روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ
مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى
وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا
فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ
أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا
فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ
تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ
وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ
الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا
حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ
عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ
كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا
يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ
النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا
عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ
لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ
عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي
رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي
وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ
الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ
وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ
مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ
اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا
عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ
وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ
الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ
الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا
حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ
خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ
لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ
بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ
الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ
يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ
سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ
كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ
قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ
مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا
مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ
يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا
بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا
عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا
قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ
لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ
يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ
الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ
الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ
بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان
عفوك أعظما
ويعجبني قول بعضهم: وما أولى هذا المذنب به:
أنا مذنب أنا مخطئ أنا عاصي ... هو غافر هو راحم هو عافي
قابلتهن ثلاثة بثلاثة ... وستغلبن أوصافه أوصافي
(5/67)
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ
شروع في بيان بقية الحكاية أثر ما بين تحزب القوم إلى مصر
وتائب، والإشارة إلى ما لكل منهما إجمالا، أي ولما سكت عنه
الغضب باعتذار أخيه وتوبة القوم، وهذا صريح في أن ما حكي عنه
من الندم وما يتفرع عليه كان بعد مجيء موسى عليه السلام، وقيل:
المراد ولما كسرت سورة غضبه عليه السلام وقل غيظه باعتذار أخيه
فقط لأنه زال غضبه بالكلية لأن توبة القوم ما كانت خالصة بعد،
وأصل السكوت قطع الكلام، وفي الكلام استعارة مكنية حيث شبه
الغضب بشخص ناه آمر وأثبت له السكوت على طريق التخييل، وقال
السكاني: إن فيه استعارة تبعية حيث شبه سكون الغضب وذهاب حدته
بسكون الآمر الناهي والغضب قرينتها، وقيل: الغضب استعارة
بالكناية عن الشخص الناطق والسكوت استعارة تصريحية لسكون
هيجانه وغليانه فيكون في الكلام مكنية قرينتها تصريحية لا
تخييلية، وأيا ما كان ففي الكلام مبالغة وبلاغة لا يخفى علو
شأنهما، وقال الزجاج: مصدر سكت الغضب السكتة ومصدر سكت الرجل
السكوت وهو يقتضي أن يكون سكت الغضب فعلا على حدة وقيل ونسب
إلى عكرمة: إن هذا من القلب وتقديره ولما سكت موسى عن الغضب،
ولا يخفى أن السكوت كان أجمل بهذا القائل إذ لا وجه لما ذكره.
وقرأ معاوية بن قرة «سكن» والمعنى على ذلك ظاهر إلا أنه على
قراءة الجمهور أعلى كعبا عند كل ذي طبع سليم وذوق صحيح، وقرىء
«سكت» بالبناء لما لم يسم فاعله والتشديد للتعدية. و «أسكت»
بالبناء لذلك أيضا على أن المسكت هو الله تعالى أو أخوه أو
التائبون أَخَذَ الْأَلْواحَ التي ألقاها وَفِي نُسْخَتِها أي
فيما نسخ فيها وكتب، ففعلة بمعنى مفعول كالخطبة، والنسخ
الكتابة، والإضافة بيانية أو بمعنى في، وإلى هذا ذهب الجبائي
وأبو مسلم وغيرهما، وقيل: معنى منسوخة ما نسخ فيها من اللوح
المحفوظ، وقيل: النسخ هنا بمعنى النقل، والمعنى فيما نقل من
الألواح المنكسرة. وروي عن ابن عباس وعمرو بن دينار أن موسى
عليه السلام لما ألقى الألواح فتكسر منها ما تكسر صام أربعين
يوما فرد عليه ما ذهب في لوحين وفيهما ما في الأول بعينه فكأنه
نسخ من الأول هُدىً أي بيان للحق عظيم وَرَحْمَةٌ جليلة
بالإرشاد إلى ما فيه الخير والصلاح لِلَّذِينَ هُمْ
لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ أي يخافون أشد الخوف، واللام الأولى
متعلقة بمحذوف وقع صفة لما قبله أو هي لام الأجل أي هدى ورحمة
لأجلهم، والثانية لتقوية عمل الفعل المؤخر كما في قوله سبحانه:
إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف: 43] أو هي لام
العلة والمفعول محذوف أي يرهبون المعاصي لأجل ربهم لا للرياء
والسمعة، واحتمال تعلقها بمحذوف أي يخشون لربهم كما ذهب إليه
أبو البقاء بعيد وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ تتمة لشرح أحوال بني
إسرائيل، وقال البعض: إنه شروع في بيان كيفية استدعاء التوبة
وكيفية وقوعها
(5/68)
وَاخْتارَ يتعدى إلى اثنين ثانيهما مجرور
بمن وقد حذفت هنا وأوصل الفعل والأصل من قومه، ونحوه قول
الفرزدق:
منا الذي اختير الرجال سماحة ... وجودا إذا هب الرياح الزعازع
وقوله الآخر:
فقلت له: اخترها قلوصا سمينة ... ونابا علا بأمثل نابك في
الحيا
قوله سبحانه: سَبْعِينَ رَجُلًا مفعول أول لاختار على المختار
وأخر عن الثاني لما مر مرارا، وقيل: بدل بعض من كل، ومنعه
الأكثرون بناء على أن البدل منه في نية الطرح والاختيار لا بد
له من مختار ومختار منه وبالطرح يسقط الثاني، وجوزه أبو البقاء
على ضعف ويكون التقدير سبعين منهم، وقيل: هو عطف بيان
لِمِيقاتِنا ذهب أبو علي. وأبو مسلم وغيرهما من مفسري السنة
والشيعة إلى أنه الميقات الأول وهو الميقات الكلامي قالوا: إنه
عليه السلام اختار لذلك من اثني عشر سبطا من كل سبط ستة حتى
تتاموا اثنين وسبعين فقال عليه السلام: ليتخلف منكم رجلان
فتشاحوا فقال:
لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد كالب ويوشع، وروي أنه لم يصب
إلا ستين شيخا فأوحى الله تعالى أن يختار من الشبان عشرة
فاختارهم فأصبحوا شيوخا، وقيل: كانوا أبناء ما عدا العشرين ولم
يتجاوزوا الأربعين فذهب عنهم الجهل والصبا فأمرهم موسى عليه
السلام أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى طور
سيناء فلما دنا من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل
كله ودنا موسى ودخل فيه، وقال للقوم: ادنوا فدنوا حتى إذا
دخلوا الغمام وقعوا سجدا فسمعوه وهو سبحانه يكلم موسى يأمره
وينهاه افعل ولا تفعل ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه فطلبوا
الرؤية فوعظهم وكان ما كان، وذهب آخرون وهو المروي عن الحسن
إلى أنه غير الميقات الأول قالوا: إن الله سبحانه أمر موسى
عليه السلام أن يأتيه في أناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من
عبادة العجل فاختار من اختاره فلما أتوا الطور قالوا ما قالوا،
وروي ذلك عن السدي، وعن ابن إسحاق أنه عليه السلام إنما
اختارهم ليتوبوا إلى الله تعالى ويسألوه التوبة على من تركوا
وراءهم من قومهم. ورجح ذلك الطيبي مدعيا أن الأول خلاف نظم
الآيات وأقوال المفسرين. أما الأول فلما قال الإمام: إنه تعالى
ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية ثم أتبعها بقصة العجل وما
يتصل بها فظاهر الحال أن تكون هذه القصة مغايرة للمتقدمة إذ لا
يليق بالفصاحة ذكر بعض القصة ثم النقل إلى أخرى ثم الرجوع إلى
الأولى وإنه اضطراب يصان عنه كلامه تعالى، وأيضا ذكر في الأولى
خرور موسى عليه السلام صعقا، وفي الثانية قوله بعد أخذ الرجفة:
لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ، وأيضا لو كانت الرجفة بسبب طلب
الرؤية لقيل: أتهلكنا بما قال السفهاء وضم إليه الطيبي أنه
تعالى حيث ذكر صاعقتهم لم يذكر صعق موسى عليه السلام وبالعكس
فدل على التغاير، وأما الثاني فلما نقل عن السدي مما ذكرناه
آنفا، وتعقب ما ذكر في الترجيح أولا صاحب الكشف بأن الانصاف أن
المجموع قصة واحدة في شأن ما من على بني إسرائيل بعد إنجائهم
من تحقيق وعد إيتاء الكتاب وضرب ميقاته وعبادة العجل وطلب
الرؤية كان في تلك الأيام، وفي ذلك الشأن فالبعض مربوط بالبعض
بقي إيثار هذا الأسلوب وهو بين لأن الأول في شأن الامتنان
عليهم وتفضيلهم كيف وقد عطف واعَدْنا على أَنْجَيْناكُمْ وقد
بين أنه تبيين للتفضيل، وتعقيب حديث الرؤية مستطرد للفرق بين
الطلبين عندنا وليلقمهم الحجر عند المعتزلي. والثاني في شأن
جنايتهم بعد ذلك الإحسان البالغ باتخاذ العجل والملاحة
والافتراق من لوازم النظم، وتعقب ما ذكر فيه ثانيا بأن قول
السدي وحده لا يصلح ردا كيف وهذا يخالف ما نقله محيي السنة في
قوله سبحانه: لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ إنهم كانوا له وزراء
مطيعين فاشتد عليه عليه السلام فقدهم فرحمهم وخاف عليهم الفوت
وأين لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ من الطاعة وحسن الاستئزار قال: ثم
الظاهر من قوله تعالى: فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا
الْعِجْلَ [النساء: 153] إن
(5/69)
اتخاذ العجل متأخر عن مقالتهم تلك خلاف ما
نقل عن السدي والحمل على تراخي الرتبة لا بد له من سند كيف ولا
ينافي التراخي الزماني فلا بد من دليل يخصه به، هذا وقد اعترف
المفسرون في سورة طه بأنه اختار سبعين لميقات الكلام ذكروه في
قوله تعالى: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى [طه: 83]
وما اعتذر عنه الطيبي بأنه اختيار السبعين كان مرتين وليس في
النقل أنهم كانوا معه عند المكالمة وطلب الرؤية فظاهر للمنصف
سقوطه انتهى.
وذكر القطب في توهين ما نقل عن السدي بأن الخروج للاعتذار إن
كان بعد قتل أنفسهم ونزول التوبة فلا معنى للاعتذار، وإن كان
قبل قتلهم فالعجب من اعتذار ثمرته قتل الأنفس، ثم قال: ولا ريب
أن قصة واحدة تتكرر في القرآن يذكر في سورة بعضها، وفي أخرى
بعض أخر وليس ذلك إلا لتكرار اعتبار المعتبرين بشيء من تلك
القصة فإذا جاز ذكر قصة في سور متعددة في كل سورة شيء منها فلم
لا يجوز ذلك في مواضع من سورة واحدة لتكرر الاعتبار اهـ، وهو
ظاهر في ترجيح ما ذهب إليه الأولون، وأنا أقول: إن القول بأن
هذا الميقات هو الميقات الأول ليس بعاطل من القول وبه قال جمع
كما أشرنا إليه، وكلامنا في البقرة ظاهر فيه إلا أن الانصاف أن
ظاهر النظم هنا يقتضي أنه غيره وما ذكره صاحب الكشف لا يقتضي
أنه ظاهر في خلافه، وإلى القول بالغيرية ذهب جل من المفسرين.
فقد أخرج عبد بن حميد من طريق أبي سعد عن مجاهد أن موسى عليه
السلام خرج بالسبعين من قومه يدعون الله تعالى ويسألونه أن
يكشف عنهم البلاء فلم يستجب لهم فعل موسى أنهم أصابوا من
المعصية ما أصاب قومهم،
قال أبو سعد: فحدثني محمد بن كعب القرظي أنه لم يستجب لهم من
أجل أنهم لم ينهوهم عن المنكر ولم يأمروهم بالمعروف.
وأخرج عبد بن حميد عن الفضل بن عيسى ابن أخي الرقاشي أن بني
إسرائيل قالوا ذات يوم لموسى عليه السلام ألست ابن عمنا ومنا
وتزعم أنك كلمت رب العزة؟ فإنا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى
نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] فلما أبوا إلا ذلك أوحى
الله تعالى إلى موسى أن اختر من قومك سبعين رجلا فاختار سبعين
خيرة ثم قال لهم: اخرجوا فلما برزوا جاءهم ما لا قبل لهم به
الخبر.
وهو ظاهر في أن هذا الميقات ليس هو الأول. نعم إنه مخالف لما
روي عن السدي لكنهما متفقان على القول بالغيرية ويوافق السدي
في ذلك الحسن أيضا فليس هو متفردا بذلك كما ظنه صاحب الكشف،
وما ذكره من مخالفة كلام السدي لما نقله محيي السنة في حيز
المنع، وقوله فإنا لن نؤمن لك إلخ يظهر جوابه مما ذكرناه في
البقرة عند هذه الآية من الاحتمالات، والقول بأن الاختيار كان
مرتين غير بعيد وبه قال بعضهم، وما ذكره القطب من الترديد في
الخروج للاعتذار ظاهر بعض الروايات عن السدي يقتضي تعين الشق
الأول منه. فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: انطلق موسى إلى
ربه فكلمه فلما كلمه قال: ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا
مُوسى فأجابه موسى بما أجابه فقال سبحانه: فَإِنَّا قَدْ
فَتَنَّا قَوْمَكَ [طه: 85] الآية فرجع موسى إلى قومه غضبان
أسفا فأبى الله تعالى أن يقبل توبتهم إلا بالحال التي كرهوا
ففعلوا ثم إن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس
من بني إسرائيل يعتذرون من عبادة العجل فوعدهم موعدا فاختار
موسى سبعين رجلا إلخ وهو كما ترى ظاهر فيما قلناه، والقول بأنه
لا معنى للاعتذار بعد قتل أنفسهم ونزول التوبة أجيب عنه بأن
المعنى يحتمل أن يكون طلبا لزيادة الرضى واستنزال مزيد الرحمة،
ويحتمل أن يكونوا أمروا بذلك تأكيدا للايذان بعظم الجناية
وزيادة فيه وإشارة إلى أنه بلغ مبلغا في السوء لا يكفي في
العفو عنه قتل الأنفس بل لا بد فيه مع ذلك الاعتذار، ويمكن أن
يقال إنه كان قبل قتلهم أنفسهم: والسر في أنهم أمروا به أن
يعلموا أيضا عظم الجناية على أتم وجه بعدم قبوله والله تعالى
أعلم فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الصاعقة أو رجفة
الجبل فصعقوا منها والكثير على أنهم ماتوا جميعا ثم أحياهم
الله تعالى، وقيل: غشي عليهم ثم أفاقوا وذلك لأنهم قالوا: لن
نؤمن لك حتى نرى الله جهرة على ما في بعض الروايات أو ليتحقق
عند القائلين ذلك من قومهم
(5/70)
مزيد عظمته سبحانه على ما في البعض الآخر
منها، أو لمجرد التأديب على ما في خبر القرظي، والظاهر أن
قولهم: لن نؤمن إلخ صدر منهم في ذلك المكان لا بعد الرجوع كما
قيل: ونقلناه في البقرة وحينئذ يبعد على ما قيل القول بأن هذا
الميقات هو الميقات الأول لأن فيه طلب موسى عليه السلام الرؤية
بعد كلام الله تعالى له من غير فصل على ما هو الظاهر فيكون هذا
الطلب بعده، وبعيد أن يطلبوا ذلك بعد أن رأوا ما وقع لموسى
عليه السلام. وما
أخرجه ابن أبي الدنيا وابن جرير وغيرهما عن علي كرم الله تعالى
وجهه أنه قال: لما حضر أجل هارون أوحى الله تعالى إلى موسى
عليه السلام أن انطلق أنت وهارون وابنه إلى غار في الجبل فإنا
قابضو روحه فانطلقوا جميعا فدخلوا الغار فإذا سرير فاضطجع عليه
موسى ثم قام عنه فقال: ما أحسن هذا المكان يا هارون فاضطجع
عليه هارون فقبض روحه فرجع موسى وابن أخيه إلى بني إسرائيل
حزينين فقالوا له: أين هارون قال: مات؟ قالوا: بل قتلته كنت
تعلم أنّا نحبه فقال لهم ويلكم أقتل أخي وقد سألته الله تعالى
وزيرا ولو أني أردت قتله أكان ابنه يدعني. قالوا: بلى قتلته
حسدا، قال: فاختاروا سبعين رجلا فانطلق بهم فمرض رجلان في
الطريق فخط عليهما خطا فانطلق هو وابن هارون وبنو إسرائيل حتى
انتهوا إلى هارون فقال: يا هارون من قتلك؟ قال: لم يقتلني أحد
ولكني مت قالوا: ما تعصى يا موسى ادع لنا ربك يجعلنا أنبياء
فأخذتهم الرجفة فصعقوا وصعق الرجلان اللذان خلفوا وقام موسى
عليه السلام يدعو ربه فأحياهم الله تعالى فرجعوا إلى قومهم
أنبياء
لا يكاد يصح فيما أرى لتظافر الآثار بخلافه وإباء ظواهر الآيات
عنه.
قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ عرض للعفو
السابق لاستجلاب العفو اللاحق يعني أنك قدرت على إهلاكهم قبل
ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر وغيرهما فترحمت
عليهم ولم تهلكهم فارحمهم الآن كما رحمتهم من قبل جريا على
مقتضى كرمك وإنما قال: وَإِيَّايَ تسليما منه وتواضعا، وقيل:
أراد بقوله مِنْ قَبْلُ حين فرطوا في النهي عن عبادة العجل وما
فارقوا عبدته حين شاهدوا إصرارهم عليها أي لو شئت إهلاكهم
بذنوبهم إذ ذاك وإياي أيضا حين طلبت منك الرؤية، وقيل: حين قتل
القبطي لأهلكتنا، وقيل: هو تمن منه عليه السلام للاهلاك جميعا
بسبب محبته أن لا يرى ما يرى من مخالفتهم له مثلا أو بسبب آخر
وفيه دغدغة أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا من
العناد وسوء الأدب أو من عبادة العجل، والهمزة إما لإنكار وقوع
الإهلاك ثقة بلطف الله عزّ وجلّ كما قال ابن الأنباري أو
للاستعطاف كما قال المبرد أي لا تهلكنا، وأيا ما كان فهو من
مقول موسى عليه السلام كالذي قبله، وقول بعضهم: كان ذلك قاله
بعضهم غير ظاهر ولا داعي إليه، والقول بأن الداعي ما فيه من
التضجر الذي لا يليق بمقام النبوة لا يخفى ما فيه، ولعل مراد
القائل بذلك أن هذا القول من موسى عليه السلام يشبه قول أحد
السبعين فكأنه قاله على لسانهم لأنهم الذين أصيبوا بما أصيبوا
به دونه فافهم إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ استئناف مقرر لما
قبله واعتذار عما وقع منهم وإن نافية وهي للفتنة المعلومة
للسياق أي ما الفتنة إلا فتنتك أي محنتك وابتلاؤك حيث أسمعتهم
كلامك فطمعوا في رؤيتك واتبعوا القياس في غير محله أو أوجدت في
العجل خوارا فزاغوا به.
أخرج ابن أبي حاتم عن راشد بن سعد أن الله تعالى لما قال لموسى
عليه السلام: إن قومك اتخذوا عجلا جسدا له خوار قال: يا رب فمن
جعل فيه الروح؟ قال: أنا قال: فأنت أضللتهم يا رب قال: يا رأس
النبيين يا أبا الحكماء إني رأيت ذلك في قلوبهم فيسرته لهم،
ولعل هذا إشارة إلى الاستعداد الأزلي الغير المجعول. وقيل:
الضمير راجع على الرجفة أي ما هي إلا تشديدك التعبد والتكلف
علينا بالصبر على ما أنزلته بنا، وروي هذا عن الربيع وابن جبير
وأبي العالية، وقيل:
الضمير لمسألة الإراءة وإن لم تذكر.
(5/71)
تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ
تَشاءُ استئناف مبين لحكم الفتنة، وقيل: حال من المضاف إليه أو
المضاف أي تضل بسببها من تشاء إضلاله بالتجاوز عن الحد أو
باتباع المخايل أو بنحو ذلك وتهدي من تشاء هداه فيقوى بها
إيمانه، وقيل: المعنى تصيب بهذه الرجفة من تشاء وتصرفها عمن
تشاء، وقيل: تضل بترك الصبر على فتنتك وترك الرضا بها من تشاء
عن نيل ثوابك ودخول جنتك وتهدي بالرضا لها والصبر عليها من
تشاء وهو كما ترى أَنْتَ وَلِيُّنا أي أنت القائم بأمورنا
الدنيوية والأخروية لا غيرك فَاغْفِرْ لَنا ما يترتب عليه
مؤاخذتك وَارْحَمْنا بإفاضة آثار الرحمة الدنيوية والأخروية
علينا. والفاء لترتيب الدعاء على ما قبله من الولاية لأن من
شأن من يلي الأمور ويقوم بها دفع الضر وجلب النفع، وقدم طلب
المغفرة على طلب الرحمة لأن التخلية أهم من التحلية، وسؤال
المغفرة لنفسه عليه السلام في ضمن سؤالها لمن سألها له مما لا
ضير فيه وإن لم يصدر منه نحو ما صدر منه كما لا يخفى، والقول
بأن إقدامه عليه السلام على أن يقول: إِنْ هِيَ إِلَّا
فِتْنَتُكَ جرأة عظيمة فطلب من الله تعالى غفرانها والتجاوز
عنها مما يأباه السوق عند أرباب الذوق، ولا أظن أن الله تعالى
عدد ذلك ذنبا منه ليستغفره عنه، وفي ندائه السابق ما يؤيد ذلك
وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ إذ كل غافر سواك إنما يغفر لغرض
نفساني كحب الثناء ودفع الضرر وأنت تغفر لا لطلب عوض ولا غرض
بل لمحض الفضل والكرم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبل،
وتخصيص المغفرة بالذكر لأنها الأهم.
وفسر بعضهم ما ذكر بغفران السيئة وتبديلها بالحسنة ليكون
تذييلا لاغفر وارحم معا وَاكْتُبْ لَنا أي أثبت واقسم لنا فِي
هذِهِ الدُّنْيا التي عرانا فيها ما عرانا حَسَنَةً حياة طيبة
وتوفيقا للطاعة.
وقيل: ثناء جميلا وليس بجميل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما أن المراد اقبل وفادتنا وردنا بالمغفرة والرحمة وَفِي
الْآخِرَةِ أي واكتب لنا أيضا في الآخرة حسنة وهي المثوبة
الحسنى والجنة.
قيل: إن هذا كالتأكيد لقوله: اغفر وارحم إِنَّا هُدْنا
إِلَيْكَ أي تبنا إليك من هاد يهود إذا رجع وتاب كما قال:
إني امرؤ مما جنيت هائد ومن كلام بعضهم:
يا راكب الذنب هدهد ... واسجد كأنك هدهد
وقيل: معناه مال، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «هدنا»
بكسر الهاء من هاد يهيد إذا حرك، وأخرج ابن المنذر. وغيره عن
أبي وجرة السعدي أنه أنكر الضم وقال: والله لا أعلمه في كلام
أحد من العرب وإنما هو هدنا بالكسر أي ملنا وهو محجوج
بالتواتر، وجوز على هذه القراءة أن يكون الفعل مبنيا للفاعل
والمفعول بمعنى حركنا أنفسنا أو حركنا غيرنا، وكذا على قراءة
الجماعة، والبناء للمفعول عليها على لغة من يقول: عود المريض،
ولا بأس بذلك إذا كان الهود بمعنى الميل سوى أن تلك لغة ضعيفة،
وممن جوز الأمرين على القراءتين الزمخشري. وتعقبه السمين بأنه
متى حصل الالتباس وجب أن يؤتى بحركة تزيله فيقال: عقت إذا عاقك
غيرك بالكسر فقط أو الإشمام إلا أن سيبويه جوز في نحو قيل
الأوجه الثلاثة من غير احتراز، والجملة تعليل لطلب المغفرة
والرحمة، وتصديرها بحرف التحقيق لإظهار كمال النشاط والرغبة في
مضمونها قالَ استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال الله تعالى له
بعد دعائه؟ فقيل: قال عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ أي
شأني أصيب بعذابي من أشاء تعذيبه من غير دخل لغيري فيه.
وقرأ الحسن وعمرو الأسود «من أساء» بالسين المهملة ونسبت إلى
زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وأنكر بعضهم صحتها
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ أي شأنها أنها واسعة تبلغ
كل شيء ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في
الدنيا بنعمتي، وفي نسبة الإصابة إلى العذاب بصيغة المضارع
ونسبة السعة إلى الرحمة
(5/72)
بصيغة الماضي إيذان بأن الرحمة مقتضى الذات
وأما العذاب فمقتضى معاصي العباد، والمشيئة معتبرة في جانب
الرحمة أيضا، وعدم التصريح بها قيل: تعظيما لأمر الرحمة، وقيل:
للاشعار بغاية الظهور، ألا ترى إلى قوله تعالى: فَسَأَكْتُبُها
فإنه متفرع على اعتبار المشيئة كما لا يخفى، كأنه قيل: فإذا
كان الأمر كذلك أي كما ذكر من إصابة عذابي وسعة رحمتي لكل من
أشاء فسأثبتها إثباتا خاصا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أي الكفر
والمعاصي إما ابتداء أو بعد الملابسة وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ
المفروضة عليهم في أموالهم وقيل المعنى يطيعون الله ورسوله
صلّى الله عليه وسلّم والظاهر خلافه، وتخصيص إيتاء الزكاة
بالذكر مع اقتضاء التقوى له للتعريض بقوم موسى عليه السلام لأن
ذلك كان شاقا عليهم لمزيد حبهم للدنيا، ولعل الصلاة إنما لم
تذكر مع إنافتها على سائر العبادات وكونها عماد الدين اكتفاء
منها بالاتقاء الذي هو عبارة عن فعل الواجبات بأسرها وترك
المنهيات عن آخرها وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا كلها كما يفيده
الجمع المضاف يُؤْمِنُونَ إيمانا مستمرا من غير إخلال بشيء
منها، وتكرير الموصول مع أن المراد به عين ما أريد بالموصول
الأول دون أن يقال ويؤمنون بآياتنا عطفا على ما قبله كما سلك
في سابقه قيل: لما أشير إليه من القصر بتقديم الجار والمجرور
أي هم بجميع آياتنا يؤمنون لا ببعضها دون بعض، وفيه تعريض بمن
آمن ببعض وكفر ببعض كقوم موسى عليه السلام.
واختلف في توجيه هذا الجواب فقال شيخ الإسلام: لعل الله تعالى
حين جعل توبة عبدة العجل بقتلهم أنفسهم وكان الكلام الذي أطمع
السبعين في الرؤية في ذلك ضمن موسى عليه السلام دعاءه التخفيف
والتيسير حيث قال:
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً أي خصلة حسنة
عارية عن المشقة والشدة فإن في القتل من العذاب الشديد ما لا
يخفى فأجابه سبحانه بأن عذابي أصيب به من أشاء وقومك ممن
تناولته مشيئتي ولذلك جعلت توبتهم مشوبة بالعذاب الدنيوي
ورحمتي وسعت كل شيء وقد نال قومك نصيب منها في ضمن العذاب
الدنيوي وسأكتب الرحمة خالصة غير مشوبة بالعذاب الدنيوي كما
دعوت لمن صفتهم كيت وكيت لا لقومك لأنهم ليسوا كذلك فيكفيهم ما
قدر لهم من الرحمة وإن كانت مقارنة العذاب، وعلى هذا فموسى
عليه السلام لم يستجب له سؤاله في قومه ومن الله تعالى بما
سأله على من آمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم.
وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما أجيب بما ذكر قال: أتيتك
يا رب بوفد من بني إسرائيل فكانت وفادتنا لغيرنا.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما دعاء موسى ربه سبحانه فجعل
دعاءه لمن آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام واتبعه،
وفي رواية أخرى رواها جمع عنه سأل موسى ربه مسألة فأعطاه محمدا
صلّى الله عليه وسلّم وتلا الآية،
لكن لا يخفى أن ما قرره هذا الشيخ بعيد. وقال صاحب الكشف في
ذلك: كأنه لما سأل موسى عليه السلام لنفسه ولقومه خير الدارين
أجيب بأن عذابي لغير التائبين إن شئت ورحمتي الدنيوية تعم
التائب وغيره وأما الجمع بين الرحمتين فهو للمستعدين فإن تاب
من دعوت لهم وثبتوا كأعقابهم نالتهم الرحمة الخاصة الجامعة
وأثر فيهم دعاؤك وإن داوموا على ما هم فيه بعدوا عن القبول،
والغرض ترغيبهم على الثبات على التوبة والعمل الصالح وتحذيرهم
عن المعاودة عما فرط منهم مع التخلص إلى ذكر النبي صلّى الله
عليه وسلّم والحث على اتباعه أحسن تخلص وحث يحير الألباب ويبدي
للمتأمل فيه العجب العجاب، وإلى بعض هذا يشير كلام الزمخشري.
وقال العلامة الطيبي في توجيهه: إن هذا الجواب وارد على
الأسلوب الحكيم، وقوله سبحانه: عَذابِي إلخ كالتمهيد للجواب،
والجواب فَسَأَكْتُبُها إلخ، وذلك أن موسى عليه السلام طلب
الغفران والرحمة والحسنة في الدارين لنفسه ولأمته خاصة بقوله:
وَاكْتُبْ لَنا وعلله بقوله: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ فأجابه
الرب سبحانه بأن تقييدك المطلق ليس من الحكمة فإن عذابي من
شأنه أنه تابع لمشيئتي فأمتك لو تعرضوا لما اقتضت الحكمة تعذيب
من باشره لا
(5/73)
ينفعهم دعاؤك لهم وان رحمتي من شأنها أن
تعم في الدنيا الخلق صالحهم وطالحهم مؤمنهم وكافرهم فالحسنة
الدنيوية عامة فلا تختص بأمتك فتخصيصها تحجير للواسع وأما
الحسنة الأخروية فهي للموصوفين بكذا وكذا، وجعل فَسَأَكْتُبُها
كالقول بالموجب لأنه عليه السلام طلب ما طلب وجعل العلة ما جعل
فضم الله تعالى ما ضم، يعني أن الذي يوجب اختصاص الحسنتين معا
هذه الصفات المتعددة لا التوبة المجردة، ثم ذكر أن ترتيب هذا
على ما قبله بالفاء على منوال قوله تعالى جوابا عن قول إبراهيم
عليه السلام: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ [البقرة:
124] وأيد هذا التقرير بما روي عن الحسن وقتادة وسعت رحمته في
الدنيا البر والفاجر وهي يوم القيامة للمتقين خاصة اهـ ما أريد
منه، وما ذكره من حديث التحجر في القلب منه شيء فإن الظاهر أن
ما في دعاء موسى عليه السلام ليس منه وإنما التحجر في مثل ما
أخرجه أحمد. وأبو داود عن جندب عن عبد الله البجلي قال: «جاء
أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها وصلى خلف رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم ثم نادى اللهم ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا
أحدا فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: لقد حظرت رحمة واسعة
إن الله خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها
وأنسها وبهائمها وعنده تسعة وتسعون» .
وأنا أقول: قد يقال: إن موسى عليه السلام إنما طلب على أبلغ
وجه المغفرة والرحمة الدنيوية والأخروية له ولقومه وتعليل ذلك
بالتوبة مما لا شك في صحته، ولا يفهم من كلامه عليه السلام أنه
طلب للقوم كيف كانوا وفي أي حالة وجدوا وعلى أي طريقة سلكوا
فإن ذلك مما لا يكاد يقع ممن له أدنى معرفة بربه فضلا عن مثله
عليه السلام، وإنما هذا الطلب لهم من حيث إنهم تائبون راجعون
إليه عز شأنه، ولا يبعد أن يقال باستجابة دعائه بذلك بل هي أمر
مقطوع به بالنسبة إليه صلّى الله عليه وسلّم وكيف يشك في أنه
غفر له ورحم وأوتي خير الدارين وهو- هو- وأما بالنسبة إلى قومه
فالظاهر أن التائب منهم أوتي خير الآخرة لأن هذه التوبة إن
كانت هي التوبة بالقتل فقد جاء عن الزهري أن الله تعالى أوحى
إلى موسى بعد أن كان ما كان ما يحزنك؟ أما من قتل منكم فحي
يرزق عندي وأما من بقي فقد قبلت توبته فسر بذلك موسى وبنو
إسرائيل، وإن كانت غيرها فمن المعلوم أن التوبة تقبل بمقتضى
الوعد المحتوم، وخير من قبلت توبته في الآخرة كثير، وأما خير
الدنيا فقد نطقت الآيات بأن القوم غرقى فيه، ويكفي في ذلك قوله
تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي
أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعالَمِينَ [البقرة: 47، 122] .
وحينئذ فيمكن أن يقال في توجيه الجواب: أنه سبحانه لما رأى من
موسى عليه السلام شدة القلق والاضطراب ولهذا بالغ في الدعاء
خشية من طول غضبه تعالى على من يشفق عليه من ذلك سكن جل شأنه
روعته وأجاب طلبته بأسلوب عجيب، وطريق بديع غريب فقال سبحانه
له: عَذابِي أي الذي تخشى أن تصيب بعض نباله التي أرميها بيد
جلالي عن قسي إرادتي من دعوت له أصيب به من أشاء فلا يتعين
قومك الذين تخشى عليهم ما تخشى لأن يكون غرضا له بعد أن تابوا
من الذنب وتركوا فعله وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ
إنسانا كان أو غيره مطيعا كان أو غيره فما من شيء إلا وهو داخل
فيها سابح في تيارها أو سايح في فيافيها بل ما من معذب إلا
ويرشح عليه ما يرشح منها ولا أقل من أدنى لم أعذبه بأشد مما هو
فيه مع قدرتي عليه فطب نفسا وقرّ عينا فدخول قومك في رحمة وسعت
كل شيء ولم تضق عن شيء أمر لا شك فيه ولا شبهة تعتريه كيف وقد
هادوا إلي ووفدوا عليّ أفترى أني أضيق الواسع عليهم وأوجه نبال
الخيبة إليهم وأردهم بخفّي حنين فيرجع كل منهم صفر الكفين؟ لا
أراني أفعل بل إني سأرحمهم وأذهب عنهم ما أهمهم وأكتب الحظ
الأوفر من رحمتي لأخلافهم الذين يأتون آخر الزمان ويتصفون بما
يرضيني ويقومون بأعباء ما يراد منهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله
سبحانه: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ إلخ، ولعل تقديم
وصف العذاب دون وصف الرحمة ليفرغ ذهنه عليه السلام مما يخاف
منه مع أن في عكس هذا الترتيب ما يوجب انتشار
(5/74)
النظم الكريم ووصف أخلاقهم بما وصفوا به
لاستنهاض همهم إلى الاتصاف بما يمكن اتصافهم به منه أو إلى
الثبات عليه، ولم يصرح في الجواب بحصول السؤال بأن يقال: قد
أوتيت سؤلك يا موسى مثلا اختيارا لما هو أبلغ فيه، وهذا الذي
ذكرناه وإن كان لا يخلو عن شيء إلا أنه أولى من كثير مما وقفنا
عليه من كلام المفسرين وقد تقدم بعضه، وأقول بعد هذا كله: خير
الاحتمالات ما تشهد له الآثار وإذا صح الحديث فهو مذهبي فتأمل.
والسين في فَسَأَكْتُبُها يحتمل أن تكون للتأكيد، ويحتمل أن
تكون للاستقبال كما لا يخفى وجهه على ذوي الكمال الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ الذي أرسله الله تعالى لتبليغ الأحكام
النَّبِيَّ أي الذي أنبأ الخلق عن الله تعالى فالأول تعتبر فيه
الإضافة إلى الله تعالى والثاني تعتبر فيه الإضافة إلى الخلق،
وقدم الأول عليه لشرفه وتقدم إرسال الله تعالى له على تبليغه،
وإلى هذا ذهب بعضهم، وجعلوا إشارة إلى أن الرسول والنبي هنا
مراد بهما معناهما اللغوي لإجرائهما على ذات واحدة كما أنهما
كذلك في قوله تعالى: وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم: 51، 54]
، وفسر في الكشاف الرسول بالذي يوحى إليه كتاب والنبي بالذي له
معجزة، ويشير إلى الفرق بين الرسول والنبي بأن الرسول من له
كتاب خاص والنبي أعم. وتعقبه في الكشف بأن أكثر الرسل لم
يكونوا أصحاب كتاب مستقل كإسماعيل ولوط والياس عليهم السلام
وكم وكم وكم ثم قال: والتحقيق أن النبي هو الذي ينبىء عن ذاته
تعالى وصفاته وما لا تستقل العقول بدرايته ابتداء بلا واسطة
بشر، والرسول هو المأمور مع ذلك بإصلاح النوع، فالنبوة نظر
فيها إلى الإنباء عن الله تعالى والرسالة إلى المبعوث إليهم،
والثاني وإن كان أخص وجودا إلا أنهما مفهومان مفترقان ولهذا لم
يكن رسولا نبيا مثل إنسان حيوان اهـ.
وفيه مخالفة بينة لما ذكر أولا، ولا حجر في الاعتبار. نعم ما
ذكروه مدفوع بأن الفرق المذكور مع تغاير المفهومين على كل حال
من عرف الشرع والاستعمال، وأما في الوضع والحقيقة اللغوية فهما
عامان. وقد ورد في القرآن بالاستعمالين فلا تعارض بينهما.
ولا يرد أن ذكر النبي العام بعد الخاص لا يفيد والمعروف في مثل
ذلك العكس، ولا يخفى أن المراد بهذا الرسول النبي نبينا صلّى
الله عليه وسلّم الْأُمِّيَّ أي الذي لا يكتب ولا يقرأ، وهو
على ما قال الزجاج نسبة إلى أمة العرب لأن الغالب عليهم ذلك.
وروى الشيخان وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب»
أو
إلى أم القرى لأن أهلها كانوا كذلك، ونسب ذلك إلى الباقر رضي
الله تعالى عنه
أو إلى أمه كأنه على الحالة التي ولدته أمه عليها، ووصف عليه
الصلاة والسلام بذلك تنبيها على أن كمال علمه مع حاله إحدى
معجزاته صلّى الله عليه وسلّم فهو بالنسبة إليه- بأبي هو وأمي-
عليه الصلاة والسلام صفة مدح، وأما بالنسبة إلى غيره فلا، وذلك
كصفة التكبر فإنها صفة مدح لله عزّ وجلّ وصفة ذم لغيره.
واختلف في أنه عليه الصلاة والسلام هل صدر عنه الكتابة في وقت
أم لا؟ فقيل: نعم صدرت عنه عام الحديبية فكتب الصلح وهي معجزة
أيضا له صلّى الله عليه وسلّم وظاهر الحديث يقتضيه، وقيل: لم
يصدر عنه أصلا وإنما أسندت إليه في الحديث مجازا.
وجاء عن بعض أهل البيت رضي الله عنهم أنه صلّى الله عليه وسلّم
كان تنطق له الحروف المكتوبة إذا نظر فيها،
ولم أر لذلك سندا يعول عليه، وهو صلّى الله عليه وسلّم فوق
ذلك. نعم
أخرج أبو الشيخ من طريق مجاهد قال حدثني عون بن عبد الله بن
عتبة عن أبيه قال: «ما مات النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى قرأ
وكتب
فذكرت هذا الحديث للشعبي فقال: صدق سمعت أصحابنا يقولون ذلك»
وقيل: الأمي نسبة إلى الأم بفتح الهمزة بمعنى القصد لأنه
المقصود وضم الهمزة من تغيير النسب، ويؤيده قراءة يعقوب
«الأمّي» بالفتح وإن احتملت أن تكون من تغيير النسب أيضا،
والموصول في محل جر بدل من الموصول الأول، هو إما بدل كل على
أن المراد منه هؤلاء المعهودين أو بعض على أنه عام ويقدر حينئذ
منهم، وجوز أن يكون
(5/75)
نعتا له، ويحتمل أن يكون في محل نصب على
القطع وإضمار ناصب له، وأن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ
محذوف، وقيل: على أنه مبتدأ خبره جملة يَأْمُرُهُمْ أو
أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وكلاهما خلاف المتبادر من النظم
الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً باسمه ونعوته الشريفة بحيث لا
يشكون أنه هو، ولذلك عدل عن أن يقال: يجدون اسمه أو وصفه
مكتوبا عِنْدَهُمْ ظرف لمكتوبا الواقع حالا أو ليجدون، وذكر
لزيادة التقرير وأن شأنه عليه الصلاة والسلام حاضرة عندهم لا
يغيب عنهم أصلا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ اللذين يعتد
بهما بنو إسرائيل سابقا ولا حقا، وكأنه لهذا المعنى اقتصر
عليهما وإلا فهو صلّى الله عليه وسلّم مكتوب في الزبور أيضا،
أخرج ابن سعد. والدارمي في مسنده. والبيهقي في الدلائل. وابن
عساكر عن عبد الله بن سلام قال: «صفة رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم في التوراة يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا
ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ
ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة ولكن يعفو
ويصفح ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء حتى
يقولوا لا إله إلا الله ويفتح أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا
غلفا» ، ومثله من رواية البخاري وغيره عن عبد الله بن عمرو بن
العاص،
وجاء من حديث أخرجه ابن سعد. وابن عساكر من طريق موسى بن يعقوب
الربعي عن سهل مولى خيثمة قال: «قرأت في الإنجيل نعت محمد صلّى
الله عليه وسلّم أنه لا قصير ولا طويل أبيض ذو ضفيرتين بين
كتفيه خاتم لا يقبل الصدقة ويركب الحمار. والبعير ويحلب الشاة
ويلبس قميصا مرقوعا ومن فعل ذلك فقد برىء من الكبر وهو يفعل
ذلك وهو من ذرية إسماعيل اسمه أحمد» .
وجاء من خبر أخرجه البيهقي في الدلائل عن وهب بن منبه قال: «إن
الله تعالى أوحى في الزبور يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه
أحمد ومحمد لا أغضب عليه أبدا ولا يعصيني أبدا وقد غفرت له قبل
أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأمته مرحومة أعطيتهم من
النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء وافترضت عليهم الفرائض التي
افترضت على الأنبياء والرسل حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل
نور الأنبياء وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا إلى كل صلاة
كما افترضت على الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما
أمرت الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم
وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرسل قبلهم يا داود إني فضلت محمدا
وأمته على الأمم كلهم، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من
الأمم، لا أؤاخذهم بالخطأ والنسيان وكل ذنب ركبوه على غيره عمد
إذا استغفروني منه غفرته وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به
أنفسهم عجلته لهم أضعافا مضاعفة ولهم عندي أضعاف مضاعفة وأفضل
من ذلك، وأعطيتهم على المصائب إذا صبروا وقالوا: إِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: 156] الصلاة
والرحمة والهدى إلى جنات النعيم، فإن دعوتي استجبت لهم فإما أن
يروه عاجلا وإما أن أصرف عنهم سوءا وإما أن أدخره لهم في
الآخرة، يا داود من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا الله
وحدي لا شريك لي صادقا بها فهو معي في جنتي وكرامتي ومن لقيني
وقد كذب محمدا وكذب بما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه من
قبره العذاب صبا وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره في قبره
ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار»
إلى غير ذلك من الأخبار الناطقة بأنه صلّى الله عليه وسلّم
مكتوب في الكتب الإلهية. والظرفان متعلقان بيجدونه أو بمكتوبا.
وذكر الإنجيل قبل نزوله من قبيل ما نحن فيه من ذكر النبي صلّى
الله عليه وسلّم والقرآن الكريم قبل مجيئهما.
يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ
كلام مستأنف، وهو على ما قيل متضمن لتفصيل بعض أحكام الرحمة
التي وعد فيما سبق بكتبها إجمالا إذ ما أشارت إليه المتعاطفات
من آثار الرحمة الواسعة وجوز كونه في محل نصب على أنه حال
مقدرة من مفعول يجدونه أو من المستكن في مكتوبا، وقيل: هو مفسر
لمكتوبا أي لما كتب، والمراد بالمعروف قيل الإيمان، وقيل: ما
عرف في الشريعة. والمراد بالمنكر ضد ذلك وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ
(5/76)
عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ فسر الأول بالأشياء
التي يستطيبها الطبع كالشحوم، والثاني بالأشياء التي يستخبثها
كالدم، فتكون الآية دالة على أن الأصل في كل ما تستطيبه النفس
ويستلذه الطبع الحل وفي كل ما تستخبثه النفس ويكرهه الطبع
الحرمة إلا لدليل منفصل، وفسر بعضهم الطيب بما طاب في حكم
الشرع والخبيث بما خبث فيه كالربا والرشوة.
وتعقب بأن الكلام حينئذ يحل ما يحكم بحله ويحرم ما يحكم بحرمته
ولا فائدة فيه. وردوه بأنه يفيد فائدة وأي فائدة لأن معناه أن
الحل والحرمة بحكم الشرع لا بالعقل والرأي، وجوز بعضهم كون
الخبيث بمعنى ما يستخبث طبعا أو ما خبث شرعا وقال كالدم أو
الربا ومثل للطيب بالشحم وجعل ذلك مبنيا على اقتضاء التحليل
سبق التحريم والشحم كان محرما عند بني إسرائيل، وعلى اقتضاء
التحريم سبق التحليل وجعل الدم وأخيه مما حرم على هذا لأن
الأصل في الأشياء الحل، ولا يرد أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبا [البقرة: 275] لأنه لرد قولهم إِنَّمَا
الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [البقرة:
275] أو لأن المراد ابقاؤه على حله لمقابلته بتحريم الربا.
ودفع بهذا ما توهم من عدم الفائدة وَيَضَعُ عَنْهُمْ
إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ أي يخفف
عنهم ما كلفوه من التكاليف الشاقة كقطع موضع النجاسة من الثوب
أو منه ومن البدن، وإحراق الغنائم، وتحريم السبت، وقطع الأعضاء
الخاطئة، وتعين القصاص في العمد والخطأ من غير شرع الدية فإنه
وإن لم يكن مأمورا به في الألواح إلا أنه شرع بعد تشديدا عليهم
على ما قيل، وأصل الأصر الثقل الذي يأصر صاحبه عن الحراك،
والاغلال جمع غل بضم الغين وهي في الأصل كما قال ابن الأثير
الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه ويقال لها جامعة أيضا،
ولعل غير الحديد إذا جمع به يد إلى عنق يقال له ذلك أيضا،
والمراد منهما هنا ما علمت وهو المأثور عن كثير من السلف، ولا
يخفى ما في الآية من الاستعارة.
وجوز أن يكون هناك تمثيل، وعن عطاء كانت بنو إسرائيل إذا قامت
تصلي لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم وربما ثقب الرجل
ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها على السارية يحبس نفسه
على العبادة وعلى هذا فالأغلال يمكن أن يراد حقيقته، وقرأ ابن
عامر «آصارهم» على الجمع وقرأ «آصرهم» بالفتح على المصدر
وبالضم على الجمع أيضا فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ أي صدقوا
برسالته ونبوته وَعَزَّرُوهُ أي عظموه ووقروه كما قال ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما، وقال الراغب: التعزير النصرة مع
التعظيم، والتعزير الذي هو دون الحد يرجع إليه لأنه تأديب
والتأديب نصرة لأن أخلاق السوء أعداء ولذا
قال في الحديث: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما فقيل كيف أنصره
ظالما؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تكفه عن الظلم»
وأصله عند غير واحد المنع والمراد منعه حتى لا يقوى عليه عدو،
وقرىء «عزروه» بالتخفيف وَنَصَرُوهُ على أعدائه في الدين وعطف
هذا على ما قبله ظاهر على ما روي عن الحبر وكذا على ما قاله
الجمع إذ الأول عليه من قبيل درء المفاسد وهذا من قبيل جلب
المصالح، ومن فسر الأول بالتعظيم مع التقوية أخذا من كلام
الراغب قال هنا نصروه لي أي قصدوا بنصره وجه الله تعالى وإعلاء
كلمته فلا تكرار خلافا لمن توهمه وَاتَّبَعُوا النُّورَ
الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ وهو القرآن وعبر عنه بالنور لظهوره في
نفسه بإعجازه وإظهاره لغيره من الأحكام وصدق الدعوى فهو أشبه
شيء بالنور الظاهر بنفسه والمظهر لغيره بل هو نور على نور،
والظرف اما متعلق بأنزل والكلام على حذف مضاف أي مع نبوته أو
إرساله عليه السلام لأنه لم ينزل معه وإنما نزل مع جبريل عليه
السلام.
نعم استباؤه أو إرساله كان مصحوبا بالقرآن مشفوعا به وإما
متعلق باتبعوا على معنى شاركوه في اتباعه وحينئذ لم يحتج إلى
تقدير، وقد يعلق به على معنى اتبعوا القرآن مع اتباعهم النبي
صلّى الله عليه وسلّم إشارة إلى العمل بالكتاب والسنة، وجوز أن
يكون في موضع الحال من ضمير اتبعوا أي اتبعوا النور مصاحبين له
في اتباعه وحاصله ما ذكر في الاحتمال الثاني، وأن يكون حالا
مقدرة من نائب فاعل أنزل. وفي مجمع البيان أن مع بمعنى على وهو
متعلق بأنزل ولم يشتهر وروي
(5/77)
ذلك، وقال بعضهم: هي هنا مرادفة لعند وهو
أحد معانيها المشهورة إلا أنه لا يخفى بعده وإن قيل حاصل
المعنى حينئذ أنزل عليه أُولئِكَ أي المنعوتون بتلك النعوت
الجليلة هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي هم الفائزون بالمطلوب لا
المتصفون بأضداد صفاتهم، وفي الإشارة إشارة إلى علية تلك
الصفات للحكم، وكاف البعد للإيذان ببعد المنزلة وعلو الدرجة في
الفضل والشرف، والمراد من الموصول المخبر عنه بهذه الجملة عند
ابن عباس رضي الله تعالى عنه اليهود الذين آمنوا برسول الله
صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: ما يعمهم وغيرهم من أمته عليه
الصلاة والسلام المتصفين بعنوان الصلة إلى يوم القيامة
والاتصاف بذلك لا يتوقف على إدراكه صلّى الله عليه وسلّم كما
لا يخفى وهو الأولى عندي.
وادعى بعضهم أن المراد من الموصول في قوله تعالى:
فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ المعنى الأعم أيضا وجعله
ابن الخازن قول جمهور المفسرين، وفيه ما فيه ومما يقضي منه
العجب كون المراد منه اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه
السلام، والجملة متفرعة على ما تقدم من نعوته صلّى الله عليه
وسلّم الجليلة الشأن، وقيل: على كتب الرحمة لمن مر، وذكر شيخ
الإسلام أنها تعليم لكيفية اتباعه عليه السلام وبيان علو رتبة
متبعيه واغتنامهم مغانم الرحمة الواسعة في الدارين إثر بيان
نعوته الجليلة والإشارة إلى إرشاده عليه الصلاة والسلام وإياهم
بما في ضمن يَأْمُرُهُمْ إلخ، وجعل الحصر المدلول عليه بقوله
سبحانه: أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ بالنسبة إلى غيرهم من
الأمم ثم قال: فيدخل فيهم قوم موسى عليه السلام دخولا أوليا
حيث لم ينجوا عما في توبتهم من المشقة الهائلة، وهو مبني على
ما سلكه في تفسير الآيات من أول الأمر ولا يصفو عن كدر قُلْ يا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً
لما حكى ما في الكتابين من نعوته صلّى الله عليه وسلّم وشرف من
يتبعه على ما عرفت، أمر عليه الصلاة والسلام بأن يصدع بما فيه
تبكيت لليهود الذين حرموا أتباعه وتنبيه لسائر الناس على
افتراء من زعم منهم أنه صلّى الله عليه وسلّم مرسل إلى العرب
خاصة، وقيل: إنه أمر له عليه الصلاة والسلام ببيان أن سعادة
الدارين المشار إليهما فيما تقدم غير مختصة بمن اتبعه من أهل
الكتابين بل شاملة لكل من يتبعه كائنا من كان وذلك ببيان عموم
رسالته صلّى الله عليه وسلّم وهي عامة للثقلين كما نطقت به
النصوص حتى صرحوا بكفر منكره وما هنا لا يأبى ذلك، والمفهوم
فيه غير معتبر عند القائل به لفقد شرطه وهو ظاهر الَّذِي لَهُ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في موضع نصب بإضمار أعني أو
نحوه أو رفع على إضمار هو.
وجوز أن يكون في موضع جر على أنه صفة للاسم الجليل أو بدل منه،
واستبعد ذلك أبو البقاء لما فيه من الفصل بينهما، وأجيب بأنه
مما ليس بأجنبي وفي حكم ما لا يكون فيه فصل ورجح الأول
بالفخامة إذ يكون عليه جملة مستقلة مؤذنة بأن المذكور علم في
ذلك أي اذكر من لا يخفى شأنه عند الموافق والمخالف، وقيل: هو
مبتدأ خبره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وهو على الوجوه الأول بيان
لما قبله وجعله الزمخشري مع ذلك بدلا من الصلة وقد نص على جواز
هذا النحو سيبويه وذكر العلامة أن سوق كلامه يشعر بأنه بدل
استعمال، ووجه البيان أن من ملك العالم علويه وسفليه هو الإله
فبينهما تلازم يصحح جعل الثاني مبينا للأول وليس المراد
بالبيان الإثبات بالدليل حتى يقال الظاهر العكس لأن الدليل على
تفرده سبحانه بالألوهية ملكه للعالم بأسره مع أنه يصح أن يجعل
دليلا عليه أيضا فيقال الدليل على أنه جل شأنه المالك المتصرف
في ذلك انحصار الألوهية فيه إذ لو كان إله غيره لكان له ذلك،
واعترض أبو حيان القول بالبدلية بأن إبدال الجمل من الجمل غير
المشتركة في عامل لا يعرف، وتعقب بأن أهل المعاني ذكروه وتعريف
التابع بكل ثان أعرب بإعراب سابقه ليس بكلي، وقوله سبحانه:
يُحيِي وَيُمِيتُ لزيادة تقرير إلهيته سبحانه، وقيل:
لزيادة اختصاصه تعالى بذلك وله وجه وجيه والفاء في قوله عز
شأنه: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لتفريع الأمر على ما
تقرر من رسالته صلّى الله عليه وسلّم وإيراد نفسه الكريمة عليه
الصلاة والسلام بعنوان الرسالة على طريق الالتفات إلى الغيبة
للمبالغة في
(5/78)
إيجاب الامتثال ووصف الرسول بقوله تعالى:
النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ لمدحه ولزيادة تقرير أمره وتحقيق أنه
المكتوب في الكتابين الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ
ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل عليهم السلام من كتبه ووحيه،
وقرىء «وكلمته» على إرادة الجنس أو القرآن أو عيسى عليه السلام
كما روي ذلك عن مجاهد تعريضا لليهود تنبيها على أن من لم يؤمن
به عليه السلام لم يعتبر إيمانه، والإتيان بهذا الوصف بحمل أهل
الكتابين على الامتثال بما أمروا به والتصريح بالإيمان بالله
تعالى للتنبيه على أن الإيمان به سبحانه لا ينفك عن الإيمان
بكلماته ولا يتحقق إلا به ولا يخفى ما في هذه الآية من إظهار
النصفة والتفادي عن العصبية للنفس وجعلوا ذلك نكتة للالتفات
وإجراء هاتيك الصفات وَاتَّبِعُوهُ أي في كل ما يأتي وما يذر
من أمور الدين.
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ علة للفعلين أو حال من فاعليهما أي
رجاء لاهتدائكم إلى المطلوب أو راجين له. وفي تعليقه بهما
إيذان بأن من صدقه ولم يتبعه بالتزام شرعه فهو بعد في مهامه
الضلال وَمِنْ قَوْمِ مُوسى يعني بني إسرائيل أُمَّةٌ جماعة
عظيمة يَهْدُونَ الناس بِالْحَقِّ أي محقين على أن الباء
للملابسة، والجار والمجرور في موضع الحال أو بكلمة الحق على أن
الباء للآلة والجار لغو وَبِهِ أي بالحق يَعْدِلُونَ في
الأحكام الجارية فيما بينهم، وصيغة المضارع في الفعلين للايذان
بالاستمرار التجددي، واختلف في المراد منهم فقيل أناس كانوا
كذلك على عهد موسى صلّى الله عليه وسلّم والكلام مسوق لدفع ما
عسى يوهمه تخصيص كتب الرحمة والتقوى والإيمان بالآيات بمتبعي
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حرمان أسلاف قوم موسى عليه
السلام من كل خير وبيان أن كلهم ليسوا كما حكيت أحوالهم بل
منهم الموصوفون بكيت وكيت، وصيغة المضارع لحكاية الحال
الماضية.
واختار هذا شيخ الإسلام ولا يبعد عندي أن يكون ذلك بيانا لقسم
آخر من القوم مقابل لما ذكره موسى عليه السلام في قوله:
أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا فيه تنصيص على أن
من القوم من لم يفعل، وقيل: أناس وجدوا على عهد نبينا صلّى
الله عليه وسلّم موصوفون بذلك كعبد الله بن سلام وأضرابه ورجحه
الطيبي بأنه أقرب الوجوه، وذلك أنه تعالى لما أجاب عن دعاء
موسى عليه السلام بقوله تعالى: فَسَأَكْتُبُها إلى قوله
سبحانه: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الْأُمِّيَّ إلخ ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن
يصدع بما فيه تبكيت لليهود وتنبيه على افترائهم فيما يزعمونه
في شأنه عليه السلام مع إظهار النصفة وذلك بقوله تعالى: قُلْ
يا أَيُّهَا النَّاسُ إلخ وقوله سبحانه: فَآمِنُوا إلخ عقب ذلك
بقوله عزّ شأنه: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى إلخ، والمعنى أن بعض
هؤلاء الذين حكينا عنهم ما حكينا آمنوا وأنصفوا من أنفسهم
يهدون الناس إلى أنه عليه الصلاة والسلام الرسول الموعود
ويقولون لهم: هذا الرسول النبي الأمي الذي نجده مكتوبا عندنا
في التوراة والإنجيل ويعدلون في الحكم لا يجورون ولكن أكثرهم
ما أنصفوا ولبسوا الحق بالباطل وكتموه وجاروا في الأحكام فيكون
ذكر هذه الفرقة تعريضا بالأكثر.
واعترض بأن الذين آمنوا من قوم موسى على عهد رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم كانوا قليلين ولفظ أمته يدل على الكثرة، وأيضا
إن هؤلاء قد مر ذكرهم فيما سلف، وأجيب بأن لفظ الأمة قد يطلق
على القليل لا سيما إذا كان له شأن بل قد يطلق على الواحد إذا
كان كذلك كما في قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً
[النحل: 120] وبأن ذكرهم هنا لما أشير إليه من النكتة لا يأبى
ذكرهم فيما سلف لغير تلك النكتة وتكرار الشيء الواحد لاختلاف
الأغراض سنة مشهورة في الكتاب على أنه قد قيل: إنهم فيما تقدم
قد وصفوا بما هو ظاهر في أنهم مهتدون وهنا قد وصفوا بما هو
ظاهر في أنهم هادون فيحصل من الذكرين أنهم موصوفون بالوصفين.
نعم يبقى الكلام في نكتة الفصل ولعلها لا تخفى على المتدبر،
وقيل هم قوم من بني إسرائيل وجدوا بين موسى ونبينا محمد عليهما
الصلاة والسلام وهم الآن موجودون
(5/79)
أيضا، فقد أخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج
أنه قال: بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا
وكانوا اثني عشر سبطا تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا
الله أن يفرق بينهم وبينهم ففتح الله تعالى لهم نفقا في الأرض
فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين فهم هنالك حنفاء يستقبلون
قبلتنا، وإليهم الإشارة كما قال ابن عباس بقوله تعالى:
وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا
الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ
لَفِيفاً [الإسراء: 104] وفسر وعد الآخرة بنزول عيسى عليه
السلام وقال: إنهم ساروا في السرب سنة ونصفا.
وذكر مقاتل كما روى أبو الشيخ أن الله تعالى أجرى معهم نهرا
وجعل لهم مصباحا من نور بين أيديهم وأن أرضهم التي خرجوا إليها
تجتمع فيها الهوام والبهائم والسباع مختلطين وأن النبي صلّى
الله عليه وسلّم أتاهم ليلة المعراج ومعه جبرئيل عليه السلام
فآمنوا به وعلمهم الصلاة،
وعن الكلبي والضحاك والربيع أنه عليه الصلاة والسلام علمهم
الزكاة وعشر سور من القرآن نزلت بمكة وأمرهم أن يجمعوا ويتركوا
السبت وأقرأه سلام موسى عليه السلام فرد النبي عليه الصلاة
والسلام، السلام.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال بينكم وبينهم نهر من رمل
يجري، وضعف هذه الحكاية ابن الخازن وأنا لا أراها شيئا ولا
أظنك تجد لها سندا يعول عليه ولو ابتغيت نفقا في الأرض أو سلما
في السماء.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات قالَ يا مُوسى إِنِّي
اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي دون
رؤيتي على ما يقوله نفاة الرؤية فَخُذْ ما آتَيْتُكَ بالتمكين
وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ بالاستقامة في القيام بحق العبودية
التي لا مقام أعلى منها لا تدعني إلا بيا عبدها. فإنه أشرف
أسمائي، وبالشكر تزداد النعم كما نطق بذلك الكتاب وَكَتَبْنا
لَهُ فِي الْأَلْواحِ أي أظهرنا نقوش استعداده في ألواح تفاصيل
وجوده من الروح والقلب والعقل والفكر والخيال فظهر فيها مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها
بِقُوَّةٍ أي بعزم لتكون من ذويه وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا
بِأَحْسَنِها أي أكثرها نفعا وهي العزائم سَأُرِيكُمْ دارَ
الْفاسِقِينَ أي عاقبة الذين لا يأخذون بذلك سَأَصْرِفُ عَنْ
آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ وهم الذين في مقام النفس فيكون تكبرهم حجابا لهم عن
آيات الله تعالى وأما المتكبرون بالحق وهم الذين فنيت صفاتهم
وظهرت عليهم صفات مولاهم فليسوا بمحجوبين ولا يعد تكبرهم
مذموما لأنه ليس تكبرهم حقيقة وإنما حظهم منه كونهم مظهرا له
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حيث حجبوا
بصفاتهم وأفعالهم حبطت أعمالهم فلا تقربهم شيئا وَاتَّخَذَ
قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا صنعه لهم
السامري وكان من قوم يعبدون العجل أو ممن رآهم فوقع في قلبه
لسوء استعداده حبه وأضمر عبادته واختار صياغته من حليهم ليكون
ميلهم إليه أتم لأن قلب الإنسان يميل حيث ماله سيّما إذا كان
ذهبا أو فضة، وكثير من الناس اليوم عبيد الدرهم والدينار وهما
العجل المعنوي لهم وإن لم يسجدوا له وأكثر الأقوال أن ذلك
العجل صار ذا لحم ودم إليه الإشارة بقوله تعالى: جَسَداً لَهُ
خُوارٌ وفي كلام الشيخ الأكبر قدس سره أنه صار ذا روح بواسطة
الترب الذي وطئه الروح الأمين ولم يصرح بكونه ذا لحم ودم
وَأَلْقَى الْأَلْواحَ أي ذهل من شدة الغضب عنها وتجافى عن حكم
ما فيها ونسيان ما يستحسن من الحلم مثلا عند الغضب مما يجده كل
أحد من نفسه وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يجره إليه ظنا أنه قصر
في كفهم.
قالَ ابْنَ أُمَّ ناداه بذلك لغلبة الرحمة عليه، وتأويل ذلك في
الأنفس على ما قاله بعض المؤولين أن سامري الهوى بعد توجه موسى
عليه السلام الروح لميقات مكالمة الحق اتخذ من حلي زينة الدنيا
ورعونات البشرية التي استعارها بنو إسرائيل صفات القلب من قبط
صفات النفس معبودا يتعجلون إليه له خوار يدعون الخلق به إلى
نفسه أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ بما ينفعهم ولا
يهديهم سبيلا إلى الحق اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ حيث
عدلوا عن
(5/80)
عبادة الحق إلى عبادة غيره في نظرهم
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي ندموا عند رجوع موسى الروح
قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا بجذبات العناية
وَيَغْفِرْ لَنا بأن يستر صفاتنا بصفاته سبحانه وتعالى
لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ رأس مال هذه النشأة وهو
الاستعداد وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ وهم الأوصاف
الإنسانية غَضْبانَ مما عبدت صفات القلب عجل الدنيا أَسِفاً
على ما فات لها من عبادة الحق قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي
مِنْ بَعْدِي حيث لم تسيروا سيري أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ
رَبِّكُمْ بالرجوع إلى الفاني من غير أمره تعالى وَأَلْقَى
الْأَلْواحَ أي ما لاح له من اللوائح الربانية عند استيلاء
الغضب الطبيعي وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ وهو القلب يجره إليه
قسرا، قالَ ابْنَ أُمَّ ناداه بذلك مع أنه أخوه من أبيه وهو
عالم الأمر وأمه وهو عالم الخالق لأنهما في عالم الخلق إِنَّ
الْقَوْمَ أي أوصاف البشرية اسْتَضْعَفُونِي عند غيبتك
وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي يزيلون مني حياة استعدادي بالكلية
فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وهم- هم.، وهذا ما يقتضيه مقام
الفرق، قال: رب اغفر لي ولأخي استر صفاتنا وأدخلنا في رحمتك
بإفاضة الصفات الحقة علينا وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
لأن كل رحمة فهو شعاع نور ورحمتك إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا
الْعِجْلَ أي عجل الدنيا إلها سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ
رَبِّهِمْ وهو عذاب الحجاب وذلة في الحياة الدنيا باستعباد هذا
الفاني المدني لهم وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ الذين
يفترون على الله تعالى فيثبتون وجود لما سواه، وَالَّذِينَ
عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا رجعوا إليه سبحانه وتعالى
بمجاهدة نفوسهم وإفنائهم إن ربك من بعدها لغفور فيستر صفاتهم
رحيم فيفيض عليهم من صفاتهم ولما سكت عن موسى الغضب أخذ
الألواح الربانية، وفي نسختها هدى إرشاد إلى الحق وَرَحْمَةٌ
لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ يخافون لحسن
استعدادهم، ويقال في قوله سبحانه وتعالى:
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا إن
موسى عليه السلام اختار سبعين رجلا من أشراف قومه ونجبائهم أهل
الاستعداد والصفاء والإرادة والطلب والسلوك فلما أخذتهم الرجفة
أي رجفة البدن التي هي من مبادي صعقة الفناء عند طريان بوارق
الأنوار وظهور طوالع تجليات الصفات من اقشعرار الجسد وارتعاده
وكثيرا ما تعرض هذه الحركة للسالكين عند الذكر أو سماع القرآن
أو ما يتأثرون به حتى تكاد تتفرق أعضاؤهم، وقد شاهدنا ذلك في
الخالدين من أهل الطريقة النقشبندية، وربما يعتريهم في صلاتهم
صياح معه فمنهم من يستأنف صلاته لذلك ومنهم من لا يستأنف، وقد
كثر الإنكار عليهم وسمعت بعض المنكرين يقولون: إن كانت هذه
الحالة مع الشعور والعقل فهي سوء أدب ومبطلة للصلاة قطعا وإن
كانت مع عدم شعور وزوال عقل فهي ناقضة للوضوء ونراهم لا
يتوضؤون، وأجيب بأنها غير اختيارية مع وجود العقل والشعور، وهي
كالعطاس والسعال ومن هنا لا ينتقض الوضوء بل ولا تبطل الصلاة،
وقد نص بعض الشافعية أن المصلي لو غلبه الضحك في الصلاة لا
تبطل صلاته ويعذر بذلك فلا يبعد أن يلحق ما يحصل من آثار
التجليات الغير الاختيارية بما ذكر ولا يلزم من كونه غير
اختياري كونه صادرا من غير شعور فإن حركة المرتعش غير اختيارية
مع الشعور بها، وهو ظاهر فلا معنى للإنكار. نعم كان حضرة
مولانا الشيخ خالد قدس سره يأمره من يعتريه ذلك من المريدين
بالوضوء واستئناف الصلاة سدا لباب الإنكار، والحق أن ما يعتري
هذه الطائفة غير ناقض الوضوء لعدم زوال العقل معه لكنه مبطل
للصلاة لما فيه من الصياح الذي يظهر به حرفان مع أمور تأباها
الصلاة ولا عذر لمن يعتريه ذلك إلا إذا ابتلي به بحيث لم يخل
زمن من الوقت يسع الصلاة بدونه فإنه يعذر حينئذ ولا قضاء عليه
إذا ذهب منه ذلك الحال كمن به حكّة لا يصبر معها على عدم الحك.
وقد نص الجد عليه الرحمة في حواشيه على شرح الحضرمية للعلامة
ابن حجر في صورة ابتلي بسعال مزمن على نحو ذلك، ثم قال: فرع لو
ابتلي بذلك وعلم من عادته أن الحمام يسكنه عنه مدة تسع الصلاة
وجب عليه دخوله
(5/81)
حيث وجد أجرة الحمام فاضلة عما يعتبر في
الفطرة وإن فاتته الجماعة وفضيلة أول الوقت انتهى. نعم ذكر
عليه رحمة الله تعالى في الفعل الكثير المبطل للصلاة وهو ثلاثة
أفعال أنه لو ابتلي بحركة اضطرارية نشأ عنها عمل كثير فمعذور،
وقال أيضا: إنه لا يضر الصوت الغير المشتمل على النطق بحرفين
متواليين من أنف أو فم وإن اقترنت به همهمة شفتي الأخرس ولو
لغير حاجة وإن فهم الفطن كلاما أو قصد محاكاة بعض أصوات
الحيوانات إن لم يقصد التلاعب وإلا بطلت، وينبغي التحري في
هؤلاء القوم فإن حالهم في ذلك متفاوت لكن أكثر ما شاهدناه على
الطرز الذي ذكرناه، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من الكتب
الفقهية. قال موسى: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ
قَبْلُ وَإِيَّايَ وذلك من شدة غلبة الشوق، ولَوْ هذه للتمني،
أتهلكنا بعذاب الحجاب والحرمان بما فعل السفهاء من عبادة العجل
إن هي إلا فتنتك لا مدخل فيها لغيرك، وهذا مقتضى مقام تجلي
الأفعال، فاغفر لنا ذنوب صفاتنا وذواتنا كما غفرت ذنوب
أفعالنا، وارحمنا بإفاضة أنوار شهودك ورفع حجاب الآنية بوجودك،
واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وهي حسنة الاستقامة بالبقاء بعد
الفناء، وفي الآخرة حسنة المشاهدة، والكلام في بقية الكلام لا
يخفى على من له أدنى ذوق.
خلا أن بعضهم أول العذاب في قوله سبحانه وتعالى: عَذابِي
أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ بعذاب الشوق المخصوص الذي يصيب أهل
العناية من الخواص وهو الرحمة التي لا يكتنه كنهها ولا يقدر
قدرها وإنها لأعز من الكبريت الأحمر، وأهل الظاهر يرونه بعيدا
والقوم يقولون نراه قريبا، وقالوا: الأمي نسبة إلى الأم لكن
على حد أحمري، وقيل: للنبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك لأنه أم
الموجودات وأصل المكنونات، واختبر هذا اللفظ لما فيه من
الإشارة إلى الرحمة والشفقة وهو الذي جاء رحمة للعالمين وإنه
عليه الصلاة والسلام لأشفق على الخلق من الأم بولدها إذ له
صلّى الله عليه وسلّم الحظ الأوفر من التخلق بأخلاق الله تعالى
وهو سبحانه أرحم الراحمين، وذكروا أن أتباعه من حيث النبوة
الخواص ومن حيث الأمية خواص الخواص ومن حيث الرسالة هؤلاء
المذكورون كلهم والعوام نسأل الله تعالى أن يوفقنا لاتباعه
صلّى الله عليه وسلّم في سائر شؤونه.
وَقَطَّعْناهُمُ أي قوم موسى عليه السلام لا الأمة المذكورة
كما يوهمه القرب «وقطع» يقرأ مشددا ومخففا والأول هو المتواتر
ويتعدى لواحد وقد يضمن معنى صير فيتعدى لاثنين فقوله تعالى:
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ حال أو مفعول ثاني، أي فرقناهم معدودين
بهذا العدد أو صيرناهم اثنتي عشرة أمة يتميز بعضها عن بعض،
وقوله سبحانه وتعالى:
أَسْباطاً كما قال ابن الحاجب في شرح المفصل بدل من العدد لا
تمييز له وإلا لكانوا ستة وثلاثين، وعليه فالتمييز محذوف أي
فرقة أو نحوه، قال الحوفي: إن صفة التمييز أقيمت مقامه والأصل
فرقة أسباطا، وجوز أن يكون تمييزا لأنه مفرد تأويلا، فقد ذكروا
أن السبط مفردا ولد الولد أو ولد البنت أو الولد أو القطعة من
الشيء أقوال ذكرها ابن الأثير، ثم استعمل في كل جماعة من بني
إسرائيل كالقبيلة في العرب، ولعله تسمية لهم باسم أصلهم كتميم،
وقد يطلق على كل قبيلة منهم أسباط أيضا كما غلب الأنصار على
جمع مخصوص فهو حينئذ بمعنى الحي والقبيلة فلهذا وقع موقع
المفرد في التمييز وهذا كما ثنى الجمع في قول أبي النجم يصف
رمكة تعودت الحرب:
تبقلت في أول التبقل ... بين رماحي مالك ونهشل
وتأنيث اثنتي مع أن المعدود مذكر وما قبل الثلاثة يجري على أصل
التأنيث والتذكير لتأويل ذلك بمؤنث وهو ظاهر مما قررنا، وقرأ
الأعمش وغيره «عشرة» بكسر الشين وروي عنه فتحها أيضا والكسر
لغة تميم والسكون لغة الحجاز، وقوله سبحانه: أُمَماً بدل بعد
بدل من اثنتي عشرة لا من أسباط على تقدير أن يكون بدلا لأنه لا
يبدل من البدل، وجوز كونه بدلا منه إذا لم يكن بدلا ونعتا إن
كان كذلك أو لم يكن وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ
قَوْمُهُ حين استولى عليه العطش في التيه أَنِ اضْرِبْ
بِعَصاكَ الْحَجَرَ تفسير لفعل الإيحاء «فإن» بمعنى أي، وجوز
(5/82)
أبو البقاء كونها مصدرية فَانْبَجَسَتْ أي
انفجرت كما قال ابن عباس وزعم الطبرسي أن الانبجاس خروج الماء
بقلة والانفجار خروجه بكثرة، والتعبير بهذا تارة وبالأخرى أخرى
باعتبار أول الخروج وما انتهى إليه، والعطف على مقدر ينسحب
عليه الكلام أي فضرب فانبجست وحذف المعطوف عليه لعدم الإلباس
وللإشارة إلى سرعة الامتثال حتى كأن الإيحاء وضربه أمر واحد
وأن الانبجاس بأمر الله تعالى حتى كأن فعل موسى عليه السلام لا
دخل فيه.
وذكر بعض المحققين أن هذه الفاء على ما قرر فصيحة وبعضهم يقدر
شرطا في الكلام فإذا ضربت فقد انبجست مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ
عَيْناً وهو غير لائق بالنظم الجليل قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ
أي سبط، والتعبير عنهم بذلك للإيذان بكثرة كل واحد من الأسباط،
وأناس إما جمع أو اسم جمع، وذكر السعد أن أهل اللغة يسمون اسم
الجمع جمعا، وعَلِمَ بمعنى عرف الناصب مفعولا واحد أي قد عرف
مَشْرَبَهُمْ أي عينهم الخاصة بهم، ووجه الجمع ظاهر
وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ أي جعلنا ذلك بحيث يلقي
عليهم ظله ليقيهم من حر الشمس وكان يسير بسيرهم ويسكن بإقامتهم
وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى أي الترنجبين
والسماني فكان الواحد منهم يأخذ ما يكفيه من ذلك كُلُوا أي
قلنا أو قائلين لهم كلوا.
مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي مستلذاته، وما موصولة كانت
أو موصوفة عبارة عن المن والسلوى وَما ظَلَمُونا عطف على محذوف
للايجاز والإشعار بأنه أمر محقق غني عن التصريح أي فظلموا بأن
كفروا بهذه النعم الجليلة وما ظلمونا بذلك وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفر إذ لا يتخطاهم ضرره، وتقديم
المفعول لإفادة القصر الذي يقتضيه النفي السابق، وفي الكلام من
التهكم والإشارة إلى تماديهم على ما فيهم ما لا يخفى وَإِذْ
قِيلَ لَهُمُ معمول لا ذكر، وإيراد الفعل هنا مبنيا للمفعول
جريا على سنن الكبرياء مع الإيذان بأن الفاعل غني عن التصريح
أي اذكر لهم وقت قولنا لأسلافهم اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ
القريبة منكم وهي بيت المقدس أو أريحا، والنصب مبني على
المفعولية كسكنت الدار أو على الظرفية اتساعا والتعبير بالسكنى
هنا للايذان بأن المأمور به في البقرة الدخول بقصد الإقامة أي
أقيموا في هذه القرية وَكُلُوا مِنْها أي مطاعمها وثمارها أو
منها نفسها على أن من تبعيضية أو ابتدائية حَيْثُ شِئْتُمْ أي
من نواحيها من غير أن يزاحمكم أحد وجيء بالواو هنا وبالفاء في
البقرة لأنه قيل هناك ادخلوا فحسن ذكر التعقيب معه وهنا اسكنوا
والسكنى أمر ممتد والأكل معه لا بعده، وقيل: إنه إذا تفرع
المسبب عن السبب اجتمعا في الوجود فيصح الإتيان بالواو والفاء،
وفيه أن هذا إنما يدل على صحة العبارتين وليس السؤال عن ذلك،
وذكر رَغَداً [البقرة: 35، 58] هناك لأن الأكل في أول الدخول
يكون ألذ وبعد السكنى واعتباره لا يكون كذلك وقيل: إنه اكتفى
بالتعبير باسكنوا عن ذكره لأن الأكل المستمر من غير مزاحم لا
يكون إلا رغدا واسعا، وإلى الأول ذهب صاحب اللباب، ويرد على
القولين أنه ذكر رَغَداً مع الأمر بالسكنى في قصة آدم عليه
السلام، ولعل الأمر في ذلك سهل وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا
الْبابَ سُجَّداً مر الكلام فيه في البقرة غير أن ما فيها عكس
ما هنا في التقديم والتأخير ولا ضير في ذلك لأن المأمور به هو
الجمع بين الأمرين من غير اعتبار الترتيب بينهما، وقال القطب:
فائدة الاختلاف التنبيه على حسن تقديم كل من المذكورين على
الآخر لأنه لما كان المقصود منهما تعظيم الله تعالى وإظهار
الخشوع والخضوع لم يتفاوت الحال في التقديم والتأخير نَغْفِرْ
لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ جزم في جواب الأمر. وقرأ نافع وابن عامر
ويعقوب «تغفر» بالتاء والبناء للمفعول وخَطِيئاتِكُمْ بالرفع
والجمع غير ابن عامر فإنه وحد، وقرأ أبو عمرو «خطاياكم» كما في
سورة البقرة، وبين القطب فائدة الاختلاف بين ما هناك وبين ما
هنا على القراءة المشهورة بأنها الإشارة إلى أن هذه الذنوب
سواء كانت قليلة أو كثيرة فهي مغفورة بعد الإتيان بالمأمور به،
وطرح الواو هنا من قوله
(5/83)
سبحانه وتعالى: سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ
إشارة إلى أن هذه الزيادة تفضل محض ليس في مقابلة ما أمروا به
كما قيل.
والمراد أن امتثالهم جازاه الله تعالى بالغفران وزاد عليه وتلك
الزيادة فضل محض منه تعالى فقد يدخل في الجزاء صورة لترتبته
على فعلهم وقد يخرج عنه لأنه زيادة على ما استحقوه، ولذا قرن
بالسين الدالة على أنه وعد وتفضل، ومفعول نزيد محذوف أي ثوابا
وزيادة منهم في قوله تعالى شأنه: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْهُمْ لزيادة البيان أي بدل الذي ظلموا من هؤلاء بما أمروا
به من التوبة والاستغفار حيث أعرضوا عنه ووضعوا موضعه قَوْلًا
آخر مما لا خير فيه غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ وأمروا بقوله
وغَيْرَ نعت للقول وصرح بالمغايرة مع دلالة التبديل عليها
تحقيقا للمخالفة وتنصيصا على المغايرة من كل وجه فَأَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ أثر ما فعلوا ما فعلوا من غير تأخير رِجْزاً مِنَ
السَّماءِ عذابا كائنا منها وهو الطاعون في رواية.
بِما كانُوا يَظْلِمُونَ أي بسبب ظلمهم المستمر السابق
واللاحق، وهذا بمعنى ما في البقرة لأن ضمير عليهم للذين ظلموا
والإرسال من فوق إنزال، والتصريح بهذا التعليل لما أن الحكم
هاهنا مرتب على المضمر دون الموصول بالظلم كما في البقرة، وأما
التعليل بالفسق بعد الإشعار بعلية الظلم هناك فللإيذان بأن ذلك
فسق وخروج عن الطاعة وغلو في الظلم وأن تعذيبهم بجميع ما
ارتكبوا من القبائح كما قيل.
وقال القطب في وجه المغايرة: إن الإرسال مشعر بالكثرة بخلاف
الإنزال فكأنه أنزل العذاب القليل ثم جعل كثيرا وإن الفائدة في
ذكر الظلم والفسق في الموضعين الدلالة على حصولهما فيهم معا،
وقد تقدم لك في وجوه المغايرة بين آية البقرة وهذه الآية ما
ينفعك تذكره فتذكر وَسْئَلْهُمْ عطف على اذكر المشار إليه فيما
تقدم آنفا، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وضمير الغيبة
لمن بحضرته عليه الصلاة والسلام من نسل اليهود أي واسأل اليهود
المعاصرين لك سؤال تقريع وتقرير بتقدم تجاوزهم لحدود الله
تعالى، والمراد اعلامهم بذلك لأنهم كانوا يخفونه، وفي الاطلاع
عليه مع كونه عليه الصلاة والسلام ليس ممن مارس كتبهم أو تعلمه
من علمائهم ما يقضي بأن ذلك عن وحي فيكون معجزة شاهدة عليهم
عَنِ الْقَرْيَةِ أي عن خبرها وحالها وما وقع بأهلها من ثالثة
الأثافي، والمراد بالسؤال عن ذلك ما يعم السؤال عن النفس وعن
الأهل أو الكلام على تقدير مضاف، والمراد عن حال أهل القرية،
وجوز التجوز فيها، وهي عند ابن عباس وابن جبير- أيلة- قرية بين
مدين والطور.
وعن ابن شهاب هي طبرية، وقيل: مدين وهي رواية عن الحبر، وعن
ابن زيد أنها مقتا بين مدين وعينونا الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ
الْبَحْرِ أي قريبة منه مشرفة على شاطئه إِذْ يَعْدُونَ فِي
السَّبْتِ أي يظلمون ويتجاوزون حدود الله تعالى بالصيد يوم
السبت أو بتعظيمه، وإذ بدل من المسئول عنه بدل اشتمال أو ظرف
للمضاف المصدر، قيل:
واحتمال كونه ظرفا لكانت أو حاضرة ليس بشيء إذ لا فائدة بتقييد
الركون أو الحضور بوقت العدوان وضمير يعدون للأهل المقدر أو
المعلوم من الكلام، وقيل: إلى القرية على سبيل الاستخدام،
وقرىء «يعدون» بمعنى يعتدون أدغمت التاء في الداء ونقلت حركتها
إلى العين ويَعْدُونَ من الإعداد حيث كانوا يعدون آلات الصيد
يوم السبت وهم منهيون عن الاشتغال فيه بغير العبادة إِذْ
تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ ظرف ليعدون أو بدل بعد بدل، وإلى
الأول ذهب أكثر المعربين، وهو الأولى لأن السؤال عن عدوانهم
أبلغ في التقريع، وحيتان جمع حوت أبدلت الواو ياء لسكونها
وانكسار ما قبلها كنون ونينات لفظا ومعنى وإضافتها إليهم
باعتبار أن المراد الحيتان الكائنة في تلك الناحية التي هم
فيها، وقيل: للإشعار باختصاصها بهم لاستقلالها بما لا يكاد
يوجد في سائر أفراد الجنس من الخواص الخارقة للعادة، ولا يخفى
بعده يَوْمَ سَبْتِهِمْ ظرف لتأتيهم أي تأتيهم يوم تعظيمهم
لأمر السبت، وهو مصدر سبتت اليهود إذا عظمت
(5/84)
يوم السبت بترك العمل والتفرغ للعبادة فيه،
وقيل: اسم لليوم والإضافة لاختصاصهم بأحكام فيه، ويؤيد الأول
قراءة عمرو بن عبد العزيز «يوم اسباتهم» ، وكذا النفي الآتي
شُرَّعاً أي ظاهرة على وجه الماء كما قال ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما قريبة من الساحل، وهو جمع شارع من شرع عليه إذا
دنا وأشرف، وفي الشرع معنى الإظهار والتبيين، وقيل: حيتان شرع
رافعة رؤوسها كأنه جعل ذلك إظهارا وتبيينا، وقيل: المعنى
متتابعة ونسب إلى الضحاك، والظاهر أنها ظاهرة وهو نصب على
الحال من الحيتان ووَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ أي لا يراعون أمر
السبت وهو على حد قوله:
«على لاحب لا يهتدى بمناره» إذ المقصود انتفاء السبت والمراعاة
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه لا يَسْبِتُونَ
بضم حرف المضارعة من أسبت إذا دخل في السبت كأصبح إذا دخل في
الصباح، وعن الحسن أنه قرأ لا يسبتون على البناء للمفعول بمعنى
لا يدخلون في السبت ولا يؤمرون فيه بما أمروا به يوم السبت،
وقرىء «لا يسبتون» بضم الباء والظرف متعلق بقوله سبحانه: لا
تَأْتِيهِمْ أي لا تأتيهم يوم لا يسبتون كما كانت تأتيهم يوم
السبت حذرا من صيدهم لاعتيادها أحوالهم وأن ذلك لمحض تقدير
العزيز العليم، وتغيير السبك حيث قدم الظرف على الفعل ولم يعكس
لما أن الإتيان يوم سبتهم مظنة كما قيل: لأن يقال فماذا حالها
يوم لا يسبتون؟ فقيل: يوم لا يسبتون لا تأتيهم كَذلِكَ
نَبْلُوهُمْ أي نعاملهم معاملة المختبرين لهم ليظهر منهم ما
يظهر فنؤاخذهم به، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية
لاستحضار صورتها والتعجيب منها، والإشارة اما إلى الابتلاء
السابق أو إلى الابتلاء المذكور بعد كما مر غير مرة وقيل:
الإشارة إلى الإتيان يوم السبت وهي متصلة بما قبل أي لا تأتيهم
كذلك الإتيان يوم السبت، والكاف في موضع نصب على الحال عند
الطبرسي، وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لمصدر مقدر أي
اتيانا كائنا كذلك، وجملة نبلوهم استئناف مبني على السؤال عن
حكمة اختلاف حال الحيتان بالإتيان تارة وعدمه أخرى بِما كانُوا
يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم المستمر في كل ما يأتون ويذرون، وهو
متعلق بما عنده، وتعلق إذ يعدون بنبلوهم وبما يبعدون على معنى
نبلوهم وقت العدوان بالفسق مما لا ينبغي تخريج كتاب الله تعالى
الجليل عليه وَإِذْ قالَتْ عطف على إذ يعدون مسوق لبيان
تماديهم في العدوان وعدم انزجارهم عنه بعد العظات والإنذارات.
قال العلامتان الطيبي والتفتازاني: ولا يجوز أن يكون معطوفا
على إذ تأتيهم وإن كان أقرب لفظا لأنه إما بدل أو ظرف فيلزم أن
يدخل هؤلاء القائلون في حكم أهل العدوان وليس كذلك، وهذا على
ما قيل على تقدير الظرفية ظاهر، وأما على تقدير الإبدال فلأن
البدل أقرب إلى الاستقلال، واستظهر في بيان وجه ذلك أن زمان
القول بعد زمان العدوان ومغاير له واعتبار كونه ممتدا كسنة
مثلا يقع فيه ذلك كله تكلف من غير مقتض، والقول بأن العطف على
ذاك يشعر أو يوهم أن القائلين من العادين في السبت لا من مطلق
أهل القرية فيه ما فيه أُمَّةٌ مِنْهُمْ أي جماعة من صلحائهم
الذين لم يألوا جهدا في عظتهم حين يئسوا من احتمال القبول
لآخرين لم يقلعوا عن التذكير رجاء النفع والتأثير لِمَ
تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أي مستأصلهم بالكلية
ومطهر وجه الأرض منهم أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً دون
الاستئصال بالمرة، وقيل مهلكهم في الدنيا أو معذبهم في الآخرة
لعدم إقلاعهم عما هم عليه من الفسق والترديد لمنع الخلو على
هذا، وإيثار صيغة اسم الفاعل في الشقين للدلالة على تحقق كل من
الإهلاك والتعذيب وتقررهما البتة كأنهما واقعان، وإنما قالوا
ذلك مبالغة في أن الوعظ لا ينجع فيهم إذ المقصود لا تعظوا أو
أتعظون فعدل عنه إلى السؤال عن السبب لاستغرابه لأن الأمر
العجيب لا يدرى سببه أو سؤالا عن حكمة الوعظ ونفعه، وقيل: إن
هذا تقاول وقع بين الصلحاء الواعظين كأنه قال بعضهم لبعض: لم
نشتغل بما لا يفيد، ويحتمل على كلا القولين أن ذلك صدر من
القائل
(5/85)
بمحصر من القوم فيكون متضمنا لحثهم على
الاتعاظ فإن بت القول بهلاكهم أو عذابهم مما يلقي في قلوبهم
الخوف والخشية، وقيل قائلو ذلك المعتدون في السبت قالوا: تهكما
بالناصحين المخوفين لهم بالهلاك والعذاب، وفيه بعد كما ستقف
عليه قريبا إن شاء الله تعالى قالُوا أي المقول لهم ذلك
مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ أي نعظهم معذرة إليه تعالى على أنه
مفعول وهو الأنسب بظاهر قولهم: لم تعظون أو نعتذر معذرة على
أنه مفعول مطلق لفعل محذوف، وقيل: هو مفعول به للقول وهو إن
كان مفردا في معنى الجملة لأنه الكلام الذي يعتذر به. والمعذرة
في الأصل بمعنى العذر وهو التنصل من الذنب، وقال الأزهري: إنه
بمعنى الاعتذار، وعداه بإلى لتضمنه معنى الإنهاء والإبلاغ، وفي
إضافة الرب إلى ضمير المخاطبين نوع تعريض بالسائلين، وهذا
الجواب على القولين الأولين ظاهر وعلى الأخير قيل إنه من تلقى
السائل بغير ما يترقب فهو من الأسلوب الحكيم، وقرأ من عدا حفص.
والمفضل «معذرة» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي موعظتنا
معذرة إليه تعالى حتى لا ننسب إلى نوع تفريط في النهي عن
المنكر وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ عطف على معذرة أي ورجاء أن
يتقوا بعض التقاة فإن اليأس المحقق لا يحصل إلا بالهلاك، قال
شيخ الإسلام: وهذا صريح في أن القائلين لم تعظون إلخ ليسوا من
الفرقة الهالكة وإلا لوجب الخطاب اهـ.
وقد يوجه ذلك على ذلك القول بأنه التفات أو مشاكلة لتعبيرهم عن
أنفسهم في السؤال بقوم وإما لجعله باعتبار غير الطائفة
القائلين إلا أن كل ذلك خلاف الظاهر فَلَمَّا نَسُوا ما
ذُكِّرُوا بِهِ أي تركوا ما ذكرهم به صلحاؤهم ترك الناسي للشيء
وأعرضوا عنه إعراضا كليا، فما موصولة وجوز أن تكون مصدرية، وهو
خلاف الظاهر.
والنسيان مجاز عن الترك، واستظهر أنه استعارة حيث شبه الترك
بالنسيان بجامع عدم المبالاة، وجوز أن يكون مجازا مرسلا لعلاقة
السببية، ولم يحمل على ظاهره كما قال بعض المحققين لأنه غير
واقع ولأنه لا يؤاخذ بالنسيان ولأن الترك عن عمد هو الذي يترتب
عليه إنجاء الناهين في قوله سبحانه وتعالى:
أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ إذ لم يمتثلوا
أمرهم بخلاف ما لو نسوه فإنه كان يلزمهم تذكيرهم وظاهر الآية
ترتب الإنجاء على النسيان وهو في الحقيقة مرتب على النسيان
والتذكير، وما في حيز الشرط مشير إليهما فكأنه قيل: فلما ذكر
المذكرون ولم يتذكر المعتدون وأعرضوا عما ذكروا به أنجينا
الأولين وأخذنا الآخرين، وعنوان النهي عن السوء شامل للذين
قالوا لم تعظون إلخ وللمقول لهم ذلك، أما شموله للمقول لهم
فواضح وأما شموله للقائلين فلأنهم نهوا أيضا إلا أنهم رأوا عدم
النفع فكفوا وذلك لا يضرهم فقد نصوا على أنه إذا علم الناهي
حال المنهي وأن النهي لا يؤثر فيه سقط عنه النهي وربما وجب
الترك على ما قال الزمخشري لدخوله في باب العبث، ألا ترى أنك
لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على الطريق لأخذ أموال الفقراء
وغيرهم بغير حق لتعظهم وتكفهم عما هم عليه كان ذلك عبثا منك
ولم يكن إلا سببا للتلهي بك، ولم يعرض أولئك كما أعرض هؤلاء
لعدم بلوغهم في اليأس كما بلغ إخوانهم أو لفرط حرصهم وجدهم في
أمرهم كما وصف الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بقوله
تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ [الكهف: 6]
.
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لا أدري ما
فعلت الفرقة الساكتة وعنى بهم القائلين ومنشأ قوله هذا كما
نطقت به بعض الروايات أنه سمع قوله سبحانه: أَنْجَيْنَا
الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وقوله جلّ وعلا:
وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي بالاعتداء ومخالفة الأمر
ولم يغص رضي الله تعالى عنه مع أنه الغواص فقال له عكرمة:
جعلني الله فداك ألا تراهم كيف أنكروا وكرهوا ما القوم عليه
وقالوا ما قالوا وإن لم يقل الله سبحانه أنجيتهم لم يقل
أهلكتهم فأعجبه قوله وأمر له ببردين وقال: نجت الساكتة، ونسب
الطبرسي إليه رضي الله تعالى عنه قولين آخرين في الساكتة
أحدهما القول بالتوقف وثانيهما القول بالهلاك وبه قال ابن زيد،
وروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه
(5/86)
فالمأخوذ حينئذ الساكتون والظالمون
بِعَذابٍ بَئِيسٍ أي شديد وفسره الحبر بما لا رحمة فيه ويرجع
إلى ما ذكره، وهو فعيل إما وصف أو مصدر كالنكير وصف به مبالغة،
والأكثرون على كونه وصفا من بؤس يبؤس بأسا إذا اشتد.
وقال الراغب: البؤس والبأس والبأساء الشدة والمكروه إلا أن
البؤس في الفقر والحرب أكثر والبأس والبأساء في النكاية، وقرأ
أبوبكر «بيئس» على فيعل كضيغم وهو من الأوزان التي تكون في
الصفات والأسماء، والياء إذا زيدت في المصدر هكذا تصيره اسما
أو صفة كصقل وصيقل وعينه مفتوحة في الصحيح مكسورة في المعتل
كسيد، ومن هنا قيل في قراءة عاصم في رواية عنه «بيئس» بكسر
الهمزة إنها ضعيفة رواية ودراية ويخففها أن المهموز أخو
المعتل، وقرأ ابن عامر «بئس» بكسر الباء وسكون الهمزة على أن
أصله بئس بباء مفتوحة وهمزة مكسورة كحذر فسكن للتخفيف كما
قالوا في كبد كبد وفي كلمة كلمة، وقرأ نافع «بيس» على قلب
الهمزة ياء كما قلبت في ذيب لسكونها وانكسار ما قبلها، وقيل:
إن هاتين القراءتين مخرجتان على أن أصل الكلمة بئس التي هي فعل
ذم جعلت اسما كما في قيل وقال، والمعنى بعذاب مذموم مكروه،
وقرىء «بيس» كريس وكيس على قلب الهمزة ياء ثم ادغامها في
الياء، وقيل: على أنه من البؤس بالواو وأصله بيوس كميوت فأعل
إعلاله و «بيس» على التخفيف كهين و «بائس» بزنة اسم الفاعل أي
ذو بأس وشدة، وقرىء غير ذلك، وأوصل بعضهم ما فيه من القراءات
إلى ست وعشرين، وتنكير العذاب للتفخيم والتهويل بِما كانُوا
يَفْسُقُونَ متعلق بأخذنا كالباء الأولى ولا ضير فيه
لاختلافهما معنى أي أخذناهم بما ذكر من العذاب بسبب فسقهم
المستمر، ولا مانع من أن يكون ذلك سببا للأخذ كما كان سببا
للابتداء وكذا لا مانع من تعليله بما ذكر بعد تعليله بالظلم
الذي في حيز الصلة لأن ذلك ظلم أيضا، ولم يكتف بالأول لما لا
يخفى فَلَمَّا عَتَوْا أي تكبروا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ أي عن
ترك ذلك ففي الكلام تقدير مضاف إذ التكبر والإباء عن المنهي
عنه لا يذم قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ صاغرين
أذلاء مبعدين عن كل خير والأمر تكويني لا تكليفي لأنه ليس في
وسعهم حتى يكلفوا به، وهذا كقوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا
لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
[النحل: 40] في أنه يحتمل أن يكون هناك قول وأن يكون الغرض
مجرد التمثيل، والظاهر أن الله تعالى أوقع بهم نكالا في الدنيا
غير المسخ فلم يقلعوا عما كانوا عليه فمسخهم قردة.
وجوز أن يكون المراد بالعذاب البئيس هو المسخ وتكون هذه الآية
تفصيلا لما قبلها. روي عن ابن عباس أن اليهود إنما افترض عليهم
اليوم الذي افترض عليكم وهو يوم الجمعة فخالفوا إلى يوم السبت
واختاروه فحرم عليهم الصيد فيه وابتلوا به فكانت الحيتان
تأتيهم يوم السبت شرعا بيضا سمانا حتى لا يرى الماء من كثرتها
فمكثوا ما شاء تعالى لا يصيدون ثم أتاهم الشيطان فقال: إنما
نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا الحياض والشبكات فكانوا
يسوقون الحيتان إليها فيه ثم يأخذونها يوم الأحد، وفي رواية أن
رجلا منهم أخذ حوتا فحزمه بخيط ثم ضرب له وتدا في الساحل وربطه
فيه وتركه في الماء فلما كان الغد جاء فأخذه وأكله فلاموه على
ذلك فلما لم يأته العذاب أخذ في السبت القابل حوتين وفعل ما
فعل ولم يصبه شيء فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم تجاسروا
فأخذوا وملحوا وباعوا وكانوا نحوا من اثني عشر ألفا أو من
سبعين ألفا فصار أهل القرية أثلاثا كما قص الله تعالى فقال
المسلمون للمعتدين نحن لا نساكنكم فقسموا القرية بجدار
للمسلمين باب وللمعتدين باب وكانت القصة في زمن داود عليه
السلام فلعنهم فأصبح المسلمون ذات يوم ولم يخرج من المعتدين
أحد فقالوا: إن لهؤلاء لشأنا لعل الخمر غلبتهم فعلوا على
الجدار فإذا القوم قردة ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت
القردة أنسابها من الإنس ولم تعرف الإنس أنسابهم منها فجعلت
تأتي إلى نسيبها فتشم ثيابه وتبكي فيقول: ألم ننهكم فتقول
القردة برأسها نعم ثم ماتوا بعد ثلاثة. وعن قتادة أن الشبان
صاروا قردة والشيوخ خنازير،
(5/87)
وعن مجاهد أنه مسخت قلوبهم فلم يوفقوا لفهم
الحق. وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن قال: كان حوتا حرمه الله
عليهم في يوم وأحله لهم فيما سوى ذلك فكان يأتيهم في اليوم
الذي حرمه الله تعالى عليهم كأنه المخاض ما يمتنع من أحد
فجعلوا يهمون ويمسكون وقلما رأيت أحدا أكثر الاهتمام بالذنب
إلا واقعه حتى أخذوه فأكلوا والله أوخم أكلة أكلها قوم أثقلها
خزيا في الدنيا وأطولها عذابا في الآخرة وايم الله تعالى ما
حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله تعالى من قتل رجل مؤمن
وللمؤمن أعظم حرمة عند الله سبحانه من حوت ولكن الله عزّ وجلّ
جعل موعد قوم الساعة والساعة أدهى وأمر.
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة أنه كان على شاطىء البحر الذي هم
عنده صنمان من حجارة مستقبلان الماء يقال لأحدهما لقيم وللآخر
لقمانة فأوحى الله تعالى إلى السمك أن حج يوم السبت إلى
الصنمين وأوحى إلى أهل القرية إني قد أمرت السمك أن يحجوا إلى
الصنمين يوم السبت فلا تتعرضوا فيه فإذا ذهب فشأنكم به فصيدوه
فابتلي القوم ووقع منهم ما مسخوا به قردة وفي القلب من صحة هذا
الأثر شيء ولعله لا صحة له كما لا يخفى على من يعرف معنى الحج
من المصلين، ويشبه هذين الصنمين عين حق لان (1) قرب جزيرة
الحديثة من العراق وهي قريبة من شاطىء الفرات فإن السمك يزورها
في أيام مخصوصة من السنة حتى يخيل أنه لم يبق في بطن الفرات
حوت إلا قذف إليها فيصيد أهل ذلك الصقع منه ما شاء الله تعالى
وينقلونه إلى الجزائر والقرى القريبة منهم كألوس وحبة وعانات
وهيت ثم ينقطع فلا ترى سمكة في العين بعد تلك الأيام إلى مثلها
من قابل وسبحان الفعال لما يريد، واستدل بعض أهل العلم بقصة
هؤلاء المعتدين على حرمة الحيل في الدين، وأيد ذلك بما
أخرجه ابن بطة عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
«قال لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله تعالى
بأدنى الحيل»
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ منصوب بمضمر معطوف على قوله سبحانه:
وَسْئَلْهُمْ وتأذن تفعل من الإذن وهو بمعنى آذن أي اعلم
والتفعل يجيء بمعنى الأفعال كالتوعد والإيعاد، وإلى هذا يؤول
ما روي عن ابن عباس من أن المعنى قال ربك، وفسره بعضهم بعزم
وهو كناية عنه أو مجاز لأن العازم على الأمر يشاور نفسه في
الفعل والترك ثم يجزم فهو يطلب من النفس الإذن فيه، وفي الكشف
لو جعل بمعنى الاستئذان دون الإيذان كأنه يطلب الإذن من نفسه
لكان وجها، وحيث جعل بمعنى عزم وكان العازم جازما فسر عزم بجزم
وقضى فأفاد التأكيد فلذا أجري مجرى القسم، وأجيب بما يجاب به
وهو هنا لَيَبْعَثَنَّ وجاء عزمت عليك لتفعلن، ولا يرد على هذا
أنه مقتضى لجواز نسبة العزم إليه تعالى وقد صرح بمنع ذلك لأن
المنع مدفوع فقد ورد عزمة من عزمات الله تعالى عَلَيْهِمْ أي
اليهود لا المعتدين الذين مسخوا قردة إذ لم يبقوا كما علمت،
ويحتمل عود الضمير عليهم بناء على ما روي عن الحسن. والمراد
حينئذهم وأخلاقهم، وعوده إلى اليهود والنصارى ليس بشيء وإن روي
عن مجاهد، والجار متعلق بيبعثن على معنى يسلط عليهم البتة إِلى
يَوْمِ الْقِيامَةِ أي إلى انتهاء الدنيا وهو متعلق بيبعث،
وقيل:
بتأذن وليس بالوجه ولا يصح كما لا يخفى تعلقه بالصلة في قوله
سبحانه: مَنْ يَسُومُهُمْ يذيقهم ويوليهم سُوءَ الْعَذابِ
كالإذلال. وضرب الجزية. وعدم وجود منعة لهم. وجعلهم تحت الأيدي
وغير ذلك من فنون العذاب، وقد بعث الله تعالى عليهم بعد سليمان
عليه الصلاة والسلام بخت نصرّ فخرب ديارهم وقتل مقاتلتهم وسبى
نساءهم وذراريهم وضرب الجزية على من بقي منهم وكانوا يؤدونها
إلى المجوس حتى بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم ففعل ما فعل ثم
ضرب الجزية عليهم فلا تزال مضروبة إلى آخر الدهر.
__________
(1) قوله عين حق لان إلخ كذا بالأصل والنص في مسودة المؤلف
مطموسة لا يعلم هل هي حقلان أو عفلان أو لا فحرر اهـ.. [.....]
(5/88)
فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ
هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ
يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ
عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ
الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
(169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا
الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ
وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ
بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ
تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا
ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ
الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ
وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ
الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا
فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ
إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ
يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
(176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)
ولا ينافي ذلك رفعها عند نزول عيسى عليه
الصلاة والسلام لأن ذلك الوقت ملحق بالآخرة لقربه منها أو لأن
معنى رفعه عليه السلام إياها عنهم أنه لا يقبل منهم إلا
الإسلام ويخيرهم بينه وبين السيف فالقوم حينئذ إما مسلمون أو
طعمة لسيوفهم فلا إشكال، وما يحصل لهم زمن الدجال مع كونه ذلا
في نفسه غمامة صيف على أنهم ليسوا يهود حين التبعية إِنَّ
رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ لما شاء سبحانه أن يعاقبه في
الدنيا ومنهم هؤلاء، وقيل: في الآخرة، وقيل:
فيهما وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب وآمن
وَقَطَّعْناهُمْ أي فرقنا بني إسرائيل أو صيرناهم فِي
الْأَرْضِ وجعلنا كل فرقة منهم في قطر من أقطارها بحيث لا يكاد
يخلو قطر منهم تكملة لأدبارهم حتى لا يكون لهم شوكة وهذا من
مغيبات القرآن كالذي تضمنته الآية قبل، وقوله سبحانه: أُمَماً
إما مفعول ثان لقطعنا وإما حال من مفعوله مِنْهُمُ
الصَّالِحُونَ وهم كما قال الطبري من آمن بالله تعالى ورسوله
وثبت على دينه قبل بعث عيسى عليه الصلاة والسلام وقيل هم الذي
أدركوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وآمنوا به ونسب ذلك إلى ابن
عباس. ومجاهد، وقيل: هم الذي وراء الصين وهو عندي وراء الصين،
والجار متعلق بمحذوف خبر مقدم والصالحون مبتدأ، وجوز أن يكون
فاعلا للظرف والجملة في موضع النصب صفة لأمم على الاحتمالين،
وجوز أن تكون في موضع الحال وهي بدل من أمم على الاحتمال
الثاني وأن تكون صفة موصوف مقدر هو البدل على الأول أي قوما
منهم الصالحون وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ أي منحطون عن أولئك
الصالحين غير بالغين منزلتهم في الصلاح وهم الذين امتثلوا بعض
الأوامر وخالفوا بعضا مع كونهم مؤمنين، وقيل: هم الكفرة منهم
بناء على أن المراد بالصلاح الإيمان، وقيل: المراد بهم ما يشمل
الكفرة والفسقة، والجار متعلق بمحذوف خبر مقدم ودُونَ على ما
ذكره الطبرسي مبتدأ إلا أنه بقي مفتوحا لتمكنه في الظرفية مع
إضافته إلى المبني ومثله على قول أبي الحسن بَيْنَكُمْ في قوله
سبحانه: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام: 94] أو المبتدأ
محذوف والظرف صفته أي ومنهم أناس أو فرقة دون ذلك، ومن المشهور
عند النحاة أن الموصوف بظرف أو جملة يطرد حذفه إذا كان بعض اسم
مجرور بمن أو في مقدم عليه كما في منا أقام ومنا ظعن، ومحط
الفائدة الانقسام إلى أن هؤلاء منقسمون إلى قسمين، ومن الناس
من تكلف في مثل هذا التركيب لجعل الظرف الأول صفة مبتدأ محذوف،
وجعل الظرف الثاني خبرا لما ظنه داعيا لذلك، وليس بشيء،
والإشارة للصالحين، وقد ذكروا أن اسم الإشارة المفرد قد يستعمل
للمثنى والمجموع وقد مرت الإشارة إليه، وقيل: أشير به إلى
الصلاح كما يقتضيه ظاهر الأفراد ويقدر حينئذ مضاف وهو أهل مثلا
وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ الخصب والعافية وَالسَّيِّئاتِ
الجدب والشدة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي يتوبون عما كانوا
عليه مما نهوا عنه.
(5/89)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي المذكورين،
وقيل: الصالحين فَخَلَفَ أي بدل سوء مصدر نعت به ولذلك يقع على
الواحد والجمع، وقيل: هو اسم جمع وهو مراد من قال: إنه جمع وهو
شائع في الشر، ومنه سكت ألفا ونطق خلفا والخلف بفتح اللام في
الخير وادعى بعضهم الوضع لذلك، وقيل: هما بمعنى وهو من يخلف
غيره صالحا كان أو طالحا، ومن مجيء الساكن في المدح قول حسان:
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا ... لا ولنا في طاعة الله تابع
ومن مجيء المتحرك في الذم قول لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
وعن البصريين أنه يجوز التحريك والسكون في الردي وأما الجيد
فبالتحريك فقط ووافقهم أهل اللغة إلا الفراء وأبا عبيدة
واشتقاقه إما من الخلافة أو من الخلوف وهو الفساد والتغير ومنه
خلوف فم الصائم، وقال أبو حاتم: الخلف بالسكون الأولاد الواحد
والجمع فيه سواء والخلف بالفتح البدل ولدا كان أو غريبا
والأكثرون على أن المراد بهؤلاء الخلف الذين كانوا في عصر رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم وحينئذ لا يصح تفسير الصالحين بمن
آمن به عليه الصلاة والسلام، والظاهر أنهم من اليهود وعن مجاهد
أنهم النصارى وليس بذاك وَرِثُوا الْكِتابَ أي التوراة
والوراثة مجاز عن كونها في أيديهم وكونهم واقفين على ما فيها
بعد أسلافهم.
وقرأ الحسن «ورّثوا» بالضم والتشديد مبنيا لما لم يسم فاعله
والجملة على القراءتين في موضع الصفة لخلف وقوله سبحانه:
يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى استئناف مسوق لبيان ما
يصنعون بالكتاب بعد وراثتهم إياه. وقال أبو البقاء:
حال من الضمير في ورثوا واستظهره بعضهم ويكفي مقارنته لبعض
زمان الوراثة لامتداده، والعرض ما لا ثبات له ومنه استعار
المتكلمون العرض لمقابل الجوهر. وفي النهاية العرض بالفتح متاع
الدنيا وحطامها، وقال أبو عبيدة: هو غير النقدين من متاعها
وبالسكون المال والقيم، والْأَدْنى صفة لمحذوف أي الشيء الأدنى
والمراد به الدنيا وهو من الدنو للقرب بالنسبة إلى الآخرة،
وكونها من الدناءة خلاف الظاهر وإن كان ذلك ظاهرا فيها لأنه
مهموز، والمراد بهذا العرض ما يأخذونه من الرشا في الحكومات
وعلى تحريف الكلام وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا ولا يؤاخذنا
الله تعالى بذلك ويتجاوز عنا، والجملة عطف على ما قبلها
واحتمال الحالية يحتاج إلى تقدير مبتدأ من غير حاجة ظاهرة
والفعل مسند إلى الجار والمجرور وجوز أن يكون مسندا إلى ضمير
يأخذون: وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ في
موضع الحال قيل من ضمير يقولون، والقول بمعنى الاعتقاد أي
يرجون المغفرة وهم مصرون على الذنب عائدون إلى مثله غير تائبين
عنه، وقيل:
(5/90)
من ضمير لنا والمعنى على ذلك والأول أظهر،
والقول بأن تقييد القول بذلك لا يستلزم تقييد المغفرة به
والمطلوب الثاني والثاني متكفل به لا يخلو عن نظر.
واختار الحلبي والسفاقسي أن الجملة مستأنفة لا لأن الجملة
الشرطية لا تقع حالا إذ وقوعها مما لا شك في صحته بل لأن في
القول بالحالية نزغة اعتزالية ولا يخفى أن الأمر وإن كان كذلك
إلا أن الحالية أبلغ لأن رجاءهم المغفرة في حال يضادها أوفق
بالإنكار عليهم فافهم أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ
الْكِتابِ أي الميثاق المذكور في التوراة فالإضافة على معنى
في. ويجوز أن تكون اختصاصية على معنى اللام ويؤول المعنى إلى
ما ذكره، وال في الكتاب للعهد، وقوله سبحانه: أَنْ لا
يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ عطف بيان للميثاق،
وقيل: بدل منه، وقيل: إنه مفعول لأجله، وقيل: إنه متعلق بميثاق
بتقدير حرف الجر أي بأن لا يقولوا، وجوز في إِنْ أن تكون
مصدرية وأن تكون مفسرة لميثاق لأنه بمعنى القول، وفي لا أن
تكون ناهية وأن تكون نافية واعتبار كل مع ما يصح معه مفوض إلى
ذهنك، والمراد من الآية توبيخ أولئك الورثة على بتّهم القول
بالمغفرة مع إصرارهم على ما هم عليه. وعن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما أنهم وبخوا على إيجابهم على الله تعالى غفران
ذنوبهم التي لا يزالون يعودون إليها ولا يتوبون منها، وجاء
البت من السين فإنها للتأكيد كما نص عليه المحققون، وقد عرض
الزمخشري عامله الله تعالى بعدله في تفسير هذه الآية بأهل
السنة، وزعم أن مذهبهم هو مذهب اليهود بعينه حيث جوزوا غفران
الذنب من غير توبة، ونقل عن التوراة من ارتكب ذنبا عظيما فإنه
لا يغفر له بالتوبة، وأنت تعلم أن اليهود أكدوا القول بالغفران
وأهل السنة لا يجزمون في المطيع بالغفران فضلا عن العاصي بما
هو حق الله تعالى فضلا عمن عصاه سبحانه فيما هو من حقوق العباد
فالموجبون على الله تعالى وإن كان بالنسبة إلى التائب أقرب
إليهم فهل ما ادعاه إلا من قبيل ما جاء في المثل- رمتني بدائها
وانسلت- وما نقله عن التوراة إن كان استنباطا من الآية فلا تدل
على ما في الكشف إلا على تحريفهم ما في التوراة من نعت النبي
صلّى الله عليه وسلّم وآية الرجم ونحو ذلك من تسهيلاتهم على
الخاصة وتخفيفاتهم على العامة يأخذون الرشا بذلك والتقول على
الله عظيمة وإن كان قد قرأ التوراة التي لم تحرف وأنها هي تعين
الحمل على الشرك بقواطع من كتاب الله تعالى الكريم أو يكون ذلك
لهم وهذا لهذه الأمة المرحومة خاصة، وقد سلم هو نحوا منه في
قوله سبحانه: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [الأحقاف: 31]
وقد أطبق أهل السنة على ذم المتمني على الله،
ورووا عن شداد ابن أوس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
«الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه
هواها وتمنى على الله سبحانه» ،
ومن هنا قيل: إن القوم ذموا بأكلهم أموال الناس بالباطل واتباع
أنفسهم هواها وتمنيهم على الله سبحانه ووبخوا على افترائهم على
الله في الأحكام التي غيروها وأخذوا عرض هذا الأدنى على
تغييرها فكأنه قيل: ألم يؤخذ عليهم الميثاق المذكور في كتابهم
أن لا يقولوا على الله تعالى في وقت من الأوقات إلا الحق الذي
تضمنه الكتاب فلم حكموا بخلافه وقالوا: هو من عند الله وما هو
من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا؟ وفيه مع مخالفته لما روي
عن الحبر مخالفة للظاهر. وقرأ الجحدري «أن لا تقولوا» بالخطاب
على الالتفات وَدَرَسُوا ما فِيهِ أي قرؤوه فهم ذاكرون لذلك،
وهو عطف على أَلَمْ يُؤْخَذْ من حيث المعنى وان اختلفا خبرا
وإنشاء إذ المعنى أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا إلخ، وجوز
كونه عطفا على لَمْ يُؤْخَذْ والاستفهام التقريري داخل عليهما
وهو خلاف الظاهر أو على ورثوا وتكون جملة أَلَمْ يُؤْخَذْ
معترضة وما قبلها حالية أو يكون المجموع اعتراضا كما قيل ولا
مانع منه خلا أن الطبرسي نقل عن بعضهم تفسير درسوا على هذا
الوجه من العطف بتركوا وضيعوا وفيه بعد.
وقيل: إن الجملة في موضع الحال من ضمير يقولوا بإضمار قد أي
أخذ عليهم الميثاق بأن لا يقولوا على الله إلا
(5/91)
الحق الذي تضمنه كتابهم في حال دراستهم ما
فيه وتذكرهم له وهو كما ترى. وقرأ السلمي ادّارسوا بتشديد
الدال وألف بعدها وأصله تدارسوا فادغمت التاء في الدال واجتلبت
لها همزة الوصل.
وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الله
تعالى ويخافون عقابه فلا يفعلون ما فعل هؤلاء أَفَلا
تَعْقِلُونَ فتعلموا ذلك ولا تستبدلوا الأدنى المؤدي إلى
العذاب بالنعيم المقيم، وهو خطاب لأولئك المأخوذ عليهم الميثاق
الآخذين لعرض هذا الأدنى وفي الالتفات تشديد للتوبيخ، وقيل: هو
خطاب للمؤمنين ولا التفات فيه.
وقرأ جمع بالياء على الغيبة وبالتاء وقرأ نافع وابن عامر وابن
ذكوان وأبو جعفر وسهل ويعقوب وحفص. وهذه الآية ظاهرة في
التوبيخ على الأخذ، وجعل بعضهم قوله سبحانه: أَلَمْ يُؤْخَذْ
عَلَيْهِمْ إلخ توبيخا على ذلك القول في الآية ما هو من قبيل
ما فيه اللف والنشر وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ أي
يتمسكون به في أمور دينهم يقال:
مسك بالشيء وتمسك به بمعنى، قال مجاهد. وابن زيد: هم الذين
آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه تمسكوا بالكتاب
الذي جاء به موسى عليه السلام فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم
يتخذوه مأكلة وقال عطاء: هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم
والمراد من الكتاب القرآن الجليل الشأن، وقرأ أبو بكر. وحماد
«يمسكون» بالتخفيف من الإمساك، وابن مسعود «استمسكوا» ، وأبي
«مسكوا» وفي ذلك موافقة لقوله تعالى: وَأَقامُوا الصَّلاةَ
ولعل التغيير في المشهور للدلالة على أن التمسك أمر مستمر في
جميع الأزمنة بخلاف الإقامة فإنها مختصة بالأوقات المخصوصة،
وتخصيصها بالذكر من بين سائر العبادات مع دخولها بالتمسك
بالكتاب لا ناقتها عليها لأنها عماد الدين، ومحل الموصول إما
الجر عطفا على الذين يتقون، وقوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ
اعتراض مقرر لما قبله، والاعتراض قد يقرن بالفاء كقوله:
فاعلم فعلم المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كل ما قدرا
وإما الرفع على الابتداء والخبر قوله سبحانه: إِنَّا لا
نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ والرابط إما الضمير المحذوف كما
هو رأي جمهور البصريين أي أجر المصلحين منهم وإما الألف واللام
كما هو رأي الكوفيين فإنها كالعوض عن الضمير فكأنه قيل
مصلحيهم، وأما العموم في المصلحين فإنه على المشهور من الروابط
ومنه نعم الرجل زيد على أحد الأوجه أو وضع الظاهر موضع المضمر
بناء على أن الأصل لا نضيع أجرهم إلا أنه غير لما ذكر تنبيها
على أن الصلاح كالمانع من التضييع لأن التعليق بالمشتق يفيد
علية مأخذ الاشتقاق فكأنه قيل: لا نضيع أجرهم لصلاحهم.
وقيل: الخبر محذوف والتقدير والذين يمسكون بالكتاب مأجورون أو
مثابون، وقوله سبحانه: إِنَّا لا نُضِيعُ إلخ حينئذ اعتراض
مقرر لما قبله وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ عطف على
ما قبل بتقدير اذكر والنتق الرفع كما روي عن ابن عباس. وإليه
ذهب ابن الأعرابي، وعن مسلم أنه الجذب، ومنه نتقت الغرب من
البئر، وعن أبي عبيدة أنه القلع وما روي عن الحبر أوفق بقوله
سبحانه: وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ [النساء: 154] وعلى
القولين الأخيرين يضمن معنى الرفع ليتطابق الآيتان، والمراد
بالجبل الطور أو جبل غيره وكان فرسخا في فرسخ كمعسكر القوم
فأمر الله تعالى جبريل عليه السلام لما توقفوا عن أخذ التوراة
وقبولها إذ جاءتهم جملة مشتملة على ما يستثقلونه فقلعه من أصله
ورفعه عليهم كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ أي غمامة أو سقيفة وفسرت بذلك
مع أنها كل ما علا وأظل لأجل حرف التشبيه إذ لولاه لم يكن
لدخوله وجه و «فوق» ظرف لنتقنا أو حال من الجبل مخصصة على ما
قيل للرفع ببعض جهات العلو، والجملة الاسمية بعد في موضع الحال
أيضا أي مشابها ذلك وَظَنُّوا أي تيقنوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ
أي ساقط عليهم إن لم يقبلوا فانهم كانوا يوعدون بذلك بهذا
الشرط والصادق لا يتخلف ما أخبر به لكن لما لم يكن المفعول
واقعا لعدم شرطه أشبه المظنون الذي قد يتخلف فلهذا سمي ذلك
ظنا.
(5/92)
وقيل: تيقنوا ذلك لأن الجبل لا يثبت في
الجو، واعترض بأن عدم ثبوته فيه لا يقتضي التيقن لأنه على جري
العادة وأما على خرقها فالثابت الثبوت والواقع عدم الوقوع
ويكون ذلك كرفعه فوقهم ووقوفه هناك حتى كان ما كان منهم، والحق
أن المتيقن لهم الوقوع إن لم يقبلوا لكونه المعلق عليه، ففي
الأثر أن بني إسرائيل أبوا أن يقبلوا التوراة فرفع الجبل
فوقهم، وقيل: إن قبلتم وإلا ليقعن عليكم فوقع كل منهم ساجدا
على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من
سقوطه فلذلك لا ترى يهوديا يسجد إلا على حاجبه الأيسر ويقولون:
هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة وامتثلوا ما أمروا به ولا
يقدح في ذلك احتمال الثبوت على خرق العادة كما لا يقدح فيه عدم
الوقوع إذا قبلوا، ألا ترى إلى أنه يتيقن احتراق ما وقع في
النار مع إمكان عدمه كما في قصة الخليل عليه الصلاة والسلام،
وذهب الرماني.
والجبائي إلى أن الظن على بابه، والمراد قوي في نفوسهم أنه
واقع، واختاره بعض المحققين، والجملة مستأنفة، وجوز أن تكون
معطوفة على نتقنا أو حالا بتقدير قد كما قال أبو البقاء خُذُوا
أي وقلنا خذوا أو قائلين خذوا ما آتَيْناكُمْ من الكتاب
بِقُوَّةٍ أي بجد وعزم على تحمل مشاقه، والجار والمجرور متعلق
بمحذوف وقع حالا من الواو، والمراد خذوا ذلك مجدين وَاذْكُرُوا
ما فِيهِ أي اعملوا به ولا تتركوه كالمنسي وهو كناية عن ذلك أو
مجاز.
وقرأ ابن مسعود «وتذكروا» وقرىء واذكروا بمعنى وتذكروا
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بذلك قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق أو
راجين أن تنتظموا في سلك المتقين.
وجوز أن يراد بما آتيناكم الآية العظيمة أعني نتق الجبل أي
خذوا ذلك إن كنتم تطيفونه كقوله تعالى: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ
أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
فَانْفُذُوا [الرحمن: 33] واذكروا ما فيه من القدرة الباهرة
والإنذار، وعلى هذا فالمراد من نتق الجبل إظهار العجز لا غير،
والكلام نظير قولك لمن يدعي الصرعة والقوة بعد ما غلبته: خذه
مني، وحاصله إن كنتم تطلبون آية قاهرة وتقترحونها فخذوا ما
آتيناكم إن كنتم تطيقونه، ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر والآثار
على خلافه وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ منصوب بمضمر على طرز ما سلف
في نظائره وهو معطوف على ما قبل مسوق لإلزام اليهود بمقتضى
الميثاق العام فإن منهم من أشرك فقال: عزير ابن الله عز اسمه
بعد إلزامهم بالميثاق المخصوص بهم والاحتجاج عليهم بالحجج
السمعية والعقلية ومنعهم عن التقليد، وبعضهم جوز أن يكون
تذييلا تعميما بعد التخصيص وإظهارا لتمادي هؤلاء اليهود في
الغي بعد أخذ الميثاق الخاص المدلول عليه بقوله سبحانه:
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ لقوله جل وعلا: وَإِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ في سورة [البقرة:
63، 93] ، وعليه فلا عطف وهو أظهر من التذييل نظرا إلى ظاهر
اللفظ وأولى منه إذا خص العام بالمشركين كما قيل، وقد يقال:
إن الآية مسوقة لبيان أخذ ميثاق سابق من جميع الخلق مؤمنهم
وكافرهم قبل هذه النشأة بما هو أهم الأمور والأصل الأصيل لجميع
التكليفات على وجه خال مما يشبه الإكراه متضمن لالزام المشركين
المعاصرين له صلّى الله عليه وسلّم ورفع احتجاجهم ما كانوا بعد
الإشارة إلى أخذ ميثاق من قوم مخصوصين في هذه النشأة على وجه
هو أشبه الأشياء بالإكراه بما الظاهر فيه أنه من الأعمال لأن
القوم إذ ذاك كانوا مقرين بالربوبية بل بها وبرسالة موسى عليه
السلام فلم يكن حاجة إلى نتق الجبل فوقهم لذلك ولو قال قائل:
إن ذكر ذلك خلال الآيات المتعلقة باليهود من باب الاستطراد
والمناسبة فيه ظاهرة لم يبعد لكن الأول وهو الذي جرى عليه أكثر
متأخري المفسرين أي واذكر لهم أو للناس إذ أخذ ربك مِنْ بَنِي
آدَمَ المراد بهم الذين ولد لهم مؤمنين كانوا أو كفارا نسلا
بعد نسل سوى من لم يولد له بسبب من الأسباب وتخصيصهم بأسلاف
اليهود الذين أشركوا بالله تعالى حيث قالوا مما لا يكاد يلتفت
إليه.
وإيثار الأخذ على الإخراج للإيذان بشأن المأخوذ إذ ذاك لما فيه
من الإنباء عن الاجتباء والاصطفاء وهو السبب في
(5/93)
إسناده إلى اسم الرب بطريق الالتفات مع ما
فيه من التمهيد للاستفهام الآتي، وإضافته إلى ضميره عليه
الصلاة والسلام للتشريف، وقيل: إن إيثار الأخذ على الإخراج
لمناسبة ما تضمنته الآية من الميثاق فإن الذي يناسبه هو الأخذ
دون الإخراج، والتعير بالرب لما أن ذلك الأخذ باعتبار ما يتبعه
من آثار الربوبية، واستأنس بعضهم بمغايرة أسلوب هذا الكلام بما
فيه من الالتفات لما قبله من قوله سبحانه وتعالى: وَإِذْ
نَتَقْنَا ولما بعده من قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ
الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا لكونه استطراديا، وقوله تعالى: مِنْ
ظُهُورِهِمْ بدل من بني آدم بدل البعض من الكل بتكرير الجار
كما في قوله سبحانه وتعالى: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ
آمَنَ وقيل: بدل اشتمال وإليه ذهب أبو البقاء، وبينه بعضهم بأن
بدل الاشتمال ما يكون بينه وبين المبدل منه ملابسة بحيث توجب
النسبة إلى المتبوع إلى التابع اجمالا نحو أعجبني زيد علمه
فإنه يعلم ابتداء أن زيدا معجب باعتبار صفاته لا باعتبار ذاته
وتتضمن نسبة الاعجاب إليه نسبته إلى صفة من صفاته إجمالا،
ونسبة الأخذ الذي هو بمعنى الإخراج هنا إلى بني آدم نسبة إلى
ظهورهم اجمالا لأنه يعلم ابتداء أن بني آدم ليسوا مأخوذين
باعتبار ذواتهم بل باعتبار أجسادهم وأعضائهم وتتضمن الأخذ
إليهم نسبته إلى أعضائهم اجمالا، وادعى أن القول به أولى من
القول ببدل البعض لأن النسبة إلى المبدل منه الكل تكون تامة
وتحصل بها الفائدة بدون ذكر البدل نحو أكلت الرغيف نصفه فإن
النسبة تامة لو لم يذكر النصف ولا شك أن النسبة هنا ليست تامة
بدون ذكر البدل.
وأيضا أن الظهور ليس بعض بني آدم حقيقة بل بعض أعضائهم ولا
يخفى ما في ذلك من النظر. ومِنْ في الموضعين ابتدائية، وفيه
مزيد تقرير لابتنائه على البيان بعد الإبهام والتفصيل غب
الإجمال، قيل: وتنبيه على أن الميثاق قد أخذ منهم وهم في أصلاب
الآباء ولم يستودعوا في أرحام الأمهات وقوله تعالى:
ذُرِّيَّتَهُمْ مفعول أَخَذَ أخر عن المفعول بواسطة الجار
لاشتماله على ضمير راجع إليه فيلزم بالتقديم رجوع الضمير إلى
متأخر لفظا ورتبة وهو لا يجوز إلا في مواضع ليس هذا منها
ولمراعاة أصالته ومنشئيته ولما مر غير مرة من التشويق إلى
المؤخر. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب «ذرياتهم»
والمراد أولادهم على العموم، ومن خص بني آدم بأسلاف اليهود على
ما مر خص هذا بأخلافهم وفيه ما فيه، والاشكال المشهور وهو أن
كل الناس يصدق عليه بنو آدم وذريته فيتحد المخرج والمخزج منه
مدفوع بظهور أن المراد إخراج الفروع من الأصول حسب ترتب
الولادة ولا يتوقف التخلص عنه على القول بذلك التخصيص.
وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أي أشهد كل واحد من أولئك
الذرية المأخوذين من ظهور آبائهم على أنفسهم لا على غيرهم
تقريرا لهم بربوبيته سبحانه وتعالى التامة قائلا لهم: أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ أي مالك أمركم ومربيكم على الإطلاق من غير أن يكون
لأحد مدخل في شأن من شؤونكم قالُوا في جوابه سبحانه وتعالى
بَلى شَهِدْنا أي على أنفسنا بأنك ربنا لا رب لنا غيرك والمراد
أقررنا بذلك. وجاء أن القاضي شريح قال لمقر عنده شهد عليك ابن
أخت خالتك، ومن هناك قال الجلال السيوطي: إن هذه الآية أصل في
الإقرار وبَلى حرف جواب وألفها أصلية عند الجمهور، وقال جمع:
الأصل بل والألف زائدة وبعض أولئك يقول: إنها لتأنيث الكلمة
كالتاء في ثمت وربت لأنها أميلت ولو لم تكن للتأنيث لكانت
زائدة لمجرد التكثير كألف قبعثرى وتلك لا تمال، وتختص بالنفي
فلا تقع إلا في جوابه فتفيد ابطاله سواء كان مجردا أو مقرونا
بالاستفهام حقيقيا كان أو تقريريا، وقد أجروا النفي مع التقرير
مجرى النفي المجرد في رده ببلى كما في هذه الآية، ولذلك قال
ابن عباس وغيره لو قالوا نعم لكفروا. ووجهه أن نعم تصديق
للمخبر بنفي أو إيجاب، ولذلك قال جماعة من الفقهاء: لو قال
أليس لي عليك ألف؟ فقال: بلى لزمته ونعم لا. وقال آخرون: تلزمه
فيهما وجروا فيه على مقتضى العرف لا اللغة.
(5/94)
ونازع السهيلي وجماعة في المحكي عن الحبر
وغيره متمسكين بأن الاستفهام التقريري موجب ولذلك امتنع سيبويه
من جعل أَمْ متصلة على ما قيل في قوله تعالى: أَفَلا
تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ [الزخرف: 51، 52] فإنها لا
تقع بعد الإيجاب وإذا ثبت أنه إيجاب فنعم بعد الإيجاب تصديق
له، قال ابن هشام: ويشكل عليهم أن بلى لا يجاب بها الإيجاب
وذلك متفق عليه وبَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي [الزمر: 59] متقدم
فيه ما يدل على النفي لكن وقع في الحديث ما يقتضي أنها يجاب
بها الاستفهام المجرد
ففي صحيح البخاري أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه:
«أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قالوا: بلى»
وفي صحيح مسلم أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنت الذي لقيتني
بمكة فقال له المجيب: بلى»
وليس لهؤلاء أن يحتجوا بذلك لأنه قليل فلا يتخرج عليه التنزيل
انتهى. وأجاب البدر الدماميني بأنه لا إشكال في الحقيقة فإن
هؤلاء راعوا صورة النفي المنطوق به فيجاب ببلى حيث يراد إبطال
النفي الواقع بعد الهمزة وجوزوا الجواب بنعم على أنه تصديق
لمضمون الكلام جميعه الهمزة ومدخولها وهو إيجاب كما سلف ودعواه
الاتفاق مناقش فيها أما إن أراد الإيجاب المجرد من النفي
بالمرة فقد حكى الرضى الخلاف فيه، وذكر أن بعضهم أجاز
استعمالها بعده تمسكا بقوله:
وقد بعدت بالوصل بيني وبينها ... بل ان من زار القبور ليبعدا
وإن أراد ما هو الأعم حتى يشمل التقرير المصاحب للنفي فالخلاف
فيه موجود مشهور ذكره هو في حرف النون انتهى، ولا يخفى أن
البيت شاذ كما صرح به الرضى، والمذكور في بحث النون أن جماعة
من المتقدمين والمتأخرين منهم الشلوبين قالوا: إنه إذا كان قبل
النفي استفهام فإن كان على حقيقته فجوابه كجواب النفي المجرد
وإن كان مرادا به التقرير فالأكثر أن يجاب بما يجاب به النفي
رعيا للفظه، ويجوز عند أمن اللبس أن يجاب بما يجاب به الإيجاب
رعيا لمعناه وعلى ذلك قول الأنصار للنبي صلّى الله عليه وسلّم
نعم وقد قال لهم: ألستم ترون لهم ذلك وقول جحدر:
أليس الليل يجمع أم عمرو ... وإيانا فذاك بنا تداني
نعم وأرى الهلال كما تراه ... ويعلوها النهار كما علاني
وعلى ذلك جرى كلام سيبويه، وقال ابن عصفور: أجرت العرب التقرير
في الجواب مجرى النفي المحض وإن كان إيجابا في المعنى فإذا
قيل: ألم أعطك درهما قيل في تصديقه: نعم وفي تكذيبه بلى، وذلك
لأن المقرر قد يوافقك فيما تدعيه وقد يخالفك فإذا قال: نعم لم
يعلم هل أراد نعم لم تعطني على اللفظ أو نعم أعطيتني على
المعنى فلذلك أجابوه على اللفظ ولم يلتفتوا إلى المعنى. وأما
نعم في بيت جحدر فجواب لغير مذكور وهو ما قدره اعتقاده من أن
الليل يجمعه وأم عمرو وجاز ذلك لأمن اللبس لعلمه أن كل أحد
يعلم أن الليل يجمعه مع أم عمرو، أو هو جواب لقوله: وأرى
الهلال قدم عليه وأما قول الأنصار: فجاز لأمن اللبس لأنه قد
علم أنهم يريدون نعم يعرف لهم ذلك، وعلى هذا يحمل استعمال
سيبويه لها بعد التقرير انتهى.
والأحسن أن تكون نعم في البيت جوابا لقوله: فذاك بنا تدانى، ثم
قال ابن هشام: ويتحرر على هذا أنه لو أجيب أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ بنعم لم يكف في الإقرار لأنه سبحانه وتعالى أوجب
في الإقرار بما يتعلق بالربوبية ما لا يحتمل غير المعنى المراد
من المقر، ولهذا لا يدخل في الإسلام بقوله لا إله إلا الله
برفع إله لاحتماله لنفي الوحدة، ولعل ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما إنما قال: إنهم لو قالوا: نعم لم يكن إقرارا وافيا، وجوز
الشلوبين أن يكون مراده رضي الله تعالى عنه أنهم لو قالوا نعم
جوابا للملفوظ على ما هو الأفصح لكان كفرا إذ الأصل تطابق
السؤال والجواب لفظا، وفيه نظر لأن التكفير لا يكون بالاحتمال،
والكلام عند جمع تمثيل لخلقه تعالى الخلق جميعا في مبدأ الفطرة
مستعدين للاستدلال بالأدلة الآفاقية والأنفسية المؤدية إلى
التوحيد كما نطق به
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كل مولود يولد على الفطرة»
(5/95)
الحديث
مبني على تشبيه الهيئة المنتزعة من تعريضه سبحانه وتعالى إياهم
لمعرفة ربويته ووحدانيته بعد تمكينهم منها بما ركز فيهم من
العقول والبصائر ونصب لهم في الآفاق والأنفس من الدلائل تمكينا
تاما ومن تمكنهم منها تمكنا كاملا وتعرضهم لها تعرضا قويا
بهيئة منتزعة من حمله تعالى إياهم على الاعتراف بها بطريق
الأمر ومن مسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلا من غير أن يكون
هناك أخذ وإشهاد وسؤال وجواب، ونظير ذلك في قول ما في قوله
سبحانه وتعالى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ
كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ومن ذلك سائر ما يحكى عن
الحيوان والجماد كقوله:
شكا إليّ جملي طول السرى ... مهلا رويدا فكلانا مبتلى
(وقوله)
امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلا رويدا قد ملأت بطني
وجعلوا قوله سبحانه وتعالى: أَنْ تَقُولُوا من تلوين الخطاب
وصرفه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى معاصريه من
اليهود تشديدا في الإلزام أو إليهم وإلى متقدميهم بطريق
التغليب وهو مفعول له لما قبله من الأخذ والاشهاد أو لمقدر يدل
عليه ذلك، والمعنى على ما يقول البصريون: فعلنا ما فعلنا كراهة
أن تقولوا وعلى ما يقول الكوفيون: لئلا تقولوا يَوْمَ
الْقِيامَةِ عند ظهور الأمر وإحاطة العذاب بمن أشرك إِنَّا
كُنَّا عَنْ هذا أي وحدانية الربوبية غافِلِينَ لم ننبه عليه،
وإنما لم يسعهم هذا الاعتذار حينئذ على ما قيل لأنهم نبهوا
بنصب الأدلة وجعلوا متهيئين تهيؤا تاما لتحقيق الحق وإنكار ذلك
مكابرة فكيف يمكنهم أن يقولوا ذلك أَوْ تَقُولُوا في ذلك اليوم
إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ أي إن آباءنا هم اخترعوا
الإشراك وهم سنّوه من قبل زماننا وَكُنَّا نحن ذُرِّيَّةً مِنْ
بَعْدِهِمْ لا نهتدي إلى سبيل التوحيد أَفَتُهْلِكُنا أي
أتؤاخذنا فتهلكنا اليوم بالعذاب بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ من
آبائنا المضلين لا نراك تفعل. وأَوْ لمنع الخلو دون الجمع،
وفعل القول عطف على نظيره وقرأهما أبو عمرو بالياء على الغيبة
لأن صدر الكلام عليها، ووجه قراءة الخطاب ما علمت. وقال البعض:
إن ذاك لقول الرب تعالى ربكم وإنما لم يسع القوم هذا القول لأن
ما ذكر من استعدادهم يضيق عليهم المسالك إليه إذ التقليد عند
قيام الدلائل والقدرة على الاستدلال بها مما لا مساغ إليه
أصلا. هذا والذي عليه المحدثون والصوفية قاطبة أن الله تعالى
أخذ من العباد بأسرهم ميثاقا قاليا قبل أن يظهروا بهذه البنية
المخصوصة وأن الإخراج من الظهور كان قبل أيضا.
فقد أخرج أحمد والنسائي وابن جرير وابن مردويه والحاكم وصححه
والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس عن النبي صلّى الله
عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان
يوم عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذراها فنشرها بين يديه كالذر
ثم كلمهم قبلا ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا» .
وأخرج مالك في الموطأ وأحمد وعبد بن حميد والبخاري في التاريخ
وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وخلق كثير عن
مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه سئل
عن هذه الآية وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ إلخ فقال: «سمعت رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم سئل عنها فقال: إن الله تعالى خلق آدم ثم
مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة
وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال:
خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال الرجل: يا رسول
الله ففيم العمل؟ فقال: إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل
الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الله الجنة
وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل
من أعمال أهل النار
فيدخله حديث عمر رضي الله تعالى عنه لا يساعد ذلك ولا ظاهر
الآية لأنه سبحانه
(5/96)
وتعالى لو أراد أن يذكر أنه استخرج الذرية
من صلب آدم دفعة واحدة لا على توليد بعضهم من بعض على مر
الزمان لقال: وإذا أخذ ربك من ظهر آدم ذريته، والتوفيق بينهما
أن يقال: المراد من بني آدم في الآية آدم وأولاده وكأنه صار
اسما للنوع كالإنسان والبشر، والمراد بالإخراج توليد بعضهم من
بعض على مر الزمان واقتصر في الحديث على ذكر آدم اكتفاء بذكر
الأصل عن ذكر الفرع،
وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث «مسح ظهر آدم»
يحتمل أن يكون الماسح الملك الموكل على تصوير الأجنة وتخليقها
وجمع موادها وأسند إلى الله تعالى لأنه الآمر كما أسند التوفي
إليه في قوله تعالى: يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها
[الزمر: 42] والمتوفى لها هو الملك لقوله تعالى:
تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [النحل: 28، 32] ويحتمل أن يكون
الماسح هو الله تعالى ويكون المسح من باب التمثيل، وقيل: هو من
المساحة بمعنى التقدير كأنه قال: قدر ما في ظهره من الذرية
انتهى كلامه. وقال بعضهم: ليس المعنى في الحديث أنه تعالى أخرج
الكل من ظهر آدم عليه السلام بالذات بل أخرج من ظهره أبناءه
الصلبية ومن ظهورهم أبناءهم الصلبية وهكذا إلى آخر السلسلة لكن
لما كان المظهر الأصلي ظهره عليه الصلاة والسلام وكان مساق
الحديث بيان حال الفريقين إجمالا من غير أن يتعلق بذكر الوسائط
غرض على نسب إخراج الكل إليه، وأما الآية الكريمة فحيث كانت
مسوقة للاحتجاج على الكفرة المعاصرين لرسول الله صلّى الله
عليه وسلّم وبيان عدم إفادة الاعتذار بإسناد الإشراك إلى
آبائهم اقتضى الحال نسبة إخراج كل واحد منهم إلى ظهر أبيه من
غير تعرض لاخراج الأبناء الصلبية لآدم عليه السلام من ظهره
قطعا، وعدم بيان الميثاق في الخبر العمري ليس بيانا لعدمه ولا
مستلزما له اهـ.
وأنت تعلم أن التأويل الذي ذكره البيضاوي يأبى عنه كل الإباء
حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأن ما ذكره البعض من أن
مساق الحديث بيان حال الفريقين إجمالا يأباه ظهور عدم كون
السؤال عن حالهما ليساق الحديث لبيانه فإن الظاهر أن الصحابي
إنما سأله عليه الصلاة والسلام عما أشكل عليه من معنى الآية أن
الإشهاد هل هو حقيقة أم على الاستعارة؟ فلما أجابه صلّى الله
عليه وسلّم بما عرف منه ما أراده لأنه كان بليغا ولو أشكل عليه
من جهة أخرى لكان الواجب بيان تلك الجهة وكذا فهم الفاروق رضي
الله تعالى عنه.
ومن هنا يعلم أن قول الإمام ان ظاهر الآية يدل على إخراج
الذرية من ظهر بني آدم، وليس فيها ما يدل على أنهم أخرجوا من
صلب آدم ولا ما يدل عليه نفيه إلا أن الخبر دل عليه فيثبت
خروجهم من آدم بالحديث ومن بنيه بالآية لا يطابق سباق الحديث
كما لا يخفى، وقال الشيخ شهاب الدين التوربشتي: إنما جد كثير
من أهل العلم في الهرب عن القول في معنى الآية بما يقتضيه ظاهر
خبر الحبر لمكان قوله سبحانه: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ
الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ فقالوا: إن كان
هذا الإقرار عن اضطرار حيث كوشفوا بحقيقة الأمر وشاهدوه عين
اليقين فلهم ذلك اليوم أن يقولوا: شهدنا يومئذ فلما زال عنا
علم الضرورة ووكلنا إلى آرائنا كان منا من أصاب ومنا من أخطأ
وإن كان عن استدلال ولكنهم عصموا عنده من الخطأ فلهم أيضا أن
يقولوا: أيدنا يوم الإقرار بتوفيق وعصمة وحرناهما من بعد ولو
امددنا بهما أبدا لكانت شهادتنا في كل حين كشهادتنا في اليوم
الأول فيتعين حينئذ أن يراد بالميثاق ما ركب الله تعالى فيهم
من العقول وآتاهم من البصائر لأنها هي الحجة البالغة والمانعة
عن قولهم إنا كنا إلخ لأن الله تعالى جعل الإقرار والتمكن من
معرفة ربوبيته ووحدانيته سبحانه حجة عليهم في الإشراك كما جعل
بعث الرسول حجة عليهم في الإيمان بما أخبر عنه من الغيوب
انتهى.
وحاصله أن لو لم تؤول الآية بما ذكر يلزم أن لا يكونوا محجوجين
يوم القيامة، وقد أجيب عنه باختيار كل من الشقين ورفع محذوره.
أما الأول فبأن يقال: إذا قالوا شهدنا يومئذ فلما زال علم
الضرورة ووكلنا إلى آرائنا كان كذا أيها الكذابون متى وكلتم
إلى آرائكم ألم نرسل رسلنا تترى ليوقظوكم عن سنة الغفلة؟ وأما
الثاني فبأن يقال: إن هذا
(5/97)
مشترك الإلزام فإنه إذا قيل لهم: ألم
نمنحكم العقول والبصائر: فلهم أن يقولوا؟ فإذا حرمنا اللطف
والتوفيق فأي منفعة لنا في العقل والبصيرة؟ وذكر محيي السنة في
جواب أنه كيف تلزم الحجة ولا أحد يذكر ذلك الميثاق أن الله
تعالى قد أوضح الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا به
فمن أنكره كان معاندا ناقضا للعهد ولزمته الحجة ونسيانه وعدم
حفظه لا يسقط الاحتجاج بعد أخبار المخبر الصادق. ولا يخفى ما
فيه، ولهذا أجاب بعضهم بأن قوله تعالى:
أَنْ تَقُولُوا ليس مفعولا لا لقوله تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ وما
يتفرع عليه من قولهم بَلى شَهِدْنا حتى يجب كون ذلك الإشهاد
والشهادة محفوظا لهم في إلزامهم بل لفعل مضمر ينسحب عليه
الكلام، والمعنى فعلنا ما فعلنا من الأمر الميثاق وبيانه كراهة
أن تقولوا أو لئلا تقولوا أيها الكفرة يوم القيامة إنا كنا
غافلين عن ذلك الميثاق لم ننبه عليه في دار التكليف وإلا
لعملنا بموجبه، هذا على قراءة الجمهور، أما على القراءة الأخرى
فهو مفعول له لنفس الأمر المضمر العامل في إِذْ أَخَذَ والمعنى
اذكر لهم الميثاق المأخوذ منهم فيما مضى لئلا يعتذروا يوم
القيامة بالغفلة عنه أو بتقليد الآباء، ثم قال: هذا على تقدير
كون شهدنا من كلام الذرية وهو الظاهر فأما على تقدير كونه من
كلام الله تعالى فهو العامل في أَنْ تَقُولُوا ولا محذور أصلا
والمعنى شهدنا قولكم هذا لئلا تقولوا يوم القيامة إلخ لأنا
نردكم ونكذبكم حينئذ انتهى.
ولا يخفى أن ما ذكره أولا من تعلق أَنْ وما بعدها بفعل مضمر
ينسحب عليه الكلام أو بنفس الفعل المضمر العامل في إِذْ واضح
في دفع السؤال الذي أشرنا إليه، وإنه لعمري في غاية الحسن إلا
أن الظاهر تعلقه بالإشهاد وما يتفرع عليه، وأرى الجواب مع عدم
العدول عنه لا يخلو عن العدول عنه، ويؤيد ما ذكره ثانيا من كون
شَهِدْنا من كلام الله تعالى وكونه العامل ما
أخرجه ابن عبد البر في التمهيد من طريق السدي عن أبي مالك. وعن
أبي طالب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وعن مرة الهمداني
عن ابن مسعود وناس من الصحابة أنهم قالوا في الآية: لما أخرج
الله تعالى آدم من الجنة قبل تهبيطه من السماء مسح صفحة ظهره
اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر فقال لهم:
ادخلوا الجنة برحمتي ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية
سوداء كهيئة الذر فقال: ادخلوا النار ولا أبالي فذلك قوله
تعالى: أَصْحابُ الْيَمِينِ [الواقعة: 27] وَأَصْحابُ
الشِّمالِ [الواقعة:
41] ثم أخذ منهم الميثاق فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. فأعطاه
طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية فقال: هو والملائكة
شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ الحديث،
وفيه مخالفة لما روي عن الحبر أولا من أن الأخذ كان بنعمان إذ
هو ظاهر في كون ذلك بعد الهبوط وهذا ظاهر في كونه كان قبل، وفي
بعض الأخبار ما يقتضي أنه كان إذ كان عرشه سبحانه على الماء،
فقد أخرج عبد بن حميد. والحكيم الترمذي في نوادر الأصول
والطبراني وأبو الشيخ في العظمة. وابن مردويه عن أبي أمامة أن
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خلق الله تعالى الخلق
وقضى القضية وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء فأخذ أهل
اليمين بيمينه وأخذ أهل الشمال بيده الأخرى وكلتا يدي الرحمن
يمين فقال:
يا أصحاب اليمين فاستجابوا له فقالوا له: لبيك ربنا وسعديك
قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. قال: يا أصحاب الشمال فاستجابوا
له فقالوا له: لبيك ربنا وسعديك قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى»
فخلط بعضهم ببعض الخبر، وذكر بعضهم أنه كان بالهند حيث هبط آدم
عليه السلام، وآخرون أنه كان في موضع الكعبة وأن الذرية
المخرجة من ظهر آدم عليه السلام كالذر أحاطت به، وجعل المحل
الذي شغلته إذ ذاك حرما، وليس لهذا سند يعول عليه، والتوفيق
بين هذه الروايات مشكل إلا أن يقال بتعدد أخذ الميثاق، وإليه
ذهب السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم، لكن يشعر كلامهم
باختلاف النوع، فقد قال بعضهم: رأيت من يستحضر قبل ميثاق
أَلَسْتُ ستة مواطن أخرى ميثاقية
(5/98)
فذكرت ذلك لشيخنا رضي الله تعالى عنه فقال:
إن قصد القائل بالحضرات الستة التي عرفها قبل ميثاق أَلَسْتُ
الكليات فمسلم، وأما إن أراد جملة الحضرات الميثاقية التي قبل
أَلَسْتُ فهي أكثر من ذلك، ويعلم من هذا ما في قولهم: لا أحد
يذكر ذلك الميثاق على وجه السلب الكلي من المنع، وقد روي عن ذي
النون أيضا وقد سئل عن ذلك هل تذكره أنه قال: كأنه الآن في
أذني. وقال بعضهم مستقربا له: إن هذا الميثاق بالأمس كان وأشار
فيه أيضا إلى مواثيق أخر كانت قبل، ويمكن أن يقال مرادهم من
تلك السالبة لا أحد من المشركين يذكر ذلك الميثاق لا لا أحد
مطلقا.
وذكر قطب الحق والدين العلامة الشيرازي في التوفيق بين الآية
والخبر العمري كلاما ارتضاه الفحول وتلقوه بالقبول وحاصله: أن
جواب النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ سئل عن الآية من قبيل
أسلوب الحكيم وذلك أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن بيان
الميثاق الحالي فأجاب ببيان الميثاق المقالي على ألطف وجه.
وبيانه أن سبحانه كان له ميثاقان مع بني آدم. أحدهما تهتدي
إليه العقول من نصب الأدلة الباعثة على الاعتراف الحالي.
وثانيهما المقالي الذي لا يهتدي إليه العقل بل يتوقف على توقيف
واقف على أحوال العباد من الأزل إلى الأبد كالأنبياء عليهم
السلام فأراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يعلم الأمة
ويخبرهم عن أن وراء الميثاق الذي يهتدون إليه بعقولهم ميثاقا
آخر أزليا فقال ما قال من مسح ظهر آدم عليه السلام في الأزل
وإخراج الذرية ليعرف منه أن هذا النسل الذي يخرج في لا يزال من
أصلاب بني آدم هو الذر الذي أخرج في الأزل من صلب آدم وأخذ منه
الميثاق المقالي الأزلي كما أخذ منهم في لا يزال بالتدريج حين
أخرجوا الميثاق الحالي اللايزالي اهـ وهو حسن كما قالوا، لكن
ينبغي أن يحمل الأزل فيه ولا يزال على المجاز لأن خروج النسل
محدود بيوم القيامة وعلى القول بعدم انقطاعه بعده هو خاص
بالسعداء على وجه خاص كما علم في محله والأمر حادث لا أزلي
وإلا لزم خرق إجماع المسلمين والتدافع بين الآية وكان الله
تعالى ولم يكن معه شيء، ونقل عن الخلخالي أنه شمر عن ساقه في
دفع ذلك فقال: المخاطبون هم الصور العلمية القديمة التي هي
ماهيات الأشياء وحقائقها ويسمونها الأعيان الثابتة وليست تلك
الصور موجودة في الخارج فلا يتعلق بها بحسب ذلك الثبوت جعل بل
هي في ذواتها غير محتاجة إلى ما يجعلها تلك الصور وهي صادرة
عنه تعالى بالفيض الأقدس وقد صرحوا بأنها شؤونات واعتبارات
للذات الاحدي وجوابهم بقولهم: بل إنما هو بألسنة استعدادتهم
الأزلية لا بالألسنة التي هي بعد تحققها في الخارج انتهى. وهو
مبني على الفرق بين الثبوت والوجود وفيه نزاع طويل لكنا ممن
يقول به والله لا يستحي من الحق، ومن هنا انقدح لبعض الأفاضل
وجه آخر في التوفيق بين الآية والحديث وهو أن المراد بالذرية
المستخرجة من صلب آدم عليه السلام وبنيه هو الصور العلمية
والأعيان الثابتة وأن المراد باستخراجها هو تجلي الذات الاحدي
وظهوره فيها وأن نسبة الإخراج إلى ظهورهم باعتبار أن تلك الصور
إذا وجدت في الأعيان كانت عينهم وأن تلك المقاولة حالية
استعدادية أزلية لا قالية لا يزالية حادثة وهذا هو المراد بما
نقل الشيخ العارف أبو عبد الرحمن السلمي في الحقائق عن بنان
حيث قال: أوجدهم لديه في كون الأزل ثم دعاهم (1) فأجابهم سراعا
وعرفهم نفسه حين لم يكونوا في الصورة الانسية ثم أخرجهم
بمشيئته خلقا وأودعهم في صلب آدم فقال سبحانه:
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ إلخ ... فاخبر أنه خاطبهم وهم غير
موجودين إلا بوجوده لهم إذ كانوا واجدين للحق في غير وجودهم
لأنفسهم وكان الحق بالحق في ذلك موجودا ثم أنشد السلمي لبعضهم:
__________
(1) قوله فأجابهم سراعا كذا بخطه والأولى فأجابوا إلخ اهـ
(5/99)
لو يسمعون كما سمعت كلامها ... خروا لعزة
ركعا وسجودا
ولا يخفى أن هذا التوفيق بعيد بمراحل عن ذوق أرباب الظاهر
لمخالفته لظواهر الأخبار والمتبادر من الآثار، وما نقل عن
بنان فيه وهو أول كلامه انتخبهم للولاية واستخلصهم
للكرامة، وجعل لهم فسوحا في غوامض غيب الملكوت وبعده ما
ذكره، وشموله لسائر الخلق سعيدهم وشقيهم لا يخلو عن بعد،
وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن الله تعالى أبدع المبدعات
وتجلى بلسان الأحدية في الربوبية فقال: ألست بربكم؟
والمخاطب في غاية الصغاء فقالوا:
بلى. فكان كمثل الصدى فإنهم أجابوه به فإن الوجود المحدث
خيال منصوب وهذا الاشهاد كان إشهاد رحمة لأنه سبحانه ما
قال لهم وحدي إبقاء عليهم لما علم أنهم يشركون به تعالى عن
ذلك علوا كبيرا بما فيهم من الحظ الطبيعي وبما فيهم من
قبول الاقتدار الإلهي وما يعلمه إلا قليل وأنت تعلم أن
محققي المفسرين اعتبروا الوحدانية في الإشهاد وكذا في
الشهادة كما مرت الإشارة إليه ونطقت الآثار به، ومن ذلك ما
أخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند والبيهقي
وابن عساكر وجماعة عن أبي بن كعب أنه قال في الآية: جمعهم
جميعا فجعلهم أرواحا في صورهم ثم استنطقهم فتكلموا ثم أخذ
عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟
قالوا: بلى. قال: فإني أشهد عليكم السموات السبع وأشهد
عليكم إياكم آدم أن تقولوا يوم القيامة إنا لم نعلم بهذا
اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري ولا تشركوا بي شيئا
إني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم
كتبي قالوا: شهدنا بأنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ولا
إله لنا غيرك فأقروا ورفع عليهم آدم ينظر إليهم فرأى الغني
والفقير وحسن الصورة ودون ذلك فقال: يا رب لولا سويت بين
عبادك قال: إني أحببت أن أشكر. وبهذا يندفع ما يقال: إن
إقرار الذراري بربوبيته سبحانه لا ينافي الشرك لأن
المشركين قائلون بربوبيته سبحانه كما يدل عليه قوله تعالى:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ
اللَّهُ [الزخرف: 87] والمعتزلة ينكرون أخذ الميثاق القالي
المشار إليه في الأخبار ويقولون: إنها من جملة الآحاد فلا
يلزمنا أن نترك لها ظاهر الكتاب وطعنوا في صحتها بمقدمات
عقلية مبنية على قواعد فلسفية على ما هو دأبهم في أمثال
هذه المطالب، قالوا أولا: إن أخذ الميثاق لا يمكن إلا من
العاقل فوجب أن يتذكر الإنسان في هذا العالم ذلك الميثاق
إذ لا يجوز للعاقل أن ينسى مثل هذه الواقعة العظيمة نسيا
كليا فحيث نسي كذلك دل على عدم وقوعها، وبنحو هذا الدليل
بطل التناسخ. وأجيب بأن العلم إنما هو بخلق الله تعالى
فجاز أن لا يخلقه لحكمة علمها، ودليل بطلان التناسخ ليس
منحصرا بما ذكر، فقد استدلوا أيضا على بطلانه بلزوم أن
يكون للبدن نفسان كما بينه الإمام في المباحث الشرقية وأن
يكون عدد الهالكين مساويا لعدد الكائنين والطوفات العامة
تأبى هذا التساوي، على أنه يمكن أن يجاب بالفرق بين
التناسخ وبين ما نحن فيه، وذلك أنا إذا كنا في أبدان أخرى
وبقينا فيها سنين امتنع في مجرى العادة نسيان أحوالها،
وأما أخذ الميثاق فإنما حصل في أسرع زمان فلم يبعد حصول
النسيان فيه. وبعضهم أجاب بأن النسيان وعدم التذكر هنا
لبعد الزمان. واعترض بأن أهل الآخرة يعرفون كثيرا من أحوال
الدنيا كما نطقت بذلك الآيات والأخبار اللهم إلا أن يقال:
إن ذلك خصوصية الدار، وقالوا ثانيا: إن تلك الذرية
المأخوذة من ظهر آدم عليه السلام لا بد أن يكون لكل واحد
منها قدر من البنية حتى يحصل فيه العلم والفهم فمجموعها لا
تحويه عرصة الدنيا فيمتنع حصوله في ظهر آدم ليؤخذ ثم يرد،
وأجيب بأنه مبني على كون الحياة مشروطة بالبنية المخصوصة
كما هو مذهب الخصوم، والبرهان قائم على بطلانه كما تقرر في
الكلام، فيجوز أن يخلق الله تعالى الحياة في جوهر فرد،
وتلك الذرية المخرجة كانت كالذر وهو قريب من الجوهر، وكون
المجموع لا تحويه عرصة الدنيا غير مسلم، وإن كان الأخذ في
السماء قبل هبوط آدم عليه السلام فالدائرة واسعة، وإن كان
إذ كان العرش على الماء فالدائرة أوسع، ولا مانع إذا كان
في الأرض أن يكون اجتماع الذر متراكما بينها وبين السماء
وإنه لفضاء عظيم وإن صغرت قاعدته، وإن اعتبر
(5/100)
أن الإنسان عبارة عن النفس الناطقة وأنها
جوهر غير متحيز ولا حال فيه لم يحتج إلى الفضاء إلا أن فيه
ما فيه، وقالوا ثالثا: إنه لا فائدة في أخذ الميثاق لأنهم
لا يصيرون بسببه مستحقين للثواب والعقاب على أنهم أدون
حالا من الأطفال والطفل لا يتوجه عليه التكليف فكيف يتوجه
على الذر. وأجيب بأن فائدة الأخذ غير منحصرة في الاستحقاق
المذكور بل يجوز أن تكون إظهار كمال القدرة لمن حضر من
الملائكة وإقامة الحجة يوم القيامة كما يقتضيه قول البعض
في الآية، وكونهم
إذ ذاك أدون حالا من الأطفال في حيز البطلان كما لا يخفى
على من هو أدون حالا من الأطفال، وقالوا رابعا: إنه سبحانه
وتعالى قال: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ
مِنْ طِينٍ [المؤمنون: 12] : وقال جل وعلا: فَلْيَنْظُرِ
الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ
[الطارق: 5، 6] وكون أولئك الذر أناسي ينافي كون الإنسان
مخلوقا مما ذكر.
وأجيب بأن الإنسان في هذه النشأة مخلوق من ذلك ولا يلزم
منه أن يكون في تلك النشأة كذلك على أن الله تعالى لا
يعجزه شيء، وبالجملة ينبغي للمؤمن أن يصدق بذلك الأخذ فقد
نطقت به الأخبار الصادرة من منبع الرسالة، ولا يلتفت إلى
قول من قال: إنها متروكة العمل لكونها من الآحاد فإن ذلك
يؤدي إلى سد باب كبير من الفتوحات الغيبية ويحرم قائله من
عظيم المنح الإلهية. وقد روى البيهقي في المدخل عن الشافعي
رضي الله تعالى عنه أنه قال:
الذين لقيناهم كلهم يثبتون خبر واحد عن واحد عن واحد عن
النبي صلّى الله عليه وسلّم ويجعلونه سنة حمد من تبعها
وعيب من خالفها، وقال:
من خالف هذا المذهب كان عندنا مفارقا لسبيل أصحاب رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم وأهل العلم بعدهم وكان من أهل
الجهالة،
وفي جامع الأصول عن رزين عن أبي رافع أن رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم قال: «لأعرفن الرجل منكم يأتيه الأمر من
أمري أنا أمرت به أو نهيت عنه وهو متكىء في أريكته فيقول:
ما ندري ما هذا عندنا كتاب الله تعالى وليس هذا فيه»
الحديث،
ولا ينبغي البحث عن كيفية ذلك فإنه من العلوم المسكوت عنها
المحتاجة إلى كشف الغطاء وفيض العطاء.
ومن ذلك ما
أخرجه الجندي في فضائل مكة وأبو الحسن القطان والحاكم
والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه عن أبي سعيد الخدري قال:
حججنا مع عمر رضي الله تعالى عنه فلما دخل الطواف استقبل
الحجر فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني
رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبلك ما قبلتك ثم
قبله فقال له علي كرم الله تعالى وجهه:
يا أمير المؤمنين إنه يضر وينفع قال: بم؟ قال: بكتاب الله
عزّ وجلّ قال: وأين ذلك من كتاب الله تعالى قال: قال الله
تعالى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ الآية إلى قوله سبحانه: بَلى
وذلك أن الله عزّ شأنه خلق آدم عليه السلام ومسح على ظهره
فأخرج ذريته فقررهم بأنه الرب وأنهم العبيد وأخذ عهودهم
ومواثيقهم وكتب ذلك في رق وكان لهذا الحجر عينان ولسان
فقال له: افتح فاك ففتح فاه فألقمه ذلك الرق فقال: اشهد
لمن وأفاك بالموافاة يوم القيامة وإني أشهد لسمعت رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يؤتى يوم القيامة بالحجر
الأسود وله لسان ذلق ليشهد لمن يستلمه بالتوحيد» فهو يا
أمير المؤمنين يضر وينفع. فقال عمر رضي الله تعالى عنه
أعوذ بالله تعالى أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن.
قيل: ومن هنا يعلم
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الحجر يمين الله تعالى في
أرضه»
والكلام في ذلك شهير، هذا ومن الناس من ذكر أن الناس بعد
أن قالوا: بلى منهم من سجد سجدتين ومنهم من لم يسجد أصلا
ومنهم من سجد مع الأولين السجدة الأولى ولم يسجد الثانية
ومنهم من عكس، فالصنف الأول هم الذين يعيشون مؤمنين
ويموتون كذلك، والثاني هم الذين يعيشون كفارا أو يموتون
كذلك. والثالث هم الذين يعيشون مؤمنين ويموتون كفارا
والرابع هم الذين يعيشون كفارا أو يموتون مؤمنين انتهى.
وهو كلام لم يشهد له كتاب ولا سنة فلا يعول عليه، ومثله
القول بأن بعضا من القائلين بلى قد مكر منهم إذ ذاك حيث
أظهر لهم إبليس في ذلك الجمع وظنوا أنه القائل: ألست
بربكم؟ فعنوه بالجواب
(5/101)
وأولئك هم الأشقياء، وبعضا تجلى لهم الرب
سبحانه فعرفوه وأجابوه وأولئك هم السعداء، وهذا عندي من
البطلان بمكان، والذي ينبغي اعتقاده أنهم كلهم وجهلوا
الجواب لرب الأرباب. نعم ذهب البعض إلى أن البعض أجاب كرها
واستدلوا له ببعض الآثار السالفة، وذهب أهل هذا القول إلى
أن أطفال المشركين في النار، ومن قال: إنهم في الجنة ذهب
إلى أنهم أقروا عند أخذ الميثاق اختيارا فيدخلون الجنة
بذلك الإقرار والله سبحانه أرحم الراحمين وإسناد القول في
الآية على بعض الأقوال إلى ضمير الجمع إنما هو باعتبار
وقوعه من البعض فإن وقوعه من الكل باطل بداهة، ومثل هذا
واقع في الآيات كثيرا وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي ذلك
التفصيل البليغ المستتبع للمنافع الجليلة نفصلها لا غير
ذلك.
وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عما هم عليه من الإصرار على
الباطل نفعل التفصيل المذكور، وقيل: المعنى ولعلهم يرجعون
إلى الميثاق الأول فيذكرونه ويعملون بمقتضاه نفعل ذلك،
وأيّا ما كان فالواو ابتدائية كالتي قبلها، وجوز أن تكون
عاطفة على مقدر أي ليقفوا على ما فيها من المرغبات
والزواجر، أو ليظهر الحق ولعلهم يرجعون، وقيل: إنها سيف
خطيب.
هذا ومن باب الإشارة قالوا: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ
أي عن أهل قرية الجسد وهم الروح والقلب والنفس الأمارة
وتوابعها الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ أي مشرفة على
شاطىء بحر البشرية إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ يتجاوزون
حدود الله تعالى يوم يحرم عليهم تناول بعض الملاذ
النفسانية والعادي من أولئك الأهل إنما هو النفس الأمارة
فإنها في مواسم الطاعات والكف عن الشهوات كشهر رمضان مثلا
حريصة على تناول ما نهيت عنه والمرء. حريص على ما منع إِذْ
تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ وهي الأمور التي نهوا عن تناولها
يَوْمَ سَبْتِهِمْ الذي أمروا بتعظيمه شرعا قريبة المأخذ
وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ بأن لا يتهيأ لهم
ما يريدونه كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ نعاملهم معاملة من يختبرهم
بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم المستمر طبعا.
قال بعضهم: ما كان ما قص الله تعالى إلا كحال الإسلاميين
من أهل زماننا في اجتماع أنواع الحظوظ النفسانية من
المطاعم والمشارب والملاهي والمناكح ظاهرة في الأسواق
والمحافل في الأيام المعظمة كالأعياد والأوقات المباركة
كأوقات زيارة مشاهد الصالحين المعلومة المشهورة بين الناس
وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ وهي القلب وأتباعه للأمة
الواعظة وهي الروح وأتباعها لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً وهم
النفس الأمارة وقواها اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ
مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً على فعلهم قالُوا
مَعْذِرَةً إلى ربكم أي نعظهم معذرة إليه تعالى وذلك أنا
خلقنا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر فنريد أن نقضي ما
علينا ليظهر أنا ما تغيرنا عن أوصافنا ولعلهم يتقون لأنهم
قابلون لذلك بحسب الفطرة فلا نيأس من تقواهم فَلَمَّا
نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ لغلبة الشقوة عليهم أَنْجَيْنَا
الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وهم الروح والقلب
وأتباعهما فإنهم كلهم نهوا عن ذلك إلا أن بعضهم مل وبعضهم
لم يمل وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ
أي شديد وهو عذاب حرمان قبول الفيض بِما كانُوا
يَفْسُقُونَ أي بسبب تماديهم على الخروج عن الطاعة
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ أي أبوا أن يتركوا
ذلك قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أي جعلنا
طباعهم كطباعهم وذلك فوق حرمان قبول الفيض وَإِذْ
تَأَذَّنَ رَبُّكَ أي اقسم لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى
يَوْمِ الْقِيامَةِ أي قيامتهم مَنْ يَسُومُهُمْ وهو
التجلي الجلالي سُوءَ الْعَذابِ وهو عذاب القهر وذل اتباع
الشهوات وَقَطَّعْناهُمْ أي فرقنا بني إسرائيل الروح فِي
الْأَرْضِ أي أرض البدن أُمَماً جماعات مِنْهُمُ
الصَّالِحُونَ أي الكاملون في الصلاح كالعقل وَمِنْهُمْ
دُونَ ذلِكَ فيه كالقلب ومن جعل القلب أكمل من العقل عكس
الأمر وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ
(5/102)
تجليات الجمال والجلال لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ بالفناء إلينا فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ
خَلْفٌ وهي النفس وقواها وَرِثُوا الْكِتابَ وهو ما ألهم
الله تعالى العقل والقلب يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا
الْأَدْنى وهي الشهوات الدنية واللذات الفانية ويجعلون ما
ورثوه ذريعة إلى أخذ ذلك وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا ولا
بد لأنا واصلون كاملون وهذا حال كثير من متصوفة زماننا
فانهم يتهافتون على الشهوات تهافت الفراش على النار
ويقولون: إن ذلك لا يضرنا لأنا واصلون.
وحكي عن بعضهم أنه يأكل الحرام الصرف ويقول: إن النفي
والإثبات يدفع ضرره وهو خطأ فاحش وضلال بيّن أعاذنا الله
تعالى وإياكم من ذلك. وأعظم منه اعتقاد حل أكل مثل الميتة
من غير عذر شرعي لأحدهم ويقول: كل منا بحر والبحر لا ينجس
ولا يدري هذا الضال أن من يعتقد ذلك أنجس من الكلب
والخنزير. ومنهم يحكي عن بعض الكاملين المكملين من أهل
الله تعالى ما يؤيد به دعواه وهو كذا لا أصل له وحاشا ذلك
الكامل مما نسب إليه حاشا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ
مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أي إنهم مصرون على هذا الفعل القبيح
أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ الوارد فيما
ألهمه الله تعالى العقل والقلب أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ فكيف عدلوا عنه وَدَرَسُوا ما
فِيهِ مما فيه رشادهم وَالدَّارُ الْآخِرَةُ المشتملة على
اللذات الروحانية خير للذين يتقون عرض هذا الأدنى
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ أي يتمسكون بما
ألهمه الله تعالى العقل والقلب من الحكم والمعارف
وَأَقامُوا الصَّلاةَ ولم يألوا جهدا في الطاعة إِنَّا لا
نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ منهم وأجرهم متفاوت حسب
تفاوت الصلاح حتى إنه ليصل إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت
ولا خطر على قلب بشر وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ
فَوْقَهُمْ وهو جبل الأمر الرباني والقهر الإلهي كَأَنَّهُ
ظُلَّةٌ غمامة عظيمة وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ إن
لم يقبلوا أحكام الله سبحانه خُذُوا ما آتَيْناكُمْ
بِقُوَّةٍ بجد وعزيمة وَاذْكُرُوا ما فِيهِ من الأسرار
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ تنتظمون في سلك المتقين على اختلاف
مراتب تقواهم.
والكلام على قوله سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ إلخ من
هذا الباب يغني عنه ما ذكرناه خلال تفسيره من كلام أهل
الله تعالى قدس الله تعالى أسرارهم خلا أنه ذكر بعضهم أن
أول ذرة أجابت ببلى ذرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وكذا
هي أول مجيب من الأرض لما خاطب الله سبحانه السموات والأرض
بقوله جل وعلا: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا
أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] وكانت من تربة الكعبة وهي
أول ما خلق من الأرض ومنها دحيت كما جاء عن ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما، وكان يقتضي ذلك أن يكون مدفنه صلّى الله
عليه وسلّم بمكة حيث كانت تربته الشريفة منها،
وقد رووا أن المرء يدفن حيث كانت تربته،
ولكن قيل: إن الماء لما تموج رمى الزبد إلى النواحي فوقعت
ذرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ما يحاذي مدفنه الكريم
بالمدينة، ويستفاد من هذا الكلام أنه عليه الصلاة والسلام
هو الأصل في التكوين والكائنات تبع له صلّى الله عليه
وسلّم قيل:
ولكون ذرته أم الخليقة سمي أميا، وذكر بعضهم أن الباء
لكونه أول حرف فتحت الذرة به فمها حين تكلمت لم تزل
الأطفال في هذه النشأة ينطقون به في أول أمرهم ولا بدع فكل
مولود يولد على الفطرة، قيل: ولعظم ما أودع الله سبحانه
وتعالى في الباء من الأسرار افتتح الله تعالى به كتابه بل
افتتح كل سورة به لتقدم البسملة المفتتحة به على كل سورة
ما عدا التوبة وافتتاحها ببراءة وأول هذه اللفظة الباء
أيضا، ولكون الهمزة وتسمى ألفا أول حرف قرع أسماعهم في ذلك
المشهد كان أول الحروف لكنه لم يظهر في البسملة لسر أشرنا
إليه أول الكتاب والله تعالى الهادي إلى صوب الصواب
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ عطف على المضمر العامل في إِذْ أَخَذَ
وارد على نمط الإنباء عن الحور بعد الكور، أي واقرأ على
اليهود أو على قومك كما في الخازن نَبَأَ الَّذِي
آتَيْناهُ آياتِنا أي خبره الذي له شأن وخطر، وهو كما روى
ابن مردويه وغيره من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
بلعم بن باعوراء وفي لفظ بلعام بن باعر وكان من
(5/103)
الكنعانيين، وفي رواية عنه. وعن أبي طلحة
أنه من بني إسرائيل، وأخرج ابن عساكر عن ابن شهاب أنه أمية
بن أبي الصلت.
وأخرج أبو الشيخ عن الحبر أنه رجل من بني إسرائيل له زوجة
تدعى البسوس، وفي رواية أخرى أخرجها ابن حاتم عنه أنه
النعمان بن صيفي الراهب، وكونه إسرائيليا أنسب بالمقام كما
لا يخفى، والأشهر أنه بلعام أو بلعم وكان قد أوتي علما
ببعض كتب الله تعالى، ودون ذلك في الشهرة أنه أمية وكان قد
قرأ بعض الكتب فَانْسَلَخَ مِنْها أي من تلك الآيات انسلاخ
الجلد من الشاة، والمراد أنه خرج منها بالكلية بأن كفر بها
ونبذها وراء ظهره، وحقيقة السلخ كشط الجلد وإزالته بالكلية
عن المسلوخ عنه، ويقال لكل شيء فارق شيئا على أتم وجه
انسلخ منه، وفي التعبير به ما لا يخفى من المبالغة،
واستأنس بعضهم بهذه الآية لأن العلم لا ينزع من الرجال حيث
قال سبحانه وتعالى: فَانْسَلَخَ مِنْها ولم يقل عز شأنه
فانسلخت منه فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ أي لحقه وأدركه كما
قال الراغب بعد أن لم يكن مدركا له لسبقه بالإيمان
والطاعة، وقال الجوهري يقال: أتبعت القوم إذا سبقوك
فلحقتهم وكأن المعنى جعلتهم تابعين لي بعد ما كنت تابعا
لهم، وفيه حينئذ مبالغة في اللحوق إذ جعل كأنه إمام
للشيطان والشيطان يتبعه وهو من الذم بمكان، ونظيره في ذلك
قوله:
وكان فتى من جند إبليس فارتقى ... به الحال حتى صار إبليس
من جنده
وصرح بعضهم بأن معناه استتبعه أي جعله تابعا له، وهو على
ما قيل متعد لمفعولين حذف ثانيهما أي أتبعه خطواته. وقرىء
«فاتبعه» من الافتعال فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ فصار من زمرة
الضالين الراسخين في الغواية بعد أن كان مهتديا، وكيفية
ذلك على القول بأنه بلعام أن موسى عليه السلام لما قصد حرب
الجبارين أتى قوم بلعام إليه وكان عنده اسم الله تعالى
الأعظم فقالوا له: إن موسى عليه والسلام رجل حديد وإن معه
جنودا كثيرة وإنه قد جاء ليخرجنا من أرضنا فادع الله تعالى
أن يرده عنا، فقال: ويلكم نبي الله تعالى ومعه الملائكة
والمؤمنون فكيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله تعالى ما
أعلم وإني إن فعلت ذهبت دنياي وآخرتي فألحوا عليه، فقال:
حتى أؤامر ربي فأتى في المنام وقيل له: لا تفعل فأخبر قومه
فأهدوا له هدية فقبلها ولم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه
فجعل يدعو موسى عليه الصلاة والسلام وقومه أن الله تعالى
جعل يصرف لسانه إلى الدعاء على قومه نفسه، فقالوا يا بلعام
أتدري ما تصنع إنك تدعو علينا، فقال: هذا أمر غلب الله
تعالى عليه فاندلع لسانه ووقع على صدره، فقال: يا قوم قد
ذهبت مني الدنيا والآخرة ولم يبق إلا المكر والحيلة جملوا
النساء وأرسلوهن وأمروهن أن لا يمنعن أنفسهن فإن القوم سفر
وإن الله سبحانه وتعالى يبغض الزنا وإن هم وقعوا فيه هلكوا
ففعلوا ذلك فافتتن زمرى بن شلوم رأس سبط شمعون ابن يعقون
بامرأة منهن تسمى كستى بنت صور فنهاه موسى عليه السلام عن
الفاحشة فأبى وأدخلها قبته وزنا بها فوقع فيهم الطاعون حتى
هلك منهم سبعون ألفا ولم يرتفع حتى قتلهما فنحاص بن
العيزار بن هارون وكان غائبا أول الأمر وعن مقاتل أن ملك
البلقاء قال له: ادع الله تعالى على موسى عليه السلام،
فقال: إنه من أهل ديني ولا أدعو عليه فنصب له خشبة ليصلبه
عليها فدعا بالاسم الأعظم أن لا يدخل الله تعالى موسى عليه
السلام المدينة فاستجيب له ووقع بنو إسرائيل في التيه،
فقال موسى: يا رب بأي ذنب هذا؟ فقال سبحانه وتعالى: بدعاء
بلعام، فقال: رب كما سمعت دعاؤه عليّ فاسمع دعائي عليه
فدعا الله جل شأنه أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان فنزع
الله تعالى عنه المعرفة وسلخه منها فخرجت من صدره كحمامة
بيضاء ورد هذا بأن التيه كان روحا وراحة لموسى عليه السلام
وإنما عذب به بنو إسرائيل وقد كان ذلك بدعائه عليه السلام،
على أن في الدعاء بسلب الإيمان مقالا، وأنا أعجب لم لم يدع
هذا الشقي بالاسم
(5/104)
الأعظم الذي كان يعلمه على ملك البلقاء
ليخلص من شره؟ ودعا على موسى عليه السلام ما هي إلا جهالة
سوداء، وجاء في كلام أبي المعتمر أنه كان قد أوتي النبوة،
ويرده أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز عليهم
الكفر عند أحد من العقلاء وكأن مراده من النبوة ما أوتيه
من الآيات، وذلك
كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من حفظ القرآن فقد طوى
النبوة بين جنبيه» .
وأخرج ابن المنذر عن مالك بن دينار أنه كان من علماء بني
إسرائيل وكان موسى عليه السلام يقدمه في الشدائد ويكرهه
وينعم عليه فبعثه إلى ملك مدين يدعوهم إلى الله تعالى وكان
مجاب الدعوة فترك دين موسى عليه السلام واتبع دين الملك،
وهذه الرواية عندي أولى مما تقدم بالقبول، وأما على القول
بأنه أمية
فهو أنه كان قد قرأ الكتب القديمة وعلم أن الله تعالى مرسل
رسولا فرجا أن يكون هو ذلك الرسول، فاتفق أن خرج إلى
البحرين وتنبأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأقام هناك
ثماني سنين ثم قدم فلقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في
جماعة من أصحابه فدعاه إلى الإسلام، وقرأ عليه سورة يس حتى
إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه فتبعته قريش تقول: ما
تقول يا أمية؟ فقال: أشهد أنه على الحق قالوا: فهل نتبعه؟
حتى أنظر في أمره فخرج إلى الشام وقدم بعد وقعة بدر يريد
أن يسلم فلما أخبر بها ترك الإسلام وقال: لو كان نبيا ما
قتل ذوي قرابته فذهب إلى الطائف ومات به فأتت أخته الفارعة
إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألها عن وفاته فذكرت
له أنه أنشد عند موته:
كل عيش وإن تطاول دهرا ... صائر مرة إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في قلال الجبال أرعى
الوعولا
إن يوم الحساب يوم عظيم ... شاب فيه الصغير يوما ثقيلا
ثم قال لها عليه الصلاة والسلام: أنشديني من شعر أخيك
فأنشدته:
لك الحمد والنعماء والفضل ربنا ... ولا شيء أعلى منك جدا
وأمجد
مليك على عرش السماء مهيمن ... لعزته تعنو الوجوه وتسجد
من قصيدة طويلة أتت على آخرها، ثم أنشدته قصيدته التي يقول
فيها:
وقف الناس للحساب جميعا ... فشقيّ معذب وسعيد
والتي فيها
عند ذي العرش يعرضون عليه ... يعلم الجهر والسرار الخفيا
يوم يأتي الرحمن وهو رحيم ... إنه كان وعده مأتيا
رب إن تعف فالمعافاة ظني ... أو تعاقب فلم تعاقب بريا
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن أخاك آمن شعره
وكفر قلبه، وأنزل الله تعالى الآية. وأما على القول بأنه
النعمان فهو أنه كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح فقدم
المدينة فقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ما هذا الذي جئت
به؟ فقال عليه الصلاة والسلام: الحنيفية دين إبراهيم عليه
السلام. قال: فأنا عليها. فقال عليه الصلاة والسلام: لست
عليها ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها. فقال: أمات الله
تعالى الكاذب منا طريدا وحيدا، ثم خرج إلى الشام وأرسل إلى
المنافقين أن استعدوا السلاح، ثم أتى قيصر وطلب منه جندا
ليخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من المدينة فمات بالشام
طريدا وحيدا.
وأما على القول بأنه زوج البسوس، فقد أخرج ابن أبي حاتم.
وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه رجل أعطي
ثلاث دعوات مستجابات، وكانت له امرأة تدعى البسوس له منها
ولد فقالت: اجعل لي منها واحدة. قال:
(5/105)
فما الذي تريدين؟ قالت ادع الله تعالى أن
يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا الله تعالى فجعلها
أجمل امرأة فيهم، فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه
وأرادت شيئا آخر فدعا الله تعالى أن يجعلها كلبة فصارت
كلبة فذهبت دعوتان، فجاء بنوها فقالوا: ليس بنا على هذا
قرار قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها فادع الله أن
يردها إلى الحال التي كانت عليها فدعا فعادت كما كانت
فذهبت الدعوات الثلاث فيها، ومن هنا يقال: أشأم من البسوس
اسم لذلك الرجل، وليس بشيء، وهذه الرواية لا يساعد عليها
نظام القرآن الكريم كما لا يخفى، والذي نعرفه أن البسوس
التي يضرب بها المثل هي بنت منقذ التميمية خالة جساس بن
مرة بن ذهل الشيباني قاتل كليب، وفي قصتها طول وقد ذكرها
الميداني وغيره.
وعن الحسن وابن كيسان أن المراد بهذا الذي أوتي الآيات
فانسلخ منها منافقو أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي
صلّى الله عليه وسلّم كما يعرفون أبناءهم ولم يؤمنوا به
صلّى الله عليه وسلّم إيمانا صحيحا، ويبعد ذلك إفراد
الموصول وعن قتادة أن هذا مثل لمن عرض عليه الهدى واستعد
له فأعرض عنه وأبى أن يقبله، وفيه مخالفات للروايات
المشهورة، وأوهن الأقوال عندي قول أبي مسلم: إن المراد به
فرعون والمراد بالآيات الحجج والمعجزات الدالة على صدق
موسى عليه السلام، وكأنه قيل: واتل عليهم نبأ فرعون إذ
آتيناه الحجج الدالة على صدق موسى عليه السلام فلم يقبلها
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها كلام مستأنف مسوق لبيان
ما ذكر من الانسلاخ وما يتبعه، وضمير لَرَفَعْناهُ للذي
وضمير بِها للآيات، والباء سببيه، ومفعول المشيئة محذوف هو
مضمون الجزاء كما هو القاعدة المستمرة، أي لو شئنا رفعه
لرفعناه إلى منازل الأبرار بسبب تلك الآيات والعمل بما
فيها، وقيل: الضمير المنصوب للكفر المفهوم من الكلام
السابق، أي لو شئنا لأزلنا الكفر بالآيات، فالرفع من
قولهم: رفع الظلم عنا وهو خلاف الظاهر جدا وإن روي عن
مجاهد، ومثله بل أبعد وأبعد ما نقل عن البلخي. والزجاج من
إرجاع ضمير بها للمعصية. وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى
الْأَرْضِ أي ركن إلى الدنيا ومال إليها، وبذلك فسره السدي
وابن جبير وأصل الإخلاد اللزوم للمكان من الخلود، ولما في
ذلك من الميل فسر به، وتفسير الأرض بالدنيا لأنها حاوية
لملاذها وما يطلب منها.
وقال الراغب: المعنى ركن إلى الأرض ظانا أنه مخلد فيها،
وفسر غير واحد الأرض بالسفالة وَاتَّبَعَ هَواهُ في إيثار
الدنيا وأعرض عن مقتضى تلك الآيات الجليلة، وفي تعليق
الرفع بالمشيئة ثم الاستدراك عنه بفعل العبد تنبيه كما قال
ناصر الدين: على أن المشيئة سبب لفعله المؤدي إلى رفعه وأن
عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه، وأن
السبب الحقيقي هو المشيئة، وأن ما نشاهده من الأسباب وسائط
معتبرة في حصول المسبب من حيث إن المشيئة تعلقت به كذلك،
وكان من حقه كما قال أن يقول: ولكنه أعرض عنها، فأوقع
موقعه ما ذكر مبالغة لأنه كناية أبلغ من التصريح، وتنبيها
على ما حمله عليه وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وما ألطف
نسبة إتيان الآيات والرفع إليه تعالى ونسبة الانسلاخ
والإخلاد إلى العبد مع أن الكل من الله تعالى إذ فيه من
تعليم العباد حسن الأدب ما فيه، ومن هنا
قال صلّى الله عليه وسلّم: اللهم إن الخير بيديك والشر ليس
إليك.
والزمخشري لما رأى أن ظاهر الآية مخالف لمذهبه دال على
وقوع الكائنات بمشيئة الله تعالى إلى التأويل، فجعل
المشيئة مجازا عن سببها وهو لزوم العمل بالآيات بقرينة
الاستدراك بما هو فعل العبد المقابل للزوم الآيات وهو
الإخلاد إلى الأرض، أي ولو لزمها لرفعناه وهو من قبيل نزع
الخف قبل الوصول إلى الماء والمصير إلى المجاز قبل أوانه
لجواز أن يكون لَوْ شِئْنا باقيا على حقيقته وأَخْلَدَ
إِلَى الْأَرْضِ مجازا عن سببه الذي هو عدم مشيئة الرفع بل
الإخلاد، ولم يعتمد على عكازته لفوت المقابلة حينئذ، وفي
الكشف أن حمل المشيئة على ما هي مسببة عنه في زعمه ليس
أولى من حمل الإخلاد على ما هو مسبب عنه
(5/106)
في زعمنا كيف وقوله سبحانه وتعالى: وَلَوْ
شِئْنا استدراك لقوله: فَانْسَلَخَ مِنْها على أن الإخلاد
هو الميل، والإرادة والميل ونحوهما من المعاني ليست من
أفعال العباد بالاتفاق نعم الجزم المقارن من فعل القلب فعل
القلب عندهم، ثم قوله سبحانه وتعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ
وقوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا يؤكدان ما عليه أهل السنة
أبلغ تأكيد ولكن الزمخشري لا يعبأ بذلك (1) فَمَثَلُهُ
كَمَثَلِ الْكَلْبِ وهو الحيوان المعروف وجمعه أكلب وكلاب
وكلابات كما قال ابن سيده وكليب كعبيد وهو قليل ويجمع أكلب
على أكالب، وبه يضرب المثل في الخساسة لأنه يأكل العذرة
ويرجع في قيئة والجيفة أحب إليه من اللحم الغريض (2) نعم
وهو أحسن من الرجل السوء، ومما ينسب إلى الشافعي رضي الله
تعالى عنه:
ليت الكلاب لنا كانت مجاورة ... وليتنا ما نرى ممن نرى
أحدا
إن الكلاب لتهدا في مرابضها ... والناس ليس بهاد شرهم أبدا
وفي شعب الإيمان للبيهقي عن الفقيه منصور أنه كان ينشد
لنفسه:
الكلب أحسن عشرة ... وهو النهاية في الخساسة
ممن ينازع في الريا ... سة قبل أوقات الرياسة
والمثل بمعنى الصفة كما قال غير واحد فصفته كصفة الكلب،
وقيل المراد أنه كالكلب في الخسة إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ
أي شددت عليه وطردته يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ على حاله
يَلْهَثْ أي إنه دائم اللهث على كل حال، واللهث إدلاع
اللسان بالنفس الشديد وذلك طبع في الكلب لا يقدر على نغص
الهواء المتسخن وجلب الهواء البارد بسهولة لضعف قلبه
وانقطاع فؤاده بخلاف سائر الحيوانات فإنها لا تحتاج إلى
النفس الشديد ولا يلحقها الكرب والمضايقة إلا عند التعب
والإعياء، وإيثار الجملة الاسمية على الفعلية بأن يقال:
فصار مثله كمثل إلخ للإيذان بدوام اتصافه بتلك الحالة
الخسيسة وكمال استمراره عليها، والخطاب في فعلي الشرط لكل
أحد ممن له حظ من الخطاب فإنه أدخل في إشاعة فظاعة حاله،
والجملتان الشرطيتان قيل لا محل لهما من الإعراب لأنهما
تفصيل لما أجمل في المثال وتفسير لما أبهم فيه بيان وجه
الشبه على منهاج قوله تعالى: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ
قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] أثر قوله سبحانه
وتعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ
[آل عمران: 59] وقيل: إنهما في محل النصب على الحالية من
الكلب بناء على تحولهما إلى معنى التسوية كما تحول
الاستفهام إلى ذلك في قوله تعالى:
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ [البقرة: 6] كأنه قيل لاهثا في الحالين،
والجملة الشرطية كما قدمنا تقع حالا مطلقا، وقال صاحب
الضوء: إنها لا تكاد تقع كذلك بتمامها بل إذا أريد وقوعها
حالا جعلت خبرا عن ذي الحال نحو جاءني زيد وهو إن تسأله
يعطك فتجعل جملة اسمية مع الواو لأن الشرط لصدارته لا يكاد
يرتبط بما قبله إلا أن يكون هناك فضل قوة. نعم يجوز إذا
أخرجتها عن حقيقتها سواء عطف عليها النقيض وحينئذ يجب ترك
الواو كما فيما نحن فيه أو لم يعطف وحينئذ يجب الواو لئلا
يحصل الالتباس بالشرط الحقيقي نحو آتيك وإن لم تأتني،
والتشبيه قيل من تشبيه المفرد بالمفرد، وقيل وعليه كثير من
المحققين إنه تشبيه للهيئة المنتزعة مما عراه بعد الانسلاخ
من سوء الحال واضطرام القلب ودوام القلق والاضطراب وعدم
الاستراحة بحال من الأحوال بالهيئة المنتزعة مما ذكر في
__________
(1) لطافته لا تخفى على إنسان اهـ منه
(2) هو بالغين المعجمة مالان من اللحم أي الطري
(5/107)
حال الكلب، وجاء وقد أشرنا إليه سابقا أن
بلعام لما دعا موسى عليه السلام خرج لسانه فتدلى على صدره
وجعل يلهث كالكلب إلى أن هلك فوجه الشبه إما عقلي أو حسي
ذلِكَ إشارة إلى وصف الكلب أو المنسلخ من الآيات وما فيه
من الإيذان بالبعد لما مر غير مرة.
مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يريد كما
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أهل مكة كانوا
يتمنون هاديا يهديهم وداعيا يدعوهم إلى طاعة الله تعالى ثم
لما جاءهم من لا يشكون في صدقه وأمانته كذبوه وأعرضوا عن
الآيات ولم يؤمنوا بها أو اليهود كما قال غير واحد حيث
قرؤوا نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم في التوراة وذكر
القرآن المعجز وما فيه فصدقوه وبشروا الناس باقتراب مبعثه
وكانوا يستفتحون به فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فانسلخوا
من حكم التوراة أو الأعم من هؤلاء وهؤلاء من كل من اتصف
بهذا العنوان كما في الخازن وبه أقول، ويدخل اليهود، في
ذلك أوليا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ القصص مصدر سمي به المفعول
كالسلب، واللام فيه للعهد، والفاء لترتيب ما بعدها على ما
قبلها أي إذا تحقق أن المثل المذكور مثل هؤلاء المكذبين
فاقصص ذلك عليهم لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فينزجرون عما
هم عليه من الكفر والضلال، والجملة في موضع الحال من ضمير
المخاطب أو في موضع المفعول له أي فاقصص راجيا لتفكرهم أو
رجاء لتفكرهم ساءَ مَثَلًا استئناف مسوق لبيان كمال قبح
المكذبين بعد البيان السابق، وساء بمعنى بئس وفاعلها مضمر
ومثلا تمييز مفسر له، ويستغنى بتذكير التمييز وجمعه
وغيرهما عن فعل ذلك بالضمير، وأصلها التعدي لواحد،
والمخصوص بالذم قوله سبحانه وتعالى: الْقَوْمُ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا وحيث وجب صدق الفاعل والتمييز
والمخصوص على شيء واحد والمثل مغاير للقوم لزم تقدير محذوف
من المخصوص وهو الظاهر أو التمييز أي ساء مثلا مثل القوم
أو ساء أهل مثل القوم.
وفي الحواشي الشهابية أنه قرىء بإضافة «مثل» بفتحتين و
«مثل» بكسر فسكون للقوم ورفعه فساء للتعجب وتقديرها على
فعل بالضم كقضو الرجل و «مثل القوم» فاعل أي ما أسوأهم،
والموصول في محل جر صفة للقوم أو هي بمعنى بئس «ومثل» فاعل
والموصول هو المخصوص في محل رفع بتقدير مضاف أي مثل الذين
إلخ.
وقدر أبو حيان في هذه القراءة تمييزا، ورده السمين بأنه لا
يحتاج إلى التمييز إذا كان الفاعل ظاهرا حتى جعلوا الجمع
بينهما ضرورة، وفيه ثلاثة مذاهب المنع مطلقا والجواز كذلك
والتفصيل فإن كان مغايرا جاز نحو نعم الرجل شجاعا زيد وإلا
امتنع، وبعضهم يجعل المخصوص محذوفا وفي كونه ما هو خلاف
وإعادة القوم موصوفا بالموصول مع كفاية الضمير بأن يقال
ساء مثلا مثلهم للإيذان بأن مدار السوء ما في حيز الصلة
وليربط قوله سبحانه وتعالى:
وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ به فإنه إما معطوف على
كذبوا داخل معه في حكم الصلة بمعنى جمعوا بين أمرين قبيحين
التكذيب وظلمهم أنفسهم خاصة أو منقطع عنه بمعنى وما ظلموا
إلا أنفسهم فإن وبالها لا يتخطاها، وأيا ما كان ففي ذلك
لمح إلى أن تكذيبهم بالآيات متضمن للظلم بها وأن ذلك أيضا
معتبر في القصر المستفاد من التقديم، وصرح الطيبي والقطب
وغيرهما أن الجملة على تقدير الانقطاع تذييل وتأكيد للجملة
التي قبلها، ويشعر كلام بعضهم أن تقديم المفعول على الوجه
الأول لرعاية الفاصلة وعلى الوجه الثاني للإشارة إلى
التخصيص وأن سبب ظلمهم أنفسهم هو التكذيب، وفيه خفاء كما
لا يخفى، هذا ثم إن هذه الآيات مما ترمي علماء السوء
بثالثة الأثافي، وقد ذكر مولانا الطيبي طيب الله ثراه أن
من تفكر في هذا المثل وسائر الأمثال المضروبة في التنزيل
في حق المشركين والأصنام من بيت العنكبوت والذباب تحقق له
أن علماء السوء أسوأ وأقبح من ذلك فما أنعاه من مثل عليهم
وما هم فيه من التهالك في الدنيا مالها وجاهها والركون إلى
لذاتها وشهواتها من متابعة النفس الأمارة وإرخاء زمامها في
مرامها عافانا الله تعالى والمسلمين من ذلك.
(5/108)
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ
كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا
يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ
بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ
كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ
الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى
فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي
أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ
يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ
إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي
مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ
مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ
أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ
فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا
عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ
ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ
إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا
قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا
أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ
اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ
مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا
إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
ونقل عن مولانا شيخ الإسلام شهاب الدين
السهروردي أنه كتب إلى الإمام فخر الدين الرازي تغمدهما
الله تعالى برضوانه من تعين في الزمان لنشر العلم عظمت
نعمة الله تعالى عليه فينبغي للمتيقظين الحذاق من أرباب
الديانات أن يمدوه بالدعاء الصالح ليصفي الله تعالى مورد
علمه بحقائق التقوى ومصدره من شوائب الهوى إذ قطرة من
الهوى تكدر بحرا من العلم ونوازع الهوى المركوز في النفوس
المستصحبة إياه من محتدها من العالم السفلي إذا شابت العلم
حطته من أوجه وإذا صفت مصادر العلم وموارده من الهوى أمدته
كلمات الله تعالى التي ينفد البحر دون نفادها ويبقى العلم
على كمال قوته، وهذه رتبة الراسخين في العلم لا المترسمين
به وهم ورثة الأنبياء عليهم السلام كر عملهم على علمهم
وتناوب العلم والعمل فيهم حتى صفت أعمالهم ولطفت وصارت
مسامرات سرية ومحاورات روحية وتشكلت الأعمال بالعلوم لمكان
لطافتها وتشكلت العلوم بالأعمال لقوة فعلها وسرايتها إلى
الاستعدادات، وفي اتباع الهوى إخلاد إلى الأرض قال تعالى:
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ
إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فتطهير نور الفكرة عن
رذائل التخيلات والارتهان بالموهومات التي أورثت العقول
الصغار والمداهنة للنفوس القاصرة هو من شأن البالغين من
الرجال فتصحب نفوسهم الطاهرة الملأ الأعلى فتسرح في ميادين
القدس، فالنزاهة من محنة حطام الدنيا والفرار من استحلاء
نظر الخلق وعقائدهم فتلك مصارع الأدوان، وطالب الرفيق
الأعلى مكلم محدث، والتعريفات الإلهية واردة عليه لمكان
علمه بصورة الابتلاء واستئصاله شأفة الابتلاء بصدق
الالتجاء وكثرة ولوجه في حريم القرب الإلهي وانغماسه مع
الأنفاس في بحار عين اليقين وغسله نفث دلائل البرهان بنور
العيان فالبرهان للأفكار لا للأسرار إلى آخر ما قال، ويا
لها من موعظة حكيم ونصيحة حميم نسأل الله تعالى أن يهدينا
لما أشارت إليه.
(5/109)
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي
وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ تذييل
وتأكيد لما تضمنته القصة السابقة على ما يشير إليه كلام
بعضهم. وقال آخر: إنه تعالى لما أمر نبيه صلّى الله عليه
وسلّم بأن يقص على أولئك الضالين قصص أخيهم ليتفكروا
ويتركوا ما هم عليه عقب ذلك بتحقيق أن الهداية والضلالة من
جهته سبحانه وتعالى وإنما العظة والتذكير من قبيل الوسائط
العادية في حصول الاهتداء لكونها دواعي إلى صرف المكلف
اختياره نحو تحصيله حسبما نيط به خلق الله تعالى إياه،
والمراد بهذه الهداية ما يوجب الاهتداء قطعا لا لأن
حقيقتها الدلالة الموصلة إلى البغية كما يوهمه كلام بعض
الأصحاب بل لأنها الفرد الكامل من حقيقة الهداية التي هي
الدلالة إلى ما يوصل لإسنادها إلى الله تعالى وتفريع
الاهتداء عليها ومقابلتها بالضلال وما معه ولا يخفى أن
الهداية بهذا المعنى يلزمها الاهتداء فيكون الإخبار
باهتداء من هداه الله تعالى على ما قيل على حد الأخبار في-
شعري شعري- وهو يفيد تعظيم شأن الاهتداء وأنه في نفسه كمال
جسيم ونفع عظيم وأنه كاف في نيل كل شرف في الأولى والعقبى.
واختار بعض المحققين أنه ليس المقصود مجرد الإخبار بما ذكر
ليتوهم عدم الإفادة بحسب الظاهر ويصار إلى توجيهه بذلك بل
هو قصر الاهتداء على من هداه الله تعالى حسبما يقضي به
تعريف الخبر، فالمعنى من يخلق فيه الاهتداء فهو المهتدي لا
غير كائنا من كان ولا يخلو عن حسن إلا أنه قد يقال: إن
الأول أوفق بالمقابل، وإفراد المهتدي رعاية للفظ «من» ،
وجمع الخاسرين رعاية لمعناها للإيذان بأن الحق واحد وطرق
الضلال متشعبة، وفي الآية تصريح بأن الهدى والضلال من الله
تعالى فسبحان من أضل المعتزلة وَلَقَدْ ذَرَأْنا كلام
مستأنف مقرر لمضمون ما قبله بطريق التذييل، والذرأ بالهمزة
الخلق وبذلك فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره أي
والله تعالى لقد خلقنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ وهم المصرون على الكفر في علمه سبحانه وتعالى،
واللام للعاقبة عند الكثير كما في قوله تعالى: رَبَّنا
إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً
وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا
عَنْ سَبِيلِكَ [يونس: 88] وقول الشاعر:
له الملك ينادي كل يوم ... لدوا للموت وابنوا للخراب
وفي الكشاف أنهم جعلوا لإغراقهم في الكفر وشدة شكائمهم فيه
وأنه لا يتأتى منهم إلا أفعال أهل النار مخلوقين للنار
دلالة على توغلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم
لدخولها، وأشار إلى أن ذلك تذييل لقصة اليهود بعد ما عد من
قبائحهم تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنه قيل:
من الذين لا ينجع فيهم الإنذار فدعهم واشتغل بأمر نفسك ومن
هو على دينك في لزوم التوحيد، والآية على ما قال من باب
الكناية الإيمائية عند القطب قدس سره ويفهم كلامه أن الذي
دعا الزمخشري إلى ذلك لزوم كون الكفر مراد الله تعالى إذا
أريد الظاهر وهو خلاف مذهبه، وأنت تعلم أن الكثير من أهل
السنة تأولوا الآية بحمل اللام على ما عملت لقوله تعالى:
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
[الذاريات: 56] فإن تعليل الخلق بالعباد يأبى تعليله بجهنم
ودخولها، نعم ذهب ابن عطية منا إلى الحمل على الظاهر وكون
اللام للتعليل، وادعى أناس أن التأويل مخالف للأحاديث
الواردة في الباب كبعض الأحاديث السابقة في آية أخذ
الميثاق، وما
أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن قتادة قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله تعالى
خلق آدم عليه السلام ثم أخذ الخلق من ظهره فقال هؤلاء في
الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي قال قائل: فعلى
ماذا العمل؟ قال: على موافقة القدر»
وما
أخرجه محيي السنة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى
عنها قالت: أدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم جنازة صبي من
صبيان الأنصار فقلت: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
طوبى له عصفور من عصافير الجنة
(5/110)
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وما
يدريك إن الله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب
آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم»
إلى غير ذلك.
وإلى هذا ذهب الطيبي وأيده بما أيده وادعى أن فائدة القسم
التنبيه على قلع شبه من عسى أن يتصدى لتأويل الآية وتحريف
النص القاطع، ونقل عن الإمام أن الآية حجة لصحة مذهب أهل
السنة في مسألة خلق الأعمال وإرادة الكائنات لأنه سبحانه
وتعالى صرح بأنه جل وعلا خلق كثيرا من الجن والإنس لجهنم
ولا مزيد لبيان الله تعالى، ولا يخفى أن الحمل على الظاهر
مخالف لظاهر الآية التي ذكرناها، وفي الكتاب الكريم كثير
مما يوافقها على أن التعليل الحقيقي لأفعاله تعالى يمنع
عنه في المشهور الإمام الأشعري وأصحابه.
وقال بعض الجلة: المراد بالكثير الذين حقت عليهم الكلمة
الأزلية بالشقاوة ولكن لا بطريق الجبر من غير أن يكون من
قبلهم ما يؤدي إلى ذلك بل لعله سبحانه وتعالى: بأنهم لا
يصرفون اختيارهم نحو الحق أبدا بل يصرون على الباطل من غير
صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم من الآيات والنذر، فبهذا
الاعتبار جعل خلقهم مغيا بجهنم كما أن جمع الفريقين
باعتبار استعدادهم الكامل الفطري للعبادة وتمكنهم التام
منها جعل خلقهم مغيا بها كما نطق به قوله سبحانه وتعالى:
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
[الذاريات: 56] انتهى، وعندي أنه لا محيص من التأويل في
هذا المقام فتدبر ولا تغفل، ثم إن الجار الأول متعلق بما
عنده وتقديمه على المفعول الصريح لما في توابعه من نوع طول
يؤدي توسيطه بما بينهما وتأخيره عنهما إلى الإخلال بجزالة
النظم الجليل، والجار الثاني متعلق بمحذوف وقع صفة لكثير،
وتقديم الجن لأنهم أعرف من الإنس في الاتصاف بما ذكر من
الصفات وأكثر عددا وأقدم خلقا ولا يشكل أنهم خلقوا من
النار فلا يشق عليهم دخولها ولا يضرهم شيئا لأنا نقول في
دفع ذلك على علاته خلقهم من النار بمعنى أن الغالب عليهم
الجزء الناري لا يأبى تضررهم بها فإن الإنس خلقوا من الطين
ويتضررون به، ويوضح ذلك أن حقيقة النار لم تبق فيهم على ما
هي عليه قبل خلقهم منها كما أن حقيقة الطين لم تبق في
الإنس على ما هي عليه قبل خلقهم منها على أن المخلوق من
نار هو البدن والمعذب هو الروح وليست مخلوقة منها وعذاب
الروح في قالب ناري معقول كعذابها في قالب طيني، وقوله
تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ في محل النصب على أنه صفة أخرى
لكثير، وقوله سبحانه وتعالى: لا يَفْقَهُونَ بِها في محل
الرفع على أنه صفة لقلوب مبينة لكونها غير معهودة مخالفة
لسائر أفراد الجنس فاقدة لما ينبغي أن يكون أو هي مؤكدة
لما يفيده تنكيرها وإبهامها من كونها كذلك، وأريد بالقلب
اللطيفة الإنسانية، وبالفقه الفهم وهو المعنى اللغوي له،
يقال: فقه بالكسر أي فهم وفقه بالضم إذا صار فقيها أي فهما
أو عالما بالفقه بالمعنى العرفي المبين في كتب الأصول،
والفعل هنا متعد إلا أنه حذف مفعوله للتعميم أي لهم قلوب
ليس من شأنها أن يفهموا بها شيئا مما شأنه أن يفهم فيدخل
فيه ما يليق بالمقام من الحق ودلائله دخولا أوليا، وكذا
الكلام في قوله جل وعلا: وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ
بِها فيقال: المراد لا يبصرون بها شيئا من المبصرات فيندرج
فيه الشواهد التكوينية الدالة على الحق اندراجا أوليا،
وكذا يقال في قوله تبارك وتعالى: وَلَهُمْ آذانٌ لا
يَسْمَعُونَ بِها حيث يراد لا يسمعون بها شيئا من
المسموعات فيتناول الآيات التنزيلية على طرز ما سلف، وأمر
الوصيفة في الأخيرين مثله في الأول، والمراد بالإبصار
والسماع المنفيين ما يختص بالعقلاء من الإدراك على ما هو
وظيفة الثقلين لا ما يتناول مجرد الإحساس بالشبح والصوت
كما هو وظيفة الأنعام، وجاء في كلامهم نحو فلان لا يسمع
الخنا أي لا يعتني به ولا يصرف سمعه إليه ولا يقبله، ومن
ذلك قول الشاعر:
وعوراء الكلام صممت عنها ... وإني لو أشاء لها سميع
(5/111)
وفي إعادة الخبر في الجملتين المعطوفتين مع
انتظام الكلام بدون ذلك بأن يقال: وأعين لا يبصرون بها
وآذان لا يسمعون بها ما لا يخفى من تقرير سوء حالهم، وكذا
في إثبات المشاعر الثلاثة لهم ثم وصف كل بما وصف به دون
سلبها عنهم ابتداء بأن يقال: ليس لهم في قلوب يفقهون بها
ولا أعين يبصرون بها ولا آذان يسمعون بها ما لا يخفى على
ما قيل من الشهادة بكمال رسوخهم في الجهل والغواية، وتفسير
الآية على هذا الوجه واعتبار حذف المفعول لما ذكرنا من
الأفعال الثلاثة هو الذي اختاره بعض المحققين لما فيه من
الإفصاح بكنه حالهم على ما أشار إليه، واختار بعضهم
التخصيص أي لا يفقهون الحق ودلائله ولا يبصرون ما خلق الله
تعالى إبصار اعتبار ولا يسمعون الآيات والمواعظ سماع تأمل
وتفكر، وأيّا ما كان فالمراد أنهم لم يصرفوا ما خلق لهم
لما له فكأنهم خلقوا كذلك، ولو أريدت الحقيقة لم يتوجه
الذم ولم تقم الحجة، ومن ادعاها قال: إن ذلك بسبب إفاضة
الحكيم حسب الاستعداد الأزلي الغير المجعول فالذم بذلك
لدلالته على سوء الاستعداد لأنه كالأثر له، وبالجملة لا
تقوم الآية دليلا للجبر الصرف ولو ضم إليها ما قبل، والجبر
المتوسط مما قال به أهل الحق وهو لبن خالص أخرج من بين فرث
ودم، وحاصله عند بعض المشايخ أن العبد مختار مجبور
باختياره، ولعل كلام حجة الإسلام الغزالي حيث قال من كلام
طويل: فان قلت: إني أجد في نفسي أني إن شئت الفعل فعلت وإن
شئت الترك تركت فيكون فعلي حاصلا بي لا بغيري، أجبنا
وقلنا: هب أنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول: وهل تجد من
نفسك أنك إن شئت أن تشاء شئت وإن شئت أن لا تشأ لم تشأ؟ ما
أظنك تقول ذلك وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا نهاية له فلا
مشيئتك بك ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك بك وإنما أنت
مضطر في صورة مختار انتهى. يرجع إلى ما ذكرنا، وقد
استوفينا الكلام في هذا البحث في كتابنا الأجوبة العراقية
عن الأسئلة الإيرانية وهو لعمري من مشكلات المباحث التي
سأل عنها الإيرانيون.
أُولئِكَ أي الموصوفون بالأوصاف المذكورة كَالْأَنْعامِ أي
في انتفاء الشعور على الوجه المذكور، وقيل في أن مشاعرهم
متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها وكأن وجه الشبه مدرك
مما قبل فتكون الجملة كالتأكيد له فلذا فصلت عنه بَلْ هُمْ
أَضَلُّ من الأنعام لأنها تدرك ما من شأنها أن تدركه من
المنافع والمضار فتجهد في جلبها وسلبها غاية ما يمكنها
وهؤلاء ليسوا كذلك حيث لم يميزوا بين المنافع والمضار بل
يعكسون الأمر فيتركون النعيم ويقدمون على العذاب الأليم،
وقيل: لأنها إذا زجزت انزجرت وإذا أرشدت إلى طريق اهتدت
وهؤلاء لا يهتدون إلى شيء من الخيرات. وقيل: لأنها لم تعط
قدرة على تحصيل الفضائل وهؤلاء أعطوا ولم ينتفعوا بما
أعطوا، ولأنها وإن لم تكن مطيعة لم تكن عاصية وهؤلاء لا
يعرفون ربهم ولا يذكرونه ولا يطيعونه، وبالجملة كون هؤلاء
أضل مما لا شك فيه ووجوه ذلك كثيرة ولا تنافي بين الخبرين
كما لا يخفى.
أُولئِكَ أي المنعوتون بما ذكر من مثلية الأنعام والشرية
منها هُمُ الْغافِلُونَ أي الكاملون في الغفلة عما فيه
صلاحهم. وقال عطاء: عما أعد الله تعالى لأوليائه من الثواب
ولأعدائه من العقاب، وجعل بعضهم هذه الجملة كالبيان للجملة
قبلها فلذا فصلت عنها وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى
قيل: تنبيه للمؤمنين على كيفية ذكره تعالى وكيفية المعاملة
مع المخلين بذلك الغافلين عنه سبحانه وتعالى وعما يليق
بشأنه عز شأنه أثر بيان غفلتهم التامة وضلالتهم التامة،
وسيأتي إن شاء الله تعالى وجه آخر لذكر ذلك.
والمراد بالأسماء كما قال حجة الإسلام الغزالي وغيره
الألفاظ المصوغة الدالة على المعاني المختلفة، والحسنى
تأنيث الأحسن أفعل تفضيل، ومعنى ذلك أنها أحسن الأسماء
وأجلها لإنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها:
(5/112)
وقيل: المراد بالأسماء الصفات ويكون من
قولهم طار اسمه في البلاد أي صيته ونعته، والجمهور على
الأول لقوله عزّ اسمه: فَادْعُوهُ بِها لأنه اما من الدعوة
بمعنى التسمية كقولهم: دعوته زيدا أو بزيد أي سميته أو من
الدعاء بمعنى النداء كقولهم: دعوت زيدا أي ناديته، وعلى
التقديرين إنما يلائم ظاهر المعنى الأول على ما قيل.
وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ أي يميلون
وينحرفون فيها عن الحق إلى الباطل يقال: ألحد إذا مال عن
القصد والاستقامة، ومنه لحد القبر لكونه في جانبه بخلاف
الضريح فإنه في وسطه، وقرأ حمزة هنا وفي [فصلت:
40] «يلحدون» بالفتح من الثلاثي والمعنى واحد، وروى أبو
عبيدة عن الأحمر أن ألحد بمعنى مارى وجادل، ولحد بمعنى مال
وانحرف، واختار الواحدي قراءة الجمهور قال: ولا يكاد يسمع
لأحد بمعنى ملحد، والإلحاد في أسمائه سبحانه أن يسمى بما
لا توقيف فيه أو بما يوهم معنى فاسدا كما في قول أهل البدو
يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه يا سخي ونحو ذلك، فالمراد
بالترك المأمور به الاجتناب عن ذلك، وبأسمائه ما أطلقوه
عليه تعالى وسموه به على زعمهم لا أسماؤه تعالى حقيقة،
وعلى ذلك يحمل ترك الإضمار بأن يقال: يلحدون بها، وما قيل:
إنه أريد بالأسماء التسميات فلذا ترك الإضمار ليس بشيء،
ومن فسر الإلحاد في الأسماء بما ذكر ذهب إلى أن أسماء الله
تعالى توقيفية يراعى فيها الكتاب والسنة والإجماع فكل اسم
ورد في هذه الأصول جاز إطلاقه عليه جل شأنه وما لم يرد
فيها لا يجوز إطلاقه وإن صح معناه، وبهذا صرح أبو القاسم
القشيري في مفاتيح الحجج ومصابيح النهج، وفي أبكار الأفكار
للآمدي ليس مأخذ جواز تسميات الأسماء الحسنى دليلا عقليا
ولا قياسا لفظيا وإلا لكان تسمية الرب تعالى فقيها عاقلا
مع صحة معاني هذه التسميات في حقه وهي العلم والفقه أولى
من تسميته سبحانه وتعالى بكثير مما يشكل ظاهره بل مأخذ ذلك
إنما هو الإطلاق والإذن من الشارع فكل ما ورد الإذن به منه
جوزناه وما ورد المنع منه منعناه وما لم يوجد فيه إطلاق
ولا منع فقد قال بعض أصحابنا بالمنع منه وليس القول بالمنع
مع عدم وروده أولى من القول بالجواز مع عدم وروده إذ المنع
والجواز حكمان، وليس إثبات أحدهما مع عدم الدليل أولى من
الآخر بل الحق في ذلك هو الوقف وهو أنا لا نحكم بجواز ولا
منع والمتبع في ذلك كله الظواهر الشرعية كما هو المتبع في
سائر الأحكام وهو أن يكون ظاهرا في دلالته وفي صحته ولا
يشترط فيه القطع كما ذهب إليه بعض الأصحاب لكون المنع
والجواز من الأحكام الشرعية، والتفرقة بين حكم وحكم في
اشتراط القطع في أحدهما دون الآخر تحكم لا دليل عليه
انتهى، وأنت تعلم أن المشهور التفرقة بين الأحكام الأصولية
الاعتقادية والأحكام الفرعية العملية كما سنشير إليه إن
شاء الله تعالى قريبا، وخلاصة الكلام في هذا المقام أن
علماء الإسلام اتفقوا على جواز إطلاق الأسماء والصفات على
الباري تعالى إذا ورد بها الإذن من الشارع وعلى امتناعه
إذا ورد المنع عنه، واختلفوا حيث لا إذن ولا منع في جواز
إطلاق ما كان سبحانه وتعالى متصفا بمعناه ولم يكن من
الأسماء الاعلام الموضوعة في سائر اللغات إذ ليس جواز
إطلاقها عليه تعالى محل نزاع لأحد، ولم يكن إطلاقه موهما
نقصا بل كان مشعرا بالمدح فمنعه جمهور أهل الحق مطلقا
للخطر، وجوزه المعتزلة مطلقا، ومال إليه القاضي أبو بكر
لشيوع إطلاق نحو خدا وتكرى من غير نكير فكان إجماعا، وردّ
بأن الإجماع كاف في الإذن الشرعي إذا ثبت.
واعترضه أيضا إمام الحرمين بأنه قول بالقياس وهو حجة في
العمليات والأسماء والصفات من العمليات، وروى بعضهم عنه
التوقف، وذكر في شرح المواقف أن القاضي أبا بكر ذهب إلى أن
كل لفظ دل على معنى ثابت لله تعالى جاز إطلاقه عليه إذا لم
يكن موهما لما لا يليق بذاته تعالى، ثم قال: وقد يقال: لا
بد مع نفي ذلك الإيهام من الإشعار بالتعظيم حتى يصح
الإطلاق بلا توقف وجعل مذهب المعتزلة غير مذهبه والمشهور
ما ذكرناه.
(5/113)
وفصل الغزالي قدس سره فجوز إطلاق الصفة وهو
ما دل على معنى زائد على الذات ومنع إطلاق الاسم وهو ما
يدل على نفس الذات محتجا بإباحة الصدق واستحبابه والصفة
لتضمنها النسبة الخبرية راجعة إليه وهي لا تتوقف إلا على
تحقق معناها بخلاف الاسم فإنه لا يتضمن النسبة الخبرية
وأنه ليس إلا للأبوين أو من يجري مجراهما. وأجيب بأن ذلك
حيث مانع من استعمال اللفظ الدال على تلك النسبة والخطر
قائم، وأين التراب من رب الأرباب؟.
واختار جمع من المتأخرين مذهب الجمهور قالوا: فيطلق ما سمع
على الوجه الذي سمع ولا يتجاوز ذلك إلا في التعريف
والتنكير سواء أوهم كالصبور والشكور والجبار والرحيم أو لم
يوهم كالقادر والعالم، والمراد بالسمعي ما ورد به كتاب أو
سنة صحيحة أو إجماع لأنه غير خارج عنهما في التحقيق بخلاف
الضعيفة والقياس أيضا إن قلنا: إن المسألة من العمليات أما
إن قلنا: إنها من العمليات فالسنة الضعيفة كالحسنة الواهية
جدا، والقياس كالإجماع، وأطلق بعضهم المنع في القياس وهو
الظاهر لاحتمال إيهام أحد المترادفين دون الآخر.
وجعل بعضهم من الثابت بالقياس المترادفات من لغة أو لغات،
وليس بذاك، ومن الثابت بالإجماع الصانع والموجود والواجب
القديم، قيل: والعلة، وقيل: الصانع والقديم مسموعان
كالحنان والمنان، ونص بعض المحققين على أنه يمنع إطلاق غير
المضاف إذا كان مرادفا للمضاف المسموع قياسا كما يمنع
إطلاق ما ورد على وجه المشاكلة والمجاز، وأنه لا يكفي ورود
الفعل والمصدر ونحوهما في صحة إطلاق الوصف فلا يطلق الحارث
والزارع والرامي والمستهزئ والمنزل والماكر عليه سبحانه
وتعالى وإن جاءت آيات تشعر بذلك.
هذا ومن الناس من قال: إن الألفاظ على الصفات ثلاثة أقسام:
الأول ما يدل على صفات واجبة وهو أصناف:
منها ما يصح إطلاقه مفردا لا مضافا نحو الموجود والأزلي
والقديم وغيرها، ومنها ما يصح إطلاقه مفردا ومضافا إلى ما
لا هجنة فيه نحو الملك والمولى والرب والخالق. ومنها ما
يصح مضافا غير مفرد نحو يا منشىء الرفات ومقيل العثرات،
والثاني ما يدل على صفات ممتنعة نحو اليد والوجه والنزول
والمجيء فلا يصح إطلاقه البتة، وإن ورد به السمع كان
التأويل من اللوازم. والثالث ما لا يدل على صفات واجبة ولا
ممتنعة بل يدل على معان ثابتة نحو المكر والخداع وأمثالهما
فلا يصح إطلاقه إلا إذا ورد التوقيف، ولا يقال: يا مكار يا
خداع البتة وإن كان مذكورا ما يدل عليه كقوله تعالى:
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: 54] انتهى، ولا
يخفى ما فيه. وذكر الطيبي أن الحق الاعتماد في الإطلاق على
الإطلاق على التوقيف، وأن كل ما أذن الشارع أن يدعى به
الله عزّ وجلّ سواء كان مشتقا أو غير مشتق فهو اسم، وكل ما
نسب إليه سبحانه وتعالى من غير ذلك الوجه سواء كان مؤولا
أو غير مؤول فهو وصف وجعل الحي وصفا والكريم اسما وادعى
أنه يقال يا كريم ولا يقال يا حي مع ورود اللفظين فيه
سبحانه وتعالى فيما
أخرجه أبو داود والترمذي من حديث سلمان رضي الله تعالى عنه
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الله تعالى
حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد يده أن يردها صفرا حتى يضع
فيها خيرا» ،
وذكر أن التعريف في الأسماء للعهد وأنه لا بد من المعهود
لأنه سبحانه وتعالى أمر بالدعاء بها ونهى عن الدعاء بغيرها
وأوعد على ذلك.
وروى الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة أنه صلّى الله
عليه وسلّم قال: «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما من حفظها
دخل الجنة» وفي رواية أحصاها، وفي أخرى «إن لله تعالى تسعة
وتسعين اسما مائة إلا واحدا» »
وأوتي فيه بالفذلكة والتأكيد لئلا يزاد على ما ورد. وجاءت
معدودة في بعض الروايات
بقوله عليه الصلاة والسلام «هو الله لا إله إلا هو الرحمن
الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار
المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق
الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل
السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم
الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت
(5/114)
الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع
الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي
المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت
الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر
المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعال
البر التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو الجلال
والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع
النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور» .
ونقل عن أهل البيت رضي الله تعالى عنهم غير ذلك وأخذوها من
القرآن وجاء أيضا عندنا ما يخالف هذه الرواية في بعض
الأسماء.
وذكر غير واحد من العلماء أن هذه الأسماء منها ما يرجع إلى
صفة فعلية ومنها ما يرجع إلى صفة نفسية ومنها ما يرجع إلى
صفة سلبية. ومنها ما اختلف في رجوعه إلى شيء مما ذكر وعدم
رجوعه وهو الله والحق أنه اسم للذات وهو الذي إليه يرجع
الأمر كله، ومن هنا ذهب الجل إلى أنه الاسم الأعظم، وتنقسم
قسمة أخرى إلى ما لا يجوز إطلاقه على غيره سبحانه وتعالى
كالله والرحمن وما يجوز كالرحيم والكريم وإلى ما يباح ذكره
وحده كأكثرها وإلى ما لا يباح ذكره كذلك كالمميت والضار
فإنه لا يقال: يا مميت يا ضار بل يقال: يا محيي يا مميت
ويا نافع يا ضار، والذي أراه أنه لا حصر لأسمائه عزت
أسماؤه في التسعة والتسعين، ويدل على ذلك ما
أخرجه البيهقي عن ابن مسعود قال: رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم: «من أصابه هم أو حزن فليقل: اللهم إني عبدك وابن
عبدك وابن أمتك ناصيتي في يدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك
أسألك بكل اسم هو لك سميت له نفسك أو أنزلته في كتابك أو
علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن
تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وذهاب همي وجلاء حزني»
الحديث،
وهو صريح في عدم الحصر لمكان أو وأو.
وحكى محيي الدين النووي اتفاق العلماء على ذلك وأن المقصود
من الحديث الإخبار بأن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل
الجنة وهو لا ينافي أن له تعالى أسماء غيرها غير موصوفة
بذلك. ونقل أبو بكر بن العربي عن بعضهم أن له سبحانه
وتعالى ألف اسم ثم قال: وهذا قليل وهو كما قال. وعن بعضهم
أنها أربعة آلاف، وعن بعض الصوفية أنها لا تكاد تحصى،
والمختار عندي عدم توقف إطلاق الأسماء المشتقة الراجعة إلى
نوع من الصفات النفسية والفعلية وكذا الصفات السلبية عليه
تعالى على التوقيف الخاص بل يصح الإطلاق بدونه لكن بعد
التحري التام وبذلك الوسع فيما هو نص في التعظيم والتحفظ
إلى الغاية عما يوهم أدنى أدنى نقص معاذ الله تعالى في حقه
سبحانه لأنا مأذونون بتعظيم الله تبارك وتعالى بالأقوال
والأفعال ولم يحد لنا حد فيه، فمتى كان في الإطلاق تعظيم
له عزّ وجلّ كان مأذونا به، والتكليف منوط بالوسع لا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فبعد بذل الوسع
في التعظيم يرتفع الحرج.
وحديث الخطر الذي يذكرونه يستدعي أن لا يصح إلا إطلاق ما
ثبت تواترا إطلاقه عليه جل وعلا أو اجتمعت الأمة على
إطلاقه لأن الثبوت فيما عدا ذلك ظني والخطر فيه يقيني،
والأسماء المتقدمة آنفا لم يوجد في كثير من الروايات ذكرها
وهي مشهورة من حديث الترمذي، وقد قال: إنه حدثنا به غير
واحد عن صفوان بن صالح ولا نعرفه إلا من حديثه وهو ثقة عند
أهل الحديث، وأنت تعلم أن هذا القدر لا يثبت به اليقين بل
ولا بمثله ومثله، على أن عد بعض أهل البيت كما في الدر
المنثور للتسعة والتسعين وكذا غيرهم كما لا يخفى على
المتتبع يخالف هذا العد، وسند ذلك الخبر وإن لم يكن في
المتانة كسند هذا إلا أنه لا أقل يورث الشبهة اللهم إلا أن
يقال: حصل الإجماع على ما في حديث الترمذي دون ما في حديث
غيره المخالف له لكن لم أقف على من حكى ذلك.
(5/115)
ثم إن هذه الأسماء المأخوذة مما ذكرنا لا
مانع من الدعاء بها ومن إجرائها اخبارا عنه سبحانه وتعالى
أو أوصافا له جل وعز وكلها حسنى، وتسميتها بذلك من جهة
أنها بالمعنى المراد منها بالنسبة إليه تعالى مختصة به جل
وعلا اختصاص الاسم ولا تطلق على غيره بالمعنى المراد منها
حال إطلاقها على الله تعالى وإنما تطلق على الغير بمعنى
آخر ليس بينه وبين ذلك المعنى إلا كما بين السواد والبياض
فإن بينهما غاية البعد الذي لا يتصور أن يكون بعد فوقه
لكنهما متشاركان في العرضية واللونية والمدركية بالبصر
وأمور أخر سوى ذلك، وبهذا لا يعد البياض مماثلا للسواد أو
بالعكس لأن المماثلة عبارة عن المشاركة في النوع والماهية
وهي مفقودة هنا وكذا هي مفقودة بين العلم مثلا الذي يوصف
الله تعالى به والعلم الذي يوصف غيره سبحانه وتعالى به ولا
يعلم حقيقة ذلك وماهيته إلا الله تعالى كما لا يعرف حقيقة
الله تعالى إلا الله تعالى في الدنيا والآخرة. نعم لو قال
قائل: لا أعرف إلا الله تعالى صدق ولكن من جهة أخرى،
ونهاية معرفة العارفين العجز عن المعرفة ومعرفتهم بالحقيقة
أنهم لا يعرفونه فإذا انكشف لهم ذلك فقد عرفوا وبلغوا
المنتهى الذي يمكن في حق الخلق من معرفته سبحانه وتعالى.
وهذا الذي أشار إليه الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه حيث
قال: العجز عن درك الإدراك إدراك بل هو الذي عناه سيد
البشر صلّى الله عليه وسلّم
بقوله: «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»
فإنه عليه الصلاة والسلام أراد إني لا أحيط بمحامدك وصفات
إلهيتك وإنما أنت المحيط به وحدك لا أني أعرف منك ما لا
أستطيع التعبير عنه بلساني، وتفاوت درجات الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام والملائكة والأولياء في المعرفة إنما هو
بالوقوف على عجائب آياته في ملكوت السموات والأرض وخلق
الأرواح والأجساد وحينئذ يتفاوتون في معرفة الأسماء
والصفات، ومعرفة أن زيدا عالم مثلا ليس كمعرفة تفاصيل
علومه كما لا يخفى، ولا يرد على ما ذكرنا من الاختصار أنه
يأباه تقسيمهم أسماءه تعالى إلى مختص كالرحمن وغير مختص
كالرحيم لأن مرادهم بالمختص ما اعتبر في مفهومه المطابقي
ما يمنع من الإطلاق على الغير، وقد نص البيضاوي على أن
معنى الرحمن المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها وذلك
لا يصدق على غيره تعالى فلذا لا يوصف به، وبغير المختص ما
لم يعتبر في مفهومه ذلك بل اعتبر فيه معنى عام فيطلق لذلك
على الله تعالى وعلى غيره، لكن حال إطلاقه عليه تعالى يراد
الفرد الكامل من ذلك المفهوم الذي لا يليق ولا يمكن أن
يثبت إلا لله عزّ وجلّ، وقد يقال: لا فرق بين الأسماء
المشتقة التي يوجد في الغير مبدأ اشتقاقها في الجملة من
حيث إن اعتبار ذلك الوجود يقتضي عدم الاختصاص، واعتبار
الوجود على أتم وجه وأكمله يقتضي الاختصاص من غير تفرقة
بين اسم واسم إلا انا حكمنا بالاختصاص في بعض وبعدمه في
آخر لأمر آخر كالاستعمال وعدم الاستعمال وإذن الشارع وعدم
إذنه فلا يأبى ما قلناه أيضا نعم اعتبار الاختصاص بالله
تعالى في الأسماء المذكورة في الآية لا يتأتى فيها بناء
على أن تقديم الخبر يفيد الاختصاص أيضا فيكون المعنى لله
لا لغيره الأسماء التي تختص به تعالى ولا تطلق على غيره،
ويؤول ذلك إلى أن الأسماء المختصة به سبحانه وتعالى مختصة
به جل وعلا وهو مما لا فائدة فيه، وحينئذ لا بد اما من حمل
الأسماء على الصفات كما قال البعض، ومعنى الحسنى الكاملة
من كل وجه أي لله تعالى لا لغيره الصفات الكاملة لأن صفات
غيره سبحانه وتعالى كيفما كانت ناقصة لا أقل من أن العدم
محيط بطرفيها، ومعنى فادعوه بها إلخ سموه بما يشتق منها أو
نادوه بذلك وذروا الذين يميلون عن الحق في صفاته فيسمون
بها غيره أو يدعون معتقدين الشركة ودعوهم وإلحادهم، واما
من ارتكاب ضرب من التجوز، وما ذكره الطيبي من أن التعريف
في الأسماء للعهد إلى آخر ما قاله مما لا أظنك في مرية من
ركاكته فتأمل.
وجوز أن يراد بالإلحاد العدول عن تسميته تعالى ببعض أسمائه
الكريمة كما قالوا: وما الرحمن؟ انا لا نعرف إلا
(5/116)
رحمن اليمامة، وعليه فالمراد بالترك
الاجتناب كما أريد أولا بالأسماء أسماؤه تعالى حقيقة،
فالمعنى سموه تعالى بجميع أسمائه واجتنبوا إخراج بعضها من
البين، وأن يراد به إطلاقها على الأصنام واشتقاق أسمائها
منها كاللات من الله تعالى والعزى من العزيز، فالمراد من
الأسماء أسماؤه تعالى حقيقة، والإظهار في موضع الإضمار مع
التجريد عن الوصف في الكل للإيذان بأن إلحادهم في نفس
الأسماء من غير اعتبار الوصف. والمراد بالترك الاعراض وعدم
المبالاة بما فعلوا ترقبا لنزول العقوبة فيهم عن قريب كما
يشير إليه قوله تعالى: سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ
فإنه استئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر كأنه قيل: لم لا
نبالي؟ فقيل: لأنه سينزل بهم عقوبة وتشتفون عن قريب،
والمعنى على الأمر بالاجتناب اجتنبوا إلحادهم كيلا يصيبكم
ما يصيبهم فإنه سينزل بهم عقوبة ذلك وَمِمَّنْ خَلَقْنا
أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ قيل بيان
إجمالي لحال من عدا المذكورين من الثقلين الموصوفين بما
ذكر من الضلال على أتم وجه، وهو عند جمع من المحققين على
ما ظهر للعلامة الطيبي عطف على جملة وَلَقَدْ ذَرَأْنا
وقوله سبحانه وتعالى:
يَهْدُونَ إلخ إذا أخذ بجملته وزبدته كان كالمقابل لقوله
تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ إلى هُمُ الْغافِلُونَ وكلتا
الآيتين كالنشر لقوله عزّ شأنه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ وهو كالتذييل لحديث الذي أوتي آيات الله
تعالى والأسماء العظام فانسلخ منها وقوله تعالى: وَلِلَّهِ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى اعتراض لمناسبة حديث الأسماء حديث
أسماء الله تعالى العظام التي أوتيها ذلك المنسلخ كما في
بعض الروايات وقد تعلق بقوله عز شأنه: أُولئِكَ هُمُ
الْغافِلُونَ باعتبار أنه كالتنبيه على أن الموجب لدخول
جهنم هو الغفلة عن ذكر الله تعالى وعن أسمائه الحسنى،
وأرباب الذوق والمشاهدة يجدون ذلك من أرواحهم لأن القلب
إذا غفل عن ذكر الله تبارك وتعالى واقبل على الدنيا
وشهواتها وقع في نار الحرص ولا يزال يهوي من ظلمة إلى ظلمة
حتى ينتهي إلى دركات الحرمان، وبخلاف ذلك إذا انفتح على
القلب باب الذكر فإنه يقع في جنة القناعة ولا يزال يترقى
من نور إلى نور حتى ينتهي إلى أعلى درجات الإحسان، ومن إما
نكرة موصوفة أو بمعنى الذي، والمراد بعض من خلقنا أو بعض
ممن خلقنا طائفة جليلة كثيرة يهدون الناس ملتبسين بالحق أو
يهدونهم بكلمة الحق ويدلونهم على الاستقامة وبالحق يحكمون
في الحكومات الجارية فيما بينهم ولا يجورون فيها.
أخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج أنه قال: ذكر لنا «أن
النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: هذه أمتي» .
وأخرج عن قتادة أنه قال: بلغنا أن النبي صلّى الله عليه
وسلّم كان يقول إذا قرأ هذه الآية: «هذه لكم وقد أعطي
القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه
يعدلون» .
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال: قال رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم: «إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى
ابن مريم عليه السلام» .
وروى الشيخان عن معاوية والمغيرة بن شعبة قالا: قال رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزال من أمتي أمة قائمة
بأمر الله تعالى لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله
تعالى وهم على ذلك» .
واستدل الجبائي بالآية على صحة الإجماع في كل عصر سواء في
ذلك عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم والصحابة رضي الله
تعالى عنهم وغيره إذ لو اختص لم يكن لذكره فائدة لأنه
معلوم، وعلى أنه لا يخلو عصر عن مجتهد إلى قيام الساعة لأن
المجتهدين هم أرباب الإجماع، قيل: وهو مخالف لما روي من
أنه لا تقوم الساعة إلا على أشرار الخلق ولا تقوم الساعة
حتى لا يقال في الأرض الله، وأجيب بأن ذلك الزمان ملحق
بيوم القيامة لمعانقته له، والمراد عدم خلو العصر عن مجتهد
فيما عداه، وقيل: المراد من الخبرين الإشارة إلى غلبة الشر
فلا ينافي وجود النزر من أهل ذلك العنوان، والواحد منهم
كاف وهو حينئذ الأمة، والاقتصار على نعتهم بهداية الناس
للايذان بأن اهتداءهم في أنفسهم أمر محقق غني عن التصريح
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ولم تنفعهم هداية الهادين
كأهل مكة وغيرهم، واقتصر بعضهم على
(5/117)
الأولين والعموم أولى، وإضافة الآيات إلى
ضمير العظمة لتشريفها واستعظام الاقدام على تكذيبها،
والموصول في محل الرفع على أنه مبتدأ خبره جملة
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ أي سنستدنيهم البتة إلى الهلاك شيئا
فشيئا، وجوز أن يكون في محل النصب بفعل محذوف يفسره
المذكور، والاستدراج استفعال من الدرجة بمعنى النقل درجة
بعد درجة من سفل إلى علو فيكون استصعادا أو بالعكس فيكون
استنزالا وقد استعمله الأعشى في قوله:
فلو كنت في جب ثمانين قامة ... ورقيت أسباب السماء بسلم
ليستدرجنك القول حتى تهره ... وتعلم أني عنكم غير مفحم
في مطلق معناه، وقال بعضهم: هو استفعال من درج إما بمعنى
صعد ثم اتسع فيه فاستعمل في كل نقل تدريجي سواء كان بطريق
الصعود أو الهبوط أو الاستقامة، وإما بمعنى مشى مشيا ضعيفا
ومنه درج الصبي وإما بمعنى طوى ومنه أدرج الكتاب ثم استعير
لطلب كل نقل تدريجي من حال إلى حال من الأحوال الملائمة
للمنتقل الموافقة لهواه، واستدراجه تعالى إياهم بادرار
النعم عليهم مع انهماكهم في الغي، ولذا قيل: إذا رأيت الله
تعالى أنعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج،
وهذا يمكن حمله على الاستصعاد باعتبار نظرهم وزعمهم أن
متواترة النعم اثرة من الله تعالى وهو الظاهر، وعلى
الاستنزال باعتبار الحقيقة فإن الجبلة الإنسانية في أصل
الفطرة سليمة متهيئة لقبول الحق لقضية كل مولود يولد على
الفطرة فهو في بقاع التمكن على الهدى والدين فإذا أخلد إلى
الأرض واتبع الشهوات وارتكب المعاصي والسيئات ينزل درجة
درجة إلى أن يصير أسفل السافلين، وأيّا ما كان فليس
المطلوب إلا تدرجهم في مدراج المعاصي إلى أن يحق عليهم
كلمة العذاب الأخروي أو الدنيوي على ما قيل على أفظع حال
وأشنعها وإدرار النعم وسيلة إلى ذلك مِنْ حَيْثُ لا
يَعْلَمُونَ أنه كذلك بل يحسبون أنه أثرة من الله تعالى،
وقيل: لا يعلمون ما يراد بهم، والجار والمجرور متعلق بمضمر
وقع صفة لمصدر الفعل المذكور أي سنستدرجهم كائنا من حيث لا
يعلمون وَأُمْلِي لَهُمْ أي أمهلهم والواو للعطف وما بعده
معطوف على سنستدرجهم غير داخل في حكم السين لما أن الامهال
ليس من الأمور التدريجية كالاستدراك الحاصل في نفسه شيئا
فشيئا بل هو مما يحصل دفعة والحاصل بطريق التدريج آثاره
وأحكامه ليس إلا، ويلوح بذلك تغيير التعبير بتوحيد الضمير
مع ما فيه من الافتنان المنبئ عن مزيد الاعتناء بمضمون
الكلام لابتنائه على تجديد القصة والعزيمة، وجعله غير واحد
داخلا في حكمها، ولا يخفى التوحيد حينئذ، وقيل: إنه كلام
مستأنف أي وأنا أملي لهم، والخروج من ذلك الضمير إلى ضمير
المتكلم المفرد شبيه الالتفات واستظهر أنه من التلوين.
وما قيل: إن هذا للإشعار بأن الامهال بمحض التقدير الإلهي
وذاك للإشارة إلى أن الاستدراج بتوسط المدبرات ليس بشيء
لمكان لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي
لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ [آل عمران: 178] إِنَّ
كَيْدِي مَتِينٌ تقرير للوعيد وتأكيد له، والمتين من
المتانة بمعنى الشدة والقوة، ومنه المتن للظهر أو اللحم
الغليظ في جانبي الصلب، وفسر ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما الكيد بالمكر. وفسره بعضهم بالاستدراج والاملاء مع
نتيجتهما، وتسميته كيدا لما أن ظاهره لطف وباطنه قهر،
وبعضهم بنفس الأخذ فقط فتسميته حينئذ بذلك قيل: لكون
مقدماته كذلك، وقيل:
لنزوله بهم من حيث لا يشعرون، وأيا ما كان فالمعنى أن كيدي
قوي لا يدافع بقوة ولا بحيلة، والآية حجة لأهل السنة في
مسألة القضاء والقدر. وادعى بعض المفسرين أنها نزلت في
المستهزئين من قريش أمهلهم الله تعالى ثم أخذهم في يوم
بدر، ثم إنه سبحانه وتعالى لما بالغ في تهديد الملحدين
المعرضين الغافلين عن آياته والإيمان برسوله عليه الصلاة
والسلام عقب ذلك على ما قيل بالجواب عن شبهتهم وإنكار عدم
تفكرهم فقال عز من قائل: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما
(5/118)
بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ
فالهمزة للإنكار والتوبيخ، والواو للعطف على مقدر يستدعيه
السياق والسباق، والخلاف في مثل هذا التركيب مشهور وقد
تقدمت الإشارة إليه.
وما قال أبو البقاء: تحتمل أن تكون استفهامية إنكارية في
محل الرفع بالابتداء والخبر بِصاحِبِهِمْ وأن تكون نافية
اسمها جِنَّةٍ وخبرها بِصاحِبِهِمْ. وجوز أن تكون موصولة،
وفيه بعد. والجنة مصدر كالجلسة بمعنى الجنون، وليس المراد
به الجن كما في قوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ
[الناس: 6] لأنه يحتاج إلى تقدير مضاف أي مس جنة أو
تخبطها، والتنكير للتقليل والتحقير، والتفكر التأمل وإعمال
الخاطر في الأمر، وهو من أفعال القلوب فحكمه حكمها في أمر
التعليق، ومحل الجملة على الوجهين النصب على نزع الخافض،
ومحل الموصول نصب على ذلك في الوجه الأخير، أي أكذبوا ولم
يتفكروا في أي شيء من جنون ما كائن بصاحبهم الذي هو أعظم
الهادين الحق وعليه أنزلت الآيات، أو في أنه ليس بصاحبهم
شيء من جنة حتى يؤديهم التفكر في ذلك إلى الوقوف على صدقه
وصحة نبوته فيؤمنوا به وبما أنزل عليه من الآيات أو في
الذي بصاحبهم من جنة بزعمهم ليعلموا أن ذلك ليس من الجنة
في شيء فيؤمنوا، واختار الطبرسي أن الكلام قد تم عند قوله
تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا أي أكذبوا ولم يتفكروا في
أقواله وأفعاله أو أو لم يفعلوا التفكر، ثم ابتدئ فقيل: أي
شيء بصاحبهم من جنة ما على طريقة الإنكار والتعجيب
والتبكيت، أو قيل: ليس بصاحبهم شيء منها. والمراد بصاحبهم
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والتعبير عنه عليه الصلاة
والسلام بذلك لتأكيد النكير وتشديده لأن الصحبة مما يطلعهم
على نزاهته صلّى الله عليه وسلّم عن شائبة مما ذكر،
والتعرض لنفي الجنون عنه عليه الصلاة والسلام مع وضوح
استحالة ثبوته له لما أن التكلم بما هو خارق لا يصدر إلا
عمن به مس من الجنة كيفما اتفق من غير أن يكون له أصل أو
عمن له تأييد إلهي يخبر به عن الغيوب، وإذ ليس به عليه
الصلاة والسلام شيء من الأول تعين الثاني.
وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله
صلّى الله عليه وسلّم قام على الصفا فدعا قريشا فخذا فخذا
يا بني فلان يحذرهم بأس الله تعالى ووقائعه إلى الصباح حتى
قال قائلهم: إن صاحبكم هذا المجنون بات يهوت حتى أصبح
فأنزل الله تعالى الآية،
وعليه فالتصريح بنفي الجنون للرد على عظيمتهم الشنعاء عند
من له أدنى عقل، والعبير بصاحبهم وارد على مشاكلة كلامهم
مع ما فيه من النكتة السالفة. وذكر بعضهم في سبب النزول
أنهم كانوا إذا رأوا ما يعرض له صلّى الله عليه وسلّم من
برحاء الوحي قالوا: جن فنزلت إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ
مُبِينٌ تقرير لما قبله وتكذيب لهم فيما يزعمونه حيث تبين
فيه حقيقة حاله صلّى الله عليه وسلّم أي ما هو عليه الصلاة
والسلام إلا مبالغ في الانذار مظهر له غاية الإظهار، ثم
لما كان أمر النبوة مفرعا على التوحيد ذكر سبحانه ما يدل
عليه فقال جل شأنه: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهو مسوق للإنكار والتوبيخ
بإخلالهم بالتأمل بالآيات التكوينية إثر ما نعي عليهم ما
نعي، والهمزة هنا كالهمزة فيما قبل، والواو للعطف على مقدر
كما تقدم أو على الجملة المنفية بلم، والملكوت الملك
العظيم، أي أكذبوا أو لم يتفكروا فيما ذكر ولم ينظروا نظر
تأمل واستدلال فيما يدل على كما قدرة الصانع ووحدة المبدع
وعظيم شأن المالك ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه ذاك الرسول
الكريم صلّى الله عليه وسلّم، وكأن التعبير بالنظر هنا دون
التفكر الذي عبر به فيما قبل للإشارة إلى أن الدليل هنا
أوضح منه فيما تقدم. وقوله سبحانه وتعالى: وَما خَلَقَ
اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يحتمل أن يكون عطفا على ملكوت وتخصيصه
بالسماوات والأرض لكمال ظهور عظم الملك فيهما، وأن يكون
عطفا على المضاف هو إليه فيكون منسحبا على الجميع،
والتعميم لاشتراك الكل في عظم الملك في الحقيقة، ومِنْ
شَيْءٍ بيان «لما» ، وفي ذلك تنبيه على أن الدلالة على
التوحيد غير مقصورة على السموات والأرض بل كان ذرة من ذرات
العالم دليل على توحيده:
(5/119)
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
وهذا أمر متفق عليه عند العقلاء. نعم منهم من جعل وجه
الدلالة الحدوث وهو الذي عليه معظم المتكلمين، ومنهم من
جعل وجهها الإمكان وهو الذي عليه الفلاسفة واختاره بعض
المتكلمين، ورجح الأول قطب عصره الشيخ خالد المجددي قدس
سره في تعليقاته على حواشي عبد الحكيم على الخيالي فارجع
إليها، وقوله تعالى: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ
اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ عطف على ملكوت فهو معمول لينظروا لكن
لا يعتبر فيه بالنظر إليه أنه للاستدلال بناء على ما
قالوا: إن قيد المعطوف عليه لا يلزم ملاحظته في المعطوف،
وقد تقدم الكلام في ذلك، وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير
الشأن وخبرها عسى مع فاعلها الذي هو أَنْ يَكُونَ، وخبر
ضمير الشأن لا يشترط فيه الخبرية ولا يحتاج إلى التأويل
كما نص عليه المحققون فلا معنى معنى للمناقشة في ذلك، واسم
يكون أيضا ضمير الشأن والخبر قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ،
ولم يجعلوا هذا من باب التنازع لأن تنازع كان وخبرها مما
لم يعهد لا لأن ذلك خلاف الأصل لما فيه من الإضمار قبل
الذكر لأن ذلك لازم على جعل الاسم ضمير الشأن ولا ضير في
كل، وأمر التكرار فيما ذكرنا سهل فلا يرتكب له خلاف
المعهود خلافا للقطب الرازي، وجوز أبو البقاء أن تكون
مصدرية، وتعقب بأنها لا توصل إلا بالفعل المتصرف وعسى ليست
كذلك، والمعنى أولم ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها
فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم قبل مغافصة
الموت ومفاجأته ونزول العذاب، فالمراد بأجلهم أجل موتهم،
وجوز أن يكون عبارة عن الساعة، والإضافة إلى ضميرهم
لملابستهم لها من جهة انكارهم إياها وبحثهم عنها، وقوله جل
وعلا: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ قطع لاحتمال
إيمانهم رأسا ونفي له بالكلية بعد الزام الحجة والإرشاد
إلى النظر، والباء متعلقة بيؤمنون، وضمير بعده للقرآن على
ما ذهب إليه غالب المفسرين وهو معلوم من السياق، والحديث
بمعنى الكلام فلا دليل في الآية لمن يزعم حدوث القرآن،
وقيل: ولئن سلمنا كونه دليلا يراد من القرآن الألفاظ وهي
محدثة على المشهور، والمعنى إذا لم يؤمنوا بالقرآن وهو
النهاية في البيان فبأي كلام يؤمنون بعده، وقيل: الضمير
للآيات على حذف المضاف المفهوم من كذبوا، والتذكير باعتبار
كونها قرآنا أو بتأويلها بالمذكور أو إجراء الضمير مجرى
اسم الإشارة.
والمعنى أكذبوا بالآيات ولم يتفكروا فيما يوجب تصديقها من
أحواله عليه الصلاة والسلام وأحوال المصنوعات فبأي حديث
بعد تكذيبها يؤمنون، وفيه بعد، وقيل: إنه يعود على الرسول
صلّى الله عليه وسلّم بتقدير مضاف أيضا أي بعد حديثه
يؤمنون وهو أصدق الناس، وقيل: المراد بعد هذا الحديث،
وقيل: بعد الأجل أي كيف يؤمنون بعد انقضاء أجلهم؟، وجعل
الزمخشري ذلك مرتبطا بقوله تعالى: وَأَنْ عَسى إلخ ارتباط
التسبب عنه، والضمير للقرآن كأنه قيل: لعل أجلهم قد اقترب
فما بالهم لا يبادرون الايمان بالقرآن قبل الموت وماذا
ينظرون بعد وضوح الحق وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا،
وتقدير ما قدر عند صاحب الكشف ليس لأنه لا بد من تقديره
ليستقيم الكلام بل للتنبيه على معنى الاستبطاء الذي في ضمن
أي، وأنه ليس بعد هذا البيان الواضح أمر منتظر، وقوله عز
شأنه: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ استئناف
مقرر لما قبله مبني على الطبع على قلوبهم، والمراد استمرار
النفي لا نفي الاستمرار، وقوله سبحانه وتعالى:
وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ بالياء والرفع على
الاستئناف أي وهو يذرهم، وقرأ غير واحد بنون العظمة على
طريقة الالتفات أي ونحن نذرهم، وقرأ حمزة. والكسائي بالياء
والجزم عطفا على محل الجملة الاسمية الواقعة جواب الشرط
كأنه قيل: من يضلل الله لا يهده أحد ويذرهم، ويحتمل أن
يكون ذلك تسكينا للتخفيف كما قرىء يشعركم وينصركم، وقد روي
الجزم مع النون عن نافع وأبي عمرو في الشواذ، وتخريجه على
أحد الاحتمالين، وقوله تبارك
(5/120)
وتعالى: يَعْمَهُونَ حال من مفعول يذرهم،
والعمه التردد في الضلال والتحير أو أن لا يعرف حجة،
وإفراد الضمير في حيز النفي رعاية للفظ مَنْ وجمعه في حيز
الإثبات رعاية لمعناها للتنصيص على شمول النفي والإثبات
للكل كما قيل هذا.
«ومن باب الإشارة في الآيات» وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ
الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها إشارة إلى
من ابتلي بالحور بعد الكور بأن سلك حتى ظهر له ما ظهر ثم
رجع من الطريق لسوء استعداده وغلبة الشقاوة والعياذ بالله
تعالى عليه، وفي التعبير بانسلخ ما لا يخفى وَلَوْ شِئْنا
لَرَفَعْناهُ بِها إلى حظيرة القدس وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ
إِلَى الْأَرْضِ أي مال إلى أرض الطبيعة السفلية
وَاتَّبَعَ هَواهُ في إيثار السوي فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
الْكَلْبِ في أخس أحواله إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ بالزجر
يَلْهَثْ يدلع لسانه مع التنفس الشديد أَوْ تَتْرُكْهُ
يَلْهَثْ أيضا. والمراد أنه يلهث دائما وكأنه إشارة إلى أن
هذا المنسلخ لا يزال يطلق لسانه في أهل الكمال سواء زجر عن
ذلك أو لم يزجر وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً
مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وهم مظاهر القهر لَهُمْ قُلُوبٌ
لا يَفْقَهُونَ بِها الأسرار وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا
يُبْصِرُونَ بِها الحجج الكونية وَلَهُمْ آذانٌ لا
يَسْمَعُونَ بِها الآيات التنزيلية فهم صم بكم عمي
أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ ليس لهم هم إلا الأكل والشرب بَلْ
هُمْ أَضَلُّ منها لأنهم لا ينزجرون إذا زجروا ولا يهتدون
إذا أرشدوا.
ومما يستبعد من طريق العقل ما نقله الإمام الشعراني عن
شيخه علي الخواص قدس سره أن البهائم مكلفون محتجا بقوله
تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ
يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ
[الأنعام: 38] مع قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا
خَلا فِيها نَذِيرٌ وبما
ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم «إنه ليؤخذ للشاة الجماء من
الشاة القرناء»
وهذا وإن كان في الشاة لكن لا قائل بالفرق، ونقل عنه القول
بأن كل ما في الوجود من حيوان ونبات وجماد حي دراك، ثم
قال:
فقلت له فهل تشبيه الحق تعالى من ضل من عباده بالأنعام
بيان لنقص الأنعام عن الإنسان أم لكمالها في العلم بالله
تعالى؟ فقال رضي الله تعالى عنه: لا أعلم، ولكني سمعت
بعضهم يقول: ليس تشبيههم بالأنعام نقصا وإنما هو لبيان
كمال مرتبتها في العلم بالله عزّ وجلّ حتى حارت فيه
فالتشبيه في الحقيقة واقع في الحيرة لا في المحار فيه فلا
أشد حيرة من العلماء بالله تعالى، فأعلى ما يصل إليه
العلماء في العلم بربهم سبحانه وتعالى مبتدأ البهائم الذي
لم تنتقل عن أصله وإن كانت منتقلة في شؤونه بتنقل الشؤون
الإلهية لأنها لا تثبت على حال، ولذلك كان من وصفهم سبحانه
وتعالى من هؤلاء القوم أضل سبيلا من الأنعام لأنهم يريدون
الخروج من الحيرة من طريق فكرهم ونظرهم ولا يمكن لهم ذلك،
والبهائم علمت ذلك ووقفت عنده ولم تطلب الخروج عنه لشدة
علمها بالله تعالى، وذكر أنها ما سميت بهائم إلا لأن أمرها
قد أبهم على غالب الخلق فلم يعرفوه كما عرفه أهل الكشف
انتهى.
وهو كلام يورث المؤمن به حسدا للبهائم نفعنا الله تعالى
بها وأعاذنا من الحسد وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى
التي يدبر كل أمر باسم منها فَادْعُوهُ بِها حسب المراتب
وأعلاها الدعاء بلسان الفعل وهو التحلي بمعانيها بقدر ما
يتصور في حق العبد وذلك حظ المقربين منها، وذكر حجة
الإسلام الغزالي قدس سره أن حظوظهم من معاني أسمائه تعالى
ثلاثة. الأول معرفتها على سبيل المكاشفة والمشاهدة حتى
يتضح لهم حقائقها بالبرهان الذي لا يجوز فيه الخطأ وينكشف
لهم اتصاف الله تعالى بها انكشافا يجري الوضوح والبيان
مجرى اليقين الحاصل للإنسان بصفاته الباطنة التي يدركها
بمشاهدة باطنة لا بإحساس ظاهره، وكم بين هذا وبين الاعتقاد
المأخوذ من الآباء والمعلمين تقليدا، والتصميم عليه وإن
كان مقرونا بأدلة جدلية كلامية.
الثاني استعظامهم ما يكشف لهم من صفات الجلال والكمال على
وجه ينبعث منه شوقهم إلى الاتصاف بما
(5/121)
يمكنهم من تلك الصفات ليقربوا بها من الحق
قربا بالصفة لا بالمكان فيأخذوا من الاتصاف بها شبها
بالملائكة المقربين عند الله تعالى، والخلو من هذا الشوق
لا يكون إلا لأحد أمرين إما لضعف المعرفة، وإما لكون القلب
ممتلئا بشوق آخر مستغرقا به. والثالث السعي في اكتساب
الممكن من تلك الصفات والتخلق بها والتحلي بمحاسنها، وبذلك
يصير العبد ربانيا رفيقا للملأ الأعلى من الملائكة شبيها
بهم، وحينئذ لا يؤثر القرب والبعد في إدراكه بل لا يقتصر
إدراكه على ما يتصور فيه ذلك ويكون مقدسا عن الشهوة والغضب
فلا تكون أفعاله بمقتضاها بل الداعي إليها حينئذ طلب
التقرب إلى الله تعالى ولا يلزم من هذا إثبات المماثلة بين
الله سبحانه وتعالى وبين العبد، وقد قال جل وعلا: لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] لأن المماثلة هي المشاركة
في النوع والماهية لا مطلق المشاركة فالفرس الكيس وإن كان
بالغا في الكياسة ما بلغ لا يكون مماثلا للإنسان لمخالفته
له بالنوع وإن شابهه بالكياسة التي هي عارضة خارجة عن
المقومات الإنسانية وأنت تعلم بأدنى التفات أنه لا يتصور
الشركة بين الله تعالى الحي العليم المريد القادر المتكلم
السميع البصير وبين العبد المتصف بالحياة والعلم والإرادة
والقدرة والسمع والبصر إلا في إطلاق الاسم لا غير، والكلام
في خبر «لا زال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل» إلخ
يستدعي الخوض في بحر لا ساحل له فخذ ما آتيناك وذر
الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ يطلبون معانيها من
غيره سبحانه وتعالى ويضيفونها إليه وهؤلاء مما ذرأهم
سبحانه وتعالى لجهنم سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ
من الإلحاد وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ
بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وهم المرشدون الكاملون
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كالمنكرين على هؤلاء
الأمة سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ انا
سنستدرجهم وَأُمْلِي لَهُمْ أمهلهم إِنَّ كَيْدِي أخذي
مَتِينٌ شديد، وقد جرت عادة الله تعالى في المنكرين على
أوليائه أن يأخذهم أشد أخذ وقد شاهدنا ذلك كثيرا نعوذ
بالله تعالى من مكره، أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ
وهي الآيات التكوينية، وقد تقدم معنى الملكوت وهو في مصطلح
الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم عبارة عن عالم الغيب
المختص بالأرواح والنفوس وفسروا الملك بعالم الشهادة من
المحسوسات الطبيعية كالعرش والكرسي وغيرهما وكل جسم يتركب
من الاستقصاءات مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ إذ
لا هادي سواه سبحانه:
إلى الماء يسعى من يغص بلقمة ... إلى أين يسعى من يغص بماء
وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ يترددون لأن
استعدادهم يقتضي ذلك، والله تعالى الموفق، ثم لما تقدم ذكر
اقتراب أجلهم عقبه سبحانه بذكر سؤالهم عن الساعة فقال
تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ وقيل هو استئناف
مسوق لبيان بعض طغيانهم وضلالهم، والساعة في الأصل اسم
لمقدار قليل من الزمان غير معين، وهي عند المنجمين جزء من
أربعة وعشرين جزءا من الليل والنهار، وتنقسم إلى معوجة
ومستوية، وتطلق في عرف الشرع على يوم موت الخلق وعلى يوم
قيام الناس لرب العالمين، وفسروها بيوم القيامة، ولعل
المراد منه أحد ذينك اليومين وإن كان المشهور فيه اليوم
الآخر، والظاهر أن المسئول عنه اليوم الأول، وإليه ذهب
الزجاج، والساعة في ذلك من الأسماء الغالبة، ووجه إطلاقها
عليه وكذا على وقت القيام ظاهر إن أريد زمان الموت أو زمان
القيام بدون ملاحظة الامتداد لظهور أنه قدر يسير في نفسه،
وإن أريد الزمان الممتد فإطلاقها عليه إما لمجيئه بغتة كما
قيل، أو لأنه يدهش من يأتيهم فيقل عندهم أو يقلل ما قبله،
أو لأنه على طوله قدر يسير عند الله تعالى، أو لسرعة
حسابه، وجوز أن يكون تسميته بذلك من باب التسمية بالضد
تمليحا كما يسمى الأسود كافورا، والسائل عن ذلك أناس من
اليهود،
فقد أخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما قال قال: حمل بن أبي قشير وسمول بن زيد لرسول الله
صلّى الله عليه وسلّم: أخبرنا متى الساعة إن
(5/122)
كنت نبيا كما تقول فإنا نعلم متى هي؟ وكان
ذلك امتحانا منهم مع علمهم أنه تعالى قد استأثر بعلمها
فأنزل الله تعالى الآية.
وذهب بعض إلى أن السائل قريش،
فقد أخرج عبد بن حميد. وابن جرير عن قتادة أن قريشا قالوا:
يا محمد أسر إلينا متى الساعة لما بيننا وبينك من القرابة؟
فنزلت.
وقوله سبحانه: أَيَّانَ مُرْساها بفتح همزة أيان. وقرأ
السلمي بكسرها وهو لغة فيها، وهي ظرف زمان متضمن لمعنى
الاستفهام ويليها المبتدأ أو الفعل المضارع دون الماضي
بخلاف متى حيث يليها كلاهما، والتحقيق أنها بسيطة مرتجلة،
وقيل: اشتقاقها من أي وهي فعلان منه لأن معناه أي وقت، وأي
فعل، وأي من أويت بمعنى رجعت لأن باب طويت وشويت أضعاف باب
حييت ووعيت ولقربه منه معنى لأن البعض آو إلى الكل ومستند
إليه. وأصله على هذا أوي فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء
فصار أيا وإنما لم تجعل أيان فعلا لا من أين لأنها ظرف
زمان وأين ظرف مكان، ومن الناس من زعم أن أصلها أي أوان أو
أي آن وليس بشيء.
وتعقب في الكشف حديث الاشتقاق من أي بأنه مخالف لما ذكره
الزمخشري في سورة النمل ولو سمي به لكان فعالا من آن يئين
ولا تصرف، ثم قال: والوجه ما ذكره هناك لأن الاشتقاق في
غير المتصرفة لا وجه له. ثم إنه ليس اشتقاقه من أي أولى من
اشتقاقه من الأين بمعنى الحينونة لأن أيان زمان وكأنه غيره
الاستفهام وليس بشيء لأنه بالتضمين كما في متى ونحوه وكذلك
اشتقاق أي من أويت لا وجه له إلا أن الأظهر أنه يجوز الصرف
وعدمه كما في حمار قبان اهـ.
وأجيب بأن ما ذكر أمر قدروه للامتحان وليعلم حكمها إذا سمي
بها فلا ينافي ما ذكره الزمخشري وكذا لا ينافي لتحقيق
فتأمل، وأيا ما كان فهي في محل الرفع على أنها خبر مقدم
ومرساها مبتدأ مؤخر وهو مصدر ميمي من أرساه إذا أثبته
وأقره أي متى إثباتها وتقريرها، ولا يكاد يستعمل الإرساء
إلا في الشيء الثقيل كما في قوله تعالى:
وَالْجِبالَ أَرْساها [النازعات: 32] ومنه مرساة السفن،
ونسبته هنا إلى الساعة باعتبار تشبيه المعاني بالأجسام.
وجوز بعضهم أن يكون اسم زمان، ولا يرد عليه أنه يلزم أن
يكون للزمان زمان، وفي جوازه خلاف الفلاسفة لأنه يؤول بمتى
وقوع ذلك، والجملة قيل في محل النصب على المفعولية به لقول
محذوف وقع حالا من ضمير يسألونك أي يسألونك قائلين أيان
مرساها، وقيل في محل الجر على البدلية عن الساعة.
والتحقيق عند بعض جلة المحققين أن محلها النصب بنزع الخافض
لأنها بدل من الجار والمجرور لا من المجرور فقط، وفي تعليق
السؤال بنفس الساعة أولا وبوقت وقوعها ثانيا تنبيه على أن
المقصد الأصلي من السؤال نفسها باعتبار حلولها في وقتها
المعين باعتبار كونه محلا لها، وما في الجواب أعني قوله
سبحانه: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي مخرج على ذلك
أيضا أي إن علمها بالاعتبار المذكور عنده سبحانه لا غير
فلا حاجة إلى أن يقال: إنما علم وقت إرسائها عنده عزّ
وجلّ، وبعضهم حيث غفل عن النكتة المشار إليها حمل النظم
الجليل على حذف المضاف، وإليه يشير كلام أبي البقاء، ومعنى
كون ذلك عنده عزّ وجلّ خاصة أنه استأثر به حيث لم يخبرا
أحدا به من ملك مقرب أو نبي مرسل، والتعرض لعنوان الربوبية
مع الإضافة إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم قيل للإيذان
بأن توفيقه عليه الصلاة والسلام للجواب على الوجه المذكور
من باب التربية والإرشاد وهو أولى مما سنشير إليه إن شاء
الله تعالى، وقوله سبحانه: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها
إِلَّا هُوَ بيان لاستمرار خفائها إلى حين قيامها واقناط
كلي عن إظهار أمرها بطريق الإخبار، والتجلية الكشف
والإظهار، واللام لام التوقيت واختلف فيها فقيل هي بمعنى
في، وقال ابن جني: بمعنى عند، وقال الرضي: هي اللام
المفيدة للاختصاص، وهو على ثلاثة أضرب اما أن يختص الفعل
بالزمان لوقوعه فيه ككتبت
(5/123)
لغرة كذا أو لوقوعه بعده نحو لخمس خلون أو
قبله نحو لليلة بقيت، ومع الإطلاق يكون الاختصاص لوقوعه
فيه وإلا فحسب القرينة، وفسرها هنا غير واحد بفي.
والمعنى لا يكشف عنها ولا يظهر للناس أمرها الذي تسألون
عنه إلا الرب سبحانه بالذات من غير أن يشعر به أحد من
المخلوقين فيتوسط في إظهاره لهم لكن لا بأن لا يخبرهم
بوقتها كما هو المسئول بل بأن يقيمها فيعلموها على أتم
وجه، والجار والمجرور متعلق بالتجلية وهو قيد لها بعد ورود
الاستثناء كأنه قيل: لا يجليها إلا هو في وقتها إلا أنه
قدم للتنبيه من أول الأمر على أن تجليها ليس بطريق الاخبار
بوقتها بل بإظهار عينها في وقتها الذي يسألون عنه، وقوله
تعالى: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ استئناف كما
قبله مقرر لما سبق، والمراد كبرت وعظمت على أهلهما حيث لم
يعلموا وقت وقوعها. وعن السدي أن من خفي عليه علم شيء كان
ثقيلا عليه، وعن قتادة أن المعنى عظمت على أهل السموات
والأرض حيث يشفقون منها ويخافون شدائدها، وفي رواية أخرى
عنه أن المراد ثقل علمها عليهم فلا يعلمونها، ويرجع إلى ما
ذكر أولا، وقيل: المعنى ثقلت عند الوقوع على نفس السموات
حتى انشقت وانتثرت نجومها وكورت شمسها وعلى نفس الأرض حتى
سيرت جبالها وسجرت بحارها وكان ما كان فيها، وإلى ذلك يشير
ما روي عن ابن جريج وعليه فلا يحتاج إلى تقدير مضاف، وكلمة
في على سائر إلا وجه استعارة منبهة على تمكن الفعل كما لا
يخفى لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً أي إلا فجأة على حين
غفلة،
أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لتقومن الساعة وقد نشر
رجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة
وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وهو
يليط حوضه فلا يسقى فيه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى
فيه فلا يطعمها»
يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها أي عالم بها كما
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما أخرجه عنه ابن
المنذر وغيره «فحفي» فعيل من حفى عن الشيء إذا بحث عن تعرف
حاله، وذكر بعضهم أن الحفاوة في الأصل الاستقصاء في الأمر
للاعتناء به قال الأعشى:
فإن تسألوا عني فيا رب سائل ... حفيّ عن الأعشى به حيث
أصعدا
ومنه إحفاء الشارب، وتطلق أيضا على البر واللطف كما قال
تعالى: إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا [مريم: 47] ، والمعنى
المراد هنا متفرع على المعنى الأول لأن من بحث عن شيء وسأل
منه استحكم علمه به فأريد به لازم معناه مجازا أو كناية
وعدي الوصف بعن اعتبار الأصل معناه وهو السؤال والبحث،
وقيل: لأنه ضمن معنى الكشف ولولا ذلك لعدي بالباء، وجوز أن
البقاء أن تكونن بمعنى الباء، وروي عن الحبر. وابن مسعود
أنهما قرآ بها.
والجملة التشبيهية في محل نصب على أنها حال من مفعول
يسألونك أي مشبها حالك عندهم بحال من هو حفي، وقيل: إن
عنها متعلق بيسألونك، والجملة التشبيهية معترضة وصلة حفي
محذوفة أي بها أو بهم بناء على ما قيل إن حفي من الحفاوة
بمعنى الشفقة فإن قريشا قالوا له عليه الصلاة والسلام: إن
بيننا وبينك قرابة فقل لنا متى الساعة؟ وروي ذلك عن قتادة
وترجمان القرآن أيضا، والمعنى عليه أنهم يظنون أن عندك
علمها لكن تكتمه فلشفقتك عليهم طلبوا منك أن تخصهم به
وتعلق عَنِ على هذا الوجه بمحذوف كتخبرهم وتكشف لهم عنها
بعيد، وقيل:
هو من حفي بالشيء إذا فرح به، وروي ذلك عن مجاهد والضحاك
وغيرهما، والمعنى كأنك فرح بالسؤال عنها تحبه، وعَنِ على
هذا متعلقة- بحفي- كما قيل: لتضمنه معنى السؤال، والكلام
على ما قال شيخ الإسلام استئناف مسوق لبيان خطئهم في توجيه
السؤال إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بناء على زعمهم
أنه عليه الصلاة والسلام عالم بالمسئول عنه أو أن العلم
بذلك من مقتضيات الرسالة أثر بيان خطئهم في أصل السؤال
بإعلام بيان المسئول عنه، وفي
(5/124)
الانتصاف في توجيه تكرير يسألونك أن
المعهود في أمثال ذلك أن الكلام إذا بني على مقصد وعرض في
أثنائه عارض فأريد الرجوع لتتمة المقصد الأول وقد بعد عهده
وطوي ذكره لتتصل النهاية بالبداية، وهنا لما ابتدأ الكلام
بقوله سبحانه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ
مُرْساها ثم اعترض ذكر الجواب بقل إلى بغتة أريد تتمة
سؤالهم عنها بوجه من الإنكار عليهم وهو المضمن في قوله
سبحانه: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها وهو شديد التعلق بالسؤال
وقد بعد عهده فطري ذكره ليليه تمامه، ولا تراه أبدا يطري
إلا بنوع من الإجمال، ومن ثم لم يذكر المسئول عنه وهو
الساعة اكتفاء بما تقدم، ثم لما كرر جل وعلا السؤال لهذه
الفائدة كرر الجواب أيضا مجملا فقال عزّ من قائل: قُلْ
إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ ومنه يعلم وجه ذكر الاسم
الجليل هنا، وذكر المحقق الأول أنه عليه الصلاة والسلام
أمر بإعادة الجواب الأول تأكيدا للحكم وتقريرا له وإشعارا
بعلته على الطريقة البرهانية بإيراد اسم الذات المنبئ عن
استتباعها لصفات الكمال التي من جملتها العلم وتمهيدا
للتعريض بجهلهم بقوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لا يَعْلَمُونَ وزعم الجبائي أن السؤال الأول كان عن وقت
قيام الساعة وهذا السؤال كان عن كيفيتها وتفصيل ما فيها من
الشدائد والأحوال قيل:
ولذلك خص جوابه باسم الذات إذ هو أعظم الأسماء مهابة، وإلى
ذلك ذهب النيسابوري ونقل عن الإمام وغيره، ولا أرى لهم
مسندا في ذلك، ومفعول العلم على ما يشير إليه كلام بعضهم
محذوف أي لا يعلمون ما ذكر من اختصاص علمها به تعالى
فبعضهم ينكرها رأسا فلا يسأل عنها إلا متلاعبا، وبعضهم
يعلم أنها واقعة البتة ويزعم أنك واقف على وقت وقوعها
فيسأل جهلا، وبعضهم يزعم أن العلم بذلك من مقتضيات الرسالة
فيتخذ السؤال ذريعة إلى القدح فيها، والواقف على جلية
الحال ويسأل امتحانا ملحق بالجاهلين لعدم عمله بعمله هذا،
وإنما أخفى سبحانه أمر الساعة لاقتصاء الحكمة التشريعية
ذلك فإنه ادعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أن إخفاء
الأجل الخاص للإنسان كذلك، ولو قيل بأن الحكمة التكوينية
تقتضي ذلك أيضا لم يبعد، وظاهر الآيات أنه عليه الصلاة
والسلام لم يعلم وقت قيامها. نعم علم عليه الصلاة والسلام
قربها على الإجمال وأخبر صلّى الله عليه وسلّم به.
فقد أخرج الترمذي وصححه عن أنس مرفوعا «بعثت أنا والساعة
كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى» ،
وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا أيضا «إنما أجلكم فيمن مضى
قبلكم من الأمم من صلاة العصر إلى غروب الشمس»
وجاء في غير ما أثر أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة وأنه عليه
الصلاة والسلام بعث في أواخر الألف السادسة ومعظم الملة في
الألف السابعة.
وأخرج الجلال السيوطي عدة أحاديث في أن عمر الدنيا سبعة
آلاف سنة وذكر أن مدة هذه الأمة تزيد على ألف سنة ولا تبلغ
الزيادة عليها خمسمائة سنة، واستدل على ذلك بأخبار وآثار
ذكرها في رسالته المسماة- بالكشف عن مجاوزة هذه الأمة
الألف- وسمى بعضهم لذلك هذه الألف الثانية بالمخضرمة لأن
نصفها دنيا ونصفها الآخر أخرى، وإذا لم يظهر المهدي على
رأس المائة التي نحن فيها ينهدم جميع ما بناه كما لا يخفى
على من راجعه، وكأني بك تراه منهدما، ونقل السفاريني عن
الفلاسفة أنهم زعموا أن تدبير العالم الذي نحن فيه للسنبلة
فإذا تم دورها وقع الفساد والدثور في العالم فإذا عاد
الأمر إلى الميزان تجتمع المواد ويقدر النشور عودا، وقال
البكري: إن سلطان الحمل عندهم اثنا عشر ألف سنة وسلطان
الثور دونه بألف وهكذا ينقص ألف ألف إلى الحوت فيكون
سلطانه ألف سنة ومجموع ذلك ثمانية وسبعون ألف سنة فإذا
كملت انقضى عالم الكون والفساد، ونقل ذلك عن هرمس وادعى
أنه قال: إنه لم يكن في حكم الحمل والثور والجوزاء على
الأرض حيوان فلما كان حكم السرطان تكونت دواب الماء وهو أم
الأرض ولما كان حكم الأسد تكونت الدواب ذوات الأربع ولما
كان حكم السنبلة تولد الإنسانان الأولان آدم نوس وحوا نوس
وزعم بعضهم أن مدة العالم مقدار قطع الكواكب الثابتة لدرج
الفلك، والكوكب منها يقطع البرج بزعمه
(5/125)
في ثلاثة آلاف سنة فذلك ست وثلاثون ألف سنة
انتهى. ولا يخفى على من اطلع على كتب الأرصاد والزيجات أن
الأدوار عندهم ثلاثة أكبر وأوسط وأصغر ويسمونها التسييرات،
وهي على السوية في جميع البروج فالدور الأكبر ما يكون فيه
قطع كل درجة بمائة سنة والأوسط ما يكون فيه قطع كل درجة
بعشر سنين والأصغر ما يكون فيه قطع كل درجة بسنة، وعندهم
دور أعظم ويسمونه أيضا التسيير الأعظم وهو ما يكون فيه قطع
كل درجة بألف سنة والتسيير اليوم في الميزان وقد مضى منه
أربع درجات وست وخمسون دقيقة وإحدى وثلاثون ثانية واثنتا
عشرة ثالثة، وإذا اعتبرت مدة ذلك من نقطة رأس الحمل إلى
هنا بلغت مائة ألف سنة وأربعا وثمانين ألف سنة وتسعمائة
وثلاثا وأربعين سنة، وأن مدة حركة الثوابت على ما نقل عن
بطليموس في كل برج ألفان ومائة واثنتان وستون سنة وثمانية
أشهر وستة عشر يوما وتسع عشرة ساعة، وإذا ضرب ذلك في اثني
عشر عدّة البروج خرج مدة قطعها الفلك كله وهو أقل مما ذكره
بكثير، ولعل المراد بدور البرج ما أريد بسلطانه من حكم
تأثيره والتأثر العادي على ما يفهم من بعض كتب القوم بحكم
الأصالة للبرج وهو الذي يفيض على الكواكب النازل فيه، وكل
ذلك مما لم ينزل الله تعالى به سلطانا، والحق الذي لا
ينبغي المحيص عنه القول بحدوث العالم حدوثا زمانيا ولا
يعلم أوله إلا الله تعالى، وكذلك عمر الدنيا وأول النشأة
الإنسانية ومدة بقائها في هذا العالم وقدر زمان لبثها في
البرزخ كل ذلك لا يعلمه إلا الله تعالى، وجميع ما ورد في
هذا الباب أمور ظنية لا سند يعول عليه لأكثرها، ووراء هذا
أقوال لأهل الصين وغيرهم هي أدهى وأمر مما تقدم، وبالجملة
الباقي من عمر الدنيا عند من يقول بفنائها أقل قليل
بالنسبة إلى الماضي من ذلك والله تعالى أعلم بحقيقة ما
هناك قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا أي
لا أملك لأجل نفسي جلب نفع ما ولا دفع ضرر ما.
والجار والمجرور كما قال أبو البقاء إما متعلق بأملك أو
بمحذوف وقع حالا من نفعا. والمراد لا أملك ذلك في وقت من
الأوقات إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أي إلا وقت مشيئته سبحانه
بأن يمكنني من ذلك فإنني حينئذ أملكه بمشيئته، فالاستثناء
متصل وفيه دليل كما قال الشيخ إبراهيم الكوراني على أن
قدرة العبد مؤثرة بإذن الله تعالى ومشيئته، وقيل:
الاستثناء منقطع أي لكن ما شاء الله تعالى من ذلك كائن،
وفيه على هذا من إظهار العجز ما لا يخفى، والكلام مسوق
لإثبات عجزه عن العلم بالساعة على أتم وجه، وإعادة الأمر
لإظهار العناية بشأن الجواب والتنبيه على استقلاله
ومغايرته للأول وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ أي الذي
من جملته ما بين الأشياء من المناسبات المصححة عادة
للسببية والمسببية ومن المباينات المستتبعة للمدافعة
والممانعة لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ أي لحصلت كثيرا
من الخير الذي نيط بترتيب الأسباب ورفع الموانع وَما
مَسَّنِيَ السُّوءُ أي السوء الذي يمكن التفصي عنه بالتوقي
عن موجباته والمدافعة بموانعه وإن كان منه ما لا مدفع له
وكأن عدم مس السوء من توابع استكثار الخير في الجملة، ولذا
لم يسلك في الجملة الثانية نحو مسلك الجملة الأولى،
والاستلزام في الشرطية لا يلزم أن يكون عقليا وكليا بل
يكفي أن يكون عاديا في البعض. وقد حكم غير واحد أنه في
الآية من العادي، وبذلك دفع الشهاب ما قيل: إن العلم
بالشيء لا يلزم منه القدرة عليه ومنشؤه الغفلة عن المراد.
وحمل الخير والسوء على ما ذكر هو الذي ذهب إليه جلة
المحققين. وفسر بعض الأول بالربح في التجارة والفوز
بالخصب. والثاني بضد ذلك بناء على ما روي عن الكلبي أن أهل
مكة قالوا: يا محمد ألا تخبرنا بالسعر الرخيص قبل أن يغلو
فنشتري فنربح، وبالأرض التي تريد أن تجدب فنرتحل منها إلى
ما قد أخصب فنزلت.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير الأول بالربح في
التجارة والثاني بالفقر، وقيل: الأول الجواب عن
(5/126)
السؤال والثاني التكذيب، وقيل: الأول
الاشتغال بدعوة من سبقت له السعادة، والثاني النصب الحاصل
من دعوة من حقت عليه كلمة العذاب.
وقيل: ونسب إلى مجاهد وابن جريج المراد من الغيب الموت،
ومن الخير الإكثار من الأعمال الصالحة، ومن السوء ما لم
يكن كذلك، وقيل: غير ذلك، والكل كما ترى ومنها ما لا ينبغي
أن يخرج عليه التنزيل، وقدم ذكر الخير على ذكر السوء
لمناسبة ما قبل حيث قدم فيه ذكر النفع على ذكر الضر وسلك
في ذكرهما هناك كذلك مسلك الترقي على ما قيل: فإن دفع
المضار أهم من جلب المنافع، وذكر النيسابوري أن أكثر ما
جاء في القرآن إذ يؤتى بالضر والنفع معا تقديم لفظ الضر
على النفع وهو الأصل لأن العابد إنما يعبد معبوده خوفا من
عقابه أولا ثم يعبده طمعا في ثوابه ثانيا كما يشير إلى ذلك
قوله تعالى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً
[السجدة: 16] وحيث تقدم النفع على الضر كان ذلك لسبق لفظ
تضمن معنى نفع كما في هذه السورة حيث تقدم آنفا لفظ
الهداية على الضلال في قوله تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ إلخ وفي الرعد تقدم
ذكر الطوع في قوله سبحانه: طَوْعاً وَكَرْهاً [آل عمران:
83، الرعد: 15] وهو نفع، وفي الفرقان تقدم العذب في قوله
جل وعلا: هذا عَذْبٌ فُراتٌ [الفرقان:
53، فاطر: 12] وهو نفع، وفي سبأ تقدم البسط في قوله تبارك
اسمه: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ
وَيَقْدِرُ [الرعد:
26] وليقس على هذا غيره، وابن جريج يفسر النفع هنا بالهدى
والضر بالضلال، وبه تقوى نكتة التقديم التي اعتبرها هذا
الفاضل فيما نحن فيه كما لا يخفى.
واستشكلت هذه الآية مع ما صح أنه صلّى الله عليه وسلّم
أخبر بالمغيبات الجمة وكان الأمر كما أخبر، وعد ذلك من
أعظم معجزاته عليه الصلاة والسلام، واختلف في الجواب فقيل:
المفهوم من الآية نفي علمه عليه الصلاة والسلام إذ ذاك
بالغيب المفيد لجلب المنافع ودفع المضار التي لا علاقة
بينها وبين الأحكام والشرائع وما يعلمه صلّى الله عليه
وسلّم من الغيوب ليس من ذلك النوع وعدم العلم مما لا يطعن
في منصبه الجليل عليه الصلاة والسلام.
وقد أخرج مسلم عن أنس وعائشة رضي الله تعالى عنهما أنه
صلّى الله عليه وسلّم مر بقوم يلقحون فقال: عليه الصلاة
والسلام «لو لم تفعلوا لصلح فلم يفعلوا فخرج شيصا فمر بهم
صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما لقحتم؟ قالوا: قلت كذا وكذا
قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم»
وفي رواية أخرى له أنه عليه الصلاة والسلام قال حين ذكر له
أنه صار شيصا: «إن كان شيء من أمر دنياكم فشأنكم، وإن كان
من أمر دينكم فإلي»
وقد عد عدم علمه صلّى الله عليه وسلّم بأمر الدنيا كمالا
في منصبه إذ الدنيا بأسرها لا شيء عند ربه.
وقيل: المراد نفي استمرار علمه عليه الصلاة والسلام الغيب،
ومجيء كان للاستمرار شائع، ويلاحظ الاستمرار أيضا في
الاستكثار وعدم المس. وقيل: المراد بالغيب وقت قيام الساعة
لأن السؤال عنه وهو عليه الصلاة والسلام لم يعلمه ولم يخبر
به أصلا، وحينئذ يفسر الخير والسوء بما يلائم ذلك كتعليم
السائلين وعدم الطعن في أمر الرسالة من الكافرين، وقيل: أل
في الغيب للاستغراق وهو صلّى الله عليه وسلّم لم يعلم كل
غيب فإن من الغيب ما تفرد الله تعالى به كمعرفة كنه ذاته
تبارك وتعالى وكمعرفة وقت قيام الساعة على ما تدل عليه
الآية.
وفي لباب التأويل للخازن في الجواب عن ذلك أنه يحتمل أن
يكون هذا القول منه عليه الصلاة والسلام على سبيل التواضع
والأدب، والمعنى لا أعلم الغيب إلا أن يطلعني الله تعالى
عليه ويقدره لي، ويحتمل أن يكون قال ذلك قبل أن يطلعه الله
تعالى على الغيب فلما اطلعه أخبر به، أو يكون خرج هذا
الكلام فخرج الجواب عن سؤالهم ثم بعد ذلك أظهره الله تعالى
على أشياء من المغيبات ليكون ذلك معجزة له ودلالة على صحة
نبوته صلّى الله عليه وسلّم انتهى، وفيه تأمل وكلام بعض
المحققين يشير إلى ترجيح الأول.
(5/127)
هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا
زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا
حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا
أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا
صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا
آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا
آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ
يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا
وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ
إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ
أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ
أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ
بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ
أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ
يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ
كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ
الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى
الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ
لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ
يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا
يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا
يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ
بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ
اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ
تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا
يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ
قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ
مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ
رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ
رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ
الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا
تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ
رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ
وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
ومعنى قوله سبحانه: إِنْ أَنَا إِلَّا
نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ على ذلك ما أنا إلا عبد مرسل للانذار
والبشارة وشأني حيازة ما يتعلق بهما من العلوم لا الوقوف
على الغيوب التي لا علاقة بينها وبينهما وقد كشفت من أمر
الساعة ما يتعلق به الإنذار من مجيئها لا محالة واقترابها
وأما تعيين وقتها فليس مما يستدعيه الانذار بل هو مما يقدح
فيه لما مر من أن إبهامه ادعى إلى الطاعة وأزجر عن
المعصية، وتقديم النذير لأن المقام مقام إنذار لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ أي يصدقون بما جئت به، والجار إما متعلق
بالوصفين جميعا والمؤمنون ينتفعون بالإنذار كما ينتفعون
بالتبشير واما متعلق بالأخير ومتعلق الأول محذوف أي نذير
للكافرين، وحذف ليطهر اللسان منهم.
وأراد بعضهم من الكافرين المستمرين على الكفر ومن مقابلهم
الذين يؤمنون في أي وقت كان وحينئذ في الآية ترغيب للكفرة
في احداث الإيمان وتحذير عن الإصرار على الكفر والطغيان.
(5/128)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ استئناف لبيان ما
يقتضي التوحيد الذي هو المقصد الأعظم، وإيقاع الموصول خبرا
لتفخيم شأن المبتدأ أي هو سبحانه ذلك العظيم الشأن الذي
خلقكم جميعا وحده من غير أن يكون لغيره مدخل في ذلك أصلا
مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وهو آدم عليه السلام على ما نص عليه
الجمهور وَجَعَلَ مِنْها أي من جنسها كما في قوله سبحانه:
جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [النحل: 72،
الشورى: 11] فمن ابتدائية والمشهور أنها تبعيضية أي من
جسدها لما يروى أنه سبحانه خلق حواء من ضلع آدم عليه
السلام اليسرى، والكيفية مجهولة لنا ولا يعجز الله تعالى
شيء، والفعل معطوف على صلة الموصول داخل في حكمها ولا ضير
في تقدم مضمونه على مضمون الأول وجودا لما أن الواو لا
تستدعي الترتيب فيه، وهو إما بمعنى صير فقوله سبحانه:
زَوْجَها مفعوله الأول والثاني هو الظرف المقدم واما بمعنى
أنشأ والظرف متعلق به قدم على المفعول الصريح لما مر مرارا
أو بمحذوف وقع حالا من المفعول لِيَسْكُنَ إِلَيْها علة
غائية للجعل أي ليستأنس بها ويطمئن إليها، والضمير المستكن
للنفس، وكان الظاهر التأنيث لأن النفس من المؤنثات
السماعية ولذا أنثت صفتها إلا أنه ذكر باعتبار أن المراد
منها آدم ولو أنث على الظاهر لتوهم نسبة السكون إلى الأنثى
والمقصود خلافه، وذكر الزمخشري أن التذكير أحسن طباقا
للمعنى وبينه في الكشف بأنه لما كان السكون مفسرا بالميل
وهو متناول للميل الشهواني الذي هو مقدمة التغشي لا سيما
وقد أكد بالفاء في قوله تعالى: فَلَمَّا تَغَشَّاها
والتغشي منسوب إلى الذكر لا محالة كان الطباق في نسبته
أيضا إليه وإن كان من الجانبين، وفيه إيماء إلى أن تكثير
النوع علة المؤانسة كما أن الوحدة علة الوحشة، وأيضا لما
جعل المخلوق أولا الأصل كان المناسب أن يكون جعل الزوج
لسكونه بعد الاستيحاش لا العكس فإنه غير ملائم لفظا ومعنى،
لكن ذكر ابن الشحنة أن النفس إذا أريد به الإنسان بعينه
فمذكر وإن كان لفظه لفظ مؤنث، وجاء ثلاثة أنفس على معنى
ثلاثة أشخاص وإذا أريد بها الروح فهي مؤنثة لا غير
وتصغيرها نفسية فليفهم. والضمير المنصوب من تغشاها للزوج
وهو بمعنى الزوجة مؤنث، والتغشي كناية عن الجماع أي فلما
جامعها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً أي محمولا خفيفا وهو
الجنين عند كونه نطفة أو علقة أو مضغة فإنه لا ثقل فيه
بالنسبة إلى ما بعد ذلك من الأطوار، فنصب حملا على أنه
مفعول به وهو بفتح الحاء ما كان في بطن أو على شجر وبالكسر
خلافه. وقد حكى في كل منهما الكسر والفتح وجوز أن يكون هنا
مصدرا منصوبا على أنه مفعول مطلق، وأن يراد بالخفة عدم
التأذي أي حملت حملا خف عليها ولم تلق منه ما تلقى بعض
الحوامل من حملهن من الكرب والأذية فَمَرَّتْ بِهِ أي
استمرت به كما قرأ به ابن عباس والضحاك والمراد بقيت به
كما كانت قبل حيث قامت وقعدت وأخذت وتركت وهو معنى لا غبار
فيه. والقول بأنه من القلب أي فاستمر بها حملها من القلب
عند النقاد، وقرأ أبو العالية وغيره «مرت» بالتخفيف فقيل:
إنه مخفف مرت كما يقال: ظلت في ظللت، وقيل: هو من المرية
أي الشك أي شكت في أمر حملها.
وقرأ ابن عمر والجحدري «فمارت» من مار يمور إذا جاء وذهب
فهي بمعنى قراءة الجمهور أو هي من المرية كقراءة أبي
العالية ووزنه فاعلت وحذفت لامه للساكنين فَلَمَّا
أَثْقَلَتْ أي صارت ذات ثقل بكبر الحمل في بطنها فالهمزة
فيه للصيرورة كقولهم أتمر وألبن أي صار ذا تمر ولبن، وقيل:
إنها للدخول في زمان الفعل أي دخلت في زمان الثقل كأصبح
دخل في الصباح والأول أظهر، والمتبادر من الثقل معناه
الحقيقي، والتقابل بينه وبين المعنى الأول للخفة ظاهر، وقد
يراد به الكرب ليقابل الخفة بالمعنى الثاني لكن المتبادر
في الموضعين المعنى الحقيقي، وقرىء
(5/129)
«أثقلت» بالبناء للمفعول والهمزة للتعدية
أي أثقلها حملها دَعَوَا اللَّهَ أي آدم وحواء عليهما
السلام لما خافا عاقبة الأمر فاهتما به وتضرعا إليه عز وجل
رَبَّهُما أي مالك أمرهما الحقيق بأن يخص به الدعاء.
وفي هذا إشارة إلى أنهما قد صدرا به دعاءهما وهو المعهود
منهما في الدعاء، ومتعلق الدعاء محذوف لإيذان الجملة
القسمية به، أي دعواه تعالى أن يؤتيهما صالحا ووعدا
بمقابلته الشكر على سبيل التوكيد القسمي وقالا أو قائلين
لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً أي نسلا من جنسنا سويا، وقيل:
ولدا سليما من فساد الخلقة كنقص بعض الأعضاء ونحو ذلك
وعليه جماعة. وعن الحسن غلاما ذكرا وهو خلاف الظاهر
لَنَكُونَنَّ نحن أو نحن ونسلنا مِنَ الشَّاكِرِينَ
الراسخين في الشكر لك على إيتائك. وقيل: على نعائمك التي
من جملتها هذه النعمة.
وجوز أن يكون ضمير آتيتنا لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما
وليس بذلك فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً وهو ما سألاه أصالة من
النسل أو ما طلباه أصالة واستتباعا من الولد وولد الولد ما
تناسلوا جَعَلا أي النسل الصالح السوي، وثني الضمير
باعتبار أن ذلك النسل صنفان ذكر وأنثى وقد جاء أن حواء
كانت تلد في كل بطن كذلك لَهُ أي لله سبحانه وتعالى
شُرَكاءَ من الأصنام والأوثان فِيما آتاهُما من الأولاد
حيث أضافوا ذلك إليهم، والتعبير «بما» لأن هذه الإضافة عند
الولادة والأولاد إذ ذاك ملحقون بما لا يعقل.
وقيل: المراد بالموصول ما يعم سائر النعم فإن المشركين
ينسبون ذلك إلى آلهتهم، ووجه العدول عن الإضمار حيث لم يقل
شركاء فيه على الوجهين ظاهر، وإسناد الجعل للنسل على حد
بنو تميم قتلوا فلانا فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ تنزيه فيه معنى التعجب، والفاء لترتيبه على ما
فصل من قدرته سبحانه عز وجل وآثار نعمته الزاجرة عن الشرك
الداعية إلى التوحيد، وضمير الجمع لأولئك النسل الذين
جعلوا لله شركاء وفيه تغليب المذكر على المؤنث وإيذان بعظم
شركهم، والمراد بذلك إما التسمية أو مطلق الإشراك، و «ما»
إما مصدرية أي عن إشراكهم أو موصولة أو موصوفة أي عما
يشركون به تعالى، وهذه الآية عندي من المشكلات، وللعلماء
فيها كلام طويل ونزاع عريض وما ذكرناه هو الذي يشير إليه
كلام الجبائي وهو مما لا بأس به بعد أعضاء العين عن
مخالفته للمرويات سوى تثنية الضمير تارة وجمعه أخرى مع كون
المرجع مفردا لفظا ولم نجد ذلك في الفصيح.
واختار غير واحد أن في جعلا وآتاهما بعد مضافا محذوفا
وضمير التثنية فيهما لآدم وحواء على طرز ما قبل أي جعل
أولادهما فيما آتى أولادهما من الأولاد وإنما قدروه في
موضعين ولم يكتفوا بتقديره في الأول وإعادة الضمير من
الثاني على المقدر أولا لأن الحذف لم تقم عليه قرينة ظاهرة
فهو كالمعدوم فلا يحسن عود الضمير عليه، والمراد بالشرك
فيما آتى الأولاد تسمية كل واحد من أولادهم بنحو عبد العزى
وعبد شمس.
واعترض أولا بأن ما ذكر من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه
مقامه إنما يصار إليه فيما يكون للفعل ملابسة ما بالمضاف
إليه أيضا بسرايته إليه حقيقة أو حكما ويتضمن نسبته إليه
صورة مزية يقتضيها المقام كما في قوله تعالى: وَإِذْ
أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [الأعراف: 141] الآية
فإن الإنجاء منهم مع أن تعلقه حقيقة ليس إلا بأسلاف اليهود
وقد نسب إلى أخلاقهم بحكم سرايته إليهم توفية لمقام
الامتنان حقه وكذا يقال في نظائره وهنا ليس كذلك إذ لا ريب
في أن آدم وحواء عليهما السلام بريئان من سراية الجعل
المذكور إليهما بوجه من الوجوه فلا وجه لإسناده إليهما
صورة، وثانيا بأن اشراكهم بإضافة أولادهم بالعبودية إلى
أصنامهم من لازم اتخاذ تلك الأصنام آلهة
(5/130)
ومتفرع له لا أمر حدث عنهم لم يكن قبل
فينبغي أن يكون التوبيخ على هذا دون ذلك، وثالثا بأن اشراك
أولادهما لم يكن حين آتاهما الله تعالى صالحا بل بعده
بأزمنة متطاولة، ورابعا بأن اجراء جعلا على غير ما أجري
عليه الأول والتعقيب بالفاء يوجب اختلال النظم الكريم.
وأجيب عن الأول بأن وجه ذلك الإسناد الإيذان بتركهما
الأولى حيث أقدما على نظم أولادهما في سلك أنفسهما والتزما
شكرهم في ضمن شكرهما وأقسما على ذلك قبل تعرف أحوالهم
ببيان أن إخلالهم بالشكر الذي وعداه وعدا مؤكدا باليمين
بمنزلة إخلالهما بالذات في استيجاب الحنث والخلف مع ما فيه
من الإشعار بتضاعف جنايتهم ببيان أنهم بجعلهم المذكور
أوقعوهما في ورطة الحنث والخلف وجعلوهما كأنهما باشراه
بالذات فجمعوا بين الجناية مع الله تعالى والجناية عليهما
عليهما السلام، وعن الثاني بأن المقام يقتضي التوبيخ على
هذا لأنه لما ذكر ما أنعم سبحانه وتعالى به وعليهم من
الخلق من نفس واحدة وتناسلهم وبخهم على جهلهم وإضافتهم تلك
النعم إلى غير معطيها وإسنادها إلى من لا قدرة له على شيء
ولم يذكر أولا أمرا من أمور الألوهية قصدا حتى يوبخوا على
اتخاذ الآلهة، وعن الثالث بأن كلمة لما ليست للزمان
المتضايق بل الممتد فلا يلزم أن يقع الشرط والجزاء في يوم
واحد أو شهر أو سنة بل يختلف ذلك باختلاف الأمور كما يقال:
لما ظهر الإسلام طهرت البلاد من الكفر والإلحاد، وعن
الرابع بما حرره صاحب الكشف في اختيار هذا القول وإيثار
على القول بأن الشرك راجع لآدم وحواء عليهما السلام وليس
المتعارف بل ما نقل من تسمية الولد عبد الحارث وهو أن
الظاهر أن قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ واحِدَةٍ خطاب لأهل مكة وأنه بعد ما ختمت قصة
اليهود بما ختمت تسلية وتشجيعا للنبي صلّى الله عليه وسلّم
وحملا له على التثبت والصبر اقتداء بإخوته من أولي العزم
عليه وعليهم الصلاة والسلام لا سيما مصطفاه وكليمه موسى
عليه السلام فإن ما قاساه من بني إسرائيل كان شديد الشبه
بما كان يقاسيه صلّى الله عليه وسلّم من قريش وذيلت بما
يقتضي العطف على المعنى الذي سيق له الكلام أولا أعني قوله
سبحانه وتعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ
بِالْحَقِّ [الأعراف: 181] وقع التخلص إلى ذكر أهل مكة في
حاق موقعه فقيل: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ [الأعراف: 182] وذكر سؤالهم عما لا
يعنيهم فلما أريد بيان أن ذلك مما لا يهمكم وإنما المهم
إزالة ما أنتم عليه منغمسون فيه من أوضار الشرك والآثام
مهد له هو الذي خلقكم مضمنا معنى الامتنان والمالكية
المقتضيين للتوحيد والعبودية ثم قيل: فَلَمَّا آتاهُما
صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ أي جعلتم يا أولادهما ولقد
كان في أبويكم أسوة حسنة في قولها: لَئِنْ آتَيْتَنا
صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ وكأن المعنى
والله تعالى أعلم فلما آتاهما صالحا ووفيا بما وعدا به
ربهما من القيام بموجب الشكر خالفتم أنتم يا أولادهما
فأشركتم وكفرتم النعمة، وفي هذا الالتفات ثم إضافة فعلهم
إلى الأبوين على عكس ما جعل من خلق الأب وتصويره في معرض
الامتنان متعلقا بهم إيماء إلى غاية كفرانهم وتماديهم في
الغي، وعليه ينطبق قوله سبحانه: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ ثم قال: فظهر أن إجراء جعلا له على غير ما
أجري عليه الأول، والتعقيب بالفاء لا يوجب اختلال النظم بل
يوجب التئامه، والانصاف أن الأسئلة والآية على هذا الوجه
من قبيل اللغز، وعن الحسن وقتادة أن ضمير جعلا وآتاهما
يعود على النفس وزوجها من ولد آدم لا إلى آدم وحواء عليهما
السلام، وهو قول الأصم قال: ويكون المعنى في قوله سبحانه
وتعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ خلق كل واحد منكم
من نفس واحدة وخلق لكل نفس زوجا من جنسها فلما تغشى كل نفس
زوجها حملت حملا خفيفا وهو ماء الفحل فلما أثقلت بمصير ذلك
الماء لحما ودما وعظما دعا الرجل والمرأة ربهما لئن آتيتنا
صالحا أي ذكرا سويا لنكونن من الشاكرين وكانت عادتهم أن
يئدوا البنات فلما آتاهما أي فلما أعطى الله تعالى الأب
والأم ما سألاه جعلا له شركاء
(5/131)
فسميا عبد اللات وعبد العزى وغير ذلك ثم
رجعت الكناية في قوله سبحانه وتعالى: فَتَعالَى اللَّهُ
عَمَّا يُشْرِكُونَ إلى الجميع ولا تعلق للآية بآدم وحواء
عليهما السلام أصلا، ولا يخفى أن المتبادر من صدرها آدم
وحواء ولا يكاد يفهم غيرهما رأسا. نعم اختار ابن المنير ما
مآله هذا في الانتصاف وادعى أنه أقرب وأسلم مما تقدم وهو
أن يكون المراد جنسي الذكر والأنثى ولا يقصد معين
من ذلك ثم قال: وكأن المعنى والله تعالى أعلم هو الذي
خلقكم جنسا واحدا وجعل أزواجكم منكم أيضا لتسكنوا إليهن
فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر الجنس الذي هو الأنثى جرى
من هذين الجنسين كيت وكيت، وإنما نسب هذه المقالة إلى
الجنس وإن كان فيهم الموحدون لأن المشركين منهم فجاز أن
يضاف الكلام إلى الجنس على طريقة قتل بنو تميم فلانا وإنما
قتله بعضهم، ومثله قوله تعالى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ
أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مريم: 66]
وقُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ [عبس: 17] إلى غير ذلك
وتعقب بأن فيه اجراء جميع ألفاظ الآية على الأوجه البعيدة.
وعن أبي مسلم أن صدر الآية لآدم وحواء كما هو الظاهر إلا
أن حديثهما ما تضمنه قوله سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها
وانقطع الحديث ثم خص المشركين من أولاد آدم بالذكر، ويجوز
أن يذكر العموم ثم يخص البعض بالذكر، وهو كما ترى. وقيل:
يجوز أن يكون ضمير جعلا لآدم وحواء كما هو الظاهر والكلام
خارج مخرج الاستفهام الإنكاري والكناية في فَتَعالَى إلخ
للمشركين، وذلك أنهم كانوا يقولون: إن آدم عليه السلام كان
يعبد الأصنام ويشرك كما نشرك فرد عليهم بذلك ونظير هذا أن
ينعم رجل على آخر بوجوه كثيرة من الانعام ثم يقال لذلك
المنعم: إن الذي أنعمت عليه يقصد إيذاءك وإيصال الشر إليك
فيقول: فعلت في حقه كذا وكذا وأحسنت إليه بكذا وكذا ثم أنه
يقابلني بالشر والإساءة ومراده أنه بريء من ذلك ومنفي عنه.
وقيل: يحتمل أن يكون الخطاب في خَلَقَكُمْ لقريش وهم آل
قصي فإنهم خلقوا من نفس قصي وكان له زوج من جنسه عربية
قريشية وطلبا من الله تعالى الولد فأعطاهما أربعة بنين
فسمياهم عبد مناف وعبد شمس وعبد العزى وعبد الدار يعني بها
دار الندوة ويكون الضمير في يُشْرِكُونَ لهما ولأعقابهما
المقتدين بهما وأيد ذلك بقوله في قصة أم معبد:
فيا لقصيّ ما زوى الله عنكم ... به من فخار لا يبارى وسودد
واستبعد ذلك في الكشف بأن المخاطبين لم يخلقوا من نفس قصي
لا كلهم ولا جلهم وإنما هو مجتمع قريش وبأن القول بأن زوجه
قرشية خطأ لأنها إنما كانت بنت سيد مكة من خزاعة وقريش إذ
ذاك متفرقون ليسوا في مكة، وأيضا من أين العلم أنهما وعدا
عند الحمل أن يكونا شاكرين لله تبارك وتعالى ولا كفران أشد
من الكفر الذي كانا فيه.
وما مثل من فسر بذلك إلا كمن عمر قصرا فهدم مصرا، وأما
البيت فإنما خص فيه بنو قصي بالذكر لأنهم ألصق برسول الله
صلّى الله عليه وسلّم أو لأنه لما كان سيدهم وأميرهم شمل
ذكره الكل شمول فرعون لقومه ومعلوم أن الكل ليسوا من نسل
فرعون وأجيب عن قوله: من أين العلم إلخ بأنه من إعلام الله
تعالى إن كان ذلك هو معنى النظم، ومنه يعلم أن كون زوجته
غير قرشية في حيز المنع. نعم في كون قصي هو أحد أجداد
النبي صلّى الله عليه وسلّم كان مشركا مخالفة لما ذهب إليه
جمع من أن أجداده عليه الصلاة والسلام كلهم غير مشركين،
وقيل: إن ضمير له للولد، والمعنى أنهما طلبا من الله تعالى
أمثالا للولد الصالح الذي آتاهما، وقيل: هو لإبليس،
والمعنى جعلا لابليس شركاء في اسمه حيث سميا ولدهما بعبد
الحرث، وكلا القولين ردهما الآمدي في أبكار الأفكار، وهما
لعمري أوهن من بيت العنكبوت لكني ذكرتهما استيفاء للأقوال،
وذهب جماعة من السلف كابن عباس. ومجاهد. وسعيد بن المسيب
وغيرهم إلى أن ضمير جَعَلا يعود
(5/132)
لآدم وحواء عليهما السلام، والمراد بالشرك
بالنسبة إليهما غير المتبادل بل ما أشرنا إليه آنفا إلى
قوله سبحانه وتعالى:
فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تخلص إلى قصة العرب وإشراكهم
الأصنام فهو كما قال السدي من الموصول لفظا المفصول معنى،
ويوضح ذلك كما قيل تغيير الضمير إلى الجمع بعد التثنية ولو
كانت القصة واحدة لقيل يشركان، وكذلك الضمائر بعد، وأيد
ذلك بما
أخرجه أحمد. والترمذي وحسنه. والحاكم وصححه عن سمرة بن
جندب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم: «لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش
لها ولد فقال لها: سميه عبد الحرث فإنه يعيش فسمته بذلك
فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره وأراد بالحرث نفسه
فإنه كان يسمي به بين الملائكة»
ولا يعد هذا شركا بالحقيقة على ما قال القطب لأن اسماء
الأعلام لا تفيد مفهوماتها اللغوية لكن أطلق عليه الشرك
تغليظا وإيذانا بأن ما عليه أولئك السائلون عما لا يعنيهم
أمر عظيم لا يكاد يحيط بفظاعته عبارة.
وفي لباب التأويل أن إضافة عبد إلى الحارث على معنى أنه
كان سببا لسلامته وقد يطلق اسم العبد على ما لا يراد به
الملوك كقوله:
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا ولعل نسبة الجعل إليهما مع
أن الحديث ناطق بأن الجاعل حواء لا هي وآدم لكونه عليه
السلام أقرها على ذلك، وجاء في بعض الروايات التصريح
بأنهما سمياه بذلك. وتعقب هذا القول بعض المدققين بأن
الحديث لا يصلح تأييدا له لأنه لم يرد مفسرا للآية ولا
إنكارا لصدور ذلك منهما عليهما السلام فإنه ليس بشرك. نعم
كان الأولى بهما التنزه عن ذلك إنما المنكر حمل الآية على
ذلك مع ما فيه من العدول عن الظاهر لا سيما على قراءة
الأكثرين شُرَكاءَ بلفظ الجمع، ومن حمل فَتَعالَى إلخ على
أنه ابتداء كلام وهو راجع إلى المشركين من الكفار، والفاء
فصيحة، وكونه منقولا عن السلف معارض بأن غيره منقول أيضا
عن جمع منهم انتهى. وقد يقال: أخرج ابن جرير عن الحبر أنّ
الآية نزلت في تسمية آدم وحواء ولديهما بعبد الحرث، ومثل
ذلك لا يكاد يقال من قبل الرأي، وهو ظاهر في كون الخبر
تفسيرا للآية، وارتكاب خلاف الظاهر في تفسيرها مما لا مخلص
عنه كما لا يخفى على المنصف.
ووجه جمع الشركاء زيادة في التغليظ لأن من جوز الشرك جوز
الشركاء فلما جعلا شريكا فكأنهما جعلا شركاء، وحمل
فَتَعالَى اللَّهُ إلخ على الابتداء مما يستدعيه السباق
والسياق وبه وصرح كثير من أساطين الإسلام والذاهبون إلى
غير هذا الوجه نزر قليل بالنسبة إلى الذاهبين إليه وهم
دونهم أيضا في العلم والفضل وشتان ما بين دندنة النحل
وألحان معبد، ومن هنا قال العلامة الطيبي: إن هذا القول
أحسن الأقوال بل لا قول غيره ولا معول إلا عليه لأنه مقتبس
من مشكاة النبوة وحضرة الرسالة صلّى الله عليه وسلّم، وأنت
قد علمت مني أنه إذا صح الحديث فهو مذهبي وأراه قد صح
ولذلك أحجم كميت قلمي عن الجري في ميدان التأويل كما جرى
غيره والله تعالى الموفق للصواب وقرأ نافع وأبو بكر «شركا»
بصيغة المصدر أي شركة أو ذوي شركة وهم الشركاء
أَيُشْرِكُونَ به تعالى ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً أي ما لا
يقدر على أن يخلق شيئا من الأشياء أصلا ومن حق المعبود أن
يكون خالقا لعابده لا محالة وعنى «بما» الأصنام، وإرجاع
الضمير إليها مفردا لرعاية لفظها كما أن إرجاع ضمير الجمع
إليها من قوله سبحانه وتعالى: وَهُمْ يُخْلَقُونَ لرعاية
معناها وإيراد ضمير العقلاء مع أن الأصنام مما لا يعقل
إنما هو بحسب اعتقادهم فيها واجرائهم لها مجرى العقلاء
وتسميتهم لها آلهة.
والجملة عطف على لا يَخْلُقُ، والجمع بين الأمرين لإبانة
كمال منافاة حال ما أشركوه لما اعتقدوا فيه
(5/133)
واظهار غاية جهلهم، وعدم التعرض للخالق
للإيذان بتعينه والاستغناء عن ذكره تعالى وَلا
يَسْتَطِيعُونَ أي الأصنام لَهُمْ أي للمشركين الذين
عبدوهم نَصْراً أي نصرا ما إذا أحزنهم أمرهم وخطب ملم وَلا
أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ إذا اعتراهم حادثة من الحوادث أي
لا يدفعونها عن أنفسهم، وإيراد النصر للمشاكلة وهو مجاز في
لازم معناه وهذا لتأكيد العجز والاحتياج المنافيين
لاستحقاق الألوهية، ووصفوا فيما تقدم بالمخلوقية لكونهم
أهلا لها ولم يوصفوا هنا بالمنصورية لأنهم ليسوا أهلا لها.
وقوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا
يَتَّبِعُوكُمْ بيان لعجزهم عما هو أدنى من النصر المنفي
عنهم وأيسر وهو مجرد الدلالة على البغية والإرشاد إلى طريق
حصولها من غير أن تحصل للطالب. والخطاب للمشركين بطريق
الالتفات بدلالة ما بعد، وفيه إيذان بمزيد الاعتناء بأمر
التوبيخ والتبكيت، أي وإن تدعوا الأصنام أيها المشركون إلى
أن يرشدوكم إلى ما تحصلون به المطالب أو تنجون به عن
المكاره لا يتبعوكم إلى مرادكم ولا يجيبوكم ولا يقدرون على
ذلك. وقرأ نافع «يتبعوكم» بالتخفيف وقوله تعالى:
سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ
صامِتُونَ استئناف مقرر لمضمون ما قبله ومبين لكيفية عدم
الاتباع، أي مستو عليكم في عدم الافادة دعاؤكم لهم وسكوتكم
فإنه لا يتغير حالكم في الحالين كما لا يتغير حالهم بحكم
الجمادية، وكان الظاهر الإتيان بالفعل فيما بعد أَمْ لأن
ما في حيز همزة التسوية مؤول بالمصدر، لكنه عدل عن ذلك
للايذان بأن احداث الدعوة مقابل باستمرار الصمات، وفيه من
المبالغة ما لا يخفى، وقيل: إن الاسمية بمعنى الفعلية
وإنما عدل عنها لأنها رأس فاصلة وفيه أنه لو قيل تصمتون تم
المراد.
وقيل: إن ضمير «تدعوا» للنبي صلّى الله عليه وسلّم
والمؤمنين أو له عليه الصلاة والسلام وجمع للتعظيم، وضمير
المفعولين للمشركين، والمراد بالهدى دين الحق أي إن تدعوا
المشركين إلى الإسلام لا يتبعوكم أي لم يحصلوا ذلك منكم
ولم يتصفوا به، وتعقب بأنه مما لا يساعده سباق النظم
الكريم وسياقه أصلا على أنه لو كان كذلك لقيل عليهم مكان
عليكم كما في قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ
[البقرة: 6] فإن استواء الدعاء وعدمه إنما هو بالنسبة
للمشركين لا بالنسبة إلى الداعين فإنهم فائزون بفضل
الدعوة، ولعل رواية ذلك عن الحسن غير ثابتة، والطبرسي حاطب
ليل إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ تقرير لما قبله من عدم
اتباعهم لهم، والدعاء إما بمعنى العبادة تسمية لها بجزئها،
أو بمعنى التسمية كدعوته زيدا ومفعولان محذوفان أي إن
الذين تعبدونهم مِنْ دُونِ اللَّهِ أو تسمونهم آلهة من
دونه سبحانه وتعالى: عِبادٌ أَمْثالُكُمْ أي مماثلة لكم من
حيث إنها مملوكة لله تعالى مسخرة لأمره عاجزة عن النفع
والضر كما قال الأخفش، وتشبيهها بهم في ذلك مع كون عجزها
عنهما أظهر وأقوى من عجزهم إنما هو لاعترافهم بعجز أنفسهم
وزعمهم قدرتها عليهما إذ هو الذي يدعوهم إلى عبادتها
والاستعانة بها، وقيل: يحتمل أنهم لما نحتوا الأصنام بصور
الأناسي قال سبحانه لهم: إن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء
عقلاء أمثالكم فلا يستحقون عبادتكم كما لا يستحق بعضكم
عبادة بعض فتكون المثلية في الحيوانية والعقل على الفرض
والتقدير لكونهم بصورة الأحياء العقلاء، وقرأ سعيد بن جبير
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ بتخفيف إن ونصب عبادا أمثالكم،
وخرجها ابن جني على أن إن نافية عملت عمل ما الحجازية وهو
مذهب الكسائي وبعض الكوفيين. واعترض أولا بأنه لم يثبت مثل
ذلك، وثانيا بأنه يقتضي نفي كونهم عبادا أمثالهم، والقراءة
المشهورة تثبته فتتناقض القراءتان، وأجيب عن الأول بأن
القائل به يقول: إنه ثابت في كلام العرب كقوله:
إن هو مستوليا على أحد ... إلا على أضعف المجانين
(5/134)
وعن الثاني أنه لا تناقض لأن المشهورة تثبت
المثلية من بعض الوجوه وهذه تنفيها من كل الوجوه أو من وجه
آخر فإن الأصنام جمادات مثلا والداعين ليسوا بها، وقيل:
إنها إن المخففة من المثقلة وإنها على لغة من نصب بها
الجزئين كقوله:
إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن ... خطاك خفافا إن حراسنا
أسدا
في رأى ولا يخفى، أن إعمال المخففة ونصب جزئيها كلاهما
قليل ضعيف، ومن هنا إنهما مهملة وخبر المبتدأ محذوف وهو
الناصب لعبادا و «أمثالكم» على القراءتين نعت لعباد عليهما
أيضا، وقرىء «إنّ» بالتشديد و «عبادا» بالنصب على أنه حال
من العائد المحذوف وأَمْثالُكُمْ بالرفع على أنه خبر أن،
وقرىء به مرفوعا في قراءة التخفيف ونصب عِبادٌ وخرج ذلك
على الحالية والخبرية أيضا فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا
لَكُمْ تحقيق لمضمون ما قبله بتعجيزهم وتبكيتهم أي فادعوهم
في رفع ضر أو جلب نفع إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في زعمكم
أنهم قادرون على ما أنتم عاجزون عنه، وقوله تعالى:
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها إلخ تبكيت أثر مؤكد لما
يفيده الأمر التعجيزي من عدم الاستجابة ببيان فقدان آلاتها
بالكلية، وقيل: إنه على الاحتمال الأول في المماثلة كر على
المثلية بالنقض لأنهم أدون منهم، وعبادة الشخص من هو مثله
لا تليق فكيف من هو دونه، وعلى الاحتمال الثاني فيها عود
على الفرض المبني عليه المثلية بالابطال، وعلى قراءة
التخفيف وإرادة النفي تقرير لنفي المماثلة بإثبات القصور
والنقصان، ووجه الإنكار إلى كل واحد من تلك الآلات الأربع
على حدة تكريرا للتبكيت وتثنية للتقريع واشعارا بأن انتقاء
كل واحدة منها بحيالها كاف في الدلالة على استحالة
الاستجابة وليس المراد أن من لم يكن له هذه لا يستحق
الألوهية وإنما يستحقها من كانت له ليلزم اما نفي استحقاق
الله تبارك وتعالى لها أو اثبات ذلك له كما ذهب إليه بعض
المجسمة واستبدل بالآية عليه بل مجرد اثبات العجز، ومن ذلك
يعلم نفي الاستحقاق ووصفه الأرجل بالمشي بها للايذان بأن
مدار الإنكار هو الوصف وإنما وجه إلى الأرجل لا إلى الوصف
بأن يقال: أيمشون بأرجلهم لتحقيق أنها حيث لم يظهر منها ما
يظهر من سائر الأرجل فهي ليست بأرجل في الحقيقة، وكذا
الكلام فيما بعد من الجوارح الثلاثة الباقية، وكلمة أَمْ
في قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها
منقطعة وما فيها من الهمزة لما مر من التبكيت، وبل للاضراب
المفيد للانتقال من فن منه بعد تمامه إلى آخر منه مما
تقدم، والبطش الأخذ بقوة.
وقرأ أبو جعفر «يبطشون» بضم الطاء وهو لغة فيه، والمعنى بل
ألهم أيد يأخذون بها ما يريدون أو يدفعون بها عنكم، وتأخير
هذا عما قبله كما قال شيخ الإسلام لما أن المشي حالهم في
أنفسهم والبطش حالهم بالنسبة إلى الغير، وأما تقديم ذلك
على قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها
أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها مع أن الكل سواء في
أنها من أحوالهم بالنسبة إلى الغير فلمراعاة المقابلة بين
الأيدي والأرجل ولأن انتفاء المشي والبطش أظهر والتبكيت به
أقوى، وأما تقديم الأعين على الآذان فلأنها أشهر منها
وأظهر عينا وأثرا، وكون الإبصار بالعين والسماع بالأذن جار
على الظاهر المتعارف. واستدل بالآية من قال: إن الله تعالى
أودع في بعض الأشياء قوة بها تؤثر إذا أذن الله تعالى لها
خلافا لمن قال: إن التأثير عندها لابها. وزعم أن ذلك القول
قريب إلى الكفر وليس كما زعم بل هو الحق الحقيق بالقبول
قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أمر له صلّى الله عليه وسلّم
بأن يناصبهم المحاجة ويكرر عليهم التبكيت بعد أن بين
شركاءهم لا يقدرون على شيء أصلا، أي ادعوا شركاءكم
واستعينوا بهم علي ثُمَّ كِيدُونِ جميعا أنتم وشركاؤكم
وبالغوا في ترتيب ما تقدرون عليه من المكر والكيد فَلا
تُنْظِرُونِ فلا تمهلوني ساعة بعد ترتيب مقدمات الكيد فإني
لا أبالي بكم أصلا، وياء المتكلم في الفعلين مما لم
يثبتوها خطا، وقرأ أبو عمرو وبإثبات ياء كيدون وصلا وحذفها
وقفا، وهشام بإثباتها
(5/135)
في الحالين والباقون بحذفها فيهما. وفي
[هود: 55] فَكِيدُونِي جَمِيعاً بإثبات الياء مطلقا عند
الجميع، وأما ياء فَلا تُنْظِرُونِ فقد قال الأجهوري: إنهم
حذفوها لا غير إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ
الْكِتابَ تعليل لعدم المبالاة المنفهم من السوق انفهاما
جليا، وأل في الكتاب للعهد والمراد منه القرآن، ووصفه
سبحانه بتنزيل الكتاب للإشعار بدليل الولاية، وكأنه وضع
نزل الكتاب موضع أرسلني رسولا ولا شك أن الإرسال يقتضي
الولاية والنصرة، وقيل: إن في ذلك إشارة إلى علة أخرى لعدم
المبالاة كأنه قيل: لا أبالي بكم وبشركائكم لأن وليي هو
الله تعالى الذي نزل الكتاب الناطق بأنه وليي وناصري وبأن
شركاءكم لا يستطيعون نصر أنفسهم فضلا عن نصركم، وقوله
سبحانه وتعالى:
وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ تذييل مقرر لمضمون ما
قبله، أي ومن عادته جل شأنه أن ينصر الصالحين من عباده ولا
يخذلهم وقال الطيبي: إنما خص اسم الذات بتنزيل الكتاب
وجعلت الآية تعليلا للدلالة على تفخيم أمر المنزل وأنه
الفارق بين الحق والباطل وأنه المجلي لظلمات الشرك والمفحم
لألسن أرباب البيان والمعجز الباقي في كل أوان وهو النور
المبين والحبل المتين وبه أصلح الله تعالى شؤون رسوله صلّى
الله عليه وسلّم حيث كمل به خلقه وأقام به أوده وأفسد به
الأباطيل المعطلة، ومن ثم جيء بقوله سبحانه وتعالى: وَهُوَ
إلخ كالتذييل والتقرير لما سبق والتعريض بمن فقد الصلاح
بالخذلان والمحق. والمعنى إن وليي الذي نزل الكتاب المشهور
الذي تعرفون حقيقته ومثله يتولى الصالحين ويخذل غيرهم، ولا
يخفى أن ما ذكر أولا في أمر الوصفية أنسب بالمقام وأمر
التذييل مما لامرية فيه، وهذه الآية مما جربت المداومة
عليها للحفظ من الأعداء وكانت ورد الوالد عليه الرحمة في
الاسحار وقد أمره بذلك بعض الأكابر في المنام، والجمهور
على تشديد الياء الأولى من وَلِيِّيَ وفتح الثانية ويقرأ
بحذفها في اللفظ لسكونها وسكون ما بعدها، وبفتح الأولى ولا
ياء بعدها وحذف الثانية من اللفظ تخفيفا.
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي تعبدونهم أو
تدعونهم من دونه سبحانه وتعالى للاستعانة بهم على حسبما
أمرتكم به لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ في أمر من الأمور
ويدخل في ذلك الأمر المذكور دخولا أوليا، وجوز الاقتصار
عليه وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ إذا أصيبوا بحادثة
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى أي إلى أن يهدوكم إلى ما
تحصلون به مقاصدكم مطلقا أو في خصوص الكيد المعهود لا
يَسْمَعُوا أي دعاءكم فضلا عن المساعدة والإمداد، وهذا
أبلغ من نفي الإتباع، وحمل السماع على القبول كما في سمع
الله لمن حمده كما زعمه بعضهم ليس بشيء، وقوله سبحانه
وتعالى: وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا
يُبْصِرُونَ بيان لعجزهم عن الإبصار بعد بيان عجزهم عن
السمع، وبهذا على ما قيل تم التعليل لعدم المبالاة فلا
تكرار أصلا، وقال الواحدي: إن ما مر للفرق بين من تجوز
عبادته وغيره، وهذا جواب ورد لتخويفهم له صلّى الله عليه
وسلّم بآلهتهم، والرؤية بصرية، وجملة ينظرون في موضع الحال
من المفعول الراجع للأصنام، والجملة الاسمية حال من فاعل
ينظرون، والخطاب لكل واحد من المشركين، والمعنى وترى
الأصنام رأي العين يشبهون الناظر إليك لك أنهم يبصرون لما
أنهم صنع لهم أعين مركبة بالجواهر المتلألئة وصورت بصورة
من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه والحال أنهم غير قادرين
على الإبصار، وتوجيه الخطاب إلى كل واحد من المشركين دون
الكل من حيث هو كل كالخطابات السابقة للإيذان بأن رؤية
الأصنام على الهيئة المذكورة لا يتسنى للكل معا بل لكل من
يواجهها.
وذهب غير واحد إلى أن الخطاب في تَراهُمْ لكل واقف عليه،
وقيل للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وضمير الغيبة على حاله
أو للمشركين على أن التعليل قد تم عند قوله تعالى: لا
يَسْمَعُوا أي وترى المشركين ناظرين إليك والحال أنهم لا
يبصرونك كما أنت عليه أو لا يبصرون الحجة كما قال السدي،
ومجاهد. ونقل عن الحسن أن الخطاب في وَإِنْ
(5/136)
تَدْعُوهُمْ
للمؤمنين على أن التعليل قد تم عند قوله سبحانه وتعالى:
يَنْصُرُونَ أي وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى
الإسلام لا يلتفتوا إليكم ولا يقبلوا منكم، وعلى هذا يحسن
تفسير السماع بالقبول، وجعل وَتَراهُمْ خطابا لسيد
المخاطبين بطريق التجريد، وفي الكلام تنبيه على أن ما فيه
عليه الصلاة والسلام من شواهد النبوة ودلائل الرسالة من
الجلاء بحيث لا يكاد يخفى على الناظرين.
وجوز بعضهم أن تكون الرؤية علمية وما كان في موضع الحال
يكون في موضع المفعول الثاني والأول أولى.
خُذِ الْعَفْوَ أي
ما عفا وسهل وتيسر من أخلاق الناس، وإلى هذا ذهب ابن عمر
وابن الزبير وعائشة ومجاهد رضي الله تعالى عنهم وغيرهم،
وأخرجه ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن آدم مرفوعا إلى رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم،
والأخذ مجاز عن القبول والرضا، أي ارض من الناس بما تيسر
من أعمالهم وما أتى منهم وتسهل من غير كلفة ولا تطلب منهم
الجهد وما يشق عليهم حتى لا ينفروا، ومن ذلك قوله:
خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سورتي حين
أغضب
وجوز أن يراد بالعفو ظاهره أي خذ العفو عن المذنبين
والمراد اعف عنهم، وفيه استعارة مكنية إذ شبه العفو بأمر
محسوس يطلب فيؤخذ، وإلى هذا جمع من السلف، ويشهد له ما
أخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال: لما
أنزل الله تعالى خُذِ الْعَفْوَ إلى آخره قال رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم: ما هذا يا جبريل؟ قال: لا أدري حتى
أسأل العالم فذهب ثم رجع فقال: إن الله تعالى أمرك أن تعفو
عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك.
وأخرج ابن مردويه عن جابر نحو ذلك، ولعل زبدة الحديث مفسرة
لزبدة الآية وإلا فالتطبيق مشكل كما لا يخفى. وتكلف القطب
لتطبيق ألفاظه على ألفاظها وفيه خفاء. وعن ابن عباس المراد
بالعفو ما عفي من أموال الناس، أي خذ أي شيء أتوك به وكان
هذا قبل فرض الزكاة، وقيل: العفو ما فضل عن النفقة من
المال وبذلك فسره الجوهري وإليه ذهب السدي. فقد أخرج أبو
الشيخ عنه أنه قال: نزلت هذه الآية فكان الرجل يمسك من
ماله ما يكفيه ويتصدق بالفضل فنسخها الله تعالى بالزكاة
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي بالمعروف المستحسن من الأفعال فإن
ذلك أقرب إلى قبول الناس من غير نكير، وفي لباب التأويل أن
المراد وأمر بكل ما أمرك الله تعالى به وعرفته بالوحي.
وقال عطاء:
المراد بالعرف كلمة لا إله إلا الله وهو تخصيص من غير داع
وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أي ولا تكافئ السفهاء بمثل
سفههم ولا تمارهم واحلم عليهم وأغض بما يسوءك منهم. وعن
السدي أن هذا أمر بالكف عن القتال ثم نسخ بآيته، ولا ضرورة
إلى دعوى النسخ في الآية كما لا يخفى على المتدبر، وقد ذكر
غير واحد أنه ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من
هذه الآية.
وزبدتها كما قالوا تحري حسن المعاشرة مع الناس وتوخي بذل
المجهود في الإحسان إليهم والمداراة منهم والإغضاء عن
مساويهم وجعلوا نحو ذلك زبدة الخبر إلا أن القرآن مادته
عامة ومادته خاصة وقد علم كل أناس مشربهم، ولا يخفى حسن
موقع هذا الأمر بعد ما عد من أباطيل المشركين وقبائحهم ما
لا يطاق حمله، وإذا قيل: بأن الجاهلين موضوع موضع ضمير
أولئك المشركين حيث إن الكلام فيهم تسجيلا عليهم بعدم
الارعواء وإقناطا كليا منهم التأمت أطراف الكلام غاية
الالتئام، هذا
وعن ابن زيد أنه لما نزل قوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجاهِلِينَ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كيف يا
رب والغضب؟ فنزل قوله سبحانه وتعالى: وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ
النزغ والنسغ والنخس بمعنى وهو إدخال الإبرة أو طرف العصا
أو ما يشبه ذلك في الجلد، وعن ابن زيد أنه يقال: نزغت ما
بين القوم إذا أفسدت ما بينهم، وقال الزجاج، هو أدنى حركة
تكون، ومن الشيطان وسوسته، والمعنى الأول هو المشهور،
(5/137)
وإطلاقه على وسوسة الشيطان مجاز حيث شبه
وسوسته إغراء للناس على المعاصي وإزعاجا بغرز السائق ما
يسوقه، وإسناد الفعل إلى المصدر مجازي كما في جد جده،
وقيل: النزغ بمعنى النازغ فالتجوز في الطرف، والأول أبلغ
وأولى، أي إما يحملنك من جهة الشيطان وسوسة ما على خلاف ما
أمرت به من اعتراء غضب أو نحوه فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
فاستجربه والتجئ إليه سبحانه وتعالى في دفعه عنك إِنَّهُ
سَمِيعٌ يسمع على أكمل وجه استعاذتك قولا عَلِيمٌ يعلم
كذلك تضرعك إليه قلبا في ضمن القول أو بدونه فيعصمك من
شره، أو سميع أي مجيب دعاءك بالاستعاذة عليم بما فيه صلاح
أمرك فيحملك عليه، أو سميع بأقوال من آذاك عليم بأفعاله
فيجازيه عليها. والآية على ما نص عليه بعض المحققين من باب
لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] فلا
حجة فيها لمن زعم عدم عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
من وسوسة الشيطان وارتكاب المعاصي.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن
وقرينه من الملائكة قالوا: وإياك يا رسول الله قال: وإياي
إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير»
،
وقال آخرون: إن نزغ الشيطان بالنسبة إليه صلّى الله عليه
وسلّم مجاز عن اعتراء الغضب المقلق للنفس، وفي الآية حينئذ
زيادة تنفير عن الغضب وفرط تحذير عن العمل بموجبه، ولذا
كرر صلّى الله عليه وسلّم النهي عنه كما جاء في الحديث،
وفي الأمر بالاستعاذة بالله تعالى تهويل لذلك وتنبيه على
أنه من الغوائل التي لا يتخلص من مضرتها إلا بالالتجاء إلى
حرم عصمته عز وجل إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا استئناف مقرر
لما قبله من الأمر ببيان أن الاستعاذة سنة مسلوكة للمتقين
والإخلال بها شنشنة الغاوين، أي إن الذين اتصفوا بتقوى
الله تعالى إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ أي لمة
منه كما روي عن ابن عباس، وتنوينه للتحقير، والمراد وسوسة
ما، وهو اسم فاعل من طاف بالشيء إذا دار حوله، وجعل
الوسوسة طائفا للايذان بأنها وإن مست لا تؤثر فيهم فكأنها
طافت حولهم ولم تصل إليهم.
وجوز أن يكون من طاف طيف الخيال إذا ألم في المنام فالمراد
به الخاطر. وذهب غير واحد إلى أن المراد بالطائف الغضب.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والمراد بالشيطان الجنس لا إبليس
فقط ولذا جمع ضميره فيما سيأتي تَذَكَّرُوا أي ما أمر الله
تعالى به ونهى عنه، أو الاستعاذة به تعالى والالتجاء إليه
سبحانه وتعالى، أو عداوة الشيطان وكيده فَإِذا هُمْ بسبب
ذلك التذكر مُبْصِرُونَ مواقع الخطأ ومناهج الرشد فيحترزون
عما يخالف أمر الله تعالى وينجون عما لا يرضيه سبحانه
وتعالى، الظاهر أن المراد من الموصول من اتصف بعنوان الصلة
مطلقا، وقال بعض المحققين: إن الخطاب في قوله سبحانه
وتعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ إلخ إما أن يكون مختصا
برسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما هو الظاهر فالمناسب
أن يراد بالمتقين المرسلون من أولي العزم، أو يكون عاما
على طريقة «بشر المشائين إلى المساجد بالنور التام يوم
القيامة» ، أو خاصا يراد به العام نحو يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: 1]
فالمتقون حينئذ الصالحون من عباد الله تعالى انتهى. ولا
يخفى أن الملازمة في الشرطية الأولى في حيز المنع والعموم
هو المتبادر على كل حال، وزعم بعضهم أن المراد بالمتقين
المنسوب إليهم المس غير الأنبياء عليهم السلام، وجعل
الخطاب فيما سبق خاصا بالسيد الأعظم صلّى الله عليه وسلّم
وادعى أن النزغ أول الوسوسة والمس لا يكون إلا بعد التمكن،
ثم قال: ولذا فصل الله سبحانه وتعالى بين النبي عليه
الصلاة والسلام وغيره من سائر المتقين فعبر في حقه عليه
الصلاة والسلام بالنزغ وفي حقهم بالمس، وقد يقال: إن
اهتمام الشيطان في الوسوسة للكامل أكمل من اهتمامه في
الوسوسة لمن دونه فلذا عبر أولا بالنزغ وثانيا بالمس
وَإِخْوانُهُمْ أي إخوان الشياطين الذين لم يتقوا وذلك
معنى الأخوة بينهم، وهو مبتدأ وقوله سبحانه وتعالى:
يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ خبره، والضمير المرفوع
للشياطين والمنصوب للمبتدأ، أي تعاونهم
(5/138)
الشياطين في الضلال وذلك بأن يزينوه لهم
ويحملوهم عليه، والخبر على هذا جار على غير من هو له وفي
أنه هل يجب إبراز الضمير أولا يجب في مثل ذلك خلاف بين أهل
القريتين كالصفة المختلف فيها بينهم، وقيل: إن الضمير
الأول للإخوان والثاني للشياطين، والمعنى وأخوان الشياطين
يمدون الشياطين بالاتباع والامتثال، وعلى هذا يكون الخبر
جاريا على من هو له، والجار والمجرور متعلق بما عنده، وجوز
أن يكون في موضع الحال من الفاعل أو من المفعول.
وقرأ نافع «يمدّونهم» بضم الياء وكسر الميم من الامداد
والجمهور على فتح الياء وضم الميم.
قال أبو علي في الحجة بعد نقل ذكر ذلك: وعامة ما جاء في
التنزيل مما يحمد ويستحب أمددت على أفعلت كقوله تعالى:
أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ [المؤمنون:
55] وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ [الطور: 22] وأَ
تُمِدُّونَنِ بِمالٍ [النمل: 36] وما كان بخلافه على مددت
قال تعالى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ
[البقرة: 15] وهكذا يتكلمون بما يدل على أن الوجه فتح
الياء كما ذهب إليه الأكثر، ووجه قراءة نافع أنه مثل
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الانشقاق: 24]
وفَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى [الليل: 10] وقرأ الجحدري
«يمادونهم» من باب المفاعلة وهي هنا مجازية كأنهم كان
الشياطين يعينونهم بالإغراء وتهوين المعاصي عليهم وهؤلاء
يعينون الشياطين بالاتباع والامتثال ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ
أي لا يمسكون ولا يكفون عن إغوائهم حتى يردوهم بالكلية فهو
من أقصر إذا أقلع وأمسك كما في قوله:
سما لك شوق بعد ما كان أقصرا وجوز أن يكون الضمير للإخوان
وروي ذلك عن ابن عباس والسدي وإليه ذهب الجبائي، أي ثم لا
يكف هؤلاء عن الغي ولا يقصرون كالمتقين، وجوز أيضا أن يراد
بالإخوان الشياطين وضمير الجمع المضاف إليه أولا والمفعول
ثانيا والفاعل ثالثا يعود إلى الجاهلين في قوله سبحانه
وتعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أي وإخوان الجاهلين
وهم الشياطين يمدون الجاهلين في الغي ثم لا يقصر الجاهلون
عن ذلك، والخبر على هذا أيضا جار على ما هو له كما في بعض
الأوجه السابقة والأول أولى رعاية للمقابلة. وقرأ عيسى بن
عمر «يقصرون» بفتح الياء وضم الصاد من قصر وهو مجاز عن
الإمساك أيضا وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ من القرآن
عند تراخي الوحي كما روي عن مجاهد وقتادة والزجاج، أو بآية
مقترحة كما روي عن ابن عباس والجبائي وأبي مسلم قالُوا
لَوْلا اجْتَبَيْتَها أي هلا جمعتها ولفقتها من عند نفسك
افتراء، أو هلا أخذتها من الله تعالى بطلب منه، وهو تهكم
منهم لعنهم الله تعالى، ومما ذكرنا يعلم أن لا جتبى معنيين
جمع وأخذ ويختلف المراد حسب الاختلاف في تفسير الآية، وعن
علي بن عيسى أن الاجتباء في الأصل الاستخراج ومنه جباية
الخراج، وقيل: أصله الجمع من جبيت الماء في الحوض جمعته،
ومنه قيل للحوض جابية لجمعه الماء، وإلى هذا ذهب الراغب،
وفي الدار المصون جبي الشيء جمعه مختارا ولذا غلب اجتبيته
بمعنى اخترته.
وقال الفراء يقال اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا
افتعلته من قبل نفسك وكذا اخترعته عند أبي عبيدة، وقال ابن
زيد: هذه الأحرف تقولها العرب للكلام يبتديه الرجل لم يكن
أعده قبل ذلك في نفسه، ومن جعل الأصل شيئا لا ينكر
الاستعمال في الآخر مجارا لا يخفى قُلْ ردا عليهم إِنَّما
أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي من غير أن يكون لي
دخل ما في ذلك أصلا على معنى تخصيص حاله عليه الصلاة
والسلام باتباع ما يوحى إليه بتوجيه القصر إلى نفس الفعل
بالنسبة إلى مقابله الذي كلفوه إياه عليه الصلاة والسلام
لا على معنى تخصيص اتباعه صلّى الله عليه وسلّم بما يوحى
إليه بتوجيه القصر بالقياس إلى مفعول آخر كما هو الشائع في
موارد الاستعمال كأنه قيل: ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي
منه تعالى دون الاختلاف والاقتراح، وفي التعرض لعنوان
الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا
(5/139)
يخفى هذا إشارة إلى القرآن الجليل المدلول
عليه بما يوحى إليّ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ أي بمنزلة
البصائر للقلوب بها تبصر الحق وتدرك الصواب، أو حجج بينة
وبراهين نيرة تغني عن غيرها فالكلام خارج مخرج التشبيه
البليغ، وقد حققت ما فيه على الوجه الأتم في الطراز
المذهب، أو فيه مجاز مرسل حيث أطلق المسبب على السبب، وجوز
أن تكون البصائر مستعارة لإرشاد القرآن الخلق إلى إدراك
الحقائق، وهذا مبتدأ وبصائر خبره، وجمع خبر المفرد
لاشتماله على آيات وسور جعل كل منها بصيرة، ومِنْ متعلقة
بمحذوف وقع صفة لبصائر مفيدة لفخامتها أي بصائر كائنة منه
تعالى، والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم
لتأكيد وجوب الإيمان بها، وقوله سبحانه وتعالى:
وَهُدىً وَرَحْمَةٌ عطف على بصائر، وتنوينهما للتفخيم،
وتقديم الظرف عليهما وتعقيبهما بقوله تعالى: لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ كما قال شيخ الإسلام للإيذان بأن كون القرآن
بصائر متحقق بالنسبة إلى الكل وبه تقوم الحجة على الجميع،
وأما كونه هدى ورحمة فمختص بالمؤمنين إذ هم المقتبسون من
أنواره والمقتطفون من نواره، وهذا مخالف لما يفهمه كلام
البعض من أن الثلاثة للمؤمنين، فقد قال النيسابوري في
التفسير: إن البصائر لأصحاب عين اليقين والهدى لأرباب علم
اليقين والرحمة لغيرهم من الصالحين المقلدين على أتم وجه
والجميع لقوم يؤمنون، وذكر نحو ذلك الخازن وادعى أنه من
اللطائف وهو خلاف الظاهر بل لا يكاد يسلم، وهذه الجملة على
ما يظهر من تمام القول المأمور به.
واحتج بالآية من لم يجوز الاجتهاد للنبي صلّى الله عليه
وسلّم وفيه نظر وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا
لَهُ وَأَنْصِتُوا إرشاد إلى طريق الفوز بما أشير إليه من
المنافع الجليلة التي ينطوي عليها القرآن، والاستماع
معروف، واللام جوز أن تكون أجلية وأن تكون بمعنى إلى وأن
تكون صلة، أي فاستمعوه، والإنصات السكوت يقال: نصت ينصت
وأنصت وانتصت إذا سكت والاسم النصتة بالضم، ويقال كما قال
الأزهري: أنصته وأنصت له إذا سكت له واستمع لحديثه، وجاء
أنصته إذا أسكته، والعطف للاهتمام بأمر القرآن، وعلل الأمر
بقوله سبحانه وتعالى: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي
تفوزوا بالرحمة التي هي أقصى ثمراته، والآية دليل لأبي
حنيفة رضي الله تعالى عنه في أن المأموم لا يقرأ في سرية
ولا جهرية لأنها تقتضي وجوب الاستماع عند قراءة القرآن في
الصلاة وغيرها، وقد قام الدليل في غيرها على جواز الاستماع
وتركه فبقي فيها على حاله في الإنصات للجهر وكذا في
الإخفاء لعلمنا بأنه يقرأ، ويؤيد ذلك أخبار جمة، فقد أخرج
عبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن مجاهد قال:
قرأ رجل من الأنصار خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في
الصلاة فنزلت وإذا قرىء القرآن إلخ.
وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن مسعود أنه صلى بأصحابه فسمع
أناسا يقرؤون خلفه فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفهموا
أما آن لكم أن تعقلوا وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا كما أمركم الله تعالى
وأخرج ابن أبي شيبة عن زيد بن ثابت قال: لا قراءة خلف
الإمام.
وأخرج أيضا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا
قرأ فأنصتوا»
وأخرج أيضا عن جابر «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
من كان له إمام فقراءته له قراءة»
وهذا الحديث إذا صح وجب أن يخص عموم قوله تعالى:
فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ [المزمل: 20]
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة إلا بقراءة»
على طريقة الخصم مطلقا فيخرج المقتدي وعلى طريقتنا أيضا
لأن ذلك العموم قد خص منه البعض وهو المدرك في الركوع
إجماعا فجاز التخصيص بعده بالمقتدي بالحديث المذكور، وكذا
يحمل
قوله عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: «فكبر ثم اقرأ ما
تيسر معك من القرآن»
على غير حالة الاقتداء جمعا بين الأدلة، بل قد يقال: إن
القراءة ثابتة من المقتدي شرعا فإن قراءة الإمام له فلو
قرأ لكان له قراءتان في صلاة واحدة وهو غير مشروع.
بقي الكلام في تصحيح الخبر، وقد روي من طرق عديدة مرفوعا
عن جابر رضي الله تعالى عنه عليه الصلاة والسلام
(5/140)
وقد ضعف. واعترف المضعفون لرفعه كالدارقطني
والبيهقي وابن عدي بأن الصحيح أنه مرسل لأن الحفّاظ
كالسفيانين وأبي الأحوص وشعبة وإسرائيل وشريك وجرير وأبي
الزبير وعبد بن حميد وخلق آخرين رووه عن موسى بن أبي عائشة
عن عبد الله بن شداد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم
فأرسلوه، وقد أرسله مرة أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه،
وحينئذ لنا أن نقول المرسل حجة عند أكثر أهل العلم فيكفينا
فيما يرجع إلى العمل على رأينا وعلى طريق الإلزام أيضا
بإقامة الدليل على حجية المرسل أيضا، وعلى تقدير التنزل عن
حجيته فقد رفعه الإمام بسند صحيح.
وروى محمد بن الحسن في موطئه قال: أنبأنا أبو حنيفة أبو
الحسن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر بن
عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صلى خلف
إمام فإن قراءة الإمام له قراءة»
وقولهم: إن الحفاظ الذين عدوهم لم يرفعوه غير صحيح.
فقد قال أحمد بن منيع في مسنده: أخبرنا إسحاق الأزرق حدثنا
سفيان. وشريك عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن
جابر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من كان له إمام
فقراءة الإمام له قراءة» .
ثم قال وحدثنا جرير عن موسى عن عبد الله عن النبي صلّى
الله عليه وسلّم- فذكره ولم يذكر جابرا- ورواه عبد بن حميد
قال: حدثنا أبو نعيم حدثنا الحسن بن صالح عن أبي الزبير عن
جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكره، وإسناد حديث
جابر الأول على شرط الشيخين والثاني على شرط مسلم، فهؤلاء
سفيان وشريك وجرير وأبو الزبير رفعوه بالطرق الصحيحة فبطل
عدهم فيمن لم يرفعه، ولو تفرد الثقة وجب قبوله لأن الرفع
زيادة وزيادة الثقة مقبولة فكيف ولم ينفرد، والثقة قد يسند
الحديث تارة ويرسله أخرى. وأخرجه ابن عدي عن الإمام رضي
الله تعالى عنه في ترجمته وذكر فيها قصة وبها
أخرجه أبو عبد الله الحاكم قال: حدثنا أبو محمد بن بكر بن
محمد بن حمدان الصيرفي حدثنا عبد الصمد بن الفضل البلخي
حدثنا مكي بن إبراهيم عن أبي حنيفة عن موسى بن أبي عائشة
عن عبد الله بن شداد بن الهاد عن جابر بن عبد الله «إن
النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى ورجل خلفه يقرأ فجعل رجل
من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ينهاه عن القراءة في
الصلاة فلما انصرف أقبل عليه الرجل قال: أتنهاني عن
القراءة خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتنازعا حتى
ذكرا ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى الله عليه وسلّم
فقال صلّى الله عليه وسلّم: «من صلى خلف إمام فإن قراءة
الإمام له قراءة» .
وفي رواية لأبي حنيفة «إن ذلك كان في الظهر أو العصر» وهي
أن رجلا قرأ خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الظهر
أو العصر فأومأ إليه فنهاه فلما انصرف قال: أتنهاني
الحديث. نعم إن جابرا روى منه محل الحكم فقط تارة والمجموع
تارة ويتضمن رد القراءة خلف الإمام لأنه خرج تأييدا لنهي
ذلك الصحابي عنها مطلقا في السرية والجهرية خصوصا في رواية
أبي حنيفة أن القصة كانت في السرية لا إباحة فعلها وتركها
فيعارض ما روي في بعض روايات
حديث «ما لي أنازع في القرآن»
أنه قال: إنه لا بد (1) ففي الفاتحة، وكذا ما
رواه أبو داود والترمذي عن عبادة بن الصامت قال: كنا خلف
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في صلاة الفجر فقرأ رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ
قال: لعلكم تقرءون خلف إمامكم، قلنا: نعم هذا، قال: لا
تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها
ويقدم لتقدم المنع على الإطلاق عند التعارض ولقوة السند
فإن حديث المنع أصح فبطل رد المتعصبين، وتضعيف بعضهم لمثل
الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه مع تضييقه في الرواية
إلى الغاية حتى إنه شرط التذكر لجوازها بعد علم الراوي أن
ذلك المروي خطه، ولم يشترط الحفاظ هذا ولم يوافقه صاحباه
على أن الخبر قد عضد بروايات كثيرة عن جابر غير هذه وإن
ضعفت وبمذاهب الصحابة أيضا كابن عباس وابن عمر وزيد بن
ثابت وابن مسعود.
__________
(1) قوله إنه لا بد إلخ كذا بخطه وحرر اهـ
(5/141)
وأخرج محمد عن داود بن قيس بن عجلان أن عمر
رضي الله تعالى عنه قال: ليت في فم الذي يقرأ خلف الإمام
حجرا، وروي مثل ذلك عن سعد بن أبي وقاص،
وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه إلا أن فيه مقالا أنه
قال: من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة،
وقال الشعبي: أدركت سبعين بدريا كلهم يمنعون المقتدي عن
القراءة خلف الإمام، وقد ادعى بعض أصحابنا اجماع الصحابة
رضي الله عنهم على ذلك، ولعل مراده بذلك إجماع كثير من
كبارهم، وإلا ففيه نظر، وكون مراده الإجماع السكوتي ليس
بشيء أيضا، وذهب قوم إلى أن المأموم يقرأ إذا أسر الإمام
القراءة ولا يقرأ إذا جهر وهو قول عروة بن الزبير والقاسم
بن محمد والزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وإسحاق، وروي عن
ابن عمر رضي الله تعالى عنه وحجتهم فيما قيل: إن الآية تدل
على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن والسنة تدل على وجوب
القراءة خلف الإمام فحملنا مدلول الآية على صلاة الجهر
ومدلول السنة على صلاة السر جمعا بين الدلائل، وقال آخرون:
إنما يقرأ في السرية لأنه لا يقال له مستمع، واعترض بأنه
وإن سلمنا أنه لا يقال له ذلك لكن لا نسلم أنه لا يقال له
منصت مع علمه بالقراءة وبأنا لا نسلم دلالة السنة على وجوب
القراءة خلف الإمام ودون إثبات ذلك خرط القتاد، على أن
الجزم العمل بأقوى الدليلين، وليس مقتضى أقواهما إلا
المنع، ومن هنا ضعف ما يروى عن محمد بن الحسن رحمه الله
تعالى أنه يستحسن قراءة الفاتحة على سبيل الاحتياط مخالفا
لما ذهب إليه الإمام وأبو يوسف من كراهة القراءة لما في
ذلك من الوعيد، والحق أن قوله كقولهما، فقد قال في كتاب
الآثار بعد ما أسند إلى علقمة بن قيس: إنه ما قرأ قط فيما
يجهر به ولا فيما لا يجهر به، وبه نأخذ فلا نرى القراءة
خلف الإمام في شيء من الصلاة يجهر فيه أو لا يجهر فيه، ولا
ينبغي أن يقرأ خلفه في شيء منها، وذكر في موطئه نحو ذلك،
وقال السرخسي تفسد صلاة القارئ خلف الإمام في قول عدة من
الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومنهم فيما قيل سعد بن أبي
وقاص، وفي رواية المزني عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه
يقرأ في الجهرية والسرية، وفي رواية البويطي أنه يقرأ في
السرية أم القرآن ويضم السورة في الأوليين ويقرأ في
الجهرية أم القرآن فقط. والمشهور عند الشافعية أنه لا سورة
للمأموم الذي يسمع الإمام في جهرية بل يستمع فإن بعد بأن
لم يسمع أو سمع صوتا لا يميز حروفه أو كانت سرية قرأ في
الأصح، وسبب النزول لم يكن القراءة في الصلاة بل أمر آخر.
فقد روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنهم كانوا يتكلمون
في الصلاة فنزلت، وحاصلها النهي عن التكلم لا عن القراءة،
ومن الناس من فسر القرآن بالخطبة، والأمر بالاستماع إما
للوجوب أو الندب، وعندنا الإنصات في الخطبة فرض على تفصيل
في المسألة، وأخرج غير واحد عن مجاهد رضي الله تعالى عنه
أن الآية في الصلاة والخطبة يوم الجمعة، وفي كلام أصحابنا
ما يدل على وجوب الاستماع في الجهر بالقرآن مطلقا.
قال في الخلاصة: رجل يكتب الفقه وبجنبه رجل يقرأ القرآن
فلا يمكنه استماع القرآن فالاثم على القارئ، وعلى هذا لو
قرأ على السطح في الليل جهرا والناس نيام يأثم، وهذا صريح
في إطلاق الوجوب، وعلل ذلك بأن العبرة بعموم اللفظ لا
بخصوص السبب، وإِذا هنا للكلية وغالب الشرطيات القرآنية
المؤداة بها كلية، وهذا والمراد من الاستماع في الآية
المعنى المتبادر منه، وقال الزجاج: المراد منه القبول
والإجابة، وهو بهذا المعنى مجاز كما نص عليه في الأساس،
ومنه سمع الله تعالى لمن حمده وسمع الأمير كلام فلان، ورجح
ذلك العلامة الطيبي قال: وهذا أوفق لتأليف النظم الكريم
سابقا ولا حقا وأجمع للمعاني والأقوال فإنه تعالى لما ذكر
تعريضا أن المشركين إنما استهزؤوا بالقرآن ونبذوه وراءهم
ظهريا لأنهم فقدوا البصائر وعدموا الهداية والرحمة وأن
حالهم على خلاف المؤمنين أمر المؤمنين بما هو أزيد من مجرد
الاستماع وهو قبوله والعمل بما فيه والتمسك به وأن لا
يجاوزوه مرتبا للحكم على تلك
(5/142)
الأوصاف، ولذلك قيل: إذا قرىء القرآن وضعا
للمظهر موضع المضمر لمزيد الدلالة على العلية، يعني إذا
ظهر أيها المؤمنون أنكم لستم مثل هؤلاء المعاندين فعليكم
بهذا الكتاب الجامع لصفات الكمال الهادي إلى الصراط
المستقيم الموصل إلى مقام الرحمة والزلفى فاستمعوه وبالغوا
في الأخذ منه والعمل بما فيه ليحصل المطلوب ولعلكم ترحمون،
ويدخل في هذا وجوب الإنصات في الصلاة بطريق الأولى لأنها
مقام المناجاة والاستماع من المتكلم، وعلى هذا الإنصات عند
تلاوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم اهـ، ويعلم منه أن
الخطاب في الآية للمؤمنين بل هو نص في ذلك.
وقال بعضهم: إن الخطاب فيها للكفار، وذلك أن كون القرآن
بصائر وهدى ورحمة لا يظهر إلا بشرط مخصوص وهو أن النبي
عليه الصلاة والسلام إذا قرأ عليهم القرآن عند نزوله
استمعوا له وأنصتوا ليقفوا على معانيه ومزاياه فيعترفوا
بإعجازه ويستغنوا بذلك عن طلب سائر المعجزات، وأيد هذا
بقوله سبحانه وتعالى: في آخر الآية لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ بناء على أن ذلك للترجي وهو إنما يناسب حال
الكفار لا حال المؤمنين الذين حصل لهم الرحمة جزما في قوله
تعالى: وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وأجيب بأن هذه
الرحمة المرجوة غير تلك الرحمة، ولئن سلم كونها إياها
فالاطماع من الكريم واجب فلم يبق فرق، وفي بناء الفعل
للمفعول إشارة إلى أن مدار الأمر القراءة من أي قارئ كان.
وفي الآية من الدلالة على تعظيم شأن القرآن ما لا يخفى.
ومن هنا قال بعض الأصحاب: يستحب لمريد قراءته خارج الصلاة
أن يلبس أحسن ثيابه ويتعمم ويستقبل القبلة تعظيما له،
ومثله في ذلك العلم، ولو قرأ مضطجعا فلا بأس إذ هو نوع من
الذكر. وقد مدح سبحانه ذاكريه قياما وقعودا وعلى جنوبهم
ويضم رجليه عند القراءة ولا يمدها لأنه سوء أدب ولو قرأ
ماشيا أو عند النسج ونحوه من الأعمال فإن كان القلب حاضرا
غير مشتغل لم يكره وإلا كره، ولا يقرأ وهو مكشوف العورة أو
كان بحضرته من هو كذلك. وإن كانت زوجته، وكره بعضهم
القراءة في الحمام والطريق. قال النووي: ومذهبنا لا تكره
فيهما، وتكره في الحش وبيت الرحى وهي تدور عند الشعبي وهو
مقتضى مذهبنا، والكلام في آداب القراءة وما ينبغي للقارىء
طويل. وفي الإتقان قدر له قدر من ذلك فإن كان عندك فارجع
إليه.
والجملة على ما يدل عليه كلامهم يحتمل أن تكون من القول
المأمور به ويحتمل أن تكون استئنافا من جهته تعالى، قيل:
وعلى الأول فقوله سبحانه وتعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي
نَفْسِكَ عطف على قل، وعلى الثاني فيه تجريد الخطاب إلى
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو عام لكل ذكر فإن
الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب من القبول، وفي بعض الأخبار
يقول الله تعالى: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن
ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه وقال الإمام: المراد
بالذكر في نفسه أن يكون عارفا بمعاني الأذكار التي يقولها
بلسانه مستحضرا لصفات الكمال والعز والعظمة والجلال، وذلك
لأن الذكر باللسان عاريا عن الذكر بالقلب كأنه عديم
الفائدة، بل ذكر جمع أن الذكر اللساني الساذج لا ثواب فيه
أصلا، ومن أتى بالكلمة الطيبة غير ملاحظ معناها أو جاهلا
به لا يعد مؤمنا عند الله تعالى، وقيل: الخطاب لمستمع
القرآن والذكر القرآن، والمراد أمر المأموم بالقراءة سرا
بعد فراغ الإمام عن قراءته وفيه بعد ولو التزم قول الإمام،
وقوله سبحانه وتعالى: تَضَرُّعاً وَخِيفَةً في موضع الحال
بتأويل اسم الفاعل أي متضرعا وخائفا، أو بتقدير مضاف أي ذا
تضرع وخيفة، وكونه مفعولا لأجله غير مناسب.
وجوز بعضهم كون ذلك مصدرا لفعل من غير المذكور وليس بشيء،
وأصل خيفة خوفة، ودون في قوله تعالى:
وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ صفة لمعمول حال محذوفة
أي ومتكلما كلاما دون الجهر لأن دون لا تتصرف على المشهور،
والعطف على تضرعا، وقيل: لا حاجة إلى ما ذكر والعطف على
حاله، والمراد اذكره متضرعا ومقتصدا.
(5/143)
وقيل: إن العطف على قوله تعالى: فِي
نَفْسِكَ لكن على معنى اذكره ذكرا في نفسك وذكرا بلسانك
دون الجهر، والمراد بالجهر رفع الصوت المفرط وبمادونه نوع
آخر من الجهر. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هو أن
يسمع نفسه وقال الامام: المراد أن يقع الذكر متوسطا بين
الجهر والمخافتة كما قال تعالى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ
وَلا تُخافِتْ بِها [الإسراء: 11] ويشعر كلام ابن زيد أن
المراد بالجهر مقابل الذكر في النفس، والآية عنده خطاب
للمأموم المأمور بالإنصات أي اذكر ربك أيها المنصت في نفسك
ولا تجهر بالذكر بِالْغُدُوِّ جمع غدوة كما في القاموس،
وفي الصحاح الغدو نقيض الرواح وقد غدا يغدو غدوا. وقوله
تعالى: بِالْغُدُوِّ أي بالغدوات جمع غدوة وهي ما بين صلاة
الغداة وطلوع الشمس، فعبر بالفعل عن الوقت كما يقال: أتيتك
طلوع الشمس أي وقت طلوعها، وهو نص في أن الغدو مصدر لا
جمع، وعليه فقد معه مضاف مجموع أي أوقات الغدو ليطابق قوله
سبحانه وتعالى:
وَالْآصالِ وهو كما قال الأزهري جمع أصل، وأصل جمع أصيل
أعني ما بين العصر إلى غروب الشمس- فهو جمع الجمع وليس
للقلة وليس جمعا لأصيل لأن فعيلا لا يجمع على أفعال، وقيل:
إنه جمع له لأنه قد يجمع عليه كيمين وإيمان، وقيل: إنه جمع
لأصل مفردا كعنق ويجمع على أصلان أيضا، والجار متعلق
باذكر، وخص هذان الوقتان بالذكر قيل لأن الغدوة عندها
ينقلب الحيوان من النوم الذي هو كالموت إلى اليقظة التي هي
كالحياة، والعالم يتحول من الظلمة التي هي طبيعة عدمية إلى
النور الذي هو طبيعة وجودية، وفي الأصيل الأمر بالعكس، أو
لأنهما وقتا فراغ فيكون الذكر فيهما ألصق بالقلب، وقيل:
لأنهما وقتان يتعاقب فيهما الملائكة على ابن آدم، وقيل:
ليس المراد التخصيص بل دوام الذكر واتصاله أي اذكر كل وقت.
وقرأ أبو مجلز لاحق بن حميد السدوسي «والإيصال» ، وهو مصدر
آصل إذا أدخل في الأصيل وهو مطابق لغدو بناء على القول
بافراده ومصدريته فتذكر وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ عن
ذكر الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ وهم ملائكة
الملأ الأعلى، فالمراد من العندية القرب من الله تعالى
بالزلفى والرضا لا المكانية لتنزه الله تعالى عن ذلك،
وقيل: المراد عند عرش ربك لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبادَتِهِ بل يؤدونها حسبما أمروا به وَيُسَبِّحُونَهُ أي
ينزهونه عما لا يليق بحضرة كبريائه على أبلغ وجه وَلَهُ
يَسْجُدُونَ أي ويخصونه بغاية العبودية والتذلل لا يشركون
به غيره جل شأنه، وهو تعريض بمن عداهم من المكلفين كما يدل
عليه تقديم لَهُ وجاز أن يؤخذ من مجموع الكلام كما آثره
العلامة الطيبي لأنه تعليل للسابق على معنى ائتوا بالعبادة
على وجه الإخلاص كما أمرتم فإن لم تأتوا بها كذلك فإنّا
مغنون عنكم وعن عبادتكم إن لنا عبادا مكرمين من شأنهم كذا
وكذا فالتقديم على هذا للفاصلة، ولما في الآية من التعريض
شرع السجود عند هذه الآية إرغاما لمن أبى ممن عرض به. قيل:
وقد جاء الأمر بالسجدة لآية أمر فيها بالسجود امتثالا
للأمر، أو حكى فيها استنكاف الكفرة عنه مخالفة لهم، أو حكى
فيها سجود نحو الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تأسيا بهم،
وهذا من القسم الثاني باعتبار التعريض أو من القسم الأخير
باعتبار التصريح،
وكان صلّى الله عليه وسلّم يقول في سجوده لذلك كما روى ابن
أبي شيبة عن ابن عمر «اللهم لك سجد سوادي وبك آمن فؤادي
اللهم ارزقني علما ينفعني وعملا يرفعني»
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه عن عائشة رضي الله
تعالى عنها أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقول في سجود
القرآن بالليل مرارا «سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره
بحوله وقوته فتبارك الله أحسن الخالقين»
وجاء عنها أيضا «ما من مسلم سجد لله تعالى سجدة إلا رفعه
الله تعالى بها درجة أو حط عنه بها خطيئة أو جمعها له
كلتيهما»
وأخرج مسلم. وابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة
فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود
فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي
(5/144)
النار»
واستدل بالآية على أن إخفاء الذكر أفضل، ويوافق ذلك ما
أخرجه أحمد من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «خير الذكر
الخفي»
وهي ناعية على جهلة زماننا من المتصوفة ما يفعلونه مما
يستقبح شرعا وعقلا وعرفا فإنا الله وإنا إليه راجعون.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» وهُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ
مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وهي الروح وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها
وهي القلب لِيَسْكُنَ إِلَيْها أي ليميل إليها ويطمئن
فكانت الروح تشم من القلب نسائم نفحات الألطاف فَلَمَّا
تَغَشَّاها أي جامعها وهو إشارة إلى النكاح الروحاني
والصوفية يقولون: إنه سائر في جميع الموجودات ما ترى في
خلق الرحمن من تفاوت حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً في البداية
بظهور أدنى أثر من آثار الصفات البشرية في القلب الروحاني
فَلَمَّا أَثْقَلَتْ كبرت وكثرت آثار الصفات دَعَوَا
اللَّهَ رَبَّهُما لأنهما خافا من تبدل الصفات الروحانية
النورانية بالصفات النفسانية الظلمانية لَئِنْ آتَيْتَنا
صالِحاً للعبودية لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ
فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً بحسب الفطرة من القوى جَعَلا
لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أي جعل أولادهما لله تعالى
شركاء فيما آتى أولادهما فمنهم عبد البطن ومنهم عبد
الخميصة ومنهم من عبد الدرهم والدينار إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كائنا ما كان عِبادٌ
أَمْثالُكُمْ في العجز وعدم التأثير فَادْعُوهُمْ إلى أي
أمر كان فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
في نسبة التأثير إليهم أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها
استفهام على سبيل الإنكار أي ليس لهم أرجل يمشون بها بل
بالله عزّ وجلّ إذ هو الذي يمشيهم وكذا يقال فيما بعد قُلِ
ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ إن استطعتم إِنَّ
وَلِيِّيَ اللَّهُ حافظي ومتولي أمري الَّذِي نَزَّلَ
الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ أي من قام به
في حال الاستقامة وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ
لا يُبْصِرُونَ الحق ولا حقيقتك لأنهم عمي القلوب في
الحقيقة، والضمير للكفار خُذِ الْعَفْوَ أي السهل الذي
يتيسر لهم ولا تكلفهم ما يشق عليهم وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
أي بالوجه الجميل، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ فلا
تكافئهم بجهلهم.
عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه ليس في القرآن آية أجمع
لمكارم الأخلاق من هذه الآية
قيل وذلك لقوة دلالتها على التوحيد فإن من شاهد مالك
النواصي وتصرفه في عباده وكونهم فيما يأتون ويذرون به
سبحانه وتعالى لا بأنفسهم لا يشاقهم ولا يداقهم في
تكاليفهم ولا يغضب في الأمر والنهي ولا يتشدد ويحلم عنهم،
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ بالشهود والحضور فإنك ترى حينئذ أن
لا فعل لغيره سبحانه، وهذا إشارة إلى ما يعتري الإنسان
أحيانا من الغضب وإيماء إلى علاجه بالاستعاذة قال بعضهم:
إن الغضب إنما يهيج بالإنسان إذا استقبح من المغضوب عليه
عملا من الأعمال ثم اعتقد في نفسه كونه قادرا وفي المغضوب
عليه كونه عاجزا، وإذا انكشف له نور من عالم العقل عرف أن
المغضوب عليه إنما أقدم على ذلك العمل لأن الله تعالى خلق
فيه داعية وقد سبقت عليه الكلمة الأزلية فلا سبيل له إلى
تركه وحينئذ يتغير غضبه. وقد ورد من عرف سر الله تعالى في
القدر هانت عليه المصائب، فالاستعاذة بالله تعالى في
المعنى طلب الالتجاء إليه باستكشاف ذلك النور، إِنَّ
الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ
الشَّيْطانِ لمة منه بنسبة الفعل إلى غيره سبحانه وتعالى
تَذَكَّرُوا مقام التوحيد ومشاهدة الأفعال من الله تعالى
فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ فعالية الله تعالى لا شيطان ولا
فاعل غيره سبحانه في نظرهم وَإِخْوانُهُمْ أي اخوان
الشياطين من المحجوبين يَمُدُّونَهُمْ الشياطين في الغي
وهو نسبة الفعل إلى السوي ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ عن العناد
والمراء والجدل، وقالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها أي جمعتها
من تلقاء نفسك قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ
مِنْ رَبِّي لأني قائم به لا بنفسي وَإِذا قُرِئَ
الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ أي للقرآن بآذانكم الظاهرة
وَأَنْصِتُوا بحواسكم الباطنة، وجوز أن يكون ضمير له للرب
سبحانه، أي إذا قرىء القرآن فاستمعوا للرب جل شأنه فإنه
المتكلم والمخاطب لكم به لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بالسمع
الحقيقي أو برحمة تجلي المتكلم في
(5/145)
كلامه بصفاته وأفعاله وَاذْكُرْ رَبَّكَ
فِي نَفْسِكَ بأن تتحلى بما يمكن التحلي به من صفات الله
تعالى، وقيل: هو على حد لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ
اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] تَضَرُّعاً
وَخِيفَةً حسب اختلاف المقام وَدُونَ الْجَهْرِ أي دون أن
يظهر ذلك منك بل يكون ذاكرا به له بِالْغُدُوِّ أي وقت
ظهور نور الروح وَالْآصالِ أي وقت غلبات صفات النفس وَلا
تَكُنْ في وقت من الأوقات مِنَ الْغافِلِينَ عن شهود
الوحدة الذاتية، وقال بعض الأكابر: إن قوله سبحانه:
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً
إشارة إلى أعلى المراتب وهو حصة الواصلين المشاهدين، وقوله
سبحانه وتعالى: وَدُونَ الْجَهْرِ إشارة إلى المرتبة
الوسطى وهي نصيب السائرين إلى مقام المشاهدة، وقوله جل
شأنه: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ إيماء إلى مرتبة
النازلين من السالكين، وفي ذكر الخوف اشعار باستشعار هيبة
الجلال كما قال:
أشتاقه فإذا بدا ... أطرقت من إجلاله
لا خيفة بل هيبة ... وصيانة لجماله
وذكروا أن حال المبتدي والسالك منوطة برأي الشيخ فإنه
الطبيب لأمراض القلوب فهو أعرف بالعلاج، فقد يرى له رفع
الصوت بالذكر علاجا حيث توقف قطع الخواطر وحديث النفس
عليه، وفي عوارف المعارف للسهروردي قدس سره لا يزال العبد
يردد هذه الكلمة على لسانه مع مواطأة القلب حتى تصير
متأصلة فيه مزيلة لحديث النفس وينوب معناها في القلب عنه
فإذا استولت الكلمة وسهلت على اللسان تشربها القلب ويصير
الذكر حينئذ ذكر الذات، وهذا الذكر هو المشاهدة والمكاشفة
والمعاينة، وذاك هو المقصد الأقصى من الخلوة، وقد يحصل ما
ذكر بتلاوة القرآن أيضا إذا أكثر التلاوة واجتهد في مواطأة
القلب مع اللسان حتى تجري التلاوة على اللسان وتقوم مقام
حديث النفس فيدخل على العبد سهولة في التلاوة والصلاة اهـ.
ونقل عنه أيضا ما حاصله أن بنية العبد تحكي مدينة جامعة،
وأعضاؤه وجوارحه بمثابة سكان المدينة، والعبد في إقباله
على الذكر كمؤذن صعد منارة على باب المدينة يقصد اسماع أهل
المدينة الأذان، فالذاكر المحقق يقصد إيقاظ قلبه وإنباء
أجزائه وأبعاضه بذكر لسانه فهو يقول ببعضه ويسمع بكله إلى
أن تنتقل الكلمة من اللسان إلى القلب فيتنور بها ويظفر
بجدوى الأحوال ثم ينعكس نور القلب على القالب فيتزين
بمحاسن الأعمال اهـ.
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ وهم الفانون الباقون به
سبحانه وتعالى أرباب الاستقامة لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبادَتِهِ لعدم احتجابهم بالأنانية وَيُسَبِّحُونَهُ
بنفيها وَلَهُ يَسْجُدُونَ بالفناء التام وطمس البقية
والله تعالى هو الباقي ليس في الوجود سواه.
(5/146)
|