روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني الْمُنَافِقُونَ
وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ
بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ
أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ
الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ
جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ
اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ
أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ
فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا
أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ
وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ
وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ
الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي
جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ
بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ
وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ
يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا
لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا
أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي
الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ
عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ
وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ
مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ
(76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ
يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا
كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ
الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ
إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ
مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ
بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ
يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ
جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى
طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ
تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا
إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا
مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ
مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا
تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ
اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ
أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ
اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا
نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ
الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا
يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ
لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
(89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ
لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى
الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا
نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ
سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ
إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا
أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ
الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
السابق ومن شرط الشرط والجزاء الاتصال
بطريق السببية أو اللزوم في الجملة وكلاهما مفقود في الجملة،
وقد ذكر ذلك العز بن عبد السلام في أماليه ونقله عنه العلامة
ابن حجر في ذيل الفتاوي وذكر أنه لم ير أحدا نبه على الجواب
عنه لكنه يعلم من سبب النزول، وتكلم بعد أن ساق الخبر بما لا
يخلو عن غموض، ولقد ذكرت السؤال وأنا في عنفوان الشباب مع
جوابه للعلامة المذكور لدى شيخ من أهل العلم قد حلب الدهر
أشطره وطلبت منه حل ذلك فأعرض عن تقرير الجواب الذي في الذيل
وأظن أن ذلك لجهله به وشمر الذيل وكشف عن ساق الجواب من تلقاء
نفسه فقال: إن الشرطية اتفاقية نحو قولك: إن كان الإنسان ناطقا
فالحمار ناهق وشرع في تقرير ذلك بما تضحك منه الثكلى ولا حول
ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأجاب مولانا سري الدين: بأن
الجزاء محذوف مسبب عن المذكور أي فلا ينبغي أن يفتروا أو فلا
يفتروا فلا بد من تعذيب طائفة، ثم قال: فإن قيل هذا التقدير لا
يفيد سببية مضمون الشرط لمضمون الجزاء. قلت: يحمل على سببيته
للاخبار بمضمون الجزاء أو سببيته للأمر بعدم الاغترار قياسا
على الاخبار، وقد حقق الكلام في ذلك العلامة التفتازاني عند
قوله تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ
نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ من سورة [البقرة: 97] في حاشية
الكشاف.
(5/321)
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ
مِنْ بَعْضٍ أي متشابهون في النفاق كتشابه أبعاض الشيء الواحد
والمراد الاتحاد في الحقيقة والصورة كالماء والتراب، والآية
متصلة بجميع ما ذكر من قبائحهم، وقيل: هي متصلة بقوله
(5/322)
تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ
لَمِنْكُمْ [التوبة: 56] والمراد منها تكذيب قولهم المذكور
وإبطال له وتقرير لقوله سبحانه: وَما هُمْ مِنْكُمْ وما بعد من
تغاير صفاتهم وصفات المؤمنين كالدليل على ذلك، ومن على
التقريرين اتصالية كما في
قوله عليه الصلاة والسلام: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» ،
والتعرض لأحوال الإناث للإيذان بكمال عراقتهم في الكفر والنفاق
يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ أي بالتكذيب بالنبي صلّى الله عليه
وسلّم وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ أي شهادة أن لا إله إلا
الله والإقرار بما أنزل الله تعالى كما أخرجه ابن أبي حاتم عن
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وأخرج عن أبي العالية أنه قال: كل منكر ذكر في القرآن المراد
منه عبادة الأوثان والشيطان، ولا يبعد أن يراد بالمنكر
والمعروف ما يعم ما ذكر وغيره ويدخل فيه المذكور دخولا أوليا،
والجملة استئناف مقرر لمضمون ما سبق مفصح عن مضادة حالهم لحال
المؤمنين أو خبر ثان وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن الإنفاق في
طاعة الله ومرضاته كما روي عن قتادة والحسن، وقبض اليد كناية
عن الشح والبخل كما أن بسطها كناية عن الجود لأن من يعطي يمد
يده بخلاف من يمنع، وعن الجبائي أن المراد يمسكون أيديهم عن
الجهاد في سبيل الله تعالى وهو خلاف الشائع في هذه الكلمة
نَسُوا اللَّهَ النسيان مجاز عن الترك وهو كناية عن ترك الطاعة
فالمراد لم يطيعوه سبحانه فَنَسِيَهُمْ منع لطفه وفضله عنهم،
والتعبير بالنسيان للمشاكلة إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ
الْفاسِقُونَ أي الكاملون في التمرد والفسق الذي هو الخروج عن
الطاعة والانسلاخ عن كل حتى كأنهم الجنس كله، ومن هنا صح الحصر
المستفاد من الفصل وتعريف الخبر وإلا فكم فاسق سواهم.
والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير، ولعله لم يذكر
المنافقات اكتفاء بقرب العهد، ومثله في نكتة الإظهار قوله
سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ
وَالْكُفَّارَ أي المجاهرين فهو من عطف المغاير، وقد يكون من
عطف العام على الخاص نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها حال مقدرة
من مفعول وَعَدَ أي مقدرين الخلود، قيل:
والمراد دخولهم وتعذيبهم بنار جهنم في تلك الحال لما يلوح لهم
يقدرون الخلود في أنفسهم فلا حاجة لما قاله بعضهم من أن
التقدير مقدري الخلود بصيغة المفعول.
والإضافة إلى الخلود لأنهم لم يقدروه وإنما قدره الله تعالى
لهم، وقيل: إذا كان المراد يعذبهم الله سبحانه بنار جهنم
خالدين لا يحتاج إلى التقدير، والتعبير بالوعد للتهكم نحو قول
سبحانه: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:
21، التوبة: 34، الانشقاق: 24] هِيَ حَسْبُهُمْ عقابا وجزاء أي
فيها ما يكفي من ذلك، وفيه ما يدل على عظم عقابها وعذابها فإنه
إذا قيل للمعذب كفى هذا دل على أنه بلغ غاية النكاية
وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم من رحمته وخيره وأهانهم وفي
إظهار الاسم الجليل من الإيذان بشدة السخط ما لا يخفى وَلَهُمْ
عَذابٌ مُقِيمٌ أي نوع من العذاب غير عذاب النار دائم لا ينقطع
أبدا فلا تكرار مع ما تقدم، ولا ينافي ذلك هِيَ حَسْبُهُمْ
لأنه بالنظر إلى تعذيبهم بالنار، وقيل في دفع التكرار إن ما
تقدم وعيد وهذا بيان لوقوع ما وعدوا به على أنه لا مانع من
التأكيد، وقيل:
إن الأول عذاب الآخرة وهذا عذاب ما يقاسونه في الدنيا من التعب
والخوف من الفضيحة والقتل ونحوه، وفسرت الإقامة بعدم الانقطاع
لأنها من صفات العقلاء فلا يوصف بها العذاب فهي مجاز عما ذكر.
وجوز أن يكون وصف العذاب بها كما في قوله تعالى: عِيشَةٍ
راضِيَةٍ [الحاقة: 21، القارعة: 7] فالمجاز حينئذ عقلي
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ التفات من الغيبة إلى الخطاب
للتشديد، والكاف في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف أي أنتم مثل
الذين من قبلكم من الأمم المهلكة أو في حيز النصب بفعل مقدر أي
فعلتم مثل الذين من قبلكم، ونحوه قول النمر يصف ثور وحش
وكلابا:
(5/323)
حتى إذا الكلاب قال لها ... كاليوم مطلوبا
ولا طالبا
فإن أصله لم أر مطلوبا كمطلوب رأيته اليوم ولا طلبة كطلبة
رأيتها اليوم فاختصر الكلام فقيل لم أر مطلوبا كمطلوب اليوم
لملابسته له ثم حذف المضاف اتساعا وعدم البأس، وقيل: كاليوم
وقدم على الموصوف فصار حالا للاعتناء والمبالغة وحذف الفعل
للقرينة الحالية ووجه الشبه المعمولية لفعل محذوف، وقوله
سبحانه: كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا
وَأَوْلاداً إلخ تفسير للتشبيه وبيان لوجه الشبه بين المخاطبين
ومن قبلهم فلا محل لها من الإعراب، وفيه إيذان بأن المخاطبين
أولى وأحق بأن يصيبهم ما أصابهم فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ
أي تمتعوا بنصيبهم من ملاذ الدنيا، وفي صيغة الاستفعال ما ليس
في التفعل من الاستفادة والاستدامة في التمتع، واشتقاق الخلاق
من الخلق بمعنى التقدير وهو أصل معناه لغة فَاسْتَمْتَعْتُمْ
بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
بِخَلاقِهِمْ ذم الأولين باستمتاعهم بحظوظهم الخسيسة من
الشهوات الفانية والتهائهم فيها عن النظر في العاقبة والسعي في
تحصيل اللذائذ الحقيقية تمهيدا لذم المخاطبين بمشابهتهم
واقتفاء أثرهم، ولذلك اختير الإطناب بزيادة فَاسْتَمْتَعُوا
بِخَلاقِهِمْ وهذا كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله
فتقول أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف وأنت تفعل
مثله، ومحل الكاف النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي استمتعتم
استمتاعا كاستمتاع الذين وَخُضْتُمْ أي دخلتم في الباطل
كَالَّذِي خاضُوا أي كالذين فحذفت نونه تخفيفا كما في قوله:
إن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد
ويجوز أن يكون الذي صفة لمفرد اللفظ مجموع المعنى كالفوج
والفريق فلوحظ في الصفة اللفظ وفي الضمير المعنى أو هو صفة
مصدر محذوف أي كالخوض الذي خاضوه ورجح بعدم التكلف فيه، وقال
الفراء: إن الذي تكون مصدرية وخرج هذا عليه أي كخوضهم وهو كما
قال أبو البقاء نادر، وهذه الجملة عطف على ما قبلها وحينئذ إما
أن يقدر فيها ما يجعلها على طرزه لعطفها عليه أولا يقدر إشارة
إلى الاعتناء بالأول أُولئِكَ إشارة إلى المتصفين بالصفات
المعدودة من المشبهين والمشبه بهم، وكونه إشارة إلى الأخير
يقتضي أن يكون حكم المشبهين مفهوما ضمنا ويؤدي إلى خلو تلوين
الخطاب عن الفائدة إذ الظاهر حينئذ أولئكم والخطاب لسيد
المخاطبين عليه الصلاة والسلام أو لكل من يصلح له أي أولئك
المتصفون بما ذكر من القبائح حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي التي
كانوا يستحقون بها أجورا حسنة لو قارنت الإيمان، والحبط السقوط
والبطلان والاضمحلال والمراد لم يستحقوا عليها ثوابا وكرامة
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أما في الآخرة فظاهر وأما في
الدنيا فلأن ما حصل لهم من الصحة والسعة ونحوهما ليس إلا بطريق
الاستدراج كما نطقت به الآيات دون الكرامة وَأُولئِكَ
الموصوفون بحبط الأعمال في الدارين هُمُ الْخاسِرُونَ أي
الكاملون في الخسران الجامعون لمباديه وأسبابه طرا.
وإيراد اسم الإشارة في الموضعين للإشعار بعلية الأوصاف المشار
إليها للحبط والخسران أَلَمْ يَأْتِهِمْ أي المنافقين نَبَأُ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي خبرهم الذي له شأن والاستفهام
للتقرير والتحذير قَوْمِ نُوحٍ أغرقوا بالطوفان وَعادٍ أهلكوا
بالريح وَثَمُودَ أهلكوا بالرجفة، وغير الأسلوب في القومين
لأنهم لم يشتهروا بنبيهم، وقيل: لأن الكثير منهم آمن وَقَوْمِ
إِبْراهِيمَ أهلك نمروذ رئيسهم ببعوض وأبيدوا بعده لكن لا بسبب
سماوي كغيرهم ووَ أَصْحابِ مَدْيَنَ أي أهلها وهم قوم شعيب
عليه السلام أهلكوا بالنار يوم الظلة أو بالصيحة والرجفة أو
بالنار والرجفة على اختلاف الروايات وَالْمُؤْتَفِكاتِ مؤتفكة
من الائتفاك وهو الانقلاب بجعل أعلى الشيء أسفل بالخسف،
والمراد بها إما قريات قوم لوط عليه السلام فالائتفاك على
حقيقته فإنها انقلبت بهم وصار عاليها سافلها
(5/324)
وأمطر على من فيها حجارة من سجيل وإما
قريات المكذبين المتمردين مطلقا فالائتفاك مجاز عن انقلاب
حالها من الخير إلى الشر على طريق الاستعارة كقول ابن الرومي:
وما الخسف أن تلقى أسافل بلدة ... أعاليها بل أن تسود الأراذل
لأنها لم يصبها كلها الائتفاك الحقيقي أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ استئناف لبيان نبئهم، وضمير الجمع للجميع لا
للمؤتفكات فقط فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي فكذبوهم
فأهلكهم الله تعالى فما كان إلخ، فالفاء للعطف على ذلك المقدر
الذي ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام، أي لم يكن من عادته
سبحانه ما يشبه ظلم الناس كالعقوبة بلا جرم، وقد يحمل على
استمرار النفي أي لا يصدر منه سبحانه ذلك أصلا بل هو أبلغ كما
لا يخفى. وقول الزمخشري: أي فما صح منه أن يظلمهم وهو حكيم لا
يجوز عليه القبيح مبني على الاعتزال.
وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث عرضوها بمقتضى
استعدادهم للعقاب بالكفر والتكذيب، والجمع بين صيغتي الماضي
والمستقبل للدلالة على الاستمرار، وتقديم المفعول على ما قرره
بعض الأفاضل لمجرد الاهتمام به مع مراعاة الفاصلة من غير قصد
إلى قصر المظلومية عليهم على رأي من لا يرى التقديم موجبا
للقصر كابن الأثير فيما قيل وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ
بيان لحسن حال المؤمنين والمؤمنات حالا ومالا بعد بيان حال
أضدادهم عاجلا وآجلا، وقوله سبحانه: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ
بَعْضٍ يقابل قوله تعالى فيما مر: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ،
وتغيير الأسلوب للإشارة إلى تناصرهم وتعاضدهم بخلاف أولئك
وقوله عزّ وجلّ: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ ظاهر المقابلة «ليأمرون بالمنكر» إلخ الكلام في
المنكر والمعروف معروف، وقوله جل وعلا: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ
في مقابلة نَسُوا اللَّهَ وقوله تعالى جده: وَيُؤْتُونَ
الزَّكاةَ في مقابلة يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ وقوله تبارك
وتعالى: وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في سائر الأمور
في مقابلة وصف المنافقين بكمال الفسق والخروج عن الطاعة، وقيل:
هو في مقابلة نَسُوا اللَّهَ، وقوله سبحانه: وَيُقِيمُونَ
الصَّلاةَ زيادة مدح، وقوله تعالى شأنه: أُولئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ في مقابلة فَنَسِيَهُمْ المفسر بمنع
لطفه ورحمته سبحانه، وقيل: في مقابلة أُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ لأنه بمعنى المتقين المرحومين، والإشارة إلى
المؤمنين والمؤمنات باعتبار اتصافهم بما سلف من الصفات
الجليلة، والإتيان بما يدل على البعد لما مر غير مرة.
والسين على ما قال الزمخشري وتبعه غير واحد لتأكيد الوعد وهي
كما تفيد ذلك تفيد تأكيد الوعيد، ونظر فيه صاحب التقريب ووجه
ذلك بأن السين في الإثبات في مقابلة لن في النفي فتكون بهذا
الاعتبار تأكيدا لما دخلت عليه ولا فرق في ذلك بين أن يكون
وعدا أو وعيدا أو غيرهما. وقال العلامة ابن حجر: ما زعمه
الزمخشري من أن السين تفيد القطع بمدخولها مردود بأن القطع
إنما فهم من المقام لا من الوضع وهو توطئة لمذهبه الفاسد في
تحتم الجزاء ومن غفل عن هذه الدسيسة وجهه، وتعقبه الفهامة ابن
قاسم بأن هذا لا وجه له لأنه أمر نقلي لا يدفعه ما ذكر ونسبه
الغفلة للأئمة إنما أوجبه حب الاعتراض، وحينئذ فالمعنى أولئك
المنعوتون بما فصل من النعوت الجليلة يرحمهم الله تعالى لا
محالة إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ قوي قادر على كل شيء لا يمتنع
عليه ما يريده حَكِيمٌ يضع الأشياء مواضعها ومن ذلك النعمة
والنقمة والجملة تعليل للوعد، وقوله تعالى:
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها في مقابلة
الوعيد السابق للمنافقين المعبر عنه بالوعد تهكما كما مر،
ويفهم من كلام البعض أن قوله سبحانه: سَيَرْحَمُهُمُ بيان
لإفاضة آثار الرحمة الدنيوية من التأييد والنصر وهذا تفصيل
لآثار رحمته سبحانه الأخروية، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة
التقرير
(5/325)
والاشعار بعلية الإيمان لما تعلق به الوعد،
ولم يضم إليه باقي الأوصاف للإيذان بأنه من لوازمه ومستتبعاته،
والكلام في- خالدين- هنا كالكلام فيما مر وَمَساكِنَ طَيِّبَةً
أي تستطيبها النفوس أو يطيب فيها العيش فالإسناد إما حقيقي أو
مجازي.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن قال: سألت عمران بن
حصين وأبا هريرة عن تفسير وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فقالا: على
الخبير سقطت سألنا عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
«قصر من لؤلؤة في الجنة في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة
حمراء في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء في كل بيت سبعون
سريرا على كل سرير سبعون فراشا من كل لون على كل فراش امرأة من
الحور العين في كل بيت سبعون مائدة في كل مائدة سبعون لونا من
كل طعام في كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة فيعطى المؤمن من القوة
في كل غداة ما يأتي على ذلك كله»
فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ قيل: هو علم لمكان مخصوص بدليل قوله
تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ [مريم: 61]
حيث وصف فيه بالمعرفة، ولما
أخرجه البزار والدارقطني في المختلف والمؤتلف. وابن مردويه من
حديث أبي الدرداء قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «عدن دار
الله تعالى لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير
ثلاثة: النبيون والصديقون والشهداء يقول الله سبحانه طوبى لمن
دخلك»
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن في الجنة قصرا يقال له
عدن حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب لا يدخله إلا نبي أو
صديق أو شهيد.
وعن ابن مسعود أنها بطنان الجنة وسرتها. وقال عطاء بن السائب:
عدن نهر في الجنة جناته على حافاته. وقيل: العدن في الأصل
الاستقرار والثبات ويقال: عدن بالمكان إذا أقام. والمراد به
هنا الإقامة على وجه الخلود لأنه الفرد الكامل المناسب لمقام
المدح أي في جنات إقامة وخلود، وعلى هذا الجنات كلها جنات عدن
لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا [الكهف: 108] والتغاير بين
المساكن والجنات المشعر به العطف إما ذاتي بناء على أن يراد
بالجنات غير عدن وهي لعامة المؤمنين وعدن للنبيين عليهم الصلاة
والسلام والصديقين والشهداء أو يراد بها البساتين أنفسها وهي
غير المساكن كما هو ظاهر، فالوعد حينئذ صريحا بشيئين البساتين
والمساكن فلكل أحد جنة ومسكن وإما تغاير وصفي فيكون كل منهما
عاما ولكن الأول باعتبار اشتمالها على الأنهار والبساتين
والثاني لا بهذا الاعتبار، وكأنه وصف ما وعدوا به أولا بأنه من
جنس ما هو أشرف الأماكن المعروف عندهم من الجنات ذات الأنهار
الجارية لتميل إليه طباعهم أول ما يقرع أسماعهم ثم وصفه بأنه
محفوف بطيب العيش معرى عن شوائب الكدورات التي لا تكاد تخلو
عنها أماكن الدنيا وأهلها وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين
ثم وصف بأنه دار إقامة بلا ارتحال وثبات بلا زوال ولا يعد هذا
تكرارا لقوله سبحانه: خالِدِينَ فِيها كما لا يخفى ثم وعدهم جل
شأنه كما يفهم من الكلام هو ما أجل وأعلى من ذلك كله بقوله
تبارك وتعالى:
وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أي وقدر يسير من رضوانه سبحانه
أَكْبَرُ ولقصد إفادة ذلك عدل عن رضوان الله الأخصر إلى ما في
النظم الجليل، وقيل: إفادة العدول كون ما ذكر أظهر في توجه
الرضوان إليهم، ولعله إنما لم يعبر بالرضا تعظيما لشأن الله
تعالى في نفسه لأن في الرضوان من المبالغة ما لا يخفى ولذلك لم
يستعمل في القرآن إلا في رضاء الله سبحانه، وإنما كان ذلك أكبر
لأنه مبدأ لحلول دار الإقامة ووصول كل سعادة وكرامة وهو غاية
أرب المحبين ومنتهى أمنية الراغبين.
وقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم إن الله تعالى يقول لأهل الجنة:
يا أهل الجنة. فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك،
فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا
ما لم تعط أحدا من خلقك. فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك
فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك يا ربنا؟
(5/326)
فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم
بعده أبدا»
ولعل عدم عدم نظم هذا الرضوان في سلك الوعد على طرز ما تقدم مع
عزته في نفسه لأنه متحقق في ضمن كل موجود ولأنه مستمر في
الدارين ذلِكَ أي جميع ما ذكر هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ دون
ما يعده الناس فوزا من حظوظ الدنيا فإنها مع قطع النظر عن
فنائها وتغيرها وتنغصها بالآلام ليست بالنسبة إلى أدنى شيء من
نعيم الآخرة إلا بمثابة جناح البعوض،
وفي الحديث «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى
منها كافرا شربة ماء»
ولله در من قال:
تالله لو كانت الدنيا بأجمعها ... تبقى علينا وما من رزقها
رغدا
ما كان من حق حر أن يذل بها ... فكيف وهي متاع يضحمل غدا
وجوز أن تكون الإشارة إلى الرضوان فهو فوز عظيم يستحقر عنده
نعيم الدنيا وحظوظها أيضا أو الدنيا ونعيمها والجنة وما فيها،
وعلى الاحتمالين لا ينافي قوله سبحانه: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها
ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 89] فقد فسر فيه- العظيم-
بما يستحقر عنده نعيم الدنيا فتدبر.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ
ظاهره يقتضي مقاتلة المنافقين وهم غير مظهرين للكفر ولا نحكم
بالظاهر لأنا نحكم بالظاهر كما في الخبر ولذا فسر ابن عباس
والسدي ومجاهد جهاد الأولين بالسيف والآخرين باللسان وذلك بنحو
الوعظ وإلزام الحجة بناء على أن الجهاد بذل الجهد في دفع ما لا
يرضى وهو أعم من أن يكون بالقتال أو بغيره فإن كان حقيقة فظاهر
وإلا حمل على عموم المجاز. وروي عن الحسن وقتادة أن جهاد
المنافقين بإقامة الحدود عليهم. واستشكل بأن إقامتها واجبة على
غيرهم أيضا فلا يختص ذلك بهم. وأشار في الأحكام إلى دفعه بأن
أسباب الحد في زمنه صلّى الله عليه وسلّم أكثر ما صدرت عنهم،
وأما القول بأن المنافق بمعنى الفاسق عند الحسن فغير حسن.
وروي- والعهدة على الراوي- أن قراءة أهل البيت رضي الله تعالى
عنهم «جاهد الكفار بالمنافقين»
والظاهر أنها لم تثبت ولم يروها إلا الشيعة وهم بيت الكذب
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ أي على الفريقين في الجهاد بقسميه ولا
ترفق بهم.
عن عطاء نسخت هذه الآية كل شيء من العفو والصفح وَمَأْواهُمْ
جَهَنَّمُ استئناف لبيان آجل أمرهم إثر بيان عاجله.
وذكر أبو البقاء في هذه ثلاثة أوجه: أحدها أنها واو الحال
والتقدير افعل ذلك في حال استحقاقهم جهنم وتلك الحال حال كفرهم
ونفاقهم، والثاني أنها جيء بها تنبيها على إرادة فعل محذوف أي
واعلم أن مأواهم جهنم، والثالث أن الكلام محمول على المعنى وهو
أنه قد اجتمع لهم عذاب الدنيا بالجهاد والغلظة وعذاب الآخرة
بجعل جهنم مأواهم وَبِئْسَ الْمَصِيرُ تذييل لما قبله والمخصوص
بالذم محذوف أي مصيره يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا استئناف
لبيان ما صدر منهم من الجرائم الموجبة لما مر.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: ذكر
لنا أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت
جهينة حلفاء الأنصار فظهر الغفاري على الجهيني فقال عبد الله
بن أبي للأوس انصروا أخاكم والله ما مثلنا ومثل محمد صلّى الله
عليه وسلّم وحاشاه مما يقول هذا المنافق إلا كما قال القائل:
سمن كلبك يأكلك والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها
الأذل فسعى بها رجل من المسلمين إلى رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم فأرسل إليه فجعل يحلف بالله تعالى ما قاله فنزلت. وأخرج
ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن كعب بن مالك قال: لما نزل القرآن
فيه ذكر المنافقين قال الجلاس (1) بن سويد: والله لئن كان هذا
الرجل صادقا لنحن شر من الحمير فسمعهما عمير بن سعد فقال:
والله يا
__________
(1) بوزن غراب اهـ منه
(5/327)
جلاس إنك لأحب الناس إلي وأحسنهم عندي أثرا
ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك ولئن سكت عنها لتهلكني
ولإحداهما أشد علي من الأخرى فمشى إلى رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم فذكر له ما قال الجلاس فحلف بالله تعالى ما قال
ولقد كذب عليّ عمير فنزلت.
وأخرج عبد الرزاق عن ابن سيرين أنها لما نزلت أخذ النبي صلّى
الله عليه وسلّم بأذن عمير فقال: وفت أذنك يا غلام وصدقك ربك
وكان يدعو حين حلف الجلاس اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق
الصادق وتكذيب الكاذب.
وأخرج عن عروة أن الجلاس تاب بعد نزولها وقبل منه.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
جالسا في ظل شجرة فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني
شيطان فإذا جاء فلا تكلموه فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق العينين
فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: علام تشتمني أنت
وأصحابك؟
فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله تعالى ما قالوا حتى تجاوز
عنهم وأنزل الله تعالى الآية،
وإسناد الحلف إلى ضمير الجمع على هذه الرواية ظاهر وأما على
الروايتين الأوليين فقيل: لأنهم رضوا بذلك واتفقوا عليه فهو من
إسناد الفعل إلى سببه أو لأنه جعل الكلام لرضاهم به كأنهم
فعلوه ولا حاجة إلى عموم المجاز لأن الجمع بين الحقيقة والمجاز
جائز في المجاز العقلي وليس محلا للخلاف، وإيثار صيغة
الاستقبال في يَحْلِفُونَ على سائر الروايات لاستحضار الصورة
أو للدلالة على تكرير الفعل وهو قائم مقام القسم، وما قالُوا
جوابه وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ هي ما حكي من قولهم
والله ما مثلنا إلخ أو والله لئن كان هذا الرجل صادقا إلخ أو
الشتم الذي وبخ عليه عليه الصلاة والسلام، والجملة مع ما عطف
عليها اعتراض وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ أظهروا ما في
قلوبهم من الكفر بعد إظهار الإسلام وإلا فكفرهم الباطن كان
ثابتا قبل والإسلام الحقيقي لا وجود له وَهَمُّوا بِما لَمْ
يَنالُوا من الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين رجع من
غزوة تبوك.
أخرج البيهقي في الدلائل عن حذيفة بن اليمان قال كنت آخذا
بخطام ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقود به وعمار يسوق
أو أنا أسوق وعمار يقود حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا باثني
عشر راكبا قد اعترضوا فيها فأنبهت رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم فصرخ بهم فولوا مدبرين فقال لنا رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم: هل عرفتم القوم؟ قلنا: لا يا رسول الله كانوا
متلثمين ولكن قد عرفنا الركاب قال: هؤلاء المنافقون إلى يوم
القيامة. هل تدرون ما أرادوا؟ قلنا: لا. قال: أرادوا أن يزلوا
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في العقبة فيلقوه منها قلنا:
يا رسول الله أو لا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث لك كل قوم برأس
صاحبهم قال:
أكره أن يتحدث العرب عنا أن محمدا عليه الصلاة والسلام قاتل
بقوم حتى إذا أظهره الله تعالى بهم أقبل عليهم يقتلهم، ثم قال:
اللهم ارمهم بالدبيلة، قلنا: يا رسول الله وما الدبيلة؟ قال:
شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك وكانوا كلهم كما
أخرج ابن سعد عن نافع بن جبير من الأنصار أو من حلفائهم ليس
فيهم قرشي، ونقل الطبرسي عن الباقر رضي الله تعالى عنه أن
ثمانية منهم من قريش وأربعة من العرب لا يعول عليه.
وقد ذكر البيهقي من رواية ابن إسحاق أسماءهم وعد منهم الجلاس
بن سويد، ويشكل عليه رواية أنه تاب وحسنت توبته مع
قوله عليه الصلاة والسلام في الخبر «هؤلاء المنافقون إلى يوم
القيامة»
إلا أن يقال: إن ذلك باعتبار الغالب، وقيل: المراد بالموصول
إخراج المؤمنين من المدينة على ما تضمنه الخبر المار عن قتادة،
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي وأبو الشيخ عنه وعن أبي صالح أنهم
أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي بتاج ويجعلوه حكما ورئيسا
بينهم وإن لم يرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل:
أرادوا أن يقتلوا عميرا لرده على الجلاس كما مر.
وَما نَقَمُوا أي ما كرهوا وعابوا شيئا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فالاستثناء مفرغ من أعم
المفاعيل أي وما نقموا الإيمان لأجل شيء إلا لإغناء الله تعالى
إياهم فيكون الاستثناء مفرغا من أعم العلل وهو على حد
(5/328)
قولهم: ما لي عندك ذنب إلا أني أحسنت إليك،
وقوله:
ما نقم الناس من أمية إلا ... أنهم يحلمون إن غضبوا (1)
وهو متصل على ادعاء دخوله بناء على القول بأن الاستثناء المفرغ
لا يكون منقطعا، وفيه تهكم وتأكيد الشيء بخلافه كقوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم البيت، وأصل النقمة كما قال الراغب
الإنكار باللسان والعقوبة والأمر على الأول ظاهر وأما على
الثاني فيحتاج إلى ارتكاب المجاز بأن يراد وجدان ما يورث
النقمة ويقتضيه، وضمير أَغْناهُمُ للمنافقين على ما هو الظاهر،
وكان إغناؤهم بأخذ الدية،
فقد روي أنه كان للجلاس مولى قتل وقد غلب على ديته فأمر رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم بها اثني عشر ألفا فأخذها واستغنى،
وعن قتادة أن الدية كانت لعبد الله بن أبي وزيادة الألفين كانت
على عادتهم في الزيادة على الدية تكرما وكانوا يسمونها شنقا
كما في الصحاح.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة قال: كان جلاس تحمل حمالة أو كان
عليه دين فأدى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وذلك قوله سبحانه: وَما نَقَمُوا الآية، ولا يخفى أن الإغناء
على الأول أظهر، وقيل: كان إغناؤهم بما من الله تعالى به من
الغنائم فقد كانوا كما قال الكلبي قبل قدوم النبي صلّى الله
عليه وسلّم المدينة محاويج في ضنك من العيش فلما قدم عليه
الصلاة والسلام أثروا بها، والضمير على هذا يجوز أن يكون
للمؤمنين فيكون الكلام متضمنا ذم المنافقين بالحسد كما أنه على
الأول متضمن لذمهم بالكفر وترك الشكر، وتوحيد ضمير فضله لا
يخفى وجهه فَإِنْ يَتُوبُوا عمّا هم عليه من القبائح يَكُ أي
التوب، وقيل: أي التوبة ويغتفر مثل ذلك في المصادر.
وقد يقال: التذكير باعتبار الخبر أعني قوله سبحانه: خَيْراً
لَهُمْ أي في الدارين، وهذه الآية على ما في بعض الروايات كانت
سببا لتوبته وحسن إسلامه لطفا من الله تعالى به وكرما وَإِنْ
يَتَوَلَّوْا أي استمروا على ما كانوا عليه من التولي والإعراض
عن إخلاص الإيمان أو أعرضوا عن التوبة.
يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا بمتاعب
النفاق وسوء الذكر ونحو ذلك، وقيل: المراد بعذاب الدنيا عذاب
القبر أو ما يشاهدونه عند الموت، وقيل: المراد به القتل ونحوه
على معنى أنهم يقتلون إن أظهروا الكفر بناء على أن التولي مظنة
الإظهار فلا ينافي ما تقدم من أنهم لا يقتلون وأن الجهاد في
حقهم غير ما هو المتبادر.
وَالْآخِرَةِ وعذابهم فيها بالنار وغيرها من أفانين العقاب
وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي في الدنيا، والتعبير بذلك
للتعميم أي ما لهم في جميع بقاعها وسائر أقطارها مِنْ وَلِيٍّ
وَلا نَصِيرٍ ينقذهم من العذاب بالشفاعة أو المدافعة، وخص ذلك
في الدنيا لأنه لا ولي ولا نصير لهم في الآخرة قطعا فلا حاجة
لنفيه.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ
أَذِنْتَ لَهُمْ إلخ فيه إشارة إلى علو مقامه صلّى الله عليه
وسلّم ورفعة شأنه على سائر الأحباب حيث آذنه بالعفو قبل
العتاب، ولو قال له: لم أذنت لهم عفى الله عنك لذاب، وعبر
سبحانه بالماضي المشير إلى سبق الاصطفاء لئلا يوحشه عليه
الصلاة والسلام الانتظار ويشتغل قلبه الشريف باستمطار العفو من
سحاب ذلك الوعد المدرار، وانظر كم بين عتابه جل شأنه لحبيبه
عليه الصلاة والسلام على الإذن لأولئك المنافقين وبين رده
تعالى على نوح عليه السلام قوله: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي
[هود: 45] بقوله سبحانه: يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ
أَهْلِكَ [هود: 46] إلى قوله تبارك وتعالى: إِنِّي أَعِظُكَ
أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود: 46] ومن ذلك يعلم
__________
(1) نسخة ما نقموا من بني أمية إلخ اهـ منه
(5/329)
الفرق- وهو لعمري غير خفي- بين مقام الحبيب
ورتبة الصفي، وقد قيل: إن المحب يعتذر عن حبيبه ولا ينقصه عنده
كلام معيبه، وأنشد:
ما حطك الواشون عن رتبة ... كلا وما ضرك مغتاب
كأنهم أثنوا ولم يعلموا ... عليك عندي بالذي عابوا
وقال الآخر:
في وجهه شافع يمحو إساءته ... عن القلوب ويأتي بالمعاذير
وقال:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع
وقوله سبحانه: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فيه إشارة إلى أن المؤمن إذا
سمع بخبر خير طار إليه وأتاه ولو مشيا على رأسه ويديه ولا يفتح
فيه فاه بالاستئذان، وهل يستأذن في شرب الماء ظمآن؟.
وقال الواسطي: إن المؤمن الكامل مأذون في سائر أحواله إن قام
قام بإذن وإن قعد قعد بإذن وإن لله سبحانه عبادا به يقومون وبه
يقعدون، ومن شأن المحبة امتثال أمر المحبوب كيفما كان:
لو قال تيها قف على جمر الغضى ... لوقفت ممتثلا ولم أتوقف
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إلخ أي إنما يستأذنك المنافقون رجاء أن
لا تأذن لهم بالخروج فيستريحوا من نصب الجهاد وَلَوْ أَرادُوا
الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً فقد قيل:
لو صح منك الهوى أرشدت للحيل وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ
انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ إشارة إلى خذلانهم لسوء استعدادهم
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ لأن الأخلاق
السيئة والأعمال القبيحة محيطة بهم وهي النار بعينها غاية
الأمر أنها ظهرت في هذه النشأة بصورة الأخلاق والأعمال وستظهر
في النشأة الأخرى بالصورة الأخرى، وقوله تعالى: وَلا يَأْتُونَ
الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى فيه إشارة إلى حرمانهم لذة طعم
العبودية واحتجابهم عن مشاهدة جمال معبودهم وأنهم لم يعلموا أن
المصلي يناجي ربه وأن الصلاة معراج العبد إلى مولاه، ومن هنا
قال صلّى الله عليه وسلّم «وجعلت قرة عيني في الصلاة» .
وقال محمد بن الفضل: من لم يعرف الآمر قام إلى الأمر على حد
الكسل ومن عرف الآمر قام إلى الأمر على حد الاستغنام
والاسترواح، ولذا
كان عليه الصلاة والسلام يقول لبلال: «أرحنا يا بلال»
وقوله تعالى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ
فيه تحذير للمؤمنين أن يستحسنوا ما مع أهل الدنيا من الأموال
والزينة فيحتجبوا بذلك عن عمل الآخرة ورؤيتها، وقد ذكروا أن
الناظر إلى الدنيا بعين الاستحسان من حيث الشهوة والنفس والهوى
يسقط في ساعته عن مشاهدة أسرار الملكوت وأنوار الجبروت، وقوله
سبحانه: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ إلخ فيه ارشاد إلى آداب الصادقين والعارفين
والمريدين، وعلامة الراضي النشاط بما استقبله من الله تعالى
والتلذذ بالبلاء، فكل ما فعل المحبوب محبوب.
رئي أعمى أقطع مطروح على التراب يحمد الله تعالى ويشكره، فقيل
له في ذلك فقال: وعزته وجلاله لو قطعني إربا إربا ما ازددت له
إلا حبا، ولله تعالى در من قال:
أنا راض بالذي ترضونه ... لكم المنة عفوا وانتقاما
ثم إنه سبحانه قسم جوائز فضله على ثمانية أصناف من عباده فقال
سبحانه: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ إلخ، والفقراء في
قول المتجردون بقلوبهم وأبدانهم عن الكونين وَالْمَساكِينِ هم
الذين سكنوا إلى جمال الأنس ونور
(5/330)
القدس حاضرين في العبودية بنفوسهم غائبين
في أنوار الربوبية بقلوبهم فمن رآهم ظنهم بلا قلوب ولم يدر
أنها تسرح في رياض جمال المحبوب، وأنشد:
مساكين أهل العشق ضاعت قلوبهم ... فهم أنفس عاشوا بغير قلوب
والْعامِلِينَ هم أهل التمكين من العارفين وأهل الاستقامة من
الموحدين الذين وقعوا في نور البقاء فأورثهم البسط والانبساط،
فيأخذون منه سبحانه ويعطون له، وهم خزان خزائن جوده المنفقون
على أوليائه، قلوبهم معلقة بالله سبحانه لا بغيره من العرش إلى
الثرى وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ هم المريدون السالكون طريق
محبته تعالى برقة قلوبهم وصفاء نياتهم وبذلوا مهجهم في سوق
شوقه وهم عند الأقوياء ضعفاء الأحوال وَفِي الرِّقابِ هم الذين
رهنت قلوبهم بلذة محبة الله تعالى وبقيت نفوسهم في المجاهدة في
طريقه سبحانه لم يبلغوا بالكلية إلى الشهود فتارة تراهم في لجج
بحر الإرادة، وأخرى في سواحل بحر القرب، وطورا هدف سهام القهر،
ومرة مشرق أنوار اللطف ولا يصلون إلى الحقيقة ما دام عليهم
بقية من المجاهدة والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم والأحرار ما
وراء ذلك وقليل ما هم.
أتمنى على الزمان محالا ... أن ترى مقلتاي طلعة حر
وَالْغارِمِينَ هم الذين ما قضوا حقوق معارفهم في العبودية وما
أدركوا في إيقانهم حقائق الربوبية والمعرفة غريم لا يقضي دينه
وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ هم المحاربون نفوسهم بالمجاهدات
والمرابطون بقلوبهم في شهود الغيب لكشف المشاهدات وَابْنِ
السَّبِيلِ هم المسافرون بقلوبهم في بوادي الأزل وبأرواحهم في
قفار الأبد وبعقولهم في طرق الآيات وبنفوسهم في طلب أهل
الولاية فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ على أهل الإيمان أن يعطوا
هؤلاء الأصناف من مال الله سبحانه لدفع احتياجهم الطبيعي
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال هؤلاء وغيبتهم عن الدنيا حَكِيمٌ حيث
أوجب لهم ما أوجب، ومن الناس من فسر هذه الأصناف بغير ما ذكر
ولا أرى التفاسير بأسرها متكلفة بالجمع والمنع وَمِنْهُمُ
الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ
عابوه عليه الصلاة والسلام وحاشاه من العيب بسلامة القلب وسرعة
القبول والتصديق لما يسمع، فصدقهم جل شأنه ورد عليهم بقوله
سبحانه: قُلْ هو أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ أي هو كذلك لكن بالنسبة
إلى الخير، وهذا من غاية المدح فإن النفس القدسية الخيرية
تتأثر بما يناسبها، أي إنه عليه الصلاة والسلام يسمع ما ينفعكم
وما فيه صلاحكم دون غيره، ثم بين ذلك بقوله تعالى: يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ إلخ، وقد غرهم- قاتلهم الله تعالى حتى قالوا ما
قالوا- كرم النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث لم يشافههم برد ما
يقولون رحمة منه بهم، وهو عليه الصلاة والسلام الرحمة الواسعة،
وعن بعضهم أنه سئل عن العاقل فقال: الفطن المتغافل وأنشد:
وإذا الكريم أتيته بخديعة ... فرأيته فيما تروم يسارع
فاعلم بأنك لم تخادع جاهلا ... إن الكريم لفضله متخادع
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي هم
متشابهون في القبح والرداءة وسوء الاستعداد يَأْمُرُونَ
بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ
أَيْدِيَهُمْ أي يبخلون أو يبغضون المؤمنين فهو إشارة إلى معنى
قوله سبحانه: وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ
مِنَ الْغَيْظِ [آل عمران: 119] أو لا ينصرون المؤمنين أو لا
يخشون لربهم ويرفعون أيديهم في الدعوات نَسُوا اللَّهَ
لاحتجابهم بما هم فيه فَنَسِيَهُمْ من رحمته وفضله وَلَهُمْ
عَذابٌ مُقِيمٌ وهو عذاب الاحتجاب بالسوى وَعَدَ اللَّهُ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ هي جنات النفوس وَمَساكِنَ طَيِّبَةً
مقامات أرباب التوكل في جنات الأفعال وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ
أَكْبَرُ إشارة إلى
(5/331)
جنات الصفات ذلِكَ أي الرضوان هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لكرامة أهله عند الله تعالى وشدة قربهم
ولا بأس بإبقاء الكلام على ظاهره ويكون في قوله سبحانه:
وَمَساكِنَ طَيِّبَةً إشارة إلى الرؤية فإن المحب لا تطيب له
الدار من غير رؤية محبوبه:
أجيراننا ما أوحش الدار بعدكم ... إذا غبتم عنها ونحن حضور
ولكون الرضوان هو المدار لكل خير وسعادة والمناط لكل شرف
وسيادة كان أكبر من هاتيك الجنات والمساكن.
إذا كنت عني يا منى القلب راضيا ... أرى كل من في الكون لي
يتبسم
نسأل الله رضوانه وأن يسكننا جنانه وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ
اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ
وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ بيان لقبائح بعض آخر من
المنافقين، والآية نزلت في ثعلبة بن حاطب ويقال له ابن أبي
حاطب وهو من بني أمية بن زيد، وليس هو البدري لأنه قد استشهد
بأحد رضي الله تعالى عنه.
أخرج الطبراني والبيهقي في الدلائل وابن المنذر وغيرهم عن أبي
أمامة الباهلي قال: جاء ثعلبة بن حاطب إلى رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم قال: يا رسول الله ادع الله تعالى أن يرزقني مالا.
فقال عليه الصلاة والسلام: ويحك يا ثعلبة أما تحب أن تكون مثلي
فلو شئت أن يسير الله تعالى ربي هذه الجبال معي ذهبا لسارت.
قال: يا رسول الله ادع الله تعالى أن يرزقني مالا فو الذي بعثك
بالحق إن آتاني الله سبحانه مالا لأعطين كل ذي حق حقه، فقال:
ويحك يا ثعلبة قليل تطيق شكره خير من كثير لا تطيقه. قال: يا
رسول الله ادع الله تعالى فقال رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم: اللهم ارزقه مالا فاتخذ غنما فبورك له فيها ونمت كما
ينمو الدود حتى ضاقت به المدينة فتنحى بها فكان يشهد الصلاة
بالنهار مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا يشهدها بالليل
ثم نمت كما ينمو الدود فضاق به مكانه فتنحى بها فكان يشهد
الصلاة بالنهار مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا يشهدها
بالليل ثم نمت كما ينمو الدود فتنحى وكان لا يشهد الصلاة
بالليل ولا بالنهار إلا من جمعة إلى جمعة مع رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم ثم نمت كما ينمو الدود فضاق به مكانه فتنحى
بها فكان لا يشهد جمعة ولا جنازة مع رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم فجعل يتلقى الركبان ويسألهم عن الاخبار وفقده رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم فسأل عنه فأخبروه أنه اشترى غنما وأن
المدينة ضاقت به فقال عليه الصلاة والسلام: ويح ثعلبة بن حاطب
ويح ثعلبة بن حاطب. ثم إن الله تعالى أمر رسوله صلّى الله عليه
وسلّم أن يأخذ الصدقات وأنزل خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً
تُطَهِّرُهُمْ [التوبة: 103] الآية فبعث رجلين رجلا من جهينة
ورجلا من بني سلمة يأخذان الصدقات وكتب لهما أسنان الإبل
والغنم وكيف يأخذانها وأمرهما أن يمرا على ثعلبة ورجل من بني
سليم فخرجا فمرا بثعلبة فسألاه الصدقة فقال: أرياني كتابكما؟
فنظر فيه فقال: ما هذا إلا جزية انطلقا حتى تفرغا ثم مرا بي
فانطلقا وسمع بهما السليمي فاستقبلهما بخيار إبله فقالا: إنما
عليك دون هذا فقال: ما كنت أتقرب إلى الله تعالى إلا بخير مالي
فقبلا فلما فرغا مرا بثعلبة فقال: أرياني كتابكما؟ فنظر فيه
فقال: ما هذا إلا جزية انطلقا حتى أرى رأيي فانطلقا حتى قدما
المدينة فلما رآهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال قبل أن
يكلمهما: ويح ثعلبة بن حاطب ودعا للسليمي بالبركة وأنزل الله
تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ الآيات الثلاث فسمع بعض
من أقاربه فأتاه فقال: ويحك يا ثعلبة أنزل فيك كذا وكذا فقدم
على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله هذه
صدقة مالي. فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله قد منعني أن
أقبل منك فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه فقال رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم: هذا عملك بنفسك أمرتك فلم تطعني فلم يقبل منه
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى مضى، ثم أتى أبا بكر رضي
الله تعالى عنه فقال: يا أبا بكر اقبل مني صدقتي فقد عرفت
منزلتي من الأنصار. فقال أبو بكر: لم يقبلها رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم وأقبلها فلم يقبلها أبو بكر، ثم ولي عمر رضي
الله تعالى
(5/332)
عنه فأتاه فقال: يا أبا حفص يا أمير
المؤمنين اقبل من صدقتي فقال: لم يقبلها رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم ولا أبو بكر أقبلها أنا فأبى أن يقبلها، ثم ولي
عثمان رضي الله تعالى عنه فلم يقبلها منه وهلك في خلافته.
وفي بعض الروايات أن ثعلبة هذا كان قبل ذلك ملازما لمسجد النبي
صلّى الله عليه وسلّم حتى لقب حمامة المسجد ثم رآه النبي صلّى
الله عليه وسلّم يسرع الخروج منه عقيب الصلاة فقال عليه الصلاة
والسلام له: ما لك تعمل عمل المنافقين؟ فقال: إني افتقرت ولي
ولامرأتي ثوب واحد أجيء به للصلاة ثم أذهب فأنزعه لتلبسه وتصلي
به فادع الله تعالى أن يوسع علي رزقي إلى آخر ما في الخبر.
والظاهر أن منع الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام عن
القبول منه كان بوحي منه تعالى له بأنه منافق والصدقة لا تؤخذ
منهم وإن لم يقتلوا لعدم الإظهار، وحثوه للتراب ليس للتوبة من
نفاقه بل للعار من عدم قبول زكاته مع المسلمين.
ومعنى هذا عملك هذا جزاء عملك وما قلته، وقيل: المراد بعمله
طلبه زيادة رزقه وهذا إشارة إلى المنع أي هو عاقبة عملك، وقيل:
المراد بالعمل عدم إعطائه للمصدقين. وعن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما أن ثعلبة أتى مجلسا من مجالس الأنصار فأشهدهم لئن
آتاني الله تعالى من فضله تصدقت منه وآتيت كل ذي حق حقه فمات
ابن عم له فورث منه مالا فلم يف بما عاهد الله تعالى عليه
فأنزل الله تعالى فيه هذه الآيات. وقال الحسن: إنها نزلت في
ثعلبة ومعتب بن قشير خرجا على ملأ قعود فحلفا بالله تعالى لئن
آتانا من فضله لنصدقن فلما آتاهما بخلا. وقال السائب: إن حاطب
بن أبي بلتعة كان له مال بالشام فأبطأ عليه فجهد لذلك جهدا
شديدا فحلف بالله لئن آتانا الله من فضله- يعني ذلك المال-
لأصدقن ولأصلن فلما آتاه ذلك لم يف بما عاهد الله تعالى عليه
وحكي ذلك عن الكلبي، والأول أشهر وهو الصحيح في سبب النزول،
والمراد بالتصديق قيل: إعطاء الزكاة الواجبة وما بعده إشارة
إلى فعل سائر أعمال البر من صلة الأرحام ونحوها. وقيل: المراد
بالتصديق إعطاء الزكاة وغيرها من الصدقات وما بعده إشارة إلى
الحج على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو إلى ما
يعمه والنفقة في الغزو كما قيل. وقرىء «لنصدقن ولنكونن» بالنون
الخفيفة فيهما.
فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ أي منعوا حق
الله تعالى منه وَتَوَلَّوْا أي أعرضوا عن طاعة الله سبحانه
وَهُمْ مُعْرِضُونَ أي وهم قوم عادتهم الإعراض عن الطاعات فلا
ينكر منهم هذا، والجملة مستأنفة أو حالية والاستمرار المقتضي
للتقدم لا ينافي ذلك، والمراد على ما قيل: تولوا بإجرامهم وهم
معرضون بقلوبهم فَأَعْقَبَهُمْ أي جعل الله تعالى عاقبة فعلهم
ذلك نِفاقاً أي سوء عقيدة وكفرا مضمرا. فِي قُلُوبِهِمْ إِلى
يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ أي الله تعالى، والمراد بذلك اليوم وقت
الموت، فالضمير المستتر في أعقب لله تعالى وكذا الضمير المنصوب
في يَلْقَوْنَهُ، والكلام على حذف مضاف، والمراد بالنفاق بعض
معناه وتمامه إظهار الإسلام وإضمار الكفر، وليس بمراد كما
أشرنا إلى ذلك كله، ونقل الزمخشري عن الحسن وقتادة أن الضمير
الأول للبخل وهو خلاف الظاهر بل قال بعض المحققين: إنه يأباه
قوله تعالى:
بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا
يَكْذِبُونَ إذ ليس لقولنا أعقبهم البخل نفاقا بسبب إخلافهم
إلخ كثير معنى، ولا يتصور على ما قيل أن يعلل النفاق بالبخل
أولا ثم يعلل بأمرين غيره بغير عطف، ألا ترى لو قلت: حملني على
إكرام زيد علمه لأجل أنه شجاع وجواد كان خلفا حتى تقول حملني
على إكرام زيد علمه وشجاعته وجوده.
وقال الإمام: ولأن غاية البخل ترك بعض الواجبات وهو لا يوجب
حصول النفاق الذي هو كفر وجهل في القلب كما في حق كثير من
الفساق، وكون هذا البخل بخصوصه يعقب النفاق والكفر لما فيه من
عدم إطاعة الله
(5/333)
تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وخلف
وعده كما قيل لا يقتضي الأرجحية بل الصحة ولعلها لا تنكر،
واختيار الزمخشري كان لنزعة اعتزالية هي أنه تعالى لا يقضي
بالنفاق ولا يخلقه لقاعدة التحسين والتقبيح، وجوز أن يكون
الضمير المنصوب للبخل أيضا، والمراد باليوم يوم القيامة، وهناك
مضاف محذوف أي يلقون جزاءه وما مصدرية.
والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للإيذان بالاستمرار أي بسبب
اخلافهم ما وعدوه تعالى من التصدق والصلاح وبسبب كونهم مستمرين
على الكذب في جميع المقالات التي من جملتها وعدهم المذكور،
وقيل: المراد كذبهم فيما تضمنه خلف الوعد فإن الوعد وإن كان
إنشاء لكنه متضمن للخبر فإذا تخلف كان قبيحا من وجهين الخلف
والكذب الضمني، وفيه نظر لأن تخصيص الكذب بذلك يؤدي إلى تخلية
الجمع بين الصيغتين عن المزية، وقد اشتملت الآية على خصلتين من
خصال المنافقين،
فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله
عليه وسلّم قال: «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف
وإذا أؤتمن خان»
ويستفاد من الصحاح آية أخرى له «إذا خاصم فجر» . واستشكل ذلك
بأن الخصال قد توجد في المسلم الذي لا شك فيه ولا شبهة تعتريه
بل كثير من علمائنا اليوم متصفون بأكثرها أو بها كلها، وأجيب
بأن المعنى أن هذه الخصال خصال نفاق وصاحبها يشبه المنافقين في
التخلق بها، والمراد
بقوله عليه الصلاة والسلام على ما في بعض الروايات الصحيحة
«أربع من كن فيه منافقا خالصا»
أنه كان شديد الشبه بالمنافقين لا أنه كان منافقا حقيقة.
وقيل: إن الأخبار الواردة في هذا الباب إنما هي فيمن كانت تلك
الخصال غالبة عليه غير مكترث بها ولا نادم على ارتكابها ومثله
لا يبعد أن يكون منافقا حقيقة، وقيل: هي في المنافقين الذين
كانوا في زمنه عليه الصلاة والسلام فإنهم حدثوا في أيمانهم
فكذبوا واؤتمنوا على دينهم فخانوا ووعدوا في النصرة للحق
فأخلفوا أو خاصموا ففجروا، وروي هذا عن ابن عباس وابن عمر، وهو
قول سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح، وإليه رجع الحسن بعد أن
كان على خلافه، قال القاضي عياض: وإليه مال أكثر أئمتنا، وقيل:
كان ذلك في رجل بعينه وهو خارج مخرج
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما بال أقوام يفعلون كذا»
لأناس مخصوصين منعه كرمه عليه الصلاة والسلام أن يواجههم بصريح
القول، وحكى الخطابي عن بعضهم أن المقصود من الإخبار تحذير
المسلم أن يعتاد هذه الخصال ولعله راجع إلى ما أجيب به أولا،
وبالجملة يجب على المؤمن اجتناب هذه الخصال فإنها في غاية
القبح عند ذوي الكمال.
مساو لو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطلاق
وقرىء «يكذّبون» بتشديد الذال أَلَمْ يَعْلَمُوا أي المنافقون
أو من عاهد الله تعالى،
وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ بالتاء على أنه خطاب
للمؤمنين،
وقيل: للأولين على الالتفات ويأباه قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وجعله التفاتا آخر تكلف،
والمراد من السر على تقدير أن يكون الضمير للمنافقين ما أسروه
في أنفسهم من النفاق ومن النجوى ما يتناجون به من المطاعن،
وعلى التقدير الآخر المراد من الأول العزم على الإخلاف ومن
الثاني تسمية الزكاة جزية، وتقديم السر على النجوى لأن العلم
به أعظم في الشاهد من العلم بها مع ما في تقديمه وتعليق العلم
به من تعجيل إدخال الروعة أو السرور على اختلاف القراءتين
وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ينفعك هنا أيضا وَأَنَّ اللَّهَ
عَلَّامُ الْغُيُوبِ فلا يخفى عليه سبحانه شيء من الأشياء.
والهمزة إما للإنكار والتوبيخ والتهديد أي ألم يعلموا ذلك حتى
اجترءوا على ما اجترءوا عليه من العظائم أو للتقرير والتنبيه
على أن الله سبحانه مؤاخذهم ومجازيهم بما علم من أعمالهم،
وإظهار الاسم الجليل لإلقاء الروعة وتربية المهابة أو لتعظيم
أمر المؤاخذة والمجازاة، وفي إيراد العلم المتعلق بسرهم
ونجواهم الحادثين شيئا فشيئا بصيغة الفعل الدال على الحدوث
والتجدد والعلم المتعلق بالغيوب
(5/334)
الكثيرة بصيغة الاسم الدال على الدوام
والمبالغة من الفخامة والجزالة ما لا يخفى الَّذِينَ
يَلْمِزُونَ مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين وقيل:
أي منهم الذين، وقيل: مبتدأ خبره فَيَسْخَرُونَ والفاء لما في
الموصول من شبه الشرط أو سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ أو منصوب
بفعل محذوف أعني- أعني- أو أذم أو مجرور على البدلية من ضمير
سِرَّهُمْ على أنه للمنافقين مطلقا. وقرىء بضم الميم وهو لغة
كما علمت أي يعيبون الْمُطَّوِّعِينَ أي المتطوعين، والمراد
بهم من يعطي تطوعا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حال من الضمير، وقوله
سبحانه: فِي الصَّدَقاتِ متعلق بيلمزون، ولا يجوز كما قال أبو
البقاء تعلقه بالمطوعين للفصل،
أخرج البغوي في معجمه وأبو الشيخ عن الحسن قال «قام رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم مقاما للناس فقال: يا أيها الناس تصدقوا
يا أيها الناس تصدقوا أشهد لكم بها يوم القيامة ألا لعل أحدكم
أن يبيت فصاله رواء وابن له طاو إلى جنبه ألا لعل أحدكم أن
يثمر ماله وجاره مسكين لا يقدر على شيء ألا رجل منح ناقة من
إبله يغدو برفد ويروح برفد يغدو بصبوح أهل بيته ويروح بغبوقهم
ألا إن أجرها لعظيم فقام رجل فقال:
يا رسول الله عندي أبعرة عندي أربعة ذود فقام آخر قصير القامة
قبيح الشبه يقود ناقة له حسناء جملاء فقال له رجل من المنافقين
كلمة خفية لا يرى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سمعها ناقته
خير منه فسمعها عليه الصلاة والسلام فقال: كذبت هو خير منك
ومنها، ثم قام عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله عندي
ثمانية آلاف تركت منها أربعة لعيالي وجئت بأربعة أقدمها إلى
الله تعالى فتكاثر المنافقون ما جاء به ثم قام عاصم بن عدي
الأنصاري فقال: يا رسول الله عندي سبعون وسقا من تمر فتكاثر
المنافقون ما جاء به وقالوا: جاء هذا بأربعة آلاف وجاء هذا
بسبعين وسقا للرياء والسمعة فهلا أخفياها فهلا فرقاها، ثم قام
رجل من الأنصار اسمه الحبحاب يكنى أبا عقيل فقال: يا رسول الله
ما لي من مال غير أني آجرت نفسي البارحة من بني فلان أجر
الجرير في عنقي على صاعين من تمر فتركت صاعا لعيالي وجئت بصاع
أقربه إلى الله تعالى فلمزه المنافقون وقالوا: جاء أهل الإبل
بالإبل وجاء أهل الفضة بالفضة وجاء هذا بتميرات يحملها فأنزل
الله تعالى الآية،
ولم يبين الآلاف التي ذكرها عبد الرحمن في هذه الرواية وكانت
على ما
أخرجه ابن المنذر عن مجاهد- دنانير- وفي رواية أنها دراهم،
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس أن عبد الرحمن جاء
بأربعمائة أوقية من ذهب وهي نصف ما كان عنده وأن النبي صلّى
الله عليه وسلّم قال: اللهم بارك له فيما أعطى وبارك له فيما
أمسك، وجاء في رواية الطبراني أن الله بارك حتى صولحت إحدى
امرأتيه عن نصف الثمن على ثمانين ألف درهم،
وفي الكشاف وعزاه الطيبي للاستيعاب أن زوجته تماضر صولحت عن
ربع الثمن على ثمانين ألفا، فعلى الأول يكون له زوجتان وعلى
الثاني يكون له أربع زوجات، ويختلف مجموع المالين على
الروايتين اختلافا كثيرا، وفي رواية ابن أبي حاتم عن ابن زيد
أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان أحد المطوعين وأنه
جاء بمال كثير يحمله فقال له رجل من المنافقين: أترائي يا عمر؟
فقال: نعم أرائي الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فأما
غيرهما فلا. وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا
جُهْدَهُمْ عطف على الْمُطَّوِّعِينَ وهو من عطف الخاص على
العام، وقيل: عطف على المؤمنين. وتعقبه الأجهوري بأن فيه إيهام
أن المعطوف ليس من المؤمنين.
وقال أبو البقاء: هو عطف على الَّذِينَ يَلْمِزُونَ وأراه خطأ
صرفا. والجهد بالضم الطاقة أي ويلمزون الذين لا يجدون إلا
طاقتهم وما تبلغه قوتهم وهم الفقراء كأبي عقيل واسمه مر آنفا،
وعن ابن إسحاق أن اسمه سهل بن رافع، وعن مجاهد أنه فسر الموصول
برفاعة بن سعد، ولعل الجمع حينئذ للتعظيم، ويحتمل أن يكون على
ظاهره والمذكور سبب النزول، وقرأ ابن هرمز جُهْدَهُمْ بالفتح
وهو إحدى لغتين في الجهد فمعنى المضموم والمفتوح واحد، وقيل:
المفتوح بمعنى المشقة والمضموم بمعنى الطاقة قاله القتبي،
وقيل: المضموم شيء قليل يعاش به والمفتوح
(5/335)
العمل، وقوله تعالى: فَيَسْخَرُونَ
مِنْهُمْ عطف على يَلْمِزُونَ أو خبر على ما علمت أي يستهزئون
بهم، والمراد بهم على ما قيل الفريق الأخير سَخِرَ اللَّهُ
مِنْهُمْ أي جازاهم على سخريتهم، فالجملة خبرية والتعبير بذلك
للمشاكلة وليست انشائية للدعاء عليهم لأن يصيروا ضحكة لأن قوله
تعالى جده:
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ جملة خبرية معطوفة عليها فلو كانت
دعاء لزم عطف الاخبارية على الإنشائية في ذلك كلام، وإنما
اختلفتا فعلية واسمية لأن السخرية في الدنيا وهي متجددة
والعذاب في الآخرة وهو دائم ثابت، والتنوين في العذاب للتهويل
والتفخيم اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
الظاهر أن المراد به وبمثله التخيير، ويؤيد إرادته هنا فهم
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما ستعلم إن شاء الله تعالى
ذلك منه فكأنه قال سبحانه له عليه الصلاة والسلام: إن شئت
فاستغفر لهم وإن شئت فلا، وكلام النسفي تنسفه صحة الأخبار
نسفا. واختار غير واحد أن المراد التسوية بين الأمرين كما في
قوله تعالى: أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [التوبة: 53]
والبيت المار:
أسيئي بنا أو أحسني إلخ، والمقصود الإخبار بعدم الفائدة في ذلك
وفيه من المبالغة ما فيه، وقال بعض المحققين بعد اختياره
للتسوية في مثل ذلك: إنها لا تنافي التخيير فإن ثبت فهو بطريق
الاقتضاء لوقوعها بين ضدين لا يجوز تركهما ولا فعلهما فلا بد
من أحدهما ويختلف الحال فتارة يكون الإثبات كما في قوله تعالى:
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ [البقرة: 6، يس: 10] وأخرى النفي كما هنا وفي قوله
سبحانه: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [المنافقون: 6] إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ بيان لعدم
المغفرة وإن استغفر لهم حسبما أريد إثر التخيير أو بيان
لاستحالة المغفرة بعد المبالغة في الاستغفار إثر بيان الاستواء
بين الاستغفار وعدمه.
وسبب النزول على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه
لما نزل قوله سبحانه: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ إلخ سأله عليه
الصلاة والسلام اللامزون الاستغفار لهم فهم أن يفعل فنزلت فلم
يفعل. وقيل: نزلت بعد أن فعل، واختار الإمام عدمه وقال: إنه لا
يجوز الاستغفار للكافر فكيف يصدر عنه صلّى الله عليه وسلّم.
ورد بأنه يجوز لأحيائهم بمعنى طلب سبب الغفران، والقول بأن
الاستغفار للمصر لا ينفع لا ينفع لأنه لا قطع بعدم نفعه إلا أن
يوحى إليه عليه الصلاة والسلام بأنه لا يؤمن كأبي لهب، والقول
بأن الاستغفار للمنافق إغراء له على النفاق لا نفاق له أصلا
وإلا لامتناع الاستغفار لعصاة المؤمنين ولا قائل به، وقال
بعضهم: إنه على تقدير وقوع الاستغفار منه عليه الصلاة والسلام
والقول بتقديم النهي المفاد بقوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ
[التوبة: 113] لا إشكال فيه إذ النهي ليس للتحريم بل لبيان عدم
الفائدة وهو كلام واه لأن قصارى ما تدل عليه الآية المنع من
الاستغفار للكفار وهو لا يقتضي المنع عن الاستغفار لمن ظاهر
حاله الإسلام، والقول بأنه حيث لم يستجب يكون نقصا في منصب
النبوة ممنوع لأنه عليه الصلاة والسلام قد لا يجاب دعاؤه لحكمة
كما لم يجب دعاء بعض إخوانه الأنبياء عليهم السلام ولا يعد ذلك
نقصا كما لا يخفى، ومناسبة الآية لما قبلها على هذه الرواية في
غاية الوضوح إلا أنه قيل: إن الصحيح المعول عليه في ذلك
أن عبد الله وكان اسمه الحباب وكان من المخلصين ابن عبد الله
بن أبي سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرض أبيه أن
يستغفر له ففعل فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام: لأزيدن على
السبعين فنزلت سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ
[المنافقون: 6] إلخ،
وفيه رد على الإمام أيضا في اختياره عدم الاستغفار وكذا في
إنكاره كون مفهوم العدد حجة كما نقله عنه الأسنوي في التمهيد
مخالفا في ذلك الشافعي رضي الله تعالى عنه فإنه قائل بحجيته
كما نقله الغزالي عنه في المنخول وشيخه إمام الحرمين في
البرهان وصرح بأن ذلك قول الجمهور.
(5/336)
وفي المطلب لابن الرفعة أن مفهوم العدد هو
العمدة عندنا في عدم تنقيص الحجارة في الاستنجاء على الثلاثة
والزيادة على ثلاثة أيام في الخيار، وما نقل عن النووي من أن
مفهوم العدد باطل عند الأصوليين محمول على أن المراد باطل عند
جمع من الأصوليين كما يدل عليه كلامه في شرح مسلم في باب
الجنائز وإلا فهو عجيب منه.
وكلام العلامة البيضاوي مضطرب، ففي المنهاج التخصيص بالعدد لا
يدل على الزائد والناقص أي إنه نص في مدلوله لا يحتمل الزيادة
والنقصان، وفي التفسير عند هذه الآية بعد سوق خبر سبب النزول
أنه عليه الصلاة والسلام فهم من السبعين العدد المخصوص لأنه
الأصل فجاز أن يكون ذلك حدا يخالفه حكم ما وراءه فبين له عليه
الصلاة والسلام أن المراد به التكثير لا التحديد، وذكر في
تفسير سورة البقرة عند قوله سبحانه: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ
سَماواتٍ [البقرة:
29] أنه ليس في الآية نفي الزائد، وإرادة التكثير من السبعين
شائع في كلامهم وكذا إرادته من السبعة والسبعمائة، وعلل في شرح
المصابيح ذلك بأن السبعة مشتملة على جملة أقسام العدد فإنه
ينقسم إلى فرد وزوج وكل منهما إلى أول ومركب فالفرد الأول
ثلاثة والمركب من خمسة والزوج الأول اثنان والمركب أربعة،
وينقسم أيضا إلى منطق كالأربعة وأصم كالستة والسبعة تشتمل على
جميع هذه الأقسام، ثم إن أريد المبالغة جعلت آحادها أعشارا
وأعشارها مئات، وأريد بالفرد الأول الذي لا يكون مسبوقا بفرد
آخر عددي كالثلاثة إذ الواحد ليس بعدد بناء على أنه ما ساوى
نصف مجموع حاشيتيه الصحيحتين، وبالفرد المركب الذي يكون مسبوقا
بفرد آخر فإن الخمسة مسبوقة بثلاثة، وأريد بالزوج الأول الغير
مسبوق بزوج آخر كالاثنين وبالمركب ما يكون مسبوقا به كالأربعة
المسبوقة بالاثنين، وقد يقسم العدد ابتداء إلى أول ومركب ويراد
بالأول ما لا يعده إلا الواحد كالثلاثة والخمسة والسبعة
وبالمركب ما يعده غير الواحد كالأربعة فإنه يعدها الاثنان
والتسعة فإنه يعدها الثلاثة، وللمنطق إطلاقان فيطلق ويراد به
ما له كسر صحيح من الكسور التسعة، والأصم الذي يقابله ما لا
يكون كذلك كأحد عشر، ويطلق ويراد به المجذور وهو ما يكون حاصلا
من ضرب عدد في نفسه كالأربعة الحاصلة من ضرب الاثنين في نفسها
والتسعة الحاصلة من ضرب الثلاثة في نفسها والأصم الذي يقابله
ما لا يكون كذلك كالاثنين والثلاثة وهذا مراد شارح المصابيح
حيث مثل الأصم بالستة مع أن لها كسرا صحيحا بل كسران النصف
والسدس لكنها ليست حاصلة من ضرب عدد في نفسه، ومعنى اشتمال
السبعة على هذه الأقسام أنه إذا جمع الفرد الأول مع الزوج
المركب أو الفرد المركب مع الزوج الأول كان سبعة، وكذا إذا جمع
المنطق كالأربعة مع الأصم كالثلاثة كان الحاصل سبعة وهذه
الخاصة لا توجد في العدد قبل السبعة، فمن ظن أن الأنسب
بالاعتبار بحسب هذا الاشتمال هو الستة لا السبعة لأنها
المشتملة على ما ذكر فهو لم يحصل معنى الاشتمال أو لم يعرف هذه
الاصطلاحات لكونها من وظيفة علم الارتماطيقي.
ومما ذكرنا من معنى الاشتمال يندفع أيضا ما يتوهم من أن
التحقيق أن كل عدد مركب من الوحدات لا من الأعداد التي تحته إذ
ليس المراد من الاشتمال التركيب على أن في هذا التحقيق مقالا
مذكورا في محله.
وقال ابن عيسى الربعي: إن السبعة أكمل الأعداد لأن الستة أول
عدد تام وهي مع الواحد سبعة فكانت كاملة إذ ليس بعد التمام إلا
الكمال، ولذا سمي الأسد سبعا لكمال قوته، وفسر العدد التام بما
يساوي مجموع كسوره وكون الستة كذلك ظاهر فإن كسورها سدس وهو
واحد وثلث وهو اثنان ونصف وهو ثلاثة ومجموعها ستة، لكن استبعد
عدم فهم من هو أفصح الناس وأعرفهم باللسان صلّى الله عليه
وسلّم إرادة التكثير من السبعين هنا، ولذا قال البعض: إنه عليه
الصلاة والسلام لم يخف عليه ذلك لكنه خيل بما قال إظهارا لغاية
رأفته ورحمته لمن بعث إليه كقول إبراهيم عليه السلام:
وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم: 36] يعني
أنه صلّى الله عليه وسلّم أوقع في خيال السامع أنه فهم العدد
المخصوص
(5/337)
دون التكثير فجوز الإجابة بالزيادة قصدا
إلى إظهار الرأفة والرحمة كما جعل إبراهيم عليه السلام جزاء من
عصاني أي لم يمتثل أمر ترك عبادة الأصنام قوله: فَإِنَّكَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ دون إنك شديد العقاب مثلا فخيل أنه سبحانه
يرحمهم ويغفر لهم رأفة بهم وحثا على الاتباع، وتعقب بأن ذكره
للتمويه والتخييل بعد ما فهم عليه الصلاة والسلام منه التكثير
لا يليق بمقامه الرفيع، وفهم المعنى الحقيقي من لفظ اشتهر
مجازه لا ينافي الفصاحة والمعرفة باللسان فإنه لا خطأ فيه ولا
بعد إذ هو الأصل، ورجحه عنده عليه الصلاة والسلام شغفه
بهدايتهم ورأفته بهم واستعطاف من عداهم، ولعل هذا أولى من
القول بالتمويه بلا تمويه، وأنكر إمام الحرمين صحة ما يدل على
أنه عليه الصلاة والسلام فهم على أن حكم ما زاد على السبعين
بخلافه وهو غريب منه، فقد جاء ذلك من رواية البخاري ومسلم وابن
ماجة والنسائي وكفى بهم، وقول الطبرسي: «إن خبر «لأزيدن» إلخ
خبر واحد لا يعول عليه» لا يعول عليه، وتمسك في ذلك بما هو
كحبل الشمس وهو عند القائلين بالمفهوم كجبال القمر، وأجاب
المنكرون له بمنع فهم ذلك لأن ذكر السبعين للمبالغة وما زاد
عليه مثله في الحكم وهو مبادرة عدم المغفرة فكيف يفهم منه
المخالفة، ولعله علم صلّى الله عليه وسلّم أنه غير مراد هاهنا
بخصوصه سلمناه لكن لا نسلم فهمه منه، ولعله باق على أصله في
الجواز إذ لم يتعرض له بنفي ولا إثبات والأصل جواز الاستغفار
للرسول عليه الصلاة والسلام وكونه مظنة الإجابة ففهم من حيث
إنه الأصل لا من التخصيص بالذكر، وحاصل الأول منع فهمه منه
مطلقا بل إنما فهم من الخارج، وحاصل الثاني تسليم فهمه منه في
الجملة لكن لا بطريق المفهوم بل من جهة الأصل.
وأنت تعلم أن ظاهر الخبر مع القائلين بالمفهوم غاية الأمر أن
الله سبحانه أعلم نبيه عليه الصلاة والسلام بآية المنافقين أن
المراد بالعدد هنا التكثير دون التحديد ليكون حكم الزائد
مخالفا لحكم المذكور فيكون المراد بالآيتين عند الله تعالى
واحدا وهو عدم المغفرة لهم مطلقا، لكن في دعوى نزول آية
المنافقين بعد هذه الآية إشكال، أما على القول بأن براءة آخر
ما نزل فظاهر وأما على القول بأن أكثرها أو صدرها كذلك وحينئذ
لا مانع من تأخر نزول بعض الآيات منها عن نزول بعض من غيرها
فلأن صدر ما في سورة المنافقين يقتضي أنها نزلت في غير قصة هذه
التي سلفت آنفا، وظاهر الأخبار كما ستعلم إن شاء الله تعالى
يقتضي أنها نزلت في ابن أبي ولم يكن مريضا، وما تقدم في سبب
نزول ما هنا نص في أنه نزل وهو مريض، والقول بأن تلك نزلت
مرتين يحتاج إلى النقل ولا يكتفي في مثله بالرأي وأنى به، على
أنه يشكل حينئذ قوله عليه الصلاة والسلام «لأزيدن على السبعين»
مع تقدم نزول المبين للمراد منه، والقول بالغفلة لا أراه إلّا
ناشئا من الغفلة عن قوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى بل
الجهل بمقامه الرفيع عليه الصلاة والسلام ومزيد اعتنائه بكلام
ربه سبحانه، ولم أر من تعرض لدفع هذا الإشكال، ولا سبيل إلى
دفعه إلا بمنع نزول ما في سورة المنافقين في قصة أخرى ومنع
دلالة الصدر على ذلك. نعم ذكروا أن الصدر نزل في ابن أبي ولم
يكن مريضا إذ ذاك ولم نقف على نص في أن العجز نزل فيه كذلك،
والظاهر نزوله بعد قوله سبحانه: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ
مِنْهُمْ إلخ وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يؤيد ذلك عند تفسير
الآية فافهم ذلِكَ أي امتناع المغفرة لهم ولو بعد ذلك
الاستغفار بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم كَفَرُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ يعني ليس الامتناع لعدم الاعتداد باستغفارك بل
بسبب عدم قابليتهم لأنهم كفروا كفرا متجاوزا للحد كما يشير
إليه وصفهم بالفسق في قوله سبحانه:
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ فإن الفسق في كل
شيء عبارة عن التمرد والتجاوز عن حدوده، والمراد بالهداية
الدلالة الموصلة لا الدلالة على ما يوصل لأنها واقعة لكن لم
يقبلوها لسوء اختيارهم، والجملة تذييل مؤكد لما قبله من الحكم
فإن مغفرة الكفار بالإقلاع عن الكفر والإقبال إلى الحق
والمنهمك فيه المطبوع عليه بمعزل من ذلك، وفيه تنبيه
(5/338)
على عذر النبي صلّى الله عليه وسلّم في
الاستغفار لهم وهو عدم يأسه من إيمانهم حيث لم يعلم إذ ذاك
أنهم مطبوعون على الغي لا ينجع فيهم العلاج ولا يفيدهم
الإرشاد، والممنوع هو الاستغفار بعد العلم بموتهم كفارا كما
يشهد له قوله سبحانه:
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما
تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التوبة: 113]
ولعل نزول قوله سبحانه: بِأَنَّهُمْ إلخ متراخ عن نزول قوله
سبحانه: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ إلخ كما قيل وإلا لم يكن له صلّى
الله عليه وسلّم عذر في الاستغفار بعد النزول.
والقول بأن هذا العذر إنما يصح لو كان الاستغفار للحي كما مر
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيه نظر فَرِحَ
الْمُخَلَّفُونَ أي الذين خلفهم النبي صلّى الله عليه وسلّم
وأذن لهم في التخلف أو خلفهم الله تعالى بتثبيطه إياهم لحكمة
علمها أو خلفهم الشيطان بإغرائه أو خلفهم الكسل والنفاق
بِمَقْعَدِهِمْ متعلق بفرح وهو مصدر ميمي بمعنى القعود.
وقيل: اسم مكان، والمراد منه المدينة، والأكثرون على الأول أي
فرحوا بقعودهم عن الغزو خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ أي خلفه عليه
الصلاة والسلام وبعد خروجه حيث خرج ولم يخرجوا فهو نصب على
الظرفية بمعنى بعد وخلف وقد استعملته العرب في ذلك، والعامل
فيه كما قال أبو البقاء «مقعد» وجوز أن يكون فَرِحَ. وقيل: هو
بمعنى المخالفة فيكون مصدر خالف كالقتال وحينئذ يصح أن يكون
حالا بمعنى مخالفين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأن يكون
مفعولا له والعامل إما فَرِحَ أي فرحوا لأجل مخالفته صلّى الله
عليه وسلّم بالقعود وإما «مقعدهم» أي فرحوا بقعودهم لأجل
المخالفة، وجعل المخالفة علة باعتبار أن قصدهم ذلك لنفاقهم ولا
حاجة إلى أن يقال قصدهم الاستراحة ولكن لما آل أمرهم إلى ذلك
جعل علة كما قالوا في لام العاقبة وجوز أن يكون نصبا على
المصدر بفعل دل عليه الكلام.
وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ إيثارا للراحة والتنعم بالمآكل والمشارب مع ما
في قلوبهم من الكفر والنفاق، وبين الفرح والكراهة مقابلة
معنوية لأن الفرح بما يحب.
وإيثار ما في النظم على أن يقال وكرهوا أن يخرجوا مع رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم إيذان بأن الجهاد في سبيل الله تعالى مع
كونه من أجل الرغائب التي ينبغي أن يتنافس فيها المتنافسون قد
كرهوه كما فرحوا بأقبح القبائح وهو القعود خلاف رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم، وفي الكلام تعريض بالمؤمنين الذين آثروا ذلك
وأحبوه ابتغاء لرضا الله تعالى ورسوله وَقالُوا أي لإخوانهم
تثبيتا لهم على القعود وتواصيا بينهم بالفساد أو للمؤمنين
تثبيتا لهم على الجهاد ونهيا عن المعروف وإظهارا لبعض العلل
الداعية لهم إلى ما فرحوا به، والقائل رجال من المنافقين كما
روي عن جابر بن عبد الله وهو الذي يقتضيه الظاهر.
وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي أن القائل رجل من بني
سلمة، ووجه ضمير الجمع على هذا يعلم بما مر غير مرة لا
تَنْفِرُوا لا تخرجوا إلى الغزو فِي الْحَرِّ فإنه لا يستطاع
شدته قُلْ يا محمد ردا عليهم وتجهيلا لهم نارُ جَهَنَّمَ التي
هي مصيركم بما فعلتم أَشَدُّ حَرًّا من هذا الحر الذي ترونه
مانعا من النفير فما لكم لا تحذرونها وتعرضون أنفسكم لها
بإيثار القعود والمخالفة لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام
لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ تذييل من جهته تعالى غير داخل على
القول المأمور به مؤكد لمضمونه، وجواب لَوْ مقدر وكذا مفعول
يَفْقَهُونَ أي لو كانوا يعلمون أنها كذلك أو أحوالها وأهوالها
أو أن مرجعهم إليها لما آثروا راحة زمن قليل على عذاب الأبد،
وأجهل الناس من صان نفسه عن أمر يسير يوقعه في ورطة عظيمة،
وأنشد الزمخشري لابن أخت خالته:
مسرة أحقاب تلقيت بعدها ... مساءة يوم أريها شبه الصاب
(5/339)
فكيف بأن تلقى مسرة ساعة ... وراء تقضيها
مساءة أحقاب (1)
وقدر بعضهم الجواب لتأثروا بهذا الإلزام وهو خلاف الظاهر، وجوز
أن تكون لَوْ لمجرد التمني المنبئ عن امتناع تحقق مدخولها،
وينزل الفعل المتعدي منزلة اللازم فلا جواب ولا مفعول ويؤول
المعنى إلى أنهم ما كانوا من أهل الفطانة والفقه، ويكون الكلام
نظير قوله تعالى: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا
يُؤْمِنُونَ [يونس: 101] وهو خلاف الظاهر أيضا.
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً اخبار عن عاجل
أمرهم وآجله من الضحك القليل في الدنيا والبكاء الكثير في
الأخرى، وإخراجه في صورة الأمر للدلالة على تحتم وقوع المخبر
به وذلك لأن صيغة الأمر للوجوب في الأصل والأكثر فاستعمل في
لازم معناه أو لأنه لا يحتمل الصدق والكذب بخلاف الخبر كذا
قرره الشهاب ثم قال:
فإن قلت: الوجوب لا يقتضي الوجود وقد قالوا: إنه يعبر عن الأمر
بالخبر للمبالغة لاقتضائه تحقق المأمور به فالخبر آكد وقد مر
مثله فما باله عكس. قلت: لا منافاة بينهما كما قيل لأن لكل
مقام مقالا والنكت لا تتزاحم فإذا عبر عن الأمر بالخبر لإفادة
أن المأمور لشدة امتثاله كأنه وقع منه ذلك وتحقق قبل الأمر كان
أبلغ، وإذا عبر عن الخبر بالأمر لإفادة لزومه ووجوبه كأنه
مأمور به أفاد ذلك مبالغة من جهة أخرى، وقيل: الأمر هنا تكويني
كما في قوله تعالى: إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] ولا يخفى ما فيه.
والفاء لسببية ما سبق للإخبار بما ذكر من الضحك والبكاء لا
لنفسهما إذ لا يتصور في الأول أصلا، وجعل ذلك سببا لاجتماع
الأمرين بعيد، ونصب قَلِيلًا وكَثِيراً على المصدرية أو
الظرفية أي ضحكا أو زمانا قليلا وبكاء أو زمانا كثيرا،
والمقصود بإفادته في الأول على ما قيل هو وصف القلة فقط وفي
الثاني هو وصف الكثرة مع الموصوف،
فيروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم
دمع ولا يكتحلون بنوم.
وجوز أن يكون الضحك كناية عن الفرح والبكاء كناية عن الغم
والأول في الدنيا والثاني في الأخرى أيضا، والقلة على ما
يتبادر منها، ولا حاجة إلى حملها على العدم كما حملت الكثرة
على الدوام. نعم إذا اعتبر كل من الأمرين في الآخرة احتجنا إلى
ذلك إذ لا سرور فيها لهم أصلا، ويفهم من كلام ابن عطية أن
البكاء والضحك في الدنيا كما
في حديث الشيخين وغيرهما «لو تعلمون لضحكتم قليلا ولبكيتم
كثيرا»
أي إنهم بلغوا في سوء الحال والخطر مع الله تعالى إلى حيث
ينبغي أن يكون ضحكهم قليلا وبكاؤهم من أجل ذلك كثيرا.
جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي من فنون المعاصي، والجمع
بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار التجددي،
وجَزاءً مفعول له للفعل الثاني ولك أن تجعله مفعولا له للفعلين
أو مصدر من المبني للمفعول حذف ناصبه أي يجزون مما ذكر من
البكاء الكثير أو منه ومن الضحك القليل جزاء بما استمروا عليه
من المعاصي فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ أي من سفرك، والفاء لتفريع
الأمر الآتي على ما بين من أمرهم ورجع هنا متعد بمعنى رد
ومصدره الرجع وقد يكون لازما ومصدره الرجوع، وأوثر استعمال
المتعدي وإن كان استعمال اللازم كثيرا إشارة إلى أن ذلك السفر
لما فيه من الخطر يحتاج الرجوع منه لتأييد إلهي ولذا أوثرت
كلمة إن على إذا أي فإن ردك الله سبحانه إِلى طائِفَةٍ
مِنْهُمْ أي إلى المنافقين من المتخلفين بناء على أن منهم من
لم يكن منافقا أو إلى من
__________
(1) «مسرة أحقاب» مبتدأ خبره أريها شبه الصاب، والأحقاب
الأزمان الكثيرة واحدها حقب، والأري العسل. والشبه المثل،
والصاب نبت مر وقيل الحنظل.
(5/340)
بقي من المنافقين المتخلفين بأن ذهب بعضهم
بالموت أو بالغيبة عن البلد أو بأن لم يستأذنك البعض، وقيل:
المراد بتلك الطائفة من بقي من المنافقين على نفاقه ولم يتب
وليس بذاك.
أخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: ذكر لنا
أنهم كانوا اثني عشر رجلا من المنافقين وفيهم قيل ما قيل.
فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ معك إلى غزوة أخرى بعد غزوتك هذه
التي ردك الله منها بتأييده فَقُلْ لهم إهانة لهم على أتم وجه
لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً ما دمت ودمتم وَلَنْ
تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا من الأعداء، وهو اخبار في معنى
النهي للمبالغة.
وذكر القتال كما قال بعض المحققين لأنه المقصود من الخروج فلو
اقتصر على أحدهما لكفى إسقاطا لهم عن مقام الصحبة ومقام الجهاد
أو عن ديوان الغزاة وديوان المجاهدين وإظهارا لكراهة صحبتهم
وعدم الحاجة إلى عدهم من الجند أو ذكر الثاني للتأكيد لأنه
أصرح في المراد والأول لمطابقته للسؤال، ونظير ذلك:
أقول له ارحل لا تقيمن عندنا فإن الثاني أدل على الكراهة
إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ عن الخروج معي وفرحتم به
أَوَّلَ مَرَّةٍ أي من الخروج فنصب أفعل المضاف على المصدرية،
وقيل: على الظرفية الزمانية واستبعده أبو حيان، والظاهر أن هذا
الاختلاف للاختلاف في مَرَّةٍ ونقل عن أبي البقاء أنها في
الأصل مصدر مر يمر ثم استعملت ظرفا، واختار القاضي البيضاوي
بيض الله غرة أحواله النصب على المصدرية وأشار إلى تأنيث
الموصوف حيث قال: وأول مرة هي الخرجة إلى غزوة تبوك وذكر أفعل
لأن التذكير هو الأكثر في مثل ذلك. وفي الكشاف أن مَرَّةٍ نكرة
وضعت موضع المرات للتفضيل، وذكر اسم التفضيل المضاف إليها وهو
دال على واحدة من المرات لأن أكثر اللغتين- هند أكبر النساء
وهي أكبرهن، وهي كبرى مرأة لا تكاد تعثر عليه ولكن هي أكبر
امرأة وأول مرة وآخر مرة، وعلل في الكشف عدم العثور على نحو هي
كبرى امرأة بأن أفعل فيه مضاف إلى غير المفضل عليه بل إلى
العدد المتلبس هو به بيانا له فكأنه قيل: هي امرأة أكبر من كل
واحدة من النساء، وفي مثله لا يختلف أفعل التفضيل، فالتحقيق
أنه لا يشبه ما فيه اللام وإنما المطابقة بين موصوفه وما أضيف
إليه ولا مدخل لطباقه في اللفظ والمعنى فتدبر، والجملة في موضع
التعليل لما سلف فهي مستأنفة استئنافا بيانيا أي لأنكم رضيتم
فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ أي المتخلفين لعدم لياقتهم
كالنساء والصبيان والرجال العاجزين، وجمع المذكر للتغليب،
واقتصر ابن عباس على الأخير، وتفسير الخالف بالمتخلف هو
المأثور عن أكثر المفسرين السلف، وقيل: إنه من خلف بمعنى فسد.
ومنه خلوف فم الصائم لتغير رائحته، والظرف متعلق بما عنده أو
بمحذوف وقع حالا من ضمير الجمع، والفاء لتفريع الأمر بالقعود
بطريق العقوبة على ما صدر منهم من الرضا بالقعود أي إذا رضيتم
بالقعود أول مرة فاقعدوا من بعد.
وقرأ عكرمة «الخلفين» بوزن حذرين ولعله صفة مشبهة مثله، وقيل:
هو مقصور من الخالفين إذا لم يثبت استعماله كذلك على أنه صفة
مشبهة وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً إشارة
إلى إهانتهم بعد الموت.
أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: لما توفي
عبد الله بن أبي ابن سلول جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه
أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم ليصلي فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم فقال يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنما خيرني الله فقال:
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً [المنافقين: 6] وسأزيده
(5/341)
على السبعين قال: إنه منافق قال فصلى عليه
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله سبحانه: وَلا
تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ الآية.
وفي رواية أخرى له عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أنه لما مات
عبد الله بن أبي ابن سلول دعي له رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم ليصلي عليه فلما قام وثبت إليه فقلت: يا رسول الله أتصلي
على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا أعدد عليه قوله فتبسم
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «أخر عني يا عمر» فلما
أكثرت عليه قال: «أخر عني لو أعلم أني لو زدت على السبعين يغفر
له لزدت عليها» قال فصلى عليه عليه الصلاة والسلام ثم انصرف
فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة وَلا تُصَلِّ
عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ إلى قوله: وَهُمْ فاسِقُونَ فعجبت من
جراءتي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
وظاهر هذين الخبرين أنه لم ينزل بين اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ
لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وقوله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلى
أَحَدٍ مِنْهُمْ شيء ينفع عمر رضي الله تعالى عنه وإلا لذكر،
والظاهر أن مراده بالنهي في الخبر الأول ما فهمه من الآية
الأولى لا ما يفهم كما قيل من قوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ
[التوبة: 113] لعدم مطابقة الجواب حينئذ كما لا يخفى،
وأخرج أبو يعلي وغيره عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم أراد أن يصلي على ابن أبي فأخذ جبريل عليه السلام بثوبه
فقال: وَلا تُصَلِّ الآية،
وأكثر الروايات أنه صلّى الله عليه وسلّم صلى عليه وأن عمر رضي
الله تعالى عنه أحب عدم الصلاة عليه وعد ذلك أحد موافقاته
للوحي وإنما لم ينه صلّى الله عليه وسلّم عن التكفين بقميصه
ونهى عن الصلاة عليه لأن الضنة بالقميص كانت مظنة الإخلال
بالكرم على أنه كان مكافأة لقميصه الذي ألبسه العباس رضي الله
تعالى عنه حين أسر ببدر فإنه جيء به رضي الله تعالى عنه ولا
ثوب عليه وكان طويلا جسيما فلم يكن ثوب بقدر قامته غير ثوب ابن
أبي فكساه إياه،
وأخرج أبو الشيخ عن قتادة أنهم ذكروا القميص بعد نزول الآية
فقال عليه الصلاة والسلام: «وما يغني عنه قميصي والله إني
لأرجو أن يسلم به أكثر من ألف من بني الخزرج»
وقد حقق الله تعالى رجاء نبيه كما في بعض الآثار والاخبار فيما
كان منه عليه الصلاة والسلام مع ابن أبي من الصلاة عليه وغيرها
لا تخلو عن التعارض، وقد جمع بينهما حسبما أمكن علماء الحديث،
وفي لباب التأويل نبذة من ذلك فليراجع.
والمراد من الصلاة المنهي عنها صلاة الميت المعروفة وهي متضمنة
للدعاء والاستغفار والاستشفاع له قيل:
والمنع عنها لمنعه عليه الصلاة والسلام من الدعاء للمنافقين
المفهوم من الآية السابقة أو من قوله سبحانه: ما كانَ
لِلنَّبِيِّ إلخ، وقيل: هي هنا بمعنى الدعاء، وليس بذاك،
وأَبَداً ظرف متعلق بالنهي، وقيل: متعلق بمات، والموت الأبدي
كناية عن الموت على الكفر لأن المسلم يبعث ويحيا حياة طيبة،
والكافر وإن بعث لكنه للتعذيب فكأنه لم يحي، وزعم بعضهم أنه لو
تعلق بالنهي لزم أن لا تجوز الصلاة على من تاب منهم ومات على
الإيمان مع أنه لا حاجة للنهي عن الصلاة عليهم إلى قيد
التأييد، ولا يخفى أنه أخطأ ولم يشعر أن مِنْهُمْ حال من
الضمير في مات أي مات حال كونه منهم أي متصفا بصفتهم وهي
النفاق كقولهم: أنت مني يعني على طريقتي وصفتي كما صرحوا به
على أنه لو جعل الجار والمجرور صفة لأحد لا يكاد يتوهم ما ذكر
وكيف يتوهم مع قوله تعالى الآتي إِنَّهُمْ كَفَرُوا إلخ،
وقوله: مع أنه لا حاجة إلى النهي إلخ لظهور ما فيه لا حاجة إلى
ذكره، وماتَ ماض باعتبار سبب النزول وزمان النهي ولا ينافي
عمومه وشموله لمن سيموت، وقيل: إنه بمعنى المستقبل وعبر به
لتحققه، والجملة في موضع الصفة لأحد وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ
أي لا تقف عليه ولا تتول دفنه من قولهم: قام فلان بأمر فلان
إذا كفاه إياه وناب عنه فيه، ويفهم من كلام بعضهم أن عَلى
بمعنى عند، والمراد لا تقف عند قبره للدفن أو للزيارة، والقبر
في المشهور مدفن الميت ويكون بمعنى الدفن وجوزوا إرادته هنا
أيضا.
وفي فتاوى الجلال السيوطي هل يفسر القيام هنا بزيارة القبور
وهل يستدل بذلك على أن الحكمة في زيارته
(5/342)
صلّى الله عليه وسلّم قبر أمه أنه لإحيائها
لتؤمن به بدليل أن تاريخ الزيارة كان بعد النهي؟
الجواب المراد بالقيام على القبر الوقوف عليه حالة الدفن وبعده
ساعة، ويحتمل أن يعم الزيارة أيضا أخذا من الإطلاق وتاريخ
الزيارة كان قبل النهي لا بعده فإن الذي صح في الأحاديث أنه
صلّى الله عليه وسلّم زارها عام الحديبية والآية نازلة بعد
غزوة تبوك، ثم الضمير في مِنْهُمْ خاص بالمنافقين وإن كان بقية
المشركين يلحقون بهم قياسا، وقد صح في حديث الزيارة أنه استأذن
ربه في ذلك فأذن له وهذا الإذن عندي يستدل به على أنها من
الموحدين لا من المشركين كما هو اختياري، ووجه الاستدلال به
أنه نهاه عن القيام على قبور الكفار وأذن له في القيام على قبر
أمه فدل على أنها ليست منهم وإلا لما كان يأذن له فيه، واحتمال
التخصيص خلاف الظاهر ويحتاج إلى دليل صريح، ولعله عليه الصلاة
والسلام كان عنده وقفة في صحة توحيد من كان في الجاهلية حتى
أوحي إليه صلّى الله عليه وسلّم بصحة ذلك، فلا يرد أن استئذانه
يدل على خلاف ذلك وإلا لزارها من غير استئذان اهـ وفي كون
المراد بالقيام على القبر الوقوف عليه حالة الدفن وبعده ساعة
خفاء إذ المتبادر من القيام على القبر ما هو أعم من ذلك. نعم
كان الوقوف بعد الدفن قدر نحر جزور مندوبا ولعله لشيوع ذلك إذ
ذاك أخذ في مفهوم القيام على القبر ما أخذ.
وفي جواز زيارة قبر الكفار خلاف وكثير من القائلين بعدم الجواز
حمل القيام على ما يعم الزيارة ومن أجاز استدل
بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور
فزوروها فإنها تذكركم الآخرة»
فإنه عليه الصلاة والسلام علل الزيارة بتذكير الآخرة ولا فرق
في ذلك بين زيارة قبور المسلمين وقبور غيرهم، وتمام البحث في
موضعه والاحتياط عندي عدم زيارة قبور الكفار إِنَّهُمْ
كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ جملة مستأنفة سيقت لتعليل
النهي على معنى أن الصلاة على الميت والاحتفال به إنما يكون
لحرمته وهم بمعزل عن ذلك لأنهم استمروا على الكفر بالله تعالى
ورسوله صلّى الله عليه وسلّم مدة حياتهم وَماتُوا وَهُمْ
فاسِقُونَ أي متمردون في الكفر خارجون عن حدوده.
وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ
اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ
أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ تأكيد لما تقدم من نظيره والأمر
حقيق بذلك لعموم البلوى بمحبة ما ذكر والاعجاب به، وقال
الفارسي: إن ما تقدم في قوم وهذا في آخرين فلا تأكيد، وجيء
بالواو هنا لمناسبة عطف نهي على نهي قبله أعني قوله سبحانه:
وَلا تُصَلِّ إلخ، وبالفاء هناك لمناسبة التعقيب لقوله تعالى:
قبل وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ [التوبة: 54]
فإن حاصله لا ينفقون إلا وهم كارهون للإنفاق فهم معجبون بكثرة
الأموال والأولاد فنهى عن الإعجاب المتعقب له.
وقيل: هنا وَأَوْلادُهُمْ دون- لا- لأنه نهي عن الإعجاب بهما
مجتمعين وهناك بزيادة لا لأنه نهي عن كل واحد واحد فدل مجموع
الآيتين على النهي عن الاعجاب بهما مجتمعين ومنفردين وهنا أَنْ
يُعَذِّبَهُمْ وهناك «ليعذبهم» للإشارة إلى أن إرادة شيء لشيء
راجعة إلى إرادة ذلك الشيء بناء على أن متعلق الإرادة هناك
الإعطاء واللام للتعليل أي إنما يريد اعطاءهم للتعذيب، وأما
إذا قلنا: إن اللام فيما تقدم زائدة فالتغاير يحتمل أن يكون
لأن التأكيد هناك لتقدم ما يصلح سببا للتعذيب بالأموال أوقع
منه هنا لعدم تقدم ذلك وجاء هناك فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهنا
فِي الدُّنْيا تنبيها على أن حياتهم كلا حياة فيها ويشير ذلك
هنا إلى أنهم بمنزلة الأموات.
وبين ابن الخازن سر تغاير النظمين الكريمين بما لا يخفى ما
فيه، وتقديم الأموال على الأولاد مع أنهم أعز منها لعموم مساس
الحاجة إليها دون الأولاد، وقيل: لأنها أقدم في الوجود منهم
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من القرآن والمراد بها على ما قيل:
سورة معينة وهي براءة، وقيل المراد كل سورة ذكر فيها الإيمان
والجهاد وهو أولى وأفيد لأن استئذانهم عند نزول آيات براءة علم
مما مر، وإِذا تفيد التكرار بقرينة المقام وإن لم تفده بالوضع
كما نص عليه
(5/343)
بعض المحققين، وجوز أن يراد بالسورة بعضها
مجازا من باب إطلاق الجزء على الكل، ويوهم كلام الكشاف أن
إطلاق السورة على بعضها بطريق الاشتراك كإطلاق القرآن على بعضه
وليس بذاك، والتنوين للتفخيم أي سورة جليلة الشأن أَنْ آمِنُوا
أي بأن آمنوا ف «أن» مصدرية حذف عنها الجار وجوز أن تكون مفسرة
لتقدم الانزال وفيه معنى القول دون حروفه، والخطاب للمنافقين،
والمراد أخلصوا الايمان بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ
لإعزاز دينه وإعلاء كلمته، وأما التعميم أو إرادة المؤمنين
بمعنى دوموا على الايمان بالله إلخ كما ذهب إليه الطبرسي وغيره
فلا يناسب المقام ويحتاج فيه ارتباط الشرط والجزاء إلى تكلف ما
لا حاجة إليه كاعتبار ما هو من حال المؤمنين الخلص في النظم
الجليل اسْتَأْذَنَكَ أي طلب الإذن منك وفيه التفات أُولُوا
الطَّوْلِ مِنْهُمْ أي أصحاب الفضل والسعة من المنافقين وهم من
له قدرة مالية ويعلم من ذلك البدنية بالقياس وخصوا بالذكر
لأنهم الملومون وَقالُوا ذَرْنا أي دعنا نَكُنْ مَعَ
الْقاعِدِينَ أي الذين لم يجاهدوا لعذر من الرجال والنساء ففيه
تغليب، والعطف على استأذنك للتفسير مغن عن ذكر ما استأذنوا فيه
وهو القعود.
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ أي النساء كما روي
عن ابن عباس وقتادة وهو جمع خالفة وأطلق على المرأة لتخلفها عن
أعمال الرجال كالجهاد وغيره، والمراد ذمهم وإلحاقهم بالنساء في
التخلف عن الجهاد، ويطلق الخالفة على من لا خير فيه، والتاء
فيه للنقل للاسمية، وحمل بعضهم الآية على ذلك فالمقصود حينئذ
من لا فائدة فيه للجهاد وجمعه على فواعل على الأول ظاهر وأما
على الثاني فلتأنيث لفظه لأن فاعلا لا يجمع على فواعل في
العقلاء الذكور إلا شذوذا وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ
بسبب ذلك لا يَفْقَهُونَ ما ينفعهم وما يضرهم في الدارين لكِنِ
الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ استدراك لما فهم من الكلام،
والمعنى إن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا فلا ضير لأنه قد نهض على
أتم وجه من هو خير منهم فهو على حد قوله تعالى: فَإِنْ
يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا
بِها بِكافِرِينَ [الأنعام: 89] وفي الآية تعريض بأن القوم
ليسوا من الايمان بالله تعالى في شيء وإن لم يعرضوا عنه صريحا
اعراضهم عن الجهاد باستئذانهم في القعود وَأُولئِكَ أي
المنعوتون بالنعوت الجليلة لَهُمُ بواسطة ذلك الْخَيْراتُ أي
المنافع التي تسكن النفس إليها وترتاح لها، وظاهر اللفظ عمومها
هنا لمنافع الدارين كالنصر والغنيمة في الدنيا والجنة ونعيمها
في الأخرى، وقيل. المراد بها الحور لقوله تعالى: فِيهِنَّ
خَيْراتٌ حِسانٌ [الرحمن: 7] فإنها فيه بمعنى الحور فتحمل عليه
هنا أيضا. ونص المبرد على أن الخيرات تطلق على الجواري
الفاضلات وهي جمع خيرة بسكون الياء مخفف خيرة المشددة تأنيث
خير وهو الفاضل من كل شيء المستحسن منه وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ أي الفائزون بالمطالب دون من حاز بعضا بفني عما
قليل، وكرر اسم الإشارة تنويها بشأنهم أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ
استئناف لبيان كونهم مفلحين، وقيل: يجوز أن يكون بيانا لما لهم
من المنافع الأخروية ويخص ما قبل بمنافع الدنيا بقرينة
المقابلة، والاعداد التهيئة أي هيأ لهم جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها حال مقدرة من الضمير في
لَهُمْ والعامل أَعَدَّ ذلِكَ إشارة إلى ما فهم من الكلام من
نيل الكرامة العظمى الْفَوْزُ أي الظفر الْعَظِيمُ الذي لا فوز
وراءه وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ
لَهُمْ شروع في بيان أحوال منافقي الاعراب إثر بيان أحوال
منافقي أهل المدينة، والمعذرون من عذر في الأمر إذا قصر فيه
وتوانى ولم يجد، وحقيقته أن يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر
له، ويحتمل أن يكون من اعتذر والأصل المعتذرون فأدغمت التاء في
الذال بعد نقل حركتها إلى العين، ويجوز كسرها لالتقاء الساكنين
وضمها اتباعا للميم لكن لم يقرأ بهما، وقرأ يعقوب «المعذرون»
بالتخفيف وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فهو من
أعذر إذا كان له
(5/344)
عذر. وعن مسلمة أنه قرأ «المعذرون» بتشديد
العين والذال من تعذر بمعنى اعتذر.
وتعقب ذلك أبو حيان فقال: هذه القراءة إما غلط من القارئ أو
عليه لأن التاء لا يجوز إدغامها في العين لتضادهما، وأما تنزيل
التضاد منزلة التناسب فلم يقله أحد من النحاة ولا القراء
فالاشتغال بمثله عيب، ثم إن هؤلاء الجائين كاذبون على أول
احتمالي القراءة الأولى، ويحتمل أن يكونوا كاذبين وأن يكونوا
صادقين على الثاني منهما وكذا على القراءة الأخيرة، وصادقون
على القراءة الثانية. واختلفوا في المراد بهم
فعن الضحاك أنهم رهط عامر بن الطفيل جاؤوا إلى رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم فقالوا: يا نبي الله إنا غزونا معك أغارت طيىء
على أهالينا ومواشينا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
فقد أنبأني الله من أخباركم وسيغني الله سبحانه عنكم.
وقيل: هم أسد وغطفان استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة
العيال. وأخرج أبو الشيخ عن ابن إسحاق أنه قال: ذكر لي أنهم
نفر من بني غفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما أنهم أهل العذر ولم يبين من هم ومما ذكرنا يعلم
وقوع الاختلاف في أن هؤلاء الجائين هل كانوا صادقين في
الاعتذار أم لا، وعلى القول بصدقهم يكون المراد بالموصول في
قوله سبحانه: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
غيرهم وهم أناس من الأعراب أيضا منافقون والأولون لانفاق فيهم،
وعلى القول بكذبهم يكون المراد به الأولين، والعدول عن الإضمار
إلى الإظهار لذمهم بعنوان الصلة والكذب على الأول بادعاء
الايمان وعلى الثاني بالاعتذار، ولعل القعود مختلف أيضا. وقرأ
أبي «كذّبوا» بالتشديد سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ
أي من الاعراب مطلقا وهم منافقوهم أو من المعتذرين، ووجه
التبعيض أن منهم من اعتذر لكسله لا لكفره أي سيصيب المعتذرين
لكفرهم عَذابٌ أَلِيمٌ وهو عذاب النار في الآخرة ولا ينافي
استحقاق من تخلف لكسل، ذلك عندنا لعدم قولنا بالمفهوم ومن قال
به فسر العذاب الأليم بمجموع القتل والنار والأول منتف في
المؤمن المتخلف للكسل فينتفي المجموع، وقيل: المراد بالموصول
المصرون على الكفر.
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ كالشيوخ ومن فيه نحافة خلقية لا يقوى
على الخروج معها وهو جمع ضعيف ويقال: ضعوف وضعفان وجاء في
الجمع ضعاف وضعفة وضعفي وضعافي وَلا عَلَى الْمَرْضى جمع مريض
ويجمع أيضا على مراض ومراضى وهو من عراة سقم واضطراب طبيعة
سواء كان مما يزول بسرعة ككثير من الأمراض أولا كالزمانة وعدوا
منه ما لا يزول كالعمى والعرج الخلقيين فالأعمى والأعرج داخلان
في المرضى وإن أبيت فلا يبعد دخولهما في الضعفاء، ويدل لدخول
الأعمى في أحد المتعاطفين ما
أخرجه ابن أبي حاتم والدارقطني في الأفراد عن زيد بن ثابت قال:
كنت أكتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت براءة فإني
لواضع القلم على أذني إذ أمرنا بالقتال فجعل رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم ينظر ما عليه إذ جاءه أعمى فقال: كيف بي يا
رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا
عَلَى الْمَرْضى.
وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ أي الفقراء
العاجزين عن أهبة السفر والجهاد قيل هم مزينة وجهينة وبنو عذرة
حَرَجٌ أي ذنب في التخلف وأصله الضيق وقد تقدم الكلام فيه إِذا
نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بالايمان والطاعة ظاهرا وباطنا
كما يفعل الموالي الناصح فالنصح مستعار لذلك، وقد يراد بنصحهم
المذكور بذل جهدهم لنفع الإسلام والمسلمين بأن يتعهدوا أمورهم
وأهلهم وإيصال خبرهم إليهم ولا يكونوا كالمنافقين الذين يشيعون
الأراجيف إذا تخلفوا، وأصل النصح في اللغة الخلوص يقال: نصحته
ونصحت له، وفي النهاية النصيحة يعبر بها عن جملة هي
(5/345)
إرادة الخير للمنصوح له وليس يمكن أن يعبر
عن هذا المعنى بكلمة واحدة يجمعه غيرها، والعامل في الظرف على
ما قال أبو البقاء معنى الكلام أي لا يخرجون حينئذ.
ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ أي ما عليهم سبيل
فالإحسان النصح لله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ووضع
الظاهر موضع ضميرهم اعتناء بشأنهم ووصفا لهم بهذا العنوان
الجليل، وزيدت «من» للتأكيد، والجملة استئناف مقرر لمضمون ما
سبق على أبلغ وجه وألطف سبك وهو من بليغ الكلام لأن معناه لا
سبيل لعاتب عليهم أي لا يمر بهم العاتب ولا يجوز في أرضهم فما
أبعد العتاب عنهم وهو جار مجرى المثل، ويحتمل أن يكون تعليلا
لنفي الحرج عنهم والْمُحْسِنِينَ على عمومه أي ليس عليهم حرج
لأنه ما على جنس المحسنين سبيل وهم من جملتهم، قال ابن الفرس:
ويستدل بالآية على أن قاتل البهيمة الصائلة لا يضمنها
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تذييل مؤيد لمضمون ما ذكر وفيه
إشارة إلى أن كل أحد عاجز محتاج للمغفرة والرحمة إذ الإنسان لا
يخلو من تفريط ما فلا يقال: إنه نفى عنهم الإثم أولا فما
الاحتياج إلى المغفرة المقتضية للذنب فإن أريد ما تقدم من
ذنوبهم دخلوا بذلك الاعتبار في المسيء وَلا عَلَى الَّذِينَ
إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ عطف على المحسنين كما يؤذن به
قوله تعالى الآتي إن شاء الله تعالى إِنَّمَا السَّبِيلُ إلخ،
وهو من عطف الخاص على العام اعتناء بشأنهم وجعلهم كأنهم
لتميزهم جنس آخر. وقيل:
عطف على الضعفاء وهم- كما قال ابن إسحاق وغيره- البكاءون
وكانوا سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف: سالم
بن عمير وعلية بن زيد أخو بني حارث وأبو ليلى عبد الرحمن بن
كعب أخو بني مازن بن النجار.
وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة وعبد الله بن معقل
المزني وهرمي بن عبد الله أخو بني واقف. وعرباض بن سارية
الفزاري أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستحملوه وكانوا
أهل حاجة فقال لهم عليه الصلاة والسلام ما قصه الله تعالى
بقوله سبحانه: قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ
فتولوا وهم يبكون كما أخبر سبحانه، والظاهر أنه لم يخرج منهم
أحد للغزو مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لكن قال ابن
إسحاق: أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى وابن
معقل وهم يبكيان فقال: ما يبكيكما؟ قالا: جئنا رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس
عندنا ما نتقوى به على الخروج معه فأعطاهما ناضحا له فارتحلا
وزودهما شيئا من تمر فخرجا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
وفي بعض الروايات أن الباقين أعينوا على الخروج فخرجوا. وعن
مجاهد انهم بنو مقرن: معقل وسويد والنعمان، وقيل: هم أبو موسى
الأشعري وأصحابه من أهل اليمن وقيل وقيل: وظاهر الآية يقتضي
أنهم طلبوا ما يركبون من الدواب وهو المروي عن ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما. وأخرج ابن المنذر عن علي بن صالح قال: حدثني
مشيخة من جهينة قالول: أدركنا الذين سألوا رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم الحملان فقالوا: ما سألناه إلا الحملان على النعال،
ومثل هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن إبراهيم بن أدهم
عمن حدثه أنه قال: ما سألوه الدواب ما سألوه إلا النعال، وجاء
في بعض الروايات أنهم قالوا: احملنا على الخفاف المرقوعة
والنعال المخصوفة نغزو معك فقال رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم ما قال، ومن مال إلى الظاهر المؤيد بما روي عن الحبر
قال: تجوز بالجفاف المرقوعة والنعال المخصوفة عن ذي الخف
والحافر فكأنهم قالوا:
احملنا على ما يتيسر أو المراد احملنا ولو على نعالنا وأخفافنا
مبالغة في القناعة ومحبة للذهاب معه عليه الصلاة والسلام.
وأنت تعلم أن ظاهر الخبرين السابقين يبعد ذلك على أنه في نفسه
خلاف الظاهر نعم الاخبار المخالفة لظاهر الآية لا يخفى ما فيها
من له اطلاع على مصطلح الحديث ومغايرة هذا الصنف بناء على ما
يقتضيه الظاهر من أنهم واجدون لما عدا المركب للذين لا يجدون
ما ينفقون إذا كان المراد بهم الفقراء الفاقدين للزاد والمركب
وغيره ظاهرة
(5/346)
وبينهما عموم وخصوص إذا أريد بمن لا يجد
النفقة من عدم شيئا لا يطيق السفر لفقده وإلى الأول ذهب الإمام
واختاره كثير من المحققين، واختلف في جواب إِذا فاختار بعض
المحققين أنه قُلْتَ إلخ فيكون قوله سبحانه:
تَوَلَّوْا إلخ مستأنفا استئنافا بيانيا، وقيل: هو الجواب
وقُلْتَ مستأنف أو على حذف حرف العطف أي وقلت أو فقلت وهو
معطوف على أَتَوْكَ أو في موضع الحال من الكاف في أَتَوْكَ-
وقد- مضمرة كما في جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء: 90]
وزمان الإتيان يعتبر واسعا كيومه وشهره فيكون مع التولي في
زمان واحد ويكفي تسببه له وإن اختلف زمانهما كما ذكره الرضي في
قولك: إذا جئتني اليوم أكرمتك غدا أي كان مجيئك سببا لإكرامك
غدا، وفي إيثار «لا أجد» على ليس عندي من تلطيف الكلام وتطييب
قول السائلين ما لا يخفى كأنه عليه الصلاة والسلام يطلب ما
يسألونه على الاستمرار فلا يجده وذلك هو اللائق بمن هو
بالمؤمنين رؤوف رحيم صلّى الله عليه وسلّم وقوله سبحانه:
وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ في موضع الحال من ضمير
تَوَلَّوْا والفيض انصباب عن امتلاء وهو هنا مجاز عن الامتلاء
بعلاقة السببية، والدمع الماء المخصوص ويجوز إبقاء الفيض على
حقيقته ويكون إسناده إلى العين مجازا كجري النهر والدمع مصدر
دمعت العين دمعا ومِنَ للأجل والسبب، وقيل: إنها للبيان وهي مع
المجرور في محل نصب على التمييز وهو محول عن الفاعل. وتعقبه
أبو حيان بأن التمييز الذي أصله فاعل لا يجوز جره بمن وأيضا لا
يجيز تعريف التمييز إلا الكوفيون. وأجيب عن الأول بأنه منقوض
بنحو قوله: عز من قائل وعن الثاني بأنه كفى إجازة الكوفيين،
وذكر القطب أن أصل الكلام أعينهم يفيض دمعها ثم أعينهم تفيض
دمعا وهو أبلغ لإسناد الفعل إلى غير الفاعل وجعله تمييزا سلوكا
لطريق التبيين بعد الإبهام ولأن العين جعلت كأنها دمع فائض ثم
أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ أبلغ مما قبله بواسطة-
من- التجريدية فإنه جعل أعينهم فائضة ثم جرد الأعين الفائضة من
الدمع باعتبار الفيض. وتعقب بأن مِنَ هنا للبيان لما قد أبهم
مما قد يبين بمجرد التمييز لأن معنى تفيض العين يفيض شيء من
أشياء العين كما أن معنى قولك: طاب زيد طاب شيء من أشياء زيد
والتمييز رفع إبهام ذلك الشيء فكذا من الدمع فهو في محل نصب
على التمييز وحديث التجريد لا ينبغي أن يصدر ممن له معرفة
بأساليب الكلام وقد مر بعض الكلام في المائدة على هذه الجملة
فتذكر.
وقوله تعالى: حَزَناً نصب على العلية والحزن يستند إلى العين
كالفيض فلا يقال: كيف ذاك وفاعل الفيض مغاير لفاعل الحزن ومع
مغايرة الفاعل لا نصب، وقيل: جاز ذلك نظرا إلى المعنى إذ حاصله
تولوا وهم يبكون حزنا وجوز نصبه على الحال من ضمير تَفِيضُ أي
حزينة وعلى المصدرية لفعل دال عليه ما قبله أي لا تحزن حزنا
والجملة حال أيضا من الضمير المشار إليه وقد يكون تعلق ذلك على
احتمالات بتولوا أي تولوا للحزن أو حزنين أو يحزنون حزنا
أَلَّا يَجِدُوا على حذف اللام وحذف الجار في مثل ذلك مطرد وهو
متعلق بحزنا كيفما كان، وقيل:
لا يجوز تعلقه به إذا كان نصبا على المصدرية لأن المصدر المؤكد
لا يعمل ولعل من قال بالأول يمنع ذلك ويقول:
يتوسع في الظرف ما لا يتوسع في غيره وجوز تعلقه بتفيض وقيل:
وهذا إذا لم يكن حَزَناً علة له وإلا فلا يجوز لأنه لا يكون
لفعل واحد مفعولان لأجله والإبدال خلاف الظاهر أي لئلا يجدوا
ما يُنْفِقُونَ في شراء ما يحتاجون إليه في الخروج معك إذا لم
يجدوه عندك وهذا بحسب الظاهر يؤيد كون هذا الصنف مندرجا تحت
قوله سبحانه:
وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ.
(5/347)
إِنَّمَا السَّبِيلُ
عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا
بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ
إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا
لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ
أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ
تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ
إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ
إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا
عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا
يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ
أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا
حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا
يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ
عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ
وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ
سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ
بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا
تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ
ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ
اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ
سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ
صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى
اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ
وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ
مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا
يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا
وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ
حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ
أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ
أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ
تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ
بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ
أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ
فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ
الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ
تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
بسم الله الرحمن الرحيم
(6/3)
إِنَّمَا السَّبِيلُ أي بالمعاتبة
والمعاقبة عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ في التخلف وَهُمْ
أَغْنِياءُ واجدون للأهبة قادرون على الخروج معك رَضُوا
استئناف بياني كأنه قيل: لم استأذنوا أو لم استحقوا ما
استحقوا؟
فأجيب بأنهم رضوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ تقدم
معناه وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ خذلهم فغفلوا عن سوء
العاقبة فَهُمْ بسبب ذلك لا يَعْلَمُونَ أبدا وخامة ما رضوا به
وما يستتبعه عاجلا كما لم يعلموا نجاسة شأنه آجلا
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ بيان لما يتصدون له عند الرجوع
إليهم، والخطاب قيل للنبي صلّى الله عليه وسلم، والجمع
للتعظيم، والأولى أن يكون له عليه الصلاة والسلام ولأصحابه
لأنهم كانوا يعتذرون للجميع أي يعتذرون إليكم في التخلف إِذا
رَجَعْتُمْ من الغزو منتهين إِلَيْهِمْ وإنما لم يقل سبحانه
إلى المدينة إيذانا بأن مدار الاعتذار هو الرجوع إليهم لا
الرجوع إلى المدينة فلعل منهم من بادر إلى الاعتذار قبل الرجوع
إليها قُلْ خطاب له صلّى الله عليه وسلم، وخص بذلك لما أن
الجواب وظيفته عليه الصلاة والسلام لا تَعْتَذِرُوا أي لا
تفعلوا الاعتذار أو لا تعتذروا بما عندكم من المعاذير لَنْ
نُؤْمِنَ لَكُمْ استئناف لبيان موجب النهي، وقوله: قَدْ
نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ استئناف لبيان موجب
النفي كأنه قيل: لم نهيتمونا عن الاعتذار؟ فقيل: لأنا لم
نصدقكم في عذركم فيكون عبثا فقيل: لم لن تصدقونا؟ فقيل: لأن
الله تعالى قد أنبأنا بالوحي بما في ضمائركم من الشر والفساد.
ونبأ عند جمع متعدية إلى مفعولين الأول الضمير والثاني مِنْ
أَخْبارِكُمْ إما لأنه صفة المفعول الثاني، والتقدير جملة من
أخباركم أو لأنه بمعنى بعض أخباركم، وليست مِنْ زائدة على مذهب
الأخفش من زيادتها في الإيجاب.
وقال بعضهم: إنها متعدية لثلاثة ومِنْ أَخْبارِكُمْ ساد مسد
مفعولين لأنه بمعنى إنكم كذا وكذا أو المفعول الثالث محذوف أي
واقعا مثلا، وتعقب بأن السد المذكور بعيد، وحذف المفعول الثالث
إذا ذكر المفعول الثاني في هذا الباب خطأ أو ضعيف، ومعنى
نَبَّأَنَا على الأول عرفنا كما قيل وعلى الثاني أعلمنا، وقيل:
معناه خبرنا، ومِنْ بمعنى عن وليس بشيء، وجمع ضمير المتكلم في
الموضعين للمبالغة في حسم أطماع المنافقين المعتذرين رأسا
ببيان عدم رواح اعتذارهم عند أحد من المؤمنين أصلا فإن تصديق
البعض لهم ربما يطمعهم في تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام
أيضا وللإيذان بافتضاحهم بين المؤمنين كافة وتعدية نُؤْمِنَ
باللام مر بيانها: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ. أي سيعلمه
سبحانه علما يتعلق به الجزاء فالرؤية علمية، والمفعول الثاني
محذوف أي أتنيبون عما أنتم فيه
(6/4)
من النفاق أم تثبتون عليه، وكأنه لمكان
السين المفيدة للتنفيس استتابة وإمهال للتوبة، وتقديم مفعول
الرؤية على الفاعل من قوله سبحانه: وَرَسُولُهُ. للإيذان
باختلاف حال الرؤيتين وتفاوتهما وللإشعار بأن مدار الوعيد هو
علمه عز وجل بأعمالهم: ثُمَّ تُرَدُّونَ يوم القيامة إِلى
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ للجزاء بما ظهر منكم من
الأعمال، ووضع الوصف موضع الضمير لتشديد الوعيد فإن علمه
سبحانه بجميع أعمالهم الظاهرة والباطنة وإحاطته بأحوالهم
البارزة والكامنة مما يوجب الزجر العظيم، وتقديم الغيب على
الشهادة قيل: لتحقيق أن نسبة علمه تعالى المحيط إلى سائر
الأشياء السر والعلن واحدة على أبلغ وجه وآكده، كيف لا وعلمه
تعالى بمعلوماته منزه عن أن يكون بطريق حصول الصورة بل وجود كل
شيء وتحققه في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى، وفي هذا المعنى لا
يختلف الحال بين الأمور البارزة والكامنة انتهى.
ولا يخفى عليك أن هذا قول يكون علمه سبحانه بالأشياء حضوريا لا
حصوليا. وقد اعترضوا عليه بشمول علمه جل وعلا الممتنعات
والمعدومات الممكنة والعلم الحضوري يختص بالموجودات العينية
لأنه حضور المعلوم بصورته العينية عند العالم في كيف لا يختلف
الحال فيه بين الأمور البارزة والكامنة مع أن الكامنة تشمل
المعدومات الممكنة والممتنعة، ولا يتصور فيها التحقق في نفسها
حتى يكون علما له تعالى كذا قيل وفيه نظر، وتحقيق علم الواجب
سبحانه بالأشياء من المباحث المشكلة والمسائل المعضلة التي كم
تحيرت فيها أفهام وزلت من العلماء الأعلام أقدام، ولعل النوبة
إن شاء الله تعالى تفضي إلى تحقيق ذلك فَيُنَبِّئُكُمْ عند
ردكم إليه سبحانه ووقوفكم بين يديه بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
أي بما تعملونه على الاستمرار في الدنيا من الأعمال السيئة
السابقة واللاحقة على أن «ما» موصولة أو بعملكم المستمر على أن
«ما» مصدرية، والمراد من التنبئة بذلك المجازاة عليه، وإيثارها
عليها لمراعاة ما سبق من قوله تعالى: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ
إلخ وللإيذان بأنهم ما كانوا عالمين في الدنيا بحقيقة أعمالهم
وإنما يعلمونها يومئذ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ تأكيدا
لمعاذيرهم الكاذبة وترويجا لها.
والسين للتأكيد على ما مر، والمحلوف عليه ما يفهم من الكلام
وهو ما اعتذر به من الأكاذيب، والجملة بدل من يعتذرون أو بيان
له إِذَا انْقَلَبْتُمْ من سفركم إِلَيْهِمْ والانقلاب هو
الرجوع والانصراف مع زيادة معنى الوصول والاستيلاء، وفائدة
تقييد حلفهم كما قال بعض المحققين به الإيذان بأنه ليس لرفع ما
خاطبهم النبي صلّى الله عليه وسلم به من قوله تعالى: لا
تَعْتَذِرُوا إلخ بل هو أمر مبتدأ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فلا
تعاتبوهم وتصفحوا عما فرط منهم صفح رضا كما يفصح عنه قوله
تعالى: لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ لكن لا
إعراض رضا كما طلبوا بل إعراض اجتناب ومقت كما ينبىء عنه
التعليل بقوله سبحانه: إِنَّهُمْ رِجْسٌ فإنه صريح في أن
المراد بالإعراض إما الاجتناب عنهم لما يفهم من القذارة
الروحانية وإما ترك استصلاحهم بترك المعاملة المقصود منها
التطهير بالحمل على التوبة وهؤلاء أرجاس لا تقبل التطهير،
وقيل: إن لِتُعْرِضُوا بتقدير للحذر عن أن تعرضوا على أن
الإعراض فيه إعراض مقت أيضا ولا يخفى أنه تكلف لا يحتاج إليه،
وقوله تعالى: وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ إما من تمام التعليل فإن
كونهم من أهل النار من دواعي الاجتناب عنهم وموجبات ترك
استصلاحهم باللوم والعتاب وإما تعليل مستقل أي وكفتهم النار
عتابا على حد- عتابه السيف ووعظه الصفع- فلا تتكلفوا أنتم بذلك
جَزاءً نصب على أنه مفعول مطلق مؤكد لفعل مقدر من لفظه وقع
حالا أي يجزون جزاء أو لمضمون ما قبله فإنه مفيد لمعنى
المجازاة كأنه قيل: مجزيون جزاء بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي
بما يكسبونه على سبيل الاستمرار من فنون السيئات في الدنيا أو
بكسبهم المستمر لذلك.
وجوز أن يكون مفعولا له وحالا من الخبر عند من يرى ذلك:
يَحْلِفُونَ لَكُمْ بدل مما سبق، والمحلوف
(6/5)
عليه محذوف لظهوره كما تقدم أي يحلفون به
تعالى على ما اعتذروا لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ بحلفهم وتستديموا
عليهم ما كنتم تفعلون بهم فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ حسبما
طلبوا فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ
أي فرضاكم لا ينتج لهم نفعا لأن الله تعالى ساخط عليهم ولا أثر
لرضا أحد مع سخطه تعالى، وجوز بعضهم كون الرضا كناية عن
التلبيس أي إن أمكنهم أن يلبسوا عليكم بالأيمان الكاذبة حتى
يرضوكم لا يمكنهم أن يلبسوا على الله تعالى بذلك حتى يرضى عنهم
فلا يهتك أستارهم ولا يهينهم وهو خلاف الظاهر، ووضع الفاسقين
موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالخروج عن الطاعة المستوجبة لما حل
بهم، والمراد من الآية نهي المخاطبين عن الرضا عنهم والاغترار
بمعاذيرهم الكاذبة على أبلغ وجه وآكده فإن الرضا عمن لا يرضى
عنه الله تعالى مما لا يكاد يصدر عن المؤمن،
والآية نزلت على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في
جد بن قيس، ومعتب بن قشير، وأصحابهما من المنافقين وكانوا
ثمانين رجلا أمر النبي صلّى الله عليه وسلم المؤمنين لما رجعوا
إلى المدينة أن لا يجالسوهم ولا يكلموهم فامتثلوا،
وعن مقاتل أنها نزلت في عبد الله ابن أبي حلف للنبي صلّى الله
عليه وسلم أن لا يتخلف عنه أبدا وطلب أن يرضى فلم يفعل صلّى
الله عليه وسلم: الْأَعْرابُ هي صيغة جمع وليست بجمع للعرب على
ما روي عن سيبويه لئلا يلزم كون الجمع أخص من الواحد، فإن
العرب هذا الجيل المعروف مطلقا والأعراب سكان البادية منهم،
ولذا نسب إلى الأعراب على لفظه فقيل أعرابي، وقيل: العرب سكان
المدن والقرى والأعراب سكان البادية من هذا الجيل أو مواليهم
فهما متباينان، ويفرق بين الجمع والواحد بالياء فيهما فيقال
للواحد عربي وأعرابي وللجماعة عرب وأعراب وكذا أعاريب وذلك كما
يقال الواحد: مجوسي ويهودي ثم تحذف الياء في الجمع فيقال
المجوس واليهود، أي أصحاب البدو أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً من
أهل الحضر الكفار والمنافقين لتوحشهم وقساوة قلوبهم وعدم
مخالطتهم أهل الحكمة وحرمانهم استماع الكتاب والسنة وهم أشبه
شيء بالبهائم،
وفي الحديث عن الحسن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن
النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من سكن البادية جفا ومن اتبع
الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن»
وجاء «ثلاثة من الكبائر»
وعد منها التعرب بعد الهجرة وهو أن يعود إلى البادية ويقيم مع
الأعراب بعد أن كان مهاجرا، وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه
من غير عذر يعدونه كالمرتد، وكان ذلك لغلبة الشر في أهل
البادية والطبع سراق أو للبعد عن مجالس العلم وأهل الخير وإنه
ليفضي إلى شر كثير، والحكم على الأعراب بما ذكر من باب وصف
الجنس بوصف بعض أفراده كما في قوله تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ
كَفُوراً [الإسراء: 67] إذ ليس كلهم كما ذكر، ويدل عليه قوله
تعالى الآتي: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ إلخ، وكان ابن
سيرين كما أخرج أبو الشيخ عنه يقول: إذا تلا أحدكم هذه الآية
فليتل الآية الأخرى يعني بها ما أشرنا إليه، والآية المذكورة
كما روي عن الكلبي نزلت في أسد، وغطفان، والعبرة بعموم اللفظ
لا لخصوص السبب وَأَجْدَرُ أي أحق وأخلق، وهو على ما قال
الطبرسي مأخوذ من جدر الحائط بسكون الدال وهو أصله وأساسه
ويتعدى بالباء فقوله تعالى: أَلَّا يَعْلَمُوا بتقدير بأن لا
يعلموا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وهي كما
أخرج أبو الشيخ عن الضحاك الفرائض وما أمروا به من الجهاد،
وأدرج بعضهم السنن في الحدود، والمشهور أنها تخص الفرائض، أو
الأوامر والنواهي لقوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا
تَعْتَدُوها [البقرة: 229] وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا
تَقْرَبُوها [البقرة:
187] ، ولعل ذلك من باب التغليب ولا بعد فيه فإن الأعراب أجدر
أن لا يعلموا كل ذلك لبعدهم عمن يقتبس منه، وقيل: المراد منها
بقرينة المقام وعيده تعالى على مخالفة الرسول صلّى الله عليه
وسلم في الجهاد، وقيل: مقادير التكاليف وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعلم
أحوال كل من أهل الوبر والمدر حَكِيمٌ بما سيصيب به مسيئهم
ومحسنهم من العقاب والثواب.
وَمِنَ الْأَعْرابِ أي من جنسهم الذي نعت بنعت بعض أفراده.
وقيل: من الفريق المذكور مَنْ يَتَّخِذُ
(6/6)
أي بعد ما يُنْفِقُ أي يصرفه في سبيل الله
تعالى ويتصدق به كما يقتضيه المقام مَغْرَماً أي غرامة وخسرانا
من الغرام بمعنى الهلاك، وقيل: من الغرم وهو نزول نائبة بالمال
من غير جناية، وأصله من الملازمة ومنه قيل لكل من المتداينين
غريم، وإنما أعدوه كذلك لأنهم لا ينفقونه احتسابا ورجاء لثواب
الله تعالى ليكون لهم مغنما وإنما ينفقونه تقية ورئاء الناس
فيكون غرامة محضة، وما في صيغة اتخاذ من معنى الاختيار
والانتفاع بما يتخذ إنما هو باعتبار غرض المنفق من الرياء
والتقية لا باعتبار ذات النفقة أعني كونها غرامة وَيَتَرَبَّصُ
بِكُمُ الدَّوائِرَ أي ينتظر بكم نوب الدهر ومصائبه التي تحيط
بالمرء لينقلب بها أمركم ويتبدل بها حالكم فيتخلص مما ابتلي به
عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ دعاء عليهم بنحو ما يتربصون به،
وهو اعتراض بين كلامين كما في قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ
يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما
قالُوا [المائدة: 64] إلخ، وجوز أن تكون الجملة إخبارا عن وقوع
ما يتربصون به عليهم، والدائرة اسم للنائبة وهي في الأصل مصدر
كالعافية والكاذبة أو اسم فاعل من دار يدور وقد تقدم تمام
الكلام عليها، والسَّوْءِ في الأصل مصدر أيضا ثم أطلق على كل
ضرر وشر وقد كان وصفا للدائرة ثم أضيفت إليه فالإضافة من باب
إضافة الموصوف إلى صفته كما في قولك: رجل صدق وفيه من المبالغة
ما فيه، وعلى ذلك قوله تعالى: ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ
[مريم: 28] وقيل: معنى الدائرة يقتضي معنى السوء فالإضافة
للبيان والتأكيد كما قالوا: شمس النهار ولحيا رأسه. وقرأ ابن
كثير. وأبو عمرو «السّوء» هنا وفي ثانية الفتح بالضم وهو حينئذ
اسم بمعنى العذاب وليس بمصدر كالمفتوح وبذلك فرق الفراء
بينهما: وقال أبو البقاء: السوء بالضم الضرر وهو مصدر في
الحقيقة يقال: سؤته سوءا وسماءة ومسائية وبالفتح الفساد
والرداءة، وكأنه يقول بمصدرية كل منهما في الحقيقة كما فهمه
الشهاب من كلامه، وقال مكي: المفتوح معناه الفساد والمضموم
معناه الهزيمة والضرر وظاهره كما قيل إنهما اسمان وَاللَّهُ
سَمِيعٌ بمقالاتهم الشنيعة عند الانفاق عَلِيمٌ بنياتهم
الفاسدة التي من جملتها أن يتربصوا بكم الدوائر، وفيه من شدة
الوعيد ما لا يخفى وَمِنَ الْأَعْرابِ أي من جنسهم على الإطلاق
مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ على الوجه
المأمور به وَيَتَّخِذُ على وجه الاصطفاء والاختيار ما
يُنْفِقُ في سبيل الله تعالى قُرُباتٍ جمع قربة بمعنى التقرب،
وهو مفعول ثان ليتخذ، والمراد اتخاذ ذلك سببا للتقرب على
التجوز في النسبة أو التقدير، وقد تطلق القربة على ما يتقرب به
والأول اختيار الجمهور، والجمع باعتبار الأنواع والأفراد،
وقوله سبحانه: عِنْدَ اللَّهِ صفة قُرُباتٍ أو ظرف ليتخذ.
وجوز أبو البقاء كونه ظرفا لقربات على معنى مقربات عند الله
تعالى، وقوله تعالى: وَصَلَواتِ الرَّسُولِ عطف على قُرُباتٍ
أي وسببا لدعائه عليه الصلاة والسلام فإنه صلّى الله عليه وسلم
كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم، ولذلك يسن
للمتصدق عليه أن يدعو للمتصدق عنه أخذ صدقته لكن ليس له أن
يصلي عليه، فقد قالوا: لا يصلى على غير الأنبياء والملائكة
عليهم الصلاة والسلام إلا بالتبع لأن في الصلاة من التعظيم ما
ليس في غيرها من الدعوات وهي لزيادة الرحمة والقرب من الله
تعالى فلا تليق بمن يتصور منه الخطايا والذنوب ولاقت عليه تبعا
لما في ذلك من تعظيم المتبوع، واختلف هل هي مكروهة تحريما أو
تنزيها أو خلاف الأولى؟ صحح النووي في الأذكار الثاني، لكن في
خطبة شرح الأشباه للبيري من صلى على غيرهم أثم وكره وهو
الصحيح. وما
رواه الستة غير الترمذي من قوله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم
صل على آل أبي أوفى»
لا يقوم حجة على المانع لأن ذلك كما في المستصفى حقه عليه
الصلاة والسلام فله أن يتفضل به على من يشاء ابتداء وليس الغير
كذلك. وأما السلام فنقل اللقاني في شرح جوهرة التوحيد عن
الإمام الجويني أنه في معنى الصلاة فلا يستعمل في الغائب، ولا
يفرد به غير الأنبياء والملائكة عليهم السلام فلا يقال: عليّ
عليه السلام بل يقال: رضي الله تعالى عنه، وسواء في هذا
الأحياء والأموات إلا في الحاضر
(6/7)
فيقال: السلام أو سلام عليك أو عليكم، وهذا
مجمع عليه انتهى. أقول: ولعل من الحاضر «السلام علينا وعلى
عباد الله الصالحين» و «سلام عليكم دار قوم مؤمنين» وإلا فهو
مشكل، والظاهر أن العلة في منع السلام ما قاله النووي في علة
منع الصلاة من أن ذلك شعار أهل البدع وأنه مخصوص في لسان السلف
بالأنبياء والملائكة عليهم السلام كما أن قولنا: عز وجل مخصوص
بالله سبحانه فلا يقال محمد عز وجل وإن كان عزيزا جليلا صلى
الله تعالى عليه وسلم، ثم قال اللقاني: وقال القاضي عياض: الذي
ذهب إليه المحققون وأميل إليه ما قاله مالك، وسفيان، واختاره
غير واحد من الفقهاء والمتكلمين أنه يجب تخصيص النبي صلّى الله
عليه وسلم وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالصلاة
والتسليم كما يختص الله سبحانه عند ذكره بالتقديس والتنزيه
ويذكر من سواهم بالغفران والرضا كما قال تعالى: رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة: 119، التوبة: 100،
المجادلة: 22، البينة: 8] يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا
وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ [الحشر: 10]
وأيضا أن ذلك في غير من ذكر لم يكن في الصدر الأول وإنما أحدثه
الرافضة في بعض الأئمة والتشبيه بأهل البدع منهي عنه فتجب
مخالفتهم انتهى، ولا يخفى أن مذهب الحنابلة جواز ذلك في غير
الأنبياء والملائكة عليهم السلام استقلالا عملا بظاهر الحديث
السابق، وكراهة التشبيه بأهل البدع مقررة عندنا أيضا لكن لا
مطلقا بل في المذموم وفيما قصد به التشبه بهم كما ذكره الحصكفي
في الدر المختار فافهم. ثم التعرض لوصف الإيمان بالله تعالى
واليوم الآخر في هذا الفريق مع أن مساق الكلام لبيان الفرق بين
الفريقين في بيان شأن اتخاذ ما ينفقانه حالا ومآلا وأن ذكر
اتخاذه سببا للقربات والصلوات مغن عن التصريح بذلك لكمال
العناية بأيمانهم وبيان اتصافهم به وزيادة الاعتناء بتحقق
الفرق من أول الأمر، وأما الفريق الأول فاتصافهم بالكفر
والنفاق معلوم من سياق النظم الكريم صريحا.
وجوز عطف وَصَلَواتِ على ما يُنْفِقُ وعليه اقتصر أبو البقاء
أي يتخذ ما ينفق وصلوات الرسول عليه الصلاة والسلام قربات أَلا
إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ شهادة لهم من جناب الله تعالى بصحة ما
اعتقدوه وتصديق لرجائهم، والضمير إما للنفقة المعلومة مما تقدم
أو- لما- التي هي بمعناها فهو راجع لذلك باعتبار المعنى فلذا
أنث أو لمراعاة الخبر. وجوز ابن الخازن رجوعه للصلوات
والأكثرون على الأول، وتنوين قُرْبَةٌ للتفخيم المغني عن الجمع
أي قربة لا يكتنه كنهها، وفي إيراد الجملة اسمية بحرفي التنبيه
والتحقيق من الجزالة ما لا يخفى.
والاقتصار على بيان كونها قربة لهم لأنها الغاية القصوى وصلوات
الرسول عليه الصلاة والسلام من ذرائعها وقرىء «قربة» بضم الراء
للاتباع سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ وعد لهم بإحاطة
رحمته سبحانه بهم كما يشعر بذلك «في» الدالة على الظرفية وهو
في مقابلة الوعيد للفرقة السابقة المشار إليه بقوله تعالى:
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وفيه تفسير للقربة أيضا، والسين
للتحقيق والتأكيد لما تقدم أنها في الإثبات في مقابلة لن في
النفي، وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تقرير لما
تقدم كالدليل عليه، والآية كما أخرج ابن جرير، وابن المنذر،
وأبو الشيخ، وغيرهم عن مجاهد نزلت في بني مقرن من مزينة. وقال
الكلبي: في أسلم، وغفار، وجهينة وقيل: نزلت التي قبلها في أسد،
وغطفان، وبني تميم وهذه في عبد الله ذي البجادين بن نهم المزني
رضي الله تعالى عنه.
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ بيان
لفضائل أشراف المسلمين إثر بيان طائفة منهم، والمراد بهم كما
روي عن سعيد، وقتادة، وابن سيرين، وجماعة الذين صلوا إلى
القبلتين، وقال عطاء بن رباح: هم أهل بدر، وقال الشعبي: هم أهل
بيعة الرضوان وكانت بالحديبية، وقيل: هم الذين أسلموا قبل
الهجرة وَالْأَنْصارِ أهل بيعة العقبة الأولى وكانت في سنة
إحدى عشرة من البيعة وكانوا على ما في بعض الروايات سبعة نفر
وأهل بيعة العقبة الثانية
(6/8)
وكانت في سنة اثنتي عشرة وكانوا سبعين رجلا
وامرأتين. والذين أسلموا حين جاءهم من قبل رسول الله صلّى الله
عليه وسلم أبو زرارة مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وكان قد
أرسله عليه الصلاة والسلام مع أهل العقبة الثانية يقرئهم
القرآن ويفقههم في الدين وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ
أي متلبسين به، والمراد كل خصلة حسنة، وهم اللاحقون بالسابقين
من الفريقين على أن مِنَ تبعيضية أو الذين اتبعوهم بالإيمان
والطاعة إلى يوم القيامة فالمراد بالسابقين جميع المهاجرين
والأنصار رضي الله تعالى عنهم، ومعنى كونهم سابقين أنهم أولون
بالنسبة إلى سائر المسلمين وكثير من الناس ذهب إلى هذا. روي عن
حميد بن زياد أنه قال: قلت يوما لمحمد بن كعب القرظي ألا
تخبرني عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما كان بينهم
من الفتن فقال لي: إن الله تعالى قد غفر لجميعهم وأوجب لهم
الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم فقلت له: في أي موضع أوجب لهم
الجنة؟ فقال: سبحان الله ألا تقرأ قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ الآية فتعلم أنه تعالى أوجب لجميع أصحاب النبي
صلّى الله عليه وسلم الجنة والرضوان وشرط على التابعين شرطا
قلت:
وما ذلك الشرط؟ قال: شرط عليهم أن يتبعوهم بإحسان وهو أن
يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة ولا يقتدوا بهم في غير ذلك أو
يقال: هو أن يتبعوهم بإحسان في القول وأن لا يقولوا فيهم سوءا
وأن لا يوجهوا الطعن فيما أقدموا عليه، قال حميد بن زياد:
فكأني ما قرأت هذه الآية قط، وعلى هذا تكون الآية متضمنة من
فضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما لم تتضمنه على التقدير
الأول.
واعترض القطب على التفاسير للسابقين من المهاجرين بأن الصلاة
إلى القبلتين وشهود بدر وبيعة الرضوان مشتركة بين المهاجرين
والأنصار. وأجيب بأن مراد من فسر تعيين سبقهم لصحبتهم
ومهاجرتهم له صلّى الله عليه وسلم على من عداهم من ذلك القبيل.
واختار الإمام أن المراد بالسابقين من المهاجرين السابقون في
الهجرة ومن السابقين من الأنصار السابقون في النصرة وادعى أن
ذلك هو الصحيح عنده، واستدل عليه بأنه سبحانه ذكر كونهم سابقين
ولم يبين أنهم سابقون في ماذا فبقي اللفظ مجملا إلا أنه تعالى
لما وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارا علم أن المراد من السبق في
الهجرة والنصرة إزالة للإجمال عن اللفظ، وأيضا كل واحدة من
الهجرة والنصرة لكونه فعلا شاقا على النفس طاعة عظيمة فمن أقدم
عليه أولا صار قدوة لغيره في هذه الطاعة وكان ذلك مقويا لقلب
الرسول صلّى الله عليه وسلم وسببا لزوال الوحشة عن خاطره
الشريف عليه الصلاة والسلام فلذلك أثنى الله تعالى على كل من
كان سابقا إليهما وأثبت لهما ما أثبت، وكيف لا وهم آمنوا وفي
عدد المسلمين في مكة والمدينة قلة وضعف فقوي الإسلام بسببهم
وكثر عدد المسلمين بإسلامهم وقوي قلبه صلّى الله عليه وسلم
بسبب دخولهم في الإسلام واقتداء غيرهم بهم فكان حالهم في ذلك
كحال من سن سنة حسنة
وفي الخبر «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم
القيامة»
ولا يخفى أنه حسن.
ويجوز عندي أن يراد بالسابقين الذين سبقوا إلى الإيمان بالله
واليوم الآخر واتخاذ ما ينفقون قربات والقرينة على ذلك ظاهرة،
وأيا ما كان فالسابقون مبتدأ خبره قوله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ أي بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم وَرَضُوا عَنْهُ بما
نالوه من النعم الجليلة الشأن. وجوز أبو البقاء أن يكون الخبر
الْأَوَّلُونَ أو مِنَ الْمُهاجِرِينَ وأن يكون السَّابِقُونَ
معطوفا على مَنْ يُؤْمِنُ أي ومنهم السابقون وما ذكرناه أظهر
الوجوه. وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قرأ وَالْأَنْصارِ
بالرفع على أنه معطوف على السابقون.
وأخرج أبو عبيدة، وابن جرير، وابن المنذر، وغيرهم عن عمرو بن
عامر الأنصاري أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يقرأ بإسقاط
الواو من «والذين اتبعوهم» فيكون الموصول صفة الأنصار حتى قال
له زيد: إنه بالواو فقال: ائتوني بأبيّ بن كعب فأتاه فسأله عن
ذلك فقال: هي بالواو فتابعه. وأخرج أبو الشيخ عن أبي أسامة
ومحمد بن إبراهيم التيمي
(6/9)
قالا: مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ «والذين»
بالواو فقال: من أقرأك هذه؟ فقال: أبي فأخذ به إليه فقال: يا
أبا المنذر أخبرني هذا أنك أقرأته هكذا قال أبي: صدق وقد
تلقنتها كذلك من في رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال عمر:
أنت تلقنتها كذلك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم
فأعاد عليه فقال في الثالثة وهو غضبان: نعم والله لقد أنزلها
الله على جبريل عليه السلام وأنزلها جبريل على قلب محمد صلّى
الله عليه وسلم ولم يستأمر فيها الخطاب ولا ابنه فخرج عمر
رافعا يديه وهو يقول الله أكبر الله أكبر.
وفي رواية أخرجها أبو الشيخ أيضا عن محمد بن كعب أن أبيّا رضي
الله تعالى عنه: تصديق هذه الآية في أول وَآخَرِينَ مِنْهُمْ
[الجمعة: 30] وفي أوسط وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ
[الحشر:
10] وفي آخر وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ [الأنفال: 75]
إلخ، ومراده رضي الله تعالى عنه أن هذه الآيات تدل على أن
التابعين غير الأنصار، وفيها أن عمر رضي الله تعالى عنه قال:
لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا وأراد اختصاص
السبق بالمهاجرين، وظاهر تقديم المهاجرين على الأنصار مشعر
بأنهم أفضل منهم وهو الذي تدل عليه قصة السقيفة، وقد جاء في
فضل الأنصار ما لا يحصى من الأخبار. ومن ذلك ما
أخرجه الشيخان. وغيرهما عن أنس قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:» آية الإيمان حب الأنصار
وآية النفاق بغض الأنصار» .
وأخرج الطبراني عن السائب بن يزيد أن رسول الله صلّى الله عليه
وسلم قسم الفيء الذي أفاء الله تعالى بحنين في أهل مكة من قريش
وغيرهم فغضب الأنصار فأتاهم فقال: «يا معشر الأنصار قد بلغني
من حديثكم في هذه المغانم التي آثرت بها أناسا أتألفهم على
الإسلام لعلهم أن يشهدوا بعد اليوم وقد أدخل الله تعالى قلوبهم
الإسلام ثم قال: يا معشر الإسلام ألم يمن الله تعالى عليكم
بالإيمان وخصكم بالكرامة وسماكم بأحسن الأسماء أنصار الله
تعالى وأنصار رسوله عليه الصلاة والسلام ولولا الهجرة لكنت
امرأ من الأنصار ولو سلك الناس واديا وسلكتم واديا لسلكت
واديكم أفلا ترضون أن يذهب الناس بهذه الغنائم البعير والشاء
وتذهبون برسول الله؟ فقالوا: رضينا فقال رسول الله صلّى الله
عليه وسلم: أجيبوني فيما قلت.
قالوا: يا رسول الله وجدتنا في ظلمة فأخرجنا الله بك إلى
النور، وجدتنا على شفا حفرة من النار فأنقذنا الله بك، وجدتنا
ضلالا فهدانا الله تعالى بك فرضينا بالله تعالى ربا وبالإسلام
دينا وبمحمد صلّى الله عليه وسلم نبيا، فقال عليه الصلاة
والسلام:
لو أجبتموني بغير هذا القول لقلت: صدقتم لو قلتم ألم تأتنا
طريدا فآويناك؟ ومكذبا فصدقناك؟ ومخذولا فنصرناك وقبلنا ما رد
الناس عليك لصدقتم، قالوا: بل لله تعالى ولرسوله المن والفضل
علينا وعلى غيرنا»
فانظر كيف قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكيف أجابوه
رضي الله تعالى عنهم وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
تَحْتَهَا الْأَنْهارُ أي هيأ لهم ذلك في الآخرة. وقرأ ابن
كثير من تحتها وأكثر ما جاء في القرآن موافق لهذه القراءة
خالِدِينَ فِيها أَبَداً من غير انتهاء ذلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ أي الذي لا فوز وراءه، وما في ذلك من معنى البعد
قيل لبيان بعد منزلتهم في الفضل وعظم الدرجة من مؤمني الأعراب،
ولا يخفى أن هذا لا يكاد يصح إلا بتكلف ما إذا أريد من الذين
اتبعوهم صنف آخر غير الصحابة لأن الظاهر أن مؤمني الأعراب
صحابة ولا يفضل غير صحابي صحابيا كما يدل عليه
قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق
مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» ،
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم
آخره»
من باب المبالغة.
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ شروع في بيان منافقي
أهل المدينة ومن حولها من الأعراب بعد بيان حال أهل البادية
منهم أي وممن حول بلدكم مُنافِقُونَ والمراد بالموصول كما أخرج
ابن المنذر عن عكرمة: جهينة، ومزينة، وأشجع، وأسلم، وغفار،
وكانت منازلهم حول المدينة، وإلى هذا ذهب جماعة من المفسرين
كالبغوي،
(6/10)
والواحدي، وابن الجوزي، وغيرهم. واستشكل
ذلك بأن النبي صلّى الله عليه وسلم مدح هذه القبائل ودعا
لبعضها.
فقد أخرج الشيخان، وغيرهما عن أبي هريرة عنه عليه الصلاة
والسلام أنه قال: «قريش، والأنصار، وجهينة، ومزينة، وأشجع،
وأسلم، وغفار موالي الله تعالى ورسوله لا موالي لهم غيره» وجاء
عنه أيضا أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «أسلم سالمها الله
تعالى وغفار غفر الله لها أما إني لم أقلها لكن قالها الله
تعالى» .
وأجيب بأن ذلك باعتبار الأغلب منهم وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
عطف على مِمَّنْ حَوْلَكُمْ فيكون كالمعطوف عليه خبرا عن-
المنافقون- كأنه قيل: المنافقون من قوم حولكم ومن أهل المدينة،
وهو من عطف مفرد على مفرد ويكون قوله سبحانه: مَرَدُوا عَلَى
النِّفاقِ جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مسوقة لبيان
غلوهم في النفاق إثر بيان اتصافهم به أو صفة لمنافقون،
واستبعده أبو حيان بأن فيه الفصل بين الصفة وموصوفها، وجوز أن
يكون مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ خبر مقدم والمبتدأ بعده محذوف
قامت صفته مقامه والتقدير ومن أهل المدينة قوم مردوا، وحذف
الموصوف وإقامة صفته مقامه إذا كان بعض اسم مجرور بمن أوفى
مقدم عليه مقيس شائع نحو- منا أقام ومنا ظعن. وفي غير ذلك
ضرورة أو نادر، ومنه قول سحيم:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
على أحد التأويلات فيه، وأصل المرود على ما ذكره علي بن عيسى
الملاسة ومنه صرح ممرد، والأمرد الذي لا شعر على وجهه،
والمرداء الرملة التي لا تنبت شيئا، وقال ابن عرفة: أصله
الظهور ومنه قولهم: شجرة مرداء إذا تساقط ورقها وأظهرت
عيدانها، وفي القاموس مرد كنصر وكرم مرودا ومرودة ومرادة فهو
مارد ومريد ومتمرد أقدم وعتا أو هو أن يبلغ الغاية التي يخرج
بها من جملة ما عليه ذلك الصنف، وفسروه بالاعتياد والتدرب في
الأمر حتى يصير ماهرا فيه وهو قريب مما ذكره في القاموس من
بلوغ الغاية، ولا يكاد يستعمل إلا في الشر.
وهو على الوجهين الأولين شامل للفريقين حسب شمول النفاق وعلى
الوجه الأخير خاص بمنافقي أهل المدينة واستظهر ذلك، وقيل: إنه
الأنسب بذكر منافقي أهل البادية أولا ثم ذكر منافقي الأعراب
المجاورين ثم ذكر منافقي أهل المدينة ويبقى على هذا أنه لم
يبين مرتبة المجاورين في النفاق بخلافه على تقدير شموله
للفريقين ثم لا يخفى أن التمرد على النفاق إذا اقتضى الأشدية
فيه أشكل عليه تفسيرهم المفضل في قوله سبحانه: الْأَعْرابُ
أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً بأهل الحضر، ولعل المراد تفضيل
المجموع على المجموع أو يلتزم عدم الاقتضاء.
وقوله تعالى: لا تَعْلَمُهُمْ بيان لتمردهم أي لا تعرفهم أنت
بعنوان نفاقهم يعني أنهم بلغوا من المهارة في النفاق والتنوق
في مراعاة التقية والتحامي عن مواقع التهم إلى حيث يخفى عليك
مع كمال فطنتك وصدق فراستك حالهم، وفي تعليق نفي العلم بهم مع
أنه متعلق بحالهم مبالغة في ذلك وإيماء إلى أن ما هم عليه من
صفة النفاق لعراقتهم ورسوخهم فيها صارت بمنزلة ذاتياتهم أو
مشخصاتهم بحيث لا يعد من لا يعرفهم بتلك الصفة عالما بهم، ولا
حاجة في هذا المعنى إلى حمل العلم على المتعدي لمفعولين وتقدير
المفعول الثاني أي لا تعلمهم منافقين، وقيل:
المراد لا تعرفهم بأعيانهم وإن عرفتهم إجمالا، وما ذكرناه لما
فيه من المبالغة ما فيه أولى وحاصله لا تعرف نفاقهم نَحْنُ
نَعْلَمُهُمْ أي نعرفهم بذلك العنوان وإسناد العلم بمعنى
المعرفة إليه تعالى مما لا ينبغي أن يتوقف فيه وإن وهم فيه من
وهم لا سيما إذا خرج ذلك مخرج المشاكلة، وقد فسر العلم هنا
بالمعرفة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أخرجه عنه أبو
الشيخ. نعم لا يمتنع حمله على معناه المتبادر كما لا يمتنع
حمله على ذلك فيما تقدم لكنه محوج إلى التقدير وعدم التقدير
أولى من التقدير.
والجملة تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق أي لا يقف على
سرائرهم المركوزة فيهم إلا ما لا تخفى عليه
(6/11)
خافية لما هم عليه من شدة الاهتمام بإبطال
الكفر وإظهار الإخلاص، وأمر تعليق العلم هنا كأمر تعليق نفيه
فيما مر.
واستدل بالآية على أنه لا ينبغي الإقدام على دعوى الأمور
الخفية من أعمال القلب ونحوها. وقد أخرج عبد الرزاق وابن
المنذر وغيرهما عن قتادة أنه قال: ما بال أقوام يتكلفون على
الناس يقولون: فلان في الجنة وفلان في النار فإذا سألت أحدهم
عن نفسه قال: لا أدري لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس
ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه نبي، قال نوح عليه السلام: وما
عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الشعراء: 112] وقال شعيب
عليه السلام: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [الأنعام: 104،
هود: 86] وقال الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلم: لا
تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ وهذه الآيات ونحوها أقوى
دليل على الرد على من يزعم الكشف والاطلاع على المغيبات بمجرد
صفاء القلب وتجرد النفس عن الشواغل وبعضهم يتساهلون في هذا
الباب جدا سَنُعَذِّبُهُمْ ولا بد لتحقيق المقتضى فيهم عادة
مَرَّتَيْنِ
أخرج ابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وغيرهما عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما قال: «قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم
يوم جمعة خطيبا فقال قم يا فلان فاخرج فإنك منافق اخرج يا فلان
فإنك منافق فأخرجهم بأسمائهم ففضحهم ولم يك عمر بن الخطاب شهد
تلك الجمعة لحاجة كانت له فلقيهم وهم يخرجون من المسجد فاختبأ
منهم استحياء أنه لم يشهد الجمعة وظن أن الناس قد انصرفوا
واختبؤوا هم منه وظنوا أنه قد علم بأمرهم فدخل المسجد فإذا
الناس لم ينصرف فقال له رجل: أبشر يا عمر فقد فضح الله تعالى
المنافقين اليوم فهذا العذاب الأول والعذاب الثاني عذاب القبر»
. وفي رواية ابن مردويه عن ابن مسعود الأنصاري أنه صلّى الله
عليه وسلم أقام في ذلك اليوم وهو على المنبر ستة وثلاثين رجلا.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه فسر العذاب مرتين
بالجوع والقتل، ولعل المراد به خوفه وتوقعه، وقيل: هو فرضي إذا
أظهروا النفاق وفي رواية أخرى عنهم أنهم عذبوا بالجوع مرتين،
وعن الحسن أن العذاب الأول أخذ الزكاة والثاني عذاب القبر، وعن
ابن إسحاق أن الأول غيظهم من أهل الإسلام والثاني عذاب القبر.
وعن ابن إسحاق أن الأول غيظهم من أهل الإسلام والثاني عذاب
القبر، ولعل تكرير عذابهم لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق
المؤكد بالتمرد فيه.
وجوز أن يراد بالمرتين التكثير كما في قوله تعالى: ثُمَّ
ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: 4] لقوله سبحانه:
أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً
أَوْ مَرَّتَيْنِ [التوبة: 126] ثُمَّ يُرَدُّونَ يوم القيامة
الكبرى إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ وهو عذاب النار، وتغيير الأسلوب
على ما قيل بإسناد عذابهم السابق إلى نون العظمة حسب إسناد ما
قبله من العلم وإسناد ردهم إلى العذاب اللاحق إلى أنفسهم إيذان
باختلافهما حالا وأن الأول خاص بهم وقوعا وزمانا يتولاه الله
سبحانه وتعالى والثاني شامل لعامة الكفرة وقوعا وزمانا وإن
اختلفت طبقات عذابهم، ولا يخفى أنه إذا فسر العذاب العظيم
بعذاب الدرك الأسفل من النار لم يكن شاملا لعامة الكفرة نعم هو
شامل لعامة المنافقين فقط. وقد يقال: إن في بناء «يردون» لما
لم يسم فاعله من التعظيم ما فيه فيناسب العذاب العظيم فلذا غير
السبك إليه والله تعالى أعلم وَآخَرُونَ بيان لحال طائفة من
المسلمين ضعيفة الهمم في أمر الدين ولم يكونوا منافقين على
الصحيح.
وقيل: هم طائفة من المنافقين إلا أنهم وفقوا للتوبة فتاب الله
عليهم. قيل: وهو مبتدأ خبره جملة خَلَطُوا وهي حال بتقدير- قد-
والخبر جملة عَسَى اللَّهُ إلخ، والمحققون على أنه معطوف على
مُنافِقُونَ أي ومنهم يعني ممن حولكم أو من أهل المدينة قوم
آخرون اعْتَرَفُوا أي أقروا عن معرفة بِذُنُوبِهِمْ التي هي
تخلفهم عن الغزو وإيثار الدعة عليه والرضا بسوء جوار المنافقين
ولم يعتذروا بالمعاذير الكاذبة المؤكدة بالإيمان الفاجرة
وكانوا على ما
أخرج البيهقي في الدلائل. وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما عشرة تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزوة
(6/12)
تبوك فلما حضر رجوع رسول الله صلّى الله
عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد وكان ممر النبي
عليه الصلاة والسلام إذا رجع في المسجد عليهم فلما رآهم قال:
من هؤلاء الموثقون أنفسهم؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له
تخلفوا عنك يا رسول الله وقد أقسموا أن لا يطلقوا أنفسهم حتى
تكون أنت الذي تطلقهم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
وأنا أقسم بالله تعالى لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله
تعالى هو الذي يطلقهم فأنزل الله تعالى الآية فأرسل عليه
الصلاة والسلام إليهم فأطلقهم وعذرهم.
وفي رواية أخرى عنه أنهم كانوا ثلاثة، وأخرج ابن أبي حاتم عن
زيد أنهم كانوا ثمانية، وروي أنهم كانوا خمسة،
والروايات متفقة على أن أبا لبابة بن عبد المنذر منهم خَلَطُوا
عَمَلًا صالِحاً خروجا إلى الجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه
وسلم وَآخَرَ سَيِّئاً تخلفا عنه عليه الصلاة والسلام روي هذا
عن الحسن، والسدي، وعن الكلبي أن الأول التوبة والثاني الإثم،
وقيل: العمل الصالح يعم جميع البر والطاعة والسيّء ما كان ضده،
والخلط المزج وهو يستدعي مخلوطا به والأول هنا هو الأول
والثاني هو الثاني عند بعض، والواو بمعنى الباء كما نقل عن
سيبويه في قولهم: بعت الشاء شاة ودرهما، وهو من باب الاستعارة
لأن الباء للإلصاق والواو للجمع وهما من واد واحد، ونقل شارح
اللباب عن ابن الحاجب أن أصل المثال بعت الشاء شاة بدرهم أي مع
درهم ثم كثر ذلك فأبدلوا من باء المصاحبة واوا فوجب أن يعرب ما
بعدها بإعراب ما قبلها كما في قولهم: كل رجل وضيعته، ولا يخفى
ما فيه من التكلف. وذكر الزمخشري أن كل واحد من المتعاطفين
مخلوط ومخلوط به لأن المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر كقولك:
خلطت الماء واللبن تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه، وفيه ما
ليس في قولك: خلطت الماء باللبن لأنك جعلت الماء مخلوطا واللبن
مخلوطا به وإذا قلته بالواو جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطا
بهما كأنك قلت خلطت الماء واللبن بالماء، وحاصله أن المخلوط به
في كل واحد من الخلطين هو المخلوط في الآخر لأن الخلط لما
اقتضى مخلوطا به فهو أما الآخر أو غيره والثاني منتف بالأصل
والقرينة لدلالة سياق الكلام إذا قيل: خلطت هذا وذاك على أن
كلّا منهما مخلوط ومخلوط به وهو أبلغ من أن يقال خلطت أحدهما
بالآخر إذ فيه خلط واحد وفي الواو خلطان.
واعترض بأن خلط أحدهما بالآخر يستلزم خلط الآخر به ففي كل من
الواو والباء خلطان فلا فرق، وأجيب بأن الواو تفيد الخلطين
صريحا بخلاف الباء فالفرق متحقق، وفيه تسليم حديث الاستلزام
ولا يخفى أن فيه خلطا حيث لم يفرق فيه بين الخلط والاختلاط،
والحق أن اختلاط أحد الشيئين بالآخر مستلزم لاختلاط الآخر به
وأما خلط أحدهما بالآخر فلا يستلزم خلط الآخر به لأن خلط الماء
باللبن مثلا معناه أن يقصد الماء أولا أو يجعل مخلوطا باللبن
وظاهر أنه لا يستلزم أن يقصد اللبن أولا بل ينافيه، فعلى هذا
معنى خلط العمل الصالح بالسيىء أنهم أتوا أولا بالصالح ثم
استعقبوه سيئا ومعنى خلط السيّء بالصالح أنهم أتوا أولا
بالسيىء ثم أردفوه بالصالح، وإلى هذا يشير كلام السكاكي حيث
جعل تقدير الآية خلطوا عملا صالحا بسيىء وآخر سيئا بصالح أي
تارة أطاعوا وأحبطوا الطاعة بكبيرة وأخرى عصوا وتداركوا
المعصية بالتوبة وهو ظاهر في أن العمل الصالح والسيّء في أحد
الخلطين غيرهما في الخلط الآخر، وكلام الزمخشري ظاهر في
اتحادهما وفيه ما فيه، ولذلك رجح ما ذهب إليه السكاكي لكن ما
ذكره من الإحباط ميل إلى مذهب المعتزلة، وادعى بعضهم أن ما في
الآية نوع من البديع يسمى الاحتباك والأصل خلطوا عملا صالحا
بآخر سيىء وخلطوا آخر سيئا بعمل صالح هو خلاف الظاهر.
واستظهر ابن المنير كون الخلط مضمنا معنى العمل والعدول عن
الباء لذلك كأنه قيل: عملوا عملا صالحا وآخر سيئا، وأنا أختار
أن الخلط بمعنى الجمع هنا وإذا اعتبر السياق وسبب النزول يكون
المراد من العمل الصالح
(6/13)
الاعتراف بالذنوب من التخلف عن الغزو وما
معه ومن السيّء تلك الذنوب أنفسها ويكون المقصود بالجمع
المتوجه إليه أولا بالضم هو الاعتراف، والتعبير عن ذلك بالخلط
للإشارة إلى وقوع ذلك الاعتراف على الوجه الكامل حتى كأنه تخلل
الذنوب وغير صفتها، وإذا لم يعتبر سبب النزول يجوز أن يراد من
العمل الصالح الاعتراف بالذنوب مطلقا ومن السيّء الذنوب كذلك
وتمام الكلام بحاله، ويجوز أن يراد من العمل الصالح والسيّء ما
صدر من الأعمال الحسنة والسيئة مطلقا، ولعل المتوجه إليه أولى
على هذا أيضا ليجمع العمل الصالح إذ بضمه يفتح باب الخير
ففي الخبر «أتبع السيئة بالحسنة تمحها» ،
وقد حمل بعضهم الحسنة فيه على مطلقها،
وأخرج ابن سعد عن الأسود بن قيس قال: لقي الحسن بن علي رضي
الله تعالى عنهما يوما حبيب ابن مسلمة فقال: يا حبيب رب مسير
لك في غير طاعة الله تعالى فقال: أما مسيري إلى أبيك فليس من
ذلك قال: بلى ولكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة زائدة فلئن قام
بك في دنياك فلقد قعد بك في دينك ولو كنت إذ فعلت شرا فعلت
خيرا كان ذلك كما قال الله تعالى: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً
وَآخَرَ سَيِّئاً ولكنك كما قال الله تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ
عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14]
والتعبير بالخلط حينئذ يمكن أن يكون لما في ذلك من التغيير
أيضا، وربما يراد بالخلط مطلق الجمع من غير اعتبار أولية في
البين والتعبير بالخلط لعله لمجرد الإيذان بالتخلل فإن الجمع
لا يقتضيه، ويشعر بهذا الحمل ما أخرجه أبو الشيخ والبيهقي عن
مطرف قال: إني لأستلقي من الليل على فراشي وأتدبر القرآن فأعرض
أعمالي على أعمال أهل الجنة فإذا أعمالهم شديدة كانوا قليلا من
الليل ما يهجعون يبيتون لربهم سجّدا وقياما أمن هو قانت آناء
الليل ساجدا وقائما فلا أراني منهم فأعرض نفسي على هذه الآية
ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ
[المدثر: 42، 43] إلى قوله سبحانه: نُكَذِّبُ بِيَوْمِ
الدِّينِ [المدثر: 46] فأرى القوم مكذبين فلا أراني فيهم فأمر
بهذه الآية وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ إلخ وأرجو أن
أكون أنا وأنتم يا إخوتاه منهم، وكذا ما أخرجاه وغيرهما عن أبي
عثمان النهدي قال:
ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله سبحانه:
وَآخَرُونَ إلخ والظاهر أنه لم يفهم منها صدور التوبة من هؤلاء
الآخرين بل ثبت لهم الحكم المفهوم من قوله سبحانه: عَسَى
اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ مطلقا وإلا فهي وكثير من
الآيات التي في هذا الباب سواء وأرجى منها عندي قوله تعالى:
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: 53] والمشهور أن الآية يفهم منها
ذلك لأن التوبة من الله سبحانه بمعنى قبول التوبة وهو يقتضي
صدورها عنهم فكأنه قيل: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا
صالحا وآخر سيئا فتابوا عسى إلخ.
وجعل غير واحد الاعتراف دالا على التوبة ولعل ذلك لما بينهما
من اللزوم عرفا، وقال الشهاب: لأنه توبة إذا اقترن بالندم
والعزم على عدم العود، وفيه أن هذا قول بالعموم والخصوص وقد
ذكروا أن العام لا يدل على الخاص بإحدى الدلالات الثلاث، وكلمة
عَسَى للأطماع وهو من أكرم الأكرمين إيجاب وأي إيجاب، وقوله
تعالى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تعليل لما أفادته من
وجوب القبول، وليس هو الوجوب الذي يقوله المعتزلة كما لا يخفى
أي إنه تعالى كثير المغفرة والرحمة يتجاوز عن التائب ويتفضل
عليه خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً
أخرج غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم لما
انطلقوا أطلقوا فجاؤوا بأموالهم فقالوا: يا رسول الله هذه
أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا فقال عليه الصلاة والسلام:
ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فنزلت الآية فأخذ صلّى الله
عليه وسلم منها الثلث
كما جاء في بعض الروايات، فليس المراد من الصدقة الصدقة
المفروضة أعني الزكاة لكونها مأمورا بها وإنما هي على ما قيل
كفارة لذنوبهم حسبما ينبىء عنه قوله عز وجل: تُطَهِّرُهُمْ أي
عما تلطخوا به من أوضار التخلف. وعن الجبائي أن
(6/14)
المراد بها الزكاة وأمر صلّى الله عليه
وسلم بأخذها هنا دفعا لتوهم إلحاقهم ببعض المنافقين فإنها لم
تكن تقبل منه كما علمت وأمر التطهير سهل، وأيا ما كان فضمير
أموالهم لهؤلاء المعترفين، وقيل: إنه على الثاني راجع لأرباب
الأموال مطلقا، وجمع الأموال للإشارة إلى أن الأخذ من سائر
أجناس المال، والجار والمجرور متعلق بخذ ويجوز أن يتعلق بمحذوف
وقع حالا من صَدَقَةً والتاء في تُطَهِّرُهُمْ للخطاب. وقرىء
بالجزم على أنه جواب الأمر والرفع على أن الجملة حال من فاعل
خُذْ أو صفة لصدقة بتقدير بها لدلالة ما بعده عليه أو مستأنفة
كما قال أبو البقاء، وجوز على احتمال الوصفية أن تكون التاء
للغيبة وضمير المؤنث للصدقة فلا حاجة بنا إلى بها. وقرىء
تطهرهم من أطهره بمعنى طهره وَتُزَكِّيهِمْ بِها بإثبات الياء
وهو خبر مبتدأ محذوف والجملة حال من الضمير في الأمر أو في
جوابه وقيل استئناف أي وأنت تزكيهم بها أي تنمي بتلك الصدقة
حسناتهم وأموالهم أو تبالغ في تطهيرهم، وكون المراد ترفع
منازلهم من منازل المنافقين إلى منازل الأبرار المخلصين ظاهر
في أن القوم كانوا منافقين والمصحح خلافه، هذا على قراءة الجزم
في تُطَهِّرُهُمْ وأما على قراءة الرفع فتزكيهم عطف عليه،
وظاهر ما في الكشاف يدل على أن التاء هنا للخطاب لا غير لقوله
سبحانه: بِها والحمل على أن الصدقة تزكيهم بنفسها بعيد عن
فصاحة التنزيل. وقرأ مسلمة ابن محارب «تزكهم» بدون الياء
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أي ادع لهم واستغفر، وعدي الفعل بعلى لما
فيه من معنى العطف لأنه من الصلوين، وإرادة المعنى اللغوي هنا
هو المتبادر، والحمل على صلاة الميت بعيد وإن روي عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما، ولذا استدل بالآية على استحباب الدعاء
لمن يتصدق، واستحب الشافعي في صفته أن يقول للمتصدق آجرك الله
فيما أعطيت وجعله لك طهورا وبارك لك فيما أبقيت. وقال بعضهم:
يجب على الإمام الدعاء إذا أخذ، وقيل: يجب في صدقة الفرض
ويستجب في صدقة التطوع، وقيل: يجب على الإمام ويستحب للفقير
وألحق الاستحباب مطلقا إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ تعليل
للأمر بالصلاة، والسكن السكون وما تسكن النفس إليه من الأهل
والوطن مثلا وعلى الأول جعل الصلاة نفس السكن، والاطمئنان
مبالغة وعلى الثاني يكون المراد تشبيه صلاته عليه الصلاة
والسلام في الالتجاء إليها بالسكن والأول أولى أي إن دعاءك
تسكن نفوسهم إليه وتطمئن قلوبهم به إلى الغاية ويثقون بأنه
سبحانه قبلهم.
وقرأ غير واحد من السبعة «صلواتك» بالجمع مراعاة لتعدد المدعو
لهم وَاللَّهُ سَمِيعٌ يسمع الاعتراف بالذنب والتوبة والدعاء
عَلِيمٌ بما في الضمائر من الندم والغم لما فرط وبالإخلاص في
التوبة والدعاء أو سميع يجيب دعاءك لهم عليم بما تقتضيه
الحكمة، والجملة حينئذ تذييل للتعليل مقرر لمضمونه وعلى الأول
تذييل لما سبق من الآيتين وحقق لما فيهما أَلَمْ يَعْلَمُوا
الضمير إما للمتوب عليهم والمراد تمكين قبول توبتهم في قلوبهم
والاعتداد بصدقاتهم وإما لغيرهم والمراد التحضيض على التوبة
والصدقة والترغيب فيهما.
وقرىء تعلموا بالتاء وهو على الأول التفات وعلى الثاني بتقدير
قل، وجوز أن يكون الضمير للتائبين وغيرهم على أن يكون المقصود
التمكين والتحضيض لا غير، واختار بعضهم كونه للغير لا غير لما
روي أنه لما نزلت توبة هؤلاء التائبين قال الذين لم يتوبوا من
المتخلفين هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا يكلمون ولا يجالسون فما
لهم اليوم فنزلت، ويشعر صنيع الجمهور باختيار الأول وهو الذي
يقتضيه سياق الآية، والخبر لم نقف على سند له يعول عليه أي ألم
يعلم هؤلاء التائبون أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
الصحيحة الخالصة عَنْ عِبادِهِ المخلصين فيها، وتعدية القبول
بعن لتضمنه معنى التجاوز والعفو أي يقبل ذلك متجاوزا عن ذنوبهم
التي تابوا عنها، وقيل: عن بمعنى من والضمير إما للتأكيد أوله
مع التخصيص بمعنى أن الله سبحانه يقبل التوبة لا غيره أي أنه
تعالى يفعل ذلك البتة لما قرر أن ضمير
(6/15)
الفصل يفيد ذلك والخبر المضارع من مواقعه،
وجعل بعضهم التخصيص بالنسبة إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم أي
إنه جل وعلا يقبل التوبة لا رسوله عليه الصلاة والسلام لأن
كثرة رجوعهم إليه مظنة لتوهم ذلك، والمراد بالعباد إما أولئك
التائبون ووضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلية ما يشير إليه
القبول وإما كافة العباد وهم داخلون في ذلك دخولا أوليا
وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ أي يقبلها قبول من يأخذ شيئا ليؤدي
بدله فالأخذ هنا استعارة للقبول، وجوز أن يكون إسناد الأخذ إلى
الله تعالى مجازا مرسلا، وقيل: نسبة الأخذ إلى الرسول في قوله
سبحانه: خُذْ ثم نسبته إلى ذاته تعالى إشارة إلى أن أخذ الرسول
عليه الصلاة والسلام قائم مقام أخذ الله تعالى تعظيما لشأن
نبيه صلّى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ
[الفتح: 10] فهو على حقيقته وهو معنى حسن إلا أن في دعوى
الحقيقة ما لا يخفى، والمختار عندي أن المراد بأخذ الصدقات
الاعتناء بأمرها ووقوعها عنده سبحانه موقعا حسنا، وفي التعبير
به ما لا يخفى من الترغيب.
وقد أخرج عبد الرزاق عن أبي هريرة أن الله تعالى يقبل الصدقة
إذا كانت من طيب ويأخذها بيمينه وأن الرجل ليتصدق بمثل اللقمة
فيربيها له كما يربي أحدكم فصيله أو مهره فتربو في كف الله
تعالى حتى تكون مثل أحد.
وأخرج الدارقطني في الافراد عن ابن عباس قال: «قال رسول الله
صلّى الله عليه وسلم تصدقوا فإن أحدكم يعطي اللقمة أو الشيء
فيقع في يد الله عز وجل قبل أن يقع في يد السائل ثم تلا هذه
الآية» .
وفي بعض الروايات ما يدل على أنه ليس هناك أخذ حقيقة،
فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله
صلّى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة
طيبة من كسب طيب ولا يقبل الله تعالى إلا طيبا ولا يصعد إلى
السماء إلا طيب فيضعها في حق إلا كانت كأنما يضعها في يد
الرحمن فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى إن اللقمة
أو التمرة لتأتي يوم القيامة مثل الجبل العظيم» .
وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى ألم يعلموا أن الله يقبل التوبة
الآية. و «أل» في الصدقات يحتمل أن تكون عوضا عن المضاف إليه
أي صدقاتهم وأن تكون للجنس أي جنس الصدقات المندرج فيه صدقاتهم
اندراجا أوليا وهو الذي يقتضيه ظاهر الأخبار وَأَنَّ اللَّهَ
هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ تأكيد لما عطف عليه وزيادة تقرير
لما يقرره مع زيادة معنى ليس فيه أي ألم يعلموا أنه سبحانه
المختص المتأثر ببلوغ الغاية القصوى من قبول التوبة والرحمة
وذلك شأن من شؤونه وعادة من عوائده المستمرة، وقيل غير ذلك،
والجملتان في حيز النصب بيعلموا يسد كل واحدة منهما مسد
مفعولية وَقُلِ اعْمَلُوا ما تشاؤون من الأعمال فَسَيَرَى
اللَّهُ عَمَلَكُمْ خيرا كان أو شرا، والجملة تعليل لما قبله
أو تأكيد لما يستفاد منه من الترغيب والترهيب والسين للتأكيد
كما قررنا أي يرى الله تعالى البتة وَرَسُولُهُ
وَالْمُؤْمِنُونَ عطف على الاسم الجليل، والتأخير عن المفعول
للإشعار بما بين الرؤيتين من التفاوت، والمراد من رؤية العمل
عند جمع الاطلاع عليه وعلمه علما جليا، ونسبة ذلك للرسول عليه
الصلاة والسلام والمؤمنين باعتبار أن الله تعالى لا يخفى ذلك
عنهم ويطلعهم عليه إما بالوحي أو بغيره.
وأخرج أحمد وابن أبي الدنيا في الإخلاص عن أبي سعيد عن رسول
الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء
ليس لها باب ولا كوة لأخرج الله تعالى عمله للناس كائنا ما
كان»
وتخصيص الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بالذكر على هذا
لأنهم الذين يعبأ المخاطبون باطلاعهم، وفسر بعضهم المؤمنين
بالملائكة الذين يكتبون الأعمال وليس بشيء، ومثله بل أدهى
وأمرّ ما زعمه بعض الإمامية أنهم الأئمة الطاهرون ورووا أن
الأعمال تعرض عليهم في كل اثنين وخميس بعد أن تعرض على النبي
صلّى الله عليه وسلم.
وجوز بعض المحققين أن يكون العلم هنا كناية عن المجازاة ويكون
ذلك خاصا بالدنيوي من إظهار المدح
(6/16)
والإعزاز مثلا وليس بالرديء، وقيل: يجوز
إبقاء الرؤية على ما يتبادر منها، وتعقب بأن فيه التزام القول
برؤية المعاني وهو تكلف وإن كان بالنسبة إليه تعالى غير بعيد،
وأنت تعلم أن من الأعمال ما يرى عادة كالحركات ولا حاجة فيه
إلى حديث الالتزام المذكور على أن ذلك الالتزام في جانب
المعطوف لا يخفى ما فيه.
وأخرج ابن أبي شيبة، وغيره عن سلمة بن الأكوع أن رسول الله
صلّى الله عليه وسلم قرأ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ
أي فسيظهره وَسَتُرَدُّونَ أي بعد الموت إِلى عالِمِ الْغَيْبِ
ومنه ما سترونه من الأعمال وَالشَّهادَةِ ومنها ما تظهرونه،
وفي ذكر هذا العنوان من تهويل الأمر وتربية المهابة ما لا
يخفى. فَيُنَبِّئُكُمْ بعد الرد الذي هو عبارة عن الأمر الممتد
بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قبل ذلك في الدنيا والإنباء مجاز عن
المجازاة أو كناية أي يجازيكم حسب ذلك إن خيرا فخير وإن شرا
فشر ففي الآية وعد ووعيد. وَآخَرُونَ عطف على آخرون قبله أي
ومنهم قوم آخرون غير المعترفين المذكورين مُرْجَوْنَ أي مؤخرون
وموقوف أمرهم لِأَمْرِ اللَّهِ أي إلى أن يظهر أمر الله تعالى
في شأنهم.
وقرأ أهل المدينة والكوفة غير أبي مُرْجَوْنَ بغير همز
والباقون «مرجئون» بالهمز وهما لغتان يقال: أرجأته وأرجيته
كأعطيته، ويحتمل أن تكون الياء بدلا من الهمزة كقولهم: قرأت
وقريت وتوضأت وتوضيت وهو في كلامهم كثير، وعلى كونه لغة أصلية
هو يائي، وقيل: إنه واوي، ومن هذه المادة المرجئة إحدى فرق أهل
القبلة وقد جاء فيه الهمز وتركه، وسموا بذلك لتأخيرهم المعصية
عن الاعتبار في استحقاق العذاب حيث قالوا: لا عذاب مع الإيمان
فلم يبق للمعصية عندهم أثر، وفي المواقف سموا مرجئة لأنهم
يرجون العمل عن النية أي يؤخرونه في الرتبة عنها وعن الاعتقاد،
أو لأنهم يعطون الرجاء في قولهم: لا يضر مع الإيمان معصية
انتهى.
وعلى التفسيرين الأولين يحتمل أن يكون بالهمز وتركه، وأما على
الثالث فينبغي أن يقال مرجئة بفتح الراء وتشديد الجيم، والمراد
بهؤلاء المرجون كما في الصحيحين هلال بن أمية وكعب بن مالك
ومرارة بن الربيع وهو المروي عن ابن عباس وكبار الصحابة رضي
الله تعالى عنهم، وكانوا قد تخلفوا عن رسول الله صلّى الله
عليه وسلم لأمر ما مع الهم باللحاق به عليه الصلاة والسلام فلم
يتيسر لهم ولم يكن تخلفهم عن نفاق وحاشاهم فقد كانوا من
المخلصين فلما قدم النبي صلّى الله عليه وسلم وكان ما كان من
المتخلفين قالوا: لا عذر لنا إلا الخطيئة ولم يعتذروا له صلّى
الله عليه وسلم ولم يفعلوا كما فعل أهل السواري وأمر رسول الله
صلّى الله عليه وسلم باجتنابهم وشدد الأمر عليهم كما ستعلمه إن
شاء الله تعالى إلى أن نزل قوله سبحانه:
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ
وَالْأَنْصارِ [التوبة: 117] إلخ، وقد وقف أمرهم خمسين ليلة لا
يدرون ما الله تعالى فاعل بهم إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا
يَتُوبُ عَلَيْهِمْ في موضع الحال أي منهم هؤلاء إما معذبين
وأما متوبا عليهم.
وقيل: خبر آخَرُونَ على أنه مبتدأ ومُرْجَوْنَ صفته، والأول
أظهر، وإما للتنويع على معنى أن أمرهم دائر بين هذين الأمرين،
وقيل: للترديد بالنظر للفساد والمعنى ليكن أمرهم عندكم بين
الرجاء والخوف، والمقصود تفويض ذلك إلى إرادة الله تعالى
ومشيئته إذ لا يجب عليه سبحانه تعذيب العاصي ولا مغفرة التائب
وإنما شدد عليهم مع إخلاصهم، والجهاد فرض كفاية لما نقل عن ابن
بطال في الروض الآنف وارتضاه أن الجهاد كان على الأنصار خاصة
فرض عين لأنهم بايعوا النبي صلّى الله عليه وسلم، ألا ترى قول
راجزهم في الخندق:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
وهؤلاء من أجلّتهم فكان تخلفهم كبيرة، وروي عن الحسن أن هذه
الآية في المنافقين وحينئذ لا يراد بالآخرين من ذكرنا لأنهم من
علمت بل يراد به آخرون منافقون، وعلى هذا ينبغي أن يكون قول من
قال في إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ أي
(6/17)
إن أصروا على النفاق. وقد علمت أن ذلك خلاف
ما في الصحيحين. وحمل النفاق في كلام القائل على ما يشبهه بعيد
ودعوى بلا دليل وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالهم حَكِيمٌ فيما فعل
بهم من الإرجاء وفي قراءة عبد الله «غفور رحيم» وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مَسْجِداً عطف على ما سبق أي ومنهم الذين، وجوز أن
يكون مبتدأ خبره أَفَمَنْ أَسَّسَ والعائد محذوف للعلم به أي
منهم أو الخبر محذوف أي فيمن وصفنا، وأن يكون منصوبا بمقدار
كأذم وأعني.
وقرأ نافع وابن عامر بغير واو، وفيه الاحتمالات السابقة إلا
العطف، وأن يكون بدلا من «آخرون» على التفسير المرجوح، وقوله
سبحانه: ضِراراً مفعول له وكذا ما بعده وقيل: مصدر في موضع
الحال أو مفعول ثان لاتخذوا على أنه بمعنى صيروا أو مفعول مطلق
لفعل مقدر أي يضارون بذلك المؤمنين ضرارا، والضرار طلب الضرر
ومحاولته، أخرج ابن جرير. وغيره عن ابن عباس أن جماعة من
الأنصار قال لهم أبو عامر: ابنوا مسجدا واستمدوا ما استطعتم من
قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم
فأخرج محمدا عليه الصلاة والسلام وأصحابه فلما فرغوا من مسجدهم
أتوا النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا: قد فرغنا من بناء
مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو بالبركة فنزلت.
وأخرج ابن إسحاق وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه
قال أتى أصحاب مسجد الضرار رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو
يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي
العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنا نحب أن
تأتينا فتصلي لنا فيه فقال صلّى الله عليه وسلم: إني على جناح
سفر وحال شغل أو كما قال عليه الصلاة والسلام ولو قدمنا إن شاء
الله تعالى لآتيناكم فصلينا لكم فيه فلما رجع إلى رسول الله
صلّى الله عليه وسلم من سفره ونزل بذي أوان بلد بينه وبين
المدينة ساعة من نهار أتاه خبر المسجد فدعا مالك بن الدخشم أخا
بني سالم بن عوف ومعن بن عدي وأخاه عاصم ابن عدي أحد بلعجان
فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وأحرقاه
فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم ابن عوف وهم رهط مالك فقال
مالك لصاحبه: أنظرني حتى أخرج لك بنار من أهلي فدخل إلى أهله
فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه
وفيه أهله فأحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه ونزل فيهم من القرآن ما
نزل وكان البانون له اثني عشر رجلا: خذام بن خالد من بني عبيد
بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج المسجد. وعباد بن
حنيف من بني عمرو بن عوف أيضا وثعلبة بن حاطب، ووديعة بن ثابت
وهما من بني أمية بن زيد رهط أبي لبابة بن عبد المنذر، ومعتب
بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وحارثة بن عامر، وابناه مجمع،
وزيد، ونبيل بن الحارث، ونجاد بن عثمان، وبجدح من بني ضبيعة.
وذكر البغوي من حديث ذكره الثعلبي- كما قال العراقي- بدون سند
«أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بعد حرق المسجد وهدمه أن
يتخذ كناسة يلقي فيها الجيف والنتن والقمامة إهانة لأهله لما
أنهم اتخذوه ضرارا
وَكُفْراً أي وليكفروا فيه، وقدر بعضهم التقوية أي وتقوية
الكفر الذي يضمرونه، وقيل عليه: إن الكفر يصلح علة فما الحاجة
إلى التقدير. واعتذر بأنه يحتمل أن يكون ذلك لما أن اتخاذه ليس
بكفر بل مقولة لما اشتمل عليه فتأمل وَتَفْرِيقاً بَيْنَ
الْمُؤْمِنِينَ وهم كما قال السدي أهل قباء فإنهم كانوا يصلون
في مسجدهم جميعا فأراد هؤلاء حسدا أن يتفرقوا وتختلف كلمتهم
وَإِرْصاداً أي ترقبا وانتظارا لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وهو أبو عامر والد حنظلة غسيل الملائكة رضي الله
تعالى عنه، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وتنصر
فلما قدم النبي صلّى الله عليه وسلم: المدينة قال له أبو عامر:
ما هذا الدين الذي جئت به؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: الحنيفية
البيضاء دين إبراهيم عليه السلام قال: فأنا عليها فقال له عليه
الصلاة والسلام: إنك لست عليها فقال: بلى ولكنك أنت أدخلت فيها
ما ليس منها فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: ما فعلت ولكن جئت
بها بيضاء نقية فقال أبو عامر: أمات الله تعالى الكاذب منا
طريدا وحيدا فأمن النبي صلّى الله عليه وسلم فسماه الناس أبا
عامر الكذاب وسماه النبي صلّى الله عليه وسلم الفاسق فلما كان
يوم أحد قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: لا أجد قوما يقاتلونك
(6/18)
إلا قاتلتك معهم فلم يزل كذلك إلى يوم حنين
فلما انهزمت هوازن يومئذ ولى هاربا إلى الشام وأرسل إلى
المنافقين يحثهم على بناء مسجد كما ذكرنا آنفا عن الحبر فبنوه
وبقوا منتظرين قدومه ليصلي فيه ويظهر على رسول الله صلّى الله
عليه وسلم فهدم كما مر ومات أبو عامر وحيدا بقنسرين وبقي ما
أضمروه حسرة في قلوبهم.
مِنْ قَبْلُ متعلق بحارب أي حارب الله ورسوله عليه الصلاة
والسلام قبل هذا الاتخاذ أو متعلق باتخذوا أي اتخذوه من قبل أن
ينافقوا بالتخلف حيث كانوا بنوه قبل غزوة تبوك كما سمعت،
والمراد المبالغة في الذم وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا أي ما
أردنا ببناء هذا المسجد إِلَّا الْحُسْنى أي إلا الخصلة الحسنى
وهي الصلاة وذكر الله تعالى والتوسعة على المصلين، فالحسنى
تأنيث الأحسن وهو في الأصل صفة الخصلة وقد وقع مفعولا به
لأردنا، وجوز أن يكون قائما مقام مصدر محذوف أي الإرادة الحسنى
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما حلفوا عليه لا
تَقُمْ أي للصلاة فِيهِ أي في ذلك المسجد أَبَداً وعن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما تفسير لا تَقُمْ بلا تصل على أن القيام
مجاز عن الصلاة كما في قولهم: فلان يقوم الليل،
وفي الحديث «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له»
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ أي بني أساسه عَلَى التَّقْوى أي تقوى الله
تعالى وطاعته، وعَلَى على ما يتبادر منها، ولا يخفى ما في جعل
التقوى وهي- هي- أساسا من المبالغة، وقيل: إنها بمعنى مع،
وقيل: للتعليل لاعتباره فيما تقدم من الاتخاذ، واللام إما
للابتداء أو للقسم أي والله لمسجد. وعلى التقديرين فمسجد مبتدأ
والجملة بعده صفته، وقوله تعالى: مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ متعلق
بأسس ومِنْ لابتداء الزمان على ما هو الظاهر، وفي ذلك دليل
للكوفيين في أنها تكون للابتداء مطلقا ولا تتقيد بالمكان،
وخالف في ذلك البصريون ومنعوا دخولها على الزمان وخصوه بمذ
ومنذ وتأولوا الآية بأنها على حذف مضاف أي من تأسيس أول يوم.
وتعقبه الزجاج وتبعه أبو البقاء بأن ذلك ضعيف لأن التأسيس
المقدر ليس بمكان حتى تكون- من- لابتداء الغاية فيه. وأجيب بأن
مرادهم من التأويل الفرار من كونها لابتداء الغاية في الزمان
وقد حصل بذلك التقدير، وليس في كلامهم ما يدل على أنها لا تكون
لابتداء الغاية إلا في المكان، وقال الرضي: لا أرى في الآية
ونظائرها معنى الابتداء إذ المقصود منه أن يكون الفعل شيئا
ممتدا كالسير والمشي ومجرور- من- منه الابتداء نحو سرت من
البصرة أو يكون أصلا لشيء ممتد نحو خرجت من الدار إذ الخروج
ليس ممتدا وليس التأسيس ممتدا ولا أصلا لممتد بل هما حدثان
واقعان فيما بعد مِنْ وهذا معنى في، ومِنْ في الظروف كثيرا ما
تقع بمعنى في انتهى. وفي كون التأسيس ليس أصلا لممتد منع ظاهر.
نعم ذهب إلى احتمال الظرفية العلامة الثاني وله وجه وحينئذ
يبطل الاستدلال ولا يكون في الآية شاهد للكوفيين، والحق أن
كثيرا من الآيات، وكلام العرب يشهد لهم والتزام تأويل كل ذلك
تكلف لا داعي إليه، وقوله تعالى: أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ
خبر المبتدأ وأَحَقُّ أفعل تفضيل والمفضل عليه كل مسجد أو مسجد
الضرار على الفرض والتقدير أو هو على زعمهم، وقيل: إنه بمعنى
حقيق أي حقيق ذلك المسجد بأن تصلي فيه، واختلف في المراد منه.
فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والضحاك أنه مسجد قباء وقد
جاءت أخبار في فضل الصلاة فيه.
فأخرج ابن أبي شيبة والترمذي.
والحاكم وصححه وابن ماجة عن أسيد بن ظهير عن النبي صلّى الله
عليه وسلم أنه قال: «صلاة في مسجد قباء كعمرة»
قال الترمذي:
لا نعرف لأسيد هذا شيئا يصح غير هذا الحديث، وفي معناه ما
أخرجه أحمد والنسائي عن سهل بن حنيف. وأخرج ابن سعد عن ظهير بن
رافع الحارثي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «من صلى
في مسجد قباء يوم الاثنين والخميس انقلب بأجر عمرة»
وذهب جماعة إلى أنه مسجد المدينة مسجد رسول الله صلّى الله
عليه وسلم، واستدلوا بما
أخرجه مسلم، والترمذي، وابن جرير، والنسائي وغيرهم عن أبي سعيد
الخدري قال: اختلف رجلان في المسجد الذي أسس
(6/19)
على التقوى. فقال أحدهما: هو مسجد قباء،
وقال الآخر: هو مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتيا رسول
الله صلّى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك فقال: هو هذا المسجد
لمسجده صلّى الله عليه وسلم وقال: في ذلك خير كثير
يعني مسجد قباء.
وجاء في عدة روايات أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن ذلك فقال:
هو مسجدي هذا،
وأيد القول الأول بأنه الأوفق بالسباق واللحاق وبأنه بني قبل
مسجد المدينة، وجمع الشريف السمهودي بين الأخبار وسبقه إلى ذلك
السهيلي وقال: كل من المسجدين مراد لأن كلا منهما أسس على
التقوى من أول يوم تأسيسه، والسر في إجابته صلّى الله عليه
وسلم السؤال عن ذلك بما في الحديث دفع ما توهمه السائل من
اختصاص ذلك بمسجد قباء والتنويه بمزية هذا على ذلك، ولا يخفى
بعد هذا الجمع فإن ظاهر الحديث الذي أخرجه الجماعة عن أبي سعيد
الخدري بمراحل عنه، ولهذا اختار بعض المحققين القول الثاني
وأيده بأن مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم أحق بالوصف بالتأسيس
على التقوى من أول يوم وبأن التعبير بالقيام عن الصلاة في قوله
سبحانه: أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ يستدعي المداومة، ويعضده
توكيد النهي بقوله تعالى: أَبَداً ومداومة الرسول عليه الصلاة
والسلام لم توجد إلا في مسجده الشريف عليه الصلاة والسلام.
وأما ما رواه الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة من أن قوله جل
وعلا: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا نزلت في أهل
قباء وكانوا يستنجون بالماء فهو لا يعارض نص رسول الله صلّى
الله عليه وسلم. وأما ما
رواه ابن ماجه عن أبي أيوب، وجابر، وأنس من أن هذه الآية لما
نزلت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا معشر الأنصار إن
الله تعالى قد أثنى عليكم خيرا في الطهور فما طهوركم هذا؟
قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة قال: فهل مع ذلك غير؟
قالوا: لا غير إن أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحب أن يستنجي
بالماء. قال عليه الصلاة والسلام: هو ذاك فعليكموه»
فلا يدل على اختصاص أهل قباء ولا ينافي الحمل على أهل مسجده
صلّى الله عليه وسلم من الأنصار، وأنا أقول: قد كثرت الأخبار
في نزول هذه الآية في أهل قباء.
فقد أخرج أحمد، وابن خزيمة، والطبراني، وابن مردويه. والحاكم
عن عويم بن ساعدة الأنصاري أن النبي صلّى الله عليه وسلم أتاهم
في مسجد قباء فقال: «إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في
الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟ فذكروا
أنهم كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط» .
وأخرج أحمد، وابن أبي شيبة، والبخاري في تاريخه، والبغوي في
معجمه وابن جرير والطبراني عن محمد بن عبد الله بن سلام عن
أبيه نحو ذلك،
وأخرج عبد الرزاق والطبراني عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله
صلّى الله عليه وسلم لأهل قباء: ما هذا الطهور الذي خصصتم به
في هذه الآية فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا؟
قالوا: يا رسول الله ما منا أحد يخرج من الغائط إلا غسل
مقعدته» .
وأخرج عبد الرزاق وابن مردويه عن عبد الله بن الحارث بن نوفل
نحوه
إلى غير ذلك، وروي القول بنزولها في أهل قباء عن جماعة من
الصحابة وغيرهم كابن عمر، وسهل الأنصاري، وعطاء، وغيرهم وأما
الأخبار الدالة على كون المراد بالمسجد المذكور في الآية مسجد
رسول الله صلّى الله عليه وسلم فكثيرة أيضا وكذا الذاهبون إلى
ذلك كثيرون أيضا، والجمع فيما أرى بين الأخبار والأقوال متعذر،
وليس عندي أحسن من التنقير عن حال تلك الروايات صحة وضعفا فمتى
ظهر قوة إحداهما على الأخرى عول على الأقوى. وظاهر كلام البعض
يشعر بأن الأقوى رواية ما يدل على أن المراد من المسجد مسجد
الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعنى تأسيسه على التقوى من أول
يوم أن تأسيسه على ذلك كان مبتدأ من أول يوم من أيام وجوده لا
حادثا بعده ولا يمكن أن يراد من أول الأيام مطلقا ضرورة. نعم
قال الذاهبون إلى أن المراد بالمسجد مسجد قباء: إن المراد من
أول أيام الهجرة ودخول المدينة.
قال السهيلي: ويستفاد من الآية صحة ما اتفق عليه الصحابة رضي
الله تعالى عنهم أجمعين مع عمر رضي الله
(6/20)
تعالى عنه حين شاورهم في التاريخ فاتفق
رأيهم على أن يكون من عام الهجرة لأنه الوقت الذي أعز الله فيه
الإسلام والحين الذي أمن فيه النبي صلّى الله عليه وسلم، وبنيت
المساجد وعبد الله تعالى كما يجب فوافق رأيهم هذا ظاهر
التنزيل، وفهمنا الآن بنقلهم أن قوله تعالى: مِنْ أَوَّلِ
يَوْمٍ أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي نؤرخ به الآن،
فإن كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم أخذوه من هذه الآية فهو
الظن بهم لأنهم أعلم الناس بتأويل كتاب الله تعالى وأفهمهم بما
فيه من الإشارات، وإن كان ذلك عن رأي واجتهاد فقد علمه تعالى
وأشار إلى صحته قبل أن يفعل إذ لا يعقل قول القائل فعلته أول
يوم إلا بالإضافة إلى عام معلوم أو شهر معلوم أو تاريخ كذلك
وليس هاهنا إضافة في المعنى إلا إلى هذا التاريخ المعلوم لعدم
القرائن الدالة على غيره من قرينة لفظ أو حال فتدبره ففيه
معتبر لمن اذكر وعلم لمن رأى بعين فؤاده واستبصر انتهى. ولا
يخفى على المطلع على التاريخ أن ما وقع كان عن اجتهاد وأن
قوله: وليس هاهنا إضافة إلخ محل نظر، ويستفاد من الآية أيضا
على ما قيل النهي عن الصلاة في مساجد بنيت مباهاة أو رياء أو
سمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله تعالى، وألحق بذلك كل مسجد
بني بمال غير طيب.
وروي عن شقيق ما يؤيد ذلك. وروي عن عطاء لما فتح الله الأمصار
على عمر رضي الله تعالى عنه أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأن
لا يتخذوا في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه، ومن حمل التطهير
فيها على ما نطقت به الأخبار السابقة قال: يستفاد منها سنية
الاستنجاء بالماء، وجاء من حديث البزار تفسيره بالجمع بين
الماء والحجر وهو أفضل من الاقتصار على أحدهما، وفسره بعضهم
بالتخلص عن المعاصي والخصال المذمومة وهو معنى مجازي له، وإذا
فسر بما يشمل التطهير من الحدث الأكبر والخبث والتنزه من
المعاصي ونحوها كان فيه من المدح ما فيه، وجوز في جملة فِيهِ
رِجالٌ ثلاثة أوجه أن تكون مستأنفة مبينة لأحقية القيام في ذلك
المسجد من جهة الحال بعد بيان الأحقية من جهة المحل، وأن تكون
صفة للمبتدأ جاءت بعد خبره، وأن تكون حالا من الضمير في فِيهِ
وعلى كل حال ففيها تحقيق وتقرير لاستحقاق القيام فيه، وقرىء
«أن يطهروا» بالإدغام.
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أي يرضى عنهم ويكرمهم
ويعظّم ثوابهم وهو المراد بمحبة الله تعالى عند الأشاعرة
وأشياعهم وذكروا أن المحبة الحقيقية لا يوصف بها سبحانه، وحمل
بعضهم التعبير بها هنا على المشاكلة، والمراد من المطهرين إما
أولئك الرجال أو الجنس ويدخلون فيه أَفَمَنْ أَسَّسَ
بُنْيانَهُ أي مبنيه فهو مصدر كالغفران واستعمل بمعنى المفعول،
وعن أبي علي أن البنيان جمع واحده بنيانة ولعل مراده أنه اسم
جنس جمعي واحده ما ذكر وإلا فليس بشيء، والتأسيس وضع الأساس
وهو أصل البناء وأوله، ويستعمل بمعنى الإحكام وبه فسره بعضهم
هنا، واختار آخرون التفسير الأول لتعديه بعلى في قوله سبحانه:
عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ فإن المتبادر تعلقه به،
وجوز تعلقه بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في أسس وهو خلاف
الظاهر كما لا يخفى، والمراد من الرضوان طلبه بالطاعة مجازا
وإن شئت قدرت المضاف ليكون المتعاطفان من أعمال العبد، والهمزة
للإنكار، والفاء للعطف على مقدر كما قالوا في نظائره أي أبعد
ما علم حالهم فمن أسس بنيانه على تقوى وخوف من الله تعالى وطلب
مرضاته بالطاعة خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا
جُرُفٍ أي طرفه، ومنه أشفى على الهلاك أي صار على شفاء وشفي
المريض لأنه صار على شفا البرء والسلامة ويثنى على شفوان
والجرف بضمتين البئر التي لم تطو، وقيل:
هو الهوة وما يجرفه السيل من الأودية لجرف الماء له أي أكله
وإذهابه. وقرأ أبو بكر وابن عامر وحمزة «جرف» بالتخفيف وهو لغة
فيه هارٍ أي متصدع مشرف على السقوط وقيل ساقط، وهو نعت لجرف
وأصله هاور أو هاير فهو مقلوب ووزنه فالع، وقيل: إنه حذفت عينه
اعتباطا فوزنه فال، والإعراب على رائه كباب، وقيل: إنه لا قلب
فيه ولا
(6/21)
حذف وأصله هور أو هير على وزن فعل بكسر
العين ككتف فلما تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفا،
والظاهر أنه وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى فيما سبق، وفيه
استعارة تصريحية تحقيقية حيث شبه الباطل والنفاق بشفا جرف هار
في قلة الثبات ثم استعير لذلك والقرينة المقابلة، وقوله تعالى:
فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ ترشيح، وباؤه إما للتعدية
أو للمصاحبة، ووضع في مقابلة الرضوان تنبيها على أن تأسيس ذلك
على أمر يحفظه مما يخاف ويوصله إلى ما أدنى مقتضياته الجنة،
وتأسيس هذا على ما هو بصدد الوقوع في النار ساعة فساعة ثم
المصير إليها لا محالة، والاستعارة فيما تقدم مكنية حيث شبهت
فيه التقوى بقواعد البناء تشبيها مضمرا في النفس ودل عليه ما
هو من روادفه ولوازمه وهو التأسيس والبنيان، واختار غير واحد
أن معنى الآية أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمة هي التقوى
وطلب الرضا بالطاعة خير أم من أسس على قاعدة هي أضعف القواعد
وأرخاها فأدى به ذلك لخوره وقلة استمساكه إلى السقوط في النار،
وإنما اختير ذلك على ما قيل لما أنه أنسب بتوصيف أهل مسجد
الضرار بمضارة المسلمين والكفر والتفريق والإرصاد وتوصيف أهل
مسجد التقوى بأنهم يحبون أن يتطهروا بناء على أن المراد
التطهير عن المعاصي والخصال المذمومة لأنه المقتضي بزعم البعض
لمحبة الله تعالى لا التطهير المذكور في الأخبار، وأمر
الاستعارة على هذا التوجيه على طرز ما تقدم في التوجيه الأول،
وجوز أن يكون في الجملة الأولى تمثيل لحال من أخلص لله تعالى
وعمل الأعمال الصالحة بحال من بنى بناء محكما يستوطنه ويتحصن
به، وأن يكون البنيان استعارة أصلية والتأسيس ترشيحا أو تبعية
وكذا جوز التمثيل في الجملة الثانية وإجراء ذلك فيها ظاهر بعد
اعتبار إجرائه في مقابلة، وفاعل «أنهار» إما ضمير البنيان
وضمير بِهِ للمؤسس وإما للشفا وضمير- به- للبنيان وإليه يميل
ظاهر التفسير المار آنفا.
وظاهر الأخبار أن ذلك المسجد إذا وقع في النار فقد أخرج ابن
المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة أنه قال في الآية:
والله ما تناهى أن وقع في النار. وذكر لنا أنه حفرت فيه بقعة
فرئي منه الدخان.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن
السدي أنه قال فيها: مضى حين خسف به إلى النار. وعن سفيان بن
عيينة يقال: إنه بقعة من نار جهنم. وأنت تعلم أني والحمد لله
تعالى مؤمن بقدرته سبحانه على أتم وجه وأنه جل جلاله فعال لما
يريد لكني لا أؤمن بمثل هذه الظواهر ما لم يرد فيها خبر صحيح
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وقرأ نافع وابن عامر «أسّس» بالبناء للمفعول في الموضعين،
وقرىء «أساس بنيانه وأس بنيانه» على الإضافة ونسب ذلك إلى علي
بن نصر «وأسّس» بفتحات ونسبت إلى عاصم «وإساس» بالكسر، قيل:
وثلاثتها جمع أس وفيه نظر، ففي الصحاح الأس أصل البناء وكذلك
الأساس والأسس مقصور منه وجمع الأس مثل أساس عس وعساس وجمع
الأساس أسس مثل قذال وقذل وجمع الأسس أساس مثل سبب وأسباب
انتهى. وجوز في أسس أن يكون مصدرا. وقرأ عيسى بن عمرو «وتقوى»
بالتنوين، وخرج ذلك ابن جني على أن الألف للإلحاق كما في أرطى
ألحق بجعفر لا للتأنيث كألف تترى في رأى والألم يجوز تنوينه.
وقرأ ابن مسعود «فانهار به قواعده في نار جهنم» وَاللَّهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لأنفسهم أو الواضعين
للأشياء في غير مواضعها أي لا يرشدهم إلى ما فيه صلاحهم إرشادا
موجبا له لا محالة.
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا أي بناؤهم الذي بنوه،
فالبنيان مصدر أريد به المفعول كما مر، ووصفه بالمفرد مما يرد
على مدعي الجمعية وكذا الإخبار عنه بقوله سبحانه: رِيبَةً فِي
قُلُوبِهِمْ واحتمال تقدير مضاف وجعل الصفة وكذا الخبر له خلاف
الظاهر. نعم قيل: الإخبار بريبة لا دليل فيه على عدم الجمعية
لأنه يقال: الحيطان منهدمة
(6/22)
والجبال راسية وجوز بعضهم كون البنيان
باقيا على المصدرية والَّذِي مفعوله، والريبة اسم من الريب
بمعنى الشك وبذلك فسرها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والمراد
به شكهم في نبوته صلّى الله عليه وسلم المضمر في قلوبهم وهو
عين النفاق، وجعل بنيانهم نفس الريبة للمبالغة في كونه سببا
لها. قال الإمام: وفي ذلك وجوه.
أحدها: أن المنافقين عظم فرحهم ببنيانه فلما أمر بتخريبه ثقل
عليهم وازداد غيظهم وارتيابهم في نبوته صلّى الله عليه وسلم.
وثانيها: أنه لما أمر بتخريبه ظنوا أن ذلك للحسد فارتفع أمانهم
عنه صلّى الله عليه وسلم وعظم خوفهم فارتابوا في أنهم هل
يتركون على حالهم أو يؤمر بقتلهم ونهب أموالهم. وثالثها: أنهم
اعتقدوا أنهم كانوا محسنين في البناء فلما أمر بتخريبه بقوا
شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر ذلك والصحيح هو الأول. ويمكن
كما قال العلامة الطيبي أن يرجح الثاني بأن تحمل الريبة على
أصل موضوعها ويراد منها قلق النفس واضطرابها.
وحاصل المعنى لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا سببا للقلق
والاضطراب والوجل في القلوب ووصف بنيانهم بما وصف للإيذان
بكيفية بنائهم له وتأسيسه على ما عليه تأسيسه مما علمت
وللإشعار بعلة الحكم، وقيل: وصف بذلك للدلالة على أن المراد
بالبنيان ما هو المبنى حقيقة لا ما دبروه من الأمور فإن البناء
قد يطلق على تدبير الأمر وتقديره كما في قولهم كم أبني وتهدم
وعليه قوله:
متى يبلغ البنيان يوما تمامه ... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
وحاصله أن الوصف للتأكيد وفائدته دفع المجاز، وهذا نظير ما
قالوا في قوله سبحانه: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً
[النساء: 164] وفيه بحث.
والاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ
من أعم الأوقات أو أعم الأحوال وما بعد إلا في محل النصب على
الظرفية أي لا يزال بنيانهم ريبة في كل وقت إلا وقت تقطع
قلوبهم أو في كل حال إلا حال تقطعها أي تفرقها وخروجها عن
قابلية الإدراك وهذا كناية عن تمكن الريبة في قلوبهم التي هي
محل الإدراك وإضمار الشرك بحيث لا يزول منها ما داموا أحياء
إلا إذا تقطعت وفرقت وحينئذ تخرج منها الريبة وتزول، وهو خارج
مخرج التصوير والفرض، وقيل: المراد بالتقطع ما هو كائن بالموت
من تفرق أجزاء البدن حقيقة وروي ذلك عن بعض السلف. وأخرج ابن
المنذر وغيره عن أيوب قال: كان عكرمة يقرأ «إلا أن تقطع قلوبهم
في القبور» وقيل: المراد إلا أن يتوبوا ويندموا ندامة عظيمة
تفتت قلوبهم وأكبادهم فالتقطع كناية أو مجاز عن شدة الأسف.
وروي ذلك عن ابن أبي حاتم عن سفيان، وتقطع من التفعل بإحدى
التاءين والبناء للفاعل أي تتقطع. وقرىء «تقطّع» على بناء
المجهول من التفعيل وعلى البناء للفاعل منه على أن الخطاب
للرسول صلّى الله عليه وسلم أي إلا أن تقطع أنت قلوبهم بالقتل،
وقرىء على البناء للمفعول من الثلاثي مذكرا ومؤنثا.
وقرأ الحسن «إلى أن تقطع» على الخطاب، وفي قراءة عبد الله «ولو
قطعت قلوبهم» على إسناد الفعل مجهولا إلى قلوبهم. وعن طلحة ولو
قطعت قلوبهم على خطاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويصح أن
يعني بالخطاب كل مخاطب، وكذا يصح أن يجعل ضمير تقطع مع نصب
قلوبهم للريبة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بجميع الأشياء التي من جملتها
ما ذكر من أحوالهم حَكِيمٌ وفي جميع أفعاله التي من جملتها
أمره سبحانه الوارد في حقهم. هذا ومن باب الإشارة في الآيات:
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ
لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ إشارة إلى
وصف المغرورين الذين ما ذاقوا طعم المحبة ولا هب عليهم نسيم
العرفان، ومن هنا صححوا لأنفسهم أفعالا فقالوا: لنصدقن
فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ أي إنهم نقضوا
العهد لما ظهر لهم ما سألوه، والبخل كما قال أبو حفص: ترك
(6/23)
الإيثار عند الحاجة إليه أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وهو ما لا يعلمونه من أنفسهم
وَنَجْواهُمْ أي ما يعلمونه منها دون الناس، وقيل: السر ما لا
يطلع عليه إلا عالم الأسرار والنجوى ما يطلع عليه الحفظة
وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ
أَشَدُّ حَرًّا أرادوا التثبيط على المؤمنين ببيان بعض شدائد
الغزو وما دروا أن المحب يستعذب المر في طلب وصال محبوبه ويرى
الحزن سهلا والشدائد لذائذ في ذلك، ولا خير فيمن عاقه الحر
والبرد، ورد عليهم بأنهم آثروا بمخالفتهم النار التي هي أشد
حرا ويشبه هؤلاء المنافقين في هذا التثبيط أهل البطالة الذين
يثبطون السالكين عن السلوك ببيان شدائد السلوك وفوات اللذائذ
الدنيوية لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فأفنوا كل ذلك في طلب
مولاهم جل جلاله وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ المشاهدات
والمكاشفات والقربات وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون
بالبغية.
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ أي الذين أضعفهم حمل المحبة وَلا
عَلَى الْمَرْضى بداء الصبابة حتى ذابت أجسامهم بحرارة الفكر
وشدائد الرياضة وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما
يُنْفِقُونَ وهم المتجردون من الأكوان حَرَجٌ إثم في التخلف عن
الجهاد الأصغر إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بأن أرشدوا
الخلق إلى الحق وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ
مَغْرَماً غرامة وخسرانا، قيل: كل من يرى الملك لنفسه يكون ما
ينفق غرامة عنده وكل من يرى الأشياء لله تعالى وهي عارية عنده
يكون ما ينفق غنما عنده وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ أي
الذين سبقوا إلى الوحدة من أهل الصنف الأول مِنَ
الْمُهاجِرِينَ وهم الذين هجروا مواطن النفس وَالْأَنْصارِ وهم
الذين نصروا القلب بالعلوم الحقيقية على النفس وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُمْ في الاتصاف بصفات الحق بِإِحْسانٍ أي بمشاهدة من
مشاهدات الجمال والجلال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بما أعطاهم من
عنايته وتوفيقه وَرَضُوا عَنْهُ بقبول ما أمر به سبحانه وبذل
أموالهم ومهجهم في سبيله عز شأنه وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ من
جنات الأفعال والصفات تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ وهي أنهار
علوم التوكل والرضا ونحوهما ووراء هذه الجنات المشتركة بين
المتعاطفات جنة الذات وهي مختصة بالسابقين وَآخَرُونَ
اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ وهم الذين لم ترسخ فيهم ملكة الذنب
وبقي منهم فيهم نور الاستعداد ولهذا لانت شكيمتهم واعترفوا
بذنوبهم ورأوا قبحها وأما من رسخت فيه ملكة الذنب واستولت عليه
الظلمة فلا يرى ما يفعل من القبائح إلا حسنا خَلَطُوا عَمَلًا
صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً حيث كانوا في رتبة النفس اللوامة
التي لم يصر اتصالها بالقلب وتنورها بنوره ملكة لها ولهذا
تنقاد له تارة وتعمل أعمالا صالحة وذلك إذا استولى القلب عليها
وتنفر عنه أخرى وتفعل أفعالا سيئة إذا احتجبت عنه بظلمتها وهي
دائما بين هذا وذاك حتى يقوى اتصالها بالقلب ويصير ذلك ملكة
لها وحينئذ يصلح أمرها وتنجو من المخالفات، ولعل قوله سبحانه:
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إشارة إلى ذلك وقد
تتراكم عليها الهيئات المظلمة فترجع القهقرى ويزول استعدادها
وتحجب عن أنوار القلب وتهوي إلى سجين الطبيعة فتهلك مع
الهالكين، وترجح أحد الجانبين على الآخر يكون بالصحبة فإن
أدركها التوفيق صحبت الصالحين فتحلت بأخلاقهم وعملت أعمالهم
فكانت منهم، وإن لحقها الخذلان صحبت المفسدين واختلطت بهم
فتدنست بخلالهم وفعلت أفاعيلهم فصارت من الخاسرين أعاذنا الله
تعالى من ذلك، ولله در من قال:
عليك بأرباب الصدور فمن غدا ... مضافا لأرباب الصدور تصدرا
وإياك أن ترضى صحابة ناقص ... فتنحط قدرا عن علاك وتحقرا
فرفع أبو من ثم خفض مزمل ... يبين قولي مغريا ومحذرا
وقد يكون ترجح جانب الاتصال بأسباب أخر كما يشير إليه قوله
سبحانه وتعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً
(6/24)
إِنَّ اللَّهَ
اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي
التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى
بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي
بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ
الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ
اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ
وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ
اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ
وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ
لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ
حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ
إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ
اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا
لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ
مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ
تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا
ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ
عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ
اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا
إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ
الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ
حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا
مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا
يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا
إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ
نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ
وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ
أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ
كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي
الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ
وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ
الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ
فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا
وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ
يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ
لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا
أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ
يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ
قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا
عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ
رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها لأن
المادة مادة الشهوات فأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بالأخذ من
ذلك ليكون أول حالهم التجرد لتنكسر قوى النفس وتضعف أهواؤها
وصفاتها فتتزكى من الهيئات المظلمة وتتطهر من خبث الذنوب ورجس
دواعي الشيطان وَصَلِّ عَلَيْهِمْ بإمداد الهمة وإفاضة أنوار
الصحبة إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ أي سبب لنزول السكينة
فيهم، وفسروا السكينة بنور يستقر في القلب وبه يثبت على التوجه
إلى الحق ويتخلص عن الطيش لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى
مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ لأن النفس
تتأثر فيه بصفاء الوقت وطيب الحال وذوق الوجدان بخلاف ما إذا
كان مبنيا على ضد ذلك فإنها تتأثر فيه بالكدورة والتفرقة
والقبض.
وأصل ذلك أن عالم الملك تحت قهر عالم الملكوت وتسخيره فيلزم أن
يكون لنيات النفوس وهيئاتها تأثير فيما تباشره من الأعمال، ألا
ترى الكعبة كيف شرفت وعظمت وجعلت محلا للتبرك لما أنها كانت
مبنية بيد خليل الله تعالى عليه الصلاة والسلام بنية صادقة
ونفس شريفة، ونحن نجد أيضا أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع
والبقاع وضد ذلك في بعضها، ولست أعني إلا وجود ذوي النفوس
الحساسة الصافية لذلك وإلا فالنفوس الخبيثة تجد الأمر على عكس
ما تجده أرباب تلك النفوس، والصفراوي يجد السكر مرا، والجعل
يستخبث رائحة الورد: ومن هنا كان المنافق في المسجد كالسمك في
اليبس والمخلص فيه كالسمكة في الماء فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ
أَنْ يَتَطَهَّرُوا أي أهل إرادة وسعي في التطهر عن الذنوب،
وهو إشارة إلى أن صحبة الصالحين لها أثر عظيم، ويتحصل من هذا
وما قبله الإشارة إلى أنه ينبغي رعاية المكان والإخوان في حصول
الجمعية، وجاء عن القوم أنه يجب مراعاة ذلك مع مراعاة الزمان
في حصول ما ذكر وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ولولا
محبته إياهم لما أحبوا ذلك. وعن سهل: الطهارة على ثلاثة أوجه:
طهارة العلم من الجهل، وطهارة الذكر من النسيان، وطهارة الطاعة
من المعصية. وقال بعضهم: الطهارة على أقسام كثيرة: فطهارة
الأسرار من الخطرات، وطهارة الأرواح من الغفلات، وطهارة القلوب
من الشهوات وطهارة العقول من الجهالات، وطهارة النفوس من
الكفريات، وطهارة الأبدان من الزلات. وقال آخر: الطهارة
الكاملة طهارة الأسرار من دنس الأغيار والله تعالى هو الهادي
إلى سواء السبيل.
(6/25)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ إلخ
ترغيب للمؤمنين في الجهاد ببيان حال المتخلفين عنه، ولا ترى
كما نقل الشهاب ترغيبا في الجهاد أحسن ولا أبلغ مما في هذه
الآية لأنه أبرز في صورة عقد عاقده رب العزة جل جلاله، وثمنه
ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولم يجعل
المعقود عليه كونهم مقتولين فقط بل كونهم قاتلين أيضا لإعلاء
كلمة الله تعالى ونصرة دينه سبحانه، وجعله مسجلا في الكتب
السماوية وناهيك به من صك، وجعل وعده حقا ولا أحد أوفى من
واعده فنسيئته أقوى من نقد غيره، وأشار
(6/26)
إلى ما فيه من الرحب والفوز العظيم وهو
استعارة تمثيلة.
صور جهاد المؤمنين وبذل أموالهم وأنفسهم فيه وإثابة الله تعالى
لهم على ذلك الجنة بالبيع والشراء، وأتى بقوله سبحانه:
يُقاتِلُونَ إلخ بيانا لمكان التسليم وهو المعركة، وإليه
الإشارة
بقوله صلّى الله عليه وسلم: «الجنة تحت ظلال السيوف»
ثم أمضاه جل شأنه بقوله ذلك الفوز العظيم، ومن هنا أعظم
الصحابة رضي الله تعالى عنهم أمر هذه الآية.
فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال:
نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو في
المسجد إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى إلخ فكثر الناس في المسجد فأقبل
رجل من الأنصار ثانيا طرفي ردائه على عاتقه فقال: يا رسول الله
أنزلت هذه الآية؟ قال: نعم. فقال الأنصاري: بيع ربيح لا نقيل
ولا نستقيل.
ومن الناس من قرر وجه المبالغة بأنه سبحانه عبر عن قبوله من
المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله تعالى وإثابته
إياهم بمقابلتها الجنة بالشراء على طريقة الاستعارة التبعية ثم
جعل المبيع الذي هو العمدة والمقصد في العقد أنفس المؤمنين
وأموالهم والثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة الجنة، ولم يعكس
بأن يقال: إن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم
ليدل على أن المقصد بالعقد هو الجنة وما بذله المؤمنون في
مقابلتها وسيلة إليها بكمال العناية بهم وبأموالهم ثم إنه
تعالى لم يقل بالجنة بل قال عز شأنه: بِأَنَّ لَهُمُ
الْجَنَّةَ مبالغة في تقرير وصول الثمن إليهم واختصاصه بهم
كأنه قيل: بالجنة الثابتة لهم المختصة بهم، ومن هنا يعلم أن
هذه القراءة أبلغ من قراءة الأعمش ونسبت أيضا إلى عبد الله رضي
الله تعالى عنه بالجنة على أنها أوفق بسبب النزول.
فقد أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي وغيره أنهم قالوا:
«قال عبد الله بن رواحة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: اشترط
لربك ولنفسك ما شئت. قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به
شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم
قالوا: فما لنا؟ قال: الجنة قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا
نستقيل فنزلت إن الله اشترى الآية» .
وقيل: عبر بذلك مدحا للمؤمنين بأنهم بذلوا أنفسهم وأموالهم
بمجرد الوعد لكمال ثقتهم بوعده تعالى مع أن تمام الاستعارة
موقوف على ذلك إذ لو قيل بالجنة لاحتمل كون الشراء على حقيقته
لأنها صالحة للعوضية بخلاف الوعد بها، واعترض بأن مناط دلالة
ما عليه النظم الجليل على الوعد ليس كونه جملة ظرفية مصدرة بأن
فإن ذلك بمعزل من الدلالة على الاستقبال بل هو الجنة التي
يستحيل وجودها في عالم الدنيا ولو سلم ذلك بكون العوض الجنة
الموعود بها لأنفس الوعد بها، على أن حديث احتمال كون الشراء
حقيقة لو قيل بالجنة لا يخلو عن نظر كما قيل لأن حقيقة الشراء
مما لا يصح منه تعالى لأنه جل شأنه مالك الكل والشراء إنما
يكون ممن لا يملك، ولهذا قال الفقهاء:
طلب الشراء يبطل دعوى الملكية، نعم قد لا يبطل في بعض الصور
كما إذا اشترى الأب دارا لطفله من نفسه فكبر الطفل ولم يعلم ثم
باعها الأب وسلمها للمشتري ثم طلب الابن شراءها منه ثم علم بما
صنع أبوه فادعى الدار فإنه تقبل دعواه ولا يبطلها ذلك الطلب
كما يقتضيه كلام الأستروشني لكن هذا لا يضرنا فيما نحن فيه،
ومن المحققين من وجه دلالة ما في النظم الكريم على الوعد بأنه
يقتضي بصريحه عدم التسليم وهو عين الوعد لأنك إذا قلت: اشتريت
منك كذا بكذا احتمل النقد بخلاف ما إذا قلت: بأن لك كذا فإنه
في معنى لك على كذا وفي ذمتي، واللام هنا ليست للملك إذ لا
يناسب شراء ملكه بملكه كالممهورة إحدى خدمتيها فهي للاستحقاق
وفيه إشعار بعدم القبض، وأما كون تمام الاستعارة موقوفا على
ذلك فله وجه أيضا حيث كان المراد بالاستعارة الاستعارة
التمثيلية إذ لولاه لصح جعل الشراء مجازا عن الاستبدال مثلا
وهو مما لا ينبغي الالتفات إليه مع تأتّي التمثيل المشتمل من
البلاغة واللطائف على ما لا يخفى، لكن أنت خبير بأن الكلام بعد
لا يخلو عن بحث، ومما أشرنا إليه من فضيلة التمثيل يعلم انحطاط
(6/27)
القول باعتبار الاستعارة أو المجاز المرسل
في اشْتَرى وحده كما ذهب إليه البعض، وقوله تعالى: يُقاتِلُونَ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ قيل بيان لمكان التسليم كما أشير إليه
فيما تقدم، وذلك لأن البيع سلم كما قال الطيبي، وغيره، وقيل:
بيان لما لأجله الشراء كأنه لما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ
اشْتَرى إلخ، قيل: لماذا فعل ذلك؟ فقيل: ليقاتلوا في سبيله
تعالى وقيل: بيان للبيع الذي يستدعيه الاشتراء المذكور كأنه
قيل: كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة، فقيل:
يقاتلون في سبيله عز شأنه وذلك بذل منهم لأنفسهم وأموالهم إلى
جهته تعالى وتعريض لهما للهلاك، وقيل: بيان لنفس الاشتراء
وقيل: ذكر لبعض ما شمله الكلام السابق اهتماما به على أن معنى
ذلك أنه تعالى اشترى من المؤمنين أنفسهم بصرفها في العمل
الصالح وأموالهم ببذلها فيما يرضيه وهو في جميع ذلك خبر لفظا
ومعنى ولا محل له من الإعراب، وقيل: إنه في معنى الأمر كقوله
سبحانه: تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ [الصف: 11] ووجه ذلك بأنه أتى بالمضارع بعد
الماضي لإفادة الاستمرار كأنه قيل: اشتريت منكم أنفسكم في
الأزل وأعطيت ثمنها الجنة فسلموا المبيع واستمروا على القتال،
ولا يخفى ما في بعض هذه الأقوال من النظر. وانظر هل ثم مانع من
جعل الجملة في موضع الحال كأنه قيل: اشترى منهم ذلك حال كونهم
مقاتلين في سبيله فإني لم أقف على من صرح بذلك مع أنه أوفق
الأوجه بالاستعارة التمثيلية تأمل.
وقوله سبحانه: فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ بيان لكون القتال
في سبيل الله تعالى بذلا للنفس وأن المقاتل في سبيله تعالى
باذل لها وإن كانت سالمة غانمة، فإن الإسناد في الفعلين ليس
بطريق اشتراط الجمع بينهما ولا اشتراط الاتصاف بأحدهما البتة
بل بطريق وصف الكل بحال البعض، فإنه يتحقق القتال من الكل سواء
وجد الفعلان أو أحدهما منهم أو من بعضهم بل يتحقق ذلك وإن لم
يصدر منهم أحدهما أيضا كما إذا وجد المضاربة ولم يوجد القتل في
أحد الجانبين، ويفهم كلام بعضهم أنه يتحقق الجهاد بمجرد
العزيمة والنفير وتكثير السواد وإن لم توجد مضاربة وليس
بالبعيد لما أن في ذلك تعريض النفس للهلاك أيضا، والظاهر أن
أجور المجاهدين مختلفة قلة وكثرة وإن كان هناك قدر مشترك
بينهم.
ففي صحيح مسلم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما من
غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة ألا تعجلوا ثلثي
أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم
أجرهم» . وفي رواية أخرى «ما من غازية أو سرية تغزو فتغنم
وتسلم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم وما من غازية أو سرية
تحنق وتصاب إلا أتم أجورهم» .
وزعم بعضهم أنهم في الأجر سواء ولا ينقص أجرهم بالغنيمة،
واستدلوا عليه بما في الصحيحين من أن المجاهد يرجع بما نال من
أجر وغنيمة، وبأن أهل بدر غنموا وهم- هم- ويرد عليه أن خبر
الصحيحين مطلق وخبر مسلم مقيد فيجب حمله عليه، وبأنه لم يجىء
نص في أهل بدر أنهم لو لم يغنموا لكان أجرهم على قدر أجرهم وقد
غنموا فقط، وكونهم هم- هم- لا يلزم منه أن لا يكون وراء
مرتبتهم مرتبة أفضل منها، والقول بأن في السند أبا هانىء وهو
مجهول فلا يعول على خبره غلط فاحش فإنه ثقة مشهور روى عنه
الليث بن سعد، وحيوة، وابن وهب. وخلائق من الأئمة، ويكفي في
توثيقه احتجاج مسلم به في صحيحه، ومثل هذا ما حكاه القاضي عن
بعضهم من أن تعجل ثلثي الأجر إنما هو في غنيمة أخذت على غير
وجهها إذ لو كانت كذلك لم يكن ثلث الأجر، وكذا ما قيل: من أن
الحديث محمول على من خرج بنية الغزو والغنيمة معا فإن ذلك ينقص
ثوابه لا محالة، فالصواب أن أجر من لم يغنم أكثر من أجر من غنم
لصريح ما ذكرناه الموافق لصرائح الأحاديث الصحيحة المشهورة عن
الصحابة رضي الله تعالى عنهم. ويعلم من ذلك أن أجر من قتل أكثر
من أجر من قتل لكون الأول من الشهداء دون الثاني، وظاهر ما
أخرجه مسلم من رواية أبي هريرة «من قتل في سبيل الله تعالى فهو
شهيد ومن مات في سبيل الله تعالى فهو شهيد»
أن القتل في سبيل الله تعالى والموت فيها سواء
(6/28)
في الأجر وهو الموافق لمعنى قوله تعالى:
وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ
أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء: 100] واستدل له أيضا بعض
العلماء بغير ذلك مما لا دلالة فيه عليه كما نص عليه النووي
رحمه الله تعالى، وتقديم حالة القاتلية في الآية على حالة
المقتولية للإيذان بعدم الفرق بينهما في كونهما مصداقا لكون
القتال بذلا للنفس، وقرأ حمزة. والكسائي بتقديم المبني للمفعول
رعاية لكون الشهادة عريقة في هذا الباب إيذانا بعدم مبالاتهم
بالموت في سبيل الله تعالى بل بكونه أحب إليهم من السلامة كما
قال كعب بن زهير في حقهم:
لا يفرحون إذا نالت رماحهم ... قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا
لا يقع الطعن إلا في نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليل
وفيه على ما قيل دلالة على جراءتهم حيث لم ينكسروا لأن قتل
بعضهم، ومن الناس من دفع السؤال بعدم مراعاة الترتيب في هذه
القراءة بأن الواو لا تقتضيه، وتعقب بأن ذلك لا يجدي لأن تقديم
ما حقه التأخير في أبلغ الكلام لا يكون بسلامة الأمير كما لا
يخفى وَعْداً عَلَيْهِ مصدر مؤكد لمضمون الجملة لأن معنى
الشراء بأن لهم الجنة وعد لهم بها على الجهاد في سبيله سبحانه،
وقوله تعالى: حَقًّا نعت له وعَلَيْهِ في موضع الحال من حَقًّا
لتقدمه عليه، وقوله سبحانه: فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ
وَالْقُرْآنِ متعلق بمحذوف وقع نعتا لوعدا أيضا أي وعدا مثبتا
في التوراة والإنجيل كما هو مثبت في القرآن فالمراد إلحاق ما
لا يعرف مما يعرف إذ من المعلوم ثبوت هذا الحكم في القرآن، ثم
إن ما في الكتابين إما أن يكون أن أمة محمد صلّى الله عليه
وسلم اشترى الله تعالى منهم أنفسهم وأموالهم بذلك أو أن من
جاهد بنفسه وماله له ذلك، وفي كلا الأمرين ثبوت موافق لما في
القرآن، وجوز تعلق الجار باشترى ووعدا وحقا وَمَنْ أَوْفى
بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ اعتراض مقرر لمضمون ما قبله من حقية
الوعد، والمقصود من مثل هذا التركيب عرفا نفي المساواة أي لا
أحد مثله تعالى في الوفاء بعهده، وهذا كما يقال: ليس في
المدينة أفقه من فلان فإنه يفيد عرفا أنه أفقه أهلها، ولا يخفى
ما في جعل الوعد عهدا وميثاقا من الاعتناء بشأنه
فَاسْتَبْشِرُوا التفات إلى خطابهم لزيادة التشريف والاستبشار
إظهارا لسرورهم، وليست السين فيه للطلب، والفاء لترتيبه أو
ترتيب الأمر به على ما قبله أي فإذا كان كذلك فاظهروا السرور
بما فزتم من الجنة، وإنما قال سبحانه: بِبَيْعِكُمُ مع أن
الابتهاج به باعتبار أدائه إلى الجنة لأن المراد ترغيبهم في
الجهاد الذي عبر عنه بالبيع، ولم يذكر العقد بعنوان الشراء لأن
ذلك من قبله سبحانه لا من قبلهم والترغيب على ما قيل إنما يتم
فيما هو من قبلهم، وقوله تعالى: الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ
لزيادة تقرير بيعهم وللإشعار بتميزه على غيره فإنه بيع الفاني
بالباقي ولأن كلا البدلين له سبحانه وتعالى، ومن هنا كان الحسن
إذا قرأ الآية يقول: أنفس هو خلقها وأموال هو رزقها وَذلِكَ أي
البيع الذي أمرتم به هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا فوز
أعظم منه، وما في ذلك من البعد إشارة إلى بعد منزلة المشار
إليه وسمو رتبته في الكمال والجملة تذييل مقرر لمضمون الأمر
السابق، ويجوز أن يكون تذييلا للآية الكريمة والإشارة إلى
الجنة التي جعلت ثمنا بمقابلة ما بذلوا من أنفسهم وأموالهم،
وفي ذلك إعظام للثمن ومنه يعلم حال المثمن، ونقل عن الأصمعي
أنه أنشد للصادق رضي الله تعالى عنه:
أثامن بالنفس النفيسة ربها ... فليس لها في الخلق كلهم ثمن
بها أشتري الجنات إن أنا بعتها ... بشيء سواها إن ذلكم غبن
إذا ذهبت نفسي بدنيا أصبتها ... فقد ذهبت مني وقد ذهب الثمن
والمشهور عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: ليس لأبدانكم ثمن
إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها، وهو ظاهر في أن المبيع هو
الأبدان، وبذلك صرح بعض الفضلاء في حواشيه على تفسير البيضاوي
حيث قال: إن الله تعالى اشترى من
(6/29)
المؤمن الذي هو عبارة عن الجوهر الباقي
بدنه الذي هو مركبه وآلته، والظاهر أنه أراد بالجوهر الباقي
الجوهر المجرد المخصوص وهو النفس الناطقة، ولا يخفى أن جمهور
المتكلمين على نفي المجردات وإنكار النفس الناطقة وأن الإنسان
هو هذا الهيكل المحسوس، وبذلك أبطل بعض أجلّة المتأخرين من
أفاضل المعاصرين القول بخلق الأفعال لما يلزم عليه من كون
الفاعل والقابل واحدا، وقد قالوا: بامتناع اتحادهما، والإنصاف
إثبات شيء مغاير للبدن والهيكل المحسوس في الإنسان، والمبيع
أما ذاك ومعنى بيعه تعريضه للمهالك والخروج عن التعلق الخاص
بالبدن وإما البدن ومعنى بيعه ظاهر إلا أنه ربما يدعي أن
المتبادر من النفس غير ذلك كما لا يخفى على ذوي النفوس الزكية
النبيون نعت للمؤمنين، وقطع لأجل المدح أي هم التائبون ويدل
على ذلك قراءة عبد الله. وأبي «التائبين» بالياء على أنه منصوب
على المدح أو مجرور على أنه صفة للمؤمنين.
وجوز أن يكون التَّائِبُونَ مبتدأ والخبر محذوف أي من أهل
الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا لقوله تعالى:
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى فإن كلا فيه عام، والحسنى
بمعنى الجنة.
وقيل: الخبر قوله تعالى: الْعابِدُونَ وما بعده خبر بعد خبر،
وقيل: خبره الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وقيل: إنه بدل من ضمير
يُقاتِلُونَ والأول أظهر إلا أن يكون الموعود بالجنة عليه هو
المجاهد المتصف بهذه الصفات لا كل مجاهد وبذلك يشعر ما أخرجه
ابن أبي شيبة. وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
أنه قال: الشهيد من كان فيه الخصال التسع وتلا هذه الآية.
وأورد عليه أنه ينافي ذلك ما
صح من حديث مسلم من أن من قتل في سبيل الله تعالى وهو صابر
محتسب مقبل غير مدبر كفرت خطاياه إلا الدين
فإنه ظاهر في أن المجاهد قد لا يكون متصفا بجميع ما في الآية
من الصفات وإلا لا يبقى لتكفير الخطايا وجه، وكأنه من هنا
اختار الزجاج كونه مبتدأ والخبر محذوف كما سمعت إذ في الآية
عليه تبشير مطلق المجاهدين بما ذكر وهو المفهوم من ظواهر
الأخبار. نعم دل كثير منها على أن الفضل الوارد في المجاهدين
مختص بمن قاتل لتكون كلمة الله تعالى هي العليا وأن من قاتل
للدنيا والسمعة استحق النار. وفي صحيح مسلم ما يقتضي ذلك
فليفهم، والمراد من التائبين على ما أخرجه ابن جرير، وابن
المنذر، وغيرهما عن الحسن وقتادة الذين تابوا عن الشرك ولم
ينافقوا. وأخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن الضحاك أنهم الذين
تابوا عن الشرك والذنوب، وأيد ذلك بأن التائبين في تقدير الذين
تابوا وهو من ألفاظ العموم يتناول كل تائب فتخصيصه بالتائب عن
بعض المعاصي تحكم. وأجيب بأن ذكرهم بعد ذكر المنافقين ظاهر في
حمل التوبة على التوبة عن الكفر والنفاق، وأيضا لو حملت التوبة
على التوبة عن المعاصي يكون ما ذكر بعد من الصفات غير تام
الفائدة مع أن من اتصف بهذه الصفات الظاهر اجتنابه للمعاصي،
والمراد من العابدين الذين أتوا بالعبادة على وجهها، وقال
الحسن: هم الذين عبدوا الله تعالى في أحايينهم كلها أما والله
ما هو بشهر ولا شهرين ولا سنة ولا سنتين ولكن كما قال العبد
الصالح: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا
[مريم: 31] وقال قتادة: هم قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم
ونهارهم، الْحامِدُونَ أي الذين يحمدون الله تعالى على كل حال
كما روي عن غير واحد من السلف، فالحمد بمعنى الوصف بالجميل
مطلقا، وقيل: هو بمعنى الشكر فيكون في مقابلة النعمة أي
الحامدون لنعمائه تعالى وأنت تعلم أن الحمد في كل حال أولى
وفيه تأس برسول الله صلّى الله عليه وسلم:
فقد أخرج ابن مردويه وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم
أول من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون على السراء
والضراء»
وجاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «كان النبي صلّى الله
عليه وسلم إذا أتاه الأمر يسره قال: الحمد لله الذي بنعمته
(6/30)
تتم الصالحات وإذا أتاه الأمر يكرهه قال:
الحمد لله على كل حال»
السَّائِحُونَ أي الصائمون، فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود
وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم «أن النبي صلّى الله عليه وسلم
سئل عن ذلك فأجاب بما ذكر» وإليه ذهب جلة من الصحابة
والتابعين.
وجاء عن عائشة «سياحة هذه الأمة الصيام» ، وهو من باب
الاستعارة لأن الصوم يعوق عن الشهوات كما إن السياحة تمنع منها
في الأكثر، أو لأنه رياضة روحانية ينكشف بها كثير من أحوال
الملك والملكوت فشبه الاطلاع عليها بالاطلاع على البلدان
والأماكن النائية إذ لا يزال المرتاض يتوصل من مقام إلى مقام
ويدخل من مدائن المعارف إلى مدينة بعد أخرى على مطايا الفكر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أن السائحين هم المهاجرون وليس
في أمة محمد صلّى الله عليه وسلم سياحة إلا الهجرة.
وأخرج هو وأبو الشيخ عن عكرمة أنهم طلبة العلم لأنهم يسيحون في
الأرض لطلبه، وقيل: هم المجاهدون لما
أخرج الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما «عن أبي أمامة أن رجلا
استأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في السياحة فقال: إن
سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى»
والمختار ما تقدم كما أشرنا إليه، وإنما لم تحمل السياحة على
المعنى المشهور لأنها نوع من الرهبانية، وقد نهى عنها وكانت
كما أخرج ابن جرير عن وهب بن منبه في بني إسرائيل
الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ أي في الصلوات المفروضات كما روي
عن الحسن، فالركوع والسجود على معناهما الحقيقي، وجعلهما بعضهم
عبارة عن الصلاة لأنهما أعظم أركانها فكأنه قيل: المصلون
الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي الإيمان وَالنَّاهُونَ عَنِ
الْمُنْكَرِ أي الشرك كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما في الأمرين، ولو أبقى لفظ النظم الجليل على عمومه لكان
له وجه بل قيل إنه الأولى، والعطف هنا على ما في المغني إنما
كان من جهة إن الأمر والنهي من حيث هما أمر ونهي متقابلان
بخلاف بقية الصفات لأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر وهو ترك
المعروف والناهي عن المنكر آمر بالمعروف فأشير إلى الاعتداد
بكل من الوصفين وأنه لا يكفي فيه ما يحصل في ضمن الآخر، وحاصله
على ما قيل: إن العطف لما بينهما من التقابل أو لدفع الإيهام.
ووجه بعض المحققين ذلك بأن بينهما تلازما في الذهن والخارج لأن
الأوامر تتضمن النواهي ومنافاة بحسب الظاهر لأن أحدهما طلب فعل
والآخر طلب ترك فكانا بين كمال الاتصال والانقطاع المقتضي
للعطف بخلاف ما قبلهما، وقيل: إن العطف للدلالة على أنهما في
حكم خصلة واحدة كأنه قيل: الجامعون بين الوصفين، ويرد على
ظاهره أن الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ في حكم خصلة واحدة أيضا
فكان ينبغي فيهما العطف على ما ذكر إذ معناه الجامعون بين
الركوع والسجود ويدفع بأدنى التفات، وأما العطف في قوله
سبحانه: وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ أي فيما بينه وعينه
من الحقائق والشرائع فقيل للإيذان بأن العدد قد تم بالسابع من
حيث إن السبعة هو العدد التام والثامن ابتداء تعداد آخر معطوف
عليه ولذلك يسمى واو الثمانية، وإليه مال أبو البقاء وغيره ممن
أثبت واو الثمانية وهو قول ضعيف لم يرضه النحاة كما فصله ابن
هشام وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه، وقيل: إنه للتنبيه على
أن ما قبله مفصل الفضائل وهذا مجملها، يعني أنه من ذكر أمر عام
شامل لما قبله وغيره، ومثله يؤتى به معطوفا نحو زيد وعمرو
وسائر قبيلته كرماء فلمغايرته بالإجمال والتفصيل والعموم
والخصوص عطف عليه، وقيل: هو عطف عليه، وقيل: هو عطف على ما
قبله من الأمر والنهي لأن من لم يصدق فعله قوله لا يجدي أمره
نفعا ولا يفيد نهيه منعا.
وقال بعض المحققين: إن المراد بحفظ الحدود ظاهره وهي إقامة
الحد كالقصاص على من استحقه والصفات الأول إلى قوله سبحانه:
والْآمِرُونَ صفات محمودة للشخص في نفسه وهذه له باعتبار غيره
فلذا تغاير
(6/31)
تعبير الصنفين فترك العاطف في القسم الأول
وعطف في الثاني، ولما كان لا بد من اجتماع الأول في شيء واحد
ترك فيها العطف لشدة الاتصال بخلاف هذه فإنه يجوز اختلاف
فاعلها ومن تعلقت به، وهذا هو الداعي لإعراب التَّائِبُونَ
مبتدأ موصوفا بما بعده والْآمِرُونَ خبره فكأنه قيل: الكاملون
في أنفسهم المكملون لغيرهم وقدم الأول لأن المكمل لا يكون
مكملا حتى يكون كاملا في نفسه، وبهذا يتسق النظم أحسن اتساق من
غير تكلف وهو وجه وجيه للعطف في البعض وترك العطف في الآخر،
خلا أن المأثور عن السلف كابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وغيره تفسير الحافظين لحدود الله بالقائمين على طاعته سبحانه
وهو مخالف لما في هذا التوجيه لعل الأمر فيه سهل والله تعالى
أعلم بمراده وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أي هؤلاء الموصوفين بتلك
الصفات الجليلة، ووضع المؤمنين موضع ضمير هم للتنبيه على أن
ملاك الأمر هو الإيمان وأن المؤمن الكامل من كان كذلك، وحذف
المبشر به إشارة إلى أنه أمر جليل لا يحيط به نطاق البيان ما
كانَ أي ما صح في حكم الله عز وجل وحكمته وما استقام
لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا بالله تعالى على الوجه
المأمور به أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ به سبحانه
وَلَوْ كانُوا أي المشركون أُولِي قُرْبى أي ذوي قرابة لهم،
وجواب لَوْ محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة معطوفة على
جملة أخرى قبلها محذوفة حذفا مطردا أي لو لم يكونوا أولى قربى
ولو كانوا كذلك مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أي للنبي صلّى
الله عليه وسلم والمؤمنين أَنَّهُمْ أي المشركين أَصْحابُ
الْجَحِيمِ بأن ماتوا على الكفر أو نزل الوحي بأنهم مطبوع على
قلوبهم لا يؤمنون أصلا، وفيه دليل على صحة الاستغفار لأحيائهم
الذين لا قطع بالطبع على قلوبهم، والمراد منه في حقهم طلب
توفيقهم للإيمان، وقيل: إنه يستلزم ذلك بطريق الاقتضاء فلا
يقال: إنه لا فائدة في طلب المغفرة للكافر، والآية على الصحيح
نزلت في أبي طالب،
فقد أخرج أحمد، وابن أبي شيبة، والبخاري، ومسلم، والنسائي،
وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الدلائل. وآخرون عن
المسيب بن حزن قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي
صلّى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال
النبي عليه الصلاة والسلام: أي عم قل: لا إله إلا الله أحاج لك
بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب
أترغب عن ملة عبد المطلب فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم
يعرضها عليه وأبو جهل وعبد الله يعاودانه بتلك المقالة فقال
أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول:
لا إله إلا الله فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك
ما لم أنه عنك فنزلت ما كانَ لِلنَّبِيِّ الآية.
واستبعد ذلك الحسين بن الفضل بأن موت أبي طالب قبل الهجرة بنحو
ثلاث سنين وهذه السورة من أواخر ما نزل بالمدينة. قال الواحدي:
وهذا الاستبعاد مستبعد فأي بأس أن يقال: كان عليه الصلاة
والسلام يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول الآية فإن
التشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة، وذكر نحوا من هذا
صاحب التقريب، وعليه لا يراد بقوله: فنزلت في الخبر أن النزول
كان عقيب القول بل يراد أن ذلك سبب النزول، فالفاء فيه للسببية
لا للتعقيب. واعتمد على هذا التوجيه كثير من جلة العلماء وهو
توجيه وجيه، خلا أنه يعكر عليه ما
أخرجه ابن سعد وابن عساكر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال:
أخبرت رسول الله صلّى الله عليه وسلم بموت أبي طالب فبكى فقال:
«اذهب فغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه ففعلت وجعل رسول
الله صلّى الله عليه وسلم يستغفر له أياما ولا يخرج من بيته
حتى نزل عليه جبريل عليه الصلاة والسلام بهذه الآية ما كانَ
لِلنَّبِيِّ إلخ»
فإنه ظاهر في أن النزول قبل الهجرة لأن عدم الخروج من البيت
فيه مغيا به، اللهم إلا أن يقال بضعف الحديث لكن لم نر من تعرض
له، والأولى في الجواب عن أصل الاستبعاد أن يقال: إن كون هذه
السورة من أواخر ما نزل باعتبار الغالب كما تقدم فلا ينافي
نزول شيء منها في المدينة. والآية على هذا دليل على أن أبا
طالب مات كافرا وهو المعروف من مذهب أهل السنة والجماعة.
(6/32)
وروى ابن إسحاق في سيرته عن العباس بن عبد
الله بن معبد عن بعض أهله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من
خبر طويل «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأبي طالب في مرض
موته وقد طمع فيه: أي عم فأنت فقلها يعني لا إله إلا الله
أستحل بها لك الشفاعة يوم القيامة- وحرض عليه عليه الصلاة
والسلام بذلك- فقال: والله يا ابن أخي لولا مخافة السبة عليك
وعلى بني أبيك من بعدي وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا من
الموت لقلتها ولا أقولها إلا لأسرك بها فلما تقارب من أبي طالب
الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بإذنه فقال: يا
ابن أخي لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها فقال له صلّى
الله عليه وسلم لم أسمع»
واحتج بهذا ونحوه من أبياته المتضمنة للإقرار بحقية ما جاء به
صلّى الله عليه وسلم وشدة حنوه عليه ونصرته له صلّى الله عليه
وسلم الشيعة الذاهبون إلى موته مؤمنا وقالوا: إنه المروي عن
أهل البيت وأهل البيت أدرى، وأنت تعلم قوة دليل الجماعة
فالاعتماد على ما روي عن العباس دونه مما تضحك منه الثكلى،
والأبيات على انقطاع أسانيدها ليس فيها النطق بالشهادتين وهو
مدار فلك الإيمان، وشدة الحنو والنصرة مما لا ينكره أحد إلا
أنها بمعزل عما نحن فيه، وأخبار الشيعة عن أهل البيت أوهن من
بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت. نعم لا ينبغي للمؤمن الخوض
فيه كالخوض في سائر كفار قريش من أبي جهل وأضرابه فإن له مزية
عليهم بما كان يصنعه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من
محاسن الأفعال، وقد روي نفع ذلك له في الآخرة أفلا ينفعه في
الدنيا في الكف عنه وعدم معاملته معاملة غيره من الكفار.
فعن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم
قال وقد ذكر عنده عمه: «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل
في ضحضاح من نار»
وجاء في رواية أنه قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن عمك
أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل ينفعه ذلك؟ فقال: نعم وجدته في
غمرات النار فأخرجته إلى ضحضاح من نار.
وسبه عندي مذموم جدا ولا سيما إذا كان فيه إيذاء لبعض العلويين
إذ
قد ورد «لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات- ومن حسن إسلام المرء
تركه ما لا يعنيه» .
وزعم بعضهم أن الآية نزلت في غير ذلك.
فقد أخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن مسعود قال: «خرج
النبي صلّى الله عليه وسلم يوما إلى المقابر فجاء حتى جلس إلى
قبر منها فناجاه طويلا ثم بكى فبكينا لبكائه ثم قام فصلى
ركعتين فقام إليه عمر فدعاه ثم دعانا فقال: ما أبكاكم؟ قلنا:
بكينا لبكائك قال: إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة وإني
استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها
فلم يأذن لي وأنزل على ما كانَ لِلنَّبِيِّ إلخ فأخذني ما يأخذ
الولد للوالدة من الرقة فذاك الذي أبكاني»
ولا يخفى أن الصحيح في سبب النزول هو الأول. نعم خبر الاستئذان
في الاستغفار لأمه عليه الصلاة والسلام وعدم الإذن جاء في
رواية صحيحة لكن ليس فيها أن ذلك سبب النزول.
فقد أخرج مسلم، وأحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي عن أبي
هريرة قال: «أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى
وأبكى من حوله فقال عليه الصلاة والسلام: استأذنت ربي أن
أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنت أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا
القبور فإنها تذكركم الموت»
واستدل بعضهم بهذا الخبر ونحوه على أن أمه عليه الصلاة والسلام
ممن لا يستغفر له، وفي ذلك نزاع شهير بين العلماء، ولعل النوبة
تفضي إلى تحقيق الحق فيه إن شاء الله تعالى: وَما كانَ
اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ آزر بقوله وَاغْفِرْ
لِأَبِي [الشعراء: 86] أي بأن توفقه للإيمان وتهديه إليه كما
يلوح به تعليله بقوله:
إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء: 86] والجملة استئناف
لتقرير ما سبق ودفع ما يتراءى بحسب الظاهر من المخالفة،
وأخرج أبو الشيخ وابن عساكر من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن
دينار قال: لما مات أبو طالب قال له رسول الله صلّى الله عليه
وسلم: رحمك الله وغفر لك لا أزال أستغفر لك حتى ينهاني الله
تعالى فأخذ المسلمون يستغفرون لموتاهم الذين ماتوا وهم مشركون
فأنزل الله تعالى ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا
أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الآية فقالوا: قد استغفر
إبراهيم لأبيه فأنزل سبحانه وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ
لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ
وقرأ طلحة «وما استغفر»
(6/33)
وعنه «وما يستغفر» على حكاية الحال الماضية
لا أن الاستغفار سوف يقع بعد يوم القيامة كما يتوهم مما سيأتي
إن شاء الله تعالى، والاستثناء مفرغ من أعم العلل أي لم يكن
استغفاره عليه السلام لأبيه ناشئا عن شيء من الأشياء إلا عن
موعدة وَعَدَها أي إبراهيم عليه السلام إِيَّاهُ أي أباه
بقوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة: 4] ، وقوله:
سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم: 47] فالوعد كان من إبراهيم
عليه السلام.
ويدل على ذلك ما روي عن الحسن، وحماد الراوية، وابن السميفع،
وابن نهيك، ومعاذ القارئ أنهم قرؤوا «وعدها أباه» بالموحدة،
وعد ذلك أحد الأحرف الثلاث (1) التي صحفها ابن المقفع في
القرآن مما لا يلتفت إليه بعد قراءة غير واحد من السلف به وإن
كانت شاذة. وحاصل معنى الآية ما كان لكم الاستغفار بعد التبين
واستغفار إبراهيم عليه الصلاة والسلام إنما كان عن موعدة قبل
التبين، ومآله أن استغفار إبراهيم عليه السلام كان قبل التبين
وينبىء عن ذلك قوله تعالى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أي
لإبراهيم عليه السلام أَنَّهُ أي إن أباه عَدُوٌّ لِلَّهِ أي
مستمر على عداوته تعالى وعدم الإيمان به وذلك بأن أوحى إليه
عليه السلام أنه مصرّ على الكفر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ذلك التبين كان
بموته كافرا وإليه ذهب قتادة، وقيل: والأنسب بوصف العداوة هو
الأول والأمر فيه هين.
تَبَرَّأَ مِنْهُ أي قطع الوصلة بينه وبينه، والمراد تنزه عن
الاستغفار له وتجانب كل التجانب، وفيه من المبالغة ما ليس في
تركه ونظائره إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ أي لكثير التأوه،
وهو عند جماعة كناية عن كمال الرأفة ورقة القلب.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، وغيرهما عن عبد الله بن شداد
قال: قال رجل: يا رسول الله ما الأوّاه؟ قال: الخاشع المتضرع
الدعاء.
وأخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم أنه الدعاء المستكن إلى الله
تعالى كهيئة المريض المتأوه من مرضه وهو قريب مما قبله: وعن
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد، وقتادة، وعطاء،
والضحاك، وعكرمة إنه الموقن بلغة الحبشة، وعن عمرو بن شرحبيل
أنه الرحيم بتلك اللغة وأطلق ابن مسعود تفسيره بذلك، وعن
الشعبي أنه المسبح. وأخرج البخاري في تاريخه أنه الذي قلبه
معلق عند الله تعالى. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان وغيره عن
كعب أن إبراهيم وصف بالأواه لأنه كان إذا ذكر النار قال أوه من
النار أوه. وأخرج أبو الشيخ عن أبي الجوزاء مثله، وإذا صح
تفسير رسول الله صلّى الله عليه وسلم له لا ينبغي العدول عنه.
نعم ما ذهب إليه الجماعة غير مناف له ومناسبته لما نحن فيه
ظاهرة كما لا يخفى، وقد صرح غير واحد أنه فعال للمبالغة من
التأوه، وقياس فعله أن يكون ثلاثيا لأن أمثلة المبالغة إنما
يطرد أخذها منه، وحكى قطرب له فعلا ثلاثيا فقال: يقال آه يؤوه
كقام يقوم أوها وأنكره عليه غيره وقال: لا يقال إلا أوه وتأوه
قال المثقب العبدي:
إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوه آهة الرجل الحزين
وأصل التأوه قوله آه ونحوه مما يقوله الحزين. وفي الدرة
للحريري أن الأفصح أن يقال في التأوه أوه بكسر الهاء وضمها
وفتحها والكسر أغلب، وعليه قول الشاعر:
فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها ... ومن بعد أرض بيننا وسماء
وقد شدد بعضهم الواو وأسكن الهاء فقال أوه، وقلب بعضهم الواو
ألفا فقال آه، ومنهم من حذف الهاء وكسر الواو فقال أو ثم ذكر
أن تصريف الفعل من ذلك أوه وتأوه وأن المصدر الآهة والأهة وإن
من ذلك قول المثقب السابق
__________
(1) ثانيها في عزة وشقاق حيث قرأ غرة بالمعجمة وثالثها شان
يغنيه حيث قرأ يعنيه بالياء المفتوحة والعين المهملة اهـ منه
(6/34)
حَلِيمٌ أي صبور على الأذى صفوح عن
الجناية،
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان
من حلمه عليه السلام أنه إذا آذاه الرجل من قومه قال له: هداك
الله تعالى،
ولعل تفسيره بالسيد على ما روي عن الحبر مجاز، والجملة استئناف
لبيان ما جملة عليه الصلاة والسلام على الموعدة بالاستغفار
لأبيه مع شكاسته عليه وسوء خلقه معه كما يؤذن بذلك قوله عليه
الصلاة والسلام: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ
وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم: 64] ، وقيل: استئناف لبيان ما
حمله على الاستغفار. وأورد عليه أنه يشعر بظاهره أن استغفار
إبراهيم عليه السلام لأبيه كان عن وفور الرحمة وزيادة الحلم
وهو يخالف صدر الآية حيث دل على أنه كان عن موعدة ليس إلا،
ولعل المراد أن سبب الاستغفار ليس إلا الموعدة الناشئة عما ذكر
فلا إشكال. وفيها تأكيد لوجوب الاجتناب بعد التبين كأنه قيل:
إنه عليه الصلاة والسلام تبرأ منه بعد التبين وهو في كمال رقة
القلب والحلم فلا بد أن يكون غيره أكثر منه اجتنابا وتبرؤا،
وجوز بعضهم أن يكون فاعل وعد ضمير الأب وإِيَّاهُ ضمير إبراهيم
عليه الصلاة والسلام أي إلا عن موعدة وعدها إبراهيم أبوه وهي
الوعد بالإيمان.
قال شيخ مشايخنا صبغة الله أفندي الحيدري: لعل هذا هو الأظهر
في التفسير فإن ظاهر هذا السياق أن هذه الآية دفع لما يرد على
الآية الأولى من النقض باستغفار إبراهيم لأبيه الكافر ويكفي
فيه مجرد كونه في حياة أبيه حيث يحمل ذلك على طلب المغفرة له
بالتوفيق للإيمان كما قرر سابقا من غير حاجة إلى حديث الموعدة
فيصير إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ كالحشو على
التوجيه الأول للضميرين بخلاف هذا التوجيه فإن محصله عليه هو
أنه لا يرد استغفار إبراهيم لأبيه نقضا على ما ذكرنا إذ هو
إنما صدر عن ظن منه عليه الصلاة والسلام بإيمانه حيث سبق وعده
به معه عليه الصلاة والسلام فظن أنه وفى بالوعد وجرى على مقتضى
العهد فاستغفر له فلما تبين له أنه لن يفي ولن يؤمن قط أو لم
يف ولم يؤمن تبرأ منه.
ويمكن أن يوجه ذكر الموعدة على التوجيه الأول أيضا بأن يقال:
أراد سبحانه وتعالى تضمين الجواب بكون ذلك الاستغفار في حال
حياة المستغفر له وحمله على الطلب المذكور فائدة أخرى هي أنه
صلّى الله عليه وسلم لغاية تصلبه في الدين وفرط تعصبه على
اليقين ما كان يستغفر له وإن كان جائزا لكن تأوه وتحلم فاستغفر
له وفاء بالموعدة التي وعدها إياه فتفطن انتهى، وأنت تعلم أنه
على التوجيه الثاني لا يستقيم ما قالوه في استئناف الجملة من
أنه لبيان الحامل وكان عليه أن يذكر وجه ذلك عليه، وأيضا قوله
رحمه الله تعالى في بيان الفائدة: لكنه تأوه وتحلم حيث نسب فيه
الحلم إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بصيغة التفعل مع وصفه
تعالى له عليه الصلاة والسلام بالحليم عثرة لا يقال لصاحبها
لعا، وحمل ذلك على المشاكلة مع إرادة فعل مما لا يوافق غرضه
وسوق كلامه، فالحق الذي ينبغي أن يعول عليه التفسير الأول
للآية وهو الذي يقتضيه ما روي عن الحسن، وغيره من سلف الأمة
رضي الله تعالى عنهم. وذكر حديث الموعدة لبيان الواقع في نفس
الأمر مع ما فيه من الإشارة إلى تأكيد الاجتناب وتقوية الفرق
كأنه قيل: فرق بين بين الاستغفار الذي نهيتم عنه واستغفار
إبراهيم عليه السلام فإن استغفاره كان قبل التبين وكان عن
موعدة دعاه إليها فرط رأفته وحلمه وما نهيت عنه ليس كذلك. بقي
أن هذه الآية يخالفها ظاهر ما
رواه البخاري في الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه
وسلم قال: يلقى إبراهيم عليه السلام أباه يوم القيامة وعلى
وجهه قترة وغبرة فيقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ألم أقل
لك لا تعصني فيقول أبوه: اليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم عليه
الصلاة والسلام: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي
خزي أخزى من أبي الأبعد فيقول الله تعالى إني حرمت الجنة على
الكافرين ثم يقال: يا إبراهيم ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو
بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار. ورواه غيره بزيادة
فيتبرأ منه
فإن
(6/35)
الآية ظاهرة في انقطاع رجاء إبراهيم عليه
السلام اتصاف أبيه بالإيمان وجزمه بأنه لا يغفر له ولذلك تبرأ
منه وترك الاستغفار له فإن الاستغفار له مع الجزم بأنه لا يغفر
له مما لا يتصور وقوعه من العارف لا سيما مثل الخليل عليه
الصلاة والسلام، وقد صرحوا بأن طلب المغفرة للمشرك طلب للتكذيب
الله سبحانه نفسه، والحديث ظاهر في أنه عليه الصلاة والسلام
يطلب ذلك له يوم القيامة ولا ييأس من نجاته إلا بعد المسخ فإذا
مسخ يئس منه وتبرأ.
وأجاب الحافظ ابن حجر عن المخالفة بجوابين بحث فيهما بعض فضلاء
الروم، ومن الغريب قوله في الجواب الثاني: إن إبراهيم عليه
الصلاة والسلام لم يتيقن موت أبيه على الكفر لجواز أن يكون آمن
في نفسه ولم يطلع عليه الصلاة والسلام على ذلك ويكون وقت تبريه
منه بعد الحالة التي وقعت في الحديث فإنه مخالف مخالفة ظاهرة
لما يفهم من الآية من أن التبين والتبري كان كل منهما في
الدنيا، وأجاب ذلك البعض بأنا لا نسلم التخالف بين الآية
والحديث، وإنما يكون بينهما ذلك لو كان في الحديث دلالة على
وقوع الاستغفار من إبراهيم لأبيه وطلب الشفاعة له وليس فليس،
وقوله: يا رب إنك وعدتني إلخ أراد به عليه الصلاة والسلام محض
الاستفسار عن حقيقة الحال فإنه اختلج في صدره الشريف أن هذه
الحال الواقعة على أبيه خزي له وأن خزي الأب خزي الابن فيؤدي
ذلك إلى خلف الوعد المشار إليه بقوله: إنك وعدتني أن لا تخزيني
يوم يبعثون، وأنت خبير بأن الخبر ظاهر في الشفاعة، وهي استغفار
كما يدل عليه كلام المتكلمين في ذلك المقام. ويزيد ذلك وضوحا
أن الحاكم أخرج عن أبي هريرة أيضا وصححه، وقال على شرط مسلم:
إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «يلقى رجل أباه يوم القيامة
فيقول: يا أبت أي ابن كنت لك؟ فيقول: خير ابن. فيقول: هل أنت
مطيعي اليوم؟ فيقول: نعم. فيقول خذ بإزرتي فيأخذ بإزرته ثم
ينطلق حتى يأتي الله تعالى وهو يفصل بين الخلق فيقول: يا عبدي
ادخل من أي أبواب الجنة شئت فيقول: أي رب وأبي معي فإنك وعدتني
أن لا تخزيني قال فيمسخ أباه ضبعا فيهوى في النار فيأخذ بأنفه
فيقول سبحانه: يا عبدي هذا أبوك فيقول: لا وعزتك» ، وقال
الحافظ المنذري: إنه في صحيح البخاري إلا أنه قال: «يلقى
إبراهيم أباه»
وذكر القصة إذ يفهم من ذلك أن الرجل في حديث الحاكم هو إبراهيم
عليه الصلاة والسلام وطلبه المغفرة لأبيه فيه وإدخاله الجنة
أظهر منهما في حديث البخاري وما ذكره الزمخشري مخالفا على ما
قيل: لما شاع عن المعتزلة أن امتناع جواز الاستغفار للكافر
إنما علم بالوحي لا بالعقل لأن العقل يجوز أن يغفر الله تعالى
للكافر، ألا ترى إلى
قوله صلّى الله عليه وسلم لأبي طالب: لأستغفرن لك ما لم أنه
لا ينفع في هذا الغرض إلا إذا ضم إليه عدم علم إبراهيم عليه
الصلاة والسلام ذلك بالوحي إلى يوم القيامة وهو مما لا يكاد
يقدم عليه عاقل فضلا عن فاضل.
وأجاب بعض المعاصرين أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان عالما
بكفر أبيه ومتيقنا بأن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به إلا أن
الشفقة والرأفة الطبيعية غلبت عليه حين رأى أباه في عرصات يوم
القيامة وعلى وجهه قترة فلم يملك نفسه أن طلب ما طلب، ونظير
ذلك من وجه قول نوح عليه الصلاة والسلام لربه سبحانه: رَبِّ
إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ [هود:
45] ولا يخفى أنه من الفساد بمكان ومثله ما قيل: إنه ظن
استثناء أبيه من عموم إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ [النساء: 48، 116] لأن الله وعده أن لا يخزيه فقدم على
الشفاعة له، ولعمري لا يقدم عليه إلا جاهل بجهله.
أما الأول فلأن الأنبياء عليهم السلام أجل قدرا من أن تغلبهم
أنفسهم على الإقدام على ما فيه تكذيب الله تعالى نفسه، وأما
الثاني فلأنه لو كان لذلك الظن أصل ما كان يتبرأ منه عليه
السلام في الدنيا بعد أن تبين له أنه عدو لله وهو الأواه
الحليم.
(6/36)
وقيل: إن الأحسن في الجواب التزام أن ما في
الخبرين ليس من الشفاعة في شيء ويقال: إن إبراهيم عليه الصلاة
والسلام ظن أن خزي أبيه في معنى الخزي له فطلب بحكم وعد الله
سبحانه إياه أن لا يخزيه تخليصه من ذلك حسبما يمكن فخلصه منه
بمسخ ذيخا، ولعل ذلك مما يعده إبراهيم عليه السلام تخليصا له
من الخزي لاختلاف النوع وعدم معرفة العارفين لأبيه بعد أنه
أبوه فكأن الأبوة انقطعت من البين ويؤذن بذلك أنه بعد المسخ
يأخذ سبحانه بأنفه فيقول له عليه السلام: يا عبدي هذا أبوك؟
فيقول: لا وعزتك، ولعل المراد من التبري في الرواية السابقة في
الخبر الأول هو هذا القول، وتوسيط حديث تحريم الجنة على
الكافرين ليس لأن إبراهيم عليه السلام كان طالبا إدخال أبيه
فيها بل لإظهار عدم إمكان هذا الوجه من التخليص إقناطا لأبيه
وإعلاما له بعظم ما أتى به، ويحمل
قوله عليه السلام في خبر الحاكم حين يقال له: يا عبدي ادخل من
أي أبواب الجنة شئت أي رب وأبي معي
على معنى أأدخل وأبي واقف معي، والمراد لا أدخل وأبي في هذه
الحال وإنما أدخل إذا تغيرت، ويكون قوله عليه السلام: فإنك
وعدتني أن لا تخزيني تعليلا للنفي المدلول عليه بالاستفهام
المقدر وحينئذ يرجع الأمر إلى طلب التخليص عما ظنه خزيا له
أيضا فيمسخ ضبعا لذلك. ولا يرد أن التخليص ممكن بغير المسخ
المذكور لأنا نقول: لعل اختيار ذلك المسخ دون غيره من الأمور
الممكنة ما عدا دخول الجنة لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه، وقد
ذكروا أن حكمة مسخه ضبعا دون غيره من الحيوانات أن الضبع أحمق
الحيوانات ومن حمقه أنه يغفل عما يجب له التيقظ ولذلك
قال علي كرم الله تعالى وجهه: لا أكون كالضبع يسمع الكدم فيخرج
له حتى يصاد
وآزر لما لم يقبل النصيحة من أشفق الناس عليه زمان إمكان نفعها
له وأخذ بإزرته حين لا ينفعه ذلك شيئا كان أشبه الخلق بالضبع
فمسخ ضبعا دون غيره لذلك، ولم يذكروا حكمة اختيار المسخ دون
غيره وهو لا يخلو عن حكمة والجهل بها لا يضر انتهى.
ولا يخفى ما في هذا الجواب من التكلف، وأولى منه التزام كون
فاعل وعد ضمير الأب وضمير إِيَّاهُ راجعا إلى إبراهيم عليه
الصلاة والسلام وكون التبين والتبري واقعين في الآخرة حسبما
تضمنه الخبران السابقان، فحينئذ لا يبعد أن يكون إبراهيم
مستغفرا لأبيه بعد وعده إياه بالإيمان طالبا له الجنة لظن أنه
وفى بوعده حتى يمسخ ذيخا، لكن لا يساعد عليه ظاهر الآية ولا
المأثور عن سلف الأمة وإن صح كون الآية عليه دفعا لما يرد على
الآية الأولى من النقض أيضا بالعناية، ولعل أخف الأجوبة مؤنة
كون مراد إبراهيم عليه الصلاة والسلام من تلك المحاورة التي
تصدر منه في ذلك الموقف إظهار العذر فيه لأبيه وغيره على أتم
وجه لا طلب المغفرة حقيقة، وهذا كما قال المعتزلة في سؤال موسى
عليه السلام رؤية الله تعالى مع العلم بامتناعها في زعمهم،
والقول بأن أهل الموقف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وغيرهم
من سائر المؤمنين والكفار سواء في العلم بامتناع المغفرة
للمشرك مثلا في حيز المنع، وربما يدعى عدم المساواة لظاهر طلب
الكفار العفو والإخراج من النار ونحو ذلك بل في الخبرين
السابقين ما يدل على عدم علم الأب بحقيقة الحال وأنه لا يغفر
له فتأمل ذاك والله سبحانه يتولى هداك «وبقي أيضا» أنه استشكل
القول بأن استغفار إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه حتى تبين
له أنه عدو لله كان في حياته بما في سورة الممتحنة من قوله
سبحانه:
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ
[الممتحنة: 4] إلى قوله سبحانه: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ
لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة: 4] حيث منع من
الاقتداء به فيه ولو كان في حياته لم يمنع منه لأنه يجوز
الاستغفار بمعنى طلب الإيمان لأحياء المشركين. وأجيب بأنه إنما
منع من الاقتداء بظاهره وظن أنه جائز مطلقا كما وقع لبعض
الصحابة رضي الله تعالى عنهم وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق
ذلك بإذن الله تعالى الهادي.
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً أي ما يستقيم من لطف الله
تعالى وأفضاله أن يصف قوما بالضلال عن طريق
(6/37)
الحق ويذمهم ويجري عليهم أحكامه بَعْدَ
إِذْ هَداهُمْ للإسلام حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ بالوحي صريحا
أو دلالة ما يَتَّقُونَ أي ما يجب اتقاؤه من محذورات الدين فلا
ينزجروا عما نهوا عنه، وكأنه تسلية للذين استغفروا للمشركين
قبل البيان حيث أفاد أنه ليس من لطفه تعالى أن يذم المؤمنين
ويؤاخذهم في الاستغفار قبل أن يبين أنه غير جائز لمن تحقق شركه
لكنه سبحانه يذم ويؤاخذ من استغفر لهم بعد ذلك. والآية على ما
روي عن الحسن نزلت حين مات بعض المسلمين قبل أن تنزل الفرائض
فقال إخوانهم: يا رسول الله إخواننا الذين ماتوا قبل نزول
الفرائض ما منزلتهم وكيف حالهم؟
وعن مقاتل والكلبي أن قوما قدموا على النبي صلّى الله عليه
وسلم قبل تحريم الخمر وصرف القبلة إلى الكعبة ثم رجعوا إلى
قومهم فحرمت الخمر وصرفت القبلة ولم يعلموا ذلك حتى قدموا بعد
زمان إلى المدينة فعلموا ذلك فقالوا: يا رسول الله قد كنت على
دين ونحن على غيره فنحن في ضلال فأنزل الله تعالى الآية،
وحمل الإضلال فيها على ما ذكرنا هو الظاهر وليس من الاعتزال في
شيء كما توهم وكأنه لذلك عدل عنه الواحدي حيث زعم أن المعنى ما
كان الله لوقع في قلوبهم الضلالة: واستدل بها على أن الغافل
وهو من لم يسمع النص والدليل السمعي غير مكلف، وخص ذلك
المعتزلة بما لم يعلم بالعقل كالصدق في الخبر ورد الوديعة فإنه
غير موقوف على التوقيف عندهم وهو تفريع على قاعدة الحسن والقبح
العقليين ولأهل السنة فيها مقال إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ تعليل لما سبق أي إن الله تعالى عليم بجميع الأشياء
التي من جملتها حاجتهم إلى البيان فيبين لهم، وقيل: إنه
استئناف لتأكيد الوعيد المفهوم مما قبله، وكذا قوله سبحانه:
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من غير
شريك له فيه.
يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ
وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ وقال غير واحد: إنه سبحانه لما منعهم عن
الاستغفار للمشركين وإن كانوا أولي قربى وتضمن ذلك وجوب التبري
عنهم رأسا بين لهم أن الله سبحانه مالك كل موجود ومتولي أمره
والغالب عليه ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصر إلا منه تعالى
ليتوجهوا إليه جل شأنه بشراشرهم متبرئين عما سواه غير قاصدين
إلا إياه لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ
وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ قال أصحاب المعاني المراد ذكر
التوبة على المهاجرين والأنصار إلا أنه جيء في ذلك بالنبي صلّى
الله عليه وسلم تشريفا لهم وتعظيما لقدرهم، وهذا كما قالوا في
ذكره تعالى في قوله سبحانه: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ [الأنفال: 41] إلخ أي عفا سبحانه عن زلات سبقت
منهم يوم أحد ويوم حنين، وقيل: المراد ذكر التوبة عليه عليه
الصلاة والسلام وعليهم، والذنب بالنسبة إليه صلّى الله عليه
وسلم من باب خلاف الأولى نظرا إلى مقامه الجليل، وفسر هنا على
ما روي عن ابن عباس بالإذن للمنافقين في التخلف، وبالنسبة
إليهم رضي الله تعالى عنهم لا مانع من أن يكون حقيقيا إذ لا
عصمة عندنا لغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ويفسر بما فسر
أولا.
وجوز أيضا أن يكون من باب خلاف الأولى بناء على ما قيل: إن
ذنبهم كان الميل إلى القعود عن غزوة تبوك حيث وقعت في وقت
شديد، وقد تفسر التوبة بالبراءة عن الذنب والصون عنه مجازا حيث
إنه لا مؤاخذة في كل وظاهر الإطلاق الحقيقة، وفي الآية ما لا
يخفى من التحريض والبعث على التوبة للناس كلهم الَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ ولم يتخلفوا عنه صلّى الله عليه وسلم فِي ساعَةِ
الْعُسْرَةِ أي في وقت الشدة والضيق، والتعبير عنه بالساعة
لزيادة تعيينه وكانت تلك الشدة حالهم في غزوة تبوك فإنهم كانوا
في شدة من الظهر يعتقب العشرة على بعير واحد وفي شدة من الزاد
تزودوا التمر المدود والشعير المسوس والإهالة الزنخة وبلغت بهم
الشدة أن قسم التمرة اثنان، وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها
الماء كما روي عن قتادة، وفي شدة من الماء حتى نحروا الإبل
واعتصروا فروثها كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه،
وفي شدة زمان من حمارة القيظ ومن الجدب والقحط، ومن هنا قيل
لتلك الغزوة غزوة العسرة ولجيشها جيش العسرة.
(6/38)
ووصف المهاجرين والأنصار بالاتباع في هذه
الساعة للإشارة إلى أنهم حريون بأن يتوب الله عليهم لذلك وفيه
أيضا تأكيد لأمر التحريض السابق مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ
قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بيان لتناهي الشدة وبلوغها الغاية
القصوى وهو إشراف بعضهم إلى أن يميلوا إلى التخلف عن النبي
صلّى الله عليه وسلم، وقيل: هو إشراف بعضهم إلى أن يميلوا عن
الثبات على الإيمان وحمل ذلك على مجرد الهم والوسوسة، وقيل:
كان ميلا من ضعفائهم وحديثي عهدهم بالإسلام.
وفي كادَ ضمير الشأن وقُلُوبُ فاعل يَزِيغُ والجملة في موضع
الخبر لكاد ولا تحتاج إلى رابط لكونها خبرا عن ضمير الشأن وهو
المنقول عن سيبويه وإضمار الشأن على ما نقل عن الرضى ليس
بمشهور في أفعال المقاربة إلا في كاد وفي الناقصة إلا في كان
وليس، وجوز أن يكون اسم كاد ضمير القوم والجملة في موضع الخبر
أيضا والرابط عليه الضمير في مِنْهُمْ وهذا على قراءة يَزِيغُ
بالياء التحتانية وهي قراءة حمزة، وحفص، والأعمش وأما على
قراءة «تزيغ» بالتاء الفوقانية وهي قراءة الباقين فيحتمل أن
يكون قُلُوبُ اسم كاد و «تزيغ» خبرها وفيه ضمير يعود على اسمها
ولا يصح هذا على القراءة الأولى لتذكير ضمير يزيغ، وتأنيث ما
يعود إليه وقد ذكر هذا الوجه منتخب الدين الهمداني وأبو طالب
المكي وغيرهما. وتعقبه في الكشف بأن في جعل القلوب اسم كاد
خلاف وضعه من وجوب تقديم اسمه على خبره كما ذكره الشيخ ابن
الحاجب في شرح المفصل. وفي البحر أن تقديم خبر كاد على اسمها
مبني على جواز تركيب كان يقوم زيد وفيه خلاف والأصح المنع،
وأجاب بعض فضلاء الروح بأن أبا علي جوز ذلك وكفى به حجة، وبأن
عليه كلام ابن مالك في التسهيل وكذا كلام شراحه ومنهم أبو حيان
وجرى عليه في ارتشافه أيضا، ولا يعبأ بمخالفته في البحر إذ
مبني ذلك القياس على باب كان وهو لا يصادم النص عن أي علي، على
أن في كون أبي حيان من أهل القياس منعا ظاهرا فألحق الجواز،
ويحتمل أن يكون اسم كاد ضميرا يعود على جمع المهاجرين والأنصار
أي من بعد ما كاد الجمع، وقدر ابن عطية مرجع الضمير القوم أي
من بعد ما كاد القوم. وضعف بأنه أضمر في كاد ضمير لا يعود إلا
على متوهم، وبأن خبرها يكون قد رفع سببيا وقد قالوا: إنه لا
يرفع إلا ضميرا عائدا على اسمها وكذا خبر سائر أخواتها ما عدا
عسى في رأى، ولا يخفى ورود هذا أيضا على توجيهي القراءة الأولى
لكن الأمر على التوجيه الأول سهل. وجوز الرضى تخريج الآية على
التنازع وهو ظاهر على القراءة الثانية ويتعين حينئذ إعمال
الأول إذ لو أعمل الثاني لوجب أن يقال في الأول «كادت» كما قرأ
به أبي رضي الله تعالى عنه.
ولا يجوز كاد إلا عند الكسائي فإنه يحذف الفاعل، وكأن الرضي لم
يبال بما لزم على هذا التخريج من تقديم خبر كاد على اسمه لما
عرفت من أنه ليس بمحذور على ما هو الحق. وذهب أبو حيان إلى أن
كادَ زائدة ومعناها مراد ككان ولا عمل لها في اسم ولا خبر
ليخلص من القيل والقال، ويؤيده قراءة ابن مسعود «من بعد ما
زاغت» بإسقاط كاد، وقد ذهب الكوفيون إلى زيادتها في نحو لم يكد
مع أنها عاملة معمولة فهذا أولى.
وقرأ الأعمش «تزيغ» بضم التاء، وجعلوا الضمير على قراءة ابن
مسعود للمتخلفين سواء كانوا من المنافقين أم لا كأبي لبابة
ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ تكرير للتأكيد بناء على أن الضمير للنبي
صلّى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم،
والتأكيد يجوز عطفه بثم كما صرح به النحاة وإن كان كلام أهل
المعاني يخالفه ظاهرا، وفيه تنبيه على أن توبته سبحانه في
مقابلة ما قاسوه من الشدائد كما دل عليه التعليق بالموصول،
ويحتمل أن يكون الضمير للفريق، والمراد أنه تاب عليهم
لكيدودتهم وقربهم من الزيغ لأنه جرم محتاج إلى التوبة عليه فلا
تكرار لما سبق، وقوله: إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ استئناف
تعليلي فإن صفة الرأفة والرحمة من دواعي التوبة والعفو، وجوز
كون الأول عبارة عن إزالة الضرر والثاني عن إيصال النفع، وأن
يكون أحدهما للسوابق والآخر للواحق وَعَلَى الثَّلاثَةِ عطف
على النَّبِيِّ، وقيل:
(6/39)
إن تابَ مقدر في نظم الكلام لتغاير هذه
التوبة والتوبة السابقة وفيه نظر، أي وتاب على الثلاثة
الَّذِينَ خُلِّفُوا أي خلف أمرهم وأخر عن أمر أبي لبابة
وأصحابه حيث لم يقبل منهم معذرة مثل أولئك ولا ردت ولم يقطع في
شأنهم بشيء إلى أن نزل الوحي بهم، فالإسناد إليهم إما مجاز أو
بتقدير مضاف في النظم الجليل، وقد يفسر المتعدي باللازم أي
الذين تخلفوا عن الغزو وهم: كعب بن مالك من بني سلمة، وهلال بن
أمية من بني واقف، ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف، ويقال
فيه ابن ربيعة، وفي مسلم، وغيره وصفه بالعامري وصوب كثير من
المحدثين العمري بدله.
وقرأ عكرمة، وزر بن حبيش وعمرو بن عبيد «خلفوا» بفتح الخاء
واللام خفيفة أي خلفوا الغازين بالمدينة أو فسدوا من الخالفة
وخلوف الفم،
وقرأ علي بن الحسين ومحمد الباقر وجعفر الصادق رضي الله تعالى
عنهم وأبو عبد الرحمن السلمي «خالفوا» ،
وقرأ الأعمش: «وعلى المخلفين» وظاهر قوله تعالى: حَتَّى إِذا
ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ أنه غاية للتخليف بمعنى تأخير
الأمر أي أخر أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض بِما رَحُبَتْ أي
برحبها وسعتها لإعراض الناس عنهم وعدم مجالستهم ومحادثتهم لهم
لأمر النبي صلّى الله عليه وسلم لهم بذلك وهو مثل لشدة الحيرة،
والمراد أنهم لم يقروا في الدنيا مع سعتها وهو كما قيل:
كأن بلاد الله وهي فسيحة ... على الخائف المطلوب كفة حابل
وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ أي قلوبهم وعبر عنها بذلك
مجازا لأن قيام الذوات بها، ومعنى ضيقها غمها وحزنها كأنها لا
تسع السرور لضيقها، وفي هذا ترق من ضيق الأرض عليهم إلى ضيقهم
في أنفسهم وهو في غاية البلاغة وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ
مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ أي علموا أن لا ملجأ من سخطه إلا
إلى استغفاره والتوبة إليه سبحانه، وحمل الظن على العلم لأنه
المناسب لهم ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ أي وفقهم للتوبة
لِيَتُوبُوا أو أنزل قبول توبتهم في القرآن وأعلمهم بها ليعدهم
المؤمنون في جملة التائبين أو رجع عليهم بالقبول والرحمة مرة
بعد أخرى ليستقيموا على التوبة ويستمروا عليها، وقيل: التوبة
ليست هي المقبولة، والمعنى قبل توبتهم من التخلف ليتوبوا في
المستقبل إذ صدرت منهم هفوة ولا يقنطوا من كرمه سبحانه إِنَّ
اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ المبالغ في قبول التوبة لمن تاب ولو
عاد في اليوم مائة مرة الرَّحِيمُ المتفضل عليهم بفنون الآلاء
مع استحقاقهم لأفانين العقاب.
أخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري، ومسلم،
والبيهقي من طريق الزهري قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله
بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من
بنيه حين عمي قال: «سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن
رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزاة تبوك قال كعب: لم أتخلف
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزاة غزاها قط إلا في
غزوة تبوك غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف
عنها إنما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم يريد عير قريش
حتى جمع الله تعالى بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد ولقد شهدت
مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على
الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في
الناس منها وأشهر، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلّى
الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني
حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط
حتى جمعتهما في تلك الغزاة، وكان رسول الله صلّى الله عليه
وسلم قلما يريد غزاة إلا ورى بغيرها حتى كانت الغزوة فغزاها
رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا
ومفاوز، واستقبل عدوا كثيرا فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة
عدوهم وأخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلّى
الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ- يريد الديوان- قال
كعب فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له ما
(6/40)
لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل وغزا رسول
الله صلّى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظل
وأنا إليها أصغرهم فتجهز إليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم
والمؤمنون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولا أقضي شيئا
فأقول لنفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي
حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلم
غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا وقلت أتجهز بعد يوم
أو يومين ثم ألحقه فغدوت يوم ما فصلوا لا تجهز فرجعت ولم أقض
من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى
بي حتى انتهوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم وليت أني
فعلت ثم لم يقدر ذلك لي وطفقت إذا خرجت في الناس بعد رسول الله
صلّى الله عليه وسلم يحزنني أن لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه في
النفاق أو رجلا ممن عذره الله تعالى ولم يذكرني رسول الله صلّى
الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما
فعل كعب بن مالك قال رجل من بني سلمة: حبسه يا رسول الله برداه
والنظر في عطفيه فقال له معاذ بن جبل: بئسما قلت والله يا رسول
الله ما علمنا عليه إلا خيرا فسكت رسول الله صلّى الله عليه
وسلم فلما بلغني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد توجه
قافلا من تبوك حضرني شيء فطفقت أتفكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج
من سخطه غدا أستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل: إن
رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل
وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا فأجمعت صدقة فأصبح رسول الله
صلّى الله عليه وسلم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد
فركع ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاء المتخلفون فطفقوا
يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل رسول
الله صلّى الله عليه وسلم علانيتهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم
إلى الله تعالى حتى جئت فلما سلمت عليه عليه الصلاة والسلام
تبسم تبسم المغضب ثم قال لي: تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه
فقال لي: ما خلفك ألم تكن قد اشتريت ظهرك؟
فقلت: يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن
أخرج من سخطه بعذر لقد أعطيت جدلا ولكن والله لقد علمت لئن
حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى عني به ليوشكن الله تعالى بسخطك
علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه أني لأرجو فيه عقبى من
الله تعالى، والله ما كان لي عذر والله ما كنت قط أفرغ ولا
أيسر مني حين تخلفت عنك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله تعالى فيك فقمت وبادرني
رجال من بني سلمة واتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت
أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله
صلّى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون ولقد كان كافيك من
ذنبك استغفار رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: فو الله ما
زالوا يرايبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، ثم قلت: هل لقي
هذا معي أحد؟ قالوا: نعم لقيه معك رجلان قالا ما قلت وقيل لهما
مثل ما قيل لك فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع وهلال بن
أمية فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة فمضيت
حين ذكروهما لي قال: ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن
كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس
وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي
كنت أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا
وقعدا في بيوتهما وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم فكنت أشهد
الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد وآتي رسول
الله صلّى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم وأقول
في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ثم أصلي قريبا منه
وأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي فإذا التفت نحوه
أعرض حتى إذا طال عليّ ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت
حائط أبي قتادة- وهو ابن عمي وأحب الناس إلي- فسلمت عليه فو
الله ما رد السلام علي فقلت له: أبا قتادة أنشدك الله تعالى هل
تعلم أني أحب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم؟
فسكت فعدت فنشدته فسكت فعدت فنشدته فقال: الله تعالى ورسوله
أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشي
بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه
بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له
إلي حتى جاء فدفع إلي كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا فإذا فيه:
أما بعد
(6/41)
فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله
تعالى بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك. فقلت حين قرأتها:
وهذه أيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته فيها حتى إذا
مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا برسول رسول الله صلّى الله
عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم
يأمرك أن تعتزل امرأتك قلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: بل
اعتزلها ولا تقربها وأرسل إلي صاحبي مثل ذلك فقلت لامرأتي:
الحقي بأهلك لتكوني عندهم حتى يقضي الله تعالى في هذا الأمر،
فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلّى الله عليه وسلم
فقالت: يا رسول الله إن هلالا شيخ ضائع، وليس له خادم فهل تكره
أن أخدمه؟ فقال: لا ولكن لا يقربنك قالت: وإنه والله ما به
حركة إلى شيء والله ما زال يبكي من لدن أن كان من أمره ما كان
إلى يومه هذا. فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلّى
الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه فقلت:
والله لا أستأذن فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وما أدري
ماذا يقول إذا استأذنته وأنا رجل شاب قال: فلبثت عشر ليال فكمل
لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا ثم صليت صلاة الفجر صباح
خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال
التي ذكر الله تعالى عنا قد ضاقت عليّ الأرض بما رحبت سمعت
صارخا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر
فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج فآذن رسول الله صلّى الله
عليه وسلم بتوبة الله تعالى علينا حين صلى الفجر فذهب الناس
يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إليّ رجل فرسا وسعى ساع
من أسلم وأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني
الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي وكسوتهما إياه ببشارته
والله ما أملك غيرهما يومئذ فاستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت
أؤم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتلقاني الناس فوجا بعد فوج
يهنئونني بالتوبة يقولون: ليهنك توبة الله تعالى عليك حتى دخلت
المسجد فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالس في المسجد
حوله الناس فقام إلى طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني
وهنأني والله ما قام إلى رجل من المهاجرين غيره قال: فكان كعب
لا ينساها لطلحة قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلّى الله
عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: ابشر بخير يوم مر عليك
منذ ولدتك أمك قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟
قال: لا بل من عند الله تعالى، وكان رسول الله صلّى الله عليه
وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، فلما جلست بين
يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى
الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم قال: أمسك بعض مالك فهو
خير لك قلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر وقلت: يا رسول الله إنما
نجاني الله تعالى بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما
بقيت، فو الله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله تعالى في
الصدق بالحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم
أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك
إلى يومي هذا وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقي قال:
وأنزل الله تعالى لَقَدْ تابَ الآية فو الله ما أنعم الله
تعالى عليّ من نعمة قط بعد أن هداني الله سبحانه للإسلام أعظم
في نفسي من صدقي رسول الله عليه الصلاة والسلام يومئذ أن لا
أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه فإن الله تعالى قال
للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد فقال:
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ
إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إلى
قوله سبحانه: الْفاسِقِينَ [التوبة: 95، 96] » .
وجاء في رواية عن كعب رضي الله تعالى عنه قال: «نهى رسول الله
صلّى الله عليه وسلم عن كلامي وكلام صاحبي فلبثت كذلك حتى طال
علي الأمر وما من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلي علي رسول
الله صلّى الله عليه وسلم أو يموت رسول الله صلّى الله عليه
وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم ولا
يصلى علي فأنزل الله تعالى توبتنا على نبيه صلّى الله عليه
وسلم حين بقي الثلث الأخير من الليل ورسول الله صلّى الله عليه
وسلم عند أم سلمة، وكانت محسنة في شأني معينة في أمري، فقال
رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا أم سلمة تيب على كعب بن
مالك قالت: أفلا أرسل إليه أبشره؟ قال إذا تحطمكم الناس
فيمنعونكم النوم
(6/42)
سائر الليل حتى إذا صلى صلّى الله عليه
وسلم صلاة الفجر آذن بتوبة الله تعالى علينا» .
هذا وفي وصفه سبحانه هؤلاء بما وصفهم به دلالة وأية دلالة على
قوة إيمانهم وصدق توبتهم، وعن أبي بكر الوراق أنه سئل عن
التوبة النصوح فقال: أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق
عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ فيما لا يرضاه وَكُونُوا مَعَ
الصَّادِقِينَ أي مثلهم في صدقهم:
وأخرج ابن الأنباري عن ابن عباس أنه كان يقرأ «وكونوا من
الصادقين» وكذا روى البيهقي وغيره عن ابن مسعود أنه كان يقرأ
كذلك، والخطاب قيل: لمن آمن من أهل الكتاب وروي ذلك عن ابن
عباس فيكون المراد بالصادقين الذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم
الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم على الطاعة: وجوز أن
يكون عاما لهم ولغيرهم فيكون المراد بالصادقين الذين صدقوا في
الدين نية وقولا وعملا، وأن يكون خاصا بمن تخلف وربط نفسه
بالسواري، فالمناسب أن يراد بالصادقين الثلاثة أي كونوا مثلهم
في الصدق وخلوص النية. وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن نافع أن
الآية نزلت في الثلاثة الذين خلفوا، والمراد بالصادقين محمد
صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، وبذلك فسره ابن عمر كما أخرجه
ابن أبي حاتم وغيره، وعن سعيد بن جبير أن المراد كونوا مع أبي
بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما.
وأخرج ابن عساكر وآخرون عن الضحاك أنه قال: أمروا أن يكونوا مع
أبي بكر، وعمر، وأصحابهما.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عساكر عن أبي جعفر أن
المراد كونوا مع علي كرم الله تعالى وجهه.
وبهذا استدل بعض الشيعة على أحقيته كرم الله تعالى وجهه
بالخلافة، وفساده على فرض صحة الرواية ظاهر. وعن السدي أنه فسر
ذلك بالثلاثة ولم يتعرض للخطاب، والظاهر عموم الخطاب ويندرج
فيه التائبون اندراجا أوليا، وكذا عموم مفعول اتَّقُوا ويدخل
فيه المعاملة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أمر المغازي
دخولا أوليا أيضا، وكذا عموم الصَّادِقِينَ ويراد بهم ما تقدم
على احتمال عموم الخطاب.
وفي الآية ما لا يخفى من مدح الصدق، واستدل بها كما قال الجلال
السيوطي من لم يبح الكذب في موضع من المواضع لا تصريحا ولا
تعريضا. وأخرج غير واحد عن ابن مسعود أنه قال: لا يصلح الكذب
في جد ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبيته شيئا ثم لا ينجزه وتلا
الآية، والأحاديث في ذمه أكثر من أن تحصى، والحق إباحته في
مواضع،
فقد أخرج ابن أبي شيبه وأحمد عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلّى
الله عليه وسلم قال: «كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب
في خديعة حرب أو إصلاح بين اثنين أو رجل يحدث امرأته ليرضيها»
،
وكذا إباحة المعاريض.
فقد أخرج ابن عدي عن عمران بن حصين قال: «قال رسول الله صلّى
الله عليه وسلم إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب»
ما كانَ أي ما صح ولا استقام لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ
حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ كمزينة، وجهينة، وأشجع، وغفار،
وأسلم. وإضرابهم أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عند
توجهه عليه الصلاة والسلام إلى الغزو وَلا يَرْغَبُوا
بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ أي لا يصرفوها عن نفسه الكريمة
ولا يصونوها عما لم يصنها عنه بل يكابدون ما يكابده من
الشدائد، وأصله لا يترفعوا بأنفسهم عن نفسه بأن يكرهوا لأنفسهم
المكاره ولا يكرهوها له عليه الصلاة والسلام بل عليهم أن
يعكسوا القضية، وإلى هذا يشير كلام الواحدي حيث قال: يقال رغبت
بنفسي عن هذا الأمر أي ترفعت عنه. وفي النهاية يقال: رغبت
بفلان عن هذا الأمر أي كرهت له ذلك.
وجوز في يَرْغَبُوا النصب بعطفه على يَتَخَلَّفُوا المنصوب بأن
وإعادة لا لتذكير النفي وتأكيده وهو الظاهر والجزم على النهي
وهو المراد من الكلام إلا أنه عبر عنه بصيغة النفي للمبالغة،
وخص أهل المدينة بالذكر لقربهم منه عليه عليه الصلاة والسلام
وعلمهم بخروجه، وظاهر الآية وجوب النفير إذا خرج رسول الله
صلّى الله عليه وسلم إلى الغزو بنفسه.
(6/43)
وذكر بعضهم أنه استدل بها على أن الجهاد
كان فرض عين في عهده عليه الصلاة والسلام وبه قال ابن بطال:
وعلله بأنهم بايعوه عليه عليه الصلاة والسلام فلا يجب النفير
مع أحد من الخلفاء ما لم يلم العدو ولم يمكن دفعه بدونه، وقدر
بعضهم في الآية مضافا إلى رسول الله أي أن يتخلفوا عن حكم رسول
الله صلّى الله عليه وسلم وهو خلاف الظاهر وعليه يكون الحكم
عاما وفيه بحث.
وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن زيد أن حكم الآية حين كان الإسلام
قليلا فلما كثر وفشا قال الله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ
لِيَنْفِرُوا كَافَّةً، وأنت تعلم أن الإسلام كان فاشيا عند
نزول هذه السورة، ولا يخفى ما في الآية من التعريض بالمتخلفين
رغبة باللذائذ وسكونا إلى الشهوات غير مكثرين بما يكابد عليه
الصلاة والسلام، وقد كان تخلف جماعة عنه صلّى الله عليه وسلم
كما علمت لذلك، وجاء أن أناسا من المسلمين تخلفوا ثم إن منهم
من ندم وكره مكانه فلحق برسول الله صلّى الله عليه وسلم غير
مبال بالشدائد كأبي خيثمة
فقد روي «أنه رضي الله تعالى عنه بلغ بستانه وكانت له امرأة
حسناء فرشت له في الظل وبسطت له الحصير وقربت إليه الرطب
والماء البارد فنظر فقال: ظل ظليل ورطب يانع وماء بارد وامرأة
حسناء ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في الضح والريح ما هذا
بخير مقام فرحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومر كالريح فمد رسول
الله صلّى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه
السراب فقال عليه الصلاة والسلام: كن أبا خيثمة فكانه ففرح به
رسول الله صلّى الله عليه وسلم واستغفر له»
ذلِكَ إشارة إلى ما دل عليه الكلام من وجوب المشايعة
بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ أي شيء من
العطش. وقرىء بالمد والقصر وَلا نَصَبٌ ولا تعب ما وَلا
مَخْمَصَةٌ ولا مجاعة ما فِي سَبِيلِ اللَّهِ في جهاد أعدائه
أو في طاعته سبحانه مطلقا وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ
الْكُفَّارَ أي يغضبهم ويضيق صدورهم والوطء والدوس بالأقدام
ونحوها كحوافر الخيل وقد يفسر بالإيقاع والمحاربة. ومنه
قوله صلّى الله عليه وسلم «آخر وطأة وطأها الله تعالى بوج»
والموطئ اسم مكان على الأشهر الأظهر، وفاعل يَغِيظُ ضميره
بتقدير مضاف أي يغيظ وطؤه لأن المكان نفسه لا يغيظ، ويحتمل أن
يكون ضميرا عائدا إلى الوطء الذي في ضمنه، وإذا جعل الموطئ
مصدرا كالمورد فالأمر ظاهر وَلا يَنالُونَ أي ولا يأخذون مِنْ
عَدُوٍّ نَيْلًا أي شيئا من الأخذ فهو مصدر كالقتل والأسر
والفعل نال ينيل. وقيل: نال ينول فأصل نيلا نولا فأبدلت الواو
ياء على غير القياس، ويجوز أن يكون بمعنى المأخوذ فهو مفعول به
لينالون أي لا ينالون شيئا من الأشياء إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ
بِهِ أي بالمذكور وهو جميع ما تقدم ولذا وحد الضمير، ويجوز أن
يكون عائدا على كل واحد من ذلك على البدل: قال النسفي: وحد
الضمير لأنه لما تكررت لا صار كل واحد منها على البدل مفردا
بالذكر مقصودا بالوعد، ولذا قال فقهاؤنا: لو حلف لا يأكل خبزا
ولا لحما حنث بواحد منهما ولو حلف لا يأكل لحما وخبزا لم يحنث
إلا بالجمع بينهما، والجملة في محل نصب على الحال من ظَمَأٌ
وما عطف عليه أي لا يصيبهم ظمأ ولا كذا إلا مكتوبا لهم به
عَمَلٌ صالِحٌ أي ثواب ذلك فالكلام بتقدير مضاف، وقد يجعل
كناية عن الثواب وأول به لأنه المقصود من كتابة الأعمال،
والتنوين للتفخيم، والمراد أنهم يستحقون ذلك استحقاقا لازما
بمقتضى وعده تعالى لا بالوجوب عليه سبحانه. واستدل بالآية على
أن من قصد خيرا كان سعيه فيه مشكورا من قيام وقعود ومشي وكلام
وغير ذلك، وعلى أن المدد يشارك الجيش في الغنيمة بعد انقضاء
الحرب لأن وطء ديارهم مما يغيظهم. ولقد أسهم النبي صلّى الله
عليه وسلم لا بني عامر وقد قدما بعض تقضي الحرب، واستدل بها-
على ما نقل الجلال السيوطي- أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه على
جواز الزنا بنساء أهل الحرب في دار الحرب إِنَّ اللَّهَ لا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ على إحسانهم، والجملة في موضع
التعليل للكتب، والمراد بالمحسنين إما المبحوث عنهم ووضع
المظهر موضع المضمر لمدحهم والشهادة
(6/44)
لهم بالانتظام في سلك المحسنين وأن أعمالهم
من قبيل الإحسان وللإشعار بعلية المأخذ للحكم وإما الجنس وهم
داخلون فيه دخولا أوليا وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً
ولو تمرة أو علاقة سوط وَلا كَبِيرَةً كما أنفق عثمان رضي الله
تعالى عنه في جيش العسرة، وذكر الكبيرة بعد الصغيرة وإن علم من
الثواب على الأولى الثواب على الثانية لأن المقصود التعميم لا
خصوص المذكور إذ المعنى ولا ينفقون شيئا ما فلا يتوهم أن
الظاهر العكس، وفي إرشاد العقل السليم أن الترتيب باعتبار كثرة
الوقوع وقلته، وتوسيط لا للتنصيص على استبداد كل منهما بالكتب
والجزاء لا لتأكيد النفي كما في قوله تعالى شأنه: وَلا
يَقْطَعُونَ أي ولا يتجاوزون في سيرهم لغزو وادِياً وهو في
الأصل اسم فاعل من ودى إذا سال فهو بمعنى السيل نفسه ثم شاع في
محله وهو المنعرج من الجبال والآكام التي يسيل فيها الماء ثم
صار حقيقة في مطلق الأرض ويجمع على أودية كناد على أندية وناج
على أنجية ولا رابع لهذه على ما قيل في كلام العرب إِلَّا
كُتِبَ لَهُمْ أي أثبت لهم أو كتب في الصحف أو اللوح ولا يفسر
الكتب بالاستحقاق لمكان التعليل بعد، وضمير كُتِبَ على طرز ما
سبق أي المذكور أو كل واحد، وقيل: هو للعمل وليس بذاك، وفصل
هذا وآخر لأنه أهون مما قبله لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ بذلك
أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي أحسن جزاء أعمالهم على معنى
أن لأعمالهم جزاء حسنا وأحسن وهو سبحانه اختار لهم أحسن جزاء
فانتصاب أَحْسَنَ على المصدرية لإضافته إلى مصدر محذوف.
وقال الإمام: فيه وجهان: الأول أن الأحسن صفة عملهم وفيه
الواجب، والمندوب، والمباح فهو يجزيهم على الأولين دون الأخير،
والظاهر أن نصب أَحْسَنَ حينئذ على أنه بدل اشتمال من ضمير
يجزيهم كما قيل. وأورد عليه أنه ناء عن المقام مع قلة فائدته
لأن حاصله أنه تعالى يجزيهم على الواجب والمندوب وأن ما ذكر
منه ولا يخفى ركاكته وأنه غير خفي على أحد وكونه كناية عن
العفو عما فرط منهم في خلاله أن وقع لأن تخصيص الجزاء به يشعر
بأنه لا يجازى على غيره خلاف الظاهر، ثم قال: الثاني أن الأحسن
صفة للجزاء أي ليجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأفضل وهو
الثواب. واعترضه أبو حيان بأنه إذا كان الأحسن صفة الجزاء كيف
يضاف إلى الأعمال وليس بعضا منها وكيف يفضل عليهم بدون من، ولا
وجه لدفعه بأن أصله مما كانوا إلخ فحذف من مع بقاء المعنى على
حاله كما قيل لأنه لا محصل له. هذا ووصف النفقة بالصغيرة
والكبيرة دون القليلة والكثيرة مع أن المراد ذلك قيل حملا
للطاعة على المعصية فإنها إنما توصف بالصغيرة والكبيرة في
كلامهم دون القليلة والكثيرة فتأمل وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ
لِيَنْفِرُوا كَافَّةً أي ما استقام لهم أن يخرجوا إلى الغزو
جميعا. روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه تعالى
لما شدد على المتخلفين قالوا: لا يتخلف منا أحد عن جيش أو سرية
أبدا ففعلوا ذلك وبقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وحده فنزل
وَما كانَ إلخ والمراد نهيهم عن النفير جميعا لما فيه من
الإخلال بالتعلم فَلَوْلا نَفَرَ لولا هنا تحضيضية، وهي مع
الماضي تفيد التوبيخ على ترك الفعل ومع المضارع تفيد طلبه
والأمر به لكن اللوم على الترك فيما يمكن تلافيه قد يفيد الأمر
به في المستقبل أي فهلا نفر مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ أي جماعة
كثيرة مِنْهُمْ كأهل بلدة أو قبيلة عظيمة طائِفَةٌ أي جماعة
قليلة، وحمل الفرقة والطائفة على ذلك مأخوذ من السياق ومن
التبعيضية لأن البعض في الغالب أقل من الباقي وإلا فالجوهري لم
يفرق بينهما، وذكر بعضهم أن الطائفة قد تقع على الواحد، وآخرون
أنها لا تقع وأن أقلها اثنان، وقيل: ثلاثة لِيَتَفَقَّهُوا فِي
الدِّينِ أي ليتكلفوا الفقاهة فيه فصيغة التفعل للتكلف، وليس
المراد به معناه المتبادر بل مقاساة الشدة في طلب ذلك لصعوبته
فهو لا يحصل بدون جد وجهد وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ أي عما ينذرون
منه وضمير يتفقوا وينذروا عائد إلى الفرقة
(6/45)
الباقية المفهومة من الكلام، وقيل: لا بد
من إضمار وتقدير، أي فلولا نفر من كل فرقة طائفة وأقام طائفة
ليتفقهوا إلخ.
وكان الظاهر أن يقال: ليعلموا بدل لِيُنْذِرُوا ويفقهون بدل
يَحْذَرُونَ لكنه اختير ما في النظم الجليل للإشارة إلى أنه
ينبغي أن يكون غرض المعلم الإرشاد والإنذار وغرض المتعلم
اكتساب الخشية لا التبسط والاستكبار.
قال حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة: كان اسم الفقه في العصر
الأول اسما لعلم الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات
الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم
الآخرة واستيلاء الخوف على القلب وتدل عليه هذه الآية فما به
الإنذار والتخويف هو الفقه دون تعريفات الطلاق واللعان والسلم
والإجارات، وسأل فرقد السنجي الحسن عن شيء فأجابه فقال: إن
الفقهاء يخالفونك فقال الحسن: ثكلتك أمك هل رأيت فقيها بعينك؟
إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بدينه
المداوم على عبادة ربه الورع الكاف عن أعراض المسلمين العفيف
عن أموالهم الناصح لجماعتهم، ولم يقل في جميع ذلك الحافظ لفروع
الفتاوى اه وهو من الحسن بمكان، لكن الشائع إطلاق الفقيه على
من يحفظ الفروع مطلقا سواء كانت بدلائلها أم لا كما في
التحرير. وفي البحر عن المنتقى ما يوافقه، واعتبر في القنية
الحفظ مع الأدلة فلا يدخل في الوصية للفقهاء من حفظ بلا دليل.
وعن أبي جعفر أنه قال: الفقيه عندنا من بلغ في الفقه الغاية
القصوى، وليس المتفقه بفقيه وليس له من الوصية نصيب، والظاهر
أن المعتبر في الوصية ونحوها العرف وهو الذي يقتضيه كلام كثير
من أصحابنا، وذكر غير واحد أن تخصيص الإنذار بالذكر لأنه الأهم
وإلا فالمقصود والإرشاد الشامل لتعليم السنن والآداب والواجبات
والمباحات والإنذار أخص منه، ودعوى أنهما متلازمان وذكر أحدهما
مغن عن الآخر غفلة أو تغافل، وذهب كثير من الناس إلى أن المراد
من النفر النفر والخروج لطلب العلم فالآية ليست متعلقة بما
قبلها من أمر الجهاد بل لما بين سبحانه وجوب الهجرة والجهاد
وكل منهما سفر لعبادة فبعد ما فضل الجهاد ذكر السفر الآخر وهو
الهجرة لطلب العلم فضمير يتفقهوا وينذروا للطائفة المذكورة وهي
النافرة وهو الذي يقتضيه كلام مجاهد. فقد أخرج عنه ابن جرير.
وابن المنذر. وغيرهما أنه قال: إن ناسا من أصحاب رسول الله
صلّى الله عليه وسلم خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفا
ومن الخصب ما ينتفعون به ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى
فقال لهم الناس: ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا
فوجدوا في أنفسهم من ذلك تحرجا وأقبلوا من البادية كلهم حتى
دخلوا على النبي صلّى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية وَما
كانَ الْمُؤْمِنُونَ إلخ أي لولا خرج بعض وقعد بعض يبتغون
الخير ليتفقهوا في الدين وليسمعوا ما أنزل ولينذروا الناس إذا
رجعوا إليهم.
واستدل بذلك على أن التفقه في الدين من فروض الكفاية. وما
في كشف الحجاب عن أبي سعيد «طلب العلم فريضة على كل مسلم»
على تضعيف الصغاني له ليس المراد من العلم فيه إلا ما يتوقف
عليه أداء الفرائض ولا شك في أن تعلمه فرض على كل مسلم. وذكر
بعضهم أن في الآية دلالة على أن خبر الآحاد حجة لأن عموم كل
فرقة يقتضي أن ينفر من كل ثلاثة تفردوا بقرية طائفة إلى التفقه
لتنذر قومها كي يتذكروا ويحذروا فلو لم يعتبر الأخبار ما لم
تتواتر لم يفد ذلك، وقرر بعضهم وجه الدلالة بأمرين: الأول أنه
تعالى أمر الطائفة بالإنذار وهو يقتضي فعل المأمور به وإلا لم
يكن إنذارا. والثاني أمره سبحانه القوم بالحذر عند الإنذار لأن
معنى قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ليحذروا وذلك أيضا
يتضمن لزوم العمل بخبر الواحد، وهذه الدلالة قائمة على أي
تفسير شئت من التفسيرين، ولا يتوقف الاستدلال بالآية على ما
ذكر على صدق الطائفة على الواحد الذي هو مبدأ الإعداد بل يكفي
فيه صدقها على ما لم يبلغ حد التواتر وإن كان ثلاثة فأكثر،
وكذا لا يتوقف على أن لا يكون الترجي من المنذرين بل يكون من
الله سبحانه ويراد منه الطلب مجازا كما لا يخفى.
(6/46)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا
الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ أي الذين يقربون منكم
قربا مكانيا وخص الأمر به مع قوله سبحانه في أول السورة:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:
5] ونحوه قيل: لأنه من المعلوم أنه لا يمكن قتال جميع الكفار
وغزو جميع البلاد في زمان واحد فكان من قرب أولى ممن بعد، ولأن
ترك الأقرب والاشتغال بقتال الأبعد لا يؤمن معه من الهجوم على
الذراري والضعفاء، وأيضا الأبعد لا حد له بخلاف الأقرب فلا
يؤمر به، وقد لا يمكن قتال الأبعد قبل قتال الأقرب، وقال
بعضهم: المراد قاتلوا الأقرب فالأقرب حتى تصلوا إلى الأبعد
فالأبعد وذلك يحصل الغرض من قتال المشركين كافة، فهذا إرشاد
إلى طريق تحصيله على الوجه الأصلح.
ومن هنا قاتل صلّى الله عليه وسلم أولا قومه ثم انتقل إلى قتال
سائر العرب ثم إلى قتال قريظة، والنضير، وخيبر. وأضرابهم ثم
إلى قتال الروم فبدأ عليه الصلاة والسلام بقتال الأقرب فالأقرب
وجرى أصحابه على سننه صلّى الله عليه وسلم إلى أن وصلت سراياهم
وجيوشهم إلى ما شاء الله تعالى وعلى هذا فلا نسخ، وروي عن
الحسن أن الآية منسوخة بما تقدم والمحققون على أنه لا وجه له،
وزعم الخازن تبعا لغيره أن المراد من الولي ما يعم القرب
المكاني والنسبي وهو خلاف الظاهر، وقيل: إنه خاص بالنسبي لأنها
نزلت لما تحرج الناس من قتل أقربائهم، ولا يخفى ضعفه.
وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً أي شدة كما قال ابن عباس وهي
مثلثة الغين، وقرىء بذلك لكن السبعة على الكسر، والمراد من
الشدة ما يشمل الجزاءة والصبر على القتال والعنف في القتل
والأسر ونحو ذلك، ومن هنا قالوا: إنها كلمة جامعة والأمر على
حد- لا أرينك هاهنا- فليس المقصود أمر الكفار بأن يجدوا في
المؤمنين ذلك بل أمر المؤمنين بالاتصاف بما ذكر حتى يجدهم
الكفار متصفين به وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ
الْمُتَّقِينَ بالعصمة والنصرة، والمراد بهم إما المخاطبون
والإظهار للتنصيص على أن الإيمان والقتال على الوجه المذكور من
باب التقوى والشهادة بكونهم من زمرة المتقين، وإما الجنس وهم
داخلون فيه دخولا أوليا، وأيا ما كان فالكلام تعليل وتأكيد لما
قبله وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من سور القرآن فَمِنْهُمْ
أي من المنافقين كما روي عن قتادة وغيره مَنْ يَقُولُ على سبيل
الإنكار والاستهزاء لإخوانه ليثبتهم على النفاق أو لضعفة
المؤمنين ليصدهم عن الإيمان أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ السورة
إِيماناً وقرأ عبيد بن عمير «أيكم» بالنصب على تقدير فعل يفسره
المذكور ويقدر مؤخرا لأن الاستفهام له الصدر أي أيكم زادت
زادته إلخ.
واعتبار الزيادة على أول الاحتمالين في المخاطبين باعتبار
اعتقاد المؤمنين فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا جواب من جهته
تعالى شأنه وتحقيق للحق وتعيين لحالهم عاجلا وآجلا. وقال بعض
المدققين: إن الآية دلت على أنهم مستهزئون وأن استهزاءهم منكر
فجاء قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَمَّا
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ إلخ تفصيلا لهذين القسمين،
وجعل ذلك الطيبي تفصيلا لمحذوف وبينه بما لا يميل القلب إليه،
وأيا ما كان فجواب إِذا جملة فَمِنْهُمْ إلخ، وليس هذا وما
بعده عطفا عليه أي فأما الذين آمنوا بالله سبحانه وبما جاء من
عنده فَزادَتْهُمْ إِيماناً أي تصديقا لأن ذلك هو المتبادر من
الإيمان كما قرر في محله.
وقبول التصديق نفسه الزيادة والنقص والشدة والضعف مما قال به
جمع من المحققين وبه أقول لظواهر الآيات والأخبار ولو كشف لي
الغطاء ما ازددت يقينا، ومن لم يقبل قبوله للزيادة ولم يدخل
الأعمال في الإيمان قال: إن زيادته بزيادة متعلقة والمؤمن به،
وإليه يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قيل: ويلزمه
أن لا زيادته بزيادة متعلقة والمؤمن به، وإليه يشير كلام ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما، قيل: ويلزمه أن لا يزيد اليوم
لإكمال الدين وعدم تجدد متعلق وفيه نظر وإن قاله من تعقد عليه
الخناصر وتعتقد بكلامه الضمائر، ومن لم يقبل وأدخل الأعمال
فالزيادة وكذا مقابلها ظاهرة عنده وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ
بنزولها لأنه سبب لزيادة كما لهم ورفع درجاتهم بل هو لعمري
أجدى من تفاريق العصا.
(6/47)
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
أي نفاق فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ أي نفاقا
مضموما إلى نفاقهم فالزيادة متضمنة معنى الضم ولذا عديت بإلى،
وقيل: إلى بمعنى مع ولا حاجة إليه وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ
واستحكم ذلك فيهم إلى أن يموتوا عليه أَوَلا يَرَوْنَ يعني
المنافقين، والهمزة للإنكار والتوبيخ، والكلام في العطف شهير.
وقرأ حمزة، ويعقوب، وأبي بن كعب بالتاء الفوقانية على أن
الخطاب للمؤمنين والهمزة للتعجيب أي أو لا يعلمون وقيل أو لا
يبصرون أَنَّهُمْ أي المنافقين يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ من
الأعوام مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ بأفانين البليات من المرض
والشدة مما يذكر الذنوب والوقوف بين يدي علام الغيوب فيؤدي إلى
الإيمان به تعالى والكف عما هم عليه،
وفي الخبر «إذا مرض العبد ثم عوفي ولم يزدد خيرا قالت
الملائكة: هو الذي داويناه فلم ينفعه الدواء»
فالفتنة هنا بمعنى البلية والعذاب، وقيل: هي بمعنى الاختبار،
والمعنى أولا يرون أنهم يختبرون بالجهاد مع رسول الله صلّى
الله عليه وسلم فيعاينون ما ينزل عليه من الآيات لا سيما
الآيات الناعية عليهم قبائحهم ثُمَّ لا يَتُوبُونَ عما هم فيه
وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ولا يعتبرون.
والجملة على قراءة الجمهور عطف على يَرَوْنَ داخل تحت الإنكار
والتوبيخ، وعلى القراءة الأخرى عطف على يُفْتَنُونَ والمراد من
المرة والمرتين على ما صرح به بعضهم مجرد التكثير لا بيان
الوقوع على حسب العدد المزبور. وقرأ عبد الله «أولا يرون أنهم
يفتنون في كل عام مرة أو مرتين وما يتذكرون» .
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ بيان لأحوالهم عند نزولها وهم في
محفل تبليغ الوحي كما أن الأول بيان لمقالاتهم وهم غائبون عنه
نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ ليتواطؤوا على الهرب كراهة
سماعها قائلين إشارة: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ أي هل يراكم
أحد من المسلمين إذا قمتم من المجلس أو تغامزوا بالعيون إنكارا
وسخرية بها قائلين هل يراكم أحد لننصرف مظهرين أنهم لا يصطبرون
على استماعها ويغلب عليهم الضحك فيفتضحون، والسورة على هذا
مطلقة، وقيل: إن نظر بعضهم إلى بعض وتغامزهم كان غيظا لما في
السورة من مخازيهم وبيان قبائحهم، فالمراد بالسورة سورة مشتملة
على ذلك، والإطلاق هو الظاهر، وأيا ما كان فلا بد من تقدير
القول قبل الاستفهام ليرتبط الكلام، فإن قدر اسما كان نصبا على
الحال كما أشرنا إليه، وإن قدر فعلا كانت الجملة في موضع الحال
أيضا، ويجوز جعلها مستأنفة، وإيراد ضمير الخطاب لبعض المخاطبين
على الجزم فإن المرء بشأنه أكثر اهتماما منه في شأن أصحابه كما
في قوله تعالى: وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ
أَحَداً [الكهف: 19] ثُمَّ انْصَرَفُوا عطف على نَظَرَ
بَعْضُهُمْ والتراخي باعتبار وجود الفرصة والوقوف على عدم رؤية
أحد من المؤمنين، أي ثم انصرفوا جميعا عن محفل الوحي لعدم
تحملهم سماع ذلك لشدة كراهتهم أو مخافة الفضيحة بغلبة الضحك أو
الاطلاع على تغامزهم. أو انصرفوا عن المجلس بسبب الغيظ، وقيل:
المراد انصرافهم عن الهداية والأول أظهر.
صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الإيمان حسب انصرافهم عن ذلك
المجلس، والجملة تحتمل الأخبار والدعاء، واختار الثاني أبو
مسلم وغيره من المعتزلة، ودعاؤه تعالى على عباده وعيد لهم
وإعلام بلحوق العذاب بهم وقوله سبحانه: بِأَنَّهُمْ قيل متعلق
بصرف على الاحتمال الأول وبانصرفوا على الثاني، والباء للسببية
أي بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ لسوء فهمهم أو لعدم تدبرهم
فهم إما حمقى أو غافلون لَقَدْ جاءَكُمْ الخطاب للعرب رَسُولٌ
أي رسول عظيم القدر مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم ومن نسبكم
عربي مثلكم، أخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما أنه قال: ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي
صلّى الله عليه وسلم مضريها وربيعتها ويمانيها، وقيل:
الخطاب للبشر على الإطلاق ومعنى كونه عليه الصلاة والسلام من
أنفسهم أنه من جنس البشر، وقرأ ابن عباس رضي
(6/48)
الله تعالى عنهما وابن محيصن والزهري
«أنفسكم» أفعل تفضيل من النفاسة، والمراد الشرف فهو صلّى الله
عليه وسلم من أشرف العرب،
أخرج الترمذي وصححه والنسائي عن المطلب بن ربيعة قال: «قال
رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد بلغه بعض ما يقول الناس
فصعد المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: «من أنا» ؟
قالوا: أنت رسول الله قال: «أنا محمد بن عبد الله بن عبد
المطلب إن الله تعالى خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم
فرقتين فجعلني في خير فرقة، وجعلهم قبائل فجعلني في خيرهم
قبيلة، وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا فأنا خيركم بيتا
وخيركم نفسا»
وأخرج البخاري والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة أن رسول الله
صلّى الله عليه وسلم قال: «بعثت من خير قرون بني آدم قرنا
فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت فيه»
وأخرج مسلم وغيره عن واثلة بن الأسقع قال: «قال رسول الله صلّى
الله عليه وسلم إن الله تعالى اصطفى من ولد إبراهيم- إسماعيل،
واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا،
واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» .
وروى البيهقي عن أنس «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
ما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله تعالى في خيرهما فأخرجت
من بين أبوي فلم يصبني شيء من عهر الجاهلية وخرجت من نكاح ولم
أخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي وأمي فأنا خيركم
نفسا وخيركم أبا»
عَزِيزٌ عَلَيْهِ أي شديد شاق من عز عليه بمعنى صعب وشق ما
عَنِتُّمْ أي عنتكم، وهو بالتحريك ما يكره، أي شديد عليه ما
يلحقكم من المكروه كسوء العاقبة والوقوع في العذاب، ورفع
عَزِيزٌ على أنه صفة سببية لرسول وبه يتعلق عَلَيْهِ، وفاعله
المصدر وهو الذي يقتضيه ظاهر النظم الجليل، وقيل: إن عَزِيزٌ
عَلَيْهِ خبر مقدم وما عَنِتُّمْ مبتدأ مؤخر والجملة في موضع
الصفة، وقيل: إن عَزِيزٌ نعت حقيقي لرسول وعنده تم الكلام
وعَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ ابتداء كلام أي يهمه ويشق عليه عنتكم
حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي على إيمانكم وصلاح شأنكم لأن الحرص لا
يتعلق بذواتهم بِالْمُؤْمِنِينَ منكم ومن غيركم رَؤُفٌ رَحِيمٌ
قيل: قدم الأبلغ منهما وهو الرأفة التي هي عبارة عن شدة الرحمة
رعاية للفواصل وهو أمر مرعي في القرآن، وهو مبني على ما فسر به
الرأفة، وصحح أن الرأفة الشفقة، والرحمة الإحسان، وقد يقال:
تقديم الرأفة باعتبار أن آثارها دفع المضار وتأخير الرحمة
باعتبار أن آثارها جلب المنافع والأول أهم من الثاني ولهذا
قدمت في قوله سبحانه: رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً
ابْتَدَعُوها [الحديد: 27] ولا يجري هنا أمر الرعاية كما لا
يخفى، وكأن الرأفة على هذا مأخوذة من رفو الثوب لإصلاح شقه،
فيكون في وصفه صلّى الله عليه وسلم بما ذكر وصف له بدفع الضرر
عنهم وجلب المصلحة لهم، ولم يجمع هذان الاسمان لغيره عليه
الصلاة والسلام، وزعم بعضهم أن المراد رؤوف بالمطيعين منهم
رحيم بالمذنبين، وقيل: رؤوف بأقربائه رحيم بأوليائه، وقيل:
رؤوف بمن يراه رحيم بمن لم يره ولا مستند لشيء من ذلك فَإِنْ
تَوَلَّوْا تلوين للخطاب وتوجيه له إليه صلّى الله عليه وسلم
تسلية له، أي فإن أعرضوا عن الإيمان بك فَقُلْ حَسْبِيَ
اللَّهُ فإنه يكفيك معرتهم ويعينك عليهم لا إِلهَ إِلَّا هُوَ
استئناف كالدليل لما قبله لأن المتوحد بالألوهية هو الكافي
المعين عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فلا أرجو ولا أخاف إلا منه سبحانه
وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ أي الجسم المحيط بسائر الأجسام ويسمى
بفلك الأفلاك وهو محدد الجهات الْعَظِيمِ الذي لا يعلم مقدار
عظمته إلا الله تعالى.
وفي الخبر «أن الأرض بالنسبة إلى السماء الدنيا كحلقة في فلاة
وكذا السماء الدنيا بالنسبة إلى السماء التي فوقها وهكذا إلى
السماء السابعة وهي بالنسبة إلى الكرسي كحلقة في فلاة وهو
بالنسبة إلى العرش كذلك»
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لا يقدر قدره أحد، وذكر
أهل الأرصاد أن بعد مقعر الفلك الأعظم من مركز العالم ثلاثة
وثلاثون ألف ألف وخمسمائة وأربعة وعشرون ألفا وستمائة وتسعة
فراسخ، وأن بعد محدبه منه قد بلغ مرتبة لا يعلمها إلا الله
الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وهو بكل
شيء عليم، وقد يفسر العرش هنا بالملك وهو أحد معانيه كما في
القاموس، وقرىء «العظيم» بالرفع على أنه صفة الرب، وختم سبحانه
هذه السورة بما
(6/49)
ذكر لأنه تعالى ذكر فيها التكاليف الشاقة
والزواجر الصعبة فأراد جل شأنه أن يسهل عليهم ذلك ويشجع النبي
صلّى الله عليه وسلم على تبليغه، وقد تضمن من أوصافه صلّى الله
عليه وسلم الكريمة ما تضمن، وقد بدأ سبحانه من ذلك بكونه من
أنفسهم لأنه كالأم في هذا الباب، ولا ينافي وصفه صلّى الله
عليه وسلم بالرأفة والرحمة بالمؤمنين تكليفه إياهم في هذه
السورة بأنواع من التكاليف الشاقة لأن هذا التكليف أيضا من
كمال ذلك الوصف من حيث إنه سبب للتخلص من العقاب المؤبد والفوز
بالثواب المخلد، ومن هذا القبيل معاملته صلّى الله عليه وسلم
للثلاثة الذين خلفوا كما علمت، وما أحسن ما قيل:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم
وهاتان الآيتان على ما روي عن أبي بن كعب آخر ما نزل من
القرآن. لكن روى الشيخان عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه
أنه قال: آخر آية نزلت يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ
يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء: 176] وآخر سورة نزلت
براءة.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما آخر آية نزلت: وَاتَّقُوا
يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة: 281] وكان
بين نزولها وموته صلّى الله عليه وسلم ثمانون يوما، وقيل: تسع
ليال، وحاول بعضهم التوفيق بين الروايات في هذا الشأن بما لا
يخلو عن كدر. ويبعد ما
روي عن أبي ما أخرجه ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال: لما
قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة جاءته جهينة فقالوا
له: إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق لنا نأمنك وتأمنا قال: ولم
سألتم هذا؟ قالوا: نطلب الأمن فأنزل الله تعالى هذه الآية
لَقَدْ جاءَكُمْ إلخ
والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وقد ذكروا لقوله سبحانه: فَإِنْ تَوَلَّوْا الآية ما ذكروا من
الخواص،
وقد أخرج أبو داود عن أبي الدرداء موقوفا وابن السني عنه قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من قال حين يصبح وحين
يمسي حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم
سبع مرات كفاه الله تعالى ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة،
وأخرج ابن النجار في تاريخه عن الحسين رضي الله تعالى عنه قال:
من قال حين يصبح سبع مرات حسبي الله لا إله إلا هو إلخ لم يصبه
في ذلك اليوم ولا تلك الليلة كرب ولا نكب ولا غرق،
وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن كعب قال: خرجت سرية إلى أرض الروم
فسقط رجل منهم فانكسرت فخذه فلم يستطيعوا أن يحملوه فربطوا
فرسه عنده ووضعوا عنده شيئا من ماء وزاد فلما ولوا أتاه آت
فقال: ما لك هاهنا؟ قال: انكسرت فخذي فتركني أصحابي فقال: ضع
يدك حيث تجد الألم وقل: فَإِنْ تَوَلَّوْا الآية فوضع يده
فقرأها فصح وركب فرسه وأدرك أصحابه، وهذه الآية ورد هذا الفقير
ولله الحمد منذ سنين نسأل الله تعالى أن يوفق لنا الخير
ببركتها إنه خير الموفقين.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ
الْجَنَّةَ لما هداهم سبحانه إلى الإيمان العلمي وهم مفتونون
بمحبة الأنفس والأموال استنزلهم لغاية عنايته سبحانه بهم عن
ذلك بالمعاملة الرابحة بأن أعطاهم بدل ذلك الجنة، ولعل المراد
بها جنة النفس ليكون الثمن من جنس المثمن الذي هو مألوفهم ولكن
الفرق بين الأمرين، قال ابن عطاء: نفسك موضع كل شهوة وبلية
ومالك محل كل إثم ومعصية فاشترى مولاك ذلك منك ليزيل ما يضرك
ويعوضك عليه ما ينفعك ولهذا اشترى سبحانه النفس ولم يشتر
القلب، وقد ذكر بعض الأكابر في ذلك أيضا أن النفس محل العيب
والكريم يرغب في شراء ما يزهد فيه غيره فشراء الله تعالى ذلك
مع اطلاعه سبحانه على العيب بالجنة التي لا عيب فيها نهاية
الكرم ويرشد إلى ذلك قول القائل:
ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها كبدا ليست بذات قروح
أباها جميع الناس لا يشترونها ... ومن يشتري ذا علة بصحيح
(6/50)
وعن الجنيد قدس سره قال: إنه سبحانه اشترى
منك ما هو صفتك وتحت تصرفك والقلب تحت صفته وتصرفه لم تقع
المبايعة عليه، ويشير إلى ذلك
قوله صلّى الله عليه وسلم: «قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع
الرحمن» ،
وذكر بعض أرباب التأويل أنه تعالى لما اشترى الأنفس منهم
فذاقوا بالتجرد عنها حلاوة اليقين ولذة الترك ورجعوا عن مقام
لذة النفس وتابوا عن هواها ولم يبق عندهم لجنّة النفس التي
كانت ثمنا قدر وصفهم بالتائبين فقال سبحانه: التَّائِبُونَ أي
الراجعون عن طلب ملاذ النفس وتوقع الأجر إليه تعالى وبلفظ
آخرهم قوم رجعوا من غير الله إلى الله واستقاموا بالله تعالى
مع الله تعالى. الْعابِدُونَ أي الخاضعون المتذللون لعظمته
وكبريائه تعالى تعظيما وإجلالا له جل شأنه لا رغبة في ثواب ولا
رهبة من عقاب وهذه أقصى درجات العبادة ويسميها بعضهم عبودة
الْحامِدُونَ بإظهار الكمالات العملية والعلمية حمدا فعليا
حاليا وأقصى مراتب الحمد إظهار العجز عنه.
يروى أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أحمدك والحمد من
آلائك فأوحى الله تعالى إليه الآن حمدتني يا داود.
وما أعلى
كلمة نبينا صلّى الله عليه وسلم «اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت
كما أثنيت على نفسك»
السَّائِحُونَ إليه تعالى بالهجرة عن مقام الفطرة ورؤية
الكمالات الثابتة لهم في مفاوز الصفات ومنازل السبحات، وقال
بعض العارفين: السائحون هم السيارون بقلوبهم في الملكوت
الطائرون بأجنحة المحبة في هواء الجبروت، وقد يقال: هم الذين
صاموا عن المألوفات حين عاينوا هلال جماله تعالى في هذه النشأة
ولا يفطرون حتى يعاينوه مرة أخرى في النشأة الأخرى، وقد
امتثلوا ما أشار إليه صلّى الله عليه وسلم
بقوله: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته»
الرَّاكِعُونَ في مقام محو الصفات السَّاجِدُونَ بفناء الذات،
وقال بعض العارفين:
الراكعون هم العاشقون المنحنون من ثقل أوقار المعرفة على باب
العظمة ورؤية الهيبة، والساجدون هم الطالبون لقربه سبحانه.
فقد جاء في الخبر «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»
وقد يقال: الراكعون الساجدون هم المشاهدون للحبيب السامعون
منه، وما أحسن ما قيل:
لو يسمعون كما سمعت كلامها ... خروا لعزة ركعا وسجودا
الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي
الداعون الخلق إلى الحق والدافعون لهم عما سواه، فإن المعروف
على الإطلاق هو الحق سبحانه والكل بالنسبة إليه عز شأنه منكر
وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ أي المراعون أوامره ونواهيه
سبحانه في جوارحهم وأسرارهم وأرواحهم أو الذين حفظوا حدود الله
المعلومة فأقاموها على أنفسهم وعلى غيرهم، وقيل: هم القائمون
في مقام العبودية بعد كشف صفات الربوبية لهم فلا يتجاوزون ذلك
وإن حصل لهم ما حصل فهم في مقام التمكين والصحو لا يقولون ما
يقوله سكارى المحبة ولا يهيمون في أودية الشطحات.
وفي الآية نعي على أناس ادعوا الانتظام في سلك حزب الله تعالى
وزمرة أوليائه وهم قد ضيعوا الحدود وخرقوا سفينة الشريعة
وتكلموا بالكلمات الباطلة عند المسلمين على اختلاف فرقهم حتى
عند السادة الصوفية فإنهم أوجبوا حفظ المراتب، وقالوا: إن
تضييعها زندقة.
وقد خالطتهم فرأيت منهم ... خبائث بالمهيمن نستجير
ولعمري إن المؤمن من ينكر على أمثالهم فإياك أن تغتر بهم
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بالإيمان الحقّ المقيمين في مقام
الاستقامة واتباع الشريعة ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا
أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ
أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي ما صح منهم ذلك ولا استقام فإن الوقوف
عند القدر من شأن الكاملين.
ومن هنا قيل: لا تؤثر همة العارف بعد كمال عرفانه أي إذا تيقن
وقوع كل شيء بقدره تعالى الموافق للحكمة البالغة وأن ما شاء
الله ما كان ولم يشأ لم يكن ولم يتهم الله سبحانه في شيء من
الفعل والترك سكن تحت كهف
(6/51)
الأقدار وسلم لمدعي الإرادة وأنصت لمنادي
الحكمة وترك مراده لمراد الحبيب بل لا يريد إلا ما يريده، وهو
الذي يقتضيه مقام العبودية المحضة الذي هو أعلى المقامات ودون
ذلك مقام الإدلال، ولقد كان حضرة مولانا القطب الرباني الشيخ
عبد القادر الكيلاني قدس سره في هذا المقام وله كلمات تشعر
بذلك لكن لم يتوف قدس سره حتى انتقل منه إلى مقام العبودية
المحضة كما نقل مولانا عبد الوهاب الشعراني في الدرر
واليواقيت، وقد ذكر أن هذا المقام كان مقام تلميذه حضرة مولانا
أبي السعود الشبلي قدس سره وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ
قَوْماً أي ليصفهم بالضلال عن طريق التسليم والانقياد لأمره
والرضا بحكمه بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ إلى التوحيد العلمي ورؤية
وقوع كل شيء بقضائه وقدره حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما
يَتَّقُونَ أي ما يجب عليهم اتقاؤه في كل مقام من مقامات
سلوكهم وكل مرتبة من مراتب وصولهم فإذا بين لهم ذلك فإن أقدموا
في بعض المقامات على ما تبين لهم وجوب اتقائه أضلهم لارتكابهم
ما هو ضلال في دينهم وإلا فلا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ فيعلم دقائق ذنوبهم وإن لم يتفطن لها أحد.
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ
وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ
لا يخفى أن توبة الله سبحانه على كل من النبي عليه الصلاة
والسلام ومن معه بحسب مقامه، وذكر بعضهم أن التوبة إذا نسبت
إلى العبد كانت بمعنى الرجوع من الزلات إلى الطاعات وإذا نسبت
إلى الله سبحانه كانت بمعنى رجوعه إلى العباد بنعت الوصال وفتح
الباب ورفع الحجاب وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا
حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ
وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وذلك لاستشعار سخط المحبوب
وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ أي
تحققوا ذلك فانقطعوا إليه سبحانه ورفعوا الوسائط ثُمَّ تابَ
عَلَيْهِمْ حيث رأى سبحانه انقطاعهم إليه وتضرعهم بين يديه،
وقد جرت عادته تعالى مع أهل محبته إذا صدر منهم ما ينافي
مقامهم بأدبهم بنوع من الحجاب حتى إذا ذاقوا طعم الجناية
واحتجبوا عن المشاهدة وعراهم ما عراهم مما أنساهم دنياهم
وأخراهم أمطر عليهم وابل سحاب الكرم وأشرق على آفاق أسرارهم
أنوار القدم فيؤنسهم بعد يأسهم ويمن عليهم بعد قنوطهم وَهُوَ
الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا، وما
أحلى قوله:
هجروا والهوى وصال وهجر ... هكذا سنّت الغرام الملاح
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ في جميع
الرذائل بالاجتناب عنها وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ نية
وقولا وفعلا أي اتصفوا بما اتصفوا به من الصدق وقيل: خالطوهم
لتكونوا مثلهم فكل قرين بالمقارن يقتدي.
وفسر بعضهم الصادقين بالذين لم يخلفوا الميثاق الأول فإنه أصدق
كلمة، وقد يقال: الأصل الصدق في عهد الله كما قال تعالى:
رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ [الأحزاب: 23] ثم في عقد
العزيمة ووعد الخليقة كما قال سبحانه في إسماعيل: إِنَّهُ كانَ
صادِقَ الْوَعْدِ [مريم: 54] وإذا روعي الصدق في المواطن كلها
كالخاطر والفكر والنية والقول والعمل صدقت المنامات والواردات
والأحوال والمقامات والمواهب والمشاهدات فهو أصل شجرة الكمال
وبذر ثمرة الأحوال وملاك كل خير وسعادة وضده الكذب فهو أسوأ
الرذائل وأقبحها وهو منافي المروءة كما قالوا: لا مروءة لكذوب
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا
نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا
فِي الدِّينِ إشارة إلى أنه يجب على كل مستعد من جماعة سلوك
طريق طلب العلم إذ لا يمكن لجميعهم أما ظاهرا فلفوات المصالح
وأما باطنا فلعدم الاستعداد للجميع.
والفقه من علوم القلب وهي إنما تحصل بالتزكية والتصفية وترك
المألوفات واتباع الشريعة. فالمراد من النفر السفر المعنوي
وهذا هو العلم النافع، وعلامة حصوله عدم خشية أحد سوى الله
تعالى، ألا ترى كيف نفي الله عمن
(6/52)
خشي غيره سبحانه الفقه فقال: لَأَنْتُمْ
أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الحشر: 13] وعلى هذا فحق
لمثلي أن ينوح على نفسه، وقد صرح بعض الأكابر أن الفقه علم
راسخ في القلب، ضاربة عروقه في النفس، ظاهر أثره على الجوارح
لا يمكن لصاحبه أن يرتكب خلاف ما يقتضيه إلا إذا غلب القضاء
والقدر، وقد أنزل الله تعالى كما قيل على بعض أنبياء بني
إسرائيل عليهم السلام: لا تقولوا العلم بالسماء من ينزل به ولا
في تخوم الأرض من يصعد به ولا من وراء البحر من يعبر ويأتي به،
العلم مجعول في قلوبكم تأدبوا بين يدي بآداب الروحانيين
وتخلقوا بأخلاق الصديقين، أظهر العلم من قلوبكم حتى يغمركم
ويغطيكم.
وجاء «من اتقى الله أربعين صباحا تفجرت ينابع الحكمة من قلبه»
وإذا تحققت ذلك علمت أن دعوى قوم اليوم الفقه بالمعنى الذي
ذكرناه مع تهافتهم على المعاصي تهافت الفراش على النار وعقدهم
الحلقات عليها دعوى كاذبة مصادمة للعقل والنقل وهيهات أن يحصل
لهم ذلك الفقه ما داموا على تلك الحال ولو ضربوا رؤوسهم بألف
صخرة صماء، وعطف سبحانه قوله: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ على قوله تعالى: لِيَتَفَقَّهُوا إشارة
إلى أن الإنذار بعد التفقه والتحلي بالفضائل إذ هو الذي يرجى
نفعه:
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يسمع ما تقول ويقتدى ... بالقول منك وينفع التعليم
ولذا قال جل وعلا: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ وقوله تعالى: يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ
مِنَ الْكُفَّارِ إشارة إلى الجهاد الأكبر ولعله تعليم لكيفية
النفر المطلوب وبيان لطريق تحصيل الفقه أي قاتلوا كفار قوى
نفوسكم بمخالفة هواها.
وفي الخبر «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك»
وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً أي قهرا وشدة حتى تبلغوا درجة
التقوى وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالولاية
والنصر أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ
مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أي يصيبهم بالبلاء ليتوبوا ثُمَّ لا
يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ وفي الأثر البلاء سوط من
سياط الله تعالى يسوق به عباده إليه ويرشد إلى ذلك قوله تعالى:
وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [لقمان:
32] وقوله تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا
لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً [يونس: 12] وبالجملة إن
البلاء يكسر سورة النفس فيلين القلب فيتوجه إلى مولاه إلا أن
من غلبت عليه الشقاوة ذهب منه ذلك الحال إذا صرف عنه البلاء
كما يشير إليه قوله تعالى: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ
إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 65] وقوله سبحانه: فَلَمَّا
كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى
ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس: 12] لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم لتقع الإلفة بينكم وبينه فإن الجنس
إلى الجنس يميل وحينئذ يسهل عليكم الاقتباس من أنواره صلّى
الله عليه وسلم. وقرىء كما قدمنا «من أنفسكم» أي أشرافكم في كل
شيء ويكفيه شرفا أنه عليه الصلاة والسلام أول التعينات وأنه
كما وصفه الله تعالى على خلق عظيم:
وعلى تفنن واصفيه بوصفه ... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أي يشق عليه عليه الصلاة
والسلام مشقتكم فيتألم صلّى الله عليه وسلم لما يؤلمكم كأن
يتألم الشخص إذا عرا بعض أعضائه مكروه، وعن سهل أنه قال:
المعنى شديد عليه غفلتكم عن الله تعالى ولو طرفة عين فإن العنت
ما يشق ولا شيء أشق في الحقيقة من الغفلة عن المحبوب حَرِيصٌ
عَلَيْكُمْ أي على صلاح شأنكم أو على حضوركم وعدم غفلتكم عن
مولاكم جل شأنه بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ يدفع عنهم ما يؤذيهم
رَحِيمٌ يجلب لهم ما ينفعهم، ومن آثار الرأفة تحذيرهم من
الذنوب والمعاصي ومن آثار الرحمة إضافته صلّى الله عليه وسلم
عليهم العلوم والمعارف
(6/53)
والكمالات،
قال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: علم الله تعالى عجز خلقه
عن طاعته فعرفهم ذلك لكي يعلموا أنهم لا ينالون الصفو من خدمته
فأقام سبحانه بينه وبينهم مخلوقا من جنسهم في الصورة فقال:
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ وألبسه من نعته
الرأفة والرحمة وأخرجه إلى الخلق سفيرا صادقا وجعل طاعته طاعته
وموافقته موافقته فقال سبحانه: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ
أَطاعَ اللَّهَ
[النساء: 80] ثم أفرده لنفسه خاصة وآواه إليه بشهوده عليه في
جميع أنفاسه وسلى قلبه عن إعراضهم عن متابعته بقوله جل شأنه:
فَإِنْ تَوَلَّوْا
وأعرضوا عن قبول ما أنت عليه لعدم الاستعداد وزواله فَقُلْ
حَسْبِيَ اللَّهُ لا حاجة لي بكم كما لا حاجة للإنسان إلى
العضو المتعفن الذي يجب قطعه عقلا فالله تعالى كما في لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ فلا مؤثر غيره ولا ناصر سواه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
لا على غيره من جميع المخلوقات إذ لا أرى لأحد منهم فعلا ولا
حول ولا قوة إلا بالله وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
المحيط بكل شيء، وقد ألبسه سبحانه أنوار عظمته وقواه على حمل
تجلياته ولولا ذلك لذاب بأقل من لمحة عين، وإذا قرىء «العظيم»
بالرفع فهو صفة للرب سبحانه، وعظمته جل جلاله مما لا نهاية لها
وما قدروا الله حق قدره نسأله بجلاله وعظمته أن يوفقنا لإتمام
تفسير كتابه حسبما يحب ويرضى فلا إله غيره ولا يرجى الا خيره.
(6/54)
|