مع موسى عليه السلام
(5/36)
إدخالها تحت ملكهم وعدم وجود مانع لهم عن
التصرف فيها أو تمكين أولادهم فيها وذلك في زمن داود وسليمان
عليهما السلام، ولا يخفى أنه خلاف المتبادر كما مرت الإشارة
إليه. على أن أرض مصر بعد أن فتحت في زمن داود عليه السلام لم
يكن لبني إسرائيل تمكن فيها واستقرار وإنما كان ملك وتصرف وكان
التمكن في الأرض المقدسة، والسوق على ما قيل يقتضي ذكر ما
تمكنوا فيه لا ما ملكوه، وأقول قد يقال المراد بالأرض هنا
وفيما تقدم من قوله سبحانه: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ
عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ الأرض المقدسة
التي طلب موسى عليه السلام من فرعون بني إسرائيل ليذهب بهم
إليها فإنها موطن آبائهم فيكون موسى عليه السلام قد وعدهم هلاك
عدوهم المانع لهم من الذهاب إليها وجعل الله تعالى إياهم خلفاء
فيها بعد آبائهم وأسلافهم أو بعد من هي في يده إذ ذاك من
العمالقة ثم أخبر سبحانه هنا أن الوعد قد نجز وقد أهلكنا أعداء
أولئك الموعودين وأورثناهم الأرض التي منعوهم عنها ومكناهم
فيها وفي حصول بغية موسى عليه السلام وما ألطف توريث الأبناء
مساكن الآباء الَّتِي بارَكْنا فِيها بالخصب وسعة الأرزاق أو
بذلك وبكونها مساكن الأنبياء عليهم السلام والصالحين وذلك ظاهر
على تقدير أن يراد بمشارق الأرض ومغاربها الشام ونواحيها. فقد
أخرج ابن أبي شيبة عن أبي أيوب الأنصاري قال ليهاجرن الرعد
والبرق والبركات إلى الشام.
وأخرج ابن عساكر عن ضمرة بن ربيعة قال: سمعت أنه لم يبعث نبي
إلا من الشام فإن لم يكن منها أسري به إليها،
وأخرج أحمد عن عبد الله بن حوالة الأزدي أنه قال: «يا رسول
الله خر لي بلدا أكون فيه قال عليك بالشام فإنه خيرة الله
تعالى من أرضه يجتبي إليه خيرته من عباده» ،
وأخرج ابن عساكر عن واثلة بن الأسقع قال: «سمعت رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم يقول عليكم بالشام فإنها صفوة بلاد الله تعالى
يسكنها خيرته من عباده» ،
وأخرج الحاكم وصححه عن عبد الله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما
قال: «يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه مؤمن إلا لحق بالشام»
وجاء من حديث أحمد والترمذي والطبراني وابن حبان والحاكم أيضا
وصححه عن زيد بن ثابت. أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: طوبى
للشام فقيل له: ولم؟
قال: «إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها»
والأحاديث في فضل الشام كثيرة وقد جمعها غير واحد إلا أن في
الكثير منها مقالا وسبب الوضع كان قويا، وهو اسم لأحد الأقاليم
العرفية، وفي القاموس أنها بلاد عن مشأمة القبلة وسميت بذلك
لأن قوما من بني كنعان تشاءموا إليها أي تياسروا أو سمي بسام
بن نوح فإنه بالشين بالسريانية أو لأن أرضها شامات بيض وحمر
وسود وعلى هذا لا تهمز.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الأغبش وكان قد أدرك أصحاب النبي
صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عما بورك من الشام أين مبلغ حده؟
فقال: أول حدوده عريش مصر والحد الآخر طرف الثنية والحد الآخر
الفرات والحد الآخر جعل فيه قبر هود النبي عليه السلام، وليس
المراد بها ما هو متعارف الناس اليوم أعني دمشق نعم هي داخلة
فيها، وقد تكلمنا على حدودها بأبسط من هذا في حواشينا على شرح
مختصر السمرقندية لابن عصام، وقد ولع الناس في دمشق مدحا وذما
فقال بعضهم:
تجنب دمشق ولا تأتها ... وإن شاقك الجامع الجامع
فسوق الفسوق بها نافق ... وفجر الفجور بها طالع
وقال آخر:
دمشق غدت جنة للورى ... زها وصفا العيش في ظلها
وفيها لدى النفس ما تشتهي ... ولا عيب فيها سوى أهلها
(5/37)
وقال آخر في الشام ولعله عنى متعارف الناس:
قيل لي ما يقول في الشام حبر ... شام من بارق الهنا ما شامه
قلت ماذا أقول في وصف أرض ... هي في وجنة المحاسن شامه
وأنا أقول إذا صح الحديث فهو مذهبي ونعوذ بالله تعالى من اتباع
الهوى، والموصول صفة المشارق والمغارب، وقيل: صفة الأرض وضعفه
أبو البقاء بأن فيه العطف على الموصوف قبل الصفة وهو نظير
قولك: قام أم هند وأبوها العاقلة، وجوز أن يكون المفعول الثاني
لأورثنا أي الأرض التي فعلى هذا يكون نصب المشارق وما عطف عليه
بيستضعفون على معنى يستضعفون فيها وأن يكون المشارق منصوبة
بيستضعفون والتي صفة كما في الوجه الأول والمفعول الثاني
لأورثنا محذوف أي الأرض أو الملك، ولا يخفى بعده وأن المتبادر
هو الأول.
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ
أي مضت عليهم واستمرت من قولهم: مضى على الأمر إذا استمر،
والمراد من الكلمة وعده تعالى لهم بالنصر والتمكين على لسان
نبيهم عليه السلام وهو قوله السابق عَسى رَبُّكُمْ أَنْ
يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ إلخ، وذهب غير واحد إلى أنه الوعد الذي
يؤذن به قوله سبحانه: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [القصص: 5] ، وقيل: المراد بها
علمه تعالى الأزلي، والمعنى مضى واستمر عليهم ما كان مقدرا من
إهلاك عدوهم وتوريثهم الأرض، والْحُسْنى تأنيث الأحسن صفة
للكلمة ووصفت بذلك لما فيها من الوعد بما يحبون ويستحسنون، وعن
الحسن أنه أريد بالكلمة عدته سبحانه وتعالى لهم بالجنة ولا
يخفى أنه يأباه السباق والسياق، والتفت من التكلم إلى الخطاب
في قوله سبحانه: رَبِّكَ على ما قال الطيبي لأن ما قبله من
القصص كان غير معلوم له صلّى الله عليه وسلّم. وأما كونه جل
شأنه منجزا لما وعد ومجريا لما قضى وقدر فهو معلوم له عليه
الصلاة والسلام، وذكر في الكشف أنه ادمج في هذا الالتفات أنه
ستتم كلمة ربك في شأنك أيضا. وقرأ عاصم في رواية «كلمات»
بالجمع لأنها مواعيد، والوصف بالحسنى لتأويله بالجماعة، وقد
ذكروا أنه يجوز وصف كل جمع بمفرد مؤنث إلا أن الشائع في مثله
التأنيث بالتاء وقد يؤنث بالألف كما في قوله سبحانه: مَآرِبُ
أُخْرى [طه: 18] بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم على الشدائد التي
كابدوها من فرعون وقومه وحسبك بهذا حاثا على الصبر ودالا على
أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله تعالى إليه ومن قابله
بالصبر ضمن الله تعالى له الفرج.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن الحسن قال: لو أن الناس إذا ابتلوا
من قبل سلطانهم بشيء صبروا ودعوا الله تعالى لم يلبثوا أن يرفع
الله تعالى ذلك عنهم ولكنهم يفزعون إلى السيف فيوكلون إليه ثم
تلا هذه الآية، وفي رواية أخرى عنه قال: ما أوتيت بنو إسرائيل
ما أوتيت إلا بصبرهم وما فزعت هذه الأمة إلى السيف قط فجاءت
بخير، وأقول قد شاهدنا الناس سنة الألف والمائتين والثمان
والأربعين قد فزعوا إلى السيف فما أغناهم شيئا ولا تم لهم مراد
ولا حمد منهم أمر، بل وقعوا في حرة رحيلة، ووادي خدبات، وأم
حبوكر، ورموا لعمر الله بثالثة الاثافي، وقص من جناح عزهم
القدامى والخوافي ولم يعلموا أن عيش المضر حلوه مر مقر وأن
الفرج إنما يصطاد بشباك الصبر. وما أحسن قول الحسن:
عجبت ممن خف كيف خف وقد سمع قوله سبحانه: وتلا الآية، ويعلم
منها أن التحزن لا ينافي الصبر لأن الله سبحانه وصف بني
إسرائيل به مع قولهم السابق لموسى عليه السلام أُوذِينا مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا وَدَمَّرْنا
أي خربنا وأهلكنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ في
أرض مصر من العمارات والقصور أي دمرنا الذي كان هو يصنعه فرعون
على أن ما موصولة واسم كان ضمير راجع إليها وجملة يصنع فرعون
من الفعل والفاعل خبر كان والجملة صلة الموصول
(5/38)
والعائد إليه محذوف، وجوز أن يكون فرعون
اسم كان ويصنع خبر مقدم والجملة الكونية صلة ما والعائد محذوف
أيضا. وتعقبه أبو البقاء بأن يصنع يصلح أن يعمل في فرعون فلا
يقدر تأخيره كما لا يقدر تأخير الفعل في قولك: قام زيد وفيه
غفلة عن الفرق بين المثال وما نحن فيه وهو مثل الصبح ظاهر
وقيل: ما مصدرية وكان سيف خطيب والتقدير ما يصنع فرعون إلخ،
وقيل: كان كما ذكر وما موصولة اسمية والعائد محذوف والتقدير
ودمرنا الذي يصنعه فرعون إلخ أي صنعه، والعدول إلى صيغة
المضارع على هذين القولين لاستحضار الصورة وَما كانُوا
يَعْرِشُونَ من الجنات أو ما كانوا يرضونه من البنيان كصرح
هامان، وإلى الأول يشير كلام الحسن وإلى الثاني كلام مجاهد.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر هنا وفي [النحل: 68] «يعرشون» بضم
الراء والباقون بالكسر وهما لغتان فصيحتان والكسر على ما ذكر
اليزيدي وأبو عبيدة أفصح، وقرىء في الشواذ «يغرسون» من غرس
الأشجار. وفي الكشاف أنها تصحيف وليس به. «وهذا ومن باب
الإشارة في الآيات» ما وجدته لبعض أرباب التأويل من العارفين
أن العصا إشارة إلى نفسه التي يتوكأ عليها أي يعتمد في الحركات
والأفعال الحيوانية ويهش بها على غنم القوة البهيمية السليمة
ورق الملكات الفاضلة والعادات الحميدة من شجرة الفكر وكانت
لتقدسها منقادة لأوامره مرتدعة عن أفعالها الحيوانية إلا بإذنه
كالعصا وإذا أرسلها عند الاحتجاج على الخصوم صارت كالثعبان
تلقف ما يأفكون من الأكاذيب ويظهرون من حبال الشبهات وعصا
المغالطات فيغلبهم ويقهرهم. وأن نزع اليد إشارة إلى إظهار
القدرة الباهرة الساطعة منها أنوار الحق. وجعل بعضهم فرعون
إشارة إلى النفس الأمّارة وقومه إشارة إلى صفاتها وكذا السحرة
وموسى إشارة إلى الروح وقومه بنو إسرائيل العقل والقلب والسر
وعلى هذا القياس. وأوّل النيسابوري الطوفان بالعلم الكثير
والجراد بالواردات والقمل بالإلهامات والضفادع بالخواطر والدم
بأصناف المجاهدات والرياضات وهو كما ترى.
وقد ذكر غير واحد أن السحر كان غالبا في زمن موسى عليه السلام
فلهذا كانت معجزته ما كانت، والطب ما كان غالبا في زمن عيسى
عليه السلام فلهذا كانت معجزته من جنس الطب والفصاحة كانت
غالبا في زمن نبينا صلّى الله عليه وسلّم والتفاخر بها أشهر من
«قفا نبك» فلهذا كانت معجزته القرآن، وإنما كانت معجزة كل نبي
من جنس ما غلب على زمانه ليكون ذلك ادعى إلى إجابة دعواه.
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ شروع بعد انتهاء قصة
فرعون في قصة بني إسرائيل وشرح ما أحدثوه بعد أن منّ الله
تعالى عليهم بما منّ وأراهم من الآيات ما أراهم تسلية لرسول
الله صلّى الله عليه وسلّم عما رآه من اليهود بالمدينة فانهم
جروا معه على دأب أسلافهم مع أخيه موسى عليه السلام وإيقاظا
للمؤمنين أن لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة نعم الله
تعالى عليهم فإن بني إسرائيل وقعوا فيما وقعوا لغفلتهم عما منّ
الله تعالى به عليهم، وجاوز بمعنى جاز وقرىء «جوزنا» بالتشديد
وهو أيضا بمعنى جاز فعدى بالباء أي قطعنا البحر بهم، والمراد
بالبحر بحر القلزم.
وفي مجمع البيان أنه نيل مصر وهو كما في البحر خطأ، وعن الكلبي
أن موسى عليه السلام عبر بهم يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه
فصاموه شكرا لله تعالى فَأَتَوْا أي مروا بعد المجاوزة.
عَلى قَوْمٍ قال قتادة: كانوا من لخم اسم قبيلة ينسبون كما
صححه ابن عبد البر إلى لخم بن عدي بن عمرو بن سبأ، وقيل: كانوا
من العمالقة الكنعانيين الذين أمر موسى عليه السلام بقتالهم.
يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ أي يواظبون على عبادتها
ويلازمونها، وكانت كما أخرج ابن المنذر. وغيره عن ابن جريج
تماثيل بقر من نحاس، وهو أول شأن العجل، وقيل: كانت من حجارة،
وقيل: كانت بقرا حقيقة وقرأ حمزة
(5/39)
والكسائي يَعْكُفُونَ بكسر الكاف قالُوا
عند ما شاهدوا ذلك يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً مثالا نعبده
كَما لَهُمْ آلِهَةٌ الكاف متعلقة بمحذوف وقع صفة لإلها وما
موصولة ولَهُمْ صلتها وآلِهَةٌ بدل من الضمير المستتر فيه،
والتقدير اجعل لنا إلها كائنا كالذي استقر هو لهم.
وجوز أبو البقاء أن تكون ما كافة للكاف، ولذا وقع بعدها الجملة
الاسمية وأن تكون مصدرية، ولهم متعلق بفعل أي كما ثبت لهم قالَ
إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ تعجب عليه السلام من قولهم هذا
بعد ما شاهدوه من الآية الكبرى والبينة العظمى فوصفهم بالجهل
على أتم وجه حيث لم يذكر له متعلقا ومفعولا لتنزيله منزلة
اللازم أو لأن حذفه يدل على عمومه أي تجهلون كل شيء فيدخل فيه
الجهل بالربوبية بالطريق الأولى، وأكد ذلك بأن، وتوسيط قوم
وجعل ما هو المقصود بالأخبار وصفا له ليكون كما قال العلامة
كالمتحقق المعلوم وهذه كما ذكر الشهاب نكتة سرية في الخبر
الموطئ لادعاء أن الخبر لظهور أمره وقيام الدليل عليه كأنه
معلوم متحقق فيفيد تأكيده وتقريره ولولاه لم يكن لتوسيط
الموصوف وجه من البلاغة إِنَّ هؤُلاءِ أي القوم الذين يعكفون
على هذه الأصنام مُتَبَّرٌ أي مدمر مهلك كما قال ابن عباس ما
هُمْ فِيهِ من الدين يعني يدمر الله تعالى دينهم الذي هم عليه
على يدي ويهلك أصنامهم ويجعلها فتاتا وَباطِلٌ أي مضمحل
بالكلية، وهو أبلغ من حمله على خلاف الحق ما كانُوا
يَعْمَلُونَ أي ما استمروا على عمله من عبادتها وإن قصدوا بذلك
التقرب إلى الله تعالى وأن المراد أن ذلك لا ينفعهم أصلا، وحمل
ما كانُوا يَعْمَلُونَ على الأصنام لأنها معمولة لهم خلاف
الظاهر جدا، والجملة تعليل لإثبات الجهل المؤكد للقوم، وفي
إيقاع اسم الإشارة كما في الكشاف اسما لأن وتقديم خبر المبتدأ
من الجملة الواقعة خبرا لها وسم لعبدة الأصنام بأنهم هم
المعرضون للتبار وأنه لا يعدوهم البتة وأنه لهم ضربة لازب
ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض إليهم ما أحبوا، ووجه ذلك على ما
في الكشف أن اسم الإشارة بعد إفادة الإحضار وأكمل التمييز يفيد
أنهم أحقاء بما أخبر عنه به بواسطة ما تقدم من العكوف،
والتقديم يؤذن بأن حال ما هم فيه ليست غير التبار وحال عملهم
ليست إلا البطلان فهم لا يعدونهما فهما لهم ضربة لازب.
وجوز أبو البقاء أن يكون ما هُمْ فِيهِ فاعل متبر لاعتماده على
المسند إليه وهو في نفسه مساو لاحتمال أن يكون ما هم فيه مبتدأ
ومتبر خبر له أو أرجح منه إلا أن المقام كما قال القطب وغيره
اقتضى ذلك فليفهم.
قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً قيل: هذا هو الجواب
وما تقدم مقدمة وتمهيد له، ولعله لذلك أعيد لفظ قال:
وقال شيخ الإسلام: هو شروع في بيان شؤون الله تعالى الموجبة
لتخصيص العبادة به سبحانه بعد بيان أن ما طلبوا عبادته مما لا
يمكن طلبه أصلا لكونه هالكا باطلا أصلا ولذلك وسط بينهما قال
مع كون كل منهما كلام موسى عليه السلام، وقال الشهاب: أعيد لفظ
قال مع اتحاد ما بين القائلين لأن هذا دليل خطابي بتفضيلهم على
العالمين، ولم يستدل بالتمانع العقلي لأنهم عوام انتهى، وفي
إقامة برهان التمانع على الوثنية القائلين إنما نعبدهم
ليقربونا إلى الله زلفى والمجيبين إذا سئلوا من خلق السموات
والأرض بخلقهن الله خفاء، والظاهر إقامته على التنويه كما لا
يخفى، والاستفهام للإنكار وانتصاب (غير) على أنه مفعول أبغيكم
وهو على الحذف والإيصال، والأصل أبغي لكم، وعلى ذلك يخرج كلام
الجوهري وإن كان ظاهره أن الفعل متعد لمفعولين والهاء تمييز،
وجوز أن البقاء أن يكون مفعولا به لأبغي وغير صفة له قدمت
فصارت حالا، وأيا ما كان فالمقصود هنا اختصاص الإنكار بغيره
تعالى دون إنكار الاختصاص، والمعنى أغير المستحق للعبادة أطلب
لكم معبودا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي عالمي
زمانكم أو جميع العالمين، وعليه يكون المراد تفضيلهم بتلك
الآيات لا مطلقا حتى يلزم تفضيلهم على أمة محمد صلّى الله عليه
وسلّم، وأما
(5/40)
الأنبياء والملائكة عليهم السلام فلا
يدخلون في المفضل عليهم بوجه بل هم خارجون عن ذلك بقرينة
عقلية، والجملة حالية مقررة لوجه الإنكار، أي والحال أنه تعالى
خص التفضيل بكم فأعطاكم نعما لم يعطها غيركم، وفيه تنبيه على
ما صنعوا من سوء المعاملة حيث قابلوا التفضل بالتفضيل
والاختصاص بأن قصدوا أن يشركوا به أخس مخلوقاته وهذا الاختصاص
مأخوذ من معنى الكلام وإلا فليس فيه ما يفيد ذلك، وتقديم
الضمير على الخبر لا يفيده وإن كان اختصاصا آخر على ما قيل، أي
هو المخصوص بأنه فضلكم على من سواكم، وجوز أبو البقاء كون
الجملة مستأنفة وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ
بإهلاكهم وتخليصكم منهم، وإذا إما مفعول به لاذكروا محذوفا
بناء على القول بأنها تخرج عن الظرفية أي اذكروا ذلك الوقت
ويكون ذلك كناية عن ذكر ما فيه وإما ظرف لمفعول اذكروا المحذوف
أي اذكروا صنيعنا معكم في ذلك الوقت، وهو تذكير من جهته تعالى
بنعمته العظيمة وقرىء «نجيناكم» من التنجية، وقرأ ابن عامر
«أنجاكم» فيكون من مقول موسى عليه السلام، وقال بعضهم: إنه على
قراءة الجمهور أيضا كذلك على أن ضمير أنجينا لموسى وأخيه
عليهما السلام أو لهما ولمن معهما أوله وحده عليه السلام مشيرا
بالتعظيم إلى تعظيم أمر الإنجاء وهو خلاف الظاهر، وقيل: إنه من
كلام الله تعالى تتميما لكلام موسى عليه السلام كما في قوله
تعالى: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً [طه: 53] بعد قوله سبحانه:
هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً [طه: 53] وهو
كالتفسير لقوله سبحانه: وَهُوَ فَضَّلَكُمْ.
وقوله تعالى: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ أي يولونكم ذلك
ويكلفونكم إياه إما استئناف بياني، كأنه قيل: ما فعل بهم أو مم
أنجوا؟ فأجيب بما ذكر، وإما حال من ضمير المخاطبين أو من آل
فرعون أو منهما معا لاشتماله على ضميرهما. وقوله عزّ اسمه:
يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ بدل من
يسومونكم مبين له، ويحتمل الاستئناف أيضا وَفِي ذلِكُمْ
الإنجاء أو سوء العذاب بَلاءٌ نعمة أو محنة، وقيل: المراد به
ما يشملهما مِنْ رَبِّكُمْ أي مالك أموركم عَظِيمٌ لا يقادر
قدره. وفي الآية التفات على بعض ما تقدم، ثم إن هذا الطلب لم
يكن كما قال محيي السنة البغوي عن شك منهم بوحدانية الله تعالى
وإنما كان غرضهم إلها يعظمونه ويتقربون بتعظيمه إلى الله تعالى
وظنوا أن ذلك لا يضر بالديانة وكان ذلك لشدة جهلهم كما أذنت به
الآيات، وقيل: إن غرضهم عبادة الصنم حقيقة فيكون ذلك ردة منهم،
وأيا ما كان فالقائل بعضهم لا كلهم، وقد اتفق في هذه الأمة نجو
ذلك
فقد أخرج الترمذي وغيره عن أبي واقد الليثي «أن رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم خرج في غزوة حنين فمر بشجرة للمشركين كانوا
يعلقون عليها أسلحتهم ويعكفون حولها يقال لها ذات أنواط فقالوا
يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم «سبحان الله» وفي رواية «الله أكبر»
هذا كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام «اجعل لنا إلها كما
لهم آلهة والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم»
وأخرج الطبراني وغيره من طريق كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه
عن جده «قال غزونا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام
الفتح ونحن ألف ونيف ففتح الله تعالى مكة وحنينا حتى إذا كنا
بين حنين والطائف في أرض فيها سدرة عظيمة كان يناط بها السلاح
فسميت ذات أنواط فكانت تعبد من دون الله فلما رآها رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم صرف عنها في يوم صائف إلى ظل هو أدنى
منها فقال له رجل: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم
ذات أنواط فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنها السنن
قلتم- والذي نفس محمد بيده- كما قالت بنو إسرائيل اجعل لنا
إلها كما لهم آلهة»
وفي هذا الخبر تصريح بأن القائل رجل واحد، ولعل ذلك كان عن جهل
يعذر به ولا يكون به كافرا وإلا لأمره صلّى الله عليه وسلّم
بتجديد الإسلام ولم ينقل ذلك فيما وقفت عليه، والناس اليوم قد
اتخذوا من قبيل ذات الأنواط شيئا كثيرا لا يحيط به نطاق الحصر،
والآمر بالمعروف أعز من بيض الأنوق والامتثال بفرض الأمر منوط
بالعيوق والأمر لله الواحد
(5/41)
القهار وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ
لَيْلَةً
روي أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهم بمصر إن أهلك
الله عدوهم أتاهم بكتاب فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك
فرعون سأل موسى عليه السلام ربه الكتاب فأمره أن يصوم ثلاثين
وهو شهر ذي القعدة فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فمه فتسوك
فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك
فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة.
وأخرج الديلمي عن ابن عباس يرفعه لما أتى موسى عليه السلام ربه
عزّ وجلّ وأراد أن يكلمه بعد الثلاثين وقد صام ليلهن ونهارهن
كره أن يكلم ربه سبحانه وريح فمه ريح فم الصائم فتناول من نبات
الأرض فمضغه فقال له ربه: لم أفطرت؟ وهو أعلم بالذي كان، قال:
أي رب كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيّب الريح، قال: أو ما علمت يا
موسى أن ريح فم الصائم عندي أطيب من ريح المسك؟ ارجع فصم عشرة
أيام ائتني ففعل موسى عليه السلام الذي أمره ربه
وذلك قوله سبحانه: وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ والتعبير عنها
بالليالي كما قيل لأنها غرر الشهور.
وقيل: إنه عليه السلام أمره الله تعالى أن يصوم ثلاثين يوما
وأن يعمل فيها بما يقربه من الله تعالى ثم أنزلت عليه التوراة
وكلم فيها، وقد أجمل ذكر الأربعين في البقرة وفصل هنا،
وَواعَدْنا بمعنى وعدنا، وبذلك قرأ أبو عمرو ويعقوب، ويجوز أن
تكون الصيغة على بابها بناء على تنزيل قبول موسى عليه السلام
منزلة الوعد، وقد تقدم تحقيقه.
وثَلاثِينَ كما قال أبو البقاء مفعول ثان لواعدنا بحذف المضاف
أي إتمام ثلاثين ليلة أو إتيانها فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً من قبيل الفذلكة لما تقدم، وكأن النكتة
في ذلك أن إتمام الثلاثين بعشر يحتمل المعنى المتبادر وهو ضم
عشرة إلى ثلاثين لتصير بذلك أربعين، ويحتمل أنها كانت عشرين
فتمت بعشرة ثلاثين كما يقال أتممت العشرة بدر همين على معنى
أنها لولا الدرهمان لم تصر عشرة فلدفع توهم الاحتمال الثاني
جيء بذلك، وقيل: إن الإتمام بعشر مطلق يحتمل أن يكون تعيينها
بتعيين الله تعالى أو بإرادة موسى عليه السلام فجيء بما ذكر
ليفيد أن المراد الأول، وقيل: جيء به رمزا إلى أنه لم يقع في
تلك العشر ما يوجب الجبر، والميقات بمعنى الوقت، وفرق جمع
بينهما بأن الوقت مطلق والميقات وقت قدر فيه عمل من الأعمال
ومنه مواقيت الحج، ونصب أَرْبَعِينَ قيل: على الحالية أي بالغا
أربعين، ورده أبو حيان بأنه على هذا يكون معمولا للحال المحذوف
لا حالا، وأجيب بأن النحويين يطلقون الحكم الذي للعامل لمعموله
القائم مقامه فيقولون في زيد في الدار إن الجار والمجرور خبر
مع أن الخبر إنما هو متعلقه. وتعقب بأن الذي ذكره النحاة في
الظرف دون غيره فالأحسن أنه حال بتقدير معدودا، وفيه أن دعوى
تخصيص الذكر في الظرف خلاف الواقع كما لا يخفى على المتتبع،
وأن ما زعمه أحسن مما تقدم يرد عليه ما يرد عليه، وقيل:
إنه تمييز، وقيل: إنه مفعول به بتضمين تم معنى بلغ، وقيل: إن
تم من الأفعال الناقصة وهذا خبره وهو خبر غريب، وقيل: إنه
منصوب على الظرفية. وأورد عليه أنه كيف تكون الأربعين ظرفا
للتمام والتمام إنما هو بآخرها إلا أن يتجوز فيه.
وَقالَ مُوسى حين توجه إلى المناجاة حسبما أمر به لِأَخِيهِ
هارُونَ اسم أعجمي عبراني لم يقع في كلام العرب بطريق الأصالة،
ويكتب بدون ألف، وهو هنا بفتح النون على أنه مجرور بدلا من
أخيه أو بيانا له، أو منصوب مفعولا به لمقدر أعني أعني وقرىء
شاذا بالضم على أنه خبر مبتدأ محذوف هو هو أو منادى حذف منه
حرف النداء أي يا هارون اخْلُفْنِي أي كن خليفتي فِي قَوْمِي
وراقبهم فيما يأتون وما يذرون، واستخلافه عليه السلام لأخيه مع
أنه عليه السلام كان نبيا مرسلا مثله قيل: لأن الرياسة كانت له
دونه، واجتماع الرياسة مع الرسالة والنبوة ليس أمر لازما كما
يرشد إلى ذلك سير قصص أنبياء بني إسرائيل، وذكر الشيخ الأكبر
قدس سره في فتوحاته أن
(5/42)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى
لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي
أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى
الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي
فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ
مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ
إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا
مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي
وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ
(144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ
وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ
الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ
يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ
يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا
سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا
سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ
حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ
مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا
أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا
اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي
أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ
لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ
غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ
بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ
وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ
أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا
يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا
تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ
اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا
الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ
(152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ
بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ
رَحِيمٌ (153)
هارون ذكر له أنه نبي بحكم الأصالة ورسول
بحكم التبعية فلعل هذا الاستخلاف من آثار تلك التبعية، وقيل:
إن هذا كما يقول أحد المأمورين بمصلحة للآخر إذا أراد الذهاب
لأمر: كن عوضا عني على معنى ابذل غاية وسعك ونهاية جهدك بحيث
يكون فعلك فعل شخصين وَأَصْلِحْ ما يحتاج إلى الإصلاح من أمور
دينهم، أو كن مصلحا على أنه منزل منزلة اللازم من غير تقدير
مفعول.
وعن ابن عباس أنه يريد الرفق بهم والإحسان إليهم، وقيل: المراد
احملهم على الطاعة والصلاح وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ
الْمُفْسِدِينَ أي ولا تتبع سبيل من سلك الإفساد بدعوة
وبدونها، وهذا من باب التوكيد كما لا يخفى.
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا أي لوقتنا الذي وقتناه أي
لتمام الأربعين، واللام للاختصاص كما في قوله
(5/43)
سبحانه: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء: 78]
وهي بمعنى عند عند بعض النحويين وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ من غير
واسطة بحرف وصوت ومع هذا لا يشبه كلام المخلوقين ولا محذور في
ذلك كما أوضحناه في الفائدة الرابعة، وإلى ما ذكره ذهب السلف
الصالح،
وقد أخرج البزار وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية. والبيهقي
في الأسماء والصفات عن جابر قال: قال «رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم: لما كلم الله تعالى موسى يوم الطور كلمه بغير
الكلام الذي كلمه يوم ناداه فقال له موسى: يا رب أهذا كلامك
الذي كلمتني به؟ قال يا موسى: أنا كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان
ولي قوة الألسن كلها وأقوى من ذلك فلما رجع موسى إلى بني
إسرائيل قالوا: يا موسى صف لنا كلام الرحمن، فقال: لا
تستطيعونه ألم تروا إلى صوت الصواعق الذي يقبل في أحلى حلاوة
سمعتوه فذاك قريب منه وليس به» .
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي الحويرث
عبد الرحمن بن معاوية قال: «إنما كلم الله تعالى موسى بقدر ما
يطيق من كلامه ولو تكلم بكلامه كله لم يطقه شيء» وأخرج جماعة
عن كعب قال: «لما كلم الله تعالى موسى كلمه بالألسنة كلها فجعل
يقول: يا رب لا أفهم حتى كلمه آخر الألسنة بلسانه بمثل صوته»
الخبر، وأخرجوا عن ابن كعب القرظي أنه قال: قيل لموسى عليه
السلام ما شبهت كلام ربك مما خلق؟ فقال عليه السلام: بالرعد
الساكن،
وأخرج الديلمي عن أبي هريرة مرفوعا لما خرج أخي موسى إلى
مناجاة ربه كلمه ألف كلمة ومائتي كلمة فأول ما كلمه بالبربرية،
ونقل عن الأشعري أن موسى عليه السلام إنما سمع الكلام النفسي
القائم بذات الله تعالى ولم يكن ما سمعه مختصا بجهة من الجهات،
وحمله الى سماع بالفعل مشكل مع الأخبار الدالة على خلافه
والظاهر أن ذلك إن صح نقله فهو قول رجع عنه إلى مذهب السلف
الذي أبان عن اعتقاده له في الإبانة قالَ رَبِّ أَرِنِي أي
ذاتك أو نفسك فالمفعول الثاني محذوف لأنه معلوم، ولم يصرح به
تأدبا أَنْظُرْ إِلَيْكَ مجزوم في جواب الدعاء، واستشكل بأن
الرؤية مسببة عن النظر متأخرة عنه كما يريك ذلك النظر إلى
قولهم: نظرت إليه فرأيته، ووجهه أن النظر تقليب الحدقة نحو
الشيء التماسا لرؤيته والرؤية الإدراك بالباصرة بعد التقليب
وحينئذ كيف يجعل النظر جوابا لطلب الرؤية مسببا عنه وهو عكس
القضية.
وأجيب بأن المراد بالإراءة ليس إيجاد الرؤية بل التمكن منها
مطلقا أو بالتجلي والظهور وهو مقدم على النظر وسبب له، ففي
الكلام ذكر الملزوم وإرادة اللازم أي مكنى من رؤيتك أو تجل لي
فأنظر إليك وأراك قالَ استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال رب
العزة حين قال موسى عليه السلام ذلك، فقيل: قال: لَنْ تَرانِي
أي لا قابلية لك لرؤيتي وأنت على ما أنت عليه، وهو نفي للإراءة
المطلوبة على أتم وجه وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ استدراك
لبيان أنه عليه السلام لا يطيق الرؤية، والمراد من الجبل طور
سيناء كما ورد في غير ما خبر، وفي تفسير الخازن وغيره أن اسمه
زبير بزاي مفتوحة وباء موحدة مكسورة وراء مهملة بوزن أمير
فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ ولم يفتته التجلي فَسَوْفَ تَرانِي
إذا تجليت لك فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أي ظهر له
على الوجه اللائق بجنابه تعالى بعد جعله مدركا لذلك جَعَلَهُ
دَكًّا أي مدكوكا متفتتا، والدك والدق اخوان كالشك والشق. وقال
شيخنا الكوراني: إن الجبل مندرج في الأشياء التي تسبح بحمد
الله بنص وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ
[الإسراء: 44] المحمول على ظاهره عند التحقيق المستلزم لكونه
حيا مدركا حياة وإدراكا لائقين بعالمه ونشأته، وقيل: هذا مثل
لظهور اقتداره سبحانه وتعلق إرادته بما فعل بالجبل لا أن ثم
تجليا وهو نظير ما قرر في قوله تعالى: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ [يس:
82] من أن المراد أن ما قضاه سبحانه وأراد كونه يدخل تحت
الوجود من غير توقف لا أن ثمة قولا. وتعقبه صاحب الفرائد بأن
هذا المعنى غير مفهوم من الآية لأن تجلى مطاوع جليته أي أظهرته
يقال: جليته فتجلى أي أظهرته فظهر
(5/44)
ولا يقدر تجلي اقتداره لأنه خلاف الأصل،
على أن هذا الحمل بعيد عن المقصود بمراحل.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي والحاكم وصححاه. والبيهقي
وغيرهم من طرق عن أنس بن مالك «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم
قرأ هذه الآية فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ إلخ قال هكذا وأشار
بإصبعيه ووضع طرف إبهامه على أنملة الخنصر- وفي لفظ- على
المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل»
وعن ابن عباس أنه قال ما تجلى منه سبحانه للجبل إلا قدر الخنصر
فجعله ترابا، وهذا كما لا يخفى من المتشابهات التي يسلك فيها
طريق التسليم وهو أسلم وأحكم أو التأويل بما يليق بجلال ذاته
تعالى. وقرأ حمزة والكسائي «دكاء» بالمد أي أرضا مستوية، ومنه
قولهم ناقة دكاء للتي لم يرتفع سنامها. وقرأ يحيى بن وثاب
«دكا» بضم الدار والتنوين جمع دكاء كحمر وحمراء أي قطعا دكا
فهو صفة جمع، وفي شرح التسهيل لأبي حيان أنه أجري مجرى الأسماء
فأجري على المذكر وَخَرَّ مُوسى أي سقط من هول ما رأى، وفرق
بعضهم بين السقوط والخرور بأن الأول مطلق والثاني سقوط له صوت
كالخرير صَعِقاً أي صاعقا وصائحا من الصعقة، والمراد أنه سقط
مغشيا عليه عند ابن عباس والحسن رضي الله تعالى عنهم وميتا عند
قتادة.
روي أنه بقي كذلك مقدار جمعة، وعن ابن عباس أنه عليه السلام
أخذته الغشية عشية يوم الخميس يوم عرفة إلى عشية يوم الجمعة،
ونقل بعض القصاصين أن الملائكة كانت تمر عليه حينئذ فيلكزونه
بأرجلهم ويقولون يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة
وهو كلام ساقط لا يعول عليه بوجه، فإن الملائكة عليهم السلام
مما يجب تبرئتهم من إهانة الكليم بالوكز بالرجل والغض في
الخطاب فَلَمَّا أَفاقَ بأن عاد إلى ما كان عليه قبل وذلك بعود
الروح إليه على ما قال قتادة أو بعود الفهم والحس على ما قال
غيره، والمشهور أن الافاقة رجوع العقل والفهم إلى الإنسان بعد
ذهابهما عنه بسبب من الأسباب، ولا يقال للميت إذا عادت إليه
روحه أفاق وإنما يقال ذلك للمغشي عليه ولهذا اختار الأكثرون ما
قاله الحبر قالَ تعظيما لأمر الله سبحانه سُبْحانَكَ أي تنزيها
لك من مشابهة خلقك في شيء، أو من أن يثبت أحد لرؤيتك على ما
كان عليه قبلها، أو من أن أسألك شيئا بغير إذن منك تُبْتُ
إِلَيْكَ من الإقدام على السؤال بغير إذن، وقيل: من رؤية وجودي
والميل مع إرادتي وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بعظمتك
وجلالك أو بأنه لا يراك أحد في هذه النشأة فيثبت على ما قيل،
وأراد كما قال الكوراني أنه أول المؤمنين بذلك عن ذوق مسبوق
بعين اليقين في نظره، وقيل: أراد أول المؤمنين بأنه لا يجوز
السؤال بغير إذن منك.
واستدل أهل السنة المجوزون لرؤيته سبحانه بهذه الآية على
جوازها في الجملة، واستدل بها المعتزلة النفاة على خلاف ذلك
وقامت الحرب بينهما على ساق، وخلاصة الكلام في ذلك أن أهل
السنة قالوا: إن الآية تدل على إمكان الرؤية من وجهين. الأول
أن موسى عليه السلام سألها بقوله: رَبِّ أَرِنِي إلخ، ولو كانت
مستحيلة فإن كان موسى عليه السلام عالما بالاستحالة فالعاقل
فضلا عن النبي مطلقا فضلا عمن هو من أولي العزم لا يسأل المحال
ولا يطلبه، وإن لم يكن عالما لزم أن يكون آحاد المعتزلة ومن
حصل طرفا من علومهم أعلم بالله تعالى وما يجوز عليه وما لا
يجوز من النبي الصفي، والقول بذلك غاية الجهل والرعونة، وحيث
بطل القول بالاستحالة تعين القول بالجواز، والثاني أن فيها
تعليق الرؤية على استقرار الجبل وهو ممكن في نفسه وما علق على
الممكن ممكن. واعترض الخصوم الوجه الأول بوجوه. الأول أنا لا
نسلم أن موسى عليه السلام سأل الرؤية وإنما سأل العلم الضروري
به تعالى إلا أنه عبر عنه بالرؤية مجازا لما بينهما من
التلازم. والتعبير بأحد المتلازمين عن الآخر شائع في كلامهم،
وإلى هذا ذهب أبو الهذيل بن العلاف وتابعه عليه الجبائي وأكثر
البصريين. الثاني أنا سلمنا أنه لم يسأل العلم بل سأل الرؤية
حقيقة لكنا نقول: إنه سأل رؤية علم من أعلام الساعة بطريق حذف
المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فمعنى
(5/45)
أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أرني أنظر إلى
علم من أعلامك الدالة على الساعة، وإلى هذا ذهب الكعبي
والبغداديون، الثالث أنا سلمنا أنه سأل رؤية الله تعالى نفسه
حقيقة ولكن لم يكن ذلك لنفسه عليه السلام بل لدفع قومه لقائلي
أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: 153] وإنما أضاف الرؤية
إليه دونهم ليكون منعه أبلغ في دفعهم وردعهم عما سألوه تنبيها
بالأعلى على الأدنى، وإلى هذا ذهب الجاحظ ومتبعوه، الرابع أنا
سلمنا أنه سأل لنفسه لكن لا نسلم أن ذلك ينافي العلم بالإحالة
إذ المقصود من سؤالها إنما هو أن يعلم الإحالة بطريق سمعي مضاف
إلى ما عنده من الدليل العقلي لقصد التأكيد، وذلك جائز كما يدل
عليه طلب إبراهيم عليه السلام اراءة كيفية إحياء الموتى،
وقوله: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] وإلى ذلك
ذهب أبو بكر الأصم، الخامس أنا سلمنا أن سؤال الرؤية ينافي
العلم بالإحالة لكنا نلتزم القول بعدم العلم وهو غير قادح في
نبوته عليه السلام فإن النبوة لا تتوقف على العلم بجميع
العقائد الحقة أو جميع ما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز بل على
ما يتوقف عليه الغرض من البعثة والدعوة إلى الله تعالى وهو
وحدانيته وتكليف عباده بالأوامر والنواهي تحريضا لهم على
النعيم المقيم، وليس امتناع الرؤية من هذا القبيل، ويؤيد ذلك
أنه سأل وقوع الرؤية في الدنيا وهي غير واقعة عندنا وعندكم،
ونسب هذا القول إلى الحسن منا وهو غريب منه.
السادس أنا سلمنا العلم بالإحالة لكن لا نسلم امتناع السؤال
وإنما يمتنع أن لو كان محرما في شرعه لم لا يجوز أن لا يكون
محرما؟، السابع أنا سلمنا الحرمة لكن لا نسلم أن ذلك كبيرة لم
لا يجوز أن يكون صغيرة وهي غير ممتنعة على الأنبياء عليهم
السلام؟. وتكلموا على الوجه الثاني من وجهين: الأول أنا لا
نسلم أنه علق الرؤية على أمر ممكن لأن التعليق لم يكن على
استقرار الجبل حال سكونه وإلا لوجدت الرؤية ضرورة وجود الشرط
لأن الجبل حال سكونه كان مستقرا بل على استقراره حال حركته وهو
محال لذاته، والثالث أنا وإن سلمنا أن استقرار الجبل ممكن لكن
لا نسلم أن المعلق بالممكن ممكن فإنه يصح أن يقال: إن انعدم
المعلول انعدمت العلة، والعلة قد تكون ممتنعة العدم مع إمكان
المعلول في نفسه كالصفات بالنسبة إلى الذات عند المتكلمين،
والعقل الأول بالنسبة إليه تعالى عند الحكماء، فيجوز أن تكون
الرؤية الممتنعة متعلقة بالاستقرار الممكن، والسر في جواز ذلك
أن الارتباط بين المعلق والمعلق عليه إنما هو بحسب الوقوع
بمعنى أنه إن وقع عدم المعلول وقع عدم العلة، والممكن الذاتي
قد يكون ممتنع الوقوع الذاتي فيجوز التعليق بينهما وليس
الارتباط بينهما بحسب الإمكان حتى يلزم إمكان المعلق عليه
إمكان المعلق، ثم إنا وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه من الوجهين
على جواز الرؤية فهو معارض بما يدل على عدم الجواز فإن لَنْ في
الآية لتأبيد النفي وتأكيده وأيضا قول موسى عليه السلام:
تُبْتُ إِلَيْكَ دليل كونه مخطئا في سؤاله ولو كانت الرؤية
جائزة لما كان مخطئا، والزمخشري عامله الله تعالى بعدله زعم أن
الآية أبلغ دليل على عدم إمكان الرؤية، وذكر في كشافه ما ذكر
وقال: ثم أعجب من المتسمين بالإسلام المسمين بأهل السنة
والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبا ولا يغرنك تسترهم
بالبلكفة فإنه من منصوبات أشياخهم، والقول ما قال بعض العدلية
فيهم:
وجماعة سموا هواهم سنة ... لجماعة حمر لعمري موكفه
قد شبهوه بخلقه وتخوفوا ... شنع الورى فتستروا بالبلكفه
وأجيب عن قولهم: إنه عليه السلام إنما سأل العلم الضروري بأنه
لو كانت الرؤية بمعنى العلم الضروري لكان النظر المذكور بعد
أيضا بمعناه وليس كذلك، فإن النظر الموصول بإلى نص في الرؤية
لا يحتمل سواه فلا يترك للاحتمال. وفي شرح المواقف أن طلب
العلم الضروري لمن يخاطبه ويناجيه غير معقول، وأورد عليه أن
المراد هو العلم بهويته الخاصة، والخطاب لا يقتضي إلا العلم
بوجه كمن يخاطبنا من وراء الجدار، والمراد بالعلم بالهوية
(5/46)
الخاصة انكشاف هويته تعالى على وجه جزئي
بحيث لا يمكن عند العقل صدقه على كثيرين كما في المرئي بحاسة
البصر، ولا شك في كونه ممكنا في حقه تعالى لأنه قادر على أن
يخلق في العبد علما ضروريا بهويته الخاصة على الوجه الجزئي
بدون استعمال الباصرة كما يخلق بعده، وفي عدم لزومه الخطاب
فإنه إنما يقتضي العلم بالمخاطب بأمور كلية يمكن صدقها على
كثيرين عند العقل وإن كانت في الخارج منحصرة في شخص واحد فهو
من قبيل التعقل، وبهذا التحرير يعلم رصانة الإيراد ودفع ما
أورد عليه، ويظهر منه ركاكة ما قاله الآمدي. من أن حمل الرؤية
على العلم يلزم منه أن يكون موسى عليه السلام غير عالم بربه
لئلا يلزم تحصيل الحاصل، ونسبة ذلك إلى الكليم من أعظم
الجهالات لأنا نقول العلم بالهوية الخاصة على ما ذكرنا ليس من
ضروريات النبوة ولا المكالمة كما لا يخفى. نعم يأبى هذا الحمل
التعدية كما علمت ويبعده الجواب بلن تراني ولكن انظر إلخ كما
هو ظاهر وإن تكلف له الزمخشري بما تمجه الأسماع.
وقيل: إنه لو ساغ هذا التأويل لساغ مثله في أَرِنَا اللَّهَ
جَهْرَةً [النساء: 153] لتساوي الدلالة وهو ممتنع بالإجماع
وجهرة لا يزيد على كون النظر موصولا بإلى. وأجيب عن قولهم:
إنما سأله أن يريه علما من أعلام الساعة بأنه لا يستقيم لثلاثة
أوجه.
أحدها أنه خلاف الظاهر من غير دليل. ثانيها أنه أجيب بلن تراني
وهو إن كان محمولا على نفي ما وقع السؤال عنه من رؤية بعض
الآيات فهو خلف فإنه قد أراه سبحانه أعظم الآيات وهو تدكدك
الجبل، وإن كان محمولا على نفي الرؤية لزم أن لا يكون الجواب
مطابقا للسؤال. ثالثها أن قوله سبحانه: فَإِنِ اسْتَقَرَّ
مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي إن كان محمولا على رؤية الآية فهو
محال لأن الآية ليس في استقرار الجبل بل في تدكدكه، وإن كان
محمولا على الرؤية لا يكون مرتبطا بالسؤال، فإذن لا ينبغي حمل
ما في الآية على رؤية الآية، وعن قولهم: إن الرؤية وقعت لدفع
قومه بأن ذلك خلاف الظاهر من غير دليل، وكون الدليل أخذ الصعقة
ليس بشيء. وأيضا كان يجب عليه عليه السلام أن يبادر إلى ردعهم
وزجرهم عن طلب ما لا يليق بجلال الله تعالى كما قال إِنَّكُمْ
قَوْمٌ تَجْهَلُونَ عند قولهم: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما
لَهُمْ آلِهَةٌ وقولهم: إن المقصود ضم الدليل السمعي إلى
العقلي ليس بشيء إذ ذلك كان يمكن بطلب إظهار الدليل السمعي له
من غير أن يطلب الرؤية مع إحالتها، وقصته تقدم الكلام فيها،
وما ذكروه في الوجه الخامس ظاهر رده من تقرير الوجه الأول من
الوجهين اللذين ذكرهما أهل السنة، وحاصله أنه يلزمهم أن يكون
الكليم عليه السلام دون آحاد المعتزلة علما ودون من حصل طرفا
من الكلام في معرفة ما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز، وهذه كلمة
حمقاء وطريقة عوجاء لا يسلكها أحد من العقلاء، فإن كون
الأنبياء عليهم السلام أعلم ممن عداهم بذاته تعالى وصفاته
العلا مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان، وكون الرؤية في الدنيا
غير واقعة عند الفريقين إن أريد به أنها غير ممكنة الوقوع فهو
أول المسألة وإن أريد أنها ممكنة لكنها لا تقع لأحد فلا نسلم
أنه أجمع على ذلك الفريقان، أما المعتزلة فلأنهم لا يقولون
بإمكانها، وأما أهل السنة فلأن كثيرا منهم ذهب إلى أنها وقعت
لنبينا صلّى الله عليه وسلّم ليلة الإسراء، وهو قول ابن عباس.
وأنس وغيرهما، وقول عائشة رضي الله تعالى عنها: من زعم أن
محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليلة الإسراء، وهو قول ابن عباس.
وأنس وغيرهما، وقول عائشة رضي الله تعالى عنها: من زعم أن
محمدا صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه فقد أعظم على الله سبحانه
الفرية مدفوع أو مؤول بأن المراد من زعم أن محمدا صلّى الله
عليه وسلّم في نوره الذي هو نوره أعني النور الشعشعاني الذي
يذهب بالأبصار، وهو المشار إليه
في حديث «لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره»
فقد أعظم الفرية، ومن هذا يعلم ما في احتمال إرادة عدم الوقوع
مع قطع النظر عن الإمكان وعدمه. وقولهم: إنه يجوز أن لا يكون
ذلك الطلب محرما في شرعه فلا يمتنع يرد عليه أن دليل الحرمة
ظاهر، فإن طلب المحال لو لم يكن حراما في شرعه عليه السلام لما
بلغ في التشنيع على قومه حين طلبوا ما طلبوا على أنا لو سلمنا
أنه ليس بحرام يقال: إنه لا فائدة فيه وما
(5/47)
كان كذلك فمنصب النبوة منزه عنه، ومن هذا
يعلم ما في قولهم الأخير.
وأجيب عن قولهم: إن المعلق عليه هو استقرار الجبل حال حركته
بأنهم إن أرادوا أن الشرط هو الاستقرار حال وجود الحركة مع
الحركة فهو زيادة إضمار وترك لظاهر اللفظ من غير دليل فلا يصح،
وإن أرادوا أن الشرط هو الاستقرار في الحالة التي وجدت فيها
الحركة بدلا عن الحركة فلا يخفى جوازه، فكيف يدعى أنه محال
لذاته؟، وبعضهم قال في الرد: إن المعلق عليه استقرار الجبل بعد
النظر بدليل الفاء، وحين تعلقت إرادة الله تعالى بعدم استقراره
عقيب النظر استحال استقراره وإن كان بالغير فعدل عن القول
بالمحال بالذات إلى القول بالمحال بالغير لأن الغرض يتم به
أيضا، وتعقبه السالكوتي وغيره بأنه ليس بشيء لأن استقرار الجبل
حين تعلق إرادته تعالى بعدم استقراره أيضا ممكن بأن يقع بدله
الاستقرار إنما المحال استقراره مع تعلق إرادته سبحانه بعدم
الاستقرار، ولبعض فضلاء الروم هاهنا كلام نقله الشهاب لا تغرنك
قعقعته فإن الظواهر لا تترك لمجرد الاحتمال المرجوح، وأجيب عن
قولهم لا نسلم أن المعلق بالممكن ممكن إلخ بأن المراد بالممكن
المعلق عليه الممكن الصرف والخالي عن الامتناع مطلقا، ولا شك
أن إمكان المعلول فيما امتنع عدم علته ليس كذلك بل التعليق
بينهما إنما هو بحسب الامتناع بالغير فإن استلزام عدم الصفات
وعدم العقل الأول عدم الواجب من حيث إن وجود كل منهما واجب
وعدمه ممتنع بوجود الواجب، وأما بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر
عن الأمور الخارجة فلا استلزام بخلاف استقرار الجبل فإنه ممكن
صرف غير ممتنع لا بالذات ولا بالعرض كما لا يخفى، على أن بعضهم
نظر في صحة المثال لغة وإن كان فيه ما فيه، وما قيل: إنه ليس
المقصود في الآية بيان جواز الرؤية وعدم جوازها إذ هو غير
مسؤول عنه بل المقصود إنما هو بيان عدم وقوعها وعدم الشرط
متكفل بذلك كلام لا طائل تحته، إذ الجواز وعدم الجواز من
مستتبعات التعليق بإجماع جهابذة الفريقين، وما ذكروه في
المعارضة من أن «لن» تفيد تأبيد النفي غير مسلم، ولو سلّم
فيحتمل أن ذلك بالنسبة إلى الدنيا كما في قوله تعالى: وَلَنْ
يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة: 95] فإن إفادة التأبيد فيه
أظهر، وقد حملوه على ذلك أيضا لأنهم يتمنونه في الآخرة للتخلص
من العقوبة، ومما يهدي إلى هذا أن الرؤية المطلوبة إنما هي
الرؤية في الدنيا وحق الجواب أن يطابق السؤال، وقد ورد عنه
صلّى الله عليه وسلّم ما يدل على أن نفي الرؤية مقيد لا مطلق
فليتبع بيانه عليه الصلاة والسلام،
فقد أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول. وأبو نعيم في الحلية
عن ابن عباس قال «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه
الآية رَبِّ أَرِنِي إلخ فقال: قال الله تعالى يا موسى إنه لا
يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده ولا رطب إلا تفرق وإنما
يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسادهم»
وهذا ظاهر في أن مطلوب موسى عليه السلام كان الرؤية في الدنيا
مع بقائه على حالته التي هو عليها حين السؤال من غير أن يعقبها
صعق لأن قوله عزّ وجلّ: إنه لن يراني حي إلخ لا ينفي إلا
الرؤية في الدنيا مع الحياة لا الرؤية مطلقا، فمعنى لَنْ
تَرانِي في الآية لن تراني وأنت باق على هذه الحالة لا لن
تراني في الدنيا مطلقا فضلا عن أن يكون المعنى لن تراني مطلقا
لا في الدنيا ولا في الآخرة. نعم إن هذا الحديث مخصص بما
صح مرفوعا وموقوفا أنه صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه ليلة
الإسراء مع عدم الصعق،
ولعل الحكمة في اختصاصه صلّى الله عليه وسلّم بذلك أن نشأته
عليه الصلاة والسلام أكمل نشأة وأعدلها صورة ومعنى لجامعيته
صلّى الله عليه وسلّم للحقائق على وجه الاعتدال وهي فيه
متجاذبة ومقتضى ذلك الثبات بإذن الله تعالى ومع ذلك فلم يقع له
التجلي إلا في دار البقاء فاجتمع مقتضى الموطن مع مقتضى كمال
اعتدال النشأة، وقد يقال أيضا على سبيل التنزيل: لو سلمنا
دلالة لن على التأبيد مطلقا لكان غاية ذلك انتفاء وقوع الرؤية
ولا يلزم منه انتفاء الجواز، والمعتزلة يزعمون ذلك وقولهم:
قوله عليه السلام تُبْتُ إِلَيْكَ يدل على كونه مخطئا ليس بشيء
لأن التوبة قد تطلق بمعنى الرجوع وإن لم يتقدمها ذنب، وعلى هذا
فلا يبعد أن يكون المراد من تبت إليك أي رجعت إليك عن طلب
الرؤية.
(5/48)
وذكر ابن المنير أن تسبيح موسى عليه السلام
لما تبين له من أن العلم قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا
والله تعالى مقدس عن وقوع خلاف معلومه، وأما التوبة في حق
الأنبياء عليهم السلام فلا يلزم أن تكون عن ذنب لأن منزلتهم
العلية تصان عن كل ما يحط عن مرتبة الكمال، وكان عليه عليه
السلام نظرا إلى علو شأنه أن يتوقف في سؤال الرؤية على الإذن
فحيث سأل من غير إذن كان تاركا الأولى بالنسبة إليه،
وقد ورد «حسنات الأبرار سيئات المقربين» ،
وذكر الإمام الرازي نحو ذلك. وقال الآمدي: إن التوبة وإن كانت
تستدعي سابقية الذنب إلا أنه ليس هناك ما يدل قطعا على أن
الذنب في سؤاله بل جاز أن تكون التوبة عما تقدم قبل السؤال مما
يعده هو عليه السلام ذنبا والداعي لذلك ما رأى من الأهوال
العظيمة من تدكدك الجبل على ما هو عادة المؤمنين الصلحاء من
تجديد التوبة عما سلف إذا رأوا آية وأمرا مهولا، وذكر أن قوله
عليه السلام: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ليس المراد منه
ابتداء الإيمان في تلك الحالة بل المراد به إضافة الأولية إليه
لا إلى الإيمان، ولعل المراد من ذلك الإخبار الاستعطاف لقبول
توبته عليه السلام عما هو ذنب عنده، وأراد بالمؤمنين قومه على
ما روي عن مجاهد، وما يشير إليه كلام الزمخشري من أن الآية
أبلغ دليل على عدم إمكان الرؤية لا يخفى ما فيه على من أحاط
خبرا بما ذكرناه، ومن المحققين من استند في دلالة الآية على
إمكانها بغير ما تقدم أيضا، وهو أنه تعالى أحال انتفاء الرؤية
على عجز الرائي وضعفه عنها حيث قال له: لَنْ تَرانِي ولو كانت
رؤيته تعالى غير جائزة لكان الجواب لست بمرئي، ألا ترى لو قال:
أرني أنظر إلى صورتك ومكانك لم يحسن في الجواب أن يقال لن ترى
صورتي ولا مكاني بل الحسن لست بذي صورة ولا مكان. وقال بعضهم
بعد أن بين كون الآية دليلا على أن الرؤية جائزة في الجملة
ببعض ما تقدم: ولذلك رده سبحانه بقوله: لَنْ تَرانِي دون لن
أرى ولن أريك ولن تنظر إلي تنبيها على أنه عليه السلام قاصر عن
رؤيته تعالى لتوقفها على معد في الرائي ولم يوجد فيه بعد، وذلك
لأن لن أرى يدل على امتناع الرؤية مطلقا ولن أريك يقتضي أن
المانع من جهته تعالى، وليس في لن تنظر تنبيه على المقصود لأن
النظر لا يتوقف على معد وإنما المتوقف عليه الرؤية والإدراك،
وعلل النيسابوري عدم كون الجواب لن تنظر إلى المناسب لأنظر
إليك بأن موسى عليه السلام لم يطلب النظر المطلق وإنما طلب
النظر الذي معه الإدراك بدليل أرني. وانتصر بعضهم للمعتزلة بأن
لهم أن يقولوا: إن طلب الاراءة متضمن لطلب رفع الموانع من
الرؤية وإيجاد ما تتوقف هي عليه لأن معنى ذلك مكني من الرؤية
والتمكين إنما يتم بما ذكر من الرفع والإيجاد، وكان الظاهر في
رد هذا الطلب لن أمكنك من رؤيتي لكن عدل عنه إلى لن تراني
إشارة إلى استحالة الرؤية وعدم وقوعها بوجه من الوجوه، كأنه
قيل: إن رؤيتك لي أمر محال في نفسه وتمكيني إنما يكون من
الممكن، ولو لم يكن المراد ذلك بل كان المراد أنك لا قابلية لك
لرؤيتي لكان لموسى عليه السلام أن يقول يا رب أنا أعلم عدم
القابلية لكني سألتك التمكين وهو متضمن لسؤال إيجادها لأنها
مما تتوقف الرؤية عليه، فعلى هذا لا يكون الجواب مفيدا لموسى
عليه السلام ولا مقنعا له بخلافه على الأول، فيكون حينئذ هو
المتعين. فإن قيل: القابلية وعدم القابلية من توابع الاستعداد
وعدم الاستعداد وهما غير مجعولين، قلنا: هذا على ما فيه من
الكلام العريض والنزاع الطويل مستلزم لمطلوبنا من امتناع
الرؤية كما لا يخفى على من له أدنى استعداد لفهم الحقائق.
وأجيب بأن طلب التمكين من شيء إنما يتضمن طلب رفع الموانع التي
في جانب المطلوب منه فقط على ما هو الظاهر لا مطلقا بحيث يشمل
ما كان في جانب المطلوب منه وما كان في جانب الطالب، ويرشد إلى
ذلك أن قولك:
لم يمكنّي زيد من قتل عمرو مثلا ظاهر في أنه حال بينك وبين
قتله مع تهيئك له وارتفاع الموانع التي من قبلك عنه، فكأن موسى
عليه السلام لما كلمه ربه هاج به الشوق إلى الرؤية كما قال
الحسن: لأن عدو الله إبليس غاص في
(5/49)
الأرض حتى خرج من بين قدميه فوسوس إليه أنّ
مكلمك شيطان فعند ذلك سألها كما قال السدي: وأعوذ بالله من
اعتقاده فذهل عن نفسه وما فيها من الموانع فلم يخطر بباله إلا
طلب رفع الموانع عنها من قبل الرب سبحانه فنبهه جل شأنه بقوله:
لَنْ تَرانِي على وجود المانع فيه عن الرؤية وهو الضعف عن
تحملها وأراه ضعف من هو أقوى منه عن ذلك بدك الجبل عند تجليه
له، ففائدة الاستدراك على هذا أن يتحقق عنده عليه السلام أنه
أضعف من أن يقوم لتجلي الرؤية، وهو على ما هو عليه، ويمكن أن
تكون التوبة منه عليه السلام بعد أن أفاق من هذه الغفلة،
وحينئذ لا شك أن الجواب ب لَنْ تَرانِي إلخ مفيد مقنع.
هذا وذكر بعض المحققين أن حاصل الكلام في هذا المقام أن موسى
عليه السلام كان عالما بإمكان الرؤية ووقوعها في الدنيا لمن
شاء الله تعالى من عباده عقلا والشروط التي تذكر لها ليست
شروطا عقلية وإنما هي شروط عادية ولم يكن عالما بعدم الوقوع مع
عدم تغير الحال حتى سمع ذلك من الرب المتعال، وليس في عدم
العلم بما ذكر نقص في مرتبته عليه السلام لأنه من الأمور
الموقوفة على السمع، والجهل بالأمور السمعية لا يعد نقصا، فقد
صح أن أعلم الخلق على الإطلاق نبينا صلّى الله عليه وسلّم سئل
عن أشياء فقال: سأسأل جبريل عليه السلام، وأن جبريل عليه
السلام سئل فقال: سأسأل رب العزة، وقد قالت الملائكة:
سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا [البقرة: 32]
وأن الآية لا تصلح دليلا على امتناع الرؤية على ما يقوله
المعتزلة بل دلالتها على إمكانها في الجملة أظهر وأظهر، بل هي
ظاهرة في ذلك دون ما يقوله الخصوم وما رواه أبو الشيخ عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في تفسير لَنْ تَرانِي: إنه
لا يكون ذلك أبدا لا حجة لهم فيه لأنه غير واف بمطلوبهم، مع أن
التأبيد فيه بالنسبة إلى عدم تغير الحال كما يدل عليه الخبر
المروي عنه سابقا، وكذا ما رواه عنه أبو الشيخ إذ فيه: يا موسى
إنه لا يراني أحد فيحيا قال موسى: رب إن أراك ثم أموت أحب إلي
من أن لا أراك ثم أحيا، وما ذكره الزمخشري عن الأشياخ أنهم
قالوا: إنه تعالى يرى بلا كيف هو المشهور.
ونقل المناوي أن الكمال بن الهمام سئل عما
رواه الدارقطني وغيره عن أنس من قوله صلّى الله عليه وسلّم
«رأيت ربي في أحسن صورة»
بناء على حمل الرؤية في اليقظة فأجاب بأن هذا حجاب الصورة
انتهى، وهو التجلي الصوري الشائع عند الصوفية، ومنه عندهم تجلي
الله تعالى في الشجرة لموسى عليه السلام، وتجليه جل وعلا للخلق
يوم يكشف عن ساق، وهو سبحانه وإن تجلى بالصورة لكنه غير متقيد
بها والله من ورائهم محيط، والرؤية التي طلبها موسى عليه
السلام غير هذه الرؤية، وذكر بعضهم أن موسى كان يرى الله تعالى
إلا أنه لم يعلم أن ما رآه هو- هو- وعلى هذا الطرز يحمل ما جاء
في بعض الروايات المطعون بها، رأيت ربي في صورة شاب، وفي بعضها
زيادة له نعلان من ذهب، ومن الناس من حمل الرؤية في رواية
الدارقطني على الرؤية المنامية، وظاهر كلام السيوطي أن الكيفية
فيها لا تضر وهو الذي سمعته من المشايخ قدس الله تعالى
أسرارهم، والمسألة خلافية، وإذا صح ما قاله المشايخ وأفهمه
كلام السيوطي فأنا، ولله تعالى الحمد، قد رأيت ربي مناما ثلاث
مرات وكانت المرة الثالثة في السنة السادسة والأربعين
والمائتين والألف بعد الهجرة، رأيته جل شأنه وله من النور ما
له متوجها جهة المشرق فكلمني بكلمات أنسيتها حين استيقظت،
ورأيت مرة في منام طويل كأني في الجنة بين يديه تعالى وبيني
وبينه ستر حبيك بلؤلؤ مختلف ألوانه فأمر سبحانه أن يذهب بي إلى
مقام عيسى عليه السلام ثم مقام محمد صلّى الله عليه وسلّم فذهب
بي إليهما فرأيت ما رأيت ولله تعالى الفضل والمنة.
ومنهم من حمل الصورة على ما به التميز والمراد بها ذاته تعالى
المخصوصة المنزهة عن مماثلة ما عداه من
(5/50)
الأشياء البالغة إلى أقصى مراتب الكمال،
وما ذكره من البيتين لبعض العدلية فهو في ذلك عثيثة تقرم جلدا
أملسا والقول ما قاله تاج الدين السبكي فيهم:
عجبا لقوم ظالمين تلقبوا ... بالعدل ما فيهم لعمري معرفه
قد جاءهم من حيث لا يدرونه ... تعطيل ذات الله مع نفي الصفة
وتلقبوا عدلية قلنا نعم ... عدلوا بربهم فحسبهم سفه
وقال ابن المنير:
وجماعة كفروا برؤية ربهم ... هذا ووعد الله ما لن يخلفه
وتلقبوا عدلية قلنا أجل ... عدلوا بربهم فحسبوهم سفه
وتنعتوا الناجين كلا إنهم ... إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه
وبعد هذا كله نقول: إن الناس قد اختلفوا في أن موسى عليه
السلام هل رأى ربه بعد هذا الطلب أم لا، فذهب أكثر الجماعة إلى
أنه عليه السلام لم يره لا قبل الصعق ولا بعده. وقال الشيخ
الأكبر قدس سره: إنه رآه بعد الصعق وكان الصعق موتا، وذكر قدس
سره أنه سأل موسى عن ذلك فأجابه بما ذكر، والآية عندي غير
ظاهرة في ذلك، وإلى الرؤية بعد الصعق ذهب القطب الرازي في
تقرير كلام للزمخشري، إلا أن ذلك على احتمال أن تفسر بالانكشاف
التام الذي لا يحصل إلا إذا كانت النفس فانية مقطوعة النظر عن
وجودها فضلا عن وجود الغير فانه قال: إن موسى عليه السلام لما
طلب هذه المرتبة من الانكشاف وعبر عن نفسه بأنا دل على أن نظره
كان باقيا على نفسه وهي لا تكون كذلك إلا متعلقة بالعلائق
الجسمانية مشوبة بالشوائب المادية لا جرم منع عنه هذه المرتبة
وأشير إلى أن منعها إنما كان لأجل بقاء أنا وأنت في قوله: أرني
ولن تراني، ثم لما لم يرد حرمانه عن حصول هذه المرتبة مع
استعداده وتأهله لها علم طريق المعرفة بقوله سبحانه: وَلكِنِ
انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فإن الجبل مع عدم تعلقه لما لم يطق
نظرة من نظرات التجلي فموسى عليه السلام مع تعلقه كيف يطيق ذلك
فلما أدرك الرمز خر صعقا مغشيا عليه متجردا عن العلائق فانيا
عن نفسه فحصل له المطلوب فلما أفاق علم أن طلبه الرؤية في تلك
الحالة التي كان عليها كان سوء أدب فتاب عنه.
وذهب الشيخ إبراهيم الكوراني إلى أنه عليه السلام رأى ربه
سبحانه حقيقة قبل الصعق فصعق لذلك كما دك الجبل للتجلي، وأيده
بما
أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم
قال: «لما تجلى الله تعالى لموسى عليه السلام كان يبصر دبيب
النملة على الصفا في الليلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ،
وبما
أخرجه عن أبي معشر أنه قال: مكث موسى عليه السلام أربعين ليلة
لا ينظر إليه أحد إلا مات من نور رب العالمين»
وجمع بين هذا وبين
قوله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله تعالى أعطى موسى الكلام
وأعطاني الرؤية وفضلني بالمقام المحمود والحوض المورود»
بأن الرؤية التي أعطاها لنبينا صلّى الله عليه وسلّم هي الرؤية
مع الثبات والبقاء من غير صعق كما أن الكلام الذي أعطاه موسى
كذلك بخلاف رؤية موسى عليه السلام فإنها لم تجمع له مع البقاء.
وعلى هذا فمعنى
قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الدجال «إنه لن يرى أحد منكم
ربه حتى يموت هو أن أحدا لا يراه في الدنيا مع البقاء ولا يجمع
له في الدنيا بينهما»
وفسر الآية بما لا يخلو عن خفاء.
والذاهبون إلى عدم الرؤية مطلقا يجيبون عما ذكره من حديث أبي
هريرة وخبر أبي معشر بأن الثاني ليس فيه أكثر من إثبات سطوع
نور الله تعالى على وجه موسى عليه السلام وليس في ذلك إثبات
الرؤية لجواز أن يشرق نور منه
(5/51)
تعالى على وجهه عليه السلام من غير رؤية
فإنه لا تلازم بين الرؤية وإشراق النور وبأن الأول ليس نصا في
ثبوت الرؤية المطلوبة له عليه السلام لأنها كما قال غير واحد
عبارة عن التجلي الذاتي ولله تعالى تجليات شتى غير ذلك فلعل
التجلي الذي أشار إليه الحديث على تقدير صحة واحد منها، وقد
يقطع بذلك فإنه سبحانه تجلى عليه عليه السلام بكلامه واصطفائه
وقربه منه على الوجه الخاص اللائق به تعالى، ولا يبعد أن يكون
هذا سببا لذلك الإبصار، وهذا أولى مما قيل: إن اللام في لموسى
للتعليل ومتعلق تجلى محذوف أي لما تجلى الله تعالى للجبل لأجل
إرشاد موسى كان عليه السلام يبصر بسبب إشراق بعض أنواره تعالى
عليه حين التجلي للجبل ما يبصر.
تضوع مسكا بطن نعمان إذ مشت ... به زينب في نسوة خفرات
فالحق الذي لا ينبغي المحيص عنه أن موسى عليه السلام لم يحصل
له ما سأل في هذا الميقات، والذي أقطع به أنه نال مقام قرب
النوافل والفرائض الذي يذكره الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم
بالمعنى الذي يذكرونه كيفما كان، وحاشا لله من أن أفضل أحدا من
أولياء هذه الأمة وإن كانوا هم- هم- على أحد من أنبياء بني
إسرائيل فضلا عن رسلهم مطلقا فضلا عن أولي العزم منهم «وقد ذكر
بعض العارفين من باب الإشارة في هذه الآيات» أن الله تعالى
واعد موسى عليه السلام ثلاثين ليلة للتخلص من حجاب الأفعال
والصفات والذات كل عشرة للتخلص من حجاب، واختيرت العشرة لأنها
عدد كامل كما تقدم الكلام عليه عند قوله سبحانه: تِلْكَ
عَشَرَةٌ كامِلَةٌ، لكن بقيت منه بقية ما خلص عنها، واستعمال
السواك في الثلاثين الذي نطقت به بعض الآثار إشارة إلى ذلك فضم
إلى الثلاثين عشرة أخرى للتخلص من تلك البقية، وجاء أنه عليه
السلام أمر بأن يتقرب إليه سبحانه بما يتقرب به في ثلاثين،
وأنزلت عليه التوراة في العشرة التي ضمت إليها لتكمل أربعين،
وهو إشارة إلى أنه بلغ الشهود الذاتي التام في الثلاثين
بالسلوك إلى الله تعالى ولم يبق منه شيء بل فني بالكلية وفي
العشرة الرابعة كان سلوكه في الله تعالى حتى رزق البقاء بعد
الفناء بالإفاقة، قالوا: وعلى هذا ينبغي أن يكون سؤال الرؤية
في الثلاثين والإفاقة بعدها، وكان التكليم في مقام تجلي الصفات
وكان السؤال عن افراط شوق منه عليه السلام إلى شهود الذات في
مقام فناء الصفات مع وجود البقية، ولَنْ تَرانِي إشارة إلى
استحالة الاثنينية وبقاء الإنية في مقام المشاهدة، وهذا معنى
قول من قال: رأيت ربي بعين ربي، وقوله سبحانه: وَلكِنِ انْظُرْ
إِلَى الْجَبَلِ إشارة إلى جبل الوجود، أي انظر إلى جبل وجودك
فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي وهو من باب
التعليق بالمحال عنده فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ
جَعَلَهُ دَكًّا أي متلاشيا لا وجود له وَخَرَّ مُوسى عن درجة
الوجد صَعِقاً أي فانيا فَلَمَّا أَفاقَ بالوجود الموهوب
الحقاني قالَ سُبْحانَكَ أن تكون مرئيا لغيرك تُبْتُ إِلَيْكَ
عن ذنب البقية، أو رجعت إليك بحسب العلم والمشاهدة إذ ليس في
الوجود سواك وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بحسب الرتبة، أي
أنا في الصف الأول من صفوف مراتب الأرواح الذي هو مقام أهل
الوحدة، وقد يقال: إن موسى إشارة إلى موسى الروح ارتاض أربعين
ليلة لتظهر منه ينابيع الحكمة وقال لأخيه هارون القلب
اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي من الأوصاف البشرية وَأَصْلَحَ ذات
بينهم على وفق الشريعة وقانون الطريقة وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ
الْمُفْسِدِينَ من القوى الطبيعية، ولما حصل الروح على بساط
القرب بعد هاتيك الرياضة وتتابعت عليه في روضات الأنس كاسات
المحبة غرد بلبل لسانه في قفص فم وجوده فقال: رَبِّ أَرِنِي
أَنْظُرْ إِلَيْكَ فقال له: هيهات ذاك وأين الثريا من يد
المتناول؟ أنت بعد في بعد الاثنينية وحجاب جبل الأنانية فإن
أردت ذلك فخل نفسك وائتني.
وجانب جناب الوصل هيهات لم يكن ... وها أنت حي ان تكن صادقا مت
(5/52)
هو الحب إن لم تقض لم تقض مأربا ... من
الحب فاختر ذاك أو خل خلتي
فهان عليه الفناء في جانب رؤية المحبوب ولم يعز لديه كل شيء إذ
رأى عزة المطلوب.
ونادي:
فقلت لها: روحي لديك وقبضها ... إليك ومن لي أن تكون بقبضتي
وما أنا بالشاني الوفاء على الهوى ... وشأني الوفا تأبى سواه
سجيتي
فبذل وجوده وأعطى موجوده فتجلى ربه لجبل أنانيته ثم منّ عليه
برؤيته وكان ما كان وأشرقت الأرض بنور ربها وطفىء المصباح إذ
طلع الصباح وصدح هزار الأنس في رياض القدس بنغم.
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا ... سر أرقّ من النسيم إذا سرى
وأباح طرفي نظرة أملتها ... فغدوت معروفا وكنت منكرا
فدهشت بين جماله وجلاله ... وغدا لسان الحال عني مخبرا
هذا والكلام في الرؤية طويل، وقد تكفل علم الكلام بتحقيق ذلك
على الوجه الأكمل، والذي علينا إنما هو كشف القناع عما يتعلق
بالآية، والذي نظنه أنا قد أدينا الواجب، ويكفي من القلادة ما
أحاط بالجيد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل قالَ يا
مُوسى استئناف مسوق لتسليته عليه السلام من عدم الإجابة إلى
سؤاله على ما اقتضته الحكمة كأنه قيل: إن منعتك الرؤية فقد
أعطيتك من النعم العظام ما أعطيتك فاغتنمه وثابر على شكره
إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ أي اخترتك وهو افتعال من الصفوة بمعنى
الخيار والتأكيد للاعتناء بشأن الخبر عَلَى النَّاسِ الموجودين
في زمانك وهذا كما فضل قومه على عالمي زمانهم في قوله سبحانه:
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ
[البقرة: 47، 122] بِرِسالاتِي أي بأسفار التوراة. وقرأ أهل
الحجاز وروح برسالتي وَبِكَلامِي أي بتكليمي إياك بغير واسطة.
أو الكلام على حذف مضاف أي بإسماع كلامي والمراد فضلتك بمجموع
هذين الأمرين فلا يرد هارون عليه السلام لأنه لم يكن كليما على
أن رسالته كانت تبعية أيضا وكان مأمورا باتباع موسى عليه
السلام وكذلك لا يرد السبعون الذين كانوا معه عليه السلام في
هذا الميقات في قول لأنهم وإن سمعوا الخطاب إلا أنهم ليس لهم
من الرسالة شيء على أن المقصود بالتكليم الموجه إليه الخطاب هو
موسى عليه السلام دونهم وبتخصيص الناس بما علمت خرج النبي صلّى
الله عليه وسلّم فلا يرد أن مجموع الرسالة والتكليم بغير واسطة
وجد له عليه الصلاة والسلام أيضا على الصحيح، على أنا لو قلنا
بأن التكليم بغير واسطة مخصوص به عليه السلام من بين الأنبياء
صلّى الله عليه وسلّم لا يلزم منه تفضيله من كل الوجوه على
غيره كنبينا عليه الصلاة والسلام فقد يوجد في الفاضل ما لا
يوجد في الأفضل وإنما كان الكلام بلا واسطة سببا للشرف بناء
على العرف الظاهر وقد قالوا شتان بين من اتخذه الملك لنفسه
حبيبا وقربه إليه بلطفه تقريبا وبين من ضرب له الحجاب والحجاب
وحال بينه وبين المقصود بواب ونواب، على أن من ذاق طعم المحبة
ولو بطرف اللسان يعلم ما في تكليم المحبوب بغير واسطة من اللطف
العظيم والبر الجسيم، وكلامه جل شأنه لموسى عليه السلام في ذلك
الميقات كثير على ما دلت عليه الآثار، وقد سبق لك ما يدل على
كميته من حديث أبي هريرة.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والبيهقي من طريق جويبر
عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن
الله تعالى شأنه ناجى موسى عليه السلام بمائة ألف وأربعين ألف
كلمة في ثلاثة أيام فلما سمع كلام الآدميين مقتهم لما وقع في
مسامعه من كلام الرب عزّ وجلّ فكان فيما ناجاه أن قال: يا موسى
إنه لم يتصنع المتصنعون بمثل الزهد في الدنيا ولم يتقرب إلي
المتقربون بمثل الورع عما حرمت عليهم
(5/53)
ولم يتعبد المتعبدون بمثل البكاء من خشيتي
فقال موسى: يا رب وإله البرية كلها ويا مالك يوم الدين ويا ذا
الجلال والإكرام ماذا أعددت لهم وماذا جزيتهم؟ قال: أما
الزاهدون في الدنيا فإني أبيحهم جنتي حتى يتبؤوا فيها حيث
شاؤوا وأما الورعون عما حرمت عليهم فإذا كان يوم القيامة لم
يبق عبد إلا ناقشته الحساب وفتشت عما في يديه إلا الورعون فإني
أجلّهم وأكرمهم وأدخلهم الجنة بغير حساب، وأما الباكون من
خشيتي فأولئك لهم الرفيق الأعلى لا يشاركهم فيه أحد» .
وأخرج آدم بن أبي إياس في كتاب العلم عن ابن مسعود قال: لما
قرب الله تعالى موسى نجيا أبصر في ظل العرش رجلا فغبطه بمكانه
فسأله عنه فلم يخبره باسمه وأخبره بعلمه فقال له: هذا رجل كان
لا يحسد الناس على ما أتاهم الله تعالى من فضله، برا
بالوالدين، لا يمشي بالنميمة ثم قال الله تعالى: يا موسى ما
جئت تطلب؟ قال: جئت أطلب الهدى يا رب. قال: قد وجدت يا موسى.
فقال: رب اغفر لي ما مضى من ذنوبي وما غبر وما بين ذلك وما أنت
أعلم به مني وأعوذ بك من وسوسة نفسي وسوء عملي فقيل له: قد
كفيت يا موسى. قال: يا رب أي العمل أحب إليك أن أعمله؟ قال:
اذكرني يا موسى. قال: رب أي عبادك أتقى؟ قال: الذي يذكرني ولا
ينساني. قال: رب أي عبادك أغنى؟ قال: الذي يقنع بما يؤتى. قال:
رب أي عبادك أفضل؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال:
رب أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يطلب علم الناس إلى علمه لعله
يسمع كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى. قال: رب أي عبادك أحب
إليك عملا؟ قال: الذي لا يكذب لسانه، ولا يزني فرجه، ولا يفجر
قلبه. قال: رب ثم أي على أثر هذا؟ قال: قلب مؤمن في خلق حسن.
قال: رب أي عبادك أبغض إليك؟ قال: قلب كافر في خلق سيء. قال:
رب ثم أي على أثر هذا؟ قال: جيفة بالليل بطال بالنهار،
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات. وأبو يعلى وابن حبان
والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم قال: قال موسى: يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به؟
قال: قل يا موسى لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقول
هذا. قال: قل لا إله إلا الله. قال: لا إله إلا أنت يا رب.
إنما أريد شيئا تخصني به. قال: يا موسى لو أن السموات السبع
وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة
مالت بهن لا إله إلا الله.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة قال: لما
ارتقى موسى طور سينا رأى الجبار في أصبعه خاتما فقال: هل مكتوب
عليه شيء من أسمائي أو كلامي؟ قال: لا. قال فاكتب عليه لكل أجل
كتاب.
وأخرج ابن أبي حاتم عن العلاء بن كثير قال: إن الله تعالى قال:
يا موسى أتدري لم كلمتك؟ قال: لا يا رب قال: لأني لم أخلق خلقا
تواضع لي تواضعك.
وللقصاص أخبار كثيرة موضوعة في أسئلة موسى عليه السلام ربه
وأجوبته جل شأنه له لا ينبغي لمسلم التصديق بها فَخُذْ ما
آتَيْتُكَ أي أعطيتك من شرف الاصطفاء وَكُنْ مِنَ
الشَّاكِرِينَ أي معدودا في عدادهم بأن يكون لك مساهمة كاملة
فيهم، وحاصله كن بليغ الشكر فإن ما أنعمت به عليك من أجلّ
النعم.
أخرج ابن أبي شيبة عن كعب أنه قال: قال موسى عليه السلام: يا
رب دلني على عمل إذا عملته كان شكرا لك فيما اصطنعت إلي، قال:
يا موسى قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله
الحمد وهو على كل شيء قدير.
قال: فكأن موسى أراد من العمل ما هو أنهك لجسمه مما أمر به
فقال له: يا موسى لو أن السموات السبع الخبر وهو في معنى ما في
خبر أبي سعيد.
وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاجون
إليه من الحلال والحرام والمحاسن والقبائح على ما قال الرازي
وغيره وما أخرجه الطبراني والبيهقي في الدلائل عن محمد بن يزيد
الثقفي قال: اصطحب قيس بن خرشة
(5/54)
وكعب الأحبار حتى إذا بلغا صفين وقف كعب ثم
نظر ساعة ثم قال: ليهراقن بهذه البقعة من دماء المسلمين شيء لا
يهراق ببقعة من الأرض مثله فقال قيس: ما يدريك فإن هذا من
الغيب الذي استأثر الله تعالى به؟ فقال كعب: ما من الأرض شبر
إلا مكتوب في التوراة التي أنزل الله تعالى على موسى ما يكون
عليه وما يخرج منه إلى يوم القيامة ظاهر في أن كل شيء أعم مما
ذكر، ولعل ذكر ذلك من باب الرمز كما ندعيه في القرآن
مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ بدل من الجار
والمجرور، أي كتبنا له كل شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام، وإلى
هذا ذهب غير واحد من المعربين، وهو مشعر بأن مِنْ مزيدة لا
تبعيضية، وفي زيادتها في الإثبات كلام، قيل: ولم تجعل ابتدائية
حالا من موعظة وموعظة مفعول به لأنه ليس له كبير معنى، ولم
تجعل موعظة مفعول له وإن استوفى شرائطه لأن الظاهر عطف تفصيلا
عن موعظة، وظاهر أنه لا معنى لقولك كتبنا له من كل شيء لتفصيل
كل شيء، وأما جعله عطفا على محل الجار والمجرور فبعيد من جهة
اللفظ والمعنى.
والطيبي اختار هذا العطف وأن مِنْ تبعيضية وموعظة وحدها بدل،
والمعنى كتبنا بعض كل شيء في الألواح من نحو السور والآيات
وغيرهما موعظة وكتبنا فيها تفصيل كل شيء يحتاجون إليه من
الحلال والحرام ونحو ذلك، وفي ذلك اختصاص الإجمال والتفصيل
بالموعظة للإيذان بأن الاهتمام بهذا أشد والعناية بها أتم،
ولكونها كذلك كثر مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم بالبشير
النذير، وإشعار بأن الموعظة مما يجب أن يرجع إليه في كل أمر
يذكر به، ألا يرى إلى أن أكثر الفواصل التنزيلية والردود على
هذا النمط نحو أَفَلا تَتَّقُونَ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وإلى
سورة الرحمن كيف أعيد فيها ما أعيد وذلك ليستأنف السامع به
ادكارا واتعاظا ويجدد تنبيها واستيقاظا، وأنت تعلم أن البعد
الذي أشرنا إليه باق على حاله، وقوله سبحانه: لِكُلِّ شَيْءٍ
إما متعلق بما عنده أو بمحذوف كما قال السمين وقع صفة له،
واختلف في عدد الألواح وفي جوهرها ومقدارها وكاتبها فقيل كانت
عشرة ألواح، وقيل: لوحين، قال الزجاج: ويجوز أن يقال في اللغة
للوحين ألواح وأنها كانت من زمرد أخضر، أمر الرب تعالى جبريل
عليه السلام فجاء بها من عدن، وروي ذلك عن مجاهد، وأخرج أبو
الشيخ عن ابن جريج قال: أخبرت أن الألواح كانت من زبرجد، وعن
سعيد بن جبير قال: كانوا يقولون إنها كانت من ياقوتة وأنا
أقول: إنها كانت من زمرد،
وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن
النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الألواح التي أنزلت على
موسى كانت من سدر الجنة كان طول اللوح اثني عشر ذراعا»
وعن الحسن أنها كانت من خشب نزلت من السماء، وأن طول كل عشرة
أذرع، وقيل: أمر الله تعالى موسى عليه السلام بقطعها من صخرة
صماء لينهاله فقطعها بيده وسقفها بأصابعه ولا يخفى أن أمثال
هذا يحتاج إلى النقل الصحيح وإلا فالسكوت أولى إذ ليس في الآية
ما يدل عليه، والمختار عندي أنها من خشب السدر إن صح السند إلى
سلسلة الذهب، والمشهور عن ابن جريج أن كاتبها جبريل عليه
السلام كتبها بالقلم الذي كتب به الذكر،
والمروي عن علي كرم الله تعالى وجهه ومجاهد وعطاء وعكرمة وخلق
كثير أن الله تعالى كتبها بيده وجاء أنها كتبت وموسى عليه
السلام يسمع صريف الأقلام التي كتبت بها
وهو المأثور عن الأمير كرم الله تعالى وجهه. وجاء عن ابن عمر
رضي الله تعالى عنهما أنه قال: خلق الله تعالى آدم بيده وخلق
جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده، ثم قال لأشياء كوني فكانت،
وأخرج عبد بن حميد عن وردان بن خالد قال: خلق الله تعالى آدم
بيده وخلق جبريل بيده وخلق القلم بيده وخلق عرشه بيده وكتب
الكتاب الذي عنده لا يطلع عليه غيره بيده وكتب التوراة بيده
وهذا كله من قبيل المتشابه، وفي بعض الآثار أنها كتبت قبل
الميقات وأنزلت على ما قيل وهي سبعون وقر بعير يقرأ الجزء منه
في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى عليهم
السلام. ومما كتب فيها كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس
(5/55)
ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر أمته
وما ادخر لهم عنده وما يسر عليهم في دينهم وما وسع عليهم فيما
أحل لهم حتى إنه جاء أن موسى عليه السلام عجب من الخير الذي
أعطاه الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأمته وتمنى أن
يكون منهم.
وأخرج ابن مردويه. وأبو نعيم في الحلية وغيرهما عن جابر بن عبد
الله قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: كان
فيما أعطى الله تعالى موسى في الألواح يا موسى لا تشرك بي شيئا
فقد حق القول مني لتلفحن وجوه المشركين النار، واشكر لي
ولوالديك أقك المتالف وأنسئك في عمرك وأحيك حياة طيبة وأقلبك
إلى خير منها، ولا تقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق
فتضيق عليك الأرض برحبها والسماء بأقطارها وتبوء بسخطي والنار،
ولا تحلف باسمي كاذبا ولا آثما فإني لا أطهر ولا أزكى من لم
ينزهني ويعظم أسمائي، ولا تحسد الناس على ما أعطيتهم من فضلي
ولا تنفس عليه نعمتي ورزقي فإن الحاسد عدو نعمتي راد لقضائي
ساخط لقسمتي التي أقسم بين عبادي ومن يكون كذلك فلست منه وليس
مني، ولا تشهد بما لم يع سمعك ويحفظ عقلك ويعقد عليه قلبك فإني
واقف أهل الشهادات على شهاداتهم يوم القيامة ثم سائلهم عنها
سؤالا حثيثا، ولا تزن ولا تسرق، ولا تزن بحليلة جارك فأحجب عنك
وجهي وتغلق عنك أبواب السماء، وأحب للناس ما تحب لنفسك، ولا
تذبحن لغيري فإني لا أقبل من القربان إلا ما ذكر عليه اسمي
وكان خالصا لوجهي، وتفرغ لي يوم السبت وفرغ لي نفسك وجميع أهل
بيتك ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الله تعالى
جعل السبت لموسى عليه السلام عيدا، واختار لنا الجمعة فجعلها
عيدا»
فَخُذْها بِقُوَّةٍ أي بجد وحزم قال ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما، والجملة على إضمار القول عطفا على كتبنا وحذف القول
كثير مطرد، والداعي لهذا التقدير كما قال العلامة الثاني رعاية
المناسبة لكتبنا له لأنه جاء على الغيبة، ولو كان بدله كتبنا
لك لم يحتج إلى تقدير، وأما حديث عطف الإنشاء على الأخبار فلا
ضير فيه لأنه يجوز إذا كان بالفاء.
وقيل: هو بدل من قوله سبحانه: فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وضعف بأن
فيه الفصل بأجنبي وهو جملة كتبنا المعطوفة على جملة قالَ وهو
تفكيك للنظم والضمير المنصوب للألواح أو لكل شيء فإنه بمعنى
الأشياء والعموم لا يكفي في عود ضمير الجماعة بدون تأويله
بالجمع، وجوز عوده للتوراة بقرينة السياق، والقائل بالبدلية
جعله عائدا إلى الرسالات والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع
حالا من الفاعل أي ملتبسا بقوة، وجوز أن يكون حالا من المفعول
أي ملتبسة بقوة براهينها، والأول أوضح، وأن يكون صفة مفعول
مطلق أي أخذا بقوة.
وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أي أحسنها فالباء
زائدة كما في قوله:
سود المحاجر لا يقرأن بالسور ويحتمل أن تكون بالباء أصلية وهو
الظاهر، وحينئذ فهي إما متعلقة بيأخذوا بتضمينه معنى يعملوا أو
هو من الأخذ بمعنى السيرة، ومنه أخذ أخذهم أي سار سيرهم وتخلق
بخلائقهم كما نقول وإما متعلقة بمحذوف وقع حالا ومفعول يأخذوا
محذوف أي أنفسهم كما قيل، والظاهر أنه مجزوم في جواب الأمر
فيحتاج إلى تأويل لأنه لا يلزم من أمرهم أخذهم، أي إن تأمرهم
ويوفقهم الله تعالى يأخذوا، وقيل: بتقدير لام الأمر فيه بناء
على جواز ذلك بعد أمر من القول أو ما هو بمعناه كما هنا،
وإضافة أفعل التفضيل هنا عند غير واحد كإضافته في زيد أحسن
الناس وهي على المشهور محضة على معنى اللام، وقيل: إنها لفظية
ويوهم صنيع بعضهم أنها على معنى في وليس به، والمعنى بأحسن
الأجزاء التي فيها، ومعنى أحسنيتها اشتمالها على الأحسن كالصبر
فإنه أحسن بالإضافة إلى الانتصار، أي مرهم يأخذوا بذلك على
طريقة الندب والحث على الأفضل كقوله تعالى: وَاتَّبِعُوا
أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ [الزمر: 55] أو المعنى بأحسن
أحكامها والمراد به الواجبات فانها أحسن من المندوبات
والمباحات أو هي والمندوبات على ما قيل فإنها أحسن من
المباحات.
(5/56)
وقيل: إن الأحسن بمعنى البالغ في الحسن
مطلقا لا بالإضافة وهو المأمور به ومقابله المنهي عنه، وإلى
هذا يشير كلام الزجاج حيث قال: أمروا بالخير ونهوا عن الشر
وعرفوا ما لهم وما عليهم فقيل: وَأْمُرْ قَوْمَكَ إلخ فافعل
نظيره في قولهم: الصيف أحر من الشتاء فانه بمعنى الصيف في حره
أبلغ من الشتاء في برده إذ تفضيل حرارة الصيف على حرارة الشتاء
غير مرادة بلا شبهة ويقال هنا: المأمور به أبلغ في الحسن من
المنهي عنه في القبح.
وتفصيل ما في المقام على ما ذكره الدماميني في تعليقه على
المصابيح ونقله عنه الشهاب أن لأفعل أربع حالات. إحداها وهي
الحالة الأصلية أن يدل على ثلاثة أمور: الأول اتصاف من هو له
بالحدث الذي اشتق منه وبهذا كان وصفا، الثاني مشاركة مصحوبة في
تلك الصفة، الثالث مزية مرصوفة على مصحوبة فيها، وبكل من هذين
الأمرين فارق غيره من الصفات، وثانيتها أن يخلع عنه ما امتاز
به من الصفات ويتجرد للمعنى الوصفي، وثالثتها أن تبقى عليه
معانيه الثلاثة ولكن يخلع عنه قيد المعنى الثاني ويخلفه قيد
آخر، وذلك أن المعنى الثاني وهو الاشتراك كان مقيدا بتلك الصفة
التي هي المعنى الأول فيصير مقيدا بالزيادة التي هي المعنى
الثالث، ألا ترى أن المعنى في قولهم العسل أحلى من الخل أن
للعسل حلاوة وأن تلك الحلاوة ذات زيادة وأن زيادة حلاوة العسل
أكثر من زيادة حموضة الخل، وقد قال ذلك ابن هشام في حواشي
التسهيل وهو بديع جدا، ورابعتها أن يخلع عنه المعنى الثاني وهو
المشاركة وقيد المعنى الثالث وهو كون الزيادة على مصاحبه فيكون
للدلالة على الاتصاف بالحدث وعلى زيادة مطلقة لا مقيدة وذلك في
نحو يوسف أحسن إخوته انتهى. وعدم اشتراك المأمور به والمنهي
عنه في الحسن المراد مما لا شبهة فيه وإن كان الحسن مطلقا كما
في البحر مشتركا فإن المأمور به أحسن من حيث الامتثال وترتب
الثواب عليه والمنهي عنه حسن باعتبار الملاذ والشهوة. وقال
قطرب كما نقله عنه محيي السنة: المعنى يأخذوا بحسنها وكلها
حسن، وهو ظاهر في حمل أفعل على الحالة الثانية، وقيل: المعنى
يأخذوا بها وأحسن صلة وليس له من القبول عائد. وقال الجبائي:
المراد يأخذوا بالناسخ دون المنسوخ، وقيل: الأخذ بالأحسن هو أن
تحمل الكلمة المحتملة لمعنيين أو لمعان على أشبه محتملاتها
بالحق وأقربها للصواب، ولا ينبغي أن يحمل الأخذ على الشروع كما
في قولك أخذ زيد يتكلم أي شرع في الكلام، والأحسن على العقائد
فيكون المراد أمرهم ليشرعوا بالتحلي بالعقائد الحقة وهي لكونها
أصول الدين وموقوفة عليها صحة الأعمال أحسن من غيرها من الفروع
وهو متضمن لأمرهم بجميع ما فيها كما لا يخفى فإن أخذ بالمعنى
المعنى من أفعال الشروع ليس هذا استعمالها المعهود في كلامهم
على أن فيه بعد ما فيه، ومثل هذا كون ضمير أحسنها عائدا إلى
قوة على معنى مرهم يأخذوها بأحسن قوة وعزيمة فيكون أمرا منه
سبحانه أن يأمرهم بأخذها كما أمره به ربه سبحانه إلا أنه تعالى
اكتفى في أمره عن ذكر الأحسن بما أشار إليه التنوين فإن ذلك
خلاف المأثور المنساق إلى الفهم مع أنا لم نجد في كلامهم أحسن
قوة ومفعول يأخذوا عليه محذوف كما في بعض الاحتمالات السابقة
غير أنه فرق ظاهر بين ما هنا وما هناك.
سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ توكيد لأمر القوم بالأخذ
بالأحسن وبعث عليه على نهج الوعيد والترهيب بناء على ما روي عن
قتادة وعطية العوفي من أن المراد بدار الفاسقين دار فرعون
وقومه بمصر ورأى بصرية، وجوز أن تكون علمية والمفعول الثالث
محذوف أي سأريكم إياها خاوية على عروشها لتعتبروا وتجدوا ولا
تهاونوا في امتثال الأمر ولا تعملوا أعمال أهلها ليحل بكم ما
حل بهم، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وحسن موقعه قصد
المبالغة في الحث وفي وضع الاراءة موضع الاعتبار إقامة السبب
مقام المسبب مبالغة أيضا كقوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ
[النمل: 69] وفي وضع دار الفاسقين موضع أرض مصر الاشعار
بالعلية والتنبيه على أن
(5/57)
يحترزوا ولا يستنوا بسنتهم من الفسق،
والسين للاستقبال لأن ذلك قبل الرجوع إلى مصر كما في الكشف.
وقال الكلبي: المراد بدار الفاسقين منازل عاد وثمود والقرون
الذين هلكوا، وعن الحسن وعطاء أن المراد بها جهنم، وأيا ما كان
فالكلام على النهج الأول أيضا، ويجوز أن يكون على نهج الوعد
والترغيب بناء على ما روي عن قتادة أيضا من أن المراد بدار
الفاسقين أرض الجبابرة والعمالقة بالشام فإنها مما أبيح لبني
إسرائيل وكتب لهم حسبما ينطق به قوله عزّ وجلّ: يا قَوْمِ
ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ
لَكُمْ [المائدة: 21] ومعنى الإراءة الإدخال بطريق الايراث،
ويؤيده قراءة بعضهم «سأورثكم» وجوز على هذا أن يراد بالدار
مصر، وفي الكلام على هذه القراءة وإرادة أرض مصر من الدار
تغليب لأن المعنى سأورثك وقومك أرض مصر، ولا يصح ذلك عليها إذا
أريد من الدار أرض الجبابرة بناء على أن موسى عليه السلام لم
يدخلها وإنما دخلها مع القوم بعد وفاته عليه السلام، ويصح بناء
على القول بأن موسى عليه السلام دخلها ويوشع على مقدمته، وجوز
اعتبار التغليب على القراءة المشهورة أيضا، وقرأ الحسن
«سأوريكم» بضم الهمزة وواو ساكنة وراء خفيفة مكسورة وهي لغة
فاشية في الحجاز، والمعنى سأبين لكم ذلك وأنوره على أنه من
أوريت الزند، واختار ابن جني في تخريج هذه القراءة ولعله
الأظهر أنها على الإشباع كقوله:
من حيثما سلكوا ادنو فانظروا سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ
الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ استئناف مسوق على ما
قال شيخ الإسلام لتحذيرهم عن التكبر الموجب لعدم التفكر في
الآيات التي كتبت في ألواح التوراة المتضمنة للمواعظ والأحكام
أو ما يعمها وغيرها من الآيات التكوينية التي من جملتها ما
وعدوا إراءته من دار الفاسقين، ومعنى صرفهم عنها منعهم بالطبع
على قلوبهم فلا يكادون يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها لإصرارهم
على ما هم عليه من التكبر والتجبر كقوله سبحانه: فَلَمَّا
زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] أي سأطبع على
قلوب الذين يعدون أنفسهم كبراء ويرون أن لهم ارتفاعا في العالم
السفلي ومزية على الخلق فلا ينتفعون بآياتي ولا يغتنمون مغانم
آثارها فلا تسلكوا مسلكهم فتكونوا أمثالهم. وقيل: هو جواب سؤال
مقدر ناشىء من الوعد بإدخال أرض الجبابرة والعمالقة على أن
المراد بالآيات ما تلي آنفا ونظائره وبالصرف عنها إزالة
المتكبرين عن مقام معارضتها وممانعتها لوقوع أخبارها وظهور
أحكامها وظهور أحكامها وآثارها بإهلاكهم على يد موسى أو يوشع
عليهما السلام، كأنه قيل: كيف ترى دارهم وهم فيها؟ فقيل لهم:
سأهلكهم، وإنما عدل إلى الصرف ليزدادوا ثقة بالآيات واطمئنانا
بها وعلى هذين القولين يكون الكلام مع موسى عليه السلام،
والآية متعلقة إما بقوله سبحانه: سَأُرِيكُمْ وإما بما تقدمه
على الوجه الذي أشير إليه آنفا، وجوز الطيبي كونها متصلة بقوله
تعالى: وَأْمُرْ إلخ على معنى الأمر كذلك وأما الإرادة فإني
سأصرف عن الأخذ بآياتي أهل الطبع والشقاوة، وقيل:
الكلام مع كافري مكة والآية متصلة بقوله عن شأنه: أَوَلَمْ
يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها
[الأعراف:
100] الآية، وإيراد قصة موسى عليه السلام وفرعون للاعتبار أي
سأصرف المتكبرين عن إبطال الآيات وإن اجتهدوا كما فعل فرعون
فعاد عليه فعله بعكس ما أراد، وقيل: إن الآية على تقدير كون
الكلام مع قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اعتراض في خلال
ما سيق للاعتبار ومن حق من ساق قصة له أن ينبه على مكانه كلما
وجد فرصة التمكن منه، وتقديم الجار والمجرور على المفعول
الصريح لإظهار الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع أن في
المؤخر نوع طول يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الجليل، واحتج
بالآية بعض أصحابنا على أن الله تعالى قد يمنع عن الإيمان ويصد
عنه وهو ظاهر على تقدير أن يراد بالصرف المنع عن الإيمان وليس
بمتعين كما علمت، وقد خاض المعتزلة في تأويلها فأولوها بوجوه
ذكرها الطبرسي بِغَيْرِ الْحَقِّ إما صلة للتكبر على معنى
يتكبرون ويتعززون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل
(5/58)
وظلمهم المفرط أو متعلق بمحذوف هو حال من
فاعله أي يتكبرون ملتبسين بغير الحق وما له يتكبرون غير محقين
لأن التكبر بحق ليس إلا لله تعالى كما
في الحديث القدسي الذي أخرجه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله
تعالى عنه «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد
منهما قذفته في النار» .
وقيل: المراد أنهم يتكبرون على من لا يتكبر كالأنبياء عليهم
السلام لأنه الذي يكون بغير حق، وأما التكبر على المتكبر صدقة،
وأنت تعلم أن هذا صورة تكبر لا تكبر حقيقة فلعل مراد هذا
القائل: إن التقييد بما ذكر لاظهار أنهم يتكبرون حقيقة.
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها عطف على
يتكبرون داخل معه في حكم الصلة، والمراد بالآية إما المنزلة
فالمراد برؤيتها مشاهدتها والإحساس بها بسماعها أو ما يعمها
وغيرها من المعجزات، فالمراد برؤيتها مطلق المشاهدة المنتظمة
للسماع والإبصار، وفسر بعضهم الآيات فيما تقدم بالمنصوبة في
الآفاق والأنفس، والآية هنا بالمنزلة أو المعجزة لئلا يتوهم
الدور على ما قيل فليفهم، وجوز أن يكون عطفا على سأصرف للتعليل
على منوال قوله سبحانه:
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا
الْحَمْدُ لِلَّهِ [النمل: 15] على رأي صاحب المفتاح، وأيا ما
كان فالمراد عموم النفي لا نفي العموم أي كفروا بكلّ أية آية
وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ أي طريق الهدى والسداد لا
يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا أي لا يتوجهون إليه ولا يسلكونه أصلا
لاستيلاء الشيطنة عليهم.
وقرأ حمزة والكسائي «الرّشد» بفتحتين، وقرىء «الرشاد» وثلاثها
لغات كالقسم والسقم والسقام، وفرق أبو عمرو كما قال الجبائي
بين الرشد والرشد بأن الرشد بالضم الصلاح في الأمر والرشد
بالفتح الاستقامة في الدين، والمشهور عدم الفرق وَإِنْ يَرَوْا
سَبِيلَ الغَيِّ أي طريق الضلال يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا أي
يختارونه لأنفسهم مسلكا مستمرا لا يكادون يعدلون عنه لموافقته
لأهوائهم وإفضائه بهم إلى شهواتهم ذلِكَ أي المذكور من التكبر
وعدم الإيمان بشيء من الآيات وإعراضهم عن سبيل الهدى وإقبالهم
التام إلى سبيل الضلال حاصل بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم
كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على بطلان ما اتصفوا به من القبائح
وعلى حقية أضدادها وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ غير معتدين بها
فلا يتكفرون فيها وإلا لما فعلوا ما فعلوا من الأباطيل، وجوز
غير واحد أن يكون ذلك إشارة إلى الصرف، وما فيه البحث يدفع
بأدنى عناية كما لا يخفى على من مدت إليه العناية أسبابها،
وأيا ما كان فاسم الإشارة مبتدأ والجار والمجرور متعلق بمحذوف
وقع خبرا عنه كما أشرنا إليه.
وقيل: محل اسم الإشارة النصب على المصدر أي سأصرفهم ذلك الصرف
بسبب تكذيبهم بآياتنا وغفلتهم عنها، ولا مانع من كون العامل
أصرف المقدم لأن الفاصل ليس بأجنبي وَالَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ أي لقائهم الدار الآخرة على أنه
من إضافة المصدر إلى المفعول وحذف الفاعل أو لقائهم ما وعده
الله تعالى في الآخرة من الجزاء على أن الإضافة إلى الظرف على
التوسع. والمفعول مقدر كالفاعل ومحل الموصول في الاحتمالين
الرفع على الابتداء، وقوله تعالى: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ خبره
أي ظهر بطلان أعمالهم التي كانوا عملوها من صلة الأرحام وإغاثة
الملهوفين بعد ما كانت مرجوة النفع على تقدير إيمانهم بها،
وحاصله أنهم لا ينتفعون بأعمالهم وإلا فهي أعراض لا تحبط حقيقة
هَلْ يُجْزَوْنَ أي لا يجزون يوم القيامة.
إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إلا جزاء ما استمروا على عمله
من الكفر والمعاصي وتقدير هذا المضاف لظهور أن المجزى ليس نفس
العمل، وقيل: إن أعمالهم تظهر في صور ما يجزون به فلا حاجة إلى
التقدير، وهذه الجملة مستأنفة، وقيل: هي الخبر والجملة السابقة
في موضع الحال بإضمار قد، واحتجت الأشاعرة على ما قيل بهذه
الآية
(5/59)
على فساد قول أبي هاشم أن تارك الواجب
يستحق العقاب وإن لم يصدر عنه فعل الضد لأنها دلت على أنه لا
جزاء إلا على عمل وترك الواجب ليس به.
وأجاب أبو هاشم بأني لا أسمي ذلك العقاب جزاء، ورد بأن الجزاء
ما يجزي أي يكفي في المنع عن المنهي عنه والحث على المأمور به
والعقاب على ترك الواجب كاف في الزجر عن ذلك الترك فكان جزاء.
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد ذهابه إلى
الجبل لمناجاة ربه سبحانه مِنْ حُلِيِّهِمْ جمع حلي كثدي وثدي
وهو ما يتخذ للزينة ويتحلى به من الذهب والفضة، والجار
والمجرور متعلق باتخذ كمن بعده من قبله ولا ضير في ذلك لاختلاف
معنى الجارين فإن الأول للابتداء والثاني للتبعيض، وقيل:
للابتداء أيضا، وتعلقه بالفعل بعد تعلق الأول به واعتباره معه،
وقيل: الجار الثاني متعلق بمحذوف وقع حالا مما بعده إذ لو تأخر
لكان صفة له، وإضافة الحلي إلى ضمير القوم لأدنى ملابسة لأنها
كانت للقبط فاستعاروها منهم قبيل الغرق فبقيت في أيديهم وقيل:
إنها على ما يتبادر منها بناء على أن القوم ملكوها بعد أن
ألقاها البحر على الساحل بعد غرق القبط أو بعد أن استعاروها
منهم وهلكوا. قال الإمام: روي أنه تعالى لما أراد إغراق فرعون
وقومه لعلمه أنه لا يؤمن أحد منهم أمر موسى عليه السلام بني
إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط ليخرجوا خلفهم لأجل المال أو
لتبقى أموالهم في أيديهم.
واستشكل ذلك بكونه أمرا بأخذ مال الغير بغير حق، وإنما يكون
غنيمة بعد الهلاك مع أن الغنائم لم تكن حلالا لهم
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي
أحلت لي الغنائم» الحديث
على أن ما نقل عن القوم في سورة [طه: 87] من قولهم: حُمِّلْنا
أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ يقتضي عدم الحل أيضا.
وأجيب بأن ذلك أن تقول: إنهم لما استعبدوهم بغير حق واستخدموهم
وأخذوا أموالهم وقتلوا أولادهم ملكهم الله تعالى أرضهم وما
فيها، فالأرض لله تعالى يورثها من يشاء من عباده، وكان ذلك
بوحي من الله تعالى لا على طريق الغنيمة، ويكون ذلك على خلاف
القياس وكم في الشرائع مثله، والقول المحكي سيأتي إن شاء الله
تعالى ما فيه، وهذه الجملة كما قال الطيبي عطف على قوله
سبحانه: وَواعَدْنا مُوسى عطف قصة على قصة.
وقرأ حمزة والكسائي «حليهم» بكسر الحاء اتباعا لكسر اللام كدلي
وبعض «حليهم» على الافراد وقوله سبحانه:
عِجْلًا مفعول اتخذ بمعنى صاغ وعمل، أخر عن المجرور لما مر
آنفا، وقيل: إن اتخذ متعد إلى اثنين وهو بمعنى صير والمفعول
الثاني محذوف أي إلها، والعجل ولد البقر خاصة وهذا كما يقال
لولد الناقة حوار ولولد الفرس مهر ولولد الحمار جحش ولولد
الشاة حمل ولولد العنز جدي ولولد الأسد شبل ولولد الفيل دغفل
ولولد الكلب جرو ولولد الظبي خشف ولولد الاروية غفر ولولد
الضبع فرغل ولولد الدب ديسم ولولد الخنزير خنوص ولولد الحية
حربش ولولد النعام رأل ولولد الدجاجة فروج ولولد الفأر درص
ولولد الضب حسل إلى غير، والمراد هنا ما هو على صورة العجل.
وقوله تعالى: جَسَداً بدل من عجلا أو عطف بيان أو نعت له
بتأويل متجسدا، وفسر ببدن ذي لحم ودم، قال الراغب: الجسد
كالجسم لكنه أخص منه، وقيل: إنه يقال لغير الإنسان من خلق
الأرض ونحوه، ويقال أيضا لما له لون والجسم لما لا يبين له لون
كالهواء، ومن هنا على ما قيل قيل للزعفران الجساد ولما أشبع
صبغه من الثياب مجسد، وجاء المجسد أيضا بمعنى الأحمر، وبعض فسر
الجسد به هنا فقال: أي أحمر من ذهب لَهُ خُوارٌ هو صوت البقر
خاصة كالثغاء للغنم واليعار للمعز والنبيب للتيس والنباح للكلب
والزئير للأسد والعواء والوعوعة للذئب والضباح للثعلب والقباع
للخنزير والمواء للهرة، والنهيق والسحيل للحمار والصهيل والضبح
والقنع والحمحمة للفرس والرغاء للناقة والصنى للفيل والبتغم
للظبي والضغيب للأرنب والعرار للظليم والصرصرة للبازي والعقعقة
للصقر والصفير
(5/60)
للنسر والهدير للحمام والسجع للقمري
والسقسقة للعصفور والنعيق والنعيب للغراب والصقاء والزقاء
للديك والقوقاء والنقيقة للدجاجة والفحيح للحية والنقيق للضفدع
والصئي للعقرب والفأرة والصرير للجراد إلى غير ذلك.
وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ «جؤار»
بجيم مضمومة وهمزة، وهو الصوت الشديد، ومثله الصياح والصراخ.
والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما وخوار مبتدأ،
والجملة في موضع النعت لعجلا.
روي أن السامري لما صاغ العجل ألقى في فمه من تراب أثر فرس
جبريل عليه السلام فصار حيا،
وذكر بعضهم في سر ذلك أن جبريل عليه السلام لكونه الروح الأعظم
سرت قوة منه إلى ذلك التراب أثرت ذلك الأثر بإذن الله تعالى
لأمر يريده عزّ وجلّ، ولا يلزم من ذلك أن يحيا ما يطؤه بنفسه
عليه السلام لأن الأمر مربوط بالإذن وهو إنما يكون بحسب الحكم
التي لا يعلمها إلا الحكيم الخبير فتدبر. وإلى القول بالحياة
ذهب كثير من المفسرين، وأيد بأن الخوار إنما يكون للبقر لا
لصورته، وبأن ما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة طه كالصريح
فيما دل عليه الخبر. وقال جمع من مفسري المعتزلة: إن العجل كان
بلا روح وكان السامري قد صاغه مجوفا ووضع في جوفه أنابيب على
شكل مخصوص وجعله في مهب الريح فكانت تدخل في تلك الأنابيب
فيسمع لها صوت يشبه خوار العجل ولذلك سمي خوارا. وما في طه
سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام فيه. واختلف في هذا الخوار
فقيل: كان مرة واحدة، وقيل:
كان مرات كثيرة، وكانوا كلما خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا
رؤوسهم. وعن السدي أنه كان يخور ويمشي. وعن وهب نفى الحركة،
والآية ساكتة عن إثباتها، وليس في الأخبار ما يعول عليه
فالتوقف عن إثبات المشي أولى، وليست هذه المسألة من المهمات،
وإنما نسب الاتخاذ إلى قوم موسى عليه السلام وهو فعل السامري
لأنهم رضوا به وكثيرا ما ينسب الفعل إلى قوم مع وقوعه من واحد
منهم فيقال: قتل بنو فلان قتيلا والقاتل واحد منهم، وقيل: لأن
المراد اتخاذهم إياه إلها، فالمعنى صيروه إلها وعبدوه، وحينئذ
لا تجوز في الكلام لأن العبادة له وقعت منهم جميعا.
قال الحسن: كلهم عبدوا العجل إلا هارون عليه السلام، واستثنى
آخرون غيره معه، وعلى القول قيل: لا بد من تقدير فعبدوه ليكون
ذلك مصب الإنكار لأن حرمة التصوير حدثت في شرعنا على المشهور
ولأن المقصود إنكار عبادته أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا
يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا تقريع لهم وتشنيع على
فرط ضلالهم وإخلالهم بالنظر، أي ألم يروا أنه لا يقدر على ما
يقدر عليه آحاد البشر من الكلام وإرشاد السبيل بوجه من الوجوه
فكيف عدلوه بخالق الأجسام والقوى والقدر، وجعله بعضهم تعريضا
بالإله الحق وكلامه الذي لا ينفد وهدايته الواضحة التي لا
تجحد، وقيل: إنه تعريض بالله تعالى وبكلامه مع موسى عليه
السلام وهدايته لقومه اتَّخَذُوهُ تكرار لجميع ما سلف من
الاتخاذ على الوجه المخصوص المشتمل على الذم، وهو من باب
الكناية على أسلوب. أن يرى مبصر ويسمع واع أي أقدموا على ما
أقدموا عليه من الأمر المنكر.
وَكانُوا ظالِمِينَ اعتراض تذييلي أي إن دأبهم قبل ذلك الظلم
ووضع الأشياء في غير موضعها فليس ببدع منهم هذا المنكر العظيم،
وكرر الفعل ليبني عليه ذلك، وقيل: الجملة في موضع الحال أي
اتخذوه في هذه الحالة المستمرة لهم وَلَمَّا سُقِطَ فِي
أَيْدِيهِمْ أي ندموا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما، وجعله غير واحد كناية عن شدة الندم وغايته لأن النادم
إذا اشتد نومه عض يده غما فتصير يده مسقوطا فيها، وأصله سقط
فوه أو عضه في يده أي وقع ثم حذف الفاعل وبني الفعل للمفعول به
فصار سقط في يده كقولك: مر بزيد، وقرأ ابن السميفع سقط بالبناء
للفاعل على الأصل، واليد على ما ذكر حقيقة، وقال الزجاج: معناه
سقط الندم في أنفسهم وجعل القطب ذلك من باب الاستعارة
التمثيلية حيث شبه حال الندم في النفس بحال الشيء في اليد في
التحقيق والظهور ثم عبر عنه بالسقوط في
(5/61)
اليد ولا لطف للاستعارة التصريحية فيه،
وقال الواحدي: إنه يقال لما يحصل وإن لم يكن في اليد وقع في
يده وحصل في يده مكروه فيشبه ما يحصل في النفس وفي القلب بما
يرى بالعين، وخصت اليد لأن مباشرة الأمور بها كقوله تعالى:
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ [الحج: 10] أو لأن الندم يظهر
أثره بعد حصوله في القلب في اليد لعضها والضرب بها على أختها
ونحو ذلك فقد قال سبحانه في النادم: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ
كَفَّيْهِ [الكهف: 42] وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ [الفرقان:
27] ، وقيل: من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضع ذقنه على يده
بحيث لو أزالها سقط على وجهه فكأن اليد مسقوط فيها، وفِي بمعنى
على، وقيل: هو من السقاط وهو كثرة الخطأ، وقيل: من السقيط وهو
ما يغشى الأرض بالغدوات شبه الثلج لا ثبات له، فهو مثل لمن خسر
في عاقبته ولم يحصل على طائل من سعيه، وعد بعضهم سقط من
الأفعال التي لا تتصرف كنعم وبئس.
وقرأ ابن أبي عبلة «أسقط» على أنه رباعي مجهول وهي لغة نقلها
الفراء والزجاج، وذكر بعضهم أن هذا التركيب لم يسمع قبل نزول
القرآن، ولم تعرفه العرب، ولم يوجد في أشعارهم وكلامهم فلذا
خفي على الكثير وأخطؤوا في استعماله كأبي حاتم وأبي نواس، وهو
العالم النحرير ولم يعلموا ذلك ولو علموه لسقط في أيديهم
وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا
أي تبينوا ضلالهم باتخاذ العجل وعبادته تبينا كأنهم قد أبصروه
بعيونهم قيل: وتقديم ذكر ندمهم على هذه الرؤية مع كونه متأخرا
عنها للمسارعة إلى بيانه والإشعار بغاية سرعته كأنه سابق على
الرؤية.
وقال القطب في بيان تأخر تبين الضلال عن الندم مع كونه سابقا
عليه: إن الانتقال من الجزم بالشيء إلى تبين الجزم بالنقيض لا
يكون دفعيا في الأغلب بل إلى الشك ثم الظن بالنقيض ثم الجزم به
ثم تبينه، والقوم كانوا جازمين بأن ما هم عليه صواب والندم
عليه ربما وقع لهم في حال الشك فيه فقد تأخر تبين الضلال عنه
انتهى، فافهم ولا تغفل قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا
بإنزال التوبة المكفرة وَيَغْفِرْ لَنا بالتجاوز عن خطيئتنا،
وتقديم الرحمة على المغفرة مع أن التخلية حقها أن تقدم على
التحلية قيل: إما للمسارعة إلى ما هو المقصود الأصلي وإما لأن
المراد بالرحمة مطلق إرادة الخير بهم وهو مبدأ لإنزال التوبة
المكفرة لذنوبهم، واللام في لَئِنْ موطئة للقسم أي والله لئن
إلخ، وفي قوله سبحانه: لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ لجواب
القسم كما هو المشهور.
وقرأ حمزة والكسائي «ترحمنا وتغفر لنا» بالتاء الفوقية و
«ربنا» بالنصب على النداء، وما حكي عنهم من الندامة والرؤية
والقول كان بعد رجوع موسى عليه السلام من الميقات كما ينطق به
ما سيأتي إن شاء الله تعالى في طه، وقدم ليتصل ما قالوه بما
فعلوه وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ مما حدث
منهم أَسِفاً أي شديد الغضب كما قال أبو الدرداء ومحمد القرظي
وعطاء والزجاج أو حزينا على ما روي عن ابن عباس والحسن وقتادة
رضي الله تعالى عنهم، وقال أبو مسلم: الغضب والأسف بمعنى
والتكرير للتأكيد.
وقال الواحدي: هما متقاربان فإذا جاءك ما تكره ممن هو دونك
غضبت وإذا جاءك ممن فوقك حزنت، فعلى هذا كان موسى عليه السلام
غضبان على قومه باتخاذهم العجل حزينا لأن الله تعالى فتنهم،
وقد أخبره سبحانه بذلك قبل رجوعه، ونصب الوصفين على أنهما
حالان مترادفان أو متداخلان بأن يكون الثاني حالا من الضمير
المستتر في الأول، وجوّز أبو البقاء أن يكون بدلا من الحال
الأولى وهو بدل كل لا بعض كما توهم.
قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي خطاب إما لعبدة
العجل وإما لهارون عليه السلام ومن معه من المؤمنين أي بئسما
فعلتم بعد غيبتي حيث عبدتم العجل بعد ما رأيتم مني من توحيد
الله تعالى ونفي الشركاء عنه سبحانه واخلاص العبادة له جل
جلاله، أو بئسما قمتم مقامي حيث لم تراعوا عهدي ولم تكفوا
العبدة عما فعلوا بعد ما رأيتم مني من
(5/62)
حملهم على التوحيد وكفهم عما طمحت نحوه
أبصارهم من عبادة البقر حين قالوا اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.
وجوز أن يكون على الخطاب للفريقين على أن المراد بالخلافة
الخلافة فيما يعم الأمرين اللذين أشير إليهما ولا تكرار في ذكر
مِنْ بَعْدِي بعد خَلَفْتُمُونِي لأن المراد من بعد ولايتي
وقيامي بما كنت أقوم إذ بعديته على الحقيقة إنما تكون على ما
قيل بعد فراقه الدنيا، وقيل: إن مِنْ بَعْدِي تأكيد من باب
رأيته بعيني وفائدته تصوير نيابة المستخلف ومزاولة سيرته كما
أن هنالك تصوير الرؤية وما يتصل به، وما نكرة موصوفة مفسرة
لفاعل بئس المستكن فيه والمخصوص بالذم محذوف أي بئس خلافة
خلفتمونيها من بعدي خلافتكم، والذم فيما إذا كان الخطاب لهارون
عليه السلام ومن معه من المؤمنين ليس للخلافة نفسها بل لعدم
الجري على مقتضاها، وأما إذا كان للسامري وأشياعه فالأمر ظاهر
أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أي أعجلتم عما أمركم به ربكم
وهو انتظار موسى عليه السلام حال كونهم حافظين لعهده وما وصاهم
به فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجع إليكم
فحدثتم أنفسكم بموتي فغيرتم. روي أن السامري قال لهم حين أخرج
لهم العجل، وقال: إن هذا إلهكم وإله موسى إن موسى لن يرجع وإنه
قد مات. وروي أنهم عدوا عشرين يوما بلياليها فجعلوها أربعين ثم
أحدثوا ما أحدثوا. والمعروف تعدي «عجل» بعن لا بنفسه فيقال:
عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غير
وضمنوه هنا معنى السبق وهو كناية عن الترك فتعدى تعديته ولم
يضمن ابتداء. معنى الترك لخفاء المناسبة بينهما وعدم حسنها.
وذهب يعقوب إلى أن السبق معنى حقيقي له من غير تضمين، والأمر
واحد الأوامر. وعن الحسن أن المعنى أعجلتم وعد ربكم الذي وعدكم
من الأربعين فالأمر عليه واحد الأمور والمراد بهذه الأربعين
على ما ذكره الطيبي غير الأربعين التي أشار الله إليها بقوله
سبحانه: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً
[الأعراف: 142] وسيأتي تتمة الكلام في ذلك قريبا إن شاء الله
تعالى.
وَأَلْقَى الْأَلْواحَ أي وضعها على الأرض كالطارح لها ليأخذ
برأس أخيه مما عراه من فرط الغيرة الدينية وكان عليه السلام
شديد الغضب لله سبحانه. فقد أخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم أنه
عليه السلام كان إذا غضب اشتعلت قلنسوته نارا. وقال القاضي
ناصر الدين: أي طرحها من شدة الغضب وفرط الضجرة حمية للدين، ثم
نقل أنه انكسر بعضها حين ألقاها، واعترض عليه أفضل المتأخرين
شيخ مشايخنا صبغة الله أفندي الحيدري بأن الحمية للدين إنما
تقتضي احترام كتاب الله تعالى وحمايته أن يلحق به نقص أو هوان
بحيث تنكسر ألواحه ثم قال: والصواب أن يقال: إنه عليه السلام
لفرط حميته الدينية وشدة غضبه لله تعالى لم يتمالك ولم يتماسك
إن وقعت الألواح من يده بدون اختيار فنزل ترك التحفظ منزلة
الإلقاء الاختياري فعبر به تغليظا عليه عليه السلام فإن حسنات
الأبرار سيئات المقربين انتهى.
وتعقبه العلامة صالح أفندي الموصلي عليه الرحمة بأنه لا يخفى
أن هذا الإيراد إنما نشأ من جعل قول القاضي حمية للدين مفعولا
له لطراحها وهو غير صحيح، فقد صرح في أوائل تفسيره لسورة طه
بأن الفعل الواحد لا يتعدى لعلتين وإنما هو مفعول له لشدة
الغضب وفرط الضجرة على سبيل التنازع، والتوجيه الذي ذكر للآية
هو ما أراده القاضي وتفسيره الإلقاء بالطرح لا ينافي ذلك على
ما لا يخفى اهـ، وأقول أنت تعلم أن كون هذا التوجيه هو ما
أراده القاضي غير بيّن ولا مبين على أن حديث كون التعبير
بالإلقاء تغليظا عليه السلام منحط عن درجة القبول جدا إذ ليس
في السباق ولا في السياق ما يقضي بكون المقام عتاب موسى عليه
السلام ليفتي بهذا التغليظ نظرا إلى مقامه صلّى الله عليه
وسلّم بل المقام ظاهر في الحط على قومه كما لا يخفى على من له
أدنى حظ من رفيع النظر، والذي يراه هذا الفقير ما أشرنا إليه
أولا. وحاصله أن موسى عليه السلام لما رأى من قومه ما رأى غضب
غضبا شديدا حمية للدين وغيرة من الشرك برب العالمين فعجل في
وضع الألواح لتفرغ يده فيأخذ برأس أخيه فعبر عن ذلك الوضع
بالإلقاء تفظيعا لفعل قومه حيث كانت معاينته سببا
(5/63)
لذلك وداعيا إليه مع ما فيه من الإشارة إلى
شدة غيرته وفرط حميته وليس في ذلك ما يتوهم منه نوع إهانة
لكتاب الله تعالى بوجه من الوجوه، وانكسار بعض الألواح حصل من
فعل مأذون فيه ولم يكن غرض موسى عليه السلام ولا مر بباله ولا
ظن ترتبه على ما فعل، وليس هناك إلا العجلة في الوضع الناشئة
من الغيرة لله تعالى، ولعل ذلك من باب وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ
رَبِّ لِتَرْضى [طه: 84] واختلفت الروايات في مقدار ما تكسر
ورفع، وبعضهم أنكر ذلك حيث إن ظاهر القرآن خلافه. نعم
أخرج أحمد وغيره وعبد بن حميد والبزار وابن أبي حاتم وابن حبان
والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يرحم الله تعالى موسى ليس
المعاين كالمخبر أخبره ربه تبارك وتعالى أن قومه فتنوا بعده
فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح فتكسر منها ما
تكسر»
فتأمل ولا تغفل، وما روي عن ابن عباس أن موسى عليه السلام لما
ألقى الألواح رفع منها ستة أسباع وبقي سبع، وكذا ما روي عن
غيره نحوه مناف لما
روي فيما تقدم من أن التوراة نزلت سبعين وقرأ يقرأ الجزء منه
في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى ويوشع وعزير وعيسى عليهم
السلام.
وكذا لما يذكر بعد من قوله تعالى: أَخَذَ الْأَلْواحَ فإن
الظاهر منه العهد. والجواب بأن الرفع لما فيها من الخط دون
الألواح خلاف الظاهر والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وَأَخَذَ
بِرَأْسِ أَخِيهِ أي بشعر رأس هارون عليه السلام لأنه الذي
يؤخذ ويمسك عادة ولا ينافي أخذه بلحيته كما وقع في سورة طه أو
أدخل فيه تغليبا يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ظنا منه عليه السلام أنه
قصر في كفهم ولم يتمالك لشدة غضبه وفرط غيظه أن فعل ذلك وكان
هارون أكبر من موسى عليهما السلام بثلاث سنين إلا أن موسى أكبر
منه مرتبة وله الرسالة والرياسة استقلالا وكان هارون وزيرا له
وكان عليه السلام حمولا لينا جدا ولم يقصد موسى بهذا الأخذ
إهانته والاستخفاف به بل اللوم الفعلي على التقصير المظنون
بحكم الرياسة وفرط الحمية، والقول بأنه عليه السلام إنما أخذ
رأس أخيه ليسارّه ويستشكف منه كيفية الواقعة مما يأباه الذوق
كما لا يخفى على ذويه، ومثله القول بأن إنما كان لتسكين هارون
لما رأى به من الجزع والقلق، وقال أبو علي الجبائي: إن موسى
عليه السلام أجرى أخاه مجرى نفسه فصنع به ما يصنع الإنسان به
عند شدة الغضب، وقال الشيخ المفيد من الشيعة: إن ذلك للتألم من
ضلال قومه وإعلامهم على أبلغ وجه عظم ما فعلوه لينزجروا عن
مثله ولا يخفى أن الأمر على هذا من قبيل:
غيري جنى وأنا المعاقب فيكم ... فكأنني سبابة المتندم
ولعل ما أشرنا إليه هو الأولى. وجملة يَجُرُّهُ في موضع الحال
من ضمير موسى أو من رأس أو من أخيه لأن المضاف جزء منه وهو أحد
ما يجوز فيه ذلك، وضعفه أبو البقاء قالَ أي هارون مخاطبا لموسى
عليه السلام إزاحة لظنه ابْنَ أُمَّ بحذف حرف النداء لضيق
المقام وتخصيص الأم بالذكر مع كونهما شقيقين على الأصح
للترقيق، وقيل:
لأنها قامت بتربيته وقاست في تخليصه المخاوف والشدائد، وقيل:
إن هارون عليه السلام كانت آثار الجمال والرحمة فيه ظاهرة كما
ينبىء عنه قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ
هارُونَ نَبِيًّا [مريم: 53] وكان مورده ومصدره ذلك، ولذا كان
يلهج بذكر ما يدل على الرحمة، ألا ترى كيف تلطف بالقوم لما
قدموا على ما قدموا فقال: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ
وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ [طه: 90] ومن هنا ذكر الأم ونسب
إليها لأن الرحمة فيها أتم ولولاها ما قدرت على تربية الولد
وتحمل المشاق فيها وهو منزع صوفي كما لا يخفى، واختلف في اسم
أمهما عليهما السلام فقيل: محيانة بنت يصهر بن لاوى، وقيل:
يوحانذ، وقيل: يارخا، وقيل: يازخت، وقيل: غير ذلك، ومن الناس
من زعم أن لاسمها رضي الله تعالى عنها خاصية في فتح الأقفال
وله رياضة مخصوصة عند أرباب الطلاسم والحروف وما هي إلا
رهبانية ابتدعوها ما أنزل الله تعالى بها من كتاب.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبوبكر عن عاصم هنا وفي [طه:
94] ابْنَ أُمَّ بالكسر وأصله ابن أمي فحذفت الياء اكتفاء
بالكسرة تخفيفا كالمنادى المضاف إلى الياء.
(5/64)
وقرأ الباقون بالفتح زيادة في التخفيف أو
تشبيها بخمسة عشر إِنَّ الْقَوْمَ الذين فعلوا ما فعلوا
اسْتَضْعَفُونِي أي استذلوني وقهروني ولم يبالوا بي لقلة
أنصاري وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي وقاربوا قتلي حين نهيتهم عن
ذلك والمراد أني بذلت وسعي في كفهم ولم آل جهدا في منعهم فَلا
تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ أي فلا تفعل ما يشمتون بي لأجله
فإنهم لا يعلمون سر فعلك، والشماتة سرور العدو بما يصيب المرء
من مكروه.
وقرىء «فلا تشمت بي الأعداء» بفتح حرف المضارعة وضم الميم ورفع
الأعداء- حطهم الله تعالى- وهو كناية عن ذلك المعنى أيضا على
حد لا أرينك هاهنا. والمراد من الأعداء القوم المذكورون إلا
أنه أقيم الظاهر مقام ضميرهم ولا يخفى سره وَلا تَجْعَلْنِي
مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي لا تجعلني معدودا في عدادهم
ولا تسلك بي سلوكهم بهم في المعاتبة، أو لا تعتقدني واحدا من
الظالمين مع براءتي منهم ومن ظلمهم، فالجعل مثله في قوله
تعالى:
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ
إِناثاً [الزخرف: 19] قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية
الاعتذار كأنه قيل فماذا قال موسى عليه السلام عند اعتذار
أخيه؟ فقيل: قال رَبِّ اغْفِرْ لِي ما فعلت بأخي قبل جلية
الحال وحسنات الأبرار سيئات المقربين وَلِأَخِي إن كان اتصف
بما يعد ذنبا بالنسبة إليه في أمر أولئك الظالمين، وفي هذا
الضم ترضية له عليه السلام ورفع للشماتة عنه، والقول بأنه عليه
السلام استغفر لنفسه ليرضى أخاه ويظهر للشامتين رضاه لئلا تتم
شماتتهم به ولأخيه للايذان بأنه محتاج إلى الاستغفار حيث كان
يجب عليه أن يقاتلهم لي فيه توقف لا يخفى وجهه. وَأَدْخِلْنا
جميعا.
فِي رَحْمَتِكَ الواسعة بمزيد الإنعام علينا، وهذا ما يقتضيه
المقابلة بالمغفرة، والعدول عن ارحمنا إلى ما ذكر وَأَنْتَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فلا غرو في انتظامنا في سلك رحمتك
الواسعة في الدنيا والآخرة، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون
ما قبله، وادعى بعضهم أن فيه إشارة إلى أنه سبحانه استجاب
دعاءه وفيه خفاء إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ أي بقوا
على اتخاذه واستمروا عليه كالسامري وأشياعه كما يفصح عنه كون
الموصول الثاني عبارة عن التائبين فإن ذلك صريح في أن الموصول
الأول عبارة عن المصرين سَيَنالُهُمْ أي سيلحقهم ويصيبهم في
الآخرة جزاء ذلك غَضَبٌ عظيم لا يقادر قدره مستتبع لفنون
العقوبات لعظم جريمتهم وقبح جريرتهم مِنْ رَبِّهِمْ أي مالكهم،
والجار والمجرور متعلق بينالهم، أو بمحذوف وقع نعتا لغضب مؤكدا
لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي
كائن من ربهم وَذِلَّةٌ عظيمة فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهي على
ما أقول: الذلة التي عرتهم عند تحريق إلههم ونسفه في اليم نسفا
مع عدم القدرة على دفع ذلك عنه، وقيل: هي ذلة الاغتراب التي
تضرب بها الأمثال والمسكنة المنتظمة لهم ولأولادهم جميعا،
والذلة التي اختص بها السامري من الانفراد عن الناس والابتلاء
بلا مساس، وروي أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك وإذا مس أحدهم أحد
غيرهم حمّا جميعا في الوقت، ولعل ما ذكرناه أولى والرواية لم
نر لها أثرا، وإيراد ما نالهم بالسين للتغليب، وقيل: وإليه
يشير كلام أبي العالية المراد بهم التائبون، وبالغضب ما أمروا
به من قتل أنفسهم، وبالذلة إسلامهم أنفسهم لذلك واعترافهم
بالضلال، واعتذر عن السين بأن ذلك حكاية عما أخبر الله تعالى
به موسى عليه السلام حين أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل
فإنه قال له: سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ إلخ فيكون سابقا على الغضب،
وجعل الكلام جواب سؤال مقدر وذلك أنه تعالى لما بين أن القوم
ندموا على عبادتهم العجل بقوله سبحانه: وَلَمَّا سُقِطَ فِي
أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا والندم توبة
ولذلك عقبوه بقولهم: لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا وذكر عتاب
موسى لأخيه عليهما السلام ثم استغفاره اتجه لسائل أن يقول: يا
رب إلى ماذا يصير أمر القوم وتوبتهم واستغفار نبي الله تعالى
وهل قبل الله تعالى توبتهم؟ فأجاب إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا
الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ
(5/65)
أي نقم قبل توبة موسى وأخيه وغفر لهما خاصة
وكان من تمام توبة القوم أن الله سبحانه أمرهم بقتل أنفسهم
فسلموها للقتل، فوضع الذين اتخذوا العجل موضع القوم اشعارا
بالعلية. وتعقب بأن سياق النظم الكريم وكذا سباقه ناب عن ذلك
نبوا ظاهرا كيف لا وقوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُفْتَرِينَ ينادي على خلافه فإنهم شهداء تائبون فكيف يمكن
وصفهم بعد ذلك بالافتراء وأيضا ليس يجزي الله تعالى كل
المفترين بهذا الجزاء الذي ظاهره قهر وباطنه لطف ورحمة إلا أن
يقال: يكفي في صحة التشبيه وجود وجه الشبه في الجملة ولا بد من
التزام ذلك على الوجه الذي ذكرناه أيضا وما ذكر في تحرير
السؤال والجواب مما تمجه أسماع ذوي الألباب.
وقال عطية العوفي: المراد سينال أولاد الذين تعبدوا العجل وهم
الذين كانوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأريد
بالغضب والذلة ما أصاب بني النضير وقريظة من القتل والجلاء، أو
ما أصابهم من ذلك ومن ضرب الجزية عليهم، وفي الكلام على هذا
حذف مضاف وهو الأولاد، ويحتمل أن يكون هناك وهو من تعيير
الأبناء بما فعل الآباء، ومثله في القرآن كثيرة. وقيل: المراد
بالموصول المتخذون حقيقة وبالضمير في ينالهم أخلافهم وبالغضب
الغضب الأخروي وبالذلة الجزية التي وضعها الإسلام عليهم أو
الأعم منها ليشمل ما ضربه بختنصر عليهم. وتعقب ذلك أيضا بأنه
لا ريب في أن توسيط حال هؤلاء في تضاعيف بيان حال المتخذين من
قبيل الفصل بين الشجر ولحائه، والمراد بالمفترين المفترون على
الله تعالى، وافتراء أولئك عليه سبحانه قول السامري في العجل
هذا إلهكم وإله موسى ورضاهم به ولا أعظم من هذه الفرية ولعله
لم يفتر مثلها أحد قبلهم ولا بعدهم. وعن سفيان بن عيينة أنه
قال: كل صاحب بدعة ذليل وتلا هذه الآية.
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ أي سيئة كانت لعموم المغفرة
ولأنه لا داعي للتخصيص ثُمَّ تابُوا عنها مِنْ بَعْدِها أي من
بعد عملها وهو تصريح بما تقتضيه ثم وَآمَنُوا أي واشتغلوا
بالإيمان وما هو مقتضاه وبه تمامه من الأعمال الصالحة ولم
يصروا على ما فعلوا كالطائفة الأولى، وهو عطف على تابوا،
ويحتمل أن يكون حالا بتقدير قد، وأيّا ما كان فهو على ما قيل:
من ذكر الخاص بعدم العام للاعتناء به لأن التوبة عن الكفر هي
الإيمان فلا يقال: التوبة بعد الإيمان كيف جاءت قبله.
قيل: حيث كان المراد بالإيمان ما تدخل فيه الأعمال يكون بعد
التوبة. وقيل: المراد به هنا التصديق بأن الله تعالى يغفر
للتائب أي ثم تابوا وصدقوا بأن الله تعالى يغفر لمن تاب إِنَّ
رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي من بعد التوبة المقرونة بما لا تقبل
بدونه وهو الإيمان، ولم يجعل الضمير للسيئات لأنه كما قال بعض
المحققين لا حاجة له بعد قوله سبحانه:
ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها لا لأنه يحتاج إلى حذف مضاف ومعطوف
من عملها والتوبة عنها لأنه لا معنى لكونه بعدها إلا ذلك
لَغَفُورٌ لذنوبهم وإن عظمت وكثرت رَحِيمٌ مبالغ في إفاضة فنون
الرحمة عليهم، والموصول مبتدأ وجملة إِنَّ رَبَّكَ إلخ خبر
والعائد محذوف، والتقدير- عند أبي البقاء- لغفور لهم رحيم بهم،
والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة لضميره عليه الصلاة
والسلام للتشريف، وقيل: الخطاب للتائب، ولا يخفى لطف ذلك أيضا،
وفي الآية إعلام بأن الذنوب وإن جلّت وعظمت فإن عفو الله تعالى
وكرمه أعظم وأجل، وما ألطف قول أبي نواس غفر الله تعالى له:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فبمن يلوذ ويستجير المجرم
ومما ينسب للإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت الرجا ربي لعفوك سلما
(5/66)
|