روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني

سورة يونس
مكية على المشهور واستثنى منها بعضهم ثلاث آيات (1) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ قال: إنها نزلت في المدينة، وحكى ابن الفرس والسخاوي أن من أولها إلى رأس أربعين آية مكي والباقي مدني، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما روايتان، فأخرج ابن مردويه من طريق العوفي عنه ومن طريق ابن جريج عن عطاء عنه أنها مكية، وأخرج من طريق عثمان بن عطاء عن أبيه عنه أنها مدنية، والمعول عليه عند الجمهور الرواية الأولى، وآياتها مائة وتسع عند الجميع غير الشامي فإنها عنده مائة وعشر آيات.
ووجه مناسبتها لسورة براءة أن الأولى ختمت بذكر الرسول صلّى الله عليه وسلم وهذه ابتدأت به، وأيضا أن في الأول بيانا لما يقوله المنافقون عند نزول سورة من القرآن وفي هذه بيان لما يقوله الكفار في القرآن حيث قال سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس: 38] الآية، وقال جل وعلا: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس: 15] وأيضا في الأولى ذم المنافقين بعدم التوبة والتذكر إذا أصابهم البلاء في قوله سبحانه: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة: 126] على أحد الأقوال وفي هذه ذم لمن يصيبه البلاء فيرعوي ثم يعود وذلك في قوله تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس: 12] وفي قوله سبحانه:
حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [يونس: 22] إلى أن قال سبحانه: فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يونس: 23] وأيضا في الأولى براءة الرسول صلّى الله عليه وسلم من المشركين مع الأمر بقتالهم على أتم وجه وفي هذه براءته صلّى الله عليه وسلم من عملهم لكن من دون أمر بقتال بل أمر فيها عليه الصلاة والسلام أن يظهر البراءة فيها على وجه يشعر بالإعراض وتخلية السبيل كما قيل على ضد ما في الأولى وهذا نوع من المناسبة أيضا وذلك في قوله تعالى:
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس: 41] إلى غير ذلك، والعجب من الجلال السيوطي عليه الرحمة كيف لم يلح له في تناسق الدرر وجه المناسبة بين السورتين وذكر وجه المناسبة بين هذه السورة وسورة الأعراف وقد يوجد في الإسقاط ما لا يوجد في الإسقاط
__________
(1) قوله (فلعلك تارك) إلخ كذا بخط مؤلفه وهذه الثلاث من سورة هود وسيأتي له فيها مثل هذه العبارة وعبارة الخطيب المفسر مكية الا (فإن كنت في شك) الآيتين او الثلاث او (ومنهم من يؤمن به) الآية اهـ مصححه.

(6/55)


الر بتفخيم الراء المفتوحة وهو الأصل وأمال أبو عمرو وبعض القراء إجراء لألف الراء مجرى الألف المنقلبة عن الياء فإنهم يميلونها تنبيها على أصلها، وفي الإمالة هنا دفع توهم أن- را- حرف كما ولا فقد صرحوا أن الحروف يمتنع فيها الإمالة، وقرأ ورش بين بين، والمراد من الر على ما روى جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنا الله آرى، وفي رواية أخرى أنها بعض الرحمن وتمامه حم ون، وعن قتادة أنها بعض الراحم وهو من أسماء القرآن، وقيل:
هي أسماء للأحرف المعلومة من حروف التهجي أتي بها مسرودة على نمط التعديد بطريق التحدي وعليه فلا محل لها من الإعراب، والكلام فيها وفي نظائرها شهير.
والأكثرون على أنها اسم للسورة فمحلها الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف أي هذه السورة مسماة بكذا وهو أظهر من الرفع على الابتداء لعدم سبق العلم بالتسمية بعد فحقها الإخبار بها لا جعلها عنوان الموضوع لتوقفه على علم المخاطب بالانتساب، والإشارة إليها قبل جريان ذكرها لصيرورتها في حكم الحاضر لاعتبار كونها على جناح الذكر كما يقال في الصكوك: هذا ما اشترى فلان، وجوز النصب بتقدير فعل لائق بالمقام كاذكر واقرأ وكلمة تِلْكَ إشارة إليها إما على تقدير كون الر مسرودا على نمط التعديد فقد نزل حضور مادتها منزلة ذكرها فأشير إليها كأنه قيل: هذه الكلمات المؤلفة من جنس هذه الحروف المبسوطة إلخ، وإما على تقدير كونها اسما للسورة فقد نوهت بالإشارة إليها بعد تنويهها بتعيين اسمها أو الأمر بذكرها أو بقراءتها. وما في اسم الإشارة من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلتها في الفخامة ومحله الرفع على أنه مبتدأ خبره قوله عز وجل: آياتُ الْكِتابِ وعلى تقدير كون الر مبتدأ فهو إما مبتدأ ثان أو بدل من الأول، والمعنى هي آيات مخصوصة منه مترجمة باسم مستقل، والمقصود ببيان بعضيتها منه وصفيتها بما أشير إلى اتصافه به من النعوت الفاضلة والصفات الكاملة، والمراد بالكتاب إما جميع القرآن العظيم وإن لم ينزل بعد إما باعتبار تعينه وتحققه في العلم أو في اللوح أو باعتبار نزوله جملة إلى بيت العزة من السماء الدنيا وإما جميع القرآن النازل وقتئذ المتفاهم بين الناس إذ ذاك فإنه كما يطلق على المجموع الشخصي يطلق على مجموع ما نزل في كل كذا قال شيخ الإسلام.
وأنت تعلم أن المشهور عن السلف تفويض معنى الر وأمثاله إلى الله تعالى وحيث لم يظهر المراد منها لا معنى للتعرض لإعرابها، وقد ذكروا أنه يجوز في الإشارة أن تكون لآيات هذه السورة وأن تكون لآيات القرآن ويجوز

(6/57)


في الكتاب أن يراد به السورة وأن يراد القرآن فتكون الصور أربعا. إحداها الإشارة إلى آيات القرآن والكتاب بمعنى السورة ولا يصح إلا بتخصيص آيات أو تأويل بعيد. وثانيها عكسه ولا محذور فيه. وثالثها الإشارة إلى آيات السورة والكتاب بمعنى السورة. ورابعها الإشارة إلى آيات القرآن والكتاب بمعنى القرآن، ومرجع إفادة الكلام عليهما باعتبار صفة الكتاب الآتية، وجوز الإشارة إلى الآيات لكونها في حكم الحاضر وإن لم تذكر كما في المثال المذكور آنفا. وفي أمالي ابن الحاجب أن المشار إليه لا يشترط أن يكون موجودا حاضرا بل يكفي أن يكون موجودا ذهنا. وفي الكشاف في تفسير قوله تعالى: هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف: 78] ما يؤيده، وأوثر لفظ تلك لما أشار إليه الشيخ ولكونه في حكم الغائب من وجه ولا يخلو ما ذكروه عن دغدغة، وأما حمل الكتاب على الكتب التي خلت قبل القرآن من التوراة والإنجيل وغيرهما كما أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة فهو في غاية البعد فتأمل، وقوله تعالى:
الْحَكِيمِ صفة للكتاب ووصف بذلك لاشتماله على الحكم فيراد بالحكيم ذو الحكمة على أنه للنسبة كلابن وتامر، وقد يعتبر تشبيه الكتاب بإنسان ناطق بالحكمة على طريق الاستعارة بالكناية وإثبات الحكمة قرينة لها، وجوز أن يكون وصفه بذلك لأنه كلام حكيم فالمعنى حكيم قائله فالتجوز في الإسناد كليله قائم ونهاره صائم، وقيل: لأن آياته محكمة لم ينسخ منها شيء أي بكتاب آخر ففعيل بمعنى مفعل وقد تقدم ما له وما عليه أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً الهمزة لإنكار تعجبهم ولتعجيب السامعين منه لوقوعه في غير محله، والمراد بالناس كفار العرب، والتعبير عنهم باسم الجنس من غير تعرض لكفرهم الذي هو المدار لتعجبهم كما تعرض له فيما بعد لتحقيق ما فيه من الشركة بين رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبينهم وتعيين مدار التعجيب في زعمهم ثم تبيين خطئهم وإظهار بطلان زعمهم بإيراد الإنكار، واللام متعلقة بمحذوف وقع حالا من عَجَباً كما هو القاعدة في نعت النكرة إذا تقدم عليها، وقيل: متعلقة بعجبا بناء على التوسع المشهور في الظروف، وبعضهم جعلها متعلقة به لا على طريق المفعولية كما في قوله:
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها بل على طريق التبيين كما في هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23] وسقيا لك ومثل ذلك يجوز تقديمه على المصدر. وأنت تعلم أن هذا قول بالتعلق بمقدر في التحقيق، وقيل: إنها متعلقة به لأنه بمعنى المعجب والمصدر إذا كان بمعنى مفعول أو فاعل يجوز تقديم معموله عليه، وجوز أيضا تعلقه بكان وإن كانت ناقصة بناء على جوازه، وعَجَباً خبر كان قدم على اسمها وهو قوله سبحانه: أَنْ أَوْحَيْنا لكونه مصب الإنكار والتعجيب وتشويقا إلى المؤخر ولأن في الاسم ضرب تفصيل ففي تقديمه رعاية للأصل نوع إخلال بتجاوب أطراف النظم الكريم. وقرأ ابن مسعود «عجب» بالرفع على أنه اسم كان وهو نكرة والخبر أَنْ أَوْحَيْنا وهو معرفة لأن أن مع الفعل في تأويل المصدر المضاف إلى المعرفة فهو كقول حسان:
كأن سبيئة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء
وحمله بعضهم على القلب، وفي قبوله مطلقا أو إذا تضمن لطيفة خلاف والمعول عليه اشتراط التضمن وهو غير ظاهر هنا، وحكي عن ابن جني أنه قال: إنما جاز ذلك في البيت من حيث كان عسل وماء جنسين فكأنه قال: يكون مزاجها العسل والماء، ونكرة الجنس تفيد مفاد معرفته، ألا ترى أنك تقول: خرجت فإذا أسد بالباب أي فإذا الأسد بالباب لا فرق بينهما لأنك في الموضعين لا تريد أسدا معينا، ولهذا لم يجز هذا في قولك: كان قائم أخاك وكان جالس أباك لأنه ليس في جالس وقائم معنى الجنسية التي تتلاقى معنى نكرتها ومعرفتها.
ومعنى الآية على هذا كان الوحي للناس هذا الجنس من الفعل وهو التعجب، ولا يخفى أن المصدر المتحصل

(6/58)


هو المصدر المضاف إلى المعرفة كما سمعت فاعتباره محلى بأل الجنسية خلاف الظاهر. وأجاز بعضهم الإخبار عن المعرفة بالنكرة في باب النواسخ خاصة سواء كان هناك نفي أو ما في حكمه أم لا. وابن جني يجوز ذلك إذا كان نفي أو ما في حكمه ولا يجوز إذا لم يكن، وفي الآية قد تقدم الاستفهام الإنكاري على الناسخ وهو في حكم النفي.
واختار غير واحد كون كان تامة. و «عجب» فاعل لها وأَنْ أَوْحَيْنا بتقدير حرف جر متعلق بعجب أي لأن أوحينا أو من أن أوحينا أو هو بدل منه بدل كل من كل أو بدل اشتمال، والإنكار متوجه إلى كونه عجبا لا إلى حدوثه وكون الأبدال في حكم تنحية المبدل منه ليس معناه إهداره بالمرة كما تقرر في موضعه، واقتصر في اللوامح على أن لِلنَّاسِ خبر كان، وتعقب بأن ركيك معنى لأنه يفيد إنكار صدوره من الناس لا مطلقا وفيه ركاكة ظاهرة فافهم، وإنما قيل: للناس لا عند الناس للدلالة على أنهم اتخذوه أعجوبة لهم وفيه من زيادة تقبيح حالهم ما لا يخفى إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أي إلى بشر من جنسهم كقوله تعالى حكاية: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: 94] وقوله سبحانه:
لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [المؤمنون: 24] أو إلى رجل من أفناء رجالهم من حيث المال لا من حيث النسب لأنه صلّى الله عليه وسلم كان من مشاهيرهم فيه وكان منه بمكان لا يدفع فهو كقولهم: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] وفي بعض الآثار أنهم كانوا يقولون: العجب أن الله تعالى لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب والعجب من فرط جهلهم أما في قولهم الأول فحيث لم يعلموا أن بعث الملك إنما يكون عند كون المبعوث إليهم ملائكة كما قال تعالى: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا [الإسراء: 95] وأما عامة البشر فبمعزل عن استحقاق مفاوضة الملائكة لأنها منوطة بالتناسب فبعث الملك إليهم مزاحم للحكمة التي عليها يدور فلك التكوين والتشريع وإنما الذي تقتضيه الحكمة بعث الملك من بينهم إلى الخواص المختصين بالنفوس الزكية المؤيدين بالقوة القدسية المتعلقين بكلا العالمين الروحاني والجسماني ليتأتى لهم الاستفاضة والإفاضة وهذا تابع للاستعداد الأزلي كما لا يخفى، وأما في قولهم الثاني فلأن مناط الاصطفاء للإيحاء إلى شخص هو التقدم في الاتصاف بما علمت والسبق في إحراز الفضائل وحيازة الملكات السنية جبلة واكتسابا، ولا ريب لأحد في أن للنبي صلّى الله عليه وسلم القدح المعلى من ذلك بل له عليه الصلاة والسلام فيه غاية الغايات القاصية ونهاية النهايات النائية يقول رائيه:
وأحسن منك لم تر قط عيني ... ومثلك قط لم تلد النساء

خلقت مبرأ من كل عيب ... كأنك قد خلقت كما تشاء
وكذا يقول:
ولو صورت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع
وأما التقدم في الرياسة الدنيوية والسبق في نيل الحظوظ الدنية فلا دخل له في ذلك قطعا بل له إخلال به غالبا، وما أحسن قول الشافعي رضي الله تعالى عنه من أبيات:
لكن من رزق الحجى حرم الغنى ... ضدان مفترقان أيّ تفرق
وما ذكروه من اليتم أن رجع إلى ما في الآية على التوجيه الثاني فبطلانه بطلانه وإن أرادوا أن أصل اليتم مانع من الإيحاء إليه صلّى الله عليه وسلم فهو أظهر بطلانا وأوضح هذيانا وما ألطف ما قيل إن أنفس الدر يتيمه، وقيل للحسن: لم جعل الله تعالى النبي صلّى الله عليه وسلم يتيما؟ فقال: لئلا يكون لمخلوق عليه منة فإن الله سبحانه هو الذي آواه وأدبه ورباه صلّى الله عليه وسلم هذا والوجه الثاني من الوجهين السابقين في قوله سبحانه: إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ على الوجه الذي ذكرناه هو الذي أراده

(6/59)


صاحب الكشاف ولم يرتضه الجلال السيوطي وزعم أن التحامي عنه أولى، ثم قال: والذي عندي في تفسير ذلك أن المراد إلى مشهور بينهم يعرفون نسبه وجلالته وأمانته وعفته كما قال سبحانه: في آخر السورة التي قبل لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 128] فإن هذا هو محل إنكار العجب ويكون هذا وجه مناسبة وضع هذه السورة بعد تلك واعتلاق أول هذه بآخر تلك، ونظيره وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ [النحل: 113] رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة: 129] إلى آخر ما قال، وتعقب بأنه غير ظاهر لأنه وإن كان أعظم مما ذكر لكن السياق يقتضي بيان كفرهم وتذليلهم وتحقير من أعزه الله تعالى وعظمه والذي يقتضيه سبب النزول تعين الوجه الأول هنا.
فقد أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما بعث الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلم أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم فقالوا: الله تعالى أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد عليه الصلاة والسلام فأنزل سبحانه أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ الآية، وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا [يوسف:
109، النحل: 43، الأنبياء: 7] الآية.
فلما كرر الله سبحانه عليهم الحجج قالوا: وإذا كان بشرا فغير محمد صلّى الله عليه وسلم كان أحق بالرسالة فلولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم فأنزل الله تعالى ردا عليهم أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: 32] الآية ومنه يعلم أن ما حكي في الوجه الثاني سبب لنزول آية أخرى أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ أي أخبرهم بما فيه تخويف لهم مما يترتب على فعل ما لا ينبغي، والمراد به جميع الناس الذين يمكنه عليه الصلاة والسلام تبليغهم ذلك لا ما أريد بالناس أولا وهو النكتة في إيثار الإظهار على الإضمار، وكون الثاني عين الأول عند إعادة المعرفة ليس على الإطلاق، وأَنْ هي المفسرة لمفعول الإيحاء المقدر وقد تقدم عليها ما فيه معنى القول دون حروفه وهو الإيحاء أو هي المخففة من المثقلة على أن اسمها ضمير الشأن، والجملة الأمرية خبرها وفي وقوعها خبر ضمير الشأن دون تأويل وتقدير قول اختلاف، فذهب صاحب الكشف إلى أنه لا يحتاج إلى ذلك لأن المقصود منها التفسير وخالفه غير واحد في ذلك وذهبوا إلى أنه لا فرق بين خبره وخبر غيره.
وقال بعضهم: هي المصدرية الخفيفة في الوضع بناء على أنها توصل بالأمر والنهي والكثير على المنع، وذكر أبو حيان هذا الاحتمال هنا مع أنه نقل عنه في المغني أن مذهبه المنع لما أنه يفوت معنى الأمر إذا سبك بالمصدر.
واعترض بأنه يفوت معنى المضي والحالية والاستقبال المقصود أيضا مع الاتفاق على جواز وصلها بما يدل على ذلك، وأجيب بأنه قد يقال: بأن بينهما فرقا فإن المصدر يدل على الزمان التزاما فقد تنصب عليه قرينة فلا يفوت معناه بالكلية بخلاف الأمر والنهي فإنه لا دلالة للمصدر عليهما أصلا. وقال بعض المدققين: إن المصدر كما يجوز أخذه من جوهر الكلمة يجوز أخذه من الهيئة وما يتبعها فيقدر في هذا ونحوه أوحينا إليه الأمر بالإنذار كما قدر في- أن لا تزني خير- عدم الزنا خير، ولا يخفى أن هذا البحث يجري في أن المخففة من الثقيلة لأنها مصدرية أيضا وإن أقل الاحتمالات مؤنة احتمال التفسير وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا بما أوحيناه إليك وصدقوه أَنَّ لَهُمْ أي بأن لهم قَدَمَ صِدْقٍ أي سابقة ومنزلة رفيعة عِنْدَ رَبِّهِمْ وأصل القدم العضو المخصوص، وأطلقت على السبق مجازا مرسلا لكونها سببه وآلته وأريد من السبق الفضل والشرف والتقدم المعنوي إلى المنازل الرفيعة مجازا أيضا فالمجاز هنا بمرتبتين، وقيل: المراد تقدمهم على غيرهم في دخول الجنة
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة»
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى أدخلها أنا وعلى الأمم حتى تدخلها أمتي» ،
وقيل: تقدمهم في البعث وأصل الصدق ما يكون في الأقوال ويستعمل كما قال الراغب في الأفعال فيقال: صدق في القتال إذا وفاه حقه وكذا

(6/60)


في ضده يقال: كذب فيه فيعبر به عن كل فعل فاضل ظاهرا وباطنا ويضاف إليه كمقعد صدق ومدخل صدق ومخرج صدق إلى غير ذلك، وصرحوا هنا بأن الإضافة من إضافة الموصوف إلى صفته، والأصل قدم صدق أي محققة مقررة، وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق ثم جعل الصدق كأنه صاحبها، ويحتمل أن تكون الإضافة من إضافة المسبب إلى السبب وفي ذلك تنبيه على أن ما نالوه من المنازل الرفيعة كان بسبب صدق القول والنية.
وقال بعضهم: إن هذا التنبيه قد يحصل على الاعتبار الأول لأن الصدق قد تجوز به عن توفية الأمور الفاضلة حقها للزوم الصدق لها حتى كأنها لا توجد بدونه ويكفي مثله في ذلك التنبيه وهذا كما قالوا: أن أبا لهب يشير إلى أنه جهنمي وفيه خفاء كما لا يخفى ويجوز إلى يراد بالقدم المقام بإطلاق الحال وإرادة المحل، وعن الأزهري أن القدم الشيء الذي تقدمه قدامك ليكون عدة لك حين تقدم عليه ويشعر بأنه اسم مفعول وبه صرح بعضهم وقال إنه كالنقض، وقيل: إنه اسم للحسنى من العبد كما أن اليد اسم للحسنى من السيد وفعلوا ذلك للفرق بين العبد والسيد وهو من الغرابة بمكان، ولا يكاد يصح في قول ذي الرمة:
لكم قدم لا ينكر الناس أنها ... مع الحسب العادي طمت على البحر
وقوله:
وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابة ... لهم قدم معروفة في المفاخر
والسبق هو الأسبق إلى الذهن في ذلك وكذا في قول حسان:
لنا القدم العليا إليك وخلفنا ... لأولنا في طاعة الله تابع
وقول الآخر:
صل لذي العرش واتخذ قدما ... تنجيك يوم العثار والزلل
محتمل لسائر المعاني وهل يطلق على سابقة السوء أولا الظاهر الأول وقد نص على ذلك أبو عبيدة والكسائي.
وقال صاحب الانتصاف لم يسموا سابقة السوء قدما إما لكون المجاز لا يطرد، وإما لأنه غلب في العرف على سابقة الخير وفيه نظر، وتفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما له بالأجر وابن مسعود بالعمل لا يخرج عما ذكرنا من معانيه، وكذا تفسير علي كرم الله تعالى وجهه وأبي سعيد الخدري والحسن وزيد بن أسلم له برأس الموجودات محمد صلّى الله عليه وسلم يرجع إلى تفسيره بالخير والسعادة كما قاله جمع، وكونه صلّى الله عليه وسلم خيرا وسعادة للمؤمنين مما لا يمتري فيه مؤمن. أو يقال: إن المراد شفاعته صلّى الله عليه وسلم والأمر في ذلك حينئذ في غاية الظهور وخص التبشير بالمؤمنين لأنه لا يتعلق بالكفار وتبشيرهم أن آمنوا راجع إلى تبشير المؤمنين وهذا بخلاف الإنذار فإنه يتعلق بالمؤمن والكافر ولذلك ذكره سبحانه ولم يذكر جل وعلا المنذر به للتعميم والتهويل، وذكر المبشر به على الوجه الذي ذكره لتقوى رغبة المؤمنين فيما يؤديهم إليه، وقدم الإنذار على التبشير لأن التخلية مقدمة على التخلية وإزالة ما لا ينبغي مقدمة في الرتبة على فعل ما ينبغي.
قالَ الْكافِرُونَ هم المتعجبون وإيرادهم بهذا العنوان على بابه، وترك العاطف لجريانه مجرى البيان للجملة التي دخل عليها همزة الإنكار أو لكونه استئنافا مبنيا على السؤال كأنه قيل: ماذا صنعوا بعد التعجب هل بقوا على التردد والاستبعاد أو قطعوا فيه بشيء؟ فقيل: قال الكافرون على طريقة التأكيد إِنَّ هذا أي ما أوحي إليه صلّى الله عليه وسلم من الكتاب المنطوي على الإنذار والتبشير، وزعم الخازن أن في الكلام حذفا أي أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر وبشر فلما جاءهم بالوحي وأنذرهم قال الكافرون إن هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ أي ظاهر، وقرأ ابن كثير

(6/61)


والكوفيون «لساحر» على أن الإشارة إلى رجل وعنوا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفي قراءة أبي «ما هذا إلا سحر مبين» وأرادوا بالسحر الحاصل بالمصدر، وفي هذا اعتراف بأن ما عاينوه خارج عن طوق البشر نازل من حضرة خلاق القوى والقدر ولكنهم يسمونه بما قالوا تماديا في العناد كما هو شنشنة المكابر اللجوج ونشنشة المفحم المحجوج إِنَّ رَبَّكُمُ استئناف سيق لإظهار بطلان تعجبهم المذكور وما تبعه من تلك المقالة الباطلة غب الإشارة إليه بالإنكار والتعجيب وحقق فيه حقية ما تعجبوا منه وصحة ما أنكروه بالتنبيه الإجمالي على بعض ما يدل عليها من شؤون الخلق والتقدير وأحوال التكوين والتدبير ويرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكير لاعترافهم به من غير نكير كما يعرب عنه غير ما آية في الكتاب الكريم، والتأكيد لمزيد الاعتناء بمضمون الجملة على ما هو الظاهر أي إن ربكم ومالك أمركم الذي تعجبون من أن يرسل إليكم رجلا منكم بالإنذار والتبشير وتعدون ما أوحي إليه من الكتاب سحرا هو اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي أوقات فالمراد من اليوم معناه اللغوي وهو مطلق الوقت. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن تلك الأيام من أيام الآخرة التي يوم منها كألف سنة مما تعدون، وقيل: هي مقدار ستة أيام من أيام الدنيا وهو الأنسب بالمقام لما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة بخلق هذه الأجرام العظيمة في مثل تلك المدة اليسيرة ولأنه تعريف لنا بما نعرفه، ولا يمكن أن يراد باليوم اليوم المعروف لأنه كما قيل عبارة عن كون الشمس فوق الأرض وهو مما لا يتصور تحققه حين لا أرض ولا سماء، واليوم بهذا المعنى يسمى النهار المفرد، ويطلق اليوم أيضا على مجموع ذلك النهار وليلته ومقدار ذلك حينئذ ممكن الإرادة هنا أيضا. وقد صرح بعض الأكابر بأن المراد بالسماوات ما عدا المحدد وأن اليوم هنا عبارة عن مدة دورة تامة له، ولا يخفى أن اليوم اللغوي يتناول هذا أيضا إلا أن إرادته كإرادة مقدار مجموع النهار وليلته يحتاج إلى نقل وليس ذلك أمرا معروفا عند المخاطبين ليستغني عن النقل على أن القول به يدور على كون المحدد متحركا بالحركة الوضعية ويحتاج ذلك إلى النقل أيضا، وكذا يدور على كون المحدد خارجا عن السماوات المخلوقة في الأيام الست لكن ذلك لا يضر إذ الآيات والأخبار شاهدة بالخروج كما لا يخفى، وفي خلقها مدرجا مع القدرة التامة على إبداعها في طرفة عين اعتبار للنظار وحث لهم على التأني في الأحوال والأطوار، وفيه أيضا على ما صرح به بعض المحققين دليل على الاختيار، وأما تخصيص ذلك بالعدد المعين فقد قيل: إنه أمر قد استأثر بعلم ما يستدعيه علام الغيوب جلت قدرته ودقت حكمته. وقيل: إنه سبحانه جعل لكل من خلق مواد السماوات وصورها وربط بعضها ببعض وخلق مادة الأرض وصورتها وربط إحداهما بالأخرى وقتا فلذا صارت الأوقات ستا وفيه تأمل، وسيأتي إن شاء الله تعالى في الدخان تحقيق هذا المطلب على وجه ينكشف به الغبار عن بصائر الناظرين.
وإيثار جمع السماوات لما هو المشهور من الإيذان بأنها أجرام مختلفة الطباع متباينة الآثار والأحكام، وتقديمها على الأرض إما لأنها أعظم منها خلقا أو لأنها جارية مجرى الفاعل والأرض جارية مجرى القابل على ما بين في موضعه، وتقديم الأرض عليها في آية طه لكونها أقرب إلى الحس وأظهر عنده وسيأتي أيضا تحقيقه هناك إن شاء الله تعالى ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ على المعنى الذي أراده سبحانه وكف الكيف مشلولة، وقيل: الاستواء على العرش مجاز عن الملك والسلطان متفرع عن الكناية فيمن يجوز عليه القعود على السرير يقال: استوى فلان على سرير الملك ويراد منه ملك وإن لم يقعد على السرير أصلا، وقيل: إن الاستواء بمعنى الاستيلاء وأرجعوه إلى صفة القدرة. وأنت تعلم أن هذا وأمثاله من المتشابه وللناس فيه مذاهب وما أشرنا إليه هو الذي عليه أكثر سلف الأمة رضي الله تعالى عنهم، وقد صرح بعض أن الاستواء صفة غير الثمانية لا يعلم ما هي إلا من هي له والعجز عن درك الإدراك إدراك، واختار كثير

(6/62)


من الخلف أن المراد بذلك الملك والسلطان وذكره لبيان جلاله ملكه وسلطانه سبحانه بعد بيان عظمة شأنه وسعة قدرته بما مر من خلق هاتيك الأجرام العظيمة، وقوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ استئناف لبيان حكمة استوائه جل وعلا على العرش وتقرير عظمته، والتدبير في اللغة النظر في أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المحمود والمراد به هنا التقدير الجاري على وفق الحكمة والوجه الأتم الأكمل. وأخرج أبو الشيخ وغيره عن مجاهد أن المعنى يقضي الأمر والمراد بالأمر أمر الكائنات علويها وسفليها حتى العرش فأل فيه للعهد أي يقدر أمر ذلك كله على الوجه الفائق، والنمط اللائق حسبما تقتضيه المصلحة وتستدعيه الحكمة ويدخل فيما ذكر ما تعجبوا منه دخولا ظاهرا، وزعم بعضهم أن المعنى يدبر ذلك على ما اقتضته حكمته ويهيىء أسبابه بسبب تحريك العرش وهو فلك الأفلاك عندهم وبحركته يحرك غيره من الأفلاك الممثلة وغيرها لقوة نفسه، وقيل: لأن الكل في جوفه فيلزم من حركته حركته لزوم حركة المظروف لحركة الظرف وهو مبني على أن الظرف مكان طبيعي للمظروف وإلا ففيه نظر. وأنت تعلم أن مثل هذا الزعم على ما فيه مما لا يقبله المحدثون وسلف الأمة إذ لا يشهد له الكتاب ولا السنة وحينئذ فلا يفتى به وإن حكم القاضي، وجوز في الجملة أن تكون في محل النصب على أنها حال من ضمير اسْتَوى وأن تكون في محل الرفع على أنها خبر ثان لأن، وعلى كل حال فإيثار صيغة المضارع للدلالة على تجدد التدبير واستمراره منه تعالى، وقوله سبحانه: ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ بيان لاستبداده تعالى في التدبير والتقدير ونفي للشفاعة على أبلغ وجه فإن نفي جميع أفراد الشفيع بمن الاستغراقية يستلزم نفي الشفاعة على أتم الوجوه، فلا حاجة إلى أن يقال: التقدير ما من شفاعة لشفيع، وفي ذلك أيضا تقرير لعظمته سبحانه إثر تقرير، والاستثناء مفرغ من أعم الأوقات أي ما من شفيع يشفع لأحد في وقت من الأوقات إلا بعد إذنه تعالى المبني على الحكمة الباهرة وذلك عند كون الشفيع من المصطفين الأخيار والمشفوع له ممن يليق بالشفاعة. وذهب القاضي إلى أن فيه ردا على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله تعالى.
وتعقب بأنه غير تام لأنهم لما ادعوا شفاعتها فقد يدعون الإذن لها فكيف يتم هذا الرد ولا دلالة في الآية على أنهم لا يؤذن لهم، وما قيل: إنها دعوى غير مسلمة واحتمالها غير مجد لا فائدة فيه إلا أن يقال: مراده أن الأصنام لا تدرك ولا تنطق فكونها ليس من شأنها أن يؤذن لها بديهي، وقوله عز شأنه: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ استئناف لزيادة التقرير والمبالغة في التذكير ولتفريع الأمر بالعبادة بقوله سبحانه: فَاعْبُدُوهُ والإشارة إلى الذات الموصوف بتلك الصفات المقتضية لاستحقاق ما أخبر به عنه وهو الله وربكم فإنهما خبران لذلكم، وحيث كان وجه ثبوت ذلك له ما ذكر مما لا يوجد في غيره اقتضى انحصاره فيه وأفاد أن لا رب غيره ولا معبود سواه، ويجوز أن يكون الاسم الجليل نعتا لاسم الإشارة ورَبَّكُمُ خبره وأن يكون هو الخبر ورَبَّكُمُ بيان له أو بدل منه ولا يخلو الكلام من إفادة الانحصار، وإذا فرع الأمر المذكور على ذلك أفاد الأمر بعبادته سبحانه وحده، أي فاعبدوه سبحانه من غير أن تشركوا به شيئا من ملك أو نبي فضلا عن جماد لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع، وليس الداعي لهذا الحمل أن أصل العبادة ثابت لهم فيحمل الأمر بها على ذلك ليفيد لما قيل: من أن الخطاب للمشركين ولا عبادة مع الشرك أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي أتعلمون أن الأمر كما فصل فلا تتذكرون ذلك حتى تقفوا على فساد ما أنتم عليه فترتدعوا عنه وتعبدوا الله تعالى وحده، وإيثار تَذَكَّرُونَ على تفكرون للإيذان بظهور الأمر وأنه كالمعلوم الذي لا يفتقر إلى فكر تام ونظر كامل بل إلى مجرد التفات وإخطار بالبال، وقوله سبحانه: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً كالتعليل لوجوب العبادة، والجار والمجرور خبر مقدم ومَرْجِعُكُمْ مبتدأ مؤخر وهو مصدر ميمي لا اسم مكان خلافا لمن وهم فيه، وجَمِيعاً

(6/63)


حال من الضمير المجرور لكونه فاعلا في المعنى أي إليه تعالى رجوعكم مجتمعين لا إلى غيره سبحانه بالبعث وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة لأنها وعد منه تعالى بالبعث وحيث كانت لا تحتمل غير الوعد كان ذلك من أفراد المصدر المؤكد لنفسه عندهم كما في قولك: له على ألف عرفا، ويجوز أن يكون نصبا على المصدرية لفعل محذوف أي وعد الله وعدا، وأيا ما كان فهو دليل على أن المراد بالمرجوع الرجوع بالبعث لأن ما بالموت بمعزل عن الوعد كما أنه بمعزل عن الاجتماع فما وقع في بعض نسخ القاضي بالموت أو النشور ليس على ما ينبغي.
وقرىء «وعد الله» بصيغة الفعل ورفع الاسم الجليل على الفاعلية حَقًّا مصدر مؤكد لما دل عليه الأول وهو من قسم المؤكد لغيره لأن الأول ليس نصا فيه فإن الوعد يحتمل الحقية والتخلف. وقيل: إنه منصوب بوعد على تقدير- في- وتشبيهه بالظرف كقوله:
أفي الحق إني هائم بك مغرم والأول أظهر.
وقوله سبحانه: إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ كالتعليل لما أفاده إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ فإن غاية البدء والإعادة هو الجزاء بما يليق. وقرأ أبو جعفر والأعمش «أنه» بفتح الهمزة على تقدير لأنه، وجوز أن يكون منصوبا بمثل ما نصب وَعْدَ أي وعد الله سبحانه بدء الخلق ثم إعادته أي إعادته بعد بدئه، ويكون الوعد واقعا على المجموع لكن باعتبار الجزء الأخير لأن البدء ليس موعودا، وأن يكون مرفوعا بمثل ما نصب حقا أي حق بدء الخلق ثم إعادته ويكون نظير قول الحماسي:
أحقا عباد الله أن لست رائيا ... رفاعة طول الدهر إلا توهما
وعن المرزوقي أنه خرجه على النصب على الظرفية وهو إما خبر مقدم أو ظرف معتمد وزعم أن ذلك مذهب سيبويه، وجوز أن يكون النصب بوعد الله على أنه مفعول له، والرفع بحقا على أنه فاعل له وظاهر كلام الكشاف يدل على أن الفعلين العاملين في المصدرين المذكورين هما اللذان يعملان فيما ذكر لا فعلان آخران مثلهما وحينئذ يفوت أمر التأكيد الذي ذكرناه لأن فاعل العامل بالمصدر المؤكد لا بد أن يكون عائدا على ما تقدمه مما أكده، وقرىء «حق أنه يبدأ الخلق» وهو كقولك: حق أن زيدا منطلق. وقرئ «يبدىء» من أبدأ، ولعل المراد من الخلق نحو المكلفين لا ما يعم ذلك والجمادات، ويؤيد ذلك ما أخرجه غير واحد عن مجاهد أن معنى الآية يحيي الخلق ثم يميته لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ أي بالعدل وهو حال من فاعل يجزي أي ملتبسا بالعدل أو متعلق بيجزي أي ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجورهم، وإنما أجمل ذلك إيذانا بأنه لا يفي به الحصر، ويرشح ذلك جعل ذاته الكريمة هي المجازية أو بقسطهم وعدلهم في أمورهم أو بإيمانهم ورجح هذا بأنه أوفق بقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ فإن معناه ويجزي الذين كفروا بشراب من ماء حار وقد انتهى حره وعذاب أليم بسبب كفرهم فيظهر التقابل بين سببي جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين، مع أنه لا وجه لتخصيص العدل بجزاء المؤمنين بل جزاء الآخرين أولى به كما لا يخفى، وتكرير الإسناد بجعل الجملة الظرفية خبرا للموصول لتقوية الحكم، والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على مواظبتهم على الكفر، وتغيير النظم الكريم للمبالغة في استحقاقهم العقاب بجعله حقا مقررا لهم والإيذان بأن التعذيب بمعزل عن الانتظام في سلك العلة الغائية للإعادة بناء على تعلق ليجزي بها أولها للبدء بناء على تعلقه بهما على التنازع، وإنما المنتظم في ذلك السلك هو الإثابة فهي المقصودة بالذات والعقاب واقع بالعرض هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً تنبيه على الاستدلال على وجوده تعالى

(6/64)


ووحدته تعالى وعلمه وقدرته وحكمته بآثار صنيعه في النيرين بعد التنبيه على الاستدلال بما مر وبيان لبعض أفراد التدبير الذي أشير إليه إشارة إجمالية وإرشاد إلى أنه سبحانه حين دبر أمورهم المتعلقة بمعاشهم هذا التدبر البديع فلأن يدبر مصالحهم المتعلقة بمعادهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب أولى وأحرى، أو جعل إما بمعنى أنشأ وأبدع فضياء حال من مفعوله وإما بمعنى صير فهو مفعوله الثاني، والكلام على حد- ضيق فم القربة- إذا لم تكن الشمس خالية عن تلك الحالة وهي على ما قيل مأخوذة من شمسة القلادة للخرزة الكبيرة وسطها وسميت بذلك لأنها أعظم الكواكب كما تدل عليه الآثار ويشهد له الحس وإليه ذهب جمهور أهل الهيئة، ومنهم من قال: سميت بذلك لأنها في الفلك الأوسط بين أفلاك العلوية وبين أفلاك الثلاثة الأخر وهو أمر ظني لم تشهد له الأخبار النبوية كما ستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى.
والضياء مصدر كقيام، وقال أبو علي في الحجة: كونه جمعا كحوض وحياض وسوط وسياط أقيس من كونه مصدرا.
وتعقب بأن أفراد النور فيما بعد يرجح الأول، وياؤه منقلبة عن واو لانكسار ما قبلها. وأصل الكلام جعل الشمس ذات ضياء.
ويجوز أن يجعل المصدر بمعنى اسم الفاعل أي مضيئة وأن يبقى على ظاهره من غير مضاف فيفيد المبالغة بجعلها نفس الضياء. وقرأ ابن كثير «ضئاء» بهمزتين بينهما ألف. والوجه فيه كما قال أبو البقاء: أن يكون آخر الياء وقدم الهمزة فلما وقعت الياء طرفا بعد ألف زائدة قلبت همزة عند قوم وعند آخرين قلبت ألفا ثم قلبت الألف همزة لئلا يجتمع ألفان وَالْقَمَرَ نُوراً أي ذا نور أو منيرا أو نفس النور على حد ما تقدم آنفا والنور قيل أعم من الضوء بناء على أنه ما قوي من النور والنور شامل للقوي والضعيف، والمقصود من قوله سبحانه: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: 35] تشبيه هداه الذي نصبه للناس بالنور الموجود في الليل أثناء الظلام والمعنى أنه تعالى جعل هداه كالنور في الظلام فيهدى قوم ويضل آخرون ولو جعله كالضياء الذي لا يبقى معه ظلام لم يضل أحد. وهو مناف للحكمة وفيه نظر، وقيل: هما متباينان فما كان بالذات فهو ضياء وما كان بالعرض فهو نور، ولكون الشمس نيرة بنفسها نسب إليها الضياء ولكون نور القمر مستفادا منها نسب إليه النور. وتعقبه العلامة الثاني بأن ذلك قول الحكماء وليس من اللغة في شيء فإنه شاع نور الشمس ونور النار ونحن قد بسطنا الكلام على ذلك فيما تقدم وفي كتابنا الطراز المذهب وأتينا بما فيه هدى للناظرين.
بقي أن حديث الاستفادة المذكورة سواء كانت على سبيل الانعكاس من غير أن يصير جوهر القمر مستنيرا كما في المرآة أو بأن يستنير جوهره على ما هو الأشبه عند الإمام قد ذكرها كثير من الناس حتى القاضي في تفسيره وهو مما لم يجىء من حديث من عرج إلى السماء صلّى الله عليه وسلم وإنما جاء عن الفلاسفة. وقد زعموا أن الأفلاك الكلية تسعة أعلاها فلك الأفلاك ثم فلك الثوابت ثم فلك كيوان ثم فلك برجيس ثم فلك بهرام ثم فلك الشمس ثم فلك الزهرة ثم فلك الكاتب ثم فلك القمر، وزعم صاحب التحفة أن فلك الشمس تحت فلك الزهرة وما عليه الجمهور هو الأول، واستدل كثير منهم على هذا الترتيب مما يبقى معه الاشتباه بين الشمس وبين الزهرة والكاتب كالكسف والانكساف واختلاف المنظر الذي يتوصل إلى معرفته بذات الشعبتين لأن الأول لا يتصور هناك لأن الزهرة والكاتب يحترقان عند الاقتران في معظم المعمورة والثاني أيضا مما لا يستطاع علمه بتلك الآلة لأنها تنصب في سطح نصف النهار وهذان الكوكبان لا يظهران هناك لكونهما حوالى الشمس بأقل من برجين فإذا بلغا نصف النهار كانت الشمس فوق الأرض شرقية أو غربية فلا يريان أصلا، وجعل الشمس في الفلك الأوسط لما في ذلك من حسن الترتيب كأنها شمسة القلادة أو لأنها بمنزلة الملك في العالم فكما ينبغي للملك أن يكون في وسط العسكر ينبغي لها أن تكون في وسط كرات

(6/65)


العالم أمر إقناعي بل هو من قبيل التمسك بجبال القمر، ومثل ذلك تمسكهم في عدم الزيادة على هذه الأفلاك بأنه لا فضل في الفلكيات مع أنه يلزم عليه أن يكون ثخن الفلك الأعظم أقل ما يمكن أن يكون للأجسام من الثخانة إذ لا كوكب فيه حتى يكون ثخنه مساويا لقطره فالزائد على أقل ما يمكن فضل. وقد بين في رسالة الإبعاد والأجرام أنه بلغ الغاية في الثخن. وقد قدمنا لك ذلك وحينئذ يمكن أن يكون لكل من الثوابت فلك على حدة وأن تكون تلك الأفلاك متوافقة في حركاتها جهة وقطبا ومنطقة وسرعة بل لو قيل بتخالف بعضها لم يكن هناك دليل ينفيه لأن المرصود منها أقل قليل فيمكن أن يكون بعض ما لم يرصد متخالفا على أن من الناس من أثبت كرة الثوابت وتحت الفلك الأعظم واستدل على ذلك بما استدل، ومن علم أن أرباب الأرصاد منذ زمان يسير وجدوا كوكبا سيارا أبطأ سيرا من زحل وسموه هرشلا وقد رصده لالنت فوجده يقطع البرج في ست سنين شمسية وأحد عشر شهرا وسبعة وعشرين يوما وهو يوم تحريرنا هذا المبحث وهو اليوم الرابع والعشرون من جمادى الآخرة سنة الألف والمائتين والست والخمسين حيث الشمس في السنبلة قد قطع من الحوت درجة واحدة وثلاث عشرة دقيقة راجعا لا يبقى له اعتماد على ما قاله المتقدمون، ويجوز أمثال ما ظفر به هؤلاء المتأخرون، وأيضا من الجائز أن تكون الأفلاك ثمانية لا مكان كون جميع الثوابت مركوزة في محدب ممثل زحل أي في متممه الحاوي على أنه يتحرك بالحركة البطيئة والفلك الثامن يتحرك بالحركة السريعة وحينئذ تكون دائرة البروج المارة بأوائل البروج منتقلة بحركة الثامن غير منتقلة بحركة الممثل ليحصل انتقال الثوابت بحركة الممثل من برج إلى برج كما هو الواقع. وقد صرح البرجندي أن القدماء لم يثبتوا الفلك الأعظم وإنما أثبته المتأخرون، وأيضا يجوز أن تكون سبعة بأن يفرض الثوابت ودائرة البروج على محدب ممثل زحل ويكون هناك نفسان تتصل إحداهما بمجموع السبعة وتحركها إحدى الحركتين الأوليين والأخرى بالكرة السابعة وتحركها الأخرى ولكن بشرط أن تفرض دوائر البروج متحركة بالسريعة دون البطيئة كتحركها متوهمة على سطوح الممثلات بالسريعة دون البطيئة لينقل الثوابت بالبطيئة من برج إلى برج كما هو الواقع ونحن من وراء المنع فيما يرد على هذا الاحتمال، وأيضا ذكر الإمام أنه لم لا يجوز أن تكون الثوابت تحت فلك القمر فتكون تحت كرات السيارة لا فوقها.
وما يقال: من أنا نرى أن هذه السيارة تكسف الثوابت والكاسف تحت المكسوف لا محالة مدفوع بأن هذه السيارات إنما تكسف الثوابت القريبة من المنطقة دون القريبة من القطبين فلم لا يجوز أن يقال: هذه الثوابت القريبة من المنطقة مركوزة في الفلك الثامن والقريبة من القطبين مركوزة في كرة أخرى تحت كرة القمر. على أنه لم لا يجوز أن يقال:
الكواكب تتحرك بأنفسها من غير أن تكون مركوزة في جسم آخر ودون إثبات الامتناع خرط القتاد.
وذكروا في استفادة نور القمر من ضوء الشمس أنه من الحدسيات لاختلاف أشكاله بحسب قربه وبعده منها وذلك كما قال ابن الهيثم لا يفيد الجزم بالاستفادة لاحتمال أن يكون القمر كرة نصفها مضيء ونصفها مظلم ويتحرك على نفسه فيرى هلالا ثم بدرا ثم ينمحق وهكذا دائما، ومقصوده أنه لا بد من ضم شيء آخر إلى اختلاف الأشكال حسب القرب والبعد ليدل على المدعى وهو حصول الخسوف عند توسط الأرض بينه وبين الشمس. وبعض المحققين كصاحب حكمة العين وصاحب المواقف نقلوا ما نقلوا عن ابن الهيثم ولم يقفوا على مقصوده منه فقالوا:
إنه ضعيف وإلا لما انخسف القمر في شيء من الاستقبالات أصلا وذلك كما قال العامل عجيب منهم، وأنت تعلم أن لا جزم أيضا وأن ضم ما ضم لجواز أن يكون سبب آخر لاختلاف تلك الأشكال النورية لكنا لا نعلمه كأن يكون كوكب كمد تحت فلك القمر ينخسف به في بعض استقبالاته.
وإن طعن في ذلك بأنه لو كان لرؤى. قلنا: لم لا يجوز أن يكون ذلك الاختلاف والخسوف من آثار إرادة

(6/66)


الفاعل المختار من دون توسط القرب والبعد من الشمس وحيلولة الأرض بينها وبينه بل ليس هناك إلا توسط الكاف والنون وهو كاف عند من سلمت عينه من الغين. وللمتشرعين من المحدثين وكذا لسادتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم كلمات شهيرة في هذا الشأن، ولعلك قد وقفت عليها وإلا فستقف بعد إن شاء الله تعالى.
وقد استندوا فيما يقولون إلى أخبار نبوية وأرصاد قلبية وغالب الأخبار في ذلك لم تبلغ درجة الصحيح وما بلغ منها آحاد ومع هذا قابل للتأويل بما لا ينافي مذهب الفلاسفة والحق أنه لا جزم بما يقولونه في ترتيب الأجرام العلوية وما يلتحق بذلك وأن القول به مما لا يضر بالدين إلا إذا صادم ما علم مجيئه عن النبي صلّى الله عليه وسلم «هذا» وسمي القمر قمرا لبياضه كما قال الجوهري، واعتبر هو وغيره كونه قمرا بعد ثلاث.
وَقَدَّرَهُ أي قدر له وهيأ مَنازِلَ أو قدر مسيره في منازل فمنازل على الأول مفعول به وعلى الثاني نصب على الظرفية، وجوز أن يكون قدر بمعنى جعل المتعدي لواحد ومَنازِلَ حال من مفعوله أي جعله وخلقه متنقلا وإن يكون بمعنى جعل المتعدي لإثنين أي صيره ذا منازل، وأيّا ما كان فالضمير للقمر وتخصيصه بهذا التقدير لسرعة سيره بالنسبة إلى الشمس ولأن منازله معلومة محسوسة ولكونه عمدة في تواريخ العرب ولأن أحكام الشرع منوطة به في الأكثر، وجوز أن يكون الضمير له وللشمس بتأويل كل منهما، والمنازل ثمانية وعشرون وهي الشرطان والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة والعواء. والسماك الأعزل والغفرة والزباني والإكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية وفرغ الدلو المقدم والفرغ المؤخر وبطن الحوت، وهي مقسمة على البروج الاثني عشر المشهورة فيكون لكل برج منزلان وثلث، والبرج عندهم ثلاثون درجة حاصلة من قسمة ثلاثمائة وستين أجزاء دائرة البروج على اثني عشر، والدرجة عندهم منقسمة بستين دقيقة وهي منقسمة بستين ثانية وهي منقسمة بستين ثالثة وهكذا إلى الروابع والخوامس والسوادس وغيرها، ويقطع القمر بحركته الخاصة في كل يوم بليلته ثلاث عشرة درجة وثلاث دقائق وثلاثا وخمسين ثانية وستا وخمسين ثالثة، وتسمية ما ذكرنا منازل مجاز لأنه عبارة عن كواكب مخصوصة من الثوابت قريبة من المنطقة، والمنزلة الحقيقية للقمر الفراغ الذي يشغله جرم القمر على أحد الأقوال في المكان، فمعنى نزول القمر في هاتيك المنازل مسامتته إياها، وكذا تعتبر المسامتة في نزوله في البروج لأنها مفروضة أولا في الفلك الأعظم. وأما تسمية نحو الحمل والثورة والجوزة بذلك فباعتبار المسامتة أيضا.
وكان أول المنازل الشرطين ويقال له النطح وهو لأول الحمل ثم تحركت حتى صار أولها على ما حرره المحققون من المتأخرين الفرغ المؤخر ولا يثبت على ذلك لأن للثوابت حركة على التوالي على الصحيح وإن كانت بطيئة وهي حركة فلكها، ومثبتو ذلك اختلفوا في مقدار المدة التي يقطع بها جزءا واحدا من درجات منطقته فقيل هي ست وستون ستة شمسية أو ثمان وستون سنة قمرية، وذهب ابن الأعلم إلى أنها سبعون سنة شمسية وطابقه الرصد الجديد الذي تولاه نصير الطوسي بمراغة، وزعم محيي الدين أحد أصحابه أنه تولى رصد عدة من الثوابت كعين الثور وقلب العقرب بذلك الرصد فوجدها تتحرك في كل ست وستين سنة شمسية درجة واحدة، وادعى بطليموس أنه وجد الثوابت القريبة إلى المنطقة متحركة في كل مائة سنة شمسية درجة والله تعالى أعلم بحقائق الأحوال وهو المتصرف في ملكه وملكوته حسبما يشاء لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ التي يتعلق بها غرض علمي لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية وَالْحِسابَ أي ولتعلموا الحساب بالأوقات من الأشهر والأيام وغير ذلك مما نيط به شيء من المصالح المذكورة، واللام على ما يفهم من أمالي عز الدين بن عبد السلام متعلقة بقدر. واستشكل هو ذلك بأن علم العدد

(6/67)


والحساب لا يفتقر لكون القمر مقدرا بالمنازل بل طلوعه وغروبه كاف. وذكر بعضهم أن حكمة ذلك صلاح الثمار بوقوع شعاع القمر عليها وقوعا تدريجيا، وكونه أدل على وجوده سبحانه وتعالى إذ كثرة اختلاف أحوال الممكن وزيادة تفاوت أوصافه ادعى إلى احتياجه إلى صانع حكيم واجب بالذات وغير ذلك مما يعرفه الواقفون على الاسرار وأجاب مولانا سري الدين بأن المراد من الحساب حساب الأوقات بمعرفة الماضي من الشهر والباقي منه وكذا من الليل ثم قال: وهذا إذا علقت اللام- بقدره منازل- فإن علقته بجعل الشمس والقمر لم يرد السؤال.
ولعل الأولى على هذا أن يحمل السِّنِينَ على ما يعم السنين الشمسية والقمرية وإن كان المعتبر في التاريخ العربي الإسلامي السنة القمرية، والتفاوت بين السنتين عشرة أيام وإحدى عشرة ساعة ودقيقة واحدة، فإن السنة الأولى عبارة عن ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وخمس ساعات وتسع وأربعين دقيقة على مقتضى الرصد الأبلخاني والسنة الثانية عبارة عن ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما وثماني ساعات وثمان وأربعين دقيقة، وينقسم كل منهما إلى بسيطة وكبيسة وبيان ذلك في محله، وتخصيص العدد بالسنين والحساب بالأوقات لما أنه لم يعتبر في السنين المعدودة معنى مغاير لمراتب الأعداد كما اعتبر في الأوقات المحسوبة، وتحقيقه أن الحساب إحصاء ما له كمية انفصالية بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها عدد معين له اسم خاص وحكم مستقل كالسنة المتحصلة من اثني عشر شهرا قد تحصل كل من ذلك من أيام معلومة قد تحصل كل منها من ساعات كذلك والعد مجرد إحصائه بتكرير أمثاله من غير اعتبار أن يتحصل بذلك شيء كذلك، ولما لم يعتبر في السنين المعدودة تحصيل حد معين له اسم خاص غير أسامي مراتب الأعداد وحكم مستقل أضيف إليها العدد، وتحصل مراتب الأعداد من العشرات والمئات والألوف اعتباري لا يجدي في تحصيل المعدود نفعا، وحيث اعتبر في الأوقات المحسوبة تحصيل ما ذكر من المراتب التي لها أسام خاصة وأحكام مستقلة علق بها الحساب المنبئ عن ذلك، والسنة من حيث تحققها في نفسها مما يتعلق به الحساب وإنما الذي يتعلق به العد طائفة منها، وتعلقه في ضمن ذلك بكل واحدة من تلك الطائفة ليس من تلك الحيثية المذكورة- أعني حيثية تحصلها من عدة أشهر- قد تحصل كل واحد منها من عدة أيام قد حصل كل منها من عدة ساعات فإن ذلك وظيفة الحساب بل من حيث إنها فرد من تلك الطائفة المعدودة من غير أن يعتبر معها شيء غير ذلك.
وتقديم العدد على الحساب مع أن الترتيب بين متعلقيهما وجودا وعلما على العكس لأن العلم المتعلق بعدد السنين له علم إجمالي بما تعلق به الحساب تفصيلا وإن لم تتحد الجهة أو لأن العدد من حيث أنه لم يعتبر فيه تحصيل أمر آخر حسبما حقق آنفا نازل من الحساب الذي اعتبر فيه ذلك منزلة البسيط من المركب قاله شيخ الإسلام.
ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ أي ما ذكر من الشمس والقمر على ما حكى سبحانه من الأحوال إِلَّا بِالْحَقِّ استثناء من أعم أحوال الفاعل والمفعول، والباء للملابسة أي ما خلق ذلك ملتبسا بشيء من الأشياء إلا ملتبسا بالحق مراعيا فيه الحكمة والمصلحة أو مراعي فيه ذلك فالمراد بالحق هنا خلاف الباطل والعبث يُفَصِّلُ الْآياتِ أي الآيات التكوينية المذكورة أو الأعم منها ويدخل المذكور دخولا أوليا أو نفصل الآيات التنزيلية المنبهة على ذلك.
وقرىء «نفصل» بنون العظمة وفيه التفات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الحكمة في إبداع الكائنات فيستدلون بذلك على شؤون مبدعها جل وعلا أو يعلمون ما في تضاعيف الآيات المنزلة فيؤمنون بها.
وتخصيص التفصيل بهم على الاحتمالين لأنهم المنتفعون به، والمراد لقوم عقلاء من ذوي العلم فيعم من ذكرنا وغيرهم إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ تنبيه آخر إجمالي على ما ذكر أي في تعاقبهما وكون كل منهما خلفة

(6/68)


للآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها التابعين عند أكثر الفلاسفة لحركة الفلك الأعظم حول مركزه على خلاف التوالي فإنه يلزمها حركة سائر الأفلاك وما فيها من الكواكب على ما تقدم مع سكون الأرض وهذا في أكثر المواضع وأما في عرض تسعين فلا يطلع شيء ولا يغرب بتلك الحركة أصلا بل بحركات أخرى وكذا فيما يقرب منه قد يقع طلوع وغروب بغير ذلك وتسمى تلك الحركة الحركة اليومية وجعلها بعضهم بتمامها للأرض وجعل آخرون بعضها للأرض وبعضها للفلك الأعظم، والمشهور عند كثير من المحدثين أن الشمس نفسها تجري مسخرة بإذن الله تعالى في بحر مكفوف فتطلع وتغرب حيث شاء الله تعالى ولا حركة للسماء وإلى مثل ذلك ذهب الشيخ الأكبر قدس سره.
ويجوز أن يراد باختلاف الليل والنهار تفاوتهما في أنفسهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر وانتقاصه بازدياده وهو ناشىء عندهم من اختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قربا وبعدا بسبب حركتها الثانية التي بها تختلف الأزمنة، وتنقسم السنة إلى فصول وقد يتساوى الليل والنهار في بعض الأزمان عند بعض وذلك إنما يكون إذا اتفق حلول الشمس نقطة الاعتدال عند الطلوع أو الغروب وكان الأوج في أحد الاعتدالين فإنه إذا تحقق الأول كان قوس النهار كقوس الليل وإذا تحقق الثاني كان الأمر بالعكس وهذا نادر جدا، ولا يمكن على ما ذهب إليه بطليموس من عدم حركة الأوج فلا يتساوى الليل والنهار عنده أصلا، وقد يراد اختلافهما بحسب الأمكنة أما في الطول والقصر فإن البلاد القريبة من القطب الشمالي أيامها الصيفية أطول ولياليها الصيفية أقصر من أيام البلاد البعيدة منه ولياليها، وأما في أنفسهما فإن كرية الأرض على ما قالوا تقتضي أن تكون بعض الأوقات في بعض الأماكن ليلا وفي مقابله نهارا.
وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من المصنوعات المتقنة والآثار المحكمة لَآياتٍ عظيمة كثيرة دالة على وجود الصانع تعالى ووحدته وكمال قدرته وبالغ حكمته التي من جملة مقتضياته ما أنكروا من إرسال الرسول وإنزال الكتاب وتبيين طرائق الهدى وتعيين مهاوي الردى لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ الله تعالى ويحذرون من العاقبة، وخصصهم سبحانه بالذكر لأن التقوى هي الداعية للنظر والتدبر إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا بيان لمآل أمر من كفر بالبعث المشار إليه فيما سبق، وأعرض عن البينات الدالة عليه، والمراد بلقائه تعالى شأنه إما الرجوع إليه بالبعث أو لقاء الحساب، وأيا ما كان ففيه مع الالتفات إلى ضمير الجلالة من تهويل الأمر ما لا يخفى.
والرجاء يطلق على توقع الخير كالأمل وعلى الخوف وتوقع الشر وعلى مطلق التوقع وهو في الأول حقيقة وفي الأخيرين مجاز، واختار بعض المحققين المعنى المجازي الأخير المنتظم للأمل والخوف، فالمعنى لا يتوقعون الرجوع إلينا أو لقاء حسابنا المؤدي إلى حسن الثواب أو إلى سوء العقاب فلا يأملون الأول ولا يخافون الثاني ويشير إلى عدم أملهم قوله سبحانه: وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا فإنه منبىء عن إيثار الأدنى الخسيس على الأعلى النفيس وإلى عدم خوفهم قوله عز وجل: وَاطْمَأَنُّوا بِها فإن المراد أنهم سكنوا فيها سكون من لا براح له آمنين من اعتراء المزعجات غير محظرين ببالهم ما يسوءهم من العذاب، وجوز أن يراد بالرجاء المعنى الأول والكلام على حذف مضاف أي لا يؤملون حسن لقائنا بالبعث والإحياء بالحياة الأبدية ورضوا بدلا منها ومما فيها من الكرامات السنية بالحياة الدنيا الفانية الدنية وسكنوا إليها مكبين عليها قاصرين مجامع هممهم على لذائذها وزخارفها من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم، وجوز أن يراد به المعنى الثاني والكلام على حذف المضاف أيضا لا يخافون سوء لقائنا الذي يجب أن يخاف، وتعقب بأن كلمة الرضا بالحياة الدنيا تأبى ذلك فإنها منبئة عما تقدم من ترك الأعلى وأخذ الأدنى، وقال الإمام: إن حمل الرجاء على الخوف بعيد لأن تفسير الضد بالضد غير جائز ولا يخفى أنه في حيز المنع فقد ورد ذلك في استعمالهم وذكره الراغب والإمام المرزوقي وأنشدوا شاهدا له قول أبي ذؤيب:

(6/69)


إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وحالفها في بيت نوب عوامل
ووجه ذلك الراغب بأن الرجاء والخوف يتلازمان، وأما الاعتراض على الإمام بأن استعمال الضد في الضد جائز في الاستعارة التهكمية فليس بشيء لأن مقصوده رحمه الله تعالى أن ذلك غير جائز في غير الاستعارة المذكورة كما يشعر به قوله تفسير دون استعارة ثم إنه لا يجوز اعتبار هذه الاستعارة هنا لأن التهكم غير مراد كما لا يخفى، ويعلم مما ذكرنا في تفسير الآية أن الباء للظرفية، وجوز أن تكون للسببية على معنى سكنوا بسبب زينتها وزخارفها، واختيار صيغة الماضي في الخصلتين الأخيرتين للدلالة على التحقق والتقرر كما أن اختيار صيغة المستقبل في الأولى للإيذان بالاستمرار وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا المفصلة في صحائف الأكوان حسبما أشير إلى بعضها أو آياتنا المنزلة المنبهة على الاستدلال بها المتفقة معها في الدلالة على حقية ما لا يرجونه من اللقاء المترتب على البعث وعلى بطلان ما رضوا به واطمأنوا فيه من الحياة الدنيا غافِلُونَ لا يتفكرون فيها أصلا وإن نبهوا بما نبهوا لانهماكهم بما يصدهم عنها من الأحوال المعدودة، وتكرير الموصول للتوصل به إلى هذه الصلة المؤذنة بدوام غفلتهم واستمرارها والعطف لمغايرة الوصف المذكور لما قبله من الأوصاف وفي ذلك تنبيه على أنهم جامعون لهذا وتلك وأن كل واحد منهما متميز مستقل صالح لأن يكون منشأ للذم والوعيد، والقول بأن ذلك لتغاير الوصفين والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأسا والانهماك في الشهوات بحيث لا يخطر ببالهم الآخرة أصلا ليس بشيء إذ يفهم من ظاهره أن كلا منهما غير موجب للوعيد بالاستقلال بل الموجب له المجموع وهو كما ترى، وكونه لتغاير الفريقين بأن يراد من الأولين من أنكر البعث ولم يرد إلا الحياة الدنيا وبالآخرين من ألهاه حب العاجل عن التأمل في الآجل والإعداد له كأهل الكتاب الذين ألهاهم حب الدنيا والرياسة عن الإيمان والاستعداد للآخرة بعيد غاية البعد في هذا المقام أُولئِكَ أي الموصوفون بما ذكر مَأْواهُمُ أي مسكنهم ومقرهم الذي لا براح لهم منه النَّارُ لا ما اطمأنوا به من الحياة الدنيا ونعيمها بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الأعمال القلبية المعدودة وما يستتبعه من المعاصي أو يكسبهم ذلك، والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على الاستمرار، والباء متعلقة بما دل عليه الجملة الأخيرة الواقعة خبرا عن اسم الإشارة وقدره أبو البقاء جوزوا، وجملة أُولئِكَ إلخ خبر إن في قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ إلخ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بما يجب الإيمان به ويندرج فيه الإيمان بالآيات التي غفل عنها الغافلون اندراجا أوليا وقد يخص المتعلق بذلك نظرا للمقام وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة في أنفسها اللائقة بالإيمان وترك ذكر الموصوف لجريان الصفة مجرى الأسماء يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ أي يهديهم
بسبب إيمانهم إلى مأواهم ومقصدهم وهي الجنة وإنما لم تذكر تعويلا على ظهورها وانسياق النفس إليها لا سيما مع ملاحظة ما سبق من بيان مأوى الكفرة وما أداهم إليه من الأعمال السيئة ومشاهدة ما لحق من التلويح والتصريح.
والمراد بهذا الإيمان الذي جعل سببا لما ذكر الإيمان الخاص المشفوع بالأعمال الصالحة لا المجرد عنها ولا ما هو الأعم ولا ينبغي أن ينتطح في ذلك كبشان، والآية عليه بمعزل عن الدلالة على خلاف ما عليه الجماعة من أن الإيمان الخالي عن العمل الصالح يفضي إلى الجنة في الجملة ولا يخلد صاحبه في النار فإن منطوقها أن الإيمان المقرون بالعمل الصالح سبب للهداية إلى الجنة، وأما أن كل ما هو سبب لها يجب أن يكون كذلك فلا دلالة لها ولا لغيرها عليه كيف لا وقوله سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:
82] مناد بخلافه بناء على ما أطبقوا عليه من تفسير الظلم بالشرك ولئن حمل على ظاهره أيضا يدخل في الاهتداء من آمن ولم يعمل صالحا ثم مات قبل أن يظلم بفعل حرام أو بترك واجب، وإلى حمل الإيمان على ما قلنا ذهب

(6/70)


الزمخشري وقال: إن الآية تدل على أن الإيمان المعتبر في الهداية إلى الجنة هو الإيمان المقيد بالعمل الصالح، ووجه ذلك بأنه جعل فيها الصلة مجموع الأمرين فكأنه قيل: إن الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ثم قيل: بإيمانهم أي هذا المضموم إليه العمل الصالح. وزعم بعضهم أن ذلك منه مبني على الاعتزال وخلود غير الصالح في النار، ثم قال إنه لا دلالة في الآية على ما ذكره لأنه جعل سبب الهداية إلى الجنة مطلق الإيمان، وأما أن إضافته إلى ضمير الصالحين يقتضي أخذ الصلاح قيدا في التسبب فممنوع فإن الضمير يعود على الذوات بقطع النظر عن الصفات، وأيضا فإن كون الصلة علة للخبر بطريق المفهوم فلا يعارض السبب الصريح المنطوق على أنه ليس كل خبر عن الموصول يلزم فيه ذلك، ألا ترى أن نحو الذي كان معنا بالأمس فعل كذا خال عما يذكرونه في نحو الذي يؤمن يدخل الجنة، وانتصر للزمخشري بأن الجمع بين الإيمان والعمل الصالح. ظاهر في أنهما السبب والتصريح بسببية الإيمان المضاف إلى ضمير الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالتنصيص على أنه ذلك الإيمان المقرون بما معه لا المطلق لكنه ذكر لأصالته وزيادة شرفه، ولا يلزم على هذا استدراك ذكره ولا استقلاله بالسببية.
وفيه رد على القاضي البيضاوي حيث ادعى أن مفهوم الترتيب وإن دل على أن سبب الهداية الإيمان والعمل الصالح لكن منطوق قوله سبحانه: بِإِيمانِهِمْ دل على استقلال الإيمان. ومنع في الكشف أيضا كون المنطوق ذلك وفرعه على كون الاستدلال من جعل الإيمان والعمل الصالح واقعين في الصلاة ليجريا مجرى العلة ثم لما أعيد الإيمان مضافا كان إشارة إلى الأيمان المقرون لما ثبت أن استعمال ذلك إنما يكون حيث معهود والمعهود السابق هو هذا والأصل عدم غيره، ثم قال: ولو سلم أن المنطوق ذلك لم يضر الزمخشري لأن العمل يعد شرطا حينئذ جمعا بين المنطوق والمفهوم بقدر الإمكان فلم يلغ اقتران العمل ولا دلالة السببية، وهذا فائدة إفراده بالذكر ثانيا مع ما فيه من الأصالة وزيادة الشرف، ولا مخالف له من الجماعة لأن العصاة غير مهديين، وأما أن كل من ليس مهتديا فهو خالد في النار فهو ممنوع غاية المنع انتهى «وفي القلب» من هذا المنع شيء والأولى التعويل على ما قدمناه في تقرير كون الآية بمعزل عن الدلالة على خلاف ما عليه الجماعة، والهداية على هذا الوجه يحتمل أن تفسر بالدلالة الموصلة إلى البغية وبمجرد الدلالة والمختار الأول، واختار الثاني من قال: إن المعنى يهديهم طريق الجنة بنور إيمانهم، وذلك إما على تقدير المضاف أو على أن إيمانهم يظهر نورا بين أيديهم، وقيل: إن المعنى يسددهم بسبب إيمانهم للاستقامة على سلوك السبيل المؤدي إلى الثواب والهداية عليه بالمعنى الأول، وقيل: المراد بهديهم إلى إدراك حقائق الأمور فتنكشف لهم بسبب ذلك، وأيّا ما كان فالالتفات في قوله سبحانه: رَبُّهُمْ لتشريفهم بإضافة الرب إليهم مع الإشعار بعلة الهداية وقوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ أي من تحت منازلهم أو من بين أيديهم، استئناف نحوي أو بياني فلا محل له من الإعراب أو خبر ثان لأن فمحله الرفع.
وجوز أن يكون في محل النصب على الحال من المفعول يَهْدِيهِمْ على تقدير كون المهدي إليه ما يريدونه في الجنة كما قال أبو البقاء، وإن جعل حالا منتظرة لم يحتج إلى القول بهذا التقدير لكنه خلاف الظاهر، والزمخشري لما فسر يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بيسددهم إلخ جعل هذه الجملة بيانا له وتفسيرا لأن التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها، ولا يخفى أن سبيل هذا البيان سبيل البدل وبذلك صرح الطيبي وحينئذ فمحلها الرفع لأنه محل الجملة المبدل منها وقوله سبحانه: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ خبر آخر أو حال أخرى من مفعول يَهْدِيهِمْ فتكون حالا مترادفة أو من الْأَنْهارُ فتكون متداخلة أو متعلق بتجري أو بيهدي والمراد على ما قيل بالمهدي إليه إما منازلهم في الجنة أو ما يريدونه فيها دَعْواهُمْ أي دعاؤهم وهو مبتدأ، وقوله تعالى شأنه: فِيها متعلق به، وقوله

(6/71)


سبحانه: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ خبره أي دعاؤهم هذا الكلام، والدعوى وإن اشتهرت بمعنى الادعاء لكنها وردت بما ذكرنا أيضا، وكون الخبر من جنس الدعاء يشهد له
قوله صلّى الله عليه وسلم «أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفات لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» .
والظاهر أن إطلاق الدعاء على ذلك مجاز وهو الذي يفهمه كلام ابن الأثير حيث قال: إنما سمي التهليل والتحميد والتمجيد دعاء لأنه بمنزلته في استيجاب ثواب الله تعالى وجزائه.
وفي الحديث: «إذا شغل عبدي ثناؤه علي عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين»
وجاءت بمعنى العبادة كما في قوله سبحانه: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم: 48] وجوز إرادته هنا والمراد نفي التكليف أي لا عبادة لهم غير هذا القول وليس ذلك بعبادة وإنما يلهمونه وينطقون به تلذذا لا تكليفا. ونظير ذلك قوله سبحانه: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال: 35] وفيه خفاء كما لا يخفى يقال: يأتي نظير هذا في الآية على احتمال أن يراد بالدعوى الدعاء حقيقة فيكون المعنى على طرز ما قرر أنه لا سؤال لهم من الله تعالى سوى ذلك، ومن المعلوم أن ذلك ليس بسؤال فيفيد أنه لا سؤال لهم أصلا.
والغرض من ذلك الإشارة إلى حصول جميع مقاصدهم بالفعل فليس بهم حاجة إلى سؤال شيء إلا أن فيه ما فيه ونصب- سبحان- على المصدرية لفعل محذوف وجوبا وهو بمعنى التسبيح. وقدرت الجملة اسمية أي إنّا نسبحك تسبيحا لأنها أبلغ والجمل التي بعدها كذلك، واللَّهُمَّ بتقدير يا الله حذف حرف النداء وعوض عنه الميم وتمام الكلام فيه وفيما قبله قد تقدم لك فتذكر، وكان القياس تقديم الاسم الجليل لأن النداء يقدم على الدعاء لكنه استعمل في التسبيح كذلك قيل: لأنه تنزيه عن جميع النقائص وفي النداء ربما يتوهم ترك الأدب. وَتَحِيَّتُهُمْ أي ما يحيون به فِيها سَلامٌ أي سلامتهم من كل مكروه، وهو خبر تَحِيَّتُهُمْ وفِيها متعلق بها، والتحية التكرمة بالحال الجليلة وأصلها أحياك الله تعالى حياة طيبة، وإضافتها هنا إلى المفعول، والفاعل أما الله سبحانه أي تحية الله تعالى إياهم ذلك ويرشد إليه قوله عز وجل: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] أو الملائكة عليهم السلام ويرشد إليه قوله سبحانه: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ [الرعد: 23، 24] .
وجوز أن تكون الإضافة إلى الفاعل بتقدير مضاف أي تحية بعضهم بعضا آخر ذلك، وقد يعتبر البعض المقدر مفعولا فالإضافة إلى المفعول والفاعل محذوف، وقيل: يجوز أن يكون مما أضيف فيه المصدر لفاعله ومفعوله معا إذا كان المعنى يحيي بعضهم بعضا، ونظيره في الإضافة إلى الفاعل والمفعول قوله تعالى: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ [الأنبياء: 78] حيث أضيف حكم إلى ضمير داود وسليمان عليهما السلام وهما حاكمان وغيرهما وهم المحكوم عليهم، وليس ذلك من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز المختلف فيه حيث إن إضافة المصدر لفاعله حقيقة ولمفعوله مجاز لأنه لا خلاف في جواز الجمع إذا كان المجاز عقليا إنما الخلاف فيه إذا كان لغويا وَآخِرُ دَعْواهُمْ أي خاتمة دعائهم أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي إنه الحمد لله فإن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوف والجملة الاسمية خبرها وأن ومعمولا ها خبر آخر، وليست مفسرة لفقد شرطها، ولا زائدة لأن الزيادة خلاف الأصل ولا داعي إليها، على أنه قد قرأ ابن محيصن، ومجاهد، وقتادة، ويعقوب بتشديدها ونصب الْحَمْدُ وفي ذلك دليل لما قلنا، والظاهر أن تحقق مضمون هذه الجمل لكونها اسميه على سبيل الدوام والاستمرار وفي الأخبار ما يؤيده، فلعل القوم لما دخلوا الجنة حصل لهم من العلم بالله تعالى ما لم يحصل لهم قبله على اختلاف مراتبهم.
وقد صرح مولانا شهاب الدين السهروردي في بعض رسائله في الكلام بتفاوت أهل الجنة في المعرفة فقال: إن عوام المؤمنين في الجنة يكونون في العلم كالعلماء في الدنيا والعلماء فيها يكونون كالأنبياء عليهم السلام في الدنيا

(6/72)


والأنبياء عليهم السلام يكونون في ذلك كنبينا صلّى الله عليه وسلم ويكون لنبينا عليه الصلاة والسلام من العلم بربه سبحانه الغاية القصوى التي لا تكون لملك مقرب ولا لنبي مرسل، ويمكن أن يكون ذلك المقام المحمود، ولا يبعد عندي أنهم مع تفاوتهم في المعرفة لا يزالون يترقبون فيها على حسب مراتبهم، والسير في الله سبحانه غير متناه والوقوف على الكنه غير ممكن، وحينئذ التفاوت في معرفة الصفات وهي كما قيل إما سلبية وتسمى بصفات الجلال لأنها يقال فيها: جل عن كذا جل عن كذا وإما غيرها وتسمى بصفات الإكرام وبذلك فسر قوله تعالى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ فلا يزالون يدعون الله تعالى بالتسبيح الذي هو إشارة إلى نعته بنعوت الجلال وبالتحميد الذي هو إشارة إلى وصفه بصفات الإكرام، والدوام عرفي وهو أكثر من أن يحصى،
وقوله عليه الصلاة والسلام في وصف أهل الجنة كما في صحيح مسلم: «يسبحون الله تعالى بكرة وعشيا»
يؤيد بظاهره ذلك، والمراد بالبكرة والعشية- كما قال النووي- قدرهما، وظاهر الآية أنهم يقدمون نعته تعالى بنعوت الجلال ويختمون دعاءهم بوصفه بصفات الإكرام لأن الأولى متقدمة على الثانية لتقدم التخلية على التحلية، ويرشد إلى ذلك قوله سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] والمختار عندي كون فاعل التحية هو الله تعالى أو الملائكة عليهم السلام وحينئذ لا يبعد أن يكون الترتيب الذكري حسب الترتيب الوقوعي وذلك بأن يقال: إنهم حين يشرعون بالدعاء يسبحون الله تعالى وينزهونه فيقابلون بالسلام وهو دعاء بالسلامة عن كل مكروه فإن كان من الله سبحانه فهو مجاز لا محالة لاستحالة حقيقة الدعاء عليه تعالى وإن كان من الملائكة عليهم السلام فلا مانع من بقائه على حقيقته لكن يوجه الطلب فيه إلى الدوام لأن أصل السلامة حاصل لهم وإن قلنا: إنها تقبل الزيادة فلا بعد في أن يوجه إلى طلبها، وما ألطف مقابلة التسبيح والتنزيه بالسلامة عن المكروه لقربها من ذلك معنى كما لا يخفى على المنصف ثم يختمون دعاءهم بالحمد لله رب العالمين. وهكذا لا يزال دأبهم بكرة وعشيا كما يشير إليه خبر الصحيح، ولعل عدم ذكر التحميد فيه اكتفاء بما في الآية وهذا ما عندي فيها.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج قال: أخبرت أن أهل الجنة إذا مر بهم الطائر يشتهونه قالوا: سبحانك اللهم وذلك دعاؤهم به فيأتيهم الملك بما اشتهوا فإذا جاء الملك به يسلم عليهم فيردون عليه وذلك قوله تعالى: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ فإذا أكلوا قدر حاجتهم قالوا: الحمد لله رب العالمين وذلك قوله سبحانه: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ

وهو ظاهر في أن الترتيب الذكرى حسب الترتيب الوقوعي أيضا لكن يدل على أن الدعوى بمعنى الدعاء، ومعنى كون سبحانك اللهم دعاء وطلبا لما يشتهون حينئذ أنه علامة للطلب، ونظير ذلك تسبيح المصلي إذا نابه شيء في صلاته وفي بعض الآثار أن هذه الكلمة علامة بين أهل الجنة والخدم في الطعام فإذا قالوها أتوهم بما يشتهون.
وأخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب مرفوعا أنهم إذا قالوا ذلك أتاهم ما اشتهوا من الجنة من ربهم ولا بأس في ذلك. نعم في كون الحمد بعد أكل قدر حاجتهم مدلول قوله سبحانه: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ خفاء.
وقال القاضي بيض الله تعالى غرة أحواله: لعل المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله سبحانه وكبرياءه مجدوه ونعتوه بنعوت الجلال ثم حياهم الملائكة بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات أو الله تعالى فحمدوه وأثنوا عليه بصفات الإكرام وهو أيضا ظاهر في كون الترتيب الذكرى كما قلنا إلا أنه تعقب بأن إضافة آخِرُ إلى دَعْواهُمْ يأباه، وكأن وجه الآباء على ما قيل: إن ذلك على هذا آخر الحال وبأن اعتبار الفوز بالكرامات في مفهوم السلام غير ظاهر، ولعل الأمر في ذلك سهل.

(6/73)


وقال شيخ الإسلام: لعلهم يقولون: سبحانك اللهم عند ما يعاينون من تعاجيب آثار قدرته تعالى ونتائج رحمته ورأفته ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر تقديسا لمقامه تعالى عن شوائب العجز والنقصان وتنزيها لوعده الكريم عن سمات الخلف ويكون خاتمة دعائهم أن يقولون: الحمد لله رب العالمين نعتا له تعالى شأنه بصفات الإكرام إثر نعته بصفات الجلال، والمعنى دعاؤهم منحصر فيما ذكر إذ ليس لهم مطلب مترقب حتى ينظموه في سلك الدعاء، ولعل توسيط ذكر تحيتهم عند الحكاية بين دعائهم وخاتمته للتوسل إلى ختم الحكاية بالتحميد تبركا مع أن التحية ليست بأجنبية على الإطلاق انتهى. وكأنه أراد بعدم كون التحية أجنبية على الإطلاق كونها دعاء معنى، وكلامه نص في أن الترتيب الوقوعي مخالف للترتيب الذكرى، ولا يخفى أن توجيه توسيط ذكر التحية بما ذكره مما لا يكاد يرتضيه منصف على أنه غفل هو وسائر من وقفنا على كلامه من المفسرين عن توجيه اسمية الجمل فافهم، والله تعالى أعلم وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ هم الذين لا يرجون لقاء الله تعالى المذكورون في قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا إلخ، والآية متصلة بذلك دالة على استحقاقهم للعذاب وأنه سبحانه إنما يمهلهم استدراجا وذكر المؤمنين وقع في البين تتميما ومقابلة. وجيء بالناس بدل ضميرهم تفظيعا للأمر.
وفي إرشاد العقل السليم إنما أوردوا باسم الجنس لما أن تعجيل الخير لهم ليس دائرا على وصفهم المذكور إذ ليس كل ذلك بطريق الاستدراج، والمراد لو يعجل الله تعالى لهم الشَّرَّ الذي كانوا يستعجلون به تكذيبا واستهزاء فإنهم كانوا يقولون: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ونحو ذلك.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال: هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له، وأخرجا عن مجاهد أنه قال: هو قول الإنسان لولده وما له إذا غضب اللهم لا تبارك فيه. اللهم العنه، وفيه حمل- الناس- على العموم والمختار الأول، ويؤيده ما قيل: من أن الآية نزلت في النضر بن الحارث حين قال: اللهم إن كان هذا هو الحق إلخ، وقوله سبحانه: اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ نصب على المصدرية، والأصل- على ما قال أبو البقاء- تعجيلا مثل استعجالهم فحذف تعجيلا وصفته المضافة وأقيم المضاف إليه مقامها.
وفي الكشاف وضع اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ موضع تعجيله لهم إشعارا بسرعة إجابته سبحانه لهم وإسعافه بطلبتهم حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل له وهو كلام رصين يدل على دقة نظر صاحبه كما قال ابن المنير، إذ لا يكاد يوضع مصدر مؤكد مقارنا لغير فعله في الكتاب العزيز بدون مثل هذه الفائدة الجليلة، والنحاة يقولون في ذلك:
أجري المصدر على فعل مقدر دل عليه المذكور ولا يزيدون عليه، وإذا راجع الفطن قريحته وناجى فكرته علم أنه إنما قرن بغير فعله لفائدة وهي في قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] التنبيه على نفوذ القدرة في المقدور وسرعة إمضاء حكمها حتى كأن إنبات الله تعالى لهم نفس نباتهم أي إذا وجد الإنبات وجد النبات حتما كأن أحدهما عين الآخر فقرن به وقال الطيبي: كان أصل الكلام ولو يجعل الله للناس الشر تعجيله ثم وضع موضعه الاستعجال ثم نسب إليهم فقيل استعجالهم بالخير لأن المراد أن رحمته سبقت غضبه فأريد مزيد المبالغة وذلك أن استعجالهم الخير أسرع من تعجيل الله تعالى لهم ذلك فإن الإنسان خلق عجولا والله تعالى صبور حليم يؤخر للمصالح الجمة التي لا يهتدي إليها عقل الإنسان ومع ذلك يسعفهم بطلبتهم ويسرع إجابتهم. وأوجب أبو حيان كون التقدير تعجيلا مثل استعجالهم أو أن ثم محذوفا يدل عليه المصدر أي لو يعجل الله للناس الشر إذا استعجلوه استعجالهم بالخير قال: لأن مدلول عجل غير مدلول استعجل لأن عجل يدل على الوقوع واستعجل يدل على طلب

(6/74)


التعجيل وذلك واقع من الله تعالى وهذا مضاف إليهم فلا يجوز ما قرره الزمخشري وأتباعه: وأجاب السفاقسي بأن استفعل هنا للدلالة على وقوع الفعل لا على ما طلبه كاستقر بمعنى أقر، وقوله: وهذا مضاف إليهم مبني على أن المصدر مضاف للفاعل ويحتمل أن يكون مضافا للمفعول ولا يخفى أن كل ذلك ناشىء من قلة التدبر، ومعنى قوله سبحانه:
لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ لأميتوا وأهلكوا بالمرة يقال: قضي إليه أجله أي أنهى إليه مدته التي قدر فيها موته فهلك، وفي إيثار صيغة المبنى للمفعول جرى على سنن الكبرياء مع الإيذان بتعين الفاعل. وقرأ ابن عامر. ويعقوب «لقضى» على البناء للفاعل، وقرأ عبد الله «لقضينا» وفيه التفات، واختيار صيغة الاستقبال في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة أن عدم قضاء الأجل لاستمرار عدم التعجيل فإن المضارع المنفي للواقع موقع الماضي ليس بنص في إفادة انتفاء استمرار الفعل بل قد يفيد استمرار انتفائه أيضا بحسب المقام كما حقق في موضعه.
وذكر بعض المحققين أن المقدم هاهنا ليس نفس التعجيل المذكور بل هو إرادته المستتبعة للقضاء المذكور وجودا وعدما لأن القضاء ليس أمرا مغايرا لتعجيل الشر في نفسه بل هو إما نفسه أو جزئي منه كسائر جزئياته من غير مزية له على البقية إذ لم يعتبر في مفهومه ما ليس في مفهوم تعجيل الشر من الشدة والهول فلا يكون في ترتبه عليه وجودا أو عدما مزيد فائدة مصححة لجعله تاليا له فليس كقوله تعالى: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ [الحجرات: 7] ولا كقوله سبحانه: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ [الأنعام: 30] وقوله تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: 45] إذا فسر الجواب بالاستئصال، وأيضا في ترتيب التالي على إرادة المقدم ما ليس في ترتيبه على المقدم نفسه من الدلالة على المبالغة وتهويل الأمر والدلالة على أن الأمور منوطة بإرادته تعالى المبنية على الحكم البالغة.
وقوله سبحانه فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي نتركهم إمهالا واستدراجا فِي طُغْيانِهِمْ الذي هو عدم رجاء اللقاء وإنكار البعث والجزاء وما يتفرع على ذلك من الأعمال السيئة والمقالات الشنيعة يَعْمَهُونَ أي يترددون ويتحيرون، لا يصح عطفه على شرط «لو» ولا على جوابها لانتفائه وهو مقصود إثباته وليست «لو» بمعنى أن كما قيل فهو إما معطوف على مجموع الشرطية لأنها في معنى لا يعجل لهم وفي قوته فكأنه قيل: لا يعجل بل يذرهم أو معطوف على مقدر تدل عليه الشرطية أي ولكن يمهلهم أو ولكن لا يعجل ولا يقضي فيذرهم وبكل قال بعض، وقيل:
الجملة مستأنفة والتقدير فنحن نذرهم، وقيل: إن الفاء واقعة في جواب شرط مقدر والمعنى لو يعجل الله تعالى ما استعجلوه لأبادهم ولكن يمهلهم ليزيدوا في طغيانهم ثم يستأصلهم وإذا كان كذلك فنحن نذر هؤلاء الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يترددون ثم نقطع دابرهم. وصاحب الكشف بعد ما قرر أن اتصال وَلَوْ يُعَجِّلُ إلخ بقوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا إلخ وأن ذكر المؤمنين إنما وقع في البين تتميما ومقابلة وليس بأجنبي قال: إنه لا حاجة إلى جعل هذا جواب شرط مقدر، وفي وضع الموصول موضع الضمير نوع بيان للطغيان بما في حيز الصلة وإشعار بعليته للترك والاستدراج. وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ أي إذا أصابه جنس الضر من مرض وفقر وغيرهما من الشدائد إصابة يسيرة، وقيل: مطلقا دَعانا لكشفه وإزالته لِجَنْبِهِ في موضع الحال ولذا عطف عليه الحال الصريحة أعني قوله سبحانه: أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً أي دعانا مضطجعا أو ملقى لجنبه، واللام على ظاهرها، وقيل: إنها بمعنى على كما في قوله تعالى: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ [الإسراء: 109] ولا حاجة إليه وقد يعبر بعلى وهي تفيد استعلاءه عليه واللام تفيد اختصاص كينونته واستقراره بالجنب إذ لا يمكنه الاستقرار على غير تلك الهيئة ففيه مبالغة زائدة.
واختلف في ذي الحال فقيل: إنه فاعل دَعانا وقيل: هو مفعول مَسَّ واستضعف بأمرين: أحدهما تأخر

(6/75)


الحال عن محلها من غير داع. الثاني أن المعنى على أنه يدعو كثيرا في كل أحواله إلا أنه خص المعدودات بالذكر لعدم خلو الإنسان عنها عادة لا أن الضر يصيبه في كل أحواله: وأجيب عن هذا بأنه لا بأس به فإنه يلزم من مسه الضر في هذه الأحوال دعاؤه فيها أيضا لأن القيد في الشرط قيد في الجواب فإذا قلت إذا جاء زيد فقيرا أحسنا إليه فالمعنى أحسنا إليه في حال فقره وأنت تعلم أن الأظهر هو الأول، واعتبر بعضهم توزيع هذه الأحوال على أفراد الإنسان على معنى أن من الإنسان من يدعو على هذه الحالة ومنه من يدعو على تلك، وذكر غير واحد أنه يجوز أن يكون المراد بهذه الأحوال تعميم أصناف المضار لأنها إما خفيفة لا تمنع الشخص القيام أو متوسطة تمنعه القيام دون القعود أو شديدة تمنعه منها وانفهام ذلك منها بمعونة السياق وإِذا قيل إنها على أصلها وقيل إنها للمضي فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ الذي مسه غب ما دعانا كما ينبىء عنه الفاء مَرَّ أي مضى واستمر على ما كان عليه قبل ونسي حالة الجهد والبلاء أو مر عن موقف الدعاء والابتهال ونأى بجانبه، والمرور على الأول مجاز وعلى الثاني باق على حقيقته ويكون كناية عن عدم الدعاء كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا أي كأنه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن، ومثل ذلك قوله:
ووجه مشرق النحر ... كأن ثدياه حقان
فإن الأصل فيه كأنه فخفف كأن وحذف ضمير الشأن، لكن صرح ابن هشام في شواهده أن ذلك غير متعين إذ يجوز كون الضمير للوجه أو للصدر على رواية- وصدر- وروي كأن ثدييه على إعمال كأن في اسم مذكور ولا يبعد أن يجوز ذلك في الرواية الأولى على بعض اللغات، والجملة التشبيهية في موضع الحال من فاعل مَرَّ أي مر مشبها بمن لم يدعنا إِلى ضُرٍّ أي إلى كشفه لأنه المدعو إليه، وقيل: لا حاجة إلى التقدير، وإلى بمعنى اللام أي لضر مَسَّهُ والظاهر أن هذا وصف لجنس الإنسان مطلقا أو الكافر منه باعتبار حال بعض الأفراد ممن هو متصف بهذه الصفات.
وذكر الشهاب أن للمفسرين في المراد بالإنسان هنا ثلاثة أقوال فقيل: الجنس وقيل: الكافر وقيل: شخص معين وعليه لا حاجة إلى الاعتبار لكن لا اعتبار له كَذلِكَ أي مثل ذلك التزيين العجيب زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ أي للموصوفين بما ذكر من الصفات الذميمة ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الإعراض عن الذكر والدعاء والانهماك في الشهوات، والإسراف مجاوزة الحد وسموا أولئك مسرفين لما أن الله تعالى إنما أعطاهم القوى والمشاعر ليصرفوها إلى مصارفها ويستعملوها فيما خلقت له من العلوم والأعمال الصالحة وهم قد صرفوها إلى ما لا ينبغي مع أنها رأس ما لهم، وفاعل التزيين إما مالك الملك جل شأنه وإما الشيطان عليه اللعنة وقد مر تحقيق ذلك وكذلك فتذكر. وتعلق الآية الكريمة بما قبلها قيل من حيث إن في كل منهما إملاء للكفرة على طريقة الاستدراج بعد الإنقاذ من الشر المقرر في الأولى ومن الضر المقرر في الأخرى.
وذكر الإمام في وجه الانتظام مع الآية الأولى وجهين: الأول: أنه تعالى بين في الأولى أنه لو أنزل العذاب على العبد في الدنيا لهلك وأكد ذلك في هذه الآية حيث دلت على غاية ضعفه ونهاية عجزه. والثاني: أنه سبحانه أشار في الأولى إلى أن الكفرة يستعجلون نزول العذاب وبين جل شأنه في هذه أنهم كاذبون في ذلك الطلب حيث أفادت أنه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يكرهه فإنه يتضرع إلى الله تعالى في إزالته عنه انتهى. ولكل وجهة.
وفي الآية ذم لمن يترك الدعاء في الرخاء ويهرع إليه في الشدة واللائق بحال الكامل التضرع إلى مولاه في السراء والضراء فإن ذلك أرجى للإجابة
ففي الحديث «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة» .
وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء قال: ادع الله تعالى يوم سرائك يستجب لك يوم ضرائك،
وفي حديث

(6/76)


للترمذي عن أبي هريرة، ورواه الحاكم عن سلمان وقال صحيح الإسناد «من سره أن يستجيب الله تعالى له عند الشدائد والكروب فليكثر الدعاء في الرخاء»
والآثار في ذلك كثيرة وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مثل قوم نوح، وعاد، وثمود. وهو جمع قرن بفتح القاف أهل كل زمان مأخوذ من الاقتران كأن أهل ذلك الزمان اقترنوا في أعمالهم وأحوالهم، وقيل: القرن أربعون سنة وقيل: ثمانون وقيل مائة وقيل هو مطلق الزمان، والمراد هنا المعنى الأول وكذا في
قوله صلّى الله عليه وسلم: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم»
وقوله:
إذا ذهب القرن الذي أنت فيهم ... وخلفت في قرن فأنت غريب
مِنْ قَبْلِكُمْ أي من قبل زمانكم، والخطاب لأهل مكة على طريقة الالتفات للمبالغة في تشديد التهديد بعد تأييده بالتوكيد القسمي، والجار والمجرور متعلق بأهلكنا، ومنع أبو البقاء كونه حالا من القرون لَمَّا ظَلَمُوا أي حين فعلوا الظلم بالتكذيب والتمادي في الغي والضلال. والظرف متعلق بأهلكنا وجعل لما شرطية بتقدير جواب هو أهلكناهم بقرينة ما قبله تكلف لا حاجة إليه وقوله سبحانه: وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ حال من ضمير ظَلَمُوا بإضمار قد وقوله تعالى: بِالْبَيِّناتِ متعلق بجاءتهم على أن الباء للتعدية أو بمحذوف وقع حالا من رُسُلُهُمْ دالة على إفراطهم في الظلم وتناهيهم في المكابرة أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالآيات البينة الدالة على صدقهم أو متلبسين بها حين لا مجال للتكذيب، وجوز أبو البقاء وغيره عطفه على ظَلَمُوا فلا محل له من الإعراب أو محله الجر وذلك عند من يرى إضافة الظرف إلى المعطوف عليه، والترتيب الذكرى لا يجب أن يكون حسب الترتيب الوقوعي كما في قوله تعالى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً [يوسف: 100] ولا حاجة إلى هذا الاعتذار بناء على أن الظلم ليس منحصرا في التكذيب بل هو محمول على سائر أنواع الظلم، والتكذيب مستفاد من قوله تعالى: وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا على أبلغ وجه وآكده لأن اللام لتأكيد النفي.
وهذه الجملة على الأول عطف على ظَلَمُوا وليس من العطف التفسيري في شيء على ما قاله صاحب الكشف خلافا للطيبي لأن الأولى إخبار بأحداث التكذيب وهذه أخبار بالإصرار عليه، وعلى الثاني عطف على ما عطف عليه، وقيل: اعتراض للتأكيد بين الفعل وما يجري مجرى مصدره التشبيهي أعني قوله سبحانه: كَذلِكَ فإن الجزاء المشار إليه عبارة عن مصدره أي مثل ذلك الجزاء الفظيع أي الإهلاك الشديد الذي هو الاستئصال بالمرة نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أي كل طائفة مجرمة فيشمل القرون، وجعل ذلك عبارة عنهم غير مناسب للسياق.
وقرىء «يجزي» بياء الغيبة التفاتا من التكلم في أَهْلَكْنَا إليها. وحاصل المعنى على تقدير العطف أن السبب في إهلاكهم تكذيبهم الرسل وأنهم ما صح وما استقام لهم أن يؤمنوا لفساد استعدادهم وخذلان الله تعالى إياهم، ويقتصر على الأمر الأول في بيان الحاصل على تقدير الاعتراض، وذكر الزمخشري بدل الأمر الثاني علم الله تعالى أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل عليهم السلام وجعل بيانا على التقديرين وفيه ما يحتاج إلى الكشف فتدبره. وتعليل عدم الإيمان بالخذلان ونحوه ظاهر، وكلام القاضي صريح في تعليله أيضا بعلم الله تعالى أنهم يموتون على الكفر. واعترض بأنه مناف لقولهم: إن العلم تابع للمعلوم، وتكلف بعض الفضلاء في تصحيحه ما تكلف ولم يأت بشيء. وقال بعض المحققين: معنى كون العلم تابعا للمعلوم أن علمه تعالى في الأزل بالمعلوم المعين الحادث تابع لماهيته بمعنى أن خصوصية العلم وامتيازه عن سائر العلوم إنما هو باعتبار أنه علم بهذه الماهية، وأما وجود الماهية وفعليتها فيما لا يزال فتابع لعلمه الأزلي التابع لماهيته بمعنى أنه تعالى لما علمها في الأزل على هذه الخصوصية لزم أن تتحقق وتوجد فيما لا يزال على هذه الخصوصية فنفس موتهم على الكفر وعدم إيمانهم متبوع لعلمه تعالى الأزلي

(6/77)


ووقوعه تابع له وهذا مما لا شبهة فيه وهو مذهب أهل السنة رحمهم الله تعالى وبه ينحل إشكالات كثيرة فليحفظ.
وذكر مولانا الشيخ إبراهيم الكوراني أن معنى كون العلم تابعا للمعلوم أنه متعلق به كاشف له على ما هو عليه وبني على ذلك كون الماهيات ثابتة غير مجعولة في ثبوتها، والقول بالتبعية المذكورة مما ذهب إليه الشيخ الأكبر قدس سره ونازع في ذلك عبد الكريم الجيلي. وقال الشيخ محمد عمر البغدادي عليه الرحمة: إن كون العلم تابعا للمعلوم بالنظر إلى حضرة الأعيان القديمة التي أعطت الحق العلم التفصيلي بها وأما بالنظر إلى العلم الإجمالي الكلي فالمعلوم تابع للعلم لأن الحق تعالى لما تجلى من ذاته لذاته بالفيض الأقدس حصلت الأعيان واستعدادا فلم تحصل عن جهل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وحينئذ فلا مخالفة بين الشيخ الأكبر قدس سره والجيلي، على أنه إن بقيت هناك مخالفة فالحق مع الشيخ لأن الجيلي بالنسبة إليه نحلة تدندن حول الحمى، والدليل أيضا مع الشيخ كنار على علم لكنه قد أبعد رضي الله تعالى عنه الشوط بقوله: العلم تابع للمعلوم والمعلوم أنت وأنت هو والبحث وعن المسلك صعب المرتقى وتمام الكلام فيه يطلب من محله.
واستفادة معنى العلم هنا على ما قيل من التأكيد الذي أفادته اللام، وفي الآية وعيد شديد وتهديد أكيد لأهل مكة لأنهم وأولئك المهلكين مشتركون فيما يقتضي الإهلاك، ويعلم مما تقرر أن ضمير كانُوا للقرون وهو ظاهر، وجوز مقاتل أن يكون الضمير لأهل مكة وهو خلاف الظاهر، وكذا جوز كون المراد بالقوم المجرمين أهل مكة على طريقة وضع الظاهر موضع ضمير الخطاب إيذانا بأنهم أعلام في الإجرام وذكر الْقَوْمَ إشارة إلى أن العذاب عذاب استئصال.
والتشبيه على هذا ظاهر إذ المعنى يجزيكم مثل جزاء من قبلكم، وأما على الأول فهو على منوال وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] وأضرابه وفيه بعد أيضا بل قال بعض المحققين: يأباه كل الإباء قوله سبحانه:
ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ فإنه صريح في أنه ابتداء تعرض لأمورهم وإن ما بين فيه مبادئ أحوالهم لاختبار كيفية أعمالهم على وجه يشعر باستمالتهم نحو الإيمان والطاعة فمحال أن يكون ذلك إثر بيان منتهى أمرهم وخطابهم بيت القول بإهلاكهم لكمال إجرامهم والعطف على قوله تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا لا على ما قبله، والمعنى ثم استخلفناكم في الأرض بعد إهلاك أولئك القرون التي تسمعون أخبارها وتشاهدون آثارها لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أي لنعلم أي عمل تعملون فكيف مفعول مطلق لتعملون، وقد صرح في المغني بأن كيف تأتي كذلك وأن منه كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ [الفجر: 6، الفيل: 1] وليست معمولة لِنَنْظُرَ لأن الاستفهام له الصدارة فيمنع ما قبله من العمل فيه، ولذا لزم تقديمه على عامله هنا.
وقيل: محلها النصب على الحال من ضمير تَعْمَلُونَ كما هو المشهور فيها إذا كان بعدها فعل نحو كيف ضرب زيد أي على أي حال تعملون الأفعال اللائقة بالاستخلاف من أوصاف الحسن، وفيه من المبالغة في الزجر عن الأعمال السيئة ما فيه، وقيل: محلها النصب على أنها مفعول به لتعملون أي أي عمل تعملون خيرا أو شرا، وقد صرحوا بمجيئها كذلك أيضا، وجعلوا من ذلك نحو كيف ظننت زيدا، وبما ذكر فسر الزمخشري الآية، وتعقبه القطب بما تعقبه ثم قال: ولعله جعل كيف هاهنا مجازا بمعنى أي شيء لدلالة المقام عليه.
وذكر بعض المحققين أن التحقيق أن معنى كيف السؤال عن الأحوال والصفات لا عن الذوات وغيرها فالسؤال هنا عن أحوالهم وأعمالهم ولا معنى للسؤال عن العمل إلا عن كونه حسنا أو قبيحا وخيرا أو شرا فكيف ليست مجازا بل هي على حقيقتها، ثم إن استعمال النظر بمعنى العلم مجاز حيث شبه بنظر الناظر وعيان المعاين في تحققه، والكلام

(6/78)


استعارة تمثيلية مرتبة على استعارة تصريحية تبعية، والمراد يعاملكم معاملة من يطلب العلم بأعمالكم ليجازيكم بحسبها كقوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7، الملك: 2] وقيل يمكن أن يقال: المراد بالعلم المعلوم فحينئذ يكون هذا مجازا مرتبا على استعارة، وأيا ما كان فلا يلزم أن لا يكون الله سبحانه وتعالى عالما بأعمالهم قبل استخلافهم، وليس مبنى تفسير النظر بالعلم على نفي الرؤية كما هو مذهب بعض القدرية القائلين بأنه جل شأنه لا يرى ولا يرى فإنّا ولله تعالى الحمد ممن يقول: إنه تبارك وتعالى يرى ويرى والشروط في الشاهد ليست شروطا عقلية كما حقق في موضعه، وأن الرؤية صفة مغايرة للعلم وكذا السمع أيضا، وممن يقول أيضا: إن صور الماهيات الحادثة مشهودة لله تعالى أزلا في حال عدمها في أنفسها في مرايا الماهيات الثابتة عنده جل شأنه بل هو مبني على اقتضاء المعنى له فإنك إذا قلت: أكرمتك لأرى ما تصنع فمعناه أكرمتك لأختبرك وأعلم صنعك فأجازيك عليه، ومن هنا يعلم أن حمل النظر على الانتظار والتربص كما هو أحد معانيه ليس بشيء، وبعض الناس حمل كلام بعض الأفاضل عليه وارتكب شططا وتكلم غلطا.
«هذا» وقرىء «لنظر» بنون واحدة وتشديد الظاء ووجه ذلك أن النون الثانية قلبت ظاء وأدغمت، وقوله تعالى:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ التفات من خطابهم إلى الغيبة إعراضا عنهم وتوجيها للخطاب إلى سيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم بتعديد جناياتهم المضادة لما أريد منهم بالاستخلاف من التكذيب والكفر بالآيات البينات وغير ذلك كدأب من قبلهم من القرون المهلكة، وصيغة المضارع للدلالة على تجدد جوابهم الآتي حسب تجدد التلاوة، والمراد بالآيات الآيات الدالة على التوحيد وبطلان الشرك. وقيل: ما هو أعم من ذلك، والإضافة لتشريف المضاف والترغيب في الإيمان به والترهيب عن تكذيبه ونصب بَيِّناتٍ على الحال أي حال كونها واضحات الدلالة على ما تضمنته، وإيراد فعل التلاوة مبنيا للمفعول مسندا إلى الآيات دون رسول الله صلّى الله عليه وسلم ببنائه للفاعل للإشعار بعدم الحاجة لتعيين التالي وللإيذان بأن كلامهم في نفس المتلو ولو تلاه رجل من إحدى القريتين عظيم قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا وضع الموصول موضع الضمير إشعارا بعلية ما في حيز الصلاة المعظمة المحكية عنهم وذما لهم بذلك أي قالوا لمن يتلوها عليهم وهو رسول الله صلّى الله عليه وسلم ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا
أشاروا بهذا إلى القرآن المشتمل على تلك الآيات لا إلى أنفسها فقط قصدا إلى إخراج الكل من البين أي ائت بكتاب آخر نقرؤه ليس فيه ما نستبعده من البعث وتوابعه أو ما نكرهه من ذم آلهتنا والوعيد على عبادتها أَوْ بَدِّلْهُ بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى، ولعلهم إنما سألوا ذلك كيدا وطمعا في إجابته عليه الصلاة والسلام ليتوسلوا إلى الإلزام والاستهزاء وليس مرادهم أنه عليه الصلاة والسلام لو أجابهم آمنوا قُلْ أيها الرسول لهم ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ المصدر فاعل يكون وهي من كان التامة وتفسر بوجد ونفي الوجود قد يراد به نفي الصحة فإن وجود ما ليس بصحيح كلا وجود، فالمعنى هنا ما يصح لي أصلا تبديله مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي أي من جهتي ومن عندي. وأصل تلقاء مصدر على تفعال التاء ولم يجىء مصدر بكسرها غيره وغير تبيان في المشهور.
وقرىء شاذا بالفتح وهو القياس في المصادر الدالة على التكرار كالتطواف والتجوال، وقد خرج هنا من ذلك إلى الظرفية المجازية، والجر بمن لا يخرج الظرف عن ظرفيته ولذا اختصت الظروف الغير المتصرفة كعند بدخولها عليها.
ومن الناس من وهم في ذلك وقصر الجواب ببيان امتناع ما اقترحوه على اقتراحهم الثاني للإيذان بأن استحالة ما اقترحوه أولا من الظهور بحيث لا حاجة إلى بيانها ولأن ما يدل على استحالة الثاني يدل على استحالة الأول بالطريق الأولى فهو بحسب المآل والحقيقة جواب عن الأمرين إِنْ أَتَّبِعُ أي ما اتبع فيما آتي وأذر إِلَّا ما يُوحى

(6/79)


إِلَيَّ من غير تغيير له في شيء أصلا على معنى قصر حاله عليه الصلاة والسلام على اتباع ما يوحى لا قصر اتباعه على ما يوحى إليه كما هو المتبادر من ظاهر العبارة فكأنه قيل: ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي، والجملة مستأنفة بيانا لما يكون فإن من شأنه اتباع الوحي على ما هو عليه لا يستقل بشيء دونه أصلا، وفي ذلك على ما قيل جواب لنقض مقدر وهو أنه كيف هذا وقد نسخ بعض الآيات ببعض، ورد لما عرضوا له بهذا السؤال من أن القرآن كلامه صلّى الله عليه وسلم، وكذا تقييد التبديل في الجواب بقوله: مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي لرد تعريضهم بأنه من عنده عليه الصلاة والسلام ولذلك أيضا سماه عصيانا عظيما مستتبعا لعذاب عظيم بقوله عز وجل: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وهو تعليل لمضمون ما قبله من امتناع التبديل واقتصار أمره صلّى الله عليه وسلم على اتباع الوحي أي إني أخاف إن عصيته تعالى بتعاطي التبديل والإعراض عن الوحي عذاب يوم عظيم هو يوم القيامة ويوم اللقاء الذي لا يرجونه، وفيه إيماء بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح لأن اقتراح ما يوجبه يستوجبه أيضا وإن لم يكن كفعله، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة لضميره عليه الصلاة والسلام لتهويل أمر العصيان وإظهار كمال نزاهته صلّى الله عليه وسلم، وفي إيراد اليوم بالتنوين التفخيمي ووصفه بعظيم ما لا يخفى ما فيه من العذاب وتفظيعه، وجوز العلامة الطيبي كون الجواب المذكور جوابا عن الاقتراحين من غير حاجة إلى شيء وذلك بحمل التبديل فيه على ما يعم تبديل ذات بذات أخرى كبدلت الدنانير دراهم وهو الذي أشاروا إليه بقولهم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا وتبديل صفة بصفة أخرى كبدلت الخاتم حلقة وهو الذي أشاروا إليه بقولهم: أَوْ بَدِّلْهُ. وأورد عليه بأن تقييد التبديل بقوله سبحانه: مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي يمنع حمله على الأعم لأنه يشعر بأن ذلك مقدور له صلّى الله عليه وسلم ولكن لا يفعله بغير إذنه تعالى والتبديل الذي أشاروا إليه أولا غير مقدور له عليه الصلاة والسلام حتى أن المقترحين يعلمون استحالة ذلك لكن اقترحوه لما مر وقالوا: لو شئنا لقلنا مثل هذا مكابرة وعنادا. ثم إن الظاهر أنهم اقترحوا التبديل والإتيان بطريق الافتراء قيل: لا مساغ للقول بأنهم اقترحوا ذلك من جهة الوحي فكأنهم قالوا: ائت بقرآن غير هذا أو بدله من جهة الوحي كما أتيت بالقرآن من جهته ويكون معنى قوله: ما يَكُونُ لِي إلخ ما يتسهل لي ولا يمكنني أن أبدله لما في الكشاف من أن قوله: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي يرد ذلك، ووجه بأنهم لم يطلبوا ما هو عصيان على هذا التقدير حتى يقول في جوابهم ما ذكر، ونظر فيه بأن الطلب من غير إذن عصيان فإن لم يحمل ما يتسهل لي على أن ذلك لكونه غير مأذون كان الجواب غير مطابق لسؤالهم لأن السؤال عن تبديل من الله تعالى وهو عليه الصلاة والسلام قال: لا يمكنني التبديل من تلقاء نفسي في الجواب وإن حمل عليه فالعصيان أيضا منزل عليه، وأجيب بأن صاحب الكشاف حمل ما يَكُونُ على أنه لا يمكن ولا يتسهل والعصيان يقع على الممكن المقدور لا أنهم طلبوا ما هو عصيان أو ليس والمطابقة حاصلة بل أشدها لأن الحاصل إما التبديل من تلقاء نفسي فغير ممكن وإما من قبل الوحي فأنا تابع غير متبوع. نعم لا ينكر أنه يمكن أن يأتي وجه آخر بأن يحمل على أنه لا يحل لي ذلك دون وصاحب الكشاف لم ينفه.
وذكر بعض المحققين أنه لا مساغ لحمل مقترحهم على ما هو من جهة الوحي لمكان التعليل بأني أخاف إلخ إذ المقصود بما ذكر فيه معصية الافتراء كما يرشد إلى ذلك صريح ما بعده من الآيتين الكريمتين وحينئذ لا يتحقق فيه تلك المعصية، ومعصية استدعاء تبديل ما اقتضته الحكمة التشريعية لا سيما بموجب اقتراح الكفرة ليست مقصودة فلا ينفع تحققها، وهو كلام وجيه يعلم منه ما في الكلام السابق من النظر، بقي أنه يفهم من بعض الآثار أنهم طلبوا الإتيان من جهة الوحي فعن مقاتل أن الآية نزلت في خمسة نفر عبد الله بن أمية المخزومي والوليد بن المغيرة ومكرز بن حفص وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري. والعاص بن عامر بن هشام قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: إن كنت تريد أن نؤمن لك فائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى ومنات وليس فيه عيبها وإن لم ينزل الله تعالى عليك فقل أنت من

(6/80)


نفسك أو بدله فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة ومكان حرام حلالا ومكان حلال حراما، وربما يقال: إن هذا على تقدير صحته لا يأبى أن يكون ما في الآية ما أشار إليه تالي الشرطية الثانية من كلامهم فتدبر، وقوله سبحانه: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ تحقيق لحقية القرآن وأنه من عنده سبحانه أثر بيان بطلان ما اقترحوه على أتم وجه، وصدر بالأمر المستقل إظهارا لكمال الاعتناء بشأنه وإيذانا باستقلاله مفهوما وأسلوبا فإنه برهان دال على كونه بأمر الله تعالى ومشيئته كما ستعلمه إن شاء الله تعالى وما سبق مجرد إخبار باستحالة ما اقترحوه، ومفعول المشيئة محذوف ينبىء عنه الجزاء كما هو المطرد في أمثاله، ويفهم من ظاهر كلام بعضهم أنه غير ذلك وليس بذلك وهو ظاهر، والمعنى أن الأمر كله منوط بمشيئته تعالى وليس لي منه شيء أصلا ولو شاء سبحانه عدم تلاوتي له عليكم وعدم ادرائكم به بواسطتي بأن لم ينزله جل شأنه علي ولم يأمرني بتلاوته ما تلوته عليكم وَلا أَدْراكُمْ بِهِ أي ولا أعلمكم به بواسطتي والتالي وهو عدم التلاوة والإدراء منتف فينتفي المقدم وهو مشيئته العدم وهي مستلزمة لعدم مشيئته الوجود فانتفاؤه مستلزم لانتفائه وهو إنما يكون بتحقق مشيئة الوجود فثبت أن تلاوته عليه الصلاة والسلام للقرآن وإدراءه تعالى بواسطته بمشيئته تعالى.
وتقييد الإدراء بذلك هو الذي يقتضيه المقام وحيث اقتصر بعضهم في تقدير المفعول في الشرط على عدم التلاوة علل التقييد بأن عدم الإعلام ليس من لوازم الشرط الذي هو عدم مشيئة تلاوته عليه الصلاة والسلام فلا يجوز نظمه في سلك الجزاء، ولم يظهر وجه الاقتصار على ذلك وعدم ضم عدم الإدراء إليه مع أن العطف ظاهر فيه، وفي إسناد عدم الإدراء إليه تعالى المنبئ عن استناد الإدراء إليه سبحانه أعلام بأنه لا دخل له عليه الصلاة والسلام في ذلك حسبما يقتضيه المقام أيضا. وفي رواية أبي ربيعة عن ابن كثير «ولأدراكم» بلام التوكيد وهي الواقعة في جواب لَوْ أي لو شاء الله ما تلوته عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري على معنى أنه الحق الذي لا محيص عنه لو لم أرسل به لأرسل به غيري، وجيء باللام هنا للإيذان بأن إعلامهم به على لسان غيره صلّى الله عليه وسلم أشد انتفاء وأقوى، ولعل لا في القراءة الأولى لأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع وإلا فهي لا تقع في جواب لَوْ فلا يقال: لو قام زيد لا قام عمرو بل ما قام، ومن هنا نص السمين على أنها زائدة مؤكدة للنفي، وروي عن ابن عباس، والحسن، وابن سيرين أنهم قرؤوا «ولا أدرأتكم» بإسناد الفعل إلى ضميره صلّى الله عليه وسلم كالفعل السابق، والأصل ولا أدريتكم فقلبت الياء ألفا على لغة من يقلب الياء الساكنة المفتوح ما قبلها ألفا وهي لغة بالحارث بن كعب وقبائل من اليمن حتى قلبوا ياء التثنية ألفا وجعلوا المثنى في جميع الأحوال على لفظ واحد وحكى ذلك قطرب عن عقيل.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وغيرهما عن الحسن أنه قرأ «ولا أدرأتكم» بهمزة ساكنة فقيل: إنها مبدلة من الألف المنقلبة عن الياء كما سمعت وقيل: إنها مبدلة من الياء ابتداء كما يقال في البيت لبئت وعلى القولين هي غير أصلية، وجاء ذلك في بعض اللغات كما نص عليه غير واحد، وجوز أن تكون أصلية على أن الفعل من الدرء وهو الدفع والمنع ويقال أدرأته أي جعلته دارئا أي دافعا، والمعنى ولا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرؤونني بالجدال. وقرىء «ولا أدرأكم» بالهمز وتركه أيضا مع إسناد الفعل إلى ضمير الله تعالى. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان يقرأ «ولا أنذرتكم به» فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً نوع تعليل للملازمة المستلزمة لكون ذلك بمشيئة الله عز وجل حسبما مر آنفا واللبث الإقامة، ونصب عُمُراً على التشبيه بظرف الزمان والمراد منه مدة، وقيل: هو على تقدير مضاف أي مقدار عمر، وهو بضم الميم وقرأ الأعمش بسكونها للتخفيف، والمعنى قد أقمت فيما بينكم مدة مديدة وهي مقدار أربعين سنة تحفظون تفاصيل أحوالي وتحيطون خبرا بأقوالي وأفعالي مِنْ قَبْلِهِ

(6/81)


أي من قبل نزول القرآن أو من قبل وقت نزوله، ورجوع الضمير للتلاوة ليس بشيء لا أتعاطى شيئا مما يتعلق بذاك لا من حيث نظمه المعجز ولا من حيث معناه الكاشف عن أسرار الحقائق وأحكام الشرائع أَفَلا تَعْقِلُونَ أي ألا تلاحظون ذلك فلا تعقلون امتناع صدوره عن مثلي ووجوب كونه منزلا من عند الله العزيز الحكيم فإن ذلك غير خاف على من له عقل سليم وذهن مستقيم بل لعمري أن من كان له أدنى مسكة من عقل إذا تأمل في أمره صلّى الله عليه وسلم وأنه نشأ فيما بينهم هذا الدهر الطويل من غير مصاحبة العلماء في شأن من الشؤون ولا مراجعة إليهم في فن من الفنون ولا مخالطة للبلغاء في المحاورة والمفاوضة ولا خوض معهم في إنشاء الخطب والمعارضة ثم أتى بكتاب بهرت فصاحته كل ذي أدب وحيرت بلاغته مصاقع العرب واحتوى على بدائع أصناف العلوم ودقائق حقائق المنطوق والمفهوم وغدا كاشفا عن أسرار الغيب التي لا تنالها الظنون ومعربا عن أقاصيص الأولين وأحاديث الآخرين من القرون ومصدقا لما بين يديه من الكتب المنزلة ومهيمنا عليها في أحكامه المجملة والمفصلة لا يبقى عنده اشتباه في أنه وحي منزل من عند الله جل جلاله وعم أفضاله، هذا هو الذي اتفقت عليه كلمة الجمهور وهو أوفق بالرد عليهم كما لا يخفى على المتأمل.
وقيل: إن الأنسب ببناء الجواب فيما سلف على امتناع صدور التغيير والتبديل عنه عليه الصلاة والسلام لكونه معصية موجبة للعذاب العظيم واقتصاره صلّى الله عليه وسلم على اتباع الوحي وامتناع الاستبداد بالرأي من غير تعرض هناك ولا هنا لكون القرآن في نفسه أمرا خارجا عن طوق البشر ولا بكونه عليه الصلاة والسلام غير قادر على الإتيان بمثله أن يستشهد هاهنا بما يلائم ذلك من أحواله صلّى الله عليه وسلم المستمرة في تلك المدة المتطاولة من كمال نزاهته عليه الصلاة والسلام عما يوهم شائبة صدور الكذب والافتراء عنه في حق أحد كائنا من كان كما ينبىء عنه تعقيبه بتظليم المفتري على الله تعالى، والمعنى قد لبثت فيما بين ظهرانيكم قبل الوحي لا أتعرض لأحد قط بتحكم ولا جدال ولا أحوم حول مقال فيه شائبة شبهة فضلا عما فيه كذب وافتراء ألا تلاحظونه فلا تعقلون أن من هذا شأنه المطرد في هذا العهد البعيد يستحيل أن يفتري على الله عز وجل ويتحكم على كافة الخلق بالأوامر والنواهي الموجبة لسلب الأموال وسفك الدماء وغير ذلك وأن ما أتى به وحي مبين تنزيل من رب العالمين انتهى.
وأنت تعلم أن هذا غير منساق إلى الذهن وأن الكلام الأول مشير في الجملة إلى كون القرآن أمرا خارجا عن طوق البشر وأنه صلّى الله عليه وسلم غير قادر على الإتيان بمثله على أنه بعد لا يخلو عن مقال فتأمل، وقوله سبحانه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ استفهام إنكاري معناه النفي أي لا أحد أظلم من ذلك، ونفي الأظلمية كما هو المشهور كناية عن نفي المساواة فالمراد أنه أظلم من كل ظالم وقد مر تحقيق ذلك.
والآية مرتبطة بما قبلها على أن المقصود منها تفاديه صلّى الله عليه وسلم مما لوحوا به من نسبة الافتراء على الله سبحانه إليه عليه الصلاة والسلام وحاشاه وتظليم للمشركين بتكذيبهم للقرآن وكفرهم به، كَذِباً مع أن الافتراء لا يكون إلا كذلك للإيذان بأن ما لوحوا به ضمنا وحملوه عليه الصلاة والسلام عليه صريحا مع كونه افتراء على الله سبحانه كذب في نفسه فرب افتراء يكون كذبه في الإسناد فقط كما إذا أسندت ذنب زيد إلى عمرو وهذا للمبالغة منه صلّى الله عليه وسلم في التفادي مما ذكر، والفاء لترتيب الكلام على ما سبق من بيان كون القرآن بمشيئته تعالى وأمره أي وإذا كان الأمر كذلك فمن افترى عليه سبحانه بأن يخلق كلاما فيقول: هذا من عند الله تعالى أو يبدل بعض آياته ببعض كما تجوزون ذلك في شأني، وكذلك من كذب بآياته جل شأنه كما تفعلونه أنتم أظلم من كل ظالم، وقيل: المقصود من الآية تظليم المشركين بافترائهم على الله تعالى في قولهم: إنه تعالى عما يقولون ذو شريك وذو ولد وتكذيبهم بآياته سبحانه، وهي مرتبطة أما بما قبلها أيضا على معنى أني لم أفتر على الله تعالى ولم أكذب عليه وقد قام الدليل على ذلك وأنتم قد

(6/82)


فعلتم ذلك حيث زعمتم أن لله تعالى شريكا وأن له ولدا وكذبتم نبيه صلّى الله عليه وسلم وما جاء به من عنده سبحانه وأما بقوله تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [يونس: 13] إلخ على أن يكون قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ [يونس: 14] وقوله سبحانه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ إلى هنا إعلاما بأن المشركين الذين بعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم واستنوا بسنن من قبلهم في تكذيب آيات الله تعالى والرسل عليهم الصلاة والسلام ويكون هذا عودا إلى الأول بعد الفراغ من قصة المشركين، وقيل: وجه تعلقها بما تقدم أنهم إنما سألوه صلّى الله عليه وسلم تبديل القرآن لما فيه من ذم آلهتهم الذين افتروا في جعلها آلهة، وقيل: إن الآية توطئة لما بعدها ولا يخفى أن الأول هو الأنسب بالمقام وأوفق بالفاء وأبعد عن التكلف وأقرب انسياقا إلى الذهن السليم إِنَّهُ أي الشأن لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ أي لا ينجون من محذور ولا يفوزون بمطلوب، والمراد جنس المجرمين فيندرج فيه المفتري والمكذب اندراجا أوليا، ولا يخفى ما في اختيار ضمير الشأن من الاعتناء بشأن ما يذكر بعده من أول الأمر.
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ حكاية لجناية أخرى لهم وهي عطف على قوله سبحانه:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ الآية عطف قصة على قصة، ومِنْ دُونِ في موضع الحال من فاعل يَعْبُدُونَ أي متجاوزين الله تعالى إما بمعنى ترك عبادته سبحانه بالكلية لأنها لا تصح ولا تقع عبادة مع الشركة أو بمعنى عدم الاكتفاء بها وجعلها قرينا لعبادة غيره سبحانه كما اختاره البعض، وما إما موصولة أو موصوفة، والمراد بها الأصنام، ومعنى كونها لا تضر ولا تنفع أنها لا تقدر على ذلك لأنها جمادات، والمقصود من هذا الوصف نفي صحة معبوديتها لأن من شأن المعبود القدرة على ما ذكر، وقيل: المعنى لا تضرهم إن تركوا عبادتها ولا تنفعهم إن عبدوها والمقصود أيضا نفي صحة معبوديتها لأن من شأن المعبود أن يثيب عابده ويعاقب من لم يعبده، والفرق بين التفسيرين على ما قاله القطب إطلاق النفع والضر في الأول والتقييد بالعبادة وتركها في الثاني. وقيل: المقصود على الأول من الموصول الأصنام بعينها وعلى الثاني فاقد أوصاف المعبودية، ويجوز أن يدخل فيه غير الأصنام من الملائكة والمسيح عليهم السلام، والظاهر أن المراد هنا الأصنام لأن العرب إنما كانوا يعبدونها وكان أهل الطائف يعبدون اللات وأهل مكة العزى ومناة وهبل وإسافا ونائلة وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: كان النضر بن الحارث يقول: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى وفيه نزلت الآية.
والظاهر أن سائر المشركين كانوا يقولون هذا القول، ولعل ذلك منهم على سبيل الفرض والتقدير أي إن كان بعث كما زعمتم فهؤلاء يشفعون لنا، فلا يقال: إن المتبادر من الشفاعة عند الله تعالى أنه في الآخرة وهو مستلزم للبعث وهم ينكرونه كما يدل عليه قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل: 38] وكذا ما تقدم آنفا من قوله سبحانه: قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا فيلزم المنافاة بين مفاهيم الآيات، وكأنه لذلك قال الحسن عليه الرحمة: إنهم أرادوا من هذه الشفاعة الشفاعة في الدنيا لإصلاح المعاش، وحينئذ لا منافاة والجمهور على الأول، ومن سبر حال القوم رآهم مترددين ولذلك اختلفت كلماتهم، ونسبة الشفاعة للأصنام قيل باعتبار السببية وذلك لأنهم كما هو المشهور وضعوها على صور رجال صالحين ذوي خطر عندهم وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادتها فإن أولئك الرجال يشفعون لهم، وقيل: إنهم كانوا يعتقدون أن المتولي لكل إقليم روح معين من أرواح الأفلاك فعينوا لذلك الروح صنما من الأصنام واشتغلوا بعبادتها قصدا إلى عبادة الكواكب وقيل: غير ذلك، والحق أن من الأصنام ما وضع على الوجه الأول ومنها ما وضع لكونها كالهيا كل للروحانيات قُلْ تبكيتا لهم أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ أي أتخبرونه سبحانه بما لا وجود له ولا تحقق أصلا وهو كون الأصنام شفعاءهم عنده جل شأنه فإن ما لا يعلمه علام الغيوب

(6/83)


المحيط علمه بالكليات والجزئيات لا يكون له تحقق بالكلية، وذكروا أن مثل ذلك لا يسمى شيئا بناء على أنه كما قال سيبويه ما يصح أن يعلم ويخبر عنه وهو يشمل الموجود والمعدوم كما حققه بعض أصحابنا كالمعتزلة وسموا ما لا يعلم بالمنفي كالشريك وكاجتماع الضدين، وحقق ذلك الشيخ إبراهيم الكوراني في رسالة مستقلة أتى فيها بالعجب العجاب، ويجوز أن يراد بالموصول أن له سبحانه شريكا والمقصود على الوجهين من ذكر أنباء الله تعالى بما لا تحقق له ولم يتعلق به علمه التهكم والهزء بهم وإلا فلا أنباء، وقوله سبحانه: فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ في موضع الحال من العائد المحذوف أي بما لا يعلمه كائنا في ذلك، والمقصود منه تأكيد النفي المدلول عليه بما قبله فإنه قد جرى في العرف أن يقال عند تأكيد النفي للشيء ليس هذا في السماء ولا في الأرض لاعتقاد العامة أن كل ما يوجد إما في السماء وإما في الأرض كما هو رأي المتكلمين في كل ما سوى الله تعالى إذ هو سبحانه المعبود المنزه عن الحلول في المكان، والآيات التي ظاهرها ذلك من المتشابه والمذاهب فيه شهيرة، وهذا إذا أريد بالسماء والأرض جهتا العلو والسفل، وقيل: الكلام إلزامي لزعم المخاطبين الكافرين أن الأمر كذلك، وقيل: إن معنى الآية أتخبرونه تعالى بشريك أو شفيع لا يعلم شيئا في السماوات ولا في الأرض كما في قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النحل: 73] وليس بشيء سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن إشراكهم المستلزم لتلك المقالة الباطلة أو عن شركائهم الذين يعتقدونهم شركاء، وقرىء «أتنبئون» بالتخفيف، وقرأ حمزة، والكسائي تشركون بتاء الخطاب على أنه من جملة القول المأمور به، وعلى الأول هو اعتراض تذييلي من جهته سبحانه وتعالى.
وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً أي وما كان الناس كافة من أول الأمر إلا متفقين على الحق والتوحيد من غير اختلاف، وروي هذا عن ابن عباس، والسدي، ومجاهد، والجبائي، وأبي مسلم، ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «وما كان الناس إلا أمة واحدة على هدى» وذلك من عهد آدم عليه الصلاة والسلام إلى أن قتل قابيل هابيل، وقيل: إلى زمن إدريس عليه الصلاة والسلام، وقيل: إلى زمن نوح عليه الصلاة والسلام، وكانوا عشرة قرون، وقيل:
كانوا كذلك في زمنه عليه الصلاة والسلام بعد أن لم يبق على الأرض من الكافرين ديار إلى أن ظهر بينهم الكفر، وقيل: من لدن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى أن ظهر عمرو بن لحي عبادة الأصنام وهو المروي عن عطاء، وعليه فالمراد من النَّاسُ العرب خاصة وهو الأنسب بإيراد الآية الكريمة إثر حكاية ما حكي منهم من الهنات وتنزيه ساحة الكبرياء عن ذلك.
فَاخْتَلَفُوا بأن كفر بعضهم وثبت الآخرون على ما هم عليه فخالف كل من الفريقين الآخر، والفاء للتعقيب وهي لا تنافي امتداد زمان الاتفاق إذ المراد بيان وقوع الاختلاف عقيب انصرام مدة الاتفاق لا عقيب حدوثه وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بتأخير القضاء بينهم أو العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة فإنه يوم الفصل والجزاء لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ عاجلا فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بأن ينزل عليهم آيات ملجئة إلى اتباع الحق ورفع الاختلاف أو بأن يهلك المبطل ويبقى المحق، وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية والدلالة على الاستمرار، ووجه ارتباط الآية بما قبلها أنها كالتأكيد لما أشار إليه من أن التوحيد هو الدين الحق حيث أفادت أنه ملة قديمة اجتمعت عليها الأمم قاطبة وأن الشرك وفروعه جهالات ابتدعها الغواة خلافا للجمهور وشقا لعصا الجماعة، وقيل: وجه ذلك أنه سبحانه بين فيما قبل فساد القوم بعبادة الأصنام وبين في هذه أن هذا المذهب ليس مذهبا للعرب من أول الأمر بل كانوا على الدين الحق الخالي عن عبادة الأصنام وإنما حدثت فيهم عبادتها بتسويل الشياطين.

(6/84)


قيل: والغرض من ذلك أن العرب إذا علموا أن ما هم عليه اليوم لم يكن من قبل فيهم وإنما حدث بعد أن لم يكن لم يتعصبوا لنصرته ولم يتأذوا من تزييفه وإبطاله. وعن الكلبي أن معنى كونهم أمة واحدة اتفاقهم على الكفر وذلك في زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وروي مثله عن الحسن إلا أنه قال: كانوا كذلك من لدن وفاة آدم إلى زمن نوح عليهما السلام ثم آمن من آمن وبقي من بقي على الكفر. وفائدة إيراد هذا الكلام في هذا المقام تسليته صلّى الله عليه وسلم كأنه قيل: لا تطمع في أن يصير كل من تدعوه إلى الإيمان والتوحيد مجيبا لك قابلا لدينك فإن الناس كلهم كانوا على الكفر وإنما حدث الإيمان في بعضهم بعد ذلك فكيف تطمع في اتفاق الكل عليه. واعترض بأنه يلزم على هذا خلو الأرض في عصر عن مؤمن بالله تعالى عارف به وقد قالوا: إن الأرض في كل وقت لا تخلو عن ذلك. وأجيب بأن عدم الخلو في حيز المنع
فقد ورد في بعض الآثار أن الناس قبل يوم القيامة ليس فيهم من يقول الله الله،
وعلى تقدير التسليم المراد بالاتفاق على الكفر اتفاق الأكثر.
والحق أن هذا القول في حد ذاته ضعيف فلا ينبغي التزام دفع ما يرد عليه، وأضعف منه بل لا يكاد يصح كون المراد أنهم كانوا أمة واحدة فاختلفوا بأن أحدث كل منهم ملة على حدة من ملل الكفر مخالفة لملة الآخر لأن الكلام ليس في ذلك الاختلاف إذ كل من الفريقين مبطل حينئذ فلا يتصور ان يقضي بينهما بإبقاء المحق وإهلاك المبطل أو بإلجاء أحدهما إلى اتباع الحق ليرتفع الاختلاف كما لا يخفى هذا.
ومن باب الإشارة في الآيات: الر- ا- إشارة إلى الذات الذي هو أول الوجود و «ل» إشارة إلى العقل المسمى جبريل عليه السلام وهو أوسط الوجود الذي يستفيض من المبدأ ويفيض إلى المنتهى، و «ر» إشارة إلى الرحمة التي هي الذات المحمدية وهي في الحقيقة أول ووسط وآخر لكن الاعتبارات مختلفة، وكأن ذلك قسم منه تعالى بالحقيقة المحمدية على أن ما تضمنته السورة أو القرآن من الآي آيات الكتاب المتقن وقيل: المعنى ما أشير إليه بهذه الأحرف أركان كتاب الكل ذي الحكمة أو المحكم ومعظم تفاصيله أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ إنكار لتعجبهم من سنة الله الجارية وهي الإيحاء إلى رجل، وكان ذلك لبعدهم عن مقامهم وعدم مناسبة حالهم لحاله ومنافاة ما جاء به لما اعتقدوه أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ أي خوفهم من أن يشركوا بي شيئا وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ سابقة عظيمة وقربة ليس لأحد مثلها، وقيل: سابقة رحمة أودعها في محمد صلّى الله عليه وسلم قالَ الْكافِرُونَ أي المحجوبون عن الله تعالى إِنَّ هذا أي الكتاب الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم لَسِحْرٌ مُبِينٌ لما رأوه خارجا عن قدرهم واحتجبوا بالشيطنة عن الوقوف على حقيقة الحال قالوا ذلك إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي أوقات مقدار كل يوم منها دورة الفلك الأعظم مرة واحدة كما نص عليه الشيخ الأكبر والستة عدد تام واختاره الله تعالى لما فيه من الأسرار ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي الملك يُدَبِّرُ الْأَمْرَ على وفق حكمته بيد قدرته، وقد يفسر العرش بقلب الكامل فالكلام إشارة إلى خلق الإنسان الذي انطوى فيه العالم بأسره ما مِنْ شَفِيعٍ يشفع لأحد بدفع ما يضره أو جلب ما ينفعه إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ بموهبة الاستعداد ثم بتوفيق الأسباب ذلِكُمُ الموصوف بهذه الصفات الجليلة اللَّهُ رَبُّكُمْ الذي يربكم ويدبر أمركم فاعبدوه وخصوه بالعبادة واعرفوه بهذه الصفات ولا تعبدوا الشيطان ولا تحتجبوا عنه تعالى فتنسبوا قوله وفعله إلى الشيطان أَفَلا تَذَكَّرُونَ آياته التي خطها بيد قدرته في صحائف الآفاق والأنفس فتتفكروا فيها وتنزجروا عن الشرك به سبحانه إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً بالعود إلى عين الجمع المطلق في القيامة الصغرى أو إلى عين جمع الذات بالفناء فيه تعالى عند القيامة الكبرى كذا قيل، وقال بعض العارفين: إن مرجع العاشقين جماله ومرجع العارفين جلاله ومرجع الموحدين

(6/85)


كبرياؤه ومرجع الخائفين عظمته ومرجع المشتاقين وصاله ومرجع المحبين دنوه ومرجع أهل العناية ذاته، وقال الجنيد قدس سره في الآية: إنه تعالى منه الابتداء وإليه الانتهاء وما بين ذلك مرابع فضله وتواتر نعمه وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي يبدأه في النشأة الأولى ثم يعيده في النشأة الثانية أو يبدأ الخلق باختفائه وإظهارهم ثم يعيده بإفنائهم وظهوره لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي يفعل ذلك ليجزي المؤمن والكافر على حسب ما يقتضيه عمل كل، هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً أي جعل شمس الروح ضياء الوجود وَالْقَمَرَ أي قمر القلب نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ أي مقامات لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ أي سني مراتبكم وأطواركم في المسير إليه وفيه تعالى وَالْحِسابَ أي حساب درجاتكم ومواقع أقدامكم في كل مقام ومرتبة، ويقال: جعل شمس الذات ضياء للأرواح العارفة وجعل قمر الصفات نورا للقلوب العاشقة ففنيت الأرواح بصولة الذات في عين الذات وبقيت القلوب بمشاهدة الصفات في عين الصفات وهذه الشمس المشار إليها لا تغيب أصلا عن بصائر الأرواح ومن هنا قال قائلهم:
هي الشمس إلا أن للشمس غيبة ... وهذا الذي نعنيه ليس يغيب
إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ أي غلبة ظلمة النفس على القلب وَالنَّهارِ أي نهار إشراق ضوء الروح عليه وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ أي سماوات الأرواح وَالْأَرْضِ أي أرض الأجساد لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ حجب صفات النفس الأمارة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ أي يوصلهم إلى الجنات الثلاث بحسب نور إيمانهم فقوله سبحانه: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ كالبيان لذلك دَعْواهُمْ الاستعدادي فِيها أي في تلك الجنات سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ إشارة إلى تنزيهه تعالى والتنزيه في الأولى عن الشرك في الأفعال بالبراءة عن حولهم وقوتهم وفي الثانية عن الشرك في الصفات بالانسلاخ عن صفاتهم وفي الثالثة عن الشرك في الوجود بفنائهم وَتَحِيَّتُهُمْ أي تحية بعضهم لبعض أو تحية لله تعالى فِيها سَلامٌ أي إفاضة أنوار التزكية وإمداد التصفية أو إشراق أنوار التجليات وإمداد التجريد وإزالة الآفات وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي آخر ما يقتضيه استعدادهم قيامهم بالله تعالى في ظهور كمالاته وصفات جلاله وجماله عليهم وهو الحمد الحقيقي منه وله سبحانه وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً أي استغرق أوقاته في الدعاء فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ هذا وصف الذين لم يدركوا حقائق العبودية في مشاهد الربوبية فإنهم إذا أظلم عليهم ليل البلاء قاموا إلى إيقاد مصباح التضرع فإذا انجلت عنهم الغياهب بسطوع أنوار فجر الفرج نسوا ما كانوا فيه ومروا كأن لم يدعوا مولاهم إلى كشف ما عناهم:
كأن الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى ... ولم يك صعلوكا إذا ما تمولا
ولو كانوا عارفين لم يبرحوا دارة التضرع وإظهار العبودية بين يديه تعالى في كل حين وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً على الفطرة التي فطر الله الناس عليها متوجهين إلى التوحيد متنورين بنور الهداية الأصلية فَاخْتَلَفُوا بمقتضيات النشأة واختلاف الأمزجة والأهوية والعادات والمخالطات وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وهو قضاؤه سبحانه الأزلي بتقدير الآجال والأرزاق لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بإهلاك المبطل وإبقاء المحق، والمراد أن حكمة الله تعالى اقتضت أن يبلغ كل منهم وجهته التي ولى وجهه إليها بأعماله التي يزاولها هو وإظهار ما خفي في نفسه وسبحان الحكيم العليم.

(6/86)


وَيَقُولُونَ حكاية لجناية أخرى لهم، وفي الكشاف تفسير المضارع بالماضي أي وقالوا وجعل ذلك إشارة إلى أن العطف ليس على وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا كما يقتضيه ظاهر اللفظ وإنما هو على قوله سبحانه: قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا [يونس: 15] وما بينهما اعتراض وأوثر المضارع على الماضي ليؤذن باستمرار هذه المقالة وأنها من دأبهم وعادتهم مع ما في ذلك من استحضار صورتها الشنيعة.
وجوز العطف على يَعْبُدُونَ وهو الذي اقتصر عليه بعض المحققين، وأبقى بعضهم الفعل على ظاهره وله وجه، والقائل كفار مكة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أرادوا آية من الآيات التي اقترحوها كآية موسى. وعيسى عليهما السلام، ومعنى إنزالها عليه إظهار الله تعالى لها على يده صلّى الله عليه وسلم، وطلبوا ذلك تعنتا وعنادا وإلا فقد أتى صلّى الله عليه وسلم بآيات ظاهرة ومعجزات باهرة تعلو على جميع الآيات وتفوق سائر المعجزات لا سيما القرآن العظيم الباقي إعجازه على وجه الدهر إلى يوم القيامة، ولعمري لو أنصفوا لاستغنوا عن كل آية غيره عليه الصلاة والسلام فإنه الآية الكبرى ومن رآه وسبر أحواله لم يكد يشك في أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فَقُلْ لهم في الجواب إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ وهو جواب على ما قرره الطيبي على الأسلوب الحكيم فإنهم حين طلبوا ما طلبوا مع وجود الآيات المتكاثرة دل على أن سؤالهم للتعنت كما علمت آنفا فأجيبوا بما أجيبوا ليؤذن بأن سؤالهم سؤال المقترحين يستحقون به نقمة الله تعالى وحلول عقابه، يعني أنه لا بد أن يستأصل شأفتكم لكن لا أعلم متى يكون وأنتم كذلك لأن ذلك من الغيب وهو مختص به تعالى لا يعلمه أحد غيره جل شأنه وإذا كان كذلك فانتطروا ما يوجبه اقتراحكم إني معكم من المنتظرين إياه، وقيل: إن المراد أنه تعالى هو المختص بعلم الغيب والصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب فلا يعلمه إلا هو، واعترض عليه بأنه معين وهو عنادهم قال تعالى: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:
109] .
وأجيب بأنا لا نسلم أن عنادهم هو الصارف وقد يجاب المعاند والآية وإن دلت على بقائهم على العناد وإن جاءت لم تدل على أن العناد هو الصارف.
واختار بعض المحققين أن ما اقترحتموه وزعمتم أنه من لوازم النبوة وعلقتم إيمانكم بنزوله من الغيوب المختصة به سبحانه لا وقوف لي عليه فانتظروا نزوله إني معكم من المنتظرين لما يفعل الله تعالى بكم لاجترائكم على مثل هذه العظيمة من جحود الآيات، واقتراح غيرها، واعترض على ما قيل بأنه يأباه ترتيب الأمر بالانتظار على اختصاص الغيب به تعالى، والذي يخطر بالبال أن سؤال القوم قاتلهم الله تعالى متضمن لدعوى أن الصلاح في إنزال آية مما اقترحوا حيث لم يعتبروا ما نزل ولم يلتفتوا إليه فكأنهم قالوا: لا صلاح في نزول ما نزل وإنما الصلاح في إنزال آية مما نقترح فلولا نزلت وفي ذلك دعوى الغيب بلا ريب فأجيبوا بأن الغيب مختص بالله فهو الذي يعلم ما به الصلاح لا أنتم ولا غيركم ثم قال سبحانه: فَانْتَظِرُوا إلخ على معنى وإذا كان علم الغيب مختصا بالله تعالى وقد ادعيتم من ذلك ما ادعيتم وطعنتم فيما طعنتم فانتظروا نزول العذاب بكم إني معكم من المنتظرين إياه، ولا يرد على هذا ما أورد على غيره ولا ما عسى أن يورد أيضا فتأمل.

(6/88)


وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً كالصحة والسعة مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ أي خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم، وإسناد المساس إلى الضراء بعد إسناد الإذاقة إلى ضمير الجلالة من الآداب القرآنية كما في قوله تعالى: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] ونظائره وينبغي التأدب في ذلك
ففي الخبر «اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك»
والمراد بالناس كفار مكة على ما قيل لما روي أن الله تعالى سلط عليهم القحط سبع سنين حتى كادوا يهلكون فطلبوا منه صلّى الله عليه وسلم أن يدعو لهم بالخصب ووعده بالإيمان فلما دعا لهم ورحمهم الله تعالى بالحياء طفقوا يطعنون في آياته تعالى ويعاندونه عليه الصلاة والسلام ويكيدونه وذلك قوله سبحانه: إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا أي بالطعن فيها وعدم الاعتداد بها والاحتيال في دفعها، والظاهر أن المراد بالآيات: الآيات القرآنية، وقيل: المراد بها الآيات التكوينية كإنزال الحياء، ومكرهم فيها إضافتها إلى الأصنام والكواكب. وقيل: إن النَّاسَ عام لجميع الكفار، ولا يجوز حمله على ما يشمل العصاة كما لا يخفى، وكانت العرب تضيف الأمطار وكذا الرياح والحر والبرد إلى الأنواء، وهو جمع نوء مصدر ناء ينوء إذا نهض بجهد ومشقة ويقال ذلك أيضا إذا سقط فهو من الأضداد، ويطلق على النجم الذي هو أحد المنازل الثمانية والعشرين التي ذكرناها فيما سبق وهو المراد في كلامهم إلا أن الإضافة إليه باعتبار سقوطه مع الفجر كما هو المشهور أو باعتبار طلوعه ذلك الوقت كما قال الأصمعي.
وقد عد القائل بتأثير الأنواء كافرا
فقد روى الشيخان، وأبو داود، والنسائي عن زيد بن خالد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال الله تعالى أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكوكب وكافر بي ومؤمن بالكوكب فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب»
ولعل كون ذلك من الكفر بالله تعالى مبني على زعم أن للكواكب تأثيرا اختيارا ذاتيا في ذلك وإلا فاعتقاد أن التأثير عندها لا بها كما هو المشهور من مذهب الأشاعرة في سائر الأسباب ليس بكفر كما نص عليه العلامة ابن حجر، وكذا اعتقاد أن التأثير بها على معنى إن الله تعالى أودع فيها قوة مؤثرة بإذنه فمتى شاء سبحانه أثرت ومتى لم يشأ لم تؤثر كما هو مذهب السلف في الأسباب على ما قرره الشيخ إبراهيم الكوراني في مسلك السداد، ولو كان نسبة التأثير مطلقا إلى الأنواء ونحوها من العلويات كفرا لا تسع الخرق ولزم إكفاء كثير من الناس حتى أفاضلهم لقولهم بنسبة الكثير من عالم الكون والفساد إلى العلويات ويسمونها بالآباء العلوية، وقد صرح الشيخ الأكبر قدس سره بأن للكواكب السيارات وغيرها تأثيرا في هذا العالم إلا أن الوقوف على تعيين جزئياته مما لا يطلع عليه إلا أرباب الكشف والأرصاد القلبية، وليس مراده قدس سره وكذا مراد من أطلق التأثير إلا ما ذهب إليه أحد الفريقين في الأسباب وحاشا ثم حاشا أن يكون أولئك الأفاضل ممن يعتقد أن في الوجود مؤثرا غير الله تعالى بل من وقف على حقيقة كلام الحكماء الذين هم بمعزل عن الشريعة الغراء وجدهم متفقين على أن الوجود معلول له تعالى على الإطلاق، قال بهمنيار في التحصيل:
فإن سئلت الحق فلا يصح أن يكون علة الوجود إلا ما هو بريء من كل وجه من معنى ما بالقوة وهذا هو المبدأ الأول لا غير، وما نقل عن أفلاطون من قوله: إن العالم كرة والأرض مركز والإنسان هدف والأفلاك قسي والحوادث سهام والله تعالى هو الرامي فأين المفر يشعر بذلك أيضا نعم إنهم قالوا بالشرائط العقلية وهي المراد بالوسائط في كلام بعضهم وهو خلاف المذهب الحق، والجملة لا يكفر من قال: إن الكواكب مؤثرة على معنى أن التأثير عندها أو بها بإذن الله تعالى بل حكمه حكم من قال: إن النار محرقة والماء مرو مثلا، ولا فرق بين القولين إلا بما عسى أن يقال: إن التأثير في نحو النار والماء أمر محسوس مشاهد والتأثير في الكواكب ليس كذلك والقول به رجم بالغيب لكن ذلك بعد تسليمه لا يوجب كون أحد القولين كفرا دون الآخر كما لا يخفى على المنصف، ومع هذا الأحوط عدم إطلاق نسبة التأثير إلى الكواكب والتجنب عن التلفظ بنحو ما أكفر الله سبحانه المتلفظة هذا وَإِذا الأولى شرطية والثانية

(6/89)


فجائية رابطة للجواب، وتنكير مَكْرٌ للتفخيم. وفِي متعلقة بالاستقرار الذي تتعلق به اللام.
قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً أي منكم فأسرع أفعل تفضيل وهو مأخوذ إما من سرع الثلاثي كما حكاه الفارسي أو من أسرع المزيد إلا أن في أخذ أفعل من المزيد خلافا فمنهم من منعه مطلقا ومنهم من جوزه مطلقا ومنهم من قال: إن كانت الهمزة للتعدية امتنع وإلا جاز ومثله في ذلك بناء التعجب، ووصف المفضل عليه بالسرعة دل عليه المفاجأة على أن صحة استعمال أسرع في ذلك لا يتوقف على دلالة الكلام على ما ذكر خلافا لما يقتضيه ظاهر كلام الزمخشري، وأصل المكر إخفاء الكيد والمضرة، والمراد به الجزاء والعقوبة على المكر مجازا مرسلا أو مشاكلة وهي لا تنافيه كما في شرح المفتاح، وقد شاع أنه لا يستعمل فيه تعالى إلا على سبيل المشاكلة وليس بذاك كما حقق في موضعه إِنَّ رُسُلَنا الحفظة من قبلنا على أعمالكم يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ أي مكركم أو ما تمكرونه، وكيفية كتابة ذلك مما لا يلزم العلم به ولا حاجة إلى جعل ذلك مجازا عن العلم، وهذا تحقيق للانتقام منهم وتنبيه على أن ما دبروا في إخفائه غير خاف على الكتبة فضلا عن منزل الكتاب الذي لا تخفى عليه خافية. وفي ذلك تجهيل لهم كما لا يخفى، والظاهر أن الجملة ليست داخلة في الكلام الملقن كقوله تعالى: وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً [الكهف: 109] وهي تعليل لأسرعية مكره سبحانه وتعالى، وجوز أن تكون داخلة في ذلك وفي إِنَّ رُسُلَنا التفاتا إذ لو أجرى على قوله سبحانه: قُلِ اللَّهُ لقيل إن رسله فلا إشكال فيه من حيث إنه لا وجه لأمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إن رسلنا إذ الضمير لله تعالى لا له عليه الصلاة والسلام بتقدير مضاف أي رسل بنا أو بالإضافة لأدنى ملابسة كما قيل.
وقال بعضهم في الجواب: إنه حكاية ما قال الله تعالى على كون المراد أداء هذا المعنى لا بهذه العبارة.
وقرأ الحسن ومجاهد يمكرون على لفظ الغيبة، وروي ذلك أيضا عن نافع ويعقوب وفيه الجري على ما سبق من قوله سبحانه: مَسَّتْهُمْ ولَهُمْ والمناسب الخطاب كما قرأ الباقون إذا كانت الجملة داخلة في حيز القول إذ المعنى قل لهم، ومناسبة الخطاب حينئذ ظاهرة وفيه أيضا مبالغة في الإعلام بمكرهم، وجعلها بعض المحققين على تلك القراءة وعدم دخولها في حيز القول تعليلا للأسرعية أو الأمر المذكور. وصيغة الاستقبال في الفعلين للدلالة على الاستمرار والتجدد وكذا في قوله سبحانه: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وهو على ما قيل كلام مستأنف مسوق لبيان جناية أخرى لهم مبنية على ما مر آنفا من اختلاف حالهم بحسب اختلاف ما يعتريهم من الضراء.
وعن أبي مسلم أنه تفسير لبعض ما أجمل في قوله سبحانه: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ إلخ، وهو قريب من قول الإمام أنه تعالى لما قال: وَإِذا أَذَقْنَا الآية وهو كلام كلي ضرب لهم مثلا بهذا ليتضح ويظهر ما هم عليه.
وزعم بعضهم أنه متصل بما تقدم من دلائل التوحيد فكأنه قيل: إلهكم الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وهُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ إلخ، وأول التسيير بالحمل على السير والتمكين منه، والداعي لذلك قيل: عدم صحة جعل قوله سبحانه: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ غاية للتسيير في البحر مع أنه مقدم عليه وغاية الشيء لا بد أن تكون متأخرة عنه، وبعد التأويل لا إشكال في جعل ما ذكر غاية لما قبله.
وقيل: هو دفع لزوم الجمع بين الحقيقة والمجاز وذلك لأن المسير في البحر هو الله تعالى إذ هو سبحانه المحدث لتلك الحركات في الفلك بالريح ولا دخل للعبد فيه بل في مقدماته، وأما سير البر فمن الأفعال الاختيارية الصادرة من المخاطبين أنفسهم إن كانوا مشاة أو من دوابهم إن كانوا ركبانا وتسيير الله تعالى فيه إعطاء الآلات والأدوات ولزوم الجمع عليه ظاهر. ووجه الدفع أن المراد من التسيير ما ذكر وهو معنى مجازي شامل للحقيقة والمجاز.

(6/90)


وادعى بعضهم اتحاد التسيير في البر والبحر واستدل بالآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى. وتعقب بأنه تكلف. والزمخشري لم يؤول التسيير بما ذكرنا وجعل الغاية مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد حتى بما في حيزها كأنه قيل: يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف وتراكم الأمواج والظن للهلاك والدعاء بالإنجاء دون الكون في البحر، وتعقب ذلك القطب بأنه لو جعل الكون في الفلك مع ما عطف عليه من قوله تعالى: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها كفى ولم يحتج إلى اعتبار مجموع الشرط والجزاء، ثم قال:
والتحقيق أن الغاية إن فسرت بما ينتهي إليه الشيء بالذات فهي ليس إلا ما وقع شرطا في مثل ذلك وإن فسرت بما ينتهي إليه الشيء مطلقا سواء كان بالذات أو بالواسطة فهي مجموع الشرط والجزاء، واستوضح ذلك من قولك: مشيت حتى إذا بلغت البلد اتجرت فإن ما انتهى إليه المشي بالذات الوصول إلى البلد وأما الاتجار فأمر مترتب على ذلك فيكون مما انتهى إليه المشي بالواسطة والتضعيف في يسير للتعدية تقول سار الرجل وسيرته، وقال الفارسي: إن سار متعد كسير لأن العرب تقول سرت الرجل وسيرته بمعنى، ومنه قول الهذلي:
فلا تجزعي من سنة أنت سرتها ... فأول راض سنة من يسيرها
وقال في الصحاح: سارت الدابة وسارها صاحبها يتعدى ولا يتعدى وأنشد له هذا البيت، وأوله النحويون حيث لم يرتضوا ذلك، والْفُلْكِ السفن ومفرده وجمعه واحد وتغاير الحركات بينهما اعتباري، وفي الصحاح أنه واحد وجمع يذكر ويؤنث وكأن ذلك باعتبار المركب والسفينة. وكان سيبويه يقول: الفلك التي هي جمع تكسير للفلك الذي هو واحد وليست مثل الجنب الذي هو واحد وجمع والطفل وما أشبههما من الأسماء لأن فعلا وفعلا يشتركان في الشيء الواحد مثل العرب والعرب والعجم والعجم والرهب والرهب فحيث جاز أن يجمع فعل على فعل مثل أسد وأسد لم يمتنع أن يجمع فعل على فعل، وضمير جَرَيْنَ للفلك وضمير بِهِمْ لمن فيها وهو التفات للمبالغة في تقبيح حالهم كأنه أعرض عن خطابهم وحكى لغيرهم سوء صنيعهم، وقيل: لا التفات بل معنى قوله سبحانه: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ حتى إذا كان بعضكم فيها إذ الخطاب للكل ومنهم المسيرون في البر فالضمير الغائب عائد إلى ذلك المضاف المقدر كما في قوله تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ [النور: 40] فإنه في تقدير أو كذي ظلمات يغشاه موج، والباء الأولى للتعدية والثانية وكذا الثالثة للسببية فلذا تعلق الحرفان بمتعلق واحد، وإلا فقد منعوا تعلق حرفين بمعنى بمتعلق واحد، واعتبار تعلق الثاني بعد تعلق الأول به وملاحظته معه يزيل اتحاد المتعلق.
وجوز أن تكون الثانية للحال أي جرين بهم ملتبسة بريح فتتعلق بمحذوف كما في البحر، وقد تجعل الأولى للملابسة أيضا وَفَرِحُوا عطف على جَرَيْنَ وهو عطف على كُنْتُمْ وقد تجعل حالا بتقدير قد وضمير بِها للريح ونقل الطبرسي القول برجوعه للفلك ولا يكاد يجري به القلم، والمراد بطيبة حسبما يقتضيه المقام لينة الهبوب موافقة المقصد.
وظاهر الآية- على ما نقل عن الإمام- يقتضي أن راكب السفينة متحرك بحركتها خلافا لمن قال: إنه ساكن، ولا وجه كما قال بعض المحققين لهذا الخلاف فإنه ساكن بالذات سائر بالواسطة. وقرأ ابن عامر «ينشركم» بالنون والشين المعجمة والراء المهملة من النشر ضد الطي أي يفرقكم ويبثكم، وقرأ الحسن «ينشركم» من أنشر بمعنى أحيا.
وقرأ بعض الشاميين «ينشّركم» بالتشديد للتكثير من النشر أيضا، وعن أم الدرداء أنها قرأت «في الفلكي» بزيادة ياءي النسب، ووجه ذلك بأنهما زائدتان كما في الخارجي والأحمري ولا اختصاص لذلك في الصفات لمجيء دودوي

(6/91)


وأنا الصلتاني في قول الصلتان، ويجوز أن يراد به اللج والماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه، وقوله سبحانه:
جاءَتْها جواب إِذا والضمير المنصوب للفلك أو للريح الطيبة على معنى تلقتها واستولت عليها من طرف مخالف لها فإن الهبوب على وفقها لا يسمى على ما قيل مجيئا لريح أخرى عادة بل هو اشتداد للريح الأولى، ورجح الثاني بأنه الأظهر لاستلزامه للأول من غير عكس لأن الهبوب على طريقة الريح اللينة بعد مجيئا بالنسبة إلى الفلك دون الريح اللينة مع أنه لا يستتبع تلاطم الأمواج الموجب لمجيئها من كل مكان ولأن التهويل في بيان استيلائها على ما فرحوا به وعلقوا به حبال رجائهم أكثر وفيه تأمل رِيحٌ عاصِفٌ أي ذات عصف فهو من باب النسب كلابن وتامر، ويستوي فيه المذكر والمؤنث كما صرحوا به فلذا لم يقل عاصفة مع أن الريح مؤنثة لا تذكر بدون تأويل.
وقيل: لم يقل عاصفة لأن العصوف مختص بالريح فهو كحائض فلا حاجة إلى الفارق أو أنه اعتبر التذكير في الريح كما اعتبر فيها التأنيث والأولى ما قدمناه، وأصل العصف الكسر والنبات المتكسر والمراد شديدة الهبوب وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ وهو ما علا وارتفع من اضطراب الماء، وقيل: هو اضطراب البحر والأول هو المشهور من كلّ الموج وهو ما علا وارتفع من اضطراب الماء، وقيل: هو اضطراب البحر والأول هو المشهور مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي من أمكنة مجيء الموج عادة وقد يتفق مجيئه من جهات حسب أسباب تتفق لذلك وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أي أهلكوا كما رواه ابن المنذر عن ابن جريج، ففي الكلام استعارة تبعية، وقيل: إن الإحاطة استعارة لسد مسالك الخلاص تشبيها له بإحاطة العدو بإنسان ثم كني بتلك الاستعارة عن الهلاك لكونها من روادفها ولوازمها.
وقيل: إن ذلك مثل في الهلاك، والظن على ما يتبادر منه، وجوز أن يكون بمعنى اليقين بناء على تحقق وقوعه في اعتقادهم أو كون الكناية عن القرب من الهلاك دَعَوُا اللَّهَ جعله غير واحد بدل اشتمال من ظنوا لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فبينهما ملابسة تصحح البدلية، وقيل: هو جواب ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشرط أي لما ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله إلخ.
وجعله أبو حيان استئنافا بيانيا كأنه قيل: فماذا كان حالهم إذ ذاك؟ فقيل: دعوا إلخ، ورجح القول بالبدل عليه بأنه أدخل في اتصال الكلام. والدلالة عن كونه المقصود مع إفادته ما يستفاد من الاستئناف مع الاستغناء عن تقدير السؤال وأنت تعلم أن تقدير السؤال ليس تقديرا حقيقيا بل أمر اعتباري وفيه من الإيجاز ما فيه وليس بأبعد مما تكلف للبدلية، ويشعر كلام بعضهم جواز كونه جواب الشرط، وجاءَتْها في موضع الحال كقوله تعالى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ [العنكبوت: 65] الآية، وتعقب بأن الاحتياج إلى الجواب يقتضي صرف ما يصلح له إليه لا إلى الحال الفضلة المفتقرة إلى تقدير قد مع أن عطف وَظَنُّوا على جاءَتْها يأبى الحالية والفرح بالريح الطيبة لا يكون حال مجيء العاصفة والمعنى على تحقق المجيء لا على تقديره ليجعل حالا مقدرة ولا يخلو عن حسن، والظاهر أن ما عده مانعا من الحالية غير مشترك بينه وبين كونه جواب إِذا لأنه يقتضي أنهما في زمان واحد كما لا يخفى على من له أدنى معرفة بأساليب الكلام، وقوله سبحانه: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حال من ضمير دَعَوُا ولَهُ متعلق بمخلصين والدِّينَ مفعوله أي دعوه تعالى من غير إشراك لرجوعهم من شدة الخوف إلى الفطرة التي جبل عليها كل أحد من التوحيد وأنه لا متصرف إلا الله سبحانه المركوز في طبائع العالم وروي ذلك عن ابن عباس
ومن حديث أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص: «لما كان يوم الفتح فر عكرمة بن أبي جهل فركب البحر فأصابتهم عاصف فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ما ينجيني في البر غيره اللهم إن لك عهدا إن أنت عافيتني مما أنا

(6/92)


فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا كريما قال فجاء فأسلم» .
وفي رواية ابن سعد عن أبي مليكة وأن عكرمة لما ركب السفينة وأخذتهم الريح فجعلوا يدعون الله تعالى ويوحدونه قال: ما هذا؟ فقالوا: هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله تعالى قال: فهذا له محمد صلّى الله عليه وسلم الذي يدعونا إليه فارجعوا بنا فرجع. وأسلم» .
وظاهر الآية أنه ليس المراد تخصيص الدعاء فقط به سبحانه بل تخصيص العبادة به تعالى أيضا لأنهم بمجرد ذلك لا يكونون مخلصين له الدين.
وأيّا ما كان فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره تعالى في تلك الحال، وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جسيم في بر أو بحر دعوا من لا يضر ولا ينفع ولا يرى ولا يسمع فمنهم من يدعو الخضر واليأس ومنهم من ينادي أبا الخميس والعباس ومنهم من يستغيث بأحد الأئمة ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة ولا ترى فيهم أحدا يخص مولاه بتضرعه ودعاه ولا يكاد يمر له ببال أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال فبالله تعالى عليك قل لي أي الفريقين من هذه الحيثية أهدى سبيلا وأي الداعيين أقوم قيلا؟ وإلى الله تعالى المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة وتلاطمت أمواج الضلالة وخرقت سفينة الشريعة واتخذت الاستغاثة بغير الله تعالى للنجاة ذريعة وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف، هذا وقوله تعالى: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ في محل نصب بقول مقدر عند البصريين وهو حال من الضمير السابق، ومذهب الكوفيين إجراء الدعاء مجرى القول لأنه من أنواعه وجعل الجملة محكية به والأول هو الأولى هنا، واللام موطئة لقسم مقدر ولَنَكُونَنَّ جوابه.
والمشار إليه بهذه الحال التي هم فيها أي والله لئن أنجيتنا مما نحن فيه من الشدة لنكونن البتة بعد ذلك أبدا شاكرين لنعمك التي من جملتها هذه النعمة المسئولة، والعدول عن لنشكرن إلى ما في النظم الجليل للمبالغة في الدلالة على الثبوت في الشكر والمثابرة عليه فَلَمَّا أَنْجاهُمْ مما نزل بهم من الشدة والكربة، والفاء للدلالة على سرعة الإجابة إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ أي فاجؤوا الفساد فيها وسارعوا إليه مترامين في ذلك ممعنين فيه من قولهم: بغى الجرح إذا ترامى في الفساد، وزيادة فِي الْأَرْضِ للدلالة على شمول بغيهم لأقطارها، وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار، وقوله سبحانه وتعالى: بِغَيْرِ الْحَقِّ تأكيد لما يفيده البغي إذ معناه أنه بغير الحق عندهم أيضا بأن يكون ظلما ظاهرا لا يخفى قبحه على كل أحد كما قيل نحو ذلك في قوله تعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة: 61] .
وقد فسر البغي بإفساد صورة الشيء وإتلاف منفعته وجعل بِغَيْرِ الْحَقِّ للاحتراز مما يكون من ذلك بحق كتخريب الغزاة ديار الكفرة وقطع أشجارهم وحرق زروعهم كما فعل صلّى الله عليه وسلم ببني قريظة.
وتعقب بأنه مما لا يساعده النظم الكريم لأن البغي بالمعنى الأول هو اللائق بحال المفسدين فينبغي بناء الكلام عليه. والزمخشري اختار كون ذلك للاحتراز عما ذكر. وذكر في الكشف أنه أشار بذلك إلى أن الفساد اللغوي خروج الشيء من الانتفاع فلا كل بغي- أي فساد في الأرض واستطالة فيها- كذلك كما علمت وإن كان موضوعه العرفي للاستطالة بغير حق لكن النظر إلى موضوعه الأصلي، وقيل: إن البغي الذي يتعدى بفي بمعنى الإتلاف والإفساد وهو يكون حقا وغيره والذي يتعدى بعلى بمعنى الظلم، وتقييد الأول بغير الحق للاحتراز وتقييد الثاني به للتأكيد، ولعل من يجعل البغي هنا بمعنى الظلم يقول: إن المعنى يبغون على المسلمين مثلا فافهم يا أَيُّهَا النَّاسُ توجيه الخطاب إلى أولئك الباغين للتشديد في التهديد والمبالغة في الوعيد إِنَّما بَغْيُكُمْ الذي تتعاطونه وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه:

(6/93)


عَلى أَنْفُسِكُمْ أي عليكم في الحقيقة لا على الذين تبغون عليهم وإن ظن كذلك، وقوله تعالى: مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا نصب على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر بطريق الاستئناف أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا، والمراد من ذلك بيان كون ما في البغي من المنفعة العاجلة شيئا غير معتد به سريع الزوال دائم الوبال، وقيل: إنه منصوب على أنه مصدر واقع موقع الحال أي متمتعين، والعامل هو الاستقرار الذي في الخبر ولا يجوز أن يكون نفس البغي لأنه لا يجوز الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر، وأيضا لا يخبر عن المصدر إلا بعد تمام صلاته ومعمولاته. وتعقب بأنه ليس في تقييد كونهم بغيهم على أنفسهم محال تمتعهم بالحياة الدنيا معنى يعتد به.
وقيل: على أنه ظرف زمان كمقدم الحاج أي زمان متاع الحياة الدنيا والعامل فيه الاستقرار أيضا وفيه ما في سابقه، وقيل: على أنه مفعول لفعل دل عليه المصدر أي تبغون متاع الحياة الدنيا. واعترض بأن هذا يستدعي أن يكون البغي بمعنى الطلب لأنه الذي يتعدى بنفسه والمصدر لا يدل عليه، وجعل المصدر أيضا بمعناه مما يخل بجزالة النظم الكريم لأن الاستئناف لبيان سوء عاقبة ما حكي عنهم من البغي المفسر على المختار بالفساد المفرط اللائق بحالهم وحينئذ تنتفي المناسبة ويفوت الانتظام، وجعل الأول أيضا بمعناه مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه.
وقيل: على أنه مفعول له أي لأجل متاع الحياة الدنيا والعامل فيه الاستقرار. وتعقب بأن المعلل بما ذكر نفس البغي لا كونه على أنفسهم، وقيل: العامل فيه فعل مدلول عليه بالمصدر أي تبغون لأجل متاع الحياة الدنيا على أن الجملة مستأنفة، وقيل: على أنه مفعول صريح للمصدر وعليكم متعلق به لا خبر لما مر، والمراد بالأنفس الجنس، والخبر محذوف لطول الكلام، والتقدير إنما بغيكم على أبناء جنسكم متاع الحياة الدنيا مذموم أو منهي عنه أو ضلال أو ظاهر الفساد أو نحو ذلك. وفيه الابتناء على أن البغي بمعنى الطلب وقد علمت ما فيه. نعم لو جعل نصبه على العلة أي إنما بغيكم على أبناء جنسكم لأجل متاع الحياة الدنيا مذموم كما اختاره بعضهم لكان له وجه في الجملة لكن الحق الذي يقتضيه جزالة النظم هو الأول. وقرأ الجمهور «متاع» بالرفع.
قال صاحب المرشد: وفيه وجهان، أحدهما كونه الخبر والظرف صلة المصدر. والثاني كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو أو ذلك متاع، وزيد وجه آخر وهو كونه خبرا بعد خبر لبغيكم، والمختار بل المتعين على الوجه الأول كون المراد بأنفسكم أبناء جنسكم أو أمثالكم على سبيل الاستعارة، والتعبير عنهم بذلك للتشفيق والحث على ترك إيثار التمتع المذكور على ما ينبغي من الحقوق، ولا مانع على الوجهين الأخيرين من الحمل على الحقيقة كما بين ذلك مولانا شيخ الإسلام. وقرىء بنصب المتاع وَالْحَياةَ وخرج نصب الأول على ما مر ونصب الثاني على أنه بدل اشتمال من الأول.
وقيل: على أنه مفعول به له إذا لم يكن انتصابه على المصدرية لأن المصدر المؤكد لا يعمل، وذكر أبو البقاء أنه قرئ بجرهما على أن الثاني مضاف إليه والأول نعت للأنفس أي ذات متاع، وجوز أن يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل أي متمتعات، وضعف كونه بدلا إذ قد أمكن كونه صفة «هذا» وفي الآية من الزجر عن البغي ما لا يخفى.
وقد أخرج أبو الشيخ، وأبو نعيم، والخطيب، والديلمي، وغيرهم عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاث هن رواجع على أهلها المكر والنكث والبغي ثم تلا عليه الصلاة والسلام يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ومن نكث فإنما ينكث على نفسه» .
وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي بكرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة

(6/94)


من البغي وقطيعة الرحم.
وأخرج أيضا من طريق بلال بن أبي بردة عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يبغي على الناس إلا ولد بغي أو فيه عرق منه» .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم قالا: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما»
وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين لأخيه:
يا صاحب البغي إن البغي مصرعة ... فأربع فخير فعال المرء أعدله

فلو بغى جبل يوما على جبل ... لاندكّ منه أعاليه وأسفله
وعقد ذلك الشهاب فقال:
إن يعد ذو بغي عليك فخله ... وارقب زمانا لانتقام باغي

واحذر من البغي الوخيم فلو بغى ... جبل على جبل لدك الباغي
ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ عطف على ما مر من الجملة المستأنفة المقدرة كأنه قيل: تتمتعون متاع الحياة الدنيا ثم ترجعون إلينا، وإنما غير السبك إلى ما في النظم الكريم للدلالة على الثبات والقصر.
فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا على الاستمرار من البغي فهو وعيد وتهديد بالجزاء والعذاب وقد تقدم الكلام في نظيره إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كلام مستأنف لبيان شأن الحياة الدنيا وقصر مدة التمتع فيها، وأصل المثل ما شبه مضربه بمورده ويستعار للأمر العجيب المستغرب، أي إنما حالها في سرعة تقضيها وانصرام نعيمها بعد إقبالها واغترار الناس بها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ أي فكثر بسببه نَباتُ الْأَرْضِ حتى التف بعضه ببعض، فالباء للسببية ومنهم من أبقاها على المصاحبة، وجعل الاختلاط بالماء نفسه فإنه كالغذاء للنبات فيجري فيه ويخالطه والأول هو الذي يقتضيه كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ كالبقول والزروع والحشيش والمراعي، والجار والمجرور في موضع الحال من النبات حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ أي استوفت واستكملت زُخْرُفَها أي حسنها وبهجتها وَازَّيَّنَتْ بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة:
كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبغة والبعض أقصر من بعض
وقد ذكر غير واحد أن في الكلام استعارة بالكناية حيث شبهت الأرض بالعروس وحذف المشبه به وأقيم المشبه مقامه وإثبات أخذ الزخرف لها تخييل وما بعده ترشيح، وقيل: الزخرف الذهب استعير للنضارة والمنظر المشار، وأصل ازينت تزينت فأدغمت التاء في الزاي وسكنت فاجتلبت همزة وصل للتوصل للابتداء بالساكن، وبالأصل قرأ عبد الله، وقرأ الأعرج، والشعبي، وأبو العالية، ونصر بن عاصم، والحسن بخلاف «وأزينت» بوزن أفعلت كأكرمت، وكان قياسه أن يعل فيقلب ياؤه ألفا فيقال ازانت لأنه المطرد في باب الأفعال المعتل العين لكنه ورد على خلافه كأغيلت المرأة إذا سقت ولدها الغيل وهو لبن حملها عليه وقد جاء أغالت على القياس.
ومعنى الأفعال هنال هنا الصيرورة أي صارت ذات زينة أو صيرت نفسها كذلك، وقرأ أبو عثمان النهدي «ازيأنت» بهمزة وصل بعدها زاي ساكنة وياء مفتوحة وهمزة كذلك ونون مشددة وتاء تأنيث، وأصله ازيانت بوزن احمارت بألف صريحة فكرهوا اجتماع ساكنين فقلبوا الألف همزة مفتوحة كما قرىء الضالين وجاء أيضا احمأرت بالهمزة كقوله:
إذا ما الهوادي بالعبيط احمأرت وقرأ عوف بن جميل «ازيانت» بألف من غير إبدال، وقرىء «ازاينت» لقصد المبالغة وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ

(6/95)


عَلَيْها أي على الأرض، والمراد ظنوا أنهم متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها رافعون لغلتها، وقيل: الكناية للزروع، وقيل: للثمرة، وقيل: للزينة لانفهام ذلك من الكلام أَتاها أَمْرُنا جواب إِذا أي نزل بها ما قدرناه من العذاب وهو ضرب زرعها ما يحتاجه من الآفات والعاهات كالبرد، والجراد، والفأر، والصرصر، والسموم، وغير ذلك لَيْلًا أَوْ نَهاراً أي في ليل أو في نهار، ولعل المراد الإشارة إلى أنه لا فرق في إتيان العذاب بين زمن غفلتهم وزمن يقظتهم إذ لا يمنع منه مانع ولا يدفع عنه دافع فَجَعَلْناها أي فجعلنا نباتها حَصِيداً أي شبيها بما حصد من أصله، والظاهر أن هذا من التشبيه لذكر الطرفين فيه فإن المحذوف في قوة المذكور، وجوز أن يكون هناك استعارة مصرحة والأصل جعلنا نباتها هالكا فشبه الهالك بالحصيد وأقيم اسم المشبه به مقامه، ولا ينافيه تقدير المضاف كما توهم لأنه لم يشبه الزرع بالحصيد بل الهالك به. وذهب السكاكي إلى أن في الكلام استعارة بالكناية حيث شبهت الأرض المزخرفة والمزينة بالنبات الناضر المونق الذي ورد عليه ما يزيله ويفنيه وجعل الحصيد نخيلا ولا يخفى بعده كَأَنْ لَمْ تَغْنَ أي كان لم يغن نباتها أي لم يمكث ولم يقم، فتغن من غني بالمكان إذا أقام ومكث فيه ومنه قيل للمنزل مغنى، وقد حذف المضاف في هذا وفيما قبله فانقلب الضمير المجرور منصوبا في أولهما ومرفوعا مستترا في الثاني، واختير الحذف للمبالغة حيث أفاد ظاهر الكلام جعل الأرض نفسها حصيدا وكأنها نفسها لم تكن لتغيرها بتغير ما فيها، وقد عطف بعضهم عليهما عَلَيْها لما أن التقدير فيه على نباتها فحذف المضاف وجر الضمير بعلى وليس بالبعيد خلا أن في كون الحذف للمبالغة أيضا ترددا، وقيل: ضمير تَغْنَ وما قبله يعودان على الزرع كما قيل في ضمير عَلَيْها وقيل: يعودان على الأرض ولا حذف بل يجعل التجوز في الإسناد. وأنت تعلم أن إرجاع الضمائر كلها للأرض ولو مع ارتكاب التجوز في الإسناد أولى من إرجاعها لغيرها كائنا ما كان. نعم إنه لا يمكن إرجاع الضمير إليها في قراءة الحسن «يغني» بالياء التحتية وجعل ذلك من قبيل ولا أرض أبقل إبقالها كما ترى فينبغي أن يرجع للنبات أو للزرع مثلا ومآل المعنى كأن لم يكن نابتا بِالْأَمْسِ أي فيما قبل إتيان أمرنا بزمان قريب فإن الأمس مثل في ذلك، والجملة التشبيهية جوز أن تكون في محل النصب على أنها حال وأن تكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب جوابا لسؤال مقدر، والممثل به في الآية ما يفهم من الكلام وهو زوال خضرة النبات فجأة وذهابه حطاما لم يبق له أثر بعد ما كان غضا طريا قد التف بعضه ببعض وازينت الأرض بألوانه حتى طمع الناس وظنوا أنه قد سلم من الجوائح لا الماء وإن دخلته كاف التشبيه فإنه من التشبيه المركب مع اشتمال الكلام نفسه على أمور حقيقية وأمور مجازية فيها من اللطافة ما لا يخفى. وعن أبي أنه قرأ «كأن لم تغن بالأمس وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها» كَذلِكَ أي مثل ذلك التفصيل البديع نُفَصِّلُ الْآياتِ أي القرآنية التي من جملتها هذه الآية الجليلة الشأن المنبهة على أحوال الحياة الدنيا أي نوضحها ونبينها لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في معانيها ويقفون على حقائقها، وتخصيصهم بالذكر لأنهم المنتفعون، وجوز أن يراد بالآيات ما ذكر في أثناء التمثيل من الكائنات والفاسدات وبتفصيلها تصريفها على الترتيب المحكي إيجادا وإعداما فإنها آيات وعلامات يستدل بها المتفكر فيها على أحوال الحياة الدنيا حالا ومآلا والأول هو الظاهر. وعن أبي مجلز أنه قال: كان مكتوبا إلى جنب هذه الآية فمحى «ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا ولا يشبع نفس ابن آدم إلّا التراب ويتوب الله على من تاب» .
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ترغيب للناس في الحياة الأخروية الباقية إثر ترغيبهم عن الحياة الدنيوية الفانية أي يدعو الناس جميعا إلى الجنة حيث يأمرهم بما يفضي إليها، وسميت الجنة بذلك لسلامة أهلها عن كل ألم وآفة أو لأن الله تعالى يسلم عليهم أو لأن خزنتها يقولون لهم سلام عليكم طبتم أو لأن بعضهم يسلم فيها على بعض.

(6/96)


فالسلام إما بمعنى السلامة أو بمعنى التسليم، أو لأن السلام من أسمائه تعالى ومعناه هو الذي منه وبه السلامة أو ذو السلامة عن جميع النقائص فأضيفت إليه سبحانه للتشريف كما في بيت الله تعالى للكعبة ولأنه لا ملك لغيره جل شأنه فيها ظاهرا وباطنا وللتنبيه على أن من فيها سالم عما مر للنظر إلى معنى السلامة في أصله، ويدل على قصده تخصيصه بالإضافة إليه دون غيره من أسمائه تعالى وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل إلى تلك الدار وهو الدين الحق، وفي الآية دلالة على أن الهداية غير الدعوة إلى ذلك وعلى أن الأمر مغاير للإرادة حيث عمم سبحانه الدعوة إذ حذف مفعولها وخص الهداية بالمشيئة المساوية للإرادة على المشهور إذ قيدها بها وهو الذي ذهب إليه الجماعة، وقال المعتزلة: إن المراد بالهداية التوفيق والإلطاف ومغايرة الدعوة والأمر لذلك ظاهرة فإن الكافر مأمور وليس بموفق وأن من يشاء هو من علم سبحانه أن اللطف ينفع فيه لأن مشيئته تعالى شأنه تابعة للحكمة فمن علم أنه لا ينفع فيه اللطف لم يوفقه ولم يلطف به إذ التوفيق لمن علم الله تعالى أنه لا ينفعه عبث والحكمة منافية للبعث فهو جل وعلا يهدي من ينفعه اللطف وإن أراد اهتداء الكل لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا أي العمل بأن فعلوا المأمور به واجتنبوا المنهي عنه،
وفسر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الإحسان بقوله عليه الصلاة والسلام: «أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
الْحُسْنى أي المنزلة الحسنى وهي الجنة وَزِيادَةٌ وهي
النظر إلى وجه ربهم الكريم جل جلاله وهو التفسير المأثور عن أبي بكر وعلي كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس، وحذيفة، وابن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وخلق آخرين، وروي مرفوعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم من طرق شتى،
وقد أخرج الطيالسي، وأحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وابن خزيمة وابن حبان وأبو الشيخ والدارقطني في الرؤية وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن صهيب «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم تلا هذه الآية للذين أحسنوا إلخ فقال إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله تعالى موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه سبحانه فو الله ما أعطاهم الله تعالى شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم»
فحكاية هذا التفسير بقيل، كما فعل البيضاوي عفا الله تعالى عنه مما لا ينبغي، وقول الزمخشري عامله الله تعالى بعدله: إن الحديث مرقوع- بالقاف- أي مفترى لا يصدر إلا عن رقيع فإنه متفق على صحته وقد أخرجه حفاظ ليس فيهم ما يقال.
نعم جاء في تفسير ذلك غير ما ذكر لكن ليس في هذه الدرجة من الصحة ولا رفع فيه صريحا، فقد أخرج ابن جرير عن مجاهد قال: الزيادة المغفرة والرضوان، وأخرج عن الحسن أنها تضعيف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وأخرج عن ابن زيد أنها أن لا يحاسبهم على ما أعطاهم في الدنيا،
وأخرج عن الحكم بن عتيبة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب.
وتعقبه ابن الجوزي بأنه لا يصح، وقيل: الزيادة أن تمر السحابة بهم فتقول: ما تريدون أنا أمطركم فلا يريدون شيئا إلا أمطرتهم.
وجمع بعضهم بين الروايات بأنه لا مانع من أن يمن الله تعالى عليهم بكل ما ذكر ويصدق عليه أنه زيادة على ما منّ به عليهم من الجنة، وأيد ذلك بما أخرجه سعيد بن منصور، وابن المنذر، والبيهقي، عن سفيان أنه قال: ليس في تفسير القرآن اختلاف إنما هو كلام جامع يراد به هذا وهذا، والذي حمل الزمخشري على عدم الاعتماد على الروايات الناطقة بحمل الزيادة على رؤية الله تعالى زعمه الفاسد كأصحابه أن الله تعالى لا يرى وقد علمت منشأ ذلك الزعم وقد رده أهل السنة بوجوه وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أي لا يغشاها غبرة ما فيها سواد ولا أثر هوان ما وكسوف بال، والمعنى لا يعرض عليهم ما يعرض لأهل النار أو لا يعرض لهم ما يوجب ذلك من الحزن وسوء الحال، والكلام

(6/97)


على الأول حقيقة وعلى الثاني كناية لأن عدم غشيان ذلك لازم لعدم غشيان ما يوجبهما فذكر اللازم لينتقل منه إلى الملزوم، ورجح هذا بأنه أمدح، والمقصود بيان خلوص نعيمهم من شوائب المكاره إثر بيان ما من سبحانه به عليهم من النعيم، وقيل: إن ذكر ذلك لتذكيرهم بما ينقذهم منه فإنهم إذا ذكروا ذلك زاد ابتهاجهم ومسرتهم كما أن أهل النار إذا ذكروا ما فاتهم من النعيم ازداد غمهم وحسرتهم، وقيل: الغرض إدخال السرور عليهم بتذكير حال أعدائهم أهل النار فإن الإنسان متى علم أن عدوه في الهوان وسوء الحال ازداد سرورا، وقد شاهدنا من يكتفي بمضرة عدوه عن حصول المنفعة له بل من يسره ضرر عدوه وإن تضرر هو، وتقديم المفعول على الفاعل للاهتمام ببيان أن المصون من الرهق أشرف أعضائهم وللتشويق إلى المؤخر ولأن في الفاعل ضرب تفصيل أُولئِكَ أي المذكورون باعتبار اتصافهم بما تقدم أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون بلا زوال ويلزم ذلك عدم زوال نعيمها.
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ أي الشرك والمعاصي، وهو مبتدأ بتقدير المضاف خبره قوله سبحانه: جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها والباء متعلقة بجزاء وهو مصدر المبني للمفعول لا اسم للعوض كما في بعض الأوجه الآتية على ما قيل أي جزاء الذين كسبوا السيئات أن تجازى سيئة واحدة بسيئة مثلها على معنى عدم الزيادة بمقتضى العدل وإلا فلا مانع عن العفو بمقتضى الكرم لكن ذلك في غير الشرك ويجوز أن يكون جزاء سيئة بمثلها جملة من مبتدأ وخبر هي خبر المبتدأ وحينئذ لا حاجة إلى تقدير المضاف لكن العائد محذوف أي جزاء سيئة منهم بمثلها على حد- السمن منوان بدرهم..
وأجاز أبو الفتح أن يكون جزاء مبتدأ محذوف الخبر أي لهم جزاء سيئة بمثلها وحذف لهم لقرينة لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا والجملة خبر الَّذِينَ كَسَبُوا وحينئذ لا حاجة إلى تقدير عائد كما لا حاجة إلى تقدير مضاف، وجوز غير واحد أن يكون الَّذِينَ عطفا على الذين المجرور الذي هو مع جاره خبر وجزاء سيئة معطوف على الحسنى الذي هو المبتدأ، وفي ذلك العطف على معمولي عاملين مختلفين وفيه مذاهب المنع مطلقا وهو مذهب سيبويه والجواز مطلقا وهو مذهب القراء والتفصيل بين أن يتقدم المجرور نحو في الدار زيد والحجرة عمرو فيجوز أو لا فيمتنع، والمانعون يحملون نحو هذا المثال على إضمار الجار ويجعلونه مطردا كقوله:
أكل امرئ تحسبين امرأ ... ونار توقد بالليل نارا
وقيل: هو مبتدأ والخبر جملة ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أو كَأَنَّما أُغْشِيَتْ أو أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ وما في البين اعتراض، وفي تعدد الاعتراض خلاف بين النحويين وجَزاءُ سَيِّئَةٍ حينئذ مبتدأ وبِمِثْلِها متعلق به والخبر محذوف أي واقع أو بِمِثْلِها هو الخبر على أن الباء زائدة أو الجار والمجرور في موضع الخبر على أن الباء غير زائدة، والأولى تقدير المتعلق خاصا كمقدر ويصح تقديره عاما، والقول بأنه لا معنى له حاصل وهم ظاهر، وأيا ما كان لا دلالة في الآية على أن الزيادة هي الفضل دون الرؤية وقد علمت أن تفسيرها بذلك هو المأثور عن النبي صلّى الله عليه وسلم وجملة من السلف الصالح فلا ينبغي العدول عنه لما يتراءى منه خلافه لا سيما وقد أتى الإمام وغيره بدلائل جمة على أن المراد بها ذلك ولم يؤت بالآيتين على أسلوب واحد لمراعاة ما بين الفريقين من كمال التنائي والتباين، وإيراد الكسب للإيذان بأن ذلك إنما هو بسوء صنيعهم وجنايتهم على أنفسهم وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي هوان عظيم، فالتنوين هنا للتفخيم على عكس التنوين فيما قبل كما أشرنا إليه، وفي إسناد الرهق إلى أنفسهم دون وجوههم إيذان بأنها محيطة بهم غاشية لهم.
وقرىء «يرهقهم» بالياء التحتانية لكون الفاعل ظاهرا وتأنيثه غير حقيقي، وقيل: التذكير باعتبار أن المراد من

(6/98)


الذلة سببها مجازا، ولا يحتاج إليه كما لا يخفى لأن التذكير في مجازي التأنيث لا سيما المفصول كثير جدا.
والواو على ما قال غير واحد للعطف وما بعده معطوف على كَسَبُوا وضعفه أبو البقاء بأن المستقبل لا يعطف على الماضي. وأجيب بالمنع، وفي العطف هاهنا ما لا يخفى من المبالغة حيث أخرج نسبة الرهق إليهم يوم القيامة مخرج المعلوم حيث جعل ذلك بواسطة العطف صلة الموصول، وقيل: إنه عطف على ما قبله بحسب المعنى كأنه قيل: والذين كسبوا السيئات تجازى سيئتهم بمثلها وترهقهم ذلة ولعله أولى من الأول، وأما جعل الواو حالية والجملة في موضع الحال من ضمير كَسَبُوا فلا يخفى حاله ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي ما لهم أحد يعصمهم ويمنعهم من سخط الله تعالى وعذابه فمن الأولى متعلقة بعاصم والكلام على حذف مضاف ومِنَ الثانية زائدة لتعميم النفي، أو ما لهم من جهته وعنده تعالى من يعصمهم كما يكون للمؤمنين فمن الأولى متعلقة بمحذوف وقع حالا من عاصِمٍ وقيل متعلقة بالاستقرار المفهوم من الظرف وليس في الكلام مضاف محذوف، ومِنَ الثانية على حالها والجملة مستأنفة أو حال من ضمير تَرْهَقُهُمْ وفي نفي العاصم من المبالغة في نفي العصمة ما لا يخفى كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ أي كأنما ألبست ذلك لفرط سوادها وظلمتها، والجار والمجرور صفة قِطَعاً وقوله سبحانه: مُظْلِماً حال من اللَّيْلِ والعامل فيه متعلق الجار والمجرور فعلا كان أو اسما.
وجوز أبو البقاء كونه حالا من قِطَعاً أو صفة له، وكان الواجب الجمع لأن قِطَعاً جمع قطعة إلا أنه أفردت حاله أو صفته لتأويل ذلك بكثير ولا يخفى أنه تكلف مستغنى عنه، والظاهر أن مِنَ للتبعيض، وقال بعض المحققين: لليل معنيان زمان تخفى فيه الشمس قليلا أو كثيرا كما يقال دخل الليل والآن ليل وما بين غروب الشمس إلى طلوعها أو قربها من الطلوع، فمن إما تبعيضية على الأول وبيانية على الثاني، وجوز الزمخشري أن يكون العامل في الحال أُغْشِيَتْ من قبل أن مِنَ اللَّيْلِ صفة لقطعا فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة. قال صاحب التقريب: وفيه نظر لأن مِنَ اللَّيْلِ ليس صلة أغشيت حتى يكون عاملا في المجرور بل التقدير أنه صفة فيكون العامل فيه الاستقرار، وأيضا الصفة مِنَ اللَّيْلِ وذو الحال هو- الليل- فلا يكون أُغْشِيَتْ عاملا في ذي الحال مع أنه المقصود وقد يقال: إن مِنَ للتبيين والتقدير كائنة من الليل فأغشيت عامل في الصفة وهي كائنة فكأنه عامل في اللَّيْلِ وهو مبني على أن العامل في العامل في الشيء عامل فيه وهو فاسد فالوجه أن يقال: إن مِنَ للتبعيض أي بعض الليل ويكون بدلا من قِطَعاً ويجعل مُظْلِماً حالا من البعض لا مِنَ اللَّيْلِ فيكون العامل في ذي الحال أُغْشِيَتْ ولا يخفى أنه وجه أغشى قطعا من ليل التكلف والتعسف مظلما. وأجاب الإمام أمين الدين بأن نسبة أُغْشِيَتْ إلى قِطَعاً إنما هي باعتبار ذاتها المبهمة المفسرة بالليل لا باعتبار مفهوم القطع في نفسها وإنما ذكرت لبيان مقدار ما أغشيت به وجوههم وهو الليل مظلما فإفضاء الفعل إلى قِطَعاً باعتبار ما لا يتم معناها المراد إلا به كإفضاء الفعل إليه كما إذا قيل: اشتريت أرطالا من الزيت صافيا فإن المشترى فيه الزيت والأرطال مبنية لمقدار ما اشترى صافيا فالعامل في الحال إنما هو العامل اللفظي ولا يلاحظ معنى الفعل في الجار والمجرور من جهة العمل لغلبة العامل اللفظي عليه بالظهور ولا يخفى ما فيه. وقال في الكشف: إن الزمخشري ذهب إلى أن أُغْشِيَتْ له اتصال بقوله تعالى: مِنَ اللَّيْلِ من قبل أن الصفة والموصوف متحدان لا سيما والقطع بعض الليل فجاز أن يكون عاملا في الصفة بذلك الاعتبار وكأنه قيل أغشيت الليل مظلما وهذا كما جوز في نحو وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً [الحجر: 47] أن يكون حالا من الضمير باعتبار اتحاده بالمضاف وكأنه قيل: ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا وكما جوز في مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً

(6/99)


[البقرة: 135، آل عمران: 95، النساء: 125، الأنعام: 161، النحل: 123] لأن الملة كالجزء كأنه قيل: اتبعوا إبراهيم حنيفا وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري وهو سر هذا الموضع لا ما طوله كثيرون لا سيما حمل مِنَ على التجريد فإنه مع أن المعنى على التبعيض لا البيان وليس كل بيان تجريدا لا يتم مقصوده انتهى.
وقد عرض في ذلك بشيخه العلامة الطيبي فإنه عليه الرحمة قد تكلف ما تكلف والإنصاف أن ما جوزه الزمخشري هنا مما لا ينبغي والسعي في إصلاحه مع وجود الوجه الواضح الذي لا ترهقه قترة يقرب من أن يكون عبثا.
وقرأ ابن كثير، والكسائي، ويعقوب، وسهل «قطعا» بسكون الطاء وهو اسم مفرد معناه طائفة من الليل أو ظلمة آخره أو اسم جنس لقطعة وأنشدوا:
افتحي الباب وانظري في النجوم ... كم علينا من قطع ليل بهيم
وعلى هذا يجوز أن يكون مُظْلِماً صفة له أو حالا منه بلا تكلف تأويل. وقرىء «كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم» والكلام فيه ظاهر، والجملة كالتي قبلها مستأنفة أو حال من ضمير تَرْهَقُهُمْ أُولئِكَ أي الموصوفون بما ذكر من الصفات الذميمة أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لا يخرجون منها أبدا واحتجت الوعيدية بهذه الآية على قولهم الفاسد بخلود أهل الكبائر. وأجيب بأن السيئات شاملة للكفر وسائر المعاصي وقد قامت الأدلة على أنه لا خلود لأصحاب المعاصي فخصصت الآية بمن عداهم، وأيضا قد يقال إنهم داخلون في الذين أحسنوا بناء على ما أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس وأبو الشيخ عن قتادة أنهم الذين شهدوا أن لا إله إلا الله أي المؤمنون مطلقا فلا يدخلون في القسم الآخر لتنافي الحكمين، وقيل: إن أل في السيئات للاستغراق فالمراد من عمل جميع ذلك والقول بخلوده في النار مجمع عليه وليس بذاك.
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ كلام مستأنف مسوق لبيان بعض آخر من أحوالهم الفظيعة، وتأخيره في الذكر مع تقدمه في الوجود على بعض أحوالهم المحكية سابقا كما قال بعض المحققين للإيذان باستقلال كل من السابق واللاحق بالاعتبار ولو روعي الترتيب الخارجي لعد الكل شيئا واحدا ولذلك فصل عما قبله، وزعم الطبرسي أنه تعالى لما قدم ذكر الجزاء بين بهذا وقت ذلك، وعليه فالآية متصلة بما ذكر آنفا لكن لا يخفى أن ذلك لم يخرج مخرج البيان، وأولى منه أن يقال: وجه اتصاله بما قبله أن فيه تأكيدا لقوله سبحانه: ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ من حيث دلالته على عدم نفع الشركاء لهم. ويَوْمَ منصوب بفعل مقدر كذكرهم وخوفهم، وضمير نَحْشُرُهُمْ لكلا الفريقين من الذين أحسنوا الحسنى والذين كسبوا السيئات لأنه المتبادر من قوله تعالى: جَمِيعاً ومن أفراد الفريق الثاني بالذكر في قوله سبحانه: ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أي للمشركين من بينهم ولأن توبيخهم وتهديدهم على رؤوس الأشهاد أفظع، والإخبار بحشر الكل في تهويل اليوم أدخل، وإلى هذا ذهب القاضي البيضاوي وغيره، وكون مراده بالفريقين فريقي الكفار والمشركين خلاف الظاهر جدا.
وقيل: الضمير للفريق الثاني خاصة فيكون الذين أشركوا من وضع الموصول موضع الضمير، والنكتة في تخصيص وصف إشراكهم في حيز الصلة من بين سائر ما اكتسبوه من السيئات ابتناء التوبيخ والتقريع عليه مع ما فيه من الإيذان بكونه معظم جناياتهم وعمدة سيئاتهم، وهو السر في الإظهار في مقام الإضمار على القول الأخير مَكانَكُمْ ظرف متعلق بفعل حذف فسد هو مسده وهو مضاف إلى الكاف، والميم علامة الجمع أي ألزموا مكانكم. والمراد انتظروا حتى تنظروا ما يفعل بكم. وعن أبي علي الفارسي أن مكان اسم فعل وحركته حركة بناء.
وهل هو اسم فعل لالزم أو لا ثبت ظاهر كلام بعضهم الأول والمنقول عن شرح التسهيل الثاني لأنه على الأول يلزم أن

(6/100)


يكون متعديا كألزم مع أنه لازم، وأجيب بمنع اللزوم، وقال السفاقسي: في كلام الجوهري ما يدل على أن ألزم يكون لازما ومتعديا فلعل ما هو اسم له اللازم: وذكر الكوفيون أنه يكون متعديا وسمعوا من العرب مكانك زيدا أي انتظره.
واختار الدماميني في شرح التسهيل عدم كونه اسم فعل فقال: لا أدري ما الداعي إلى جعل هذا الظرف اسم فعل إما لازما وإما متعديا وهلا جعلوه ظرفا على بابه ولم يخرجوه عن أصله أي اثبت مكانك أو انتظر مكانك، وإنما يحسن دعوى اسم الفعل حيث لا يمكن الجمع بين ذلك الاسم وذلك الفعل نحو: صه وعليك وإليك، وأما إذا أمكن فلا كوراءك وأمامك وفيه منع ظاهر.
وقوله تعالى: أَنْتُمْ توكيد للضمير المنتقل إلى الظرف من عامله على القول الأول وللضمير المستتر في اسم الفعل على القول الثاني، وقوله سبحانه: وَشُرَكاؤُكُمْ عطف على ذلك، وقيل: إن أَنْتُمْ مبتدأ خبره محذوف أي مهانون أو مجزيون وهو خلاف الظاهر مع ما فيه من تفكيك النظم، وقيل: ولأنه يأباه قراءة وشركاءكم بالنصب إذ يصير حينئذ مثل- كل رجل وضيعته- ومثله لا يصح فيه ذلك لعدم ما يكون عاملا فيه، والعامل على التوجيه الأول ظاهر لمكان مَكانَكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ أي ففرقنا، وهو من زلت الشيء عن مكانه أزيله أي أزلته، والتضعيف للتكثير لا للتعدية، وهو يائي ووزنه فعل بدليل زايل، وقد قرىء به وهو بمعناه نحو كلمته وكالمته وصعر خده وصاعر خده.
وقال أبو البقاء: إنه واوي لأنه من زال يزول، وإنما قلبت الواو ياء لأنه فيعل، والأول أصح لما علمت ولأن مصدره التزييل لا الزيولة مع أن فعل أكثر من فيعل، ونصب- بين- على الظرفية لا على أنه مفعول به كما توهم، والمراد بالتفريق قطع الأقران والوصل التي كانت بينهم وبين الشركاء في الدنيا. وقيل: التفريق الجسماني وظاهر النظم الجليل لا يساعده، والعطف على نَقُولُ وإيثار صيغة الماضي للدلالة على التحقق لزيادة التوبيخ والتحسير، والفاء للدلالة على وقوع التنزيل ومبادية عقيب الخطاب من غير مهملة إيذانا بكمال رخاوة ما بين الفريقين من العلاقة والوصلة، وقوله سبحانه: وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ عطف على ما قبله، وجوز أن يكون في موضع الحال بتقدير قد أو بدونها على الخلاف، والإضافة باعتبار أن الكفار هم الذين اتخذوهم شركاء لله سبحانه وتعالى.
وقيل: لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم فصيروهم شركاء لأنفسهم في ذلك، والمراد بهؤلاء الشركاء قيل:
الأصنام فإن أهل مكة إنما كانوا يعبدونها وهم المعنيون بأكثر هذه الآيات، ونسبة القول لها غير بعيد من قدرته سبحانه فينطقها الله الذي أنطق كل شيء في ذلك الموقف فتقول لهم ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ والمراد من ذلك تبريهم من عبادتهم وأنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم الداعية لهم وما أعظم هذا مكان الشفاعة التي كانوا يتوقعونها منهم.
وقيل: المراد بهم الملائكة والمسيح عليهم السلام لقوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ: 40] وقوله سبحانه: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ [المائدة: 116] الآية، والمراد من ذلك القول ما أريد منه أولا أيضا لأن نفي العبادة لا يصح لثبوتها في الواقع والكذب لا يقع في القيامة ممن كان، وقيل: إن قول الشركاء مجرى على حقيقته بناء على أن ذلك الموقف موقف الدهشة والحيرة فذلك الكذب يكون جاريا مجرى كذب الصبيان والمجانين المدهوشين، ويمكن أن يقال أيضا: إنهم ما أقاموا لأعمال الكفار وزنا وجعلوها لبطلانها كالعدم فلذا نفوا عبادتهم إياهم أو يقال: إن المشركين لما تخيلوا فيما عبدوه أوصافا كثيرة غير موجودة فيه في نفس الأمر كانوا في الحقيقة إنما عبدوا ذوات موصوفة بتلك الصفات ولما كانت ذوات الشركاء خالية عن تلك الصفات صدق أن يقال: إن المشركين ما عبدوا الشركاء وهذا أولى من الأولين بل لا يكاد يلتفت إليهما وكأن حاصل المعنى عليه إنكم عبدتم من زعمتم أنه يقدر على الشفاعة لكم وتخليصكم من العذاب وإنه

(6/101)


موصوف بكيت وكيت فاطلبوا فإنا لسنا كذلك. والمراد من ذلك قطع عرى أطماعهم وإيقاعهم في اليأس الكلي من حصول ما كانوا يرجونه ويعتقدونه فيهم ولعل اليأس كان حاصلا لهم من حين الموت والابتلاء بالعذاب ولكن يحصل بما ذكر مرتبة فوق تلك المرتبة. وقيل: المراد بهم الشياطين وقطع الوصل عليه من الجانبين لا من جانب العبدة فقط كما يقتضيه ما قبل، والمراد من قولهم ذلك على طرز ما تقدم. وأورد على القول بأن المراد الملائكة والمسيح عليهم السلام بأنه لا يناسب قوله سبحانه: مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ حيث إن المراد منه الوعيد والتهديد، وظاهر العطف انصراف ذلك إلى الشركاء أيضا، وتهديد أولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام مما لا يكاد يقدم على القول به.
واعترض بأن هذا مشترك الإلزام فإنه يرد على القول الأول أيضا إذ لا معنى للوعيد والتهديد في حق الأصنام مع عدم صدور شيء منها يوجب ذلك، ولا مخلص إلا بالتزام أن التهديد والوعيد للمخاطبين فقط أو للمجموع باعتبارهم.
وأجيب بجواز كون تهديد الأصنام نظير إدخالها النار مع عبدتها كما يدل عليه قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] وكذا قوله سبحانه: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [البقرة: 24] على ما عليه جمع من المفسرين، ودعوى الفرق بين التهديد والإدخال في النار تحتاج إلى دليل. نعم قالوا: يجب على القول بأن المراد الملائكة عليهم السلام أن تحمل الغفلة في قوله سبحانه:
فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ على عدم الارتضاء لا على عدم الشعور لأن عدم شعور الملائكة بعبادتهم غير ظاهر بل لو قيل بوجوب هذا الحمل على القول بأن المراد المسيح عليه السلام أيضا لم يبعد لأن عدم شعوره بعبادتهم مع أنه سينزل ويكسر الصليب كذلك، ولا يكاد يصح الحمل على الظاهر إلا إذا كان المراد الأصنام فإن عدم شعورهم بذلك ظاهر، وتعقب بأنه لا دليل على شعور الملائكة عليهم السلام بعبادتهم ليصرف له اللفظ عن حقيقته، وليس هؤلاء المعبودون هم الحفظة أو الكتبة بل ملائكة آخرون ولعلهم مشغلون بأداء ما أمروا به عن الالتفات إلى ما في هذا العالم ونحن لا ندعي في الملائكة عليهم السلام ما يدعيه الفلاسفة فإنهم الذين قالوا يوم استنبئوا عن الأسماء: سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا [البقرة: 32] وهذا جبريل عليه السلام من أجلهم قدرا كان كثيرا ما يسأله رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أشياء فيقول: لا أعلم وسوف أسأل ربي، وكذا لا دليل على شعور المسيح عليه السلام بعبادة هؤلاء المخاطبين عند إيقاعها وكونه سينزل ويكسر الصليب لا يستدعي الشعور بها كذلك كما لا يخفى، وقد يستأنس لعدم شعوره بما حكى الله تعالى عنه في الجواب عن سؤاله له عليه السلام من قوله: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة: 117] ، واعترض على القول الأخير بأنه لا يصح مع هذا القول مطلقا لأن الشياطين هم الذين زينوا لهم هذه الشنيعة الشنعاء وأغروهم عليها فكيف يتأتى القول بأنهم غافلون حقيقة عنها أو أنهم غير مرتضين لها، ولعل من ذهب إلى ذلك يلتزم الكذب ويقول بجواز وقوعه يوم القيامة.
وقيل: إن القول الأول لا يصح مع هذا القول أيضا مطلقا لأن الأوثان لا تتصف بالغفلة حقيقة لأنها كما يفهم من القاموس اسم لترك الشيء وذهاب القلب عنه إلى غيره وهذا شأن ذوي القلوب والأوثان ليست من ذلك وكذا لا تتصف بها مجازا عن عدم الارتضاء إذ الظاهر أن مرادهم من عدم الارتضاء السخط والكراهة وظاهر أن الأوثان لا تتصف بسخط ولا ارتضاء إذ هما تابعان للإدراك ولا إدراك لها ومن أثبته للجمادات حسب عالمها فالأمر عنده سهل ومن لا يثبته يقول: إنها مجاز عن عدم الشعور، وقد يقال: إن المراد بغفلتهم عن عبادة المشركين عدم طلبهم الاستعدادي لها ويرجع ذلك بالآخرة إلى نفي استحقاق العبادة عن أنفسهم وإثبات الظلم لعباديهم.

(6/102)


وحينئذ فالأظهر أن يراد بالشركاء جميع ما عبد من دون الله تعالى من ذوي العقول وغيرهم والكل صادق في قوله ذلك، وقد يراد من عدم الطلب ما يشمل عدم الطلب الحالي والقالي إذا اعتبر كون القائل ممن يصح نسبة ذلك له كالملائكة عليهم السلام وهذا الوجه لا يتوقف على شعور الشركاء بعبادتهم ولا على عدمه فيجوز أن يكون لهم شعور بذلك ويجوز أن لا يكون لهم شعور، والظاهر أن تفسير الغفلة بعدم الارتضاء المراد منهم على ما قيل السخط والكراهة يستدعي الشعور إذ كراهة الشيء مع عدم الشعور به مما لا يكاد يعقل وإثباته لجميع الشركاء ولو إجمالا في وقت من الأوقات الدنيوية غير مسلم، ولعل التعبير بالغفلة أكثر تهجينا للمخاطبين ولعبادتهم من التعبير بعدم الطلب مثلا فتأمل، والباء في بِاللَّهِ صلة وشَهِيداً تمييز، وإِنْ مخففة من أن واللام هي الفارقة بين المخففة والنافية والظرف متعلق بغافلين، والتقديم لرعاية الفاصلة، أي كفى الله شهيدا فإنه العليم الخبير المطلع على كنه الحال إنا كنا غافلين عن عبادتكم، والظاهر من كلام بعض المحققين أن فَكَفى إلخ استشهاد على النفي السابق لا على الإثبات اللاحق هُنالِكَ أي في ذلك المقام الدحض والمكان الدهش وهو مقام الحشر فهنالك باق على أصله وهو الظرفية المكانية، وقيل: إنه استعمل ظرف زمان مجازا أي في ذلك الوقت تَبْلُوا أن تختبر كُلُّ نَفْسٍ مؤمنة كانت أو كافرة ما أَسْلَفَتْ من العمل فتعاين نفعه وضره أتم معاينة.
وقرأ حمزة والكسائي «تتلو» من التلاوة بمعنى القراءة، والمراد قراءة صحف ما أسلفت، وقيل: إن ذلك كناية عن ظهور الأعمال. وجوز أن يكون من التلو على معنى أن العمل يتجسم ويظهر فيتبعه صاحبه حتى يرد به الجنة أو النار أو هو تمثيل. وقرأ عاصم في رواية عنه «نبلو» بالباء الموحدة والنون ونصب «كلّ» على أن فاعل- نبلو- ضميره تعالى و «كل» مفعوله و «ما» بدل منه بدل اشتمال، والكلام استعارة تمثيلية أي هنالك نعامل كل نفس معاملة من يبلوها ويتعرف أحوالها من السعادة والشقاوة باختبار ما أسلفت من العمل، ويجوز أن يراد نصيب بالبلاء أي العذاب كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشر فتكون ما منصوبة بنزع الخافض وهو الباء السببية.
وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ عطف على زيلنا والضمير للذين أشركوا وما في البين اعتراض في أثناء الحكاية مقرر لمضمونها، والمعنى ردوا إلى جزائه وعقابه أو إلى موضع ذلك، فالرد إما معنوي أو حسي. وقال الإمام: المعنى جعلوا ملجئين إلى الإقرار بألوهيته سبحانه وتعالى مَوْلاهُمُ أي ربهم الْحَقِّ أي المتحقق الصادق في ربوبيته لا ما اتخذوه ربا باطلا. وقرئ «الحقّ» بالنصب على المدح، والمراد به الله تعالى وهو من أسمائه سبحانه أو على المصدر المؤكد والمراد به ما يقابل الباطل، ولا منافاة بين هذه الآية وقوله سبحانه: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ [محمد: 11] . لاختلاف معنى المولى فيهما. وأخرج أبو الشيخ عن السدي أن الأولى منسوخة بالثانية ولا يخفى ما فيه وَضَلَّ أي ضاع وذهب عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من أن آلهتهم تشفع لهم أو ما كانوا يدعون أنها شركاء لله عز وجل، وما يحتمل أن تكون موصولة وأن تكون مصدرية والجملة معطوفة على قوله سبحانه: رُدُّوا ومن الناس من جعلها عطفا على- زيلنا- وجملة- ردوا- معطوفة على جملة- تبلو- إلخ داخلة في الاعتراض وضمير الجمع للنفوس المدلول عليها بكل نفس، والعدول إلى الماضي للدلالة على التحقق والتقرر، وإيثار صيغة الجمع للإيذان بأن ردهم إليه سبحانه يكون على طريق الاجتماع وما ذكرناه أولى لفظا ومعنى. وتعقب شيخ الإسلام جعل الضمير للنفوس وعطف رُدُّوا على تَبْلُوا إلخ بأنه لا يلائمه التعرض لوصف الحقية في قوله سبحانه: مَوْلاهُمُ الْحَقِّ فإنه للتعريض بالمردودين ثم قال: ولئن اكتفى فيه بالتعريض ببعضهم أو حمل الْحَقِّ على معنى العدل في الثواب والعقاب أي مع تفسير المولى بمتولي الأمور فقوله سبحانه: وَضَلَّ إلخ مما لا مجال

(6/103)


فيه للتدارك قطعا فإن ما فيه من الضمائر الثلاثة للمشركين فيلزم التفكيك حتما، وتخصيص كل نفس بالنفوس المشركة مع عموم البلوى للكل يأباه مقام تهويل المقام انتهى، والظاهر أنه اعتبر عطف وَضَلَّ عَنْهُمْ إلخ على رُدُّوا مع رجوع ضميره للنفوس وهو غير ما ذكرناه فلا تغفل قُلْ أي لأولئك المشركين الذين حكيت أحوالهم وبين ما يؤدي إليه أفعالهم التي هي أفعى لهم احتجاجا على حقية التوحيد وبطلان ما هم عليه من الإشراك.
مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي منهما جميعا فإن الأرزاق تحصل بأسباب سماوية كالمطر وحرارة الشمس المنضجة وغير ذلك ومواد أرضية والأولى بمنزلة الفاعل والثانية بمنزلة القابل أو من كل واحد منهما بالاستقلال كالأمطار والمن والأغذية الأرضية توسعة عليكم- فمن- على هذا لابتداء الغاية، وقيل: هي لبيان مَنْ على تقدير المضاف، وقيل: تبعيضية على ذلك التقدير أي من أهل السماء والأرض أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ «أم» منقطعة بمعنى بل والإضراب انتقالي لا إبطالي وفيه تنبيه على كفاية هذا الاستفهام فيما هو المقصود أي من يستطيع خلقهما وتسويتهما على هذه الفطرة العجيبة ومن وقف على تشريحهما وقف على ما يبهر العقول أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالهما عن أدنى شيء يصيبهما أو من يتصرف بهما إذهابا وإبقاء، والملك على كل مجاز، قيل:
والمعنى الأول أوفق لنظم الخالقية مع الرازقية كقوله تعالى: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [فاطر: 3] وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ أي ومن ينشىء الحيوان من النطفة مثلا والنطفة من الحيوان أو من يحيي أو يميت بأن يكون المراد بالإخراج التحصيل من قولهم: الخارج كذا أي الحاصل أي من يحصل الحي من الميت بأن يفيض عليه الحياة ويحصل الميت من الحي بأن يفيض عليه الموت ويسلي عنه الحياة والمآل ما علمت، ومن الناس من فسر الحي والميت هنا بالمؤمن والكافر والأول أولى وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي ومن يلي تدبير أمر العالم جميعا وهو تعميم بعد تخصيص ما اندرج تحته من الأمور الظاهرة بالذكر، وفيه إشارة إلى أن الكل منه سبحانه وإليه وأنه لا يمكنكم علم تفاصيله فَسَيَقُولُونَ بلا تلعثم ولا تأخير اللَّهُ إذ لا مجال للمكابرة والعناد في شيء من ذلك لغاية وضوحه، والاسم الجليل مبتدأ والخبر محذوف أي الله يفعل ما ذكر من الأفاعيل لا غيره هذا وربما يستدل بالآية على تقدير أن لا تكون مَنْ لابتداء الغاية على جواز أن يقال الله سبحانه أنه من أهل السماء والأرض، وكون المراد هناك غير الله تعالى لا يناسب الجواب ومن لم ير الجواز يعني ومن رآه بناء على ظواهر الآيات المفيدة لكونه تعالى في السماء
وقوله صلّى الله عليه وسلم في الجارية التي أشارت إلى السماء حين قيل لها: أين الله؟
«أعتقها فإنها مؤمنة»
وإقراره حصينا حين
قال له عليه الصلاة والسلام: «كم تعبد يا حصين؟ فقال: سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء فقال صلّى الله عليه وسلم: فمن الذي أعددته لرغبتك ورهبتك؟ فقال حصين: الإله الذي في السماء»
أبقى الآية على ما يقتضيه ظاهرها. وأنت تعلم إنه لم يرد صريحا كونه تعالى من أهل السماء والأرض وإن ورد كونه جل وعلا في السماء على المعنى اللائق بجلاله جل جلاله فلا أرى جواز ذلك، ولا داعي لإخراج مَنْ عن ابتداء الغاية ليحتاج إلى العناية في رد الاستدلال كما لا يخفى، وفي الانتصاف أن هذه الآية كافحة لوجوه القدرية الزاعمين أن الأرزاق منقسمة فمنها ما رزقه الله تعالى للعبد وهو الحلال ومنها ما رزقه العبد لنفسه وهو الحرام فهي ناعية عليهم هذا الشرك الخفي لو سمعوا أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ [يونس: 42] وكذا فيما قيل تكفح في وجوه أناس يزعمون أن الذي يدبر الأمر في كل عصر قطبه وهو عماد السماء عندهم ولولاه لوقعت على الأرض فكأني بك إذا سألتهم من يدبر الأمر يقولون القطب، وقد يعتذر عنهم بأن مرادهم أنه المدبر بإذن الله تعالى وجاء إطلاق المدبر بهذا المعنى على غيره تعالى في قوله سبحانه: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [النازعات: 5] .

(6/104)


وربما يقال إنه لا فرق عندهم بين الله تعالى وبين القطب إلا بالاعتبار لأنه الذي فاز بقربى النوافل والفرائض على أتم وجه فارتفعت الغيرية، فالقول بأن القطب هو المدبر كالقول بأنّ الله سبحانه هو المدبر بلا فرق.
واعترض هذا بأنه ذهاب إلى القول بوحدة الوجود وأكثر المتكلمين وبعض الصوفية كالإمام الرباني قدس سره ينكرون ذلك، والأول بأنه هلا قال المشركون في جواب ذلك: الملائكة أو عيسى عليهم السلام مثلا على معنى أنهم المدبرون للأمر بإذن الله تعالى فيكون المذكورون عندهم بمنزلة الأقطاب عند أولئك، وأجيب بأن السؤال إنما هو عمن ينتهي إليه الأمر فلا يتسنى لهم إلا الجواب المذكور، ولعل غير أهل الوحدة لو سئلوا كذلك ما عدلوا في الجواب عنه سبحانه، وأما أهل الوحدة قدس الله تعالى أسرارهم فلهم كلمات لا يقولها المشركون وهي لعمري فوق طور العقل ولذا أنكرها أهل الظاهر عليهم فَقُلْ لهم أَفَلا تَتَّقُونَ الهمزة لإنكار عدم الاتقاء بمعنى إنكار الواقع كما في قولك:
أتضرب أباك لا بمعنى إنكار الوقوع كما في قولك: أأضرب أبي، والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم أي أتعلمون ذلك فلا تتقون، والخلاف في مثل هذا التركيب شهير وما ذكرناه هو ما عليه البعض، ومفعول تَتَّقُونَ محذوف وهو متعد لواحد أي أفلا تتقون عذابه الذي لكم بما تتعاطونه من إشراككم به سبحانه ما لا يشاركه في شيء مما ذكر من خواص الألوهية، وكلام القاضي يوهم أنه متعد إلى مفعولين وليس بذاك.
فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فذلكة لما تقرر والإشارة إلى المتصف بالصفات السابقة حسبما اعترفوا به، وهي مبتدأ والاسم الجليل صفة له ورَبُّكُمُ خبر والْحَقُّ خبر بعد خبر أو صفة أو خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون الاسم الجليل هو الخبر ورَبُّكُمُ بدل منه أو بيان له والْحَقُّ صفة الرب أي مالككم ومتولي أموركم الثابت ربوبيته والمتحقق ألوهيته تحققا لا ريب فيه فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ أي لا يوجد غير الحق شيء يتبع إلا الضلال فمن تخطى الحق وهو عبادة الله تعالى وحده لا بد وأن يقع في الضلال وهو عبادة غيره سبحانه على الانفراد أو الاشتراك لأن عبادته جل شأنه مع الاشتراك لا يعتد بها- فما- اسم استفهام وذا- موصول، ويجوز أن يكون الكل اسما واحدا قد غلب فيه الاستفهام على اسم الإشارة، وهو مبتدأ خبره بَعْدَ الْحَقِّ على ما في النهر والاستفهام إنكاري بمعنى إنكار الوقوع ونفيه، وبَعْدَ بمعنى غير مجاز والحق ما علمت، وهو غير الأول ولذا أظهر، وإطلاق- الحق- على عبادته سبحانه وكذا إطلاق- الضلال- على عبادة غيره تعالى لما أن المدار في العبادة الاعتقاد، وجوز أن يكون- الحق- عبارة عن الأول والإظهار لزيادة التقرير ومراعاة كمال المقابلة بينه وبين الضلال والمراد به هو الأصنام، والمعنى فماذا بعد الرب الحق الثابت ربوبيته إلا الضلال أي الباطل الضائع المضمحل وإنما سمي بالمصدر مبالغة كأنه نفس الضلال والضياع، وقيل: المراد بالحق والضلال ما يعم التوحيد وعبادة غيره سبحانه وغير ذلك ويدخل ما يقتضيه المقام هنا دخولا أوليا، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أشهب قال: سئل مالك عن شهادة اللعّاب بالشطرنج والنرد فقال أما من أدمن فما أرى شهادتهم طائلة يقول الله تعالى: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فهذا كله من الضلال.
فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أي فكيف تصرفون عن الحق إلى الضلال والاستفهام إنكاري بمعنى إنكار الواقع واستبعاده والتعجب منه، وفيه من المبالغة ما ليس في توجيه الإنكار إلى نفس الفعل فإنه لا بد لكل موجود من أن يكون وجوده على حال من الأحوال فإذا انتفى جميع أحوال وجوده فقد انتفى وجوده على الطريق البرهاني والفاء لترتيب الإنكار والتعجب على ما قبله، ولعل ذلك الإنكار والتعجب متوجهان في الحقيقة إلى منشأ الصرف وإلا فنفس الصرف منه تعالى على ما هو الحق فلا معنى لإنكاره والتعجب منه مع كونه فعله جل شأنه، وإنما لم يسند الفعل إلى الفاعل لعدم

(6/105)


تعلق غرض به. وذهب المعتزلة أن فاعل الصرف نفسه المشركون فهم الذين صرفوا أنفسهم وعدلوا بها عن الحق إلى الضلال بناء على أن العباد هم الخالقون لأفعالهم، وأمر الإنكار والتعجب عليه ظاهر، وإنما لم يسند الفعل إلى ضميرهم على جهة الفاعلية إشارة إلى أنه بلغ من الشناعة إلى حيث إنه لا ينبغي أن يصرح بوقوعه منهم فتدبر كَذلِكَ أي كما حقت كلمة الربوبية لله سبحانه وتعالى أو كما أنه ليس بعد الحق إلا الضلال أو كما أنهم مصرفون عن الحق حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي حكمه عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أي تمردوا في الكفر وخرجوا إلى أقصى حدوده، والمراد بهم أولئك المخاطبون، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتوصل إلى ذمهم بعنوان الصلة وللإشعار بالعلية أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بدل من الكلمة بدل كل من كل أو بدل اشتمال بناء على أن الحكم بالمعنى المصدري أو بمعنى المحكوم به، وقد تفسر الكلمة بالعدة بالعذاب فيكون هذا في موضع التعليل لحقيتها أي لأنهم إلخ، واعترض بأن محصل الآية حينئذ على ما تقرر في الذين فسقوا أن كلمة العذاب حقت على أولئك المتمردين لتمردهم في كفرهم ولأنهم لا يؤمنون وهو تكرار لا طائل تحته، وأجيب بأنه لو سلم أن في الآية تكرارا مطلقا فهو تصريح بما علم ضمنا، وفيه دلالة على شرف الإيمان بأن عذاب المتمردين في الكفر بسبب انتفاء الإيمان قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ احتجاج آخر على حقية التوحيد وبطلان الإشراك، ولم يعطف إيذانا باستقلاله في إثبات المطلوب، والسؤال للتبكيت والإلزام، وجعل سبحانه الإعادة لسطوع البراهين القائمة عليها بمنزلة البدء في إلزامهم ولم يبال بإنكارهم لها لأنهم مكابرون فيه والمكابر لا يلتفت إليه فلا يقال: إن مثل هذا الاحتجاج إنما يتأتى على من اعترف بأن من خواص الإلهية بدء الخلق ثم إعادته ليلزم من نفيه عن الشركاء نفي الإلهية وهم غير مقرين بذلك، ففي الآية الإشارة إلى أن الإعادة أمر مكشوف ظاهر بلغ في الظهور والجلاء بحيث يصح أن يثبت فيه دعوى أخرى، وجعل ذلك الطيبي من صنعة الإدماج كقول ابن نباتة:
فلا بدّ لي من جهلة في وصاله ... فمن لي بخلّ أودع الحلم عنده
فقد ضمن الغزل الفخر بكونه حليما والفخر شكاية الإخوان قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قيل هو أمر له صلّى الله عليه وسلم بأن يبين لهم من يفعل ذلك أي قل لهم الله سبحانه هو يفعلهما لا غيره كائنا ما كان لا بأس ينوب عليه الصلاة والسلام عنهم في الجواب كما قاله غير واحد لأن المقول المأمور به غير ما أريد منهم من الجواب وإن كان مستلزما له إذ ليس المسئول عنه من يبدأ الخلق ثم يعيده كما في قوله سبحانه: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ [الرعد: 16] حتى يكون القول المأمور به عين الجواب الذي أريد منهم ويكون صلّى الله عليه وسلم نائبا عنهم في ذلك بل إنما هو وجود من يفعل البدء والإعادة من شركائهم فالجواب المطلوب منهم لا غير. نعم أمر صلّى الله عليه وسلم بأن يضمنه مقالته إيذانا بتعينه وتحتمه وإشعارا بأنهم لا يجترؤون على التصريح به مخافة التبكيت والقام الحجر لا مكابرة ولجاجا انتهى، وقد يقال: المراد من قوله سبحانه: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ إلخ هل المبدئ المعيد الله أم الشركاء، والمراد من قوله سبحانه جل شأنه: اللَّهُ إلخ الله يبدأ ويعيد لا غيره من الشركاء وحينئذ ينتظم السؤال والجواب وانفهام الحصر بدلالة الفحوى فإنك إذا قلت: من يهب الألوف زيد أم عمرو فقيل: زيد يهب الألوف أفاد الحصر بلا شبهة.
وبما ذكر يعلم ما في الكلام السابق في الرد على ما قاله الجمع وكذا رد ما قاله القطب من أن هذا لا يصلح جوابا عن ذلك السؤال لأن السؤال عن الشركاء وهذا الكلام في الله تعالى بل هو استدلال على إلهيته تعالى وإنه الذي يستحق العبادة بأنه المبدئ المعيد بعد الاستدلال على نفي إلهية الشركاء فتأمل، وفي إعادة الجملة في الجواب بتمامها غير محذوفة الخبر كما في الجواب السابق لمزيد التأكيد والتحقيق فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ الإفك الصرف والقلب

(6/106)


عن الشيء يقال: أفكه عن الشيء يأفكه إفكا إذا قلبه عنه وصرفه، ومنه قول عروة بن أذينة:
إن تك عن أحسن الصنيعة مأ ... فوكا ففي آخرين قد أفكوا
وقد يخص كما في القاموس بالقلب عن الرأي ولعله الأنسب بالمقام أي كيف تقلبون من الحق إلى الباطل والكلام فيه كما تقدم في فَأَنَّى تُصْرَفُونَ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ احتجاج آخر على ما ذكر جيء به إلزاما غب إلزام وإفحاما إثر إفحام. وفصله إيذانا بفضله واستقلاله في إثبات المطلوب كما في سابقه.
والمراد هل من يهدي إلى الحق بإعطاء العقل وبعثة الرسل وإنزال الكتب والتوفيق إلى النظر والتدبر بما نصب في الآفاق والأنفس إلى غير ذلك الله سبحانه أم الشركاء؟. ومنهم من يبقي الكلام على ما يتبادر منه كما سمعت فيما قبل، ومن الناس من خصص طريق الهداية، والتعميم أوفق بما يقتضيه المقام من كمال التبكيت والإلزام كما لا يخفى قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أي هو سبحانه يهدي له دون غيره جل شأنه، والكلام في الأمر على طرز ما سبق، وفعل الهداية يتعدى إلى اثنين ثانيهما بواسطة وهي إلى أو اللام وقد يتعدى لهما بنفسه وهو لغة على ما قيل كاستعماله قاصرا بمعنى اهتدى، والمبرد أنكر هذا حيث قال: إن هدى بمعنى اهتدى لا يعرف لكن لم يتابعه على ذلك الحفاظ كالفراء وغيره، وقد جمع هنا بين صلتيه إلى واللام تفننا وإشارة بإلى إلى معنى الانتهاء وباللام للدلالة على أن المنتهى غاية للهداية وأنها لم تتوجه إليه على سبيل الاتفاق بل على قصد من الفعل وجعله ثمرة له ولذلك عدي بها ما أسند إليه سبحانه كما ترى، وأما قوله تعالى: أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ فالمقصود به التعميم وإن كان الفاعل في الواقع هو الله جل شأنه.
وقيل: اللام هنا للاختصاص والجمهور على الأول، والمفعول محذوف في المواضع الثلاثة، وجواز اللزوم في الأول مما لا يلتفت إليه، ويقدر فيها على طرز واحد كالشخص ونحوه، وقيل: التقدير قل هل من شركائكم من يهدي غيره إلى الحق قل الله يهدي من يشاء إلى الحق أفمن يهدي غيره إلى الحق أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال وهي قراءة يعقوب وحفص، وأصله يهتدي وكسر الهاء لالتقاء الساكنين. وقرأ حماد ويحيى عن أبي بكر عن عاصم بكسر الياء والهاء والتشديد وكسرت الياء اتباعا للهاء، وكان سيبويه يرى جواز كسر حرف المضارعة لغة إلا الياء لثقل الكسرة عليها وهذه القراءة حجة عليه. وقرأ ابن كثير وورش عن نافع وابن عامر بفتح الياء والهاء والتشديد والأصل يهتدي فنقلت فتحة التاء إلى الهاء قبلها ثم قلبت دالا لقرب مخرجهما وأدغمت فيها. وقرأ أبو عمرو وقالوا عن نافع كذلك لكنه اختلس فتحة الهاء تنبيها على أن الحركة فيها عارضة، وفي بعض الطرق عن أبي عمرو أنه قرأ بالإدغام المجرد عن نقل الحركة إلى ما قبلها أو التحريك بالكسر لالتقاء الساكنين. واستشكل ذلك بأن فيه الجمع بين الساكنين ولذا قال المبرد: من رام هذا لا بد أن يحرك حركة خفيفة قال ابن النحاس إذ بدونه لا يمكن النطق، وذكر القاضي أنه لم يبال بالتقاء الساكنين لأن المدغم في حكم المتحرك، وأنكر بعضهم هذه القراءة وادعى أنه إنما قرأ بالاختلاس، والحق أنه قرأ بهما وروي ذلك عن نافع أيضا وتفصيله في لطائف الإشارات والطيبة.
وقرأ حمزة والكسائي «يهدي» كيرمي، وهو إما لازم بمعنى يهتدي كما هو أحد استعمالات فعل الهداية على المعول عليه كما علمت آنفا أو متعد أي لا يهدي غيره، ورجح هذا بأنه الأوفق بما قبل فإن المفهوم منه نفي الهداية لا الاهتداء، وقد يرجع الأول بأن فيه توافق القراءات معنى وتوافقها خير من تخالفها، وإنما نفي الاهتداء مع أن المفهوم مما سبق نفي الهداية كما ذكر لما أن نفيها مستتبع لنفيه غالبا فإن من اهتدى إلى الحق لا يخلو عن هداية غيره في الجملة وأدناها كونه قدوة له بأن يراه فيسلك مسلكه، والفاء لترتيب الاستفهام على ما سبق كأنه قيل: إذا كان الأمر

(6/107)


كذلك فأنا أسألكم أمن يهدي إلى الحق إلخ. والمقصود من ذلك الإلزام، والهمزة على هذا متأخرة في الاعتبار وإنما قدمت في الذكر لإظهار عراقتها في اقتضاء الصدارة كما هو المشهور عند الجمهور.
وصيغة التفضيل إما على حقيقتها والمفضل عليه محذوف كما اختاره مكي والتقدير أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع ممن لا يهدي أم من لا يهدي أحق، وإما بمعنى حقيق كما اختاره أبو حيان، وهو خبر عن الموصول، والفصل بالخبر بين أم وما عطفت عليه هو الأفصح كما قال السمين، وقد لا يفصل كما في قوله سبحانه: أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ [الأنبياء: 109] والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير، وأَنْ يُتَّبَعَ في حيز النصب أو الجر بعد حذف الجار على الخلاف المعروف في مثله أو بأن يتبع إِلَّا أَنْ يُهْدى استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا يهتدي أو لا يهدي غيره في حال من الأحوال إلا حال هدايته تعالى له إلى الاهتداء أو إلى هداية الغير، وهذا على ما قاله جمع حال أشراف شركائهم كالمسيح وعزير والملائكة عليهم السلام دون الأوثان لأن الاهتداء الذي هو قبول الهداية وهداية الغير مختصان بذوي العلم فلا يتصور فيها. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وغيرهما أن المراد الأوثان، ووجه ذلك بأنه جار على تنزيلهم لها منزلة ذوي العلم، وقيل: المعنى أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينقل إليه إلا أن ينقل إليه أو إلا أن ينقله الله تعالى من حاله إلى أن يجعله حيوانا مكلفا فيهديه وهو من قولك: هديت المرأة إلى زوجها وقد هديت إليه وقيل: الآية الأولى قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ في الأصنام أو فيما يعمهم ونحو الملائكة عليهم السلام وهذه في رؤساء الضلالة كالأحبار والرهبان الذين اتخذوا أربابا من دون الله وليس بالبعيد فيما أرى، ويؤيده التعبير بالاتباع فإنه يقتضي العمل بأوامرهم والاجتناب عن نواهيهم وهذا لا يعقل في الأوثان إلا بتكلف، وهو وإن عقل في أشراف شركائهم لكنهم لا يدعون إلا إلى خير واتباعهم في ذلك لا ينعي على أحدهم اللهم إلا أن يقال: إن المشركين تقولوا عليهم أوامر ونواهي فنعى عليهم اتباعهم لهم في ذلك، وعير بالاتباع ولم يعبر بالعبادة بأن يقال: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يعبد أم من لا يهدي إلا أن يهدي مع أن الآية متضمنة إبطال صحة عبادتهم من حيث إنهم لا يهدون وأدنى مراتب العبودية هداية المعبود لعبدته إلى ما فيه صلاح أمرهم مبالغة في تفظيع حال عبادتهم لأنه إذا لم يحسن الاتباع لم تحسن العبادة بالطريق الأولى وإذا قبح حال ذاك فحال هذه أقبح والله تعالى أعلم. وقرىء إلا أن «يهدّى» مجهولا مشددا دلالة على المبالغة في الهداية فَما لَكُمْ أي أي شيء لكم في اتخاذ هؤلاء العاجزين شركاء لله سبحانه وتعالى، والكلام مبتدأ وخبر والاستفهام للإنكار والتعجب.
وعن بعض النحاة أن مثل هذا التركيب لا يتم بدون حال بعده نحو قوله تعالى: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [المدثر: 49] لعل الحال هنا محذوف لظهوره كأنه قيل: فما لكم متخذين هؤلاء شركاء ولا يصح أن يكون قوله عز وجل كَيْفَ تَحْكُمُونَ في موضع الحال لأن الجملة الاستفهامية لا تقع حالا بل هو استفهام آخر للإنكار التعجب أيضا أي كيف تحكمون بالباطل الذي يأباه صريح العقل ويحكم ببطلانه من اتخاذ الشركاء لله جل وعلا، والفاء لترتيب الإنكار على ما ظهر من وجوب اتباع الهادي وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا كلام مبتدأ غير داخل في حيز الأمر مسوق من جهته تعالى لبيان سوء إدراكهم وعدم فهمهم لمضمون ما أفحمهم من البراهين النيرة الموجبة للتوحيد أي ما يتبع أكثرهم في معتقداتهم ومحاوراتهم إلا ظنا واهيا مستندا إلى خيالات فارغة وأقيسة باطلة كقياس الغائب على الشاهد وقياس الخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة ولا يتلفتون إلى فرد من أفراد العلم فضلا عن أن يسلكوا مسالك الأدلة الصحيحة الهادية إلى الحق فيفهموا مضمونها ويقفوا على صحتها وبطلان ما يخالفها، فالمراد بالاتباع مطلق الانقياد الشامل لما يقارن القبول والانقياد وما لا يقارنه وبالقصر ما أشير إليه من أن لا يكون لهم

(6/108)


في أثنائه اتباع لفرد من أفراد العلم والتفات إليه. وتنكير ظَنًّا للنوعية. وفي تخصيص هذا الاتباع بالأكثر الإشارة إلى أن منهم من قد يتبع فيقف على حقية التوحيد لكن لا يقبله مكابرة وعنادا، ومقتضى ما ذكروه في وجه أمره صلّى الله عليه وسلم بأن ينوب عنهم في الجواب من أنه الإشارة إلى أن لجاجهم وعنادهم يمنعهم من الاعتراف بذلك أن فيهم من علم وكان معاندا، ولعل النيابة حينئذ عن الجميع باعتبار هذا البعض، وجوز أن يكون المعنى ما يتبع أكثرهم مدة عمره إلا ظنا ولا يتركونه أبدا، فإن حرف النفي الداخل على المضارع يفيد استمرار النفي بحسب المقام فالمراد بالاتباع هو الإذعان والانقياد والقصر باعتبار الزمان، وفي التخصيص تلويح بما سيكون من بعضهم من اتباع الحق والتوبة، وقيل:
المعنى وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله تعالى إلا ظنا لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم، وقيل: المعنى وما يتبع أكثرهم في قولهم للأصنام أنها آلهة وأنها شفعاء عند الله إلا الظن، والأكثر بمعنى الجميع وهذا كما ورد القليل بمعنى العدم في قوله تعالى: فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ [البقرة: 88] وفي قوله:
قليل التشكي في المصيبات حافظ ... من اليوم أعقاب الأحاديث في غد
وحمل النقيض على النقيض حسن وطريقة مسلوكة، ولا يخفى أنه لا يتعين على هذين القولين حمل الأكثر على الجميع بل يمكن حمله على ما يتبادر منه أيضا، ومن الناس من جعل ضمير أَكْثَرُهُمْ للناس وحينئذ يجب الحمل على المتبادر بلا كلفة إِنَّ الظَّنَّ مطلقا لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً فكيف الظن الفاسد والمراد من الحق العلم والاعتقاد الصحيح المطابق للواقع، والجار متعلق بما قبله وشَيْئاً نصب على أنه مفعول مطلق أي إغناء ما، ويجوز أن يكون مفعولا به والجار والمجرور في موضع الحال منه، والجملة استئناف لبيان شأن الظن وبطلانه، وفيه دليل لمن قال: إن تحصيل العلم في الاعتقاديات واجب وإن إيمان المقلد غير صحيح، وإنما لم يؤخذ عاما للعمليات لقيام الدليل على صحة التقليد والاكتفاء بالظن فيها كما قرر في موضعه.
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ وعيد لهم على أفعالهم القبيحة ويندرج فيها ما حكي عنهم من الإعراض عن البراهين القاطعة واتباع الظنون الفاسدة اندراجا أوليا. وقرىء «تفعلون» بالالتفات إلى الخطاب لتشديد الوعيد.
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ شروع في بيان حالهم من القرآن إثر بيان حالهم مع الأدلة المندرجة في تضاعيفه أو استئناف لبيان ما يجب اتباعه والبرهان عليه غب المنع مع اتباع الظن، وقيل: إنه متعلق بما قصه الله تعالى من قولهم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا [يونس: 15] وقيل: بقوله سبحانه: وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [يونس: 20] إلخ ولا يخفى ما في ذلك من البعد وكانَ هنا ناقصة عند كثير من الكاملين وهذَا اسمها والْقُرْآنُ نعت له أو عطف بيان وأَنْ يُفْتَرى بتأويل المصدر أي افتراء خبر كانَ وهو في تأويل المفعول أي مفترى كما ذكره ابن هشام في قاعدة أن اللفظ قد يكون على تقدير وذلك المقدر على تقدير آخر، ومنه قوله:
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى وذهب بعض المعربين أن ما كانَ بمعنى ما صح وأن في الكلام لا ما مقدرة لتأكيد النفي، والأصل ما كان هذا القرآن لأن يفتري كقوله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122] وأَنْ يُفْتَرى خبر كان ومِنْ دُونِ اللَّهِ خبر ثان وهو بيان للأول، أي ما صح ولا استقام أن يكون هذا القرآن المشحون بفنون الهدايات المستوجبة للاتباع التي من جملتها هاتيك الحجج البينة الناطقة بحقية التوحيد وبطلان الشرك صادرا من غير الله تعالى كيف كان، وقيل عليه ما قيل لكنه لا ينبغي العدول عما قاله في محل مِنْ دُونِ اللَّهِ وما ذكر في حاصل المعنى

(6/109)


أمر مقبول كما لا يخفى، وجوز البدر الدماميني أن تكون كانَ تامة وأَنْ يُفْتَرى بدل اشتمال من هذَا الْقُرْآنُ وتعقب بأنه لا يحسن قطعا لأن ما وجد القرآن يوهم من أول الأمر نفي وجوده وأيضا لا بد من الملابسة بين البدل والمبدل منه في بدل الاشتمال فيلزم أن يبتنى الكلام على الملابسة بين القرآن العظيم والافتراء وفي التزام كل ما ترى، وأجيب عن ذلك بما لا أراه مثبتا للحسن أصلا، واقتصر بعضهم على اعتبار المصدر من غير تأويله باسم المفعول اعتبارا للمبالغة على حد ما قيل في زيد عدل، والظاهر عندي أن المبالغة حينئذ راجعة إلى النفي نظير ما قيل في قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] لا أن النفي راجع إلى المبالغة كما لا يخفى، ومن هنا يعلم ما في قول بعض المحققين: إن قول الزمخشري في بيان معنى الآية: وما صح وما استقام وكان محالا أن يكون مثله في علو أمره وإعجازه مفترى ربما يشعر بأنه على حذف اللام إذ مجرد توسيط- كان- لا يفيد ذلك والتعبير بالمصدر لا تعلق له بتأكيد معنى النفي من النظر، ثم إنهم فيما رأينا لم يعتبروا المصدر هنا إلا نكرة والمشهور اتفاق النحاة على أن أن والفعل المؤول بالمصدر معرفة ولذلك لا يخبر به عن النكرة، وكأنه مبني على ما قاله ابن جني في الخاطريات من أنه يكون نكرة وذكر أنه عرضه على أبي علي فارتضاه. واستشكل بعضهم هذه الآية بأن أن تخلص المضارع للاستقبال كما نص على ذلك النحويون، والمشركون إنما زعموا كون القرآن مفترى في الزمان الماضي كما يدل عليه ما يأتي إن شاء الله تعالى فكيف ينبغي كونه مفترى في الزمان المستقبل. وأجيب عنه بأن الفعل فيها مستعمل في مطلق الزمان وقد نص على جواز ذلك في الفعل ابن الحاجب. وغيره ونقله البدر الدماميني في شرحه لمغني اللبيب، ولعل ذلك من باب المجاز، وحينئذ يمكن أن يكون نكتة العدول عن المصدر الصريح مع أنه المستعمل في كلامهم عند عدم ملاحظة أحد الأزمنة نحو أعجبني قيامك أن المجاز أبلغ من الحقيقة، وقيل: لعل النكتة في ذلك استقامة الحمل بدون تأويل للفرق بين المصدر الصريح والمؤول على ما أشار إليه شارح اللباب. وغيره، ولا يخفى أن فيه مخالفة لما مرت الإشارة إليه من أن أن والفعل في تأويل المصدر وهو في تأويل المفعول قيل: وقد يجاب أيضا عن أصل الإشكال بأنه إنما نفي في الماضي إمكان تعلق الافتراء به في المستقبل وكونه محلا لذلك فينتفي تعلق الافتراء به بالفعل من باب أولى، وفي ذلك سلوك طريق البرهان فيكون في الكلام مجاز أصلي أو تبعي، وقد نص أبو البقاء على جواز كون الخبر محذوفا وأن التقدير وما كان هذا القرآن ممكنا أن يفترى، وقال العلامة ابن حجر: إن الآية جواب عن قولهم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس: 15] وهو طلب للافتراء في المستقبل، وأما الجواب عن زعمهم أنه عليه الصلاة والسلام افتراه وحاشاه فسيأتي عند حكاية زعمهم ذلك فلا إشكال، على أن عموم تخليص أن المضارع للاستقبال في حيز المنع، لم لا يجوز أن يكون ذلك فيما عدا خبر كان المنفية كما يرشد إليه قوله سبحانه: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: 113] فإنه نزل عن استغفار سبق منهم للمشركين كما قاله أئمة التفسير، وقد أطال الكلام على ذلك في ذيل فتاويه فتبصر.
وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي من الكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل، فالمراد من الموصول الجنس، وعنى بالتصديق بيان الصدق وهو مطابقة الواقع وإظهاره وإضافته إما لفاعله أو مفعوله، وتصديق الكتب له بأن ما فيه من العقائد الحقة مطابق لما فيها وهي مسلمة عند أهل الكتاب وما عداهم إن اعترف بها وإلا فلا عبرة به.
وفي جعل الإضافة للمفعول مبالغة في نفي الافتراء عنه لأنه ما يثبت ويظهر به صدق غيره فهو أولى بالصدق، ووجه كونه مصدقا لها أنه دال على نزولها من عند الله تعالى ومشتمل على قصص الأولين حسبما ذكر فيها وهو معجز دونها فهو الصالح لأن يكون حجة وبرهانا لغيره لا بالعكس، وزعم بعضهم أن المراد من الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أخبار

(6/110)


الغيوب والإضافة للفاعل، وتصديقها له مجيئها على وفق ما أخبر به وليس بشيء، ونصب- التصديق- على العطف على خبر- كان- أو على أنه خبر لكان مقدرة، وقيل: على أنه مفعول لأجله لفعل مقدر أي أنزل لتصديق ذلك، وجعل العلة هنا ما ذكر مع أنه أنزل لأمور لأنه المناسب لمقام رد دعوى افترائه، وقيل: نصب على المصدرية لفعل مقدر أي يصدق تصديق إلخ، وقرأ عيسى بن عمرو الثقفي برفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ولكن هو تصديق إلخ وكذا قرأ بالرفع في قوله تعالى: وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ أي ما كتب وأثبت من الحقائق والشرائع، والعطف نصبا أو رفعا على تَصْدِيقَ وقوله سبحانه: لا رَيْبَ فِيهِ خبر آخر للكن أو للمبتدأ المقدر، وفصل لأنه جملة مؤكدة لما قبلها، وجوز أن يكون حالا من الكتاب وإن كان مضافا إليه فإنه مفعول في المعنى وأن يكون استئنافا نحويا لا محل له من الإعراب أو بيانيا جوابا للسؤال عن حال الكتاب والأول أظهر، والمعنى لا ينبغي لعاقل أن يرتاب فيه لوضوح برهانه وعلو شأنه مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ خبر آخر لكان أو المبتدأ المقدر كما مر في سابقه أو متعلق بتصديق أو بتفصيل أو بالفعل المعلل بهما أو متعلق بمحذوف وقع حالا من الكتاب ولا رَيْبَ فِيهِ اعتراض لئلا يلزم الفصل بالأجنبي بين المتعلق والمتعلق أو الحال وذيها. وجوز أن يكون حالا من الضمير المجرور في فِيهِ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أم منقطعة وهي مقدرة ببل والهمزة عند سيبويه والجمهور أي بل أيقولون، وبل انتقالية والهمزة لإنكار الواقع واستبعاده أي ما كان ينبغي ذلك، وجوز أن تكون للتقرير لإلزام الحجة والمعنيان على ما قيل متقاربان، وقيل: إن أم متصلة ومعادلها مقدر أي أتقرون به أم تقولون افتراه، وقيل: هي استفهامية بمعنى الهمزة، وقيل: عاطفة بمعنى الواو والصحيح الأول، وأيّا ما كان فالضمير المستتر للنبي صلّى الله عليه وسلم وإن لم يذكر لأنه معلوم من السياق قُلْ تبكيتا لهم وإظهارا لبطلان مقالتهم الفاسدة إن كان الأمر كما تقولون فَأْتُوا بِسُورَةٍ طويلة كانت أو قصيرة مِثْلِهِ في البلاغة وحسن الارتباط وجزالة المعنى على وجه الافتراء، وحاصله على ما قيل: إن كان ذاك افتراء مني فافتروا سورة مثله فإنكم مثلي في العربية والفصاحة وأشد تمرنا واعتيادا في النظم والنثر، وعلى هذا فالمراد بإتيان المخاطبين بذلك إنشاؤهم له والتكلم به من عند أنفسهم لا ما يعم ذلك وإيراده من كلام الغير ممن تقدم، وجوز أن يكون المراد ما ذكر ولعله السر في العدول عن قولوا سورة مثله مثلا إلى ما في النظم الكريم، أي إن كان الأمر كما زعمتم فأتوا من عند أنفسكم أو ممن تقدمكم من فصحاء العرب وبلغائها كامرىء القيس وزهير وأضرابهما بسورة مماثلة له في صفاته الجليلة فحيث عجزتم عن ذلك مع شدة تمرنكم ولم يوجد في كلام أولئك وهم الذين نصبت لهم المنابر في عكاظ الفصاحة والبلاغة وبهم دارت رحا النظم والنثر وتصرمت أيامهم في الإنشاء والإنشاد دل على أنه ليس من كلام البشر بل هو من كلام خالق القوى والقدر. وقرىء بِسُورَةٍ مِثْلِهِ على الإضافة أي بسورة كتاب مثله وَادْعُوا للمعاونة والمظاهرة. مَنِ اسْتَطَعْتُمْ دعاءه والاستعانة به من آلهتكم التي تزعمون إنها ممدة لكم في المهمات والملمات والمداراة الذين تلجئون إليهم في كل ما تأتون وتذرون مِنْ دُونِ اللَّهِ متعلق بادعوا كما قيل ومَنِ ابتدائية على معنى أن الدعاء مبتدأ من غيره تعالى لا ملابسة له معه جل شأنه بوجه، وجوز أن يكون متعلقا بما عنده ومن بيانية أي ادعوا من استطعتم من خلقه ولا يخلو عن حسن.
وفائدة هذا القيد قيل: التنصيص على براءتهم منه تعالى وكونهم في عدوة المضادة والمشاقة، وليس المراد به إفادة استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه لأجابهم إليه، وقد يقال: لا بأس بإفادة ذلك لأن الاستبداد المذكور مما يؤيد المقصود وهو كون ما أتى به صلّى الله عليه وسلم لم يكن من عند نفسه بل هو منه تعالى، والإيهام مما لا يلتفت إليه فإن دعاءهم إياه تعالى بمعنى طلبهم منه سبحانه وتعالى أن يأتي بما كلفوه مستبدا به مما لا يكاد يتصور لأنه ينافي زعمهم السابق كما لا يخفى فتأمل إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أني افتريته فإن ذلك مستلزم

(6/111)


لإمكان الإتيان بمثله وهو أيضا مستلزم لقدرتكم عليه وجواب إِنْ محذوف لدلالة المذكور عليه، وفي هذه الآية دلالة على إعجاز القرآن لأنه عليه الصلاة والسلام تحدى مصاقع العرب بسورة ما منه فلم يأتوا بذلك وإلا لنقل إلينا لتوفر الدواعي إلى نقله. وزعم بعض الملاحدة أنه لا يلزم من عجزهم عن الإتيان بذلك كونه من عند الله تعالى قطعا فإنه قد يتفق في الشخص خصوصية لا توجد في غيره فيحتمل أنه صلّى الله عليه وسلم كان مخصوصا بهذه المرتبة من الفصاحة والبلاغة ممتازا بها عن سائر العرب فأتى بما أتى دونهم،
وقد جاء من بعض الطرق أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش»
وأجيب بأنه صلّى الله عليه وسلم وإن كان في أقصى الغايات من الفصاحة حتى كأن الله تعالى شأنه وعزت قدرته محض اللسان العربي وألقى زبدته على لسانه صلّى الله عليه وسلم فما من خطيب يقاومه إلا نكص متفكك الرجل وما من مصقع يناهزه إلا رجع فارغ السجل إلا أن كلامه صلّى الله عليه وسلم لا يشبه ما جاء به من القرآن وكلام شخص واحد متشابه كما لا يخفى على ذوي الأذواق الواقفين على كلام البلغاء قديما وحديثا.
وتعقب بأنه لا يدفع ذلك الزعم لما فيه ظاهرا من تسليم كون كلامه عليه الصلاة والسلام معجزا لا تستطاع معارضته وحينئذ العجز عن معارضة القرآن يجعله دائرا بين كونه كلامه تعالى وكونه كلامه صلّى الله عليه وسلم ولا يثبت كونه كلام الله عز وجل إلا بضم امتيازه على كلامه صلّى الله عليه وسلم والزاعم لم يدع إلا عدم لزوم كونه من عند الله تعالى قطعا من عجزهم عن الإتيان بذلك، وأيضا ينافي هذا التسليم ما تقدم في بيان حاصل فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ حيث علل بأنكم مثلي في العربية والفصاحة إلخ، ومن هنا قيل: الأوجه في الجواب أن يلتزم عدم إعجاز كلامه صلّى الله عليه وسلم مع كونه عليه الصلاة والسلام أفصح العرب ولا منافاة بينهما كما لا يخفى على المتأمل. وأطال بعضهم الكلام في هذا المقام، وبعض أدرج مسألة خلق الأفعال في البين وجعل مدار الجواب مذهب الأشعري فيها ولعل الأمر غني عن الإطالة عند من انجاب عن عين بصيرته الغين بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ قيل: هو إضراب وانتقال عن إظهار بطلان ما قالوا في حق القرآن العظيم بالتحدي إلى إظهاره ببيان أنه كلام ناشىء عن عدم علمهم بكنه أمره والاطلاع على شأنه الجليل فما عبارة عن القرآن وهو المروي عن الحسن وعليه محققو المفسرين، وقيل: هي عبارة عما ذكر فيه مما يخالف دينهم كالتوحيد والبعث والجزاء وليس بذاك سواء كانت الباء للتعدية كما هو المتبادر أم للسببية، والمراد أنهم سارعوا إلى تكذيبه من غير أن يتدبروا ما فيه ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الدالة على كونه كما وصف آنفا ويعلموا أنه ليس مما يمكن أن يؤتى بسورة مثله، والتعبير عنه بهذا العنوان دون أن يقال: بل كذبوا به من غير أن يحيطوا بعلمه أو نحوه للإيذان بكمال جهلهم به وأنهم لم يعلموه إلا بعنوان عدم العلم به وبأن تكذيبهم به إنما هو بسبب عدم إحاطتهم بعلمه لما أن تعليق الحكم بالموصول مشعر بعلية ما في حيز الصلة له، وأصل الكلام بما لم يحيطوا به علما إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم لأنه أبلغ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ عطف على الصلة أو حال من الموصول أي ولم يقفوا بعد على معانيه الوضعية والعقلية المنبئة عن علو شأنه وسطوع برهانه، فالتأويل نوع من التفسير، والإتيان مجاز عن المعرفة والوقوف، ولعل اختياره للإشعار بأن تلك المعاني متوجهة إلى الأذهان منساقة إليها بنفسها، وجوز أن يراد بالتأويل وقوع مدلوله وهو عاقبته وما يؤول إليه وهو المعنى الحقيقي عند بعض فإتيانه حينئذ مجاز عن تبينه وانكشافه، أي ولم يتبين لهم إلى الآن تأويل ما فيه من الأخبار بالغيوب حتى يظهر أنه صدق أم كذب. والمعنى أن القرآن معجز من جهة النظم والمعنى ومن جهة الإخبار بالغيب وهم فاجؤوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه ويتفكروا في معناه أو ينتظروا وقوع ما أخبر به من الأمور المستقبلة، ونفي إتيان التأويل بكلمة لَمَّا الدالة على توقع منفيها بعد نفي الإحاطة بعلمه بكلمة- لم- لتأكيد الذم وتشديد التشنيع فإن الشناعة في تكذيب الشيء قبل علمه المتوقع إتيانه أفحش منها في تكذيبه قبل علمه مطلقا.

(6/112)


وادعى بعضهم أن الإضراب عن التكذيب عنادا المدلول عليه بقوله سبحانه: قُلْ فَأْتُوا إلخ فإن الإلزام إنما يأتي بعد ظهور العجز، ومعنى هذا الإضراب ذمهم على التقليد وترك النظر مع التمكن منه وهو أدخل في الذم من العناد من وجه، وذلك لأن التقليد اعتراف من صاحبه بالقصور في الفطنة ثم لا يعذر فيه فلا يرتضي ذو عقل أن يقلد رجلا مثله من غير تقدم عليه بفطنة وتجربة وأما العناد فقد يحمده بعض النفوس الأبية بل في أشعارهم ما يدل على أنهم مفتخرون بذلك كقولهم:
فعاند من تطيق له عناد ولا يرد أن العناد لما كان بعد العلم كان أدخل في الذم فلا نسلم أنه أدخل فيه من التقليد بل من الجهل قبل التدبر دون اقتران التقليد به، وإن سلم فهذا أيضا أدخل من وجه، وقد جعل مصب الإنكار على جمعهم بين الأمرين والجمع على كل حال أدخل من التفرد بواحد صح الإضراب فكأنه قيل: دع تحديهم وإلزامهم فإنهم لا يستأهلون الخطاب لأنهم مقلدون متهافتون في الأمر لا عن خبر وحجى. وقد ذكر الزمخشري في هذا المقام ثلاثة أوجه، الوجه الأول أن التقدير أم كذبوا وقالوا هو مفترى بعد العلم بإعجازه عنادا بل كذبوا به قبل أن يأتيهم العلم بوجه إعجازه أيضا فهم مستمرون على التكذيب في الحالين مذمومون به موسومون برذيلتي التقليد والعناد جامعون بينهما بالنسبة إلى وقتين، ووجه ذلك بأن بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ صريح في تكذيبهم قبل العلم بوجه الإعجاز وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ يدل على امتداد هذا التكذيب إلى مجيء التأويل المنتظر بالنسبة إلى تكذيبهم قبل لا بالنسبة إلى زمان الإخبار فإن التأويل أيضا واقع، وحينئذ إما أن يكون التكذيب كونه واردا ذما لهم بالتسرع إلى التكذيب الذي هو منطوق النص فيجب أن يكون العطف على قوله سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ويكون ذلك لبيان أنهم كذبوا عن علم وهذا لبيان تكذيبهم قبله أيضا ويكون الجهتان منظورتين وأنهم مذمومون فيهما.
والحاصل أن أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ لا مرية فيه أنه تكذيب بعد العلم لمكان الأمر بعده. لكن لما جعل التوقع المفاد بلما لعلم الإعجاز لزم أن يكون بالنسبة إلى حالهم الأولى وهو التكذيب قبل العلم فإن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يتوقع زواله بالعلم ويكون معنى المبالغة في لَمَّا الإشعار باستغراق الوقت للتكذيب إلى زمان التأويل المنتظر الواقع الذي كذبوا فيه عنادا وبغيا. الوجه الثاني حمل التأويل على المعنى الثاني الذي ذكرناه، والمعنى بل سارعوا إلى التكذيب قبل الإحاطة بعلمه ليعرفوا إعجاز نظمه، وقيل: إتيان التأويل المنتظر وهو ما يؤول إليه من الصدق في الأخبار بالمغيبات، والمقصود من هذا ذمهم بالتسارع إلى التكذيب من الوجهين لكن لما كان مع الوجهين علم ما يتضمنه لو يدبروا لم يكن فيه شيء منتظر والثاني لما لم يكن كذلك كان فيه أمر منتظر، وأتى بحرف التوقع دليلا عن أن هذا المنتظر كائن وسيظهر أنهم مبطلون فيه أيضا كالأول ولا نظر إلى أنهم مذمومون حالتي العناد والتقليد بل المقصود كمال إظهار الإلزام بأنه مفروغ عنه مع أمثالهم للتهافت المذكور.
الوجه الثالث أن أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ذم لطائفة كذبوا عن علم وهذا ذم لأخرى كذبت عن شك ولما وجد فيما بينهم القسمان أسند الكل إلى الكل وليس بدعا في القرآن، والغرض من الإضراب تعميم التكذيب وأنه كان الواجب على الشاك التوقف لا التسرع إلى التكذيب ومعنى التوقع أنه سيزول شكهم فسيعلم بعضهم ويبقى بعض على ما هو عليه، والآية ساكتة عن التفصيل ناطقة بزوال الشك ولا خفاء أن الشاك ينتظر وكذلك كان صلّى الله عليه وسلم يتوقع زوال شكهم انتهى، ولا يخفى أن ما نقلنا أولا أولى بالقبول عند ذوي العقول.
وأورد على دعوى أن أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ تكذيب بعد العلم أنها ناشئة من عدم العلم وما سيق لإثباتها في حيز

(6/113)


المنع فإن الإلزام بعد التحدي وذلك القول قبله، وكونه مسبوقا بالتحدي الوارد في سورة البقرة يرده أنها مدنية وهذه مكية.
نعم ربما يقال في الاستدلال على كون ذلك القول بعد العلم بوقوع حكايته في النظم الكريم بعد حكاية الإشارة إلى مضمونه بقوله تعالى: قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس: 15] ورده بما سمعته هناك حسبما قرره الجمهور، وبيان ذلك أنهم نقل عنهم أولا الإشارة إلى نسبة الافتراء إلى سيد الصادقين صلّى الله عليه وسلم ثم نقل عنهم التصريح بذلك، والظاهر أن الأمر حسبما نقل لكثرة وقوع التصريح بعد الإشارة، وقد تخلل رد ما أشاروا إليه في البين فيحتمل أنهم عقلوه وعلموا الحق لكنهم لم يقروا به عنادا وبغيا فصرحوا بما صرحوا فيكون ذلك منهم بعد العلم ولترقيهم من الإشارة إلى التصريح ترقي في إلزامهم فإن هذا التحدي أظهر في الإلزام مما تقدم كما هو ظاهر، لكن للمناقشة في هذا مجال، ويخطر بالبال أنه يحتمل أن يكون الإضراب عن ذمهم بالتكذيب بالقرآن إلى ذمهم بالمسارعة إلى تكذيب ما لم يحيطوا به علما وأن الوقوف على العلم به متوقع سواء كان قرآنا أو غيره- فما- عامة للأمرين ويدخل القرآن في العموم دخولا أوليا ولعله أولى مما قيل: إنه إضراب عن مقدر وينبغي أن تسمى- بل- هذه فصيحة فإن المعنى فما أجابوا أو ما قدروا أن يأتوا بل كذبوا إلخ كَذلِكَ أي مثل تكذيبهم من غير تدبر وتأمل كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي فعلوا التكذيب أو كذبوا أنبياءهم فيما أتوا به فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ خطاب لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون عاما لكل من يصلح له، والمراد بالظالمين الذين من قبلهم، ووضع المظهر موضع المضمر للإيذان بكون التكذيب ظلما وبعليته لإصابة ما أصابهم من سوء العاقبة وبدخول هؤلاء الذين حكي عنهم ما حكي في زمرتهم جرما ووعيدا دخولا أوليا، والفاء لترتيب ما بعدها على محذوف ينساق إليه الكلام أي فأهلكناهم فانظر إلخ، وكيف في موضع نصب خبر كان، وقد يتصرف فيها فتوضع موضع المصدر وهو كيفية ويخلع عنها معنى الاستفهام بالكلية، وهي هنا تحتمل ذلك، وكذا قول البخاري رضي الله تعالى عنه:- كيف كان بدء الوحي- كما قال السمين، ونقل عنه أن فعل النظر معلق عن العمل لمكان كيف لأنهم عاملوها في كل موضع معاملة الاستفهام المحض وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وصف لحالهم بعد إتيان التأويل المتوقع كما قيل إذ حينئذ يمكن تنويعهم إلى المؤمن به وغير المؤمن به ضرورة امتناع الإيمان بشيء من غير علم به واشتراك الكل في التكذيب قبل ذلك فالضمير للمكذبين، ومعنى الإيمان به إما الاعتقاد بحقيته فقط أي منهم من يصدق به في نفسه أنه حق عند الإحاطة بعلمه وإتيان تأويله لكنه يعاند ويكابر وإما الإيمان الحقيقي أي منهم من سيؤمن به ويتوب عن الكفر وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ أي لا يصدق به في نفسه كما لا يصدق به ظاهرا لفرط غباوته المانعة عن الإحاطة بعلمه كما ينبغي أو لسخافة عقله واختلال تمييزه وعجزه عن تخليص علومه عن معارضة الظنون والأوهام التي ألفها فيبقى على ما كان عليه من الشك أو لا يؤمن به فيما سيأتي بل يموت على كفره معاندا كان أو شاكا وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ أي بكلا الفريقين على الوجه الأول من التفسير لا بالمعاندين فقط لاشتراكهما في أصل الإفساد المستدعي لاشتراكهما في الوعيد المراد من الكلام أو بالمصرين الباقين على الكفر على الوجه الثاني منه وَإِنْ كَذَّبُوكَ أي أصروا على تكذيبك بعد إلزام الحجة، وأول بذلك لأن أصل التكذيب حاصل فلا يصح فيه الاستقبال المفاد بالشرط، وأيضا جوابه وهو قوله سبحانه: فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ المراد منه التبرؤ والتخلية إنما يناسب الإصرار على التكذيب واليأس من الإجابة، والمعنى لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم كيفما كانا، وتوحيد العمل المضاف إليهم باعتبار الاتحاد النوعي ولمراعاة كمال المقابلة كما قيل، وقوله سبحانه: أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ تأكيد لما أفاده لام الاختصاص من عدم تعدي جزاء العمل إلى غير عامله أي لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم، وعلى هذا فالآية محكمة غير

(6/114)


منسوخة بآية السيف لما أن مدلولها اختصاص كل بأفعاله وثمراتها من الثواب والعقاب وآية السيف لم ترفع ذلك، وعن مقاتل والكلبي وابن زيد أنها منسوخة بها وكأن ذلك لما فهموا منها الإعراض وترك التعرض بشيء،
ولعل وجه تقديم حكم المتكلم أولا وتأخيره ثانيا والعكس في حكم المخاطبين ظاهر مما ذكرناه في معنى الآية فافهم.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا وهو احتجابهم عن قبول صفات الحق وذلك لأنه بتوفر النعم الظاهرة والمرادات الجسمانية يقوي ميل النفس إلى الجهة السفلية فتحتجب عن قبول ذلك كما أنه بأنواع البلاء تنكسر سورة النفس ويتلطف القلب ويحصل الميل إلى الجهة العلوية والتهيؤ لقبول ذلك قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً بإخفاء القهر الحقيقي في هذا اللطف الصوري إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ في ألواح الملكوت هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي يسير نفوسكم في بر المجاهدات وقلوبكم في بحر المشاهدات، وقيل: يسير عقولكم في بر الأفعال وأرواحكم في بحر الصفات والذات حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ أي فلك العناية الأزلية وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وهي ريح صبا وصاله سبحانه وَفَرِحُوا بِها لإيذانها بذلك وتعطرها بشذا ديار الإنس ومرابع القدس:
ألا يا نسيم الريح ما لك كلما ... تقربت منا زاد نشرك طيبا

أظن سليمى خبرت بسقامنا ... فأعطتك رياها فجئت طبيبا
جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وذلك عاصف القهر وأمواج صفات الجلال، وهذه سنة جارية في العاشقين لا يستمر لهم حال ولا يدون لهم وصال، ولله در من قال:
فبتنا على رغم الحسود وبيننا ... شراب كريح المسك شيب به الخمر

فوسدتها كفي وبت ضجيعها ... وقلت لليلي طل فقد رقد البدر

فلما أضاء الصبح فرق بيننا ... وأي نعيم لا يكدره الدهر
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أي إنهم من الهالكين في تلك الأمواج دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ بالتبري من غير الله تعالى قائلين لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لك بك فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وهو تجاوزهم عن حد العبودية بسكرهم في جمال الربوبية، وذلك مثل ما عرا الحلاج وأضرابه ثم إنه سبحانه نبههم بعد رجوعهم من السكر إلى الصحو على أن الأمر وراء ذلك بقوله جل وعلا: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي إنه يرجع إليكم ما ادعيتم لا إليه تعالى فإنه سبحانه الموجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق كذا قالوا.
وقال ابن عطاء في الآية حتى إذا ركبوا مراكب المعرفة وجرت بهم رياح العناية وطابت نفوسهم وقلوبهم بذلك وفرحوا بتوجههم إلى مقصودهم جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ أفنتهم عن أحوالهم وإرادتهم وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أي تيقنوا أنهم مأخوذون عنهم ولم يبق لهم ولا عليهم صفة يرجعون إليها وأن الحق خصهم من بين عباده بأن سلبهم عنهم دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حيث صفى سبحانه أسرارهم وطهرها مما سواه فَلَمَّا أَنْجاهُمْ أي ردهم إلى أوصافهم وأشباحهم رجعوا إلى ما عليه عوام الخلق من طلب المعاش للنفوس انتهى. وكأنه حمل البغي على الطلب وضمنه معنى الاشتغال أي يطلبون في الأرض مشتغلين بغير الحق سبحانه وهو المعاش الذي به قوام أبدانهم، ويشكل أمر الوعيد المنبئ به فَنُنَبِّئُكُمْ إلخ على هذا التأويل وما قبله لأن ما يقع في السكر لا وعيد عليه وكذا طلب المعاش، وانظر هل يصح أن يقال: إن الأمر من باب حسنات الأبرار

(6/115)


سيئات المقربين؟ ثم إنه سبحانه مثل الحياة في سرعة زوالها وانصرام نعيمها غب إقبالها واغترار صاحبها بها بما أشار إليه سبحانه بقوله جل وعلا: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ إلخ وفيه إشارة إلى ما يعرض والعياذ بالله تعالى لمن سبقت شقاوته في الأزل من الحور بعد الكور فبينما تراه وأحواله حالية وأعوامه عن شوائب الكدر خالية وغصون أنسه متدلية ورياض قربه مونقة قلب الدهر له ظهر المجن وغزاه بجيوش المحن وهبت على هاتيك الرياض عاصفات القضاء وضاقت عليه فسيحات الفضاء وذهب السرور والإنس وجعل حصيدا كأن لم يغن بالأمس وأنشد لسان حاله:
قف بالديار فهذه آثارهم ... نبكي الأحبة حسرة وتشوقا

كم قد وقفت بها أسائل مخبرا ... عن أهلها أو صادقا أو مشفقا

فأجابني داعي الهوى في رسمها ... فارقت من تهوى فعز الملتقى
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وهو العالم الروحاني السليم من الآفات وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا شعوب فيه وهو طريق الوحدة. وقد يقال: يدعو الجميع إلى داره. ويهدي خواص العارفين إلى وصاله.
أو يدعو السالكين إلى الجنة ويبدي المجذوبين إلى المشاهدة لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا وهم خواص الخواص الْحُسْنى وهي رؤية الله تعالى وَزِيادَةٌ وهي دوام الرؤية، أو للذين جاؤوا بما يحسن به حالهم من خير قلبي أو قالبي، المثوبة الحسنى من الكمال الذي يفاض عليهم وزيادة في استعداد قبول الخير إلى ما كانوا عليه قبل، وقد يقال: الحسنى ما يقتضيه قرب النوافل والزيادة ما يقتضيه قرب الفرائض وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أي لا يصيبهم غبار الخجالة ولا ذل الفرقة أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ التي تقتضيها أفعالهم هُمْ فِيها خالِدُونَ ثم ذكر سبحانه حال الذين أساؤوا بقوله جل شأنه: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ إلخ وأشار إلى أنه على عكس حال أولئك الكرام وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً في المجمع الأكبر ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا منهم وهم المحجوبون الواقفون مع الغير بالمحبة والطاعة مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ قفوا جميعا وانتظروا الحكم فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ أي قطعنا الأسباب التي كانت بينهم وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ بل كنتم تعبدون أشياء اخترعتموها في أوهامكم الفاسدة فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ لم نطلبها منكم لا بلسان حال ولا بلسان قال هُنالِكَ أي في ذلك الموقف تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ أي تذوق وتختبر ما أَسْلَفَتْ في الدنيا وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ المتولي لجزائهم بالعدل والقسط وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من اختراعاتهم وتوهماتهم الكاذبة وأمانيهم الباطلة. ثم ذكر سبحانه مما يدل على التوحيد ما ذكر، والرزق من السماء عند العارفين هو رزق الأرواح ومن الأرض رزق الأشباح، والحي عندهم العارف والميت الجاهل وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ذم لهم بعدم العلم بما يجب لمولاهم وما يمتنع وما يجوز ولا يكاد ينجو من هذا الذم إلا قليل، ومنهم الذين عرفوه جل شأنه به لا بالفكر بل قد يكاد يقصر العلم عليهم فإن أدلة أهل الرسوم من المتكلمين وغيرهم متعارضه وكلماتهم متجاذبة فلا تكاد ترى دليلا سالما من قيل وقال ونزاع وجدال، والوقوف على علم من ذلك مع ذلك أمر أبعد من العيوق وأعز من بيض الأنوق:
لقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسرحت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم
فمن أراد النجاة فليفعل ما فعل القوم ليحصل له ما حصل لهم أولا فليتبع السلف الصالح فيما كانوا عليه في أمر دينهم غير مكترث بمقالات الفلاسفة ومن حذا حذوهم من المتكلمين التي لا تزيد طالب الحق إلا شكا وَما كانَ

(6/116)