روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)

سورة القمر
وتسمى أيضا «اقتربت» وعن ابن عباس أنها تدعى في التوراة المبيضة تبيض وجه صاحبها يوم تسود الوجوه، أخرجه عنه البيهقي في شعب الإيمان لكن قال: إنه منكر «وهي مكية» في قول الجمهور، وقيل مما نزل يوم بدر، وقال مقاتل: مكية إلا ثلاث آيات أَمْ يَقُولُونَ إلى وَأَمَرُّ [القمر: 44- 46] واقتصر بعصهم على استثناء سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ [القمر: 45] إلخ،
ورد بما أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه عن أبي هريرة قال: أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة قبل يوم بدر سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ وقال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في آثارهم مصلتا بالسيف وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ فكانت ليوم بدر
،
وفي الدر المنثور: أخرج البخاري عن عائشة قالت: «نزل على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة وإني لجارية ألعب بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [القمر: 46] »
ويرد به وبما قبله ما حكي عن مقاتل أيضا، وقيل: إلا إِنَّ الْمُتَّقِينَ [القمر: 45] الآيتين وآيها خمس وخمسون بالإجماع، ومناسبة أولها لآخر السورة التي قبلها ظاهرة فقد قال سبحانه:
ثم أَزِفَتِ الْآزِفَةُ [النجم: 57] وهنا اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر: 1] وقال الجلال السيوطي: لا يخفى ما في توالي هاتين السورتين من حسن التناسق للتناسب في التسمية لما بين- النجم، والقمر- من الملابسة، وأيضا إن هذه بعد تلك- كالأعراف بعد الأنعام، وكالشعراء بعد الفرقان، وكالصافات بعد يس- في أنها تفصيل لأحوال الأمم المشار إلى إهلاكهم في قوله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى وَقَوْمَ نُوحٍ [النجم: 50] إلى قوله سبحانه: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى [النجم: 53] .

(14/73)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ أي قربت جدا وَانْشَقَّ الْقَمَرُ انفصل بعضه عن بعض وصار فرقتين وذلك على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل الهجرة بنحو خمس سنين
فقد صح من رواية الشيخين وابن جرير عن أنس أن أهل مكة سألوه عليه الصلاة والسلام أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما
،
وخبر أبي نعيم من طريق الضحاك عن ابن عباس- أن أحبار اليهود سألوا آية فأراهم الله تعالى القمر قد انشق-
لا يعوّل عليه،
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود «انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرقتين فرقة على الجبل وفرقة دونه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: اشهدوا»
ومن حديثه أيضا «انشق القمر على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة فقال رجل: انتظروا ما يأتيكم به السفار فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم فجاء السفار فأخبروهم بذلك» رواه أبو داود. والطيالسي
،
وفي رواية البيهقي «فسألوا السفار وقد قدموا من كل وجه فقالوا: رأيناه» فأنزل الله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس من وجه ضعيف قال: «اجتمع المشركون على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والعاص بن هشام والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب وربيعة بن الأسود والنضر بن الحارث فقالوا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبي قبيس ونصفا على قينقاع فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن فعلت تؤمنوا؟ قالوا:
نعم وكانت ليلة بدر فسأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ربه عز وجل أن يعطيه ما سألوا فأمسى القمر قد مثل نصفا على أبي قبيس ونصفا على قينقاع ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ينادي يا أبا سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن الأرقم اشهدوا»
. والأحاديث الصحيحة في الانشقاق كثيرة، واختلف في تواتره فقيل: هو غير متواتر، وفي شرح المواقف الشريفي أنه متواتر وهو الذي اختاره العلامة ابن السبكي قال في شرحه لمختصر ابن الحاجب: الصحيح عندي أن انشقاق القمر متواتر منصوص عليه في القرآن مروي في الصحيحين وغيرهما من طرق شتى بحيث لا يمترى في تواتره انتهى باختصار، وقد جاءت أحاديثه في روايات صحيحة عن جماعة من الصحابة منهم علي كرم الله تعالى وجهه وأنس وابن سعود وابن عباس وحذيفة وجبير بن مطعم وابن عمر وغيرهم، نعم إن منهم من لم يحضر ذلك كابن عباس فإنه لم يكن مولودا إذ ذاك وكأنس فإنه كان ابن أربع أو خمس بالمدينة، وهذا لا يطعن في صحة الخبر كما لا يخفى، ووقع
في رواية البخاري وغيره عن ابن مسعود «كنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمنى فانشق القمر»
ولا يعارض ما صح عن أنس أن ذلك كان بمكة لأنه لم يصرح بأنه عليه الصلاة والسلام كان ليلتئذ بمكة، فالمراد أن الانشقاق كان والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذ ذاك مقيم بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة، ووقع في نظم السيرة للحافظ أبي الفضل العراقي ما هو نص في وقوع الانشقاق عبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طريق مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود قال: رأيت القمر منشقا شقتين مرتين بمكة قبل مخرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الحديث، وأما الإجماع فغير مسلم، وفي المواهب قال الحافظ بن حجر: أظن أن قوله:
بالإجماع يتعلق- بانشق- لا بمرتين فإني لا أعلم من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه صلى الله تعالى عليه وسلم، ولعل قائل مرتين أراد فرقتين، وهذا الذي لا يتجه غيره جمعا بين الروايات انتهى، ولا يخفى أن هذا التأويل مع بعده لا يتسنى في خبر ابن مسعود المذكور آنفا لمكان شقتين وهي بمعنى فرقتين ومرتين معا، والذي عندي في تأويل ذلك أن مرتين في كلام ابن مسعود قيد للرؤية وتعددها لا يقتضي تعدد الانشقاق بأن يكون رآه منشقا

(14/74)


فصرف نظره عنه ثم أعاده فرآه كذلك لم يتغير ففيه إشارة إلى أنه رؤية لا شبهة فيها وقد فعل نحو ذلك الكفرة،
أخرج أبو نعيم من طريق عطاء عن ابن عباس قال: انتهى أهل مكة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: هل من آية نعرف بها أنك رسول الله؟ فهبط جبريل عليه السلام فقال: يا محمد قل لأهل مكة أن يجتمعوا هذه الليلة يروا آية فأخبرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمقالة جبريل عليه السلام فخرجوا ليلة أربع عشرة فانشق القمر نصفين نصفا على الصفا ونصفا على المروة فنظروا ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها ثم أعادوا النظر فنظروا ثم مسحوا أعينهم ثم نظروا فقالوا ما هذا إلا سحر فأنزل الله تعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ

فلو قال أحد هؤلاء رأيت القمر منشقا ثلاث مرات على معنى تعدد الرؤية صح بلا غبار ولم يقتض تعدد الانشقاق فليخرج كلام ابن مسعود على هذا الطرز ليجمع بين الروايات، ثم هذا الحديث إن صح كان دليلا لما أشار إليه البوصيري في قوله:
شق عن صدره وشق له البد ... ر ومن شرط كل شرط جزاء
من أن الشق كان ليلة أربع عشرة لأن البدر هو القمر ليلة أربع عشرة ويعلم من ذلك ما في قول العلامة ابن حجر الهيتمي في شرحه: ظاهر التعبير بالبدر دون القمر أن الشق كان ليلة أربع عشرة ولم أر له في ذلك سلفا، ولعله أراد بالبدر مطلق القمر، ويؤيد كونه ليلة البدر ما أخرجه الطبراني، وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال:
كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: سحر القمر فنزلت اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ إلى مُسْتَمِرٌّ فإن الكسوف وإن جاز عادة أن يكون ليلة الثالث عشر وليلة الخامس عشر إلا أن الأغلب كونه ليلة الرابع عشر ولا ضرورة إلى حمل الكسوف في هذا الخبر على الانشقاق إذ لا مانع كما في البداية والنهاية أن يكون قد حصل للقمر مع انشقاقه كسوف، نعم ذكر فيها أن سياق الخبر غريب.
ثم إن القمر بعد انشقاقه لم تفارق قطعتاه السماء بل بقيتا فيها متباعدتين تباعدا ما لحظة ثم اتصلتا، وما يذكره بعض القصاص من أنه دخل في جيب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وخرج من كمه فباطل لا أصل له كما حكاه الشيخ بدر الدين الزركشي عن شيخه العماد بن كثير ولعنة الله تعالى على من وضعه. وما في خبر أبي نعيم- الذي أخرجه من طريق الضحاك عن ابن عباس من أنه انشق فصار قمرين أحدهما على الصفا والآخر على المروة قدر ما بين العصر إلى الليل ينظرون إليه ثم غاب- لا يعوّل عليه، كيف وقد تضمن ذلك الخبر أن الانشقاق وقع لطلب أحبار اليهود وأن القائل هذا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ هم، وهو مخالف لما نطقت به الأخبار الصحيحة الكثيرة كما لا يخفى على المتتبع، وقد شاع
«أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أشار إلى القمر بسبابته الشريفة فانشق»
ولم أره في خبر صحيح والله تعالى أعلم.
وأنكر الفلاسفة أصل الانشقاق بناء على زعمهم استحالة الخرق والالتئام على الأجرام العلوية ودليلهم على ذلك أوهن من بيت العنكبوت وقد خرق بأدنى نسمة من نسمات أفكار أهل الحق العلويين خرقا لا يقبل الالتئام كما بين في موضعه، وقال بعض الملاحدة: لو وقع لنقل متواترا واشترك أهل الأرض كلهم في معرفته ولم يختص بها أهل مكة لأنه أمر محسوس مشاهد والناس فيه شركاء والطباع حريصة على رواية الغريب ونقل ما لم يعهد، ولا أغرب من انشقاق هذا الجرم العظيم ولم يعهد أصلا في الزمن القديم ولو كان له أصل لخلد أيضا في كتب التسيير والتنجيم ولذكره أهل الإرصاد فقد كانت موجودة قبل البعثة بكثير وإطباقهم على تركه وإغفاله مع جلالة شأنه ووضوح أمره مما لا تجوزه العادة، وأيضا لا يعقل سبب لخرق هذا الجرم العظيم وأيضا خرقه يوجب صوتا هائلا أشد من أصوات الصواعق المهلكة بأضعاف مضاعفة لا يبعد هلاك أكثر أهل الأرض منه، وأيضا متى خرق وصار قطعتين ذهبت منه قوة

(14/75)


التجاذب كالجبل إذا انشق فيلزم بقاؤه منشقا ولا أقل من أن يبقى كذلك سنين كثيرة والجواب عن ذلك أنه وقع في الليل وزمان الغفلة وكان في زمان قليل ورؤية القمر في بلد لا تستلزم ورؤيته في جميع البلاد ضرورة اختلاف المطالع فقد يكون القمر طالعا على قوم غائبا عن آخرين ومكسوفا عند قوم غير مكسوف عند آخرين والاعتناء بأمر الأرصاد لم يكن بمثابته اليوم وغفلة أهلها لحظة غير مستبعد والانشقاق لا تختلف به منازله ولا يتغير به سيره غاية ما في الباب أن يحدث في القطعة الشرقية قوة سير لتلحق أختها الغربية، وأي مانع من أن يخلق الله تعالى فيها من السرعة نحو ما خلق الله سبحانه في ضوء الشمس فقد قال أهل الحكمة الجديدة: إن بين الأرض والشمس ثلاثمائة ألف فرسخ وأربعون ألف فرسخ وأن ضوءها ليصل إلى الأرض في مدة ثمان دقائق وثلاث عشرة ثانية فيقطع الضوء في كل ثانية سبعين ألف فرسخ ولا يلزم أن يعلم سبب كل حادث بل كثير من الحوادث المتكررة المشاهدة لم يوقف على أسبابها كرؤية الكواكب قريبة مع بعدها المفرط فقد ذكروا أنهم لم يقفوا على سببه ويكفي في ذلك عدم وقوفهم على سبب الإبصار بالعين على الحقيقة ولو أخبرهم مخبر بفرض إن لم يكن لهم إبصار بخواص البصر مع كونه قطعة شحم صغيرة معروفة أحوالها عند أهل التشريح لأنكروا عليه غاية الإنكار وكذبوه غاية التكذيب ونسبوه إلى الجنون.
ومن سلم تأثير النفوس إلى حدّ أن يصرع الشخص آخر بمجرد النظر إليه وتوجيه نفسه نحوه لم يستبعد أن يكون هناك سبب نحو ذلك، وقد صح في إصابة العين أن بعض الأعراب ممن له عين صائبة يفلق سنام الناقة فلقتين، وربما تصور له من رمل فينظر إليه ويفلقه فينفلق سنامها مع عدم رؤيته لها نفسها وهذا كله من باب المماشاة وإلا فإرادة الله تعالى كافية في الانشقاق وكذا في كل المعجزات وخوارق العادات ولو كان لكل حادث سبب لزم التسلسل وقد قامت الأدلة على بطلانه، وكون الخرق يوجب صوتا هائلا ممنوع فيما نحن فيه ومصله ذهاب التجاذب والأجسام مختلفة من حيث الخواص فلا يلزم اتحاد جرم القمر والأرض فيها ويمكن أن يكون إحدى القطعتين كالجبل العظيم بالنسبة إلى الأرض إذا ارتفع عنها بقاسر مثلا جذبته إليه إذا لم يخرج عن حدّ جذبها على ما زعموه ويلتزم في تلك القطعة عدم الخروج عن حدّ الجذب على أنا في غنى عن كل ذلك أيضا بعد إثبات الإمكان وشمول قدرته عز وجل وأنه سبحانه فعال لما يريد.
والحاصل أنه ليس عند المنكر سوى الاستبعاد ولا يستطيع أن يأتي بدليل على الاستحالة الذاتية ولو انشق، والاستبعاد في مثل هذه المقامات قريب من الجنون عند من له عقل سلم، وروي عن الحسن أنه قال: هذا الانشقاق بعد النفخة الثانية، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع، وروي ذلك عن عطاء أيضا، ويؤيد ما تقدم الذي عليه الأكثرون قراءة حذيفة وقد انشق القمر فإن الجملة عليها حالية فتقتضي المقارنة لاقتراب الساعة ووقوع الانشاق قبل يوم القيامة، وكذا قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا فإنه يقتضي أن الانشقاق آية رأوها وأعرضوا عنها، وزعم بعضهم أن انشقاق القمر عبارة عن انشقاق الظلمة عند طلوعه وهذا كما يسمى الصبح فلقا عند انفلاق الظلمة عنه وقد يعبر عن الانفلاق بالانشقاق كما في قوله النابغة:
فلما أدبروا ولهم دوي ... دعانا عند شق الصبح داعي
وزعم آخر أن معنى انشق القمر وضح الأمر وظهر وكلا الزعمين مما لا يعول عليه ولا يلتفت إليه لا أظن الداعي إليهما عند من يقرّ بالساعة التي هي أعظم من الانشقاق ويعترف بالعقائد الإسلامية التي وقع عليها الاتفاق سوى عدم ثبوت الاخبار في وقوع ذلك على عهده عليه الصلاة والسلام عنده، ومنشأ ذلك القصور التام والتمسك بشبه هي على طرف الثمام، ومع هذا لا يكفر المنكر بناء على عدم الاتفاق على تواتر ذلك وعدم كون الآية نصا فيه، والإخراج من

(14/76)


الدين أمر عظيم فيحتاط فيه ما لا يحتاط في غيره والله تعالى الموفق.
والظاهر أن المراد باقتراب الساعة القرب الشديد الزماني، وكل آت قريب، وزمان العالم مديد، والباقي بالنسبة إلى الماضي شيء يسير، ومال الإمام إلى أن المراد به قربها في العقول والأذهان، وحاصله أنها ممكنة إمكانا قريبا لا ينبغي لاحد إنكارها، واستعمال الاقتراب مع أنه أمر مقطوع به كاستعمال لَعَلَّ في قوله تعالى: لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الأحزاب: 63] مع أن الأمر معلوم عند الله تعالى وانشقاق القمر آية ظاهرة على هذا القرب، وعلى الاول قيل: هو آية لأصل الإمكان الذي يقتضيه قرب الوقوع، وقيل: هو آية لقرب الوقوع ومعجزة للنبي صلّى الله عليه وسلم باعتبار أن الله تعالى مخبر في كتبه السالفة بأنه إذا قربت الساعة انشق القمر معجزة وكلاهما كما ترى، واختار بعضهم أنه آية لصدق النبي عليه الصلاة والسلام في جميع ما يقول ويبلغ ربه سبحان لأنه معجزة له صلّى الله عليه وسلم ومنه دعوى الرسالة والإخبار باقتراب الساعة وغير ذلك، وآيَةً نكرة في سياق الشرط فتعم، فالمعنى «وإن يروا كل آية يعرضوا» عن التأمل فيها ليقفوا على وجه دلالتها وعلو طبقتها وَيَقُولُوا سِحْرٌ أي هذا أو هو أي ما نراه سحر مُسْتَمِرٌّ أي مطرد دائم يأتي به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم على مر الزمان وهو ظاهر في ترادف الآيات وتتابع المعجزات.
وقال أبو العالية والضحاك: مُسْتَمِرٌّ محكم موثق من المرة بالفتح أو الكسر بمعنى القوة وهو في الأصل مصدر مررت الحبل مرة إذا فتلته فتلا محكما فأريد به مطلق المحكم مجازا مرسلا، وقال أنس ويمان ومجاهد والكسائي والفراء- واختاره النحاس- مستمر أي مارّ ذاهب زائل عن قريب عللوا بذلك أنفسهم ومنوها بالأماني الفارغة كأنهم قالوا: إن حاله عليه الصلاة والسلام وما ظهر من معجزاته سبحانه سحابة صيف عن قريب تقشع وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [التوبة: 32] وقيل: مُسْتَمِرٌّ مشتدّ المرارة أي مستبشع عندنا منفور عنه لشدة مرارته يقال: مرّ الشيء وأمرّ إذا صار مرّا وأمرّ غيره ومرّه يكون لازما ومتعديا، وقيل: مُسْتَمِرٌّ يشبه بعضه بعضا أي استمرت أفعاله على هذا الوجه من التخييلات، وقيل: مُسْتَمِرٌّ مار من الأرض إلى السماء أي بلغ من سحره أنه سحر القمر وهذا ليس بشيء، ولعل الأنسب بغلوهم في العناد والمكابرة ما روي عن أنس ومن معه، وقرىء- وأن يروا- بالبناء للمفعول من الاراءة وَكَذَّبُوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وبما أظهره الله تعالى على يده من الآيات وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ التي زينها الشيطان لهم، وقيل: كَذَّبُوا الآية التي هي انشقاق القمر وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وقالوا سحر القمر أو سحرت أعيننا والقمر بحاله، والعطف على الجزاء السابق وصيغة الماضي للدلالة على التحقق، وقيل: العطف على اقْتَرَبَتِ والجملة الشرطية اعتراض لبيان عادتهم إذا شاهدوا الآيات، وقوله تعالى: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ استئناف مسوق للرد على الكفار في تكذيبهم ببيان أنه لا فائدة لهم فيه ولا يمنع علو شأنه صلى الله تعالى عليه وسلم، أو لإقناطهم عما علقوا به أمانيهم الفارغة من عدم استقرار أمره عليه الصلاة والسلام حسبما قالوا: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ببيان ثبوته ورسوخه أي وكل أمر من الأمور منته إلى غاية يستقر عليها لا محالة ومن جملتها أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فسيصير إلى غاية يتبين عندها حقيته وعلو شأنه، وللإشارة إلى ظهور هذه الغاية لأمره عليه الصلاة والسلام لم يصرح بالمستقر عليه، وفي الكشاف أي كل أمر لا بدّ أن يصير إلى غاية يستقر عليها وأن أمره صلّى الله عليه وسلم سيصير إلى غاية يتبين عندها أنه حق أو باطل وسيظهر له عاقبتهم أو وكل أمر من أمره عليه الصلاة والسلام وأمرهم مستقر أي سيثبت ويستقر على حالة نصرة أو خذلان في الدنيا أو سعادة وشقاوة في الآخرة، قال في الكشف: والكلام على الأول تذييل جار مجرى المثل وعلى الثاني تذييل غير مستقل، وقرأ شيبة

(14/77)


«مستقر» بفتح القاف ورويت عن نافع، وزعم أبو حاتم أنها لا وجه لها وخرجت على أن مستقرا مصدر بمعنى استقرار، وحمله على كل أمر بتقدير مضاف أي ذو مستقر ولو لم يقدر وقصد المبالغة صح، وجوز كونه اسم زمان أو مكان بتقدير مضاف أيضا أي ذو زمان استقرار، أو ذو موضع استقرار، وتعقب بأن كون كل أمر لا بد له من زمان أو مكان أمر معلوم لا فائدة في الأخبار به، وأجيب بأن فيه إثبات الاستقرار له بطريق الكناية وهي أبلغ من التصريح.
وقرأ زيد بن علي «مستقر» بكسر القاف والجر، وخرج على أنه صفة أمر وأن كل معطوف على الساعة أي اقتربت الساعة واقترب كل أمر يستقر ويتبين حاله أي بقربها، قال في الكشف: وفيه شمة من التجريد وتهويل عظيم حيث جعل في اقترابها اقتراب كل أمر يكون له قرار وتبين حال مما له وقع، وقوله تعالى: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ على هذا إما على تقدير قد وينصره القراءة بها، وإما منزل منزلة الإعراض لكونه مؤكدا لقرب الساعة، وقوله سبحانه: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً إلخ مستطرد عند ذكر انشقاق القمر.
واعترض ذلك أبو حيان بأنه بعيد لكثرة الفواصل بين المعطوف والمعطوف عليه وجعل الكلام عليه نظير- أكلت خبزا، وضربت خالدا، وإن يجىء زيد أكرمه، ورحل إلى بني فلان، ولحما بعطف- لحما على خبزا- ثم قال بل لا يوجد مثله في كلام العرب، وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه إذا دل على العطف الدليل لا يعد ذلك مانعا منه على أن بين الآية والمثال فرقا لا يخفى، وقال صاحب اللوامح إن مُسْتَقِرٌّ خبر كل، والجر للجوار، واعترضه أبو حيان أيضا بأنه ليس بجيد لأن الجر على الجوار في غاية الشذوذ في مثله إذ لم يعهد في خبر المبتدأ، وإنما عهد في الصفة على اختلاف النحاة في وجوده، واستظهر كون كل مبتدأ وخبره مقدر كآت، أو معمول به ونحوه مما يشعر به الكلام أو مذكور بعد وهو قوله تعالى: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ وقد اعترض بينهما بقوله سبحانه: وَلَقَدْ جاءَهُمْ في القرآن مِنَ الْأَنْباءِ أي أخبار القرون الخالية أو أخبار الآخرة، والجار والمجرور في موضع الحال من ما في قوله عز وجل: ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ قدم عليه رعاية للفاصلة وتتويقا إليه ومِنَ للتبعيض، أو للتبيين بناء على المختار من جواز تقديمه على المبين، قال الرضى: إنما جاز تقديم مِنَ المبينة على المبهم في نحو- عندي من المال ما يكفي- لأنه في الأصل صفة لمقدر أي شيء من المال، والمذكور عطف بيان للمبين المقدر قبلها ليحصل البيان بعد الإبهام أي بالله لقد جاءهم كائنا من الأنباء ما فيه ازدجار لهم ومنع عما هم فيه من القبائح، أو موضع ازدجار ومنع، وهي أنباء التعذيب، أو أنباء الوعيد، وأصل مُزْدَجَرٌ مزتجر بالتاء موضع الدال وتاء الافتعال تقلب دالا مع الدال والذال والراء للتناسب، وقرىء مزجر بقلبها زايا وإدغام الزاي فيها، وقرأ زيد بن علي مزجر اسم فاعل من أزجر أي صار ذا زجر كأعشب صار ذا عشب حِكْمَةٌ بالِغَةٌ أي واصلة غاية الإحكام لا خلل فيها، ورفع حِكْمَةٌ على أنها بدل كل، أو اشتمال من ما، وقيل: من مُزْدَجَرٌ أو خبر مبتدأ محذوف أي هي، أو هذه على أن الإشارة لما يشعر به الكلام من إرسال الرسل وإيضاح الدليل والإنذار لمن مضى، أو إلى ما في الأنباء، أو إلى الساعة المقتربة، والآية الدالة عليها- كما قاله الإمام وتقدم آنفا- احتمال كونها خبرا عن كل في قراءة زيد، وقرأ اليماني حِكْمَةٌ بالِغَةٌ بالنصب حالا من ما فإنها موصولة أو نكرة موصوفة، ويجوز مجيء الحال منها مع تأخرها أو هو بتقدير أعني.
فَما تُغْنِ النُّذُرُ نفى للإغناء أو استفهام إنكاري والفاء لترتيب عدم الإغناء على مجيء الحكمة البالغة مع كونه مظنة الإغناء وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار، وما على الوجه الثاني في محل نصب على أنها مفعول مطلق أي فأي إغناء تغني النذر، وجوز أن تكون في محل رفع على الابتداء، والجملة بعدها خبر، والعائد مقدر أي فما تغنيه النذر وهو جمع نذير بمعنى المنذر، وجوز أن يكون جمع نذير بمعنى الإنذار، وتعقب بأن حق

(14/78)


المصدر أن لا يثنى ولا يجمع وأن يكون مصدرا كالإنذار، وتعقب بأنه يأباه تأنيث الفعل المسند إليه وكونه باعتبار أنه بمعنى النذارة لا يخفى حاله فَتَوَلَّ عَنْهُمْ الفاء للسببية والمسبب التولي أو الأمر به والسبب عدم الاعناء أو العلم به، والمراد بالتولي إما عدم القتال، فالآية منسوخة، وإما ترك الجدال للجلاد فهي محكمة والظاهر الأول يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ظرف- ليخرجون- أو مفعول به لاذكر مقدرا، وقيل: لا نتظر، وجوز أن يكون ظرفا لتغني، أو لمستقر وما بينهما اعتراض، أو ظرفا- ليقول الكافر- أو- لتول- أي تول عن الشفاعة لهم يوم القيامة، أو هو معمول له بتقدير إلى، وعليه قول الحسن- فتول عنهم إلى يوم..
والمراد استمرار التولي والكل كما ترى، والداعي إسرافيل عليه السلام، وقيل: جبرائيل عليه السلام، وقيل:
ملك غيرهما موكل بذلك، وجوز أن يكون الدعاء للإعادة في ذلك اليوم كالأمر في كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: 117] وغيرها على القول بأنه تمثيل، فالداعي حينئذ هو الله عز وجل، وحذفت الواو من يَدْعُ لفظا لالتقاء الساكنين ورسما اتباعا للفظ، والياء من الدَّاعِ تخفيفا، وإجراء لال مجرى التنوين لأنها تعاقبه، والشيء يحمل على ضده كما يحمل على نظيره إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ أي فظيع تنكره النفوس لعدم العهد بمثله وهو هول القيامة ويكنى بالنكر عن الفظيع لأنه في الغالب منكر غير معهود، وجوز أن يكون من الإنكار ضد الإقرار وأيما كان فهو وصف على فعل بضمتين وهو قليل في الصفات، ومنه- روضة أنف لم ترع، ورجل شلل خفيف في الحاجة سريع حسن الصحبة طيب النفس، وسجح لين سهل وقرأ الحسن وابن كثير وشبل «نكر» بإسكان الكاف كما قالوا: شغل وشغل، وعسر وعسر وهو إسكان تخفيف، أو السكون هو الأصل والضم للإتباع، وقرأ مجاهد وأبو قلابة والجحدري وزيد بن علي «نكر» فعلا ماضيا مبنيا للمفعول بمعنى أنكر خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ حال من فاعل يَخْرُجُونَ أي يخرجون مِنَ الْأَجْداثِ أي القبور أذلة أبصارهم من شدة الهول أي أذلاء من ذلك، وقدم الحال لتصرف العامل والاهتمام، وفيه دليل على بطلان مذهب الجرمي من عدم تجويز تقدم الحال على الفعل وإن كان متصرفا، ويرده أيضا قولهم: شتى تؤب الحلبة، وقوله:
سريعا يهون الصعب عند أولي النهى ... إذا برجاء صادق قابلوا البأسا
وجعل حالا من ذلك لقوله تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً [المعارج: 43] إلى قوله تعالى: خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ [المعارج: 43- 44] وقيل: هو حال من الضمير المفعول المحذوف في يَدْعُ الدَّاعِ أي يدعوهم الداع وتعقب بأنه لا يطابق المنزل وأيضا يصير حالا مقدرة لأن الدعاء ليس حال خشوع البصر وليست في الكثرة كغيرها وكذلك جعله مفعول- يدعو- على معنى يدعو فريقا خاشعا أبصارهم أي سيخشع وإن كان هذا أقرب مما قبل: وقيل: هو حال من الضمير المجرور في قوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
وفيه ما لا يخفى، وأبصارهم فاعل خشعا وطابقه الوصف في الجمع لأنه إذا كسر لم يشبه الفعل لفظا فتحسن فيه المطابقة وهذا بخلاف ما إذا جمع جمع مذكر سالم فإنه لم يتغير زنته وشبهه للفعل فينبغي أن لا يجمع إذا رفع الظاهر المجموع على اللغة الفصيحة دون لغة أكلوني البراغيث، لكن الجمع حينئذ في الاسم أخف منه في الفعل كما قال الرضى، ووجهه ظاهر، وفي التسهيل إذا رفعت الصفة اسما ظاهرا مجموعا فان أمكن تكسيرها- كمررت برجل قيام غلمانه- فهو أولى من إفرادها- كمررت برجل قائم غلمانه- وهذا قول المبرد ومن تبعه والسماع شاهد له كقوله:
وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمّل

(14/79)


كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21)

وقوله:
بمطرد لدن صحاح كعوبه ... وذي رونق عضب يقد القوانسا
وقال الجمهور: الإفراد أولى والقياس معهم، وعليه قوله:
ورجال حسن أوجههم ... من إياد بن نزار بن معد
وقيل: إن تبع مفردا فالإفراد أولى- كرجل قائم غلمانه- وإن تبع جمعا فالجمع أولى- كرجال قيام غلمانهم- وأما التثنية والجمع السالم فعلى لغة أكلونى البراغيث وجوز أن يكون في خُشَّعاً ضمير مستتر، وأَبْصارُهُمْ بدلا منه، وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري وأبو عمرو وحمزة والكسائي- خاشعا- بالإفراد، وقرأ أبيّ وابن مسعود «خاشعة» وقرىء «خشع» على أنه خبر مقدم، وأَبْصارُهُمْ مبتدأ، والجملة في موضع الحال، وقوله تعالى: كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ حال أيضا وتشبيههم بالجراد المنتشر في الكثرة والتموج والانتشار في الأقطار، وجاء تشبيههم بالفراش المبثوث ولهم يوم الخروج سهم من الشبه لكل، وقيل: يكونون أولا كالفراش حين يموجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون لأن الفراش لا جهة لها تقصدها، ثم كالجراد المنتشر إذا توجهوا إلى المحشر فهما تشبيهان باعتبار وقتين، وحكي ذلك عن مكي بن أبي طالب.
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ مسرعين إليه قال أبو عبيدة: وزاد بعضهم مادّي أعناقهم، وآخر مع هز ورهق ومدّ بصر، وقال عكرمة: فاتحين آذانهم إلى الصوت، وعن ابن عباس ناظرين إليه لا تقلع أبصارهم عنه وأنشد قول تبع:
تعبدني نمر بن سعد وقد أرى ... ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع
وفي رواية أنه فسره بخاضعين وأنشد البيت، وقيل: خافضين ما بين أعينهم، وقال سفيان: شاخصة أبصارهم إلى السماء، وقيل: أصل الهطع مد العنق، أو مد البصر، ثم يكنى به عن الإسراع، أو عن النظر والتأمل فلا تغفل، يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ صعب شديد لما يشاهدون من مخايل هوله وما يرتقبون من سوء منقلبهم فيه، وفي إسناد القول المذكور إلى الكفار تلويح بأنه على المؤمنين ليس كذلك.
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ شروع في تعداد بعض ما ذكر من الأنبياء الموجبة للازدجار ونوع تفصيل لها وبيان لعدم تأثرهم بها تقريرا لفحوى قوله تعالى: فَما تُغْنِ النُّذُرُ والفعل منزل منزلة اللازم أي فعلت التكذيب قبل تكذيب قومك قوم نوح: وقوله تعالى: فَكَذَّبُوا عَبْدَنا تفسير لذلك التكذيب المبهم كما في قوله تعالى: وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ [هود: 45] إلخ، وفيه مزيد تحقيق وتقرير للتكذيب، وجوز أن يكون المعنى كذبوا تكذيبا إثر تكذيب كلما خلا منهم قرن مكذب جاء عقيبه قرن آخر مكذب مثله، أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا أي لما كانوا مكذبين للرسل جاحدين للنبوة رأسا كذبوا نوحا لأنه من جملة الرسل، والفاء عليه سببية، وقيل: معنى كذبت قصدت التكذيب وابتدأته، ومعنى فكذبوا أتموه وبلغوا نهايته كما قيل في قوله:

(14/80)


وقد جبر الدين الإله فجبر وفي ذكره عليه السلام بعنوان العبودية مع الإضافة إلى نون العظمة تفخيم له عليه السلام ورفع لمحله وتشنيع لمكذبيه.
وَقالُوا مَجْنُونٌ أي لم يقتصروا على مجرد التكذيب بل نسبوه إلى الجنون فقالوا هو مجنون وَازْدُجِرَ عطف على- قالوا- وهو إخبار منه عز وجل أي وزجر عن التبليغ بأنواع الأذية والتخويف قاله ابن زيد، وقرأ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشعراء: 116] وقال مجاهد: هو من تمام قولهم أي هو مجنون، وقد ازدجرته الجن وذهبت بلبّه وتخبطته، والأول أظهر وأبلغ، وجعل مبنيا للمفعول لغرض الفاصلة، وطهر الألسنة عن ذكرهم دلالة على أن فعلهم أسوأ من قولهم فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي أي بأني.
وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والأعمش وزيد بن علي- ورويت عن عاصم- «إني» بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين، وعلى إجراء الدعاء مجرى القول عند الكوفيين مَغْلُوبٌ من جهة قومي مالي قدرة على الانتقام منهم فَانْتَصِرْ فانتقم لي منهم، وقيل: فانتصر لنفسك إذ كذبوا رسولك، وقيل: المراد- بمغلوب- غلبتني نفسي حتى دعوت عليهم بالهلاك وهو خلاف الظاهر وما دعا عليه السلام عليهم إلا بعد اليأس من إيمانهم، والتأكيد لمزيد الاعتناء بأمر الترحم المقصود من الأخبار.
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ أي منصب، وقيل: كثير قال الشاعر:
أعيناي جودا بالدموع الهوامر ... على خير باد من معد وحاضر
والباء للآلة مثلها في فتحت الباب بالمفتاح، وجوز أن تكون للملابسة والأول أبلغ، وفي الكلام استعارة تمثيلية بتشبيه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت بها أبواب السماء وانشق أديم الخضراء، وهو الذي ذهب إليه الجمهور، وذهب قوم إلى أنه على حقيقته وهو ظاهر كلام ابن عباس.
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه قال: لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده إلا من السحاب، وفتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم فالتقى الماءان، وفي رواية لم تقلع أربعين يوما، وعن النقاش أنه أريد بالأبواب المجرة وهي شرج السماء كشرج العيبة! والمعروف من الأرصاد أن المجرة كواكب صغار متقاربة جدا، والله تعالى أعلم.
ومن العجيب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأهلكهم الله تعالى بمطلوبهم، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والأعرج ويعقوب «ففتحنا» بالتشديد لكثرة الأبواب، والظاهر أن جمع القلة هنا للكثرة وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون متفجرة وأصله فجرنا عيون الأرض فغير إلى التمييز للمبالغة بجعل الأرض كلها متفجرة مع الإبهام والتفسير، فالتمييز محول عن المفعول، وجعله بعضهم محولا عن الفاعل بناء على أنه الأكثر، الأصل انفجرت عيون الأرض وتحويله كما يكون عن فاعل الفعل المذكور يكون عن فاعل فعل آخر يلاقيه في الاشتقاق- وهذا منه- وهو تكلف لا حاجة إليه، ومنع بعضهم مجيء التمييز من المفعول فأعرب عُيُوناً حالا مقدرة، وجوز عليه أن يكون مفعولا ثانيا لفجرنا على تضمينه ما يتعدى إليه أي صيرنا بالتفجير الأرض عيونا وكان ذلك على ما في بعض الروايات أربعين يوما، وقرأ عبد الله وأصحابه وأبو حيوة والمفضل عن عاصم «فجرنا» بالتخفيف فَالْتَقَى الْماءُ أي ماء السماء وماء الأرض، والإفراد لتحقيق أن التقاء الماءين لم يكن بطريق المجاورة بل بطريق الاختلاط والاتحاد، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والحسن ومحمد بن كعب والجحدري- الماءان- والتثنية لقصد بيان اختلاف النوعين وإلا

(14/81)


فالماء شامل لماء السماء وماء الأرض، ونحوه قوله:
لنا إبلان فيهما ما علمتم ... فعن أيها ما شئتم فتنكبوا
وقيل: فيها إشارة إلى أن ماء الأرض فار بقوة وارتفع حتى لاقى ماء السماء وفي ذلك مبالغة لا تفهم من الإفراد، وقرأ الحسن أيضا- ماوان- بقلب الهمز واوا كقولهم: علباوان كما قال الزمخشري، ولم يرد أنه نظيره بل أراد كما أن هنالك إبدالا بعلة أنها غير أصلية لانها زائدة للإلحاق كذلك هاهنا لانها مبدلة والبدل وإن كان من الهاء لكنها أجريت مجرى البدل عن الواو قاسه على النسبة كذا في الكشف، وعنه أيضا المايان بقلب الهمزة ياء.
عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي كائنا على حال قد قدرها الله تعالى في الأزل من غير تفاوت أو على حال قدرت وسويت وهي أن ما نزل على قدر ما خرج.
وقيل: إن ماء الأرض علا سبعة عشر ذراعا ونزل ماء السماء مكملا أربعين، وقيل: ما الأرض كان أكثر وله مقدار معين عند الله عز وجل، أو على أمر قدره الله تعالى وكتبه في اللوح المحفوظ وهو هلاك قوم نوح بالطوفان.
ورجحه أبو حيان بأن كل قصة ذكرت بعد ذكر الله تعالى فيها هلاك المكذبين فيكون هذا كناية عن هلاك هؤلاء، وعَلى عليه للتعليل، ويحتمل تعلقها بالتقى. وفيه ردّ على أهل الأحكام النجومية حيث زعموا أن الطوفان لاجتماع الكواكب السبعة ما عدا الزهرة في برج مائي، وقرأ أبو حيوة وابن مقسم «قدّر» بتشديد الدال وَحَمَلْناهُ أي نوحا عليه السلام عَلى ذاتِ أَلْواحٍ أخشاب عريضة وَدُسُرٍ أي مسامير كما قاله الجمهور وابن عباس في رواية ابن جرير، وابن المنذر جمع دسار ككتاب وكتب، وقيل: دُسُرٍ كسقف وسقف. وأصل الدسر الدفع الشديد بقهر فسمي به المسمار لأنه يدق فيدفع بشدة. وقيل: حبال من ليف تشد بها السفن. وقال الليث: خيوط تشد بها ألواحها، وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة والحسن أنها مقاديم السفينة وصدرها الذي تضرب به الموج وتدفعه. وروي عن ابن عباس نحوه. وأخرج عن مجاهد أنها عوارض السفينة أي الخشبات التي تعرض في وسطها.
وفي رواية عنه هي أضلاع السفينة. وأيا ما كان فقوله تعالى: ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات على سبيل الكناية كقولهم: حي مستوي القامة عريض الأظفار في الكناية عن الإنسان وهو من فصيح الكلام وبديعه. ونظير الآية قول الشاعر:
مفرشي صهوة الحصان ولكن ... قميصي مسرودة من حديد
فإنه أراد قميصي درع وقوله يصف هزال الإبل:
تراءى لها في كل عين مقابل ... ولو في عيون النازيات بأكرع
فإنه أراد في عيون الجراد لأن النزو بالأكرع يختص بها. وأما كونه على حذف الموصوف لدلالة الصفة عليه على ما في المفصل وغيره فكلام نحوي تَجْرِي بِأَعْيُنِنا بمرأى منا. وكني به عن الحفظ أي تجري في ذلك الماء بحفظنا وكلاءتنا، وقيل: بأوليائنا يعني نوحا عليه السلام ومن آمن معه يقال: مات عين من عيون الله تعالى أو ولي من أوليائه سبحانه، وقيل: بأعين بالماء التي فجرناها، وقيل: بالحفظة من الملائكة عليه السلام سماهم أعينا وأضافهم إليه جل شأنه والأول أظهر، وقرأ زيد بن علي. وأبو السمال- بأعينا- بالإدغام.
جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ أي فعلنا ذلك جزاء لنوح عليه السلام فإنه كان نعمة أنعمها الله تعالى على قومه فكفروها وكذا كل نبي نعمة من الله تعالى على أمته، وجوز أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل إلى الضمير

(14/82)


واستتاره في الفعل بعد انقلابه مرفوعا أي لمن كفر به وهو نوح عليه السلام أيضا أي جحدت نبوته، فالكفر عليه ضد الإيمان، وعلى الأول كفران النعمة، وعن ابن عباس ومجاهد من يراد به الله تعالى كأنه قيل: غضبا وانتصارا لله عز وجل وهو كما ترى، وقرأ مسلمة بن محارب- كفر- بإسكان الفاء خفف فعل كما في قوله:
لو عصر منه البان والمسك انعصر وقرأ يزيد بن رومان وقتادة وعيسى «كفر» مبنيا للفاعل فمن يراد بها قوم نوح عليه السلام لا غير، وفي هذه القراءة دليل على وقوع الماضي بغير قد خبرا لكان وهو مذهب البصريين وغيرهم يقول لا بد من وقوع قد ظاهرة أو مقدرة، وجوز أن تكون كانَ زائدة كأنه قيل: جزاء لمن كُفِرَ ولم يؤمن وَلَقَدْ تَرَكْناها أي أبقينا السفينة آيَةً بناء على ما روي عن قتادة والنقاش أنه بقي خشبها على الجودي حتى رآه بعض أوائل هذه الأمة، أو أبقينا خبرها، أو أبقينا جنسها وذلك بإبقاء السفن، أو- تركنا- بمعنى جعلنا، وجوز كون الضمير للفعلة وهي إنجاء نوح عليه السلام ومن معه وإغراق الكافرين فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي معتبر بتلك الآية الحرّية بالاعتبار، وقرأ قتادة على ما نقل ابن عطية- مذكر- بالذال المعجمة على قلب تاء الافتعال ذالا وإدغام الذال في الذال، وقال صاحب اللوامح: قرأ قتادة فهل من- مذكر- بتشديد الكاف من التذكير أي من يذكر نفسه أو غيره بها، وقرىء مذتكر بذال معجمة بعدها تاء الافتعال كما هو الأصل فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ استفهام تعظيم وتعجيب أي كانا على كيفية هائلة لا يحيط بها الوصف، والنذر- مصدر كالإنذار، وقيل: جمع نذير بمعنى الإنذار، وجعله بعضهم بمعنى المنذر منه، وليس بشيء، وكذا جعله بمعنى المنذر، وكان يحتمل أن تكون ناقصة فكيف في موضع الخبر؟ وتامة فكيف في موضع الحال؟ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ إلخ جملة قسمية وردت في آخر القصص الأربع تقريرا لمضمون ما سبق من قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَهُمْ إلخ وتنبيها على أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الادكار كافية في الازدجار، ومع ذلك لم يحصل فيها اعتبار، أي وبالله لقد سهلنا القرآن لقومك بأن أنزلناه على لغتهم وشحنّاه بأنواع المواعظ والعبر وصرفنا فيه من الوعيد والوعد لِلذِّكْرِ أي للتذكر والاتعاظ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ إنكار ونفي للمتعظ على أبلغ وجه وآكده يدل على أنه لا يقدر أحد أن يجيب المستفهم بنعم، وقيل: المعنى سهلنا القرآن للحفظ لما اشتمل عليه من حسن النظم وسلاسة اللفظ وشرف المعاني وصحتها وعروّه عن الوحشي ونحوه فله تعلق بالقلوب وحلاوة في السمع فهل من طالب لحفظه ليعان عليه؟ ومن هنا قال ابن جبير: لم يستظهر شيء من الكتب الإلهية غير القرآن، وأخرج ابن المنذر، وجماعة عن مجاهد أنه قال: يسرنا القرآن. هونّا قراءته.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: لولا أن الله تعالى يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله تعالى.
وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعا مثله.
وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين أنه مرّ برجل يقول سورة خفيفة فقال:
لا تقل ذلك ولكن قل سورة يسيرة لأن الله تعالى يقول: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ والمعنى الذي ذكر أولا أنسب بالمقام، ولعل خبر أنس إن صح ليس تفسيرا للآية، وجوز تفسير يَسَّرْنَا بهيأنا من قولهم: يسر ناقته للسفر إذا رحلها، ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه قال الشاعر:
وقمت إليه باللجام ميسرا ... هنالك يجزيني الذي كنت أصنع
كَذَّبَتْ عادٌ شروع في قصة أخرى ولم تعطف وكذا ما بعدها من القصص إشارة إلى أن كل قصة مستقلة في القصد والاتعاظ ولما لم يكن لقوم نوح اسم علم ذكروا بعنوان الإضافة ولما كان لقوم هود علم وهو عادٌ

(14/83)


ذكروا به لأنه أبلغ في التعريف، والمراد كذبت عاد هودا عليه السلام ولم يتعرض لكيفية تكذيبهم له عليه السلام روما للاختصار ومسارعة إلى بيان ما فيه الازدجار من العذاب، وقوله: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ لتوجيه قلوب السامعين نحو الإصغاء إلى ما يلقى إليهم قبل ذكره لا لتهويله وتعظيمه وتعجيبهم من حاله بعد بيانه كما قبله وما بعده كأنه قيل: كَذَّبَتْ عادٌ فهل سمعتم، أو فاسمعوا كيف عذابي وإنذاري لهم، وقيل: هو للتهويل أيضا لغرابة ما عذبوا به من الريح وانفراده بهذا النوع من العذاب، وفيه بحث، وقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً استئناف لبيان ما أجمل أولا، والصرصر الباردة على ما روي عن ابن عباس وقتادة والضحاك، وقيل: شديد الصوت وتمام الكلام قد مر في «فصلت» .
فِي يَوْمِ نَحْسٍ شؤم عليهم مُسْتَمِرٍّ ذلك الشؤم لأنهم بعد أن أهلكوا لم يزالوا معذبين في البرزخ حتى يدخلوا جهنم يوم القيامة، والمراد باليوم مطلق الزمان لقوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ [فصلت: 16] ، وقوله سبحانه: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة: 7] المشهور أنه يوم الأربعاء وكان آخر شوّال على معنى أن ابتداء إرسال الريح كان فيه فلا ينافي آيتي «فصلت» و «الحاقة» .
وجوز كون مُسْتَمِرٍّ صفة يوم أي في يوم استمر عليهم حتى أهلكهم، أو شمل كبيرهم وصغيرهم حتى لم تبق منهم نسمة على أن الاستمرار بحسب الزمان أو بحسب الأشخاص والأفراد لكن على الأول لا بد من تجوز بإرادة استمرار نحسه، أو بجعل اليوم بمعنى مطلق الزمان لأن اليوم الواحد لم يستمر فتدبر، وجوز كون مُسْتَمِرٍّ بمعنى محكم وكونه بمعنى شديد المرارة وهو مجاز عن بشاعته وشدة هوله إذ لا طعم له، وجوز كونه بدلا، أو عطف بيان وهو كما ترى، وقرأ الحسن «يوم نحس» بتنوين يوم وكسر حاء نحس، وجعله صفة ليوم فيتعين كون مُسْتَمِرٍّ صفة ثانية له، وأيد بعضهم بالآية ما أخرجه وكيع في الغرر وابن مردويه والخطيب البغدادي عن ابن عباس مرفوعا آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر وأخذ بذلك كثير من الناس فتطيروا منه وتركوا السعي لمصالحهم فيه ويقولون له:
أربعاء لا تدور، وعليه قوله:
لقاؤك للمبكر فأل سوء ... ووجهك- أربعاء لا تدور-
وذلك مما لا ينبغي، والحديث المذكور في سنده مسلمة بن الصلت قال أبو حاتم: متروك، وجزم ابن الجوزي بوضعه وقال ابن رجب: حديث لا يصح ورفعه غير متفق عليه فقد رواه الطيوري من طريق آخر موقوفا على ابن عباس، وقال السخاوي: طرقه كلها واهية، وضعفوا أيضا خبر الطبراني يوم الأربعاء يوم نحس مستمر، والآية قد علمت معناها، وجاء في الأخبار والآثار ما يشعر بمدحه ففي منهاج الحليمي، وشعب البيهقي أن الدعاء يستجاب يوم الأربعاء بعيد الزوال، وذكر برهان الإسلام في تعليم المتعلم عن صاحب الهداية أنا ما بدىء شيء يوم الأربعاء إلا وتم وهو يوم خلق الله تعالى فيه النور فلذلك كان جمع من المشايخ يتحرون ابتداء الجلوس للتدريس فيه، واستحب بعضهم غرس الأشجار فيه
لخبر ابن حيان والديلمي عن جابر مرفوعا «من غرس الأشجار يوم الأربعاء وقال: سبحان الباعث الوارث أتته أكلها»
نعم جاءت أخبار وآثار تشعر بخلاف ذلك،
ففي الفردوس عن عائشة مرفوعا «لولا أن تكره أمتي لأمرتها أن لا يسافروا يوم الأربعاء، وأحب الأيام إليّ الشخوص فيها يوم الخميس»
وهو غير معلوم الصحة عندي.
وأخرج أبو يعلى عن ابن عباس. وابن عدي وتمام في فوائده عن أبي سعيد مرفوعا يوم السبت يوم مكر وخديعة ويوم الأحد يوم غرس وبناء ويوم الاثنين يوم سفر وطلب رزق ويوم الثلاثاء يوم حديد وبأس. ويوم الأربعاء لا أخذ ولا

(14/84)


عطاء. ويوم الخميس يوم طلب الحوائج والدخول على السلطان. والجمعة يوم خطبة ونكاح، وتعقبه السخاوي بأن سنده ضعيف، وروى ابن ماجة عن ابن عمر مرفوعا
،
وخرجه الحاكم من طريقين آخرين «لا يبدو جذام ولا برص إلا يوم الأربعاء»
وفي بعض الآثار النهي عن قص الأظفار يوم الأربعاء وأنه يورث البرص
، وكره بعضهم عيادة المرضى فيه، وعليه قيل:
لم يؤت في الأربعاء مريض ... إلا دفناه في الخميس
وحكي عن بعضهم أنه قال لأخيه: اخرج معي في حاجة فقال: هو الأربعاء قال: فيه ولد يونس قال: لا جرم قد بانت له بركته في اتساع موضعه وحسن كسوته حتى خلصه الله تعالى قال: وفيه ولد يوسف عليه السلام قال: فما أحسن ما فعل أخوته حتى طال حبسه وغربته قال: وفيه نصر المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم يوم الأحزاب قال:
أجل لكن- بعد أن زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر- ونقل المناوي عن البحر أن أخباره عليه الصلاة والسلام عن نحوسه آخر أربعاء في الشهر من باب التطير ضرورة أنه ليس من الدين بل فعل الجاهلية ولا مبني على قول المنجمين أنه يوم عطارد وهو نحس مع النحوس سعد مع السعود فإنه قول باطل، ويجوز أن يكون من باب التخويف والتحذير أي احذروا ذلك اليوم لما نزل فيه من العذاب وكان فيه من الهلاك وجددوا فيه لله تعالى توبة خوفا أن يلحقكم فيه بؤس كما وقع لمن قبلهم، وهذا كما قال حين أتى الحجر: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين إلى غير ذلك، وحكي أيضا عن بعضهم أنه قال: التطير مكروه كراهية شرعية إلا أن الشرع أباح لمن أصابه في آخر أربعاء شيء في مصالحه أن يدع التصرف فيه لا على جهة التطير واعتقاد أنه يضر أو ينفع بغير إذن الله تعالى بل على جهة اعتقاد إباحة الإمساك فيه لما كرهته النفس لا اقتفاءا للتطير ولكن إثباتا للرخصة في التوقي فيه لمن يشاء مع وجوب اعتقاد أن شيئا لا يضر شيئا ونقل عن الحليمي أنه قال: علمنا ببيان الشريعة أن من الأيام نحسا، ويقابل النحس السعد وإذا ثبت الأول ثبت الثاني أيضا، فالأيام منها نحس ومنها سعد كالأشخاص منهم شقي ومنهم سعيد، ولكن زعم أن الأيام والكواكب تنحس أو تسعد باختيارها أوقاتا وأشخاصا باطل، والقول- إن الكواكب قد تكون أسبابا للحسن والقبيح والخير والشر والكل فعل الله تعالى وحده- مما لا بأس به. ثم قال المناوي: والحاصل أن توقي الأربعاء على جهة الطيرة وظن اعتقاد المنجمين حرام شديد التحريم إذ الأيام كلها لله تعالى لا تنفع ولا تضر بذاتها وبدون ذلك لا ضير ولا محذور فيه ومن تطير حاقت به نحوسته، ومن أيقن بأنه لا يضر ولا ينفع إلا الله عز وجل لم يؤثر فيه شيء من ذلك كما قيل:
تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير وهو الثبور

انتهى، وأقول كل الأيام سواء ولا اختصاص لذلك بيوم الأربعاء وما من ساعة من الساعات إلا وهي سعد على شخص نحس على آخر باعتبار ما يحدث الله تعالى فيها من الملائم والمنافر والخير والشر، فكل يوم من الأيام يتصف بالأمرين لاختلاف الاعتبار وإن استنحس يوم الأربعاء لوقوع حادث فيه فليستنحس كل يوم فما أولج الليل في النهار والنهار في الليل إلا لإيلاد الحوادث وقد قيل:
ألا إنما الأيام أبناء واحد ... وهذي الليالي كلها أخوات
وقد حكي أنه صبح ثمود العذاب يوم الأحد، وورد في الأثر ولا أظنه يصح- نعوذ بالله تعالى من يوم الأحد فإن له حدا أحد من السيف- ولو صح فلعله في أحد مخصوص علم بالوحي ما يحدث فيه، وزعم بعضهم- أن من المجرب الذي يخط قط أنه متى كان اليوم الرابع عشر من الشهر القمري الأحد وفعل فيه شيء لم يتم- غير مسلم،

(14/85)


وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

وورد في الفردوس من حديث ابن مسعود- خلق الله تعالى الأمراض يوم الثلاثاء، وفيه أنزل إبليس إلى الأرض، وفيه خلق جهنم، وفيه سلط الله تعالى ملك الموت على أرواح بني آدم. وفيه قتل قابيل هابيل، وفيه توفي موسى وهارون عليهم السلام، وفيه ابتلي أيوب- الحديث
، وهو إن صح لا يدل على نحوسته غايته أنه وقع فيه ما وقع وقد وقع فيه غير ذلك مما هو خير،
ففي رواية مسلم- خلق المنفق أي ما يقوم به المعاش يوم الثلاثاء
- وإذا تتبعت التواريخ وقعت على حوادث عظيمة في سائر الأيام، ويكفي في هذا الباب أن حادثة عاد استوعبت أيام الأسبوع فقد قال سبحانه:
سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة: 7] فإن كانت النحوسة لذلك فقل لي أي يوم من الأسبوع خلا منها؟! ومثل أمر النحوسة فيما أرى أمر تخصيص كل يوم بعمل كما يزعمه كثير من الناس، ويذكرون في ذلك
أبياتا نسبها الحافظ الدمياطي لعليّ كرم الله تعالى وجهه وهي:
فنعم اليوم يوم السبت حقا لصيد إن أردت بلا امتراء وفي الأحد البناء لأن فيه تبدى الله في خلق السماء وفي الاثنين إن سافرت فيه سترجع بالنجاح وبالثراء ومن يرد الحجامة فالثلاثا ففي ساعاته هرق الدماء وإن شرب امرؤ يوما دواء فنعم اليوم يوم الأربعاء وفي يوم الخميس قضاء حاج فإن الله يأذن بالقضاء وفي الجمعات تزويج وعرس ولذات الرجال مع النساء وهذا العلم لا يدريه إلا نبيّ أو وصيّ الأنبياء
ولا أظنها تصح، وقصارى ما أقول: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن لا دخل في ذلك لوقت ولا لغيره، لبعض الأوقات شرف لا ينكر كيوم الجمعة وشهر رمضان وغير ذلك، ولبعضها عكس ذلك كالأوقات التي تكره فيها الصلاة لكن هذا أمر ومحل النزاع أمر فاحفظ ذلك، والله تعالى يتولى هداك، وقوله تعالى: تَنْزِعُ النَّاسَ يجوز أن يكون صفة الريح وأن يكون حالا منها لأنها وصفت فقربت من المعرفة، وجوز أن يكون مستأنفا، وجيء- بالناس- دون ضمير عاد قيل: ليشمل ذكورهم وإناثهم- والنزاع- القلع، روي أنهم دخلوا الشعاب والحفر وتمسك بعضهم ببعض فقلعتهم الريح وصرعتهم موتى.
كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ أي منقلع عن مغارسه ساقط على الأرض، وقيل: شبهوا بأعجاز النخل وهي أصولها بلا فروع لأن الريح كانت تقلع رؤوسهم فتبقى أجسادا وجثثا بلا رؤوس، ويزيد هذا التشبيه حسنا أنهم كانوا ذوي جثث عظام طوال، والنخل اسم جنس يذكر نظرا للفظ كما هنا ويؤنث نظرا للمعنى كما في قوله تعالى:
أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة: 7] واعتبار كل في كل من الموضعين للفاصلة، والجملة التشبيهية حال من الناس وهي حال مقدرة، وقال الطبري: في الكلام حذف والتقدير فتركتهم كأنهم إلخ، فالكاف على ما في البحر في موضع نصب بالمحذوف وليس بذاك، وقرأ أبو نهيك أعجز على وزن أفعل نحو ضبع وأضبع، وقوله تعالى: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ تهويل لهما وتعجيب من أمرهما بعد بيانهما فليس فيه شائبة تكرار مع ما تقدم، وقيل: إن الأول لما حاق بهم في الدنيا والثاني لما يحيق بهم في الآخرة، وكانَ للمشاكلة، أو للدلالة على تحققه على عادته سبحانه في إخباره، وتعقب بأنه يأباه ترتيب الثاني على العذاب الدنيوي.

(14/86)


وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ الكلام فيه كالذي مرّ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ بالرسل عليهم الصلاة والسلام فإن تكذيب أحدهم وهو صالح عليه السلام هنا تكذيب للكل لاتفاقهم على أصول الشرائع، وجوز أن يكون مصدرا، أو جمعا له وأن يكون جمع نذير بمعنى المنذر منه فلا تغفل.
فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا أي كائنا من جنسنا على أن الجار والمجرور في موضع الصفة- لبشرا- وانتصابه بفعل يفسره- نتبع- بعد أي أنتبع بشرا واحِداً أي منفردا لا تبع له، أو واحدا من آحادهم لا من أشرافهم كما يفهم من التنكير الدال على عدم التعيين وهو صفة أخرى لبشر وتأخيره مع إفراده عن الصفة الأولى مع كونها شبه الجملة للتنبيه على أن كلا من الجنسية والوحدة مما يمنع الاتباع ولو قدم عليها لفات هذا التنبيه، وقرأ أبو السمال فيما ذكر الهذلي في كتابه الكامل وأبو عمرو الداني- أبشر منا واحد- برفعهما على أن- بشر- مبتدأ، وما بعد صفته، وقوله تعالى:
نَتَّبِعُهُ خبره. ونقل ابن خالويه وصاحب اللوامح وابن عطية عن أبي السمال رفع- بشر- ونصب واحِداً وخرج ذلك ابن عطية على أن رفع- بشر- إما على إضمار فعل مبني للمفعول والتقدير أينبأ بشر، وإما على الابتداء والخبر جملة نَتَّبِعُهُ، ونصب واحِداً على الحال إما من ضمير النصب في نَتَّبِعُهُ وإما من الضمير المستقر في

(14/87)


مِنَّا وخرج صاحب اللوامح نصب واحِداً على هذا أيضا، وأما رفع بشر فخرجه على الابتداء وإضمار الخبر أي أبشر منا يبعث إلينا أو يرسل أو نحوهما، وتقدم الاستفهام يرجع تقدير فعل يرفع به إِنَّا إِذاً أي إذا اتبعنا بشرا منا واحدا لَفِي ضَلالٍ عظيم عن الحق وَسُعُرٍ أي نيران جمع سعير.
وروي أن صالحا عليه السلام كان يقول لهم: إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق وسعر فعكسوا عليه لغاية عتوهم فقالوا: إن اتبعناك كنا إذا كما تقول
، فالكلام من باب التعكيس والقول بالموجب، وجمع السعير باعتبار الدركات، أو للمبالغة، وروي عن ابن عباس ما يحتمل ما قلنا فإنه قال: أي لفي بعد عن الحق وعذاب، وفي رواية أخرى عنه تفسير السعر بالجنون على أنه اسم مفرد بمعنى ذلك يقال: ناقة مسعورة إذا كانت تفرط في سيرها كأنها مجنونة قال الشاعر:
كأن بها سعرا إذا العيس هزها ... ذميل وإرخاء من السير متعب
والأول أوجه وأفصح أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا أي أأنزل عليه الوحي من بيننا وفينا من هو أحق منه بذلك، والتعبير بألقي دون أنزل قل: لأنه يتضمن العجلة في الفعل بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أي شديد البطر وهو على ما قال الراغب: دهش يعتري من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها ووضعها إلى غير وجهها، ويقاربه الطرب وهو خفة أكثر ما تعتري من الفرح، ومرادهم ليس الأمر كذلك بل هو كذا وكذا حمله شدّة بطره وطلبه التعظيم عليها على ادعاء ذلك، وقرأ قتادة. وأبو قلابة- بل هو الكذب الأشر- بلام التعريف فيهما وبفتح الشين وشدّ الراء، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما في ذلك، وقوله تعالى: سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ حكاية لما قاله سبحانه وتعالى لصالح عليه السلام وعدا له ووعيدا لقومه، والسين لتقريب مضمون الجملة وتأكيده، والمراد بالغد وقت نزول العذاب الدنيوي بهم، وقيل: يوم القيامة فهو لمطلق الزمان المستقبل وعبر به لتقريبه، وعليه قول الطرماح:
ألا عللاني قبل نوح النوائح ... وقبل اضطراب النفس بين الجوانح

وقبل غد يا لهف نفسي على غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح
أي سَيَعْلَمُونَ البتة عن قريب مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ الذي حمله أشره وبطره على ما حمله أصالح أن من كذبه، والمراد سيعلمون أنهم هم الكذابون الأشرون لكن أورد ذلك مورد الإبهام ايماء إلى أنه مما لا يكاد يخفى، ونحوه قول الشاعر:
فلئن لقيتك خاليين لتعلمن ... أيّي وأيّك فارس الأحزاب
وقرأ ابن عامر وحمزة وطلحة وابن وثاب والأعمش- ستعلمون- بتاء الخطاب على حكاية ما قال لهم صالح مجيبا لهم، وفي الكشاف أو هو كلام على سبيل الالتفات، قال صاحب الكشف: أي هو كلام الله تعالى لقوم ثمود على سبيل الالتفات إليهم إما في خطابه تعالى لرسولنا صلى الله تعالى عليه وسلم وهو نظير ما حكاه سبحانه عن شعيب فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ [الأعراف: 93] بعد ما استؤصلوا هلاكا وهو من بليغ الكلام فيه دلالة على أنهم أحقاء بهذا الوعيد وكأنهم حضور في المجلس حول إليهم الوجه لينعي عليهم جناياتهم. وإما في خطابه عز وجل لصالح عليه السلام والمنزل حكاية ذلك الكلام المشتمل على الالتفات. وعلى التقديرين لا إشكال فيه كما توهم ولفظ الزمخشري على الأول أدل وهو أبلغ انتهى، ومن التفت إلى ما قاله الجمهور في الالتفات لا أظنه تسكن نفسه بما ذكر فتأمل، وقرأ مجاهد فيما ذكره صاحب اللوامح وأبو قيس الأودي «الأشر» بثلاث ضمات وتخفيف الراء. ويقال: أشر وأشر كحذر وحذر فضمة الشين لغة وضم الهمزة تبع لها.

(14/88)


وحكى الكسائي عن مجاهد ضم الشين دون الهمزة فهو كندس، وقرأ أبو حيوة «الأشر» أفعل تفضيل أي الأبلغ في الشرارة وكذا قرأ قتادة وأبو قلابة أيضا وهو قليل الاستعمال وإن كان على الأصل كالأخير في قول رؤبة:
بلال خير الناس وابن الأخير وقال أبو حاتم: لا تكاد العرب تتكلم- بالأخير- والْأَشِرُ إلا في ضرورة الشعر وأنشد البيت، وقال الجوهري: لا يقال الْأَشِرُ إلا في لغة رديئة وقوله تعالى: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ إلخ استئناف مسوق لبيان مبادئ الموعود على ما هو الظاهر، وبه يتعين كون المراد بالغد وقت نزول العذاب الدنيوي بهم دون يوم القيامة، والإرسال حقيقة في البعث وقد جعل هنا كناية عن الإخراج، وأريد المعنى الحقيقي معه كما أومأ إليه بعض الأجلة أي إنا مخرجو الناقة التي سألوها من الهضبة وباعثوها فِتْنَةً لَهُمْ امتحانا، وجوز إبقاؤها على معناها المعروف فَارْتَقِبْهُمْ فانتظرهم وتبصر ما هم فاعلون وَاصْطَبِرْ على أذاهم ولا تعجل حتى يأتي أمر الله تعالى وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ وأخبرهم بأن ماء البئر التي لهم قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ مقسوم لها يوم ولهم يوم، وبَيْنَهُمْ لتغليب العقلاء، وقرأ معاذ عن أبي عمرو «قسمة» بفتح القاف كُلُّ شِرْبٍ نصيب وحصة منه مُحْتَضَرٌ يحضره صاحبه في نوبته فتحضر الناقة تارة ويحضرونه أخرى، وقيل: يتحول عنه غير صاحبه من حضر عن كذا تحول عنه وقيل: يمنع عنه غير صاحبه مجاز عن الحظر بالظاء بمعنى المنع بعلاقة السببية فإنه مسبب عن حضور صاحبه في نوبته وهو كما ترى، وقيل:
يحضرون الماء في نوبتهم واللبن في نوبتها، والمعنى كل شرب من الماء واللبن تحضرونه أنتم فَنادَوْا أي فأرسلنا الناقة وكانوا على هذه الوتيرة من القسمة فملوا ذلك وعزموا على عقر الناقة فَنادَوْا لعقرها صاحِبَهُمْ وهو قدار بن سالف أحيمر ثمود وكان أجرأهم فَتَعاطى العقر أي فاجترأ على تعاطيه مع عظمه غير مكترث به.
فَعَقَرَ فأحدث العقر بالناقة، وجوز أن يكون المراد فتعاطى الناقة فعقرها، أو فتعاطى السيف فقتلها، وعلى كل فمفعول تعاطى محذوف والتفريع لا غبار عليه، وقيل: تعاطى منزل منزلة اللازم على أن معناه أحدث ماهية التعاطي، وقوله تعالى: فَعَقَرَ تفسير له لا متفرع عليه ولا يخفى ركاكته، والتعاطي التناول مطلقا على ما يفهم من كلام غير واحد، وزاد بعضهم قيد بتكلف ونسبة العقر إليهم في قوله تعالى: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ [الأعراف: 77] لأنهم كانوا راضين به فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ الكلام فيه كالذي تقدم إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً هي صيحة جبريل عليه السلام صاح صباح يوم الأحد كما حكى المناوي عن الزمخشري في طرف منازلهم فَكانُوا أي فصاروا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ أي كالشجر اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء.
وفي البحر الهشيم ما تفتت وتهشم من الشجر، والْمُحْتَظِرِ الذي يعمل الحظيرة فإنه يتفتت منه حالة العمل ويتساقط أجزاء مما يعمل به، أو يكون الهشيم ما يبس من الحظيرة بطول الزمان تطؤه البهائم فيتهشم، وتعقب هذا بأن الأظهر عليه كهشيم الحظيرة، والحظيرة الزريبة التي تصنعها العرب. وأهل البوادي للمواشي والسكنى من الأغصان والشجر المورق والقصب من الحظر وهو المنع.
وقرأ الحسن وأبو حيوة وأبو السمال وأبو رجاء وعمرو بن عبيد «المحتظر» بفتح الظاء على أنه اسم مكان والمراد به الحظيرة نفسها أو هو اسم مفعول قيل: ويقدر له موصوف أي كَهَشِيمِ الحائط الْمُحْتَظِرِ أو لا يقدر على أن الْمُحْتَظِرِ الزريبة نفسها كما سمعت. وجوز أن يكون مصدرا أي كهشيم الاحتظار أي ما تفتت حالة الاحتظار وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كما مر كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ على قياس النظير السابق إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً ملكا على ما قيل- يحصبهم أي يرميهم بالحصباء والحجارة أو هو اسم للريح

(14/89)


التي تحصب ولم يرد بها الحدوث كما في ناقة ضامر وهو وجه التذكير، وقال ابن عباس: هو ما حصبوا به من السماء من الحجارة في الريح، وعليه قول الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام تضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور
إِلَّا آلَ لُوطٍ خاصته المؤمنين به، وقيل: آله ابنتاه نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ أي في سحر وهو آخر الليل، وقيل:
السدس الأخير منه، وقال الراغب: السحر والسحرة اختلاط ظلام آخر الليل بصفاء النهار وجعل اسما لذلك الوقت، ويجوز كون الباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي ملتبسين بِسَحَرٍ داخلين فيه نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي إنعاما منا وهو علة لنجينا، ويجوز نصبه بفعل مقدر من لفظه، أو بنجينا لأن التنجية إنعام فهو كقعدت جلوسا كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء العجيب نَجْزِي مَنْ شَكَرَ نعمتنا بالإيمان والطاعة وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ لوط عليه السلام بَطْشَتَنا أخذتنا الشديدة بالعذاب.
وجوز أن يراد بها نفس العذاب فَتَمارَوْا فكذبوا بِالنُّذُرِ متشاكين، فالفعل مضمن معنى التكذيب ولولاه تعدى بفي وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ صرفوه عن رأيه فيهم وطلبوا الفجور بهم وهذا من إسناد ما للبعض للجميع لرضاهم به فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ أي أزلنا أثرها وذلك بمسحها وتسويتها كسائر الوجه، وهو كما قال عبيدة، وروي أن جبريل عليه السلام استأذن ربه سبحانه في عقوبتهم ليلة جاؤوا وعالجوا الباب ليدخلوا عليهم فصفقتهم بجناحه فتركهم عميانا يترددون لا يهتدون إلى طريق خروجهم حتى أخرجهم لوط عليه السلام وقال ابن عباس والضحاك: إنما حجب إدراكهم فدخلوا المنزل ولم يروا شيئا فجعل ذلك كالطمس فعبر به عنه.
وقرأ ابن مقسم «فطمّسنا» بتشديد الميم للتكثير في المفعول فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ أي فقلنا لهم ذلك على ألسنة الملائكة عليهم السلام، فالقول في الحقيقة لهم وأسند إليه تعالى مجازا لأنه سبحانه الآمر أو القائل ظاهر الحال فلا قول وإنما هو تمثيل، والمراد بالعذاب الطمس وهو من جملة ما أنذروه.
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً أو النهار وهي أخص من الصباح فليس في ذكرها بعده زيادة وكان ذلك أول شروق الشمس، وقرأ زيد بن علي «بكرة» غير مصروفة للعلمية والتأنيث على أن المراد بها أول نهار مخصوص.
عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ يستقر بهم ويدوم حتى يسلمهم إلى النار، أو لا يدفع عنهم، أو يبلغ غايته.
فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ حكاية لما قيل لهم بعد التصحيح من جهته تعالى تشديدا للعذاب، أو هو تمثيل.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ تقدم ما فيه من الكلام وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ صدرت قصتهم بالتوكيد القسمي الإبراز كمال الاعتناء- بشأنها لغاية عظم ما فيها من الآيات وكثرتها وهول ما لا قوه من العذاب وقوة إيجابها للاتعاظ والاكتفاء بذكر آل فرعون للعلم بأنه نفسه أولى بذلك فإنه رأس الطغيان ومدعي الألوهية، والقول: بأنه إشارة إلى إسلامه مما لا يلتفت إليه، والنُّذُرُ إن كان جمع نذير بمعنى الإنذار فالأمر ظاهر وكذا إن كان مصدرا، وأما إن كان جمع نذير بمعنى المنذر فالمراد به موسى وهارون وغيرهما لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون أي وبالله تعالى لقد جاءهم المنذرون، أو الإنذرات، أو الإنذار، وقوله تعالى: كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية مجيء النذر كأنه قيل: فماذا فعل آل فرعون حينئذ؟ فقيل: كذبوا بجميع آياتنا وهي آيات الأنبياء كلهم عليهم السلام فإن تكذيب البعض تكذيب للكل، أو هي الآيات التسع، وجوز الواحدي أن يراد بالنذر نفس الآيات فقوله سبحانه: بِآياتِنا من إقامة الظاهر مقام الضمير والأصل كذبوا بها، وزعم بعض غلاة الشيعة

(14/90)


وهم المسلمون بالكشفية في زماننا أن المراد- بالآيات كلها- علي كرم الله تعالى وجهه فإنه الإمام المبين المذكور في قوله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس: 12] وأنه كرم الله تعالى وجهه ظهر مع موسى عليه السلام لفرعون وقومه فلم يؤمنوا- وهذا من الهذيان بمكان- نسأل الله تعالى العفو والعافية فَأَخَذْناهُمْ أي آل فرعون، وزعم بعض أن ضمير كَذَّبُوا وضمير أخذناهم عائدان على جميع من تقدم ذكره من الأمم وتم الكلام عند قوله تعالى: النُّذُرُ وليس بشيء، والفاء للتفريع أي فَأَخَذْناهُمْ وقهرناهم لأجل تكذيبهم أَخْذَ عَزِيزٍ لا يغالب مُقْتَدِرٍ لا يعجزه شيء، ونصب أخذ على المصدرية لا على قصد التشبيه أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أي الكفار المعدودين قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون، والمراد الخيرية باعتبار الدنيا وزينتها ككثرة القوة والشدة ووفور العدد والعدة، أو باعتبار لين الشكيمة في الكفر بأن يكون الكفار المحدث عنهم بالخيرية أقل عنادا وأقرب طاعة وانقيادا، وظاهر كلام كثير أن الخطاب هنا عام للمسلمين وغيرهم حيث قالوا: أَكُفَّارُكُمْ يا معشر العرب خَيْرٌ إلخ والاستفهام إنكاري في معنى النفي فكأنه قيل: ما كفاركم خير من أولئكم الكفار المعدودين بأن يكونوا أكثر منهم قوة وشدة وأوفر عددا وعدة، أو بأن يكونوا ألين شكيمة في الكفر والعصيان والضلال والطغيان بل هم دونهم في القوة وما أشبهها من زينة الدنيا، أو أسوأ حالا منهم في الكفر، وقد أصاب من هو خير ما أصاب فكيف يطمعون هم في أن لا يصيبهم نحو ذلك، وكذا قيل: في الخطاب في قوله تعالى: أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ وجعل بتقدير أم لكفاركم وهو إضراب وانتقال إلى تنكيت آخر فكأنه قيل: بل ألكفار كم براءة وأمن من تبعات ما يعملون من الكفر والمعاصي وغوائلها في الكتب السماوية فلذلك يصرون على ما هم عليه ولا يخافون، واختار بعضهم في هذا أنه خاص بالكفار، وقالوا في قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ إنه إضراب من التبكيت المذكور إلى تبكيت آخر بطريق الالتفات للإيذان بإفضاء حالهم إلى الإعراض عنهم وإسقاطهم عن رتبة الخطاب وحكاية قبائحهم لغيرهم.
أي بل أيقولون واثقين بشوكتهم نحن جماعة أمرنا مجتمع لا يرام ولا يضام، أو مُنْتَصِرٌ من الأعداء لا يغلب، أو متناصر ينصر بعضنا بعضا.
والذي يترجح في نظر الفقير أن الخطاب في الموضعين خاص على ما يقتضيه السياق بكفار أهل مكة أو العرب وهو ظهر في الموضع الثاني لا يحتاج إلى شيء، وأما في الموضع الأول فوجهه أن تكون الإضافة مثلها في الدراهم كلها كذا، وطور سيناء، ويوم الأحد ولم يقل أأنتم للتنصيص على كفرهم المقتضي لهلاكهم، ويجوز أن يعتبر في أَكُفَّارُكُمْ ضرب من التجريد الذي ذكروه في نحو لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ [فصلت: 28] فكأنه جرد منهم كفار وأضيفوا إليهم، وفي ذلك من المبالغة ما فيه، ويجوز أن يكون هذا وجها للعدول عن أأنتم، وربما يترجح به كون الخيرية المنفية باعتبار لين الشكيمة في الكفر وكأنه لما خوف سبحانه الكفار الذين كذبوا الآيات وأعرضوا عنها، وقالوا هي سحر مستمر بذكر ما حل بالأمم السالفة مما تبرق وترعد منه أسارير الوعيد قال عز وجل لهم: لم لا تخافون أن يحل بكم مثل ما حل بهم أأنتم أقل كفرا وعنادا منهم ليكون ذلك سببا للأمن من حلول نحو عذابهم بكم أن أعطاكم الله عز وجل براءة من عذابه أم أنتم أعز منهم منتصرون على جنود الله تعالى وعدل سبحانه عن أم أنتم جميع منتصر إلى ما في النظم الجليل للإشارة إلى أن ذلك مما لا تحقق له أصلا إلا باللفظ ومحض الدعوى التي لا يوافق عليها فتأمل، فأسرار كلام الله تعالى لا تتناهى، ثم لا تعجل بالاعتراض على ما قلناه وإن لم يكن لنا سلف فيه حسبما تتبعنا، ثم إن جَمِيعٌ على ما أشير إليه بمعنى الجماعة التي أمرها مجتمع وليس من التأكيد في شيء بل هو خبر نَحْنُ، وجوز أن يكون بمعنى مجتمع خبر مبتدأ محذوف وهو (أمرنا) والجملة خبر نَحْنُ وأن يكون هو

(14/91)


الخبر والإسناد مجازي، ومُنْتَصِرٌ على ما سمعت إما بمعنى ممتنع يقال: نصره فانتصر إذا منعه فامتنع.
والمراد بالامتناع عدم المغلوبية أو هو بمعنى منتقم من الأعداء أو هو من النصر بمعنى العون والافتعال بمعنى التفاعل كالاختصام والتخاصم وكان الظاهر منتصرون إلا أنه أفرد باعتبار لفظ الجميع فإنه مفرد لفظا جمع معنى ورجح هنا جانب اللفظ عكس بل أنتم قوم تجهلون لخفة الإفراد مع رعاية الفاصلة وليس في الآية رعاية جانب المعنى أولا، ثم رعاية جانب اللفظ ثانيا على عكس المشهور، وإن كان ذلك جائزا على الصحيح كما لا يخفى على الخبير، وقرأ أبو حيوة وموسى الأسواري وأبو البرهسم- أم تقولون- بتاء الخطاب، وقوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ رد لقولهم ذلك والسين للتأكيد أي يهزم جمعهم البتة وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي الإدبار، وقد قرىء كذلك، والإفراد لإرادة الجنس الصادق على الكثير مع رعاية الفواصل ومشاكلة القرائن، أو لأنه في تأويل يولي كل واحد منهم دبره على حدّ: كسانا الأمير حلة مع الرعاية المذكورة أيضا وقد كان هذا يوم بدر وهو من دلائل النبوة لأن الآية مكية، وقد نزلت حيث لم يفرض جهاد ولا كان قتال ولذا قال عمر رضي الله تعالى عنه: يوم نزلت أي جمع يهزم أي من جموع الكفار؟ ولم يتعرض لقتال أحد منهم، وقد تقدم الخبر.
ومما أشرنا إليه يعلم أن قول الطيبي في هذه الرواية نظر لأن همزة الإنكار في أَمْ يَقُولُونَ إلخ دلت على أن المنهزمين من هم ناشىء عن الغفلة عن مراد عمر رضي الله تعالى عنه، وقرأ أبو حيوة وموسى الأسواري وأبو البرهسم- ستهزم الجمع- بفتح التاء وكسر الزاي خطابا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونصب الجمع على المفعولية، وقرأ أبو حيوة أيضا ويعقوب- سنهزم- بالنون مفتوحة وكسر الزاي على إسناد الفعل إلى ضمير العظمة، وعن أبي حيوة وابن أبي عبلة «سيهزم الجمع» بفتح الياء مبنيا للفاعل ونصب الجمع أي سيهزم الله تعالى الجمع، وقرأ أبو حيوة وداود ابن أبي سالم عن أبي عمرو- وتولون- بتاء الخطاب بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ أي ليس هذا تمام عقوبتهم بل الساعة موعد عذابهم وهذا من طلائعه وَالسَّاعَةُ أَدْهى أي أعظم داهية وهي الأمر المنكر الفظيع الذي لا يهتدى إلى الخلاص عنه وَأَمَرُّ وأشد مرارة في الذوق وهو استعارة لصعوبتها على النفس: وقيل: أقوى وليس بذاك وإظهار الساعة في موضع إضمارها لتربية تهويلها إِنَّ الْمُجْرِمِينَ من الأولين والآخرين فِي ضَلالٍ في هلاك وَسُعُرٍ ونيران مسعرة أو في ضلال عن الحق ونيران في الآخرة، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: في خسران وجنون، وقوله تعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ أي يجرون فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ متعلق بقول مقدر بعده أي يوم يسحبون يقال لهم ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ وجوز أن يكون متعلقا بمقدار يفهم مما قبل أي يعذبون، أو يهانون، أو نحوه، وجملة القول عليه حال من ضمير يُسْحَبُونَ وجوز كونه متعلقا- بذوقوا- على أن الخطاب للمكذبين المخاطبين في قوله تعالى: أَكُفَّارُكُمْ إلخ أي ذوقوا أيها المكذبون محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم يوم يسحب المجرمون المتقدمون، والمراد حشرهم معهم والتسوية بينهم في الآخرة كما ساؤوهم في الدنيا وهو كما ترى، والمراد- بمس سقر- ألمها على أنه مجاز مرسل عنه بعلاقة السببية فإن مسها سبب للتألم بها وتعلق الذوق بمثل ذلك شائع في الاستعمال، وفي الكشاف مَسَّ سَقَرَ كقولك وجد مس الحمى وذاق طعم الضرب لأن النار إذا أصابتهم بحرّها ولحقتهم بإيلامها فكأنها تمسهم مسا بذلك كما يمس الحيوان ويباشر بما يؤذي ويؤلم، وهو مشعر بأن في الكلام استعارة مكنية نحو يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ [الرعد: 25] ويحتمل غير ذلك، وسَقَرَ علم لجهنم- أعاذنا الله تعالى منها ببركة كلامه العظيم وحرمة حبيبه عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم- من سقرته للنار وصقرته بإبدال السين صادا لأجل القاف إذا لوحته وغيرت لونه قال ذو الرمة يصف ثور الوحش:

(14/92)


إذا ذابت الشمس اتقى صقراتها ... بأفنان مربوع الصريمة معبل
وعدم الصرف للعلمية والتأنيث، وقرأ عبد الله إلى النار، وقرأ محبوب عن أبي عمرو «مس سّقر» بإدغام السين في السين، وتعقب ذلك ابن مجاهد بأن إدغامه خطأ لأنه مشدد، والظن بأبي عمرو أنه لم يدغم حتى حذف إحدى السينين لاجتماع الأمثال ثم أدغم إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ من الأشياء خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ أي مقدرا مكتوبا في اللوح قبل وقوعه، فالقدر بالمعنى المشهور الذي يقابل القضاء، وحمل الآية على ذلك هو المأثور عن كثير من السلف،
وروى الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة قال: «جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في القدر فنزلت يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ»
وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن عدي وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية» أنزلت فيهم آية في كتاب الله إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ

إلى آخر الآيات، وكان ابن عباس يكره القدرية جدا، أخرج عبد بن حميد عن أبي يحيى الأعرج قال سمعت ابن عباس- وقد ذكر القدرية- يقول: لو أدركت بعضهم لفعلت به كذا وكذا ثم قال: الزنا بقدر والسرقة بقدر وشرب الخمر بقدر.
وأخرج عن مجاهد أنه قال: قلت لابن عباس: ما تقول فيمن يكذب بالقدر؟ قال: اجمع بيني وبينه قال: ما تصنع به؟ قال: أخنقه حتى أقتله، وقد جاء ذمهم في أحاديث كثيرة، منها ما
أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لكل أمه مجوس ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم» .
وجوز كون المعنى إنا كل شيء خلقناه مقدرا محكما مستوفي فيه مقتضي الحكمة التي يدور عليها أمر التكوين، فالآية من باب وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان: 2] ونصب كُلَّ بفعل يفسره ما بعده أي إنا خلقنا كل شيء خلقناه، وقرأ أبو السمال قال ابن عطية وقوم من أهل السنة برفع كل وهو على الابتداء، وجملة خَلَقْناهُ هو الخبر، وبِقَدَرٍ متعلق به كما في القراءة المتواترة، فتدل الآية أيضا على أن كل شيء مخلوق بقدر ولا ينبغي أن تجعل جملة خلقناه صفة، ويجعل الخبر بِقَدَرٍ لاختلاف القراءتين معنى حينئذ، والأصل توافق القراءات، وقال الرضي: لا يتفاوت المعنى لأن مراده تعالى بكل شيء كل مخلوق سواء نصبت كُلَّ أو رفعته وسواء جعلت خَلَقْناهُ صفة مع الرفع، أو خبرا عنه، وذلك إن خلقنا كل شيء بقدر لا يريد سبحانه به خلقنا كل ما يقع عليه اسم شيء لأنه تعالى لم يخلق جميع الممكنات غير المتناهية واسم الشيء يقع على كل منها، وحينئذ نقول: إن معنى كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ على أن خلقناه هو الخبر كُلَّ مخلوق مخلوق بِقَدَرٍ وعلى أن خَلَقْناهُ صفة كُلَّ شَيْءٍ مخلوق كائن بِقَدَرٍ والمعنيان واحد إذ لفظ كُلَّ في الآية مختص بالمخلوقات سواء كان خَلَقْناهُ صفة له أو خبرا، وتعقبه السيد السند قدس سره بأنه لقائل أن يقول:
إذ جعلنا خَلَقْناهُ صفة كان المعنى كُلَّ مخلوق متصف بأنه مخلوقنا كائن بقدر، وعلى هذا لا يمتنع نظرا إلى هذا المعنى أن يكون هناك مخلوقات غير متصفة بتلك الصفة فلا تندرج تحت الحكم، وأما إذا جعلناه خبرا أو نصبنا كُلَّ شَيْءٍ فلا مجال لهذا الاحتمال نظرا إلى نفس المعنى المفهوم من الكلام فقد اختلف المعنيان قطعا ولا يجديه نفعا أن كل مخلوق متصف بتلك الصفة في الواقع لأنه إنما يفهم من خارج الكلام ولا شك أن المقصود ذلك المعنى الذي لا احتمال فيه، وذكر نحوه الشهاب الخفاجي ولكون النصب نصا في المقصود اتفقت القراءات المتواترة عليه مع احتياجه إلى التقدير وبذلك يترجح على الرفع الموهم لخلافه وإن لم يحتج إليه.

(14/93)


وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ أي ما شأننا إلا فعلة واحدة على نهج لا يختلف ووتيرة لا تتعدد وهي الإيجاد بلا معالجة ومشقة، أو ما أمرنا إلا كلمة واحدة، وهي قوله تعالى: كُنْ [البقرة: 117] وغيرها فالأمر مقابل النهي وواحد الأمور، فإذا أراد عز وجل شيئا قال له: كُنْ فَيَكُونُ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أي في السير والسرعة، وقيل: هذا في قيام الساعة فهو كقوله تعالى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ [النحل: 77] وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أي أشباهكم في الكفر من الأمم السالفة، وأصله جمع شيعة وهم من يتقوى بهم المرء من الأتباع ولما كانوا في الغالب من جنس واحد أريد به ما ذكر إما باستعماله في لازمه، أو بطريق الاستعارة، والحال قرينة على ذلك، وقيل: هو باق على حقيقته أي أتباعكم فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متعظ بذلك وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ من الكفر والمعاصي، والضمير المرفوع للأشياع كما روي عن ابن عباس والضحاك وقتادة وابن زيد، وجملة فَعَلُوهُ صفة شَيْءٍ والرابط ضمير النصب، وقوله تعالى: فِي الزُّبُرِ متعلق بكون خاص خبر المبتدأ أي كل شيء فعلوه في الدنيا مكتوب في كتب الحفظة غير مغفول عنه، وتفسير الزُّبُرِ باللوح المحفوظ كما حكاه الطبرسي ليس بشيء، ولم يختلف القراء في رفع كُلُّ وليست الآية من باب الاشتغال فلا يجوز النصب لعدم بقاء المعنى الحاصل بالرفع لو عمل المشتغل بالضمير في الاسم السابق كما هو اللازم في ذلك الباب إذ يصير المعنى هاهنا حينئذ فعلوا فِي الزُّبُرِ كل شيء إن علقنا الجار- يفعلوا وهم لم يفعلوا شيئا من أفعالهم في الكتب بل فعلوها في أماكنهم والملائكة عليهم السلام كتبوها عليهم في الكتب، أو فعلوا كل شيء مكتوب فِي الزُّبُرِ إن جعلنا الجار نعتا لكل شيء، وهذا وإن كان معنى مستقيما إلا أنه خلاف المعنى المقصود حالة الرفع وهو ما تقدم آنفا وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ من الأعمال كما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وقيل: منها ومن كل ما هو كائن إلى يوم القيامة مُسْتَطَرٌ مسطور مكتتب في اللوح بتفاصيله وهو من السطر بمعنى الكتب، ويقال: سطرت واستطرت بمعنى، وقرأ الأعمش وعمران وعصمة عن أبي بكر عن عاصم «مستطرّ» بتشديد الراء، قال صاحب اللوامع: يجوز أن يكون من- طر- النبات والشارب إذا ظهر، والمعنى كل صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ظاهر في اللوح مثبت فيه ويجوز أن يكون من الاستطار لكن شدد الراء للوقف على لغة من يقول. جعفرّ ويفعلّ- بالتشديد وقفا أي ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ووزنه على التوجيه الأول مستفعل وعلى الثاني مفتعل، ولما كان بيان حال سوء الكفرة بقوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ إلخ مما يستدعي بيان حسن حال المؤمنين ليتكافأ الترهيب والترغيب بين سبحانه ما لهم من حسن الحال بطريق الإجمال فقال عز قائلا: إِنَّ الْمُتَّقِينَ أي من الكفر والمعاصي، وقيل: من الكفر.
فِي جَنَّاتٍ عظيمة الشأن وَنَهَرٍ أي أنهار كذلك، والإفراد للاكتفاء باسم الجنس مراعاة للفواصل، وعن ابن عباس تفسيره بالسعة، وأنشد عليه قول لبيد بن ربيعة- كما في الدر المنثور- أو قيس بن الخطيب- كما في البحر- يصف طعنة:
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها
أي أوسعت فتقها، والمراد بالسعة سعة المنازل على ما هو الظاهر، وقيل: سعة الرزق والمعيشة، وقيل: ما يعمهما وأخرج الحكيم والترمذي في نوادر الأصول عن محمد بن كعب قال: وَنَهَرٍ أي في نور وضياء وهو على الاستعارة بتشبيه الضياء المنتشر بالماء المتدفق من منبعه، وجوز أن يكون بمعنى النهار على الحقيقة، والمراد أنهم لا ظلمة ولا ليل عندهم في الجنات، وقرأ الأعرج ومجاهد وحميد وأبو السمال والفياض بن غزوان «ونهر» بسكون الهاء، وهو بمعنى «نهر» مفتوحها، وقرأ الأعمش وأبو نهيك وأبو مجلز واليماني «ونهر» بضم النون والهاء، وهو جمع نهر

(14/94)


المفتوح أو الساكن- كأسد وأسد، ورهن ورهن- وقيل: جمع نهار، والمراد أنهم لا ظلمة ولا ليل عندهم كما حكي فيما، وقيل: قرىء بضم النون وسكون الهاء فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ في مكان مرضي على أن الصدق مجاز مرسل في لازمه أو استعارة، وقيل: المراد صدق المبشر به وهو الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، أو المراد أنه ناله من ناله بصدقه وتصديقه للرسل عليهم السلام، فالإضافة لأدنى ملابسة
وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: مدح المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق
، وهو المقعد الذي يصدق الله تعالى فيه مواعيد أوليائه بأنه يبيح عز وجل لهم النظر إلى وجهه الكريم، وإفراد المقعد على إرادة الجنس.
وقرأ عثمان البتي- في مقاعد- على الجمع وهي توضح أن المراد بالمقعد المقاعد عِنْدَ مَلِيكٍ أي ملك عظيم الملك، وهو صيغة مبالغة وليست الياء من الإشباع مُقْتَدِرٍ قادر عظيم القدرة، والظرف في موضع الحال من الضمير المستقر في الجار والمجرور، أو خبر بعد خبر، أو صفة لمقعد صدق، أو بدل منه، والعندية للقرب الرتبي، وذكر بعضهم أنه سبحانه أبهم العندية والقرب ونكر- مليكا، ومقتدرا- للإشارة إلى أن ملكه تعالى وقدرته عز وجل لا تدري الأفهام كنههما وأن قربهم منه سبحانه بمنزلة من السعادة والكرامة بحيث لا عين رأت ولا أذن سمعت مما يجل عن البيان وتكلّ دونه الأذهان.
وأخرج الحكيم الترمذي عن بريدة- عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ إلخ قال: إن أهل الجنة يدخلون على الجبار كل يوم مرتين فيقرأ عليهم القرآن وقد جلس كل امرئ منهم مجلسه الذي هو مجلسه على منابر الدر والياقوت والزمرد والذهب والفضة بالأعمال فلا تقرّ أعينهم قط كما تقرّ بذلك ولم يسمعوا شيئا أعظم منه ولا أحسن منه ثم ينصرفون إلى رحالهم قريرة أعينهم ناعمين إلى مثلها من الغد
- وإذا صح هذا فهو من المتشابه كالآية فلا تغفل، ولهذين الاسمين الجليلين شأن في استجابة الدعاء على ما في بعض الآثار.
أخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب قال: دخلت المسجد وأنا أرى أني أصبحت فإذا علي ليل طويل وليس فيه أحد غيري فنمت فسمعت حركة خلفي ففزعت فقال: أيها الممتلئ قلبه فرقا لا تفرق أو لا تفزع وقل اللهم إنك مليك مقتدر ما تشاء من أمر يكون ثم سل ما بدا لك قال: فما سألت الله تعالى شيئا إلا استجاب لي وأنا أقول:
اللهم إنك مليك مقتدر ما تشاء من أمر يكون فأسعدني في الدارين وكن لي ولا تكن علي وانصرني على من بغى علي وأعذني من هم الدين وقهر الرجال وشماتة الأعداء، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.

(14/95)


سورة الرّحمن
وسميت
في حديث أخرجه البيهقي عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا «عروس القرآن» ورواه موسى بن جعفر رضي الله تعالى عنهما عن آبائه الأطهار كذلك
«وهي مكية» في قول الجمهور، وأخرج ذلك ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وعائشة رضي الله تعالى عنهم وابن النحاس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه أنها نزلت بالمدينة، وحكي ذلك عن مقاتل، وحكاه في البحر عن ابن مسعود أيضا، وحكي أيضا قولا آخر عن ابن عباس وهو أنها مدنية سوى قوله تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرحمن: 29] الآية، وحكي الاستثناء المذكور في جمال القراء عن بعضهم ولم يعينه، وعدد آياتها ثمان وسبعون آية في الكوفي والشامي، وسبع وسبعون في الحجازي، وست وسبعون في البصري.
ووجه مناسبتها لما قبلها على ما قال الجلال السيوطي: أنه لما قال سبحانه في آخر ما قيل بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [القمر: 46] ثم وصف عز وجل حال المجرمين فِي سَقَرَ [القمر: 48] وحال المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [القمر: 54] فصل هذا الإجمال في هذه السورة أتم تفصيل على الترتيب الوارد في الإجمال فبدأ بوصف مرارة الساعة، والإشارة إلى شدّتها، ثم وصف النار وأهلها، ولذا قال سبحانه: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ [الرحمن: 41] ولم يقل الكافرون، أو نحوه لاتصاله معنى بقوله تعالى هناك: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ [القمر:
47] ثم وصف الجنة وأهلها ولذا قال تعالى فيهم: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ وذلك هو عين التقوى ولم يقل ولمن آمن، أو أطاع، أو نحوه لتتوافق الألفاظ في التفصيل والمفصل ويعرف بما ذكر أن هذه السورة كالشرح لآخر السورة قبلها، وقال أبو حيان في ذلك: إنه تعالى لما ذكر هناك مقر المجرمين في سعر، ومقر المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 54] ذكر سبحانه هنا شيئا من آيات الملك وآثار القدرة، ثم ذكر جل وعلا مقر الفريقين على جهة الإسهاب إذ كان ذكره هناك على جهة الاختصار، ولما أبرز قوله سبحانه: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ بصورة التنكير فكأن سائلا يسأل ويقول من المتصف بهاتين الصفتين الجليلتين؟ فقيل: «الرحمن» إلخ، والأولى عندي أن يعتبر في وجه المناسبة أيضا ما في الإرشاد وهو أنه تعالى لما عدد في السورة السابقة ما نزل بالأمم السالفة من ضروب نقم الله عز وجل، وبيّن عقيب كل ضرب منها أن القرآن قد يسر لتذكر الناس واتعاظهم ونعى عليهم إعراضهم عن ذلك عدد في هذه السورة الكريمة ما أفاض على كافة الأنام من فنون نعمه الدينية والدنيوية والأنفسية والآفاقية وأنكر عليهم أثر كل فن منها إخلالهم بمواجب شكرها، وهذا التكرار أحلى من السكر إذ تكرر، وفي الدرر والغرر لعلم الهدى السيد المرتضى التكرار في سورة «الرحمن» إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعددة، فكلما ذكر سبحانه نعمة أنعم بها وبخ على التكذيب بها كما يقول الرجل لغيره ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال؟ ألم أحسن إليك بأن فعلت بك

(14/96)


الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28)

كذا وكذا؟ فيحسن فيه التكرير لاختلاف ما يقرر به وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم كقول مهلهل يرثي كليبا:
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا ما ضيم جيران المجير

على أن ليس عدلا من كليب ... إذا رجف العضاه من الدبور

على أن ليس عدلا من كليب ... إذا خرجت مخبأة الخدور

على أن ليس عدلا من كليب ... إذا ما أعلنت نجوى الأمور

على أن ليس عدلا من كليب ... إذا خيف المخوف من الثغور

على أن ليس عدلا من كليب ... غداة تأثل الأمر الكبير

على أن ليس عدلا من كليب ... إذا ما خار جأش المستجير
ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط ولولا خوف الملل لأوردتها، ولا يرد على ما ذكره أن هذه الآية قد ذكرت بعد ما ليس نعمة لما ستعلمه إن شاء الله تعالى في محله، وقسم في الإتقان التكرار إلى أقسام، وذكر أن منه ما هو لتعدد المتعلق بأن يكون المكرر ثانيا متعلقا بغير ما تعلق به الأول ثم قال: وهذا القسم يسمى بالترديد وجعل منه قوله تعالى:
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من سورة الرحمن فإنها وإن تكررت إحدى وثلاثين مرة فكل واحدة تتعلق بما قبلها ولذلك زادت على ثلاثة ولو كان الجميع عائدا على شيء واحد لما زاد على ثلاثة لأن التأكيد لا يزيد عليها كما قال ابن عبد السلام وغيره، وهو حسن إلا أنه نظر في إطلاق قوله: إن التأكيد إلخ بأن ذلك في التأكيد الذي تابع أما ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة فلا يمتنع وإن لزم منه التأكيد فافهم، وبدأ سبحانه من النعم بتعليم القرآن فقال عز قائلا:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ لأنه أعظم النعم شأنا وأرفعها مكانا كيف لا وهو مدار للسعادة الدينية والدنيوية وعيار على الكتب السماوية ما من مرصد ترنو إليه أحداق الأمم إلا وهو منشؤه

(14/97)


ومناطه، ولا مقصد تمتد نحوه أعناق الهمم إلا وهو منهجه وصراطه، ونصبه على أنه مفعول ثان- لعلم- ومفعوله الأول محذوف لدلالة المعنى عليه- أي علم الإنسان القرآن- وهذا المفعول هو الذي كان فاعلا قبل نقل فعل الثلاثي إلى فعل المضعف، وسها الإمام فحسب أن المحذوف المفعول الثاني حيث قال: علم لا بد له من مفعول ثان وترك للإشارة إلى أن النعمة في التعليم لا في تعليم شخص دون شخص، ويمكن أن يقال:
أراد أنه لا بد له من مفعول آخر مع هذا المفعول فلا جزم بسهوه، وقيل: المقدر جبريل عليه السلام أو الملائكة المقربين عليهم السلام، وقيل: محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وعلى القولين يتضمن ذلك الاشارة إلى أن القرآن كلام الله عز وجل، والقول الأول أظهر وأنسب بالمقام، ولي في تعليم غير جبريل عليه السلام من الملائكة الكرام تردد ما بناء على ما في الإتقان نقلا عن ابن الصلاح من أن قراءة القرآن كرامة أكرم الله تعالى بها البشر فقد ورد أن الملائكة لم يعطوا ذلك وأنهم حريصون لذلك على استماعه من الإنس وإنما لم أعتبر عمومه للنصوص الدالة على أن جبريل عليه السلام كان يقرأ القرآن وكأني بك لا تسلم صحة ما ذكر وإن استثني منه جبريل عليه السلام، وقيل: عَلَّمَ من العلامة ولا تقدير أي جعل القرآن علامة وآية لمن اعتبر، أو علامة للنبوة ومعجزة، وهذا على ما قيل: يناسب ما ذكر في مفتتح السورة السابقة من قوله تعالى: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر: 1] وتتناسب السورتان في المفتتح حيث افتتحت الأولى بمعجزة من باب الهيبة وهذه بمعجزة من باب الرحمة.
وقد أبعد القائل ولو أبدى ألف مناسبة، فالذي ينبغي أن يعلم أنه من التعليم، والمراد بتعليم القرآن قيل:
إفادة العلم به لا بمعنى إفادة العلم بألفاظه فقط بل بمعنى إفادة ذلك والعلم بمعانيه على وجه يعتدّ به وهو متفاوت وقد يصل إلى العلم بالحوادث الكونية من إشاراته ورموزه إلى غير ذلك فإن الله تعالى لم يغفل شيئا فيه.
أخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة عن أبي هريرة مرفوعا «إن الله لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة» .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنزل في هذا القرآن علم كل شيء وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصّر عما بين لنا في القرآن، وقال ابن عباس: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى: وقال المرسي: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به، ثم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خلا ما استأثر به سبحانه، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم كالخلفاء الأربعة، ثم ورث عنهم التابعون لهم بإحسان ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، وفسر بعضهم التعليم بتنبيه النفس لتصور المعاني، وجوز الإمام أن يراد به هنا جعل الشخص بحيث يعلم القرآن فالآية كقوله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [القمر: 17، 22، 32، 40] وهو بهذا المعنى مجاز كما لا يخفى، والرَّحْمنُ مبتدأ والجملة بعده خبره كما هو الظاهر، وإسناد تعليمه إلى اسم الرَّحْمنُ للإيذان بأنه من آثار الرحمة الواسعة وأحكامها، وتقديم المسند إليه إما للتأكيد أو للحصر، وفيه من تعظيم شأن القرآن ما فيه، وقيل: الرَّحْمنُ خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف أي الله الرحمن، أو الرحمن ربنا وما بعد مستأنف لتعديد نعمه عز وجل وهو خلاف الظاهر، ثم أتبع سبحانه نعمة تعليم القرآن بخلق الإنسان فقال تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ لأن أصل النعم عليه، وإنما قدم ما قدم منها لأنه أعظمها، وقيل: لأنه مشير إلى الغاية من خلق الإنسان وهو كماله

(14/98)


في قوة العلم والغاية متقدمة على ذي الغاية ذهنا وإن كان الأمر بالعكس خارجا، والمراد بالإنسان الجنس وبخلقه إنشاؤه على ما هو عليه من القوى الظاهرة والباطنة، ثم أتبع عز وجل ذلك بنعمة تعليم الْبَيانَ فقال سبحانه: عَلَّمَهُ الْبَيانَ لأن البيان هو الذي به يتمكن عادة من تعلم القرآن وتعليمه، والمراد به المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير.
والمراد بتعليمه نحو ما مر، وفي الإرشاد أن قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ تعيين للمتعلم، وقوله سبحانه: عَلَّمَهُ الْبَيانَ تبيين لكيفية التعليم، والمراد بتعليم البيان تمكين الإنسان من بيان نفسه، ومن فهم بيان غيره إذ هو الذي يدور عليه تعليم القرآن. وقيل إنه بناء على تقدير المفعول المحذوف الملائكة المقربين:
إن تقديم تعليم القرآن لتقدمه وقوعا فهم قد علموه قبل خلق الإنسان وربما يرمز إليه قوله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: 77- 79] وفي النظم الجليل عليه حسن زائد حيث إنه تعالى ذكر أمورا علوية وأمورا سفلية وكل علوي قابله بسفلي ويأتي هذا على تقدير المفعول جبريل عليه السلام أيضا وقال الضحاك: الْبَيانَ الخير والشر، وقال ابن جريج: سبيل الهدى وسبيل الضلالة، وقال يمان: الكتابة والكل كما ترى، وجوز أن يراد به القرآن وقد سماه الله تعالى بيانا في قوله سبحانه: هذا بَيانٌ [آل عمران: 138] وأعيد ليكون الكلام تفصيلا لإجمال علم القرآن وهذا في غاية البعد وقال قتادة:
الْإِنْسانَ آدم، والْبَيانَ علم الدنيا والآخرة، وقيل: الْبَيانَ أسماء الأشياء كلها. وقيل: التكلم بلغات كثيرة، وقيل: الاسم الأعظم الذي علم به كل شيء، ونسب هذا إلى جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه.
وقال ابن كيسان: الْإِنْسانَ محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعليه قيل: المراد بالبيان بيان المنزل. والكشف عن المراد به كما قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:
44] أو الكلام الذي يشرح به المجمل والمبهم في القرآن أو القرآن نفسه على ما سمعت آنفا، أو نحو ذلك مما يناسبه عليه الصلاة والسلام ويليق به من المعاني السابقة، ولعل ابن كيسان يقدر مفعول علم الإنسان مرادا به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أيضا، وهذه أقوال بين يديك، والمتبادر من الآيات الكريمة لا يخفى عليك ولا أظنك في مرية من تبادر ما ذكرناه فيها أولا. ثم إن كلا من الجملتين الأخيرتين خبر عن المبتدأ كجملة عَلَّمَ الْقُرْآنَ وكذا قوله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ والجار والمجرور فيه خبر بتقدير مضاف أي جرى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ كائن أو مستقر بِحُسْبانٍ أو الخبر محذوف والجار متعلق به أي يجريان بحسبان وهو مصدر كالغفران بمعنى الحساب- كما قال قتادة وغيره- أي هما يجريان بِحُسْبانٍ مقدر في بروجهما ومنازلهما بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية وتختلف الفصول والأوقات ويعلم السنون والحساب، وقال الضحاك وأبو عبيدة: هو جمع حساب كشهاب وشهبان أي هما يجريان بحسابات شتى في بروجهما ومنازلهما، وقال مجاهد: الحسبان الفلك المستدير من حسبان الرحا وهو ما أحاط بها من أطرافها المستديرة، وعليه فالباء للظرفية، والجار والمجرور في موضع الخبر من غير احتياج إلى ما تقدم، والمراد كل من الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ في فلك، والجمهور على الأول وجريان الشمس والقمر مما لا ينبغي أن يشك فيه.
وفلاسفة العصر كانوا يزعمون أن الشمس لا تجري أصلا، وأن القمر يجري على الأرض، والأرض تجري على الشمس، وقد سمعنا أنهم عدلوا منذ أعوام عن ذلك، فزعموا أن للشمس حركة على كوكب آخر وهذا

(14/99)


يدل على أنهم لم يكن عندهم برهان على دعواهم الأولى كما كان يقوله من كان ينتصر لهم، والظاهر أن حالهم اليوم بل وغدا مثل حالهم بالأمس، ونحن مع الظواهر حتى يقوم الدليل القطعي على خلافها وحينئذ نميل إلى التأويل وبابه واسع، ومثل هذه الجملة قوله تعالى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ فإن المعطوف على الخبر خبر، والمراد- بالنجم- النبات الذي ينجم أي يظهر ويطلع من الأرض ولا ساق له، وبالشجر النبات الذي له ساق، وهو المروي عن ابن عباس وابن جبير وأبي رزين والمراد بسجودهما انقيادهما له تعالى فيما يريد بهما طبعا، شبه جريهما على مقتضى طبيعتيهما بانقياد الساجد لخالقه وتعظيمه له. ثم استعمل اسم المشبه به في المشبه فهناك استعارة مصرحة تبعية، وقال مجاهد وقتادة والحسن- النجم- نجم السماء وسجوده بالغروب ونحوه وسجود الشجر بالظل واستدارته عند مجاهد والحسن وفي رواية أخرى عن مجاهد أن سجودهما عبارة عن انقيادهما لما يريد سبحانه بهما طبعا، والجمهور على تفسير النجم بما سمعت أولا قبل لأن اقترانه بالشجر يدل عليه، وإن كان تقدم الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يتوهم منه أنه بمعناه المعروف ففيه تورية ظاهرة، وإخلاء الجمل الثانية والثالثة والرابعة عن العاطف لورودها على نهج التعديد مع الإشارة إلى أن كلا مما تضمنته نعمة مستقلة تقتضي الشكر، وقد قصروا في أدائه ولو عطفت مع شدة اتصالها وتناسبها ربما توهم أن الكل نعمة واحدة.
وتوسيط العاطف بين الرابعة والخامسة رعاية لتناسبهما من حيث التقابل لما أن الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ علويان وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ سفليان، ومن حيث إن كلا من حال العلويين وحال السفليين من باب الانقياد لأمر الله عز وجل وخلوهما عن الرابط اللفظي مع كونهما خبرين للتعويل على كمال قوة الارتباط المعنوي إذ لا يتوهم ذهاب الوهم إلى كون حال الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بتسخير غيره تعالى، ولا إلى كون سجود النجم والشجر لسواه سبحانه فكأنه قيل: الشمس والقمر بحسبانه وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ له كذا قالوه، وفي الكشف: تبيينا لما ذكره صاحب الكشاف في هذا المقام أخلى الجمل أي التي قبل الشمس والقمر بحسبان عن العاطف لأن الغرض تعديد النعم وتبكيت المنكر كما يقال: زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثّرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد فما تنكر من إحسانه كأنه لما عد نعمة حرك منه حتى يتأمل هل شكرها حق شكرها أم لا، ثم يأخذ في أخرى ولو جيء بالعاطف صارت كواحدة ولم يكن من التحريك في شيء، ولما قضي الوطر من التعديد المحرك والتبكيت بذكر ما هو أصل النعم على نمط رد الكلام على منهاجه الأصلي من تعداد النعم واحدة بعد أخرى على التناسب والتقارب بحرف النسق، وفيه تنبيه على أن النعم لا تحصى فليكتف بتعديد أجلها رتبة للغرض المذكور.
وجملة الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ ليست من أخبار المبتدأ، والزمخشري إنما سأل عن وجه الربط، وأجاب بأن الربط حاصل بالوصل المعنوي كأنه بعد ما بكت ونبه أخذ يعد عليه أصول النعم ليثبت على ما طلب منه من الشكر، وهذا كما تقول في المثال السابق بعد قولك: فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد دانت له أقرانك وأطاعته إخوانك وبسط نواله فيمن تحت ملكته ولم يخرج أحد من حياطة عدله ونصفته، فلا يشك ذو أرب أنها جمل منقطعة عن الأولى إعرابا متصلة بها اتصالا معنويا أورثها قطعها لأنها سيقت لغرض وهذه لأخر، وقريب من هذا الاتصال اتصال قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ [البقرة: 6] الآية بقوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3] الآية انتهى.

(14/100)


وقد أبعد المغزى فيما أرى إلا أن ظاهر كلام الكشاف يقتضي كونه قوله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ من الأخبار فتأمل وَالسَّماءَ رَفَعَها أي خلقها مرفوعة ابتداء لا أنها كانت مخفوضة ورفعها، والظاهر أن المراد برفعها الرفع الصوري الحسي، ويجوز أن يكون المراد به ما يشمل الصوري والمعنوي بطريق عموم المجاز أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يرى جوازه ورفعها المعنوي الرتبي لأنها منشأ أحكامه تعالى وقضاياه ومنزل أوامره سبحانه ومحل ملائكته عز وجل، وقرأ أبو السمال «والسماء» بالرفع على الابتداء، ولا إشكال فيه لأن الجملة عليه اسمية معطوفة على مثلها، وإنما الإشكال في النصب لأنه بفعل مضمر على شريطة التفسير أي ورفع السماء فتكون الجملة فعلية فإن عطفت على جملة- والنجم والشجر يسجدان- الكبرى لزم تخالف الجملتين لمعطوفة والمعطوف عليها بالاسمية والفعلية وهو خلاف الأولى، وإن عطفت على جملة يَسْجُدانِ الصغرى لزم أن تكون خبرا- للنجم والشجر- مثلها، وذلك لا يصح إذ لا عائد فيها إليهما، وكذا يقال في العطف على كبرى وصغرى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وأجاب أبو علي باختيار الثاني، وقال: لا يلزم في المعطوف على الشيء أن يعتبر فيه حال ذلك الشيء، وتلا باب قولهم متقلدا سيفا ورمحا، وبعضهم باختيار الأول ويحسن التخالف إذا تضمن نكتة، وقال الطيبي:
الظاهر أن يعطف على جملة الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ ليؤذن بأن الأصل أجرى الشمس والقمر، وأسجد النجم والشجر، فعدل إلى معنى دوام التسخير والانقياد في الجملتين الأوليين، ومعنى التوكيد في الأخيرة والكلام فيما يتعلق بالرفع والنصب فيما إذا ولي العاطف جملة ذات وجهين مفصل في كتب النحو وَوَضَعَ الْمِيزانَ أي شرع العدل وأمر به بأن وفر على كل مستعد مستحقه، ووفى كل ذي حق حقه حتى انتظم أمر العالم واستقام كما
قال عليه الصلاة والسلام: «بالعدل قامت السماوات والأرض»
أي بقيتا على أبلغ نظام وأتقن إحكام، وقال بعضهم: المراد بقاء من فيهما من الثقلين إذ لولا العدل أهلك أهل الأرض بعضهم بعضا، وأما الملأ الأعلى فلا يقع بينهم ما يحتاج للحكم والعدل، فذكرهم للمبالغة، والذي اختاره أن المراد بالسماوات والأرض العالم جميعه ولا شك أنه لولا العدل لم يكن العالم منتظما. ومنشأ ما ذكره القائل ظن أن المراد بالعدل في الحديث العدل في الحكم لفصل الخصومات ونحوه وليس كما ظن بل المراد به عدل الله عز وجل وإعطاؤه سبحانه كل شيء خلقه. وتفسير الميزان بما ذكر هو المروي عن مجاهد والطبري والأكثرين، وهو مستعار للعدل استعارة تصريحية وعن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك أن المراد به ما يعرف به مقادير الأشياء من الآلة المعروفة والمكيال المعروف ونحوهما، فالمعنى خلقه موضوعا مخفوضا على الأرض حيث علق به أحكام عباده وقضاياهم المنزلة من السماء وما تعبدهم به من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم، والمشهور أنه بهذا المعنى مجاز أيضا من استعمال المقيد في المطلق، وقيل: هو حقيقة فالواضع لم يضعه إلا لما يعرف به المقادير على أي هيئة ومن أي جنس كان، والناس لما ألفوا المعروف لا يكاد يتبادر إلى أذهانهم من لفظ الْمِيزانَ سواه، وقيل: المراد به المعروف واللفظ فيه حقيقة ولا يسلم الوضع للعام.
ورجح القولان الأخيران بأن ما بعد أشدّ ملاءمة لهما وبين الوضع والرفع عليهما تقابل، وقد قرأ عبد الله- وخفض الميزان- والأول بأنه أتم فائدة فزن ذلك بميزان ذهنك أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ أي لئلا تطغوا فيه أي حقه وشأنه بأن تعتدوا وتتجاوزوا ما ينبغي فيه على أن (أن) ناصبة و (لا) نافية ولام العلة مقدرة متعلقة بقوله تعالى:
وَضَعَ الْمِيزانَ وجوز ابن عطية والزمخشري كون (أن) تفسيرية و (لا) ناهية.
واعترضه أبو حيان بأنه لم يتقدم جملة فيها معنى القول وهو شرط في صحة جعل (أن) مفسرة، وأجيب بأن وضع الميزان فيه ذلك لأنه بالوحي وإعلام الرسل عليهم والسلام، وزعم بعضهم أن التفسير متعين لأنه لا معنى لوضع

(14/101)


الميزان لئلا تطغوا في الميزان إذ المناسب الموزون ونحوه، وفيه ما لا يخفى وفي البحر قرأ إبراهيم «ووضع الميزان» بإسكان الضاد، وخفض الميزان على أن وَضَعَ مصدر مضاف إلى ما بعده ولم يبين هل وَضَعَ مرفوع أو منصوب، فإن كان مرفوعا فالظاهر أنه مبتدأ وأَلَّا تَطْغَوْا بتقدير الجار في موضع الخبر. وإن كان منصوبا فالظاهر أن عامله مقدر أي وفعل «وضع الميزان» أو ووضع وضع الميزان أَلَّا تَطْغَوْا إلخ، وقرأ عبد الله- لا تطغوا- بغير (أن) على إرادة القول أي قائلا، أو نحوه لا قل- كما قيل- و (لا) ناهية بدليل الجزم.
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ قوموا وزنكم بالعدل، وقال الراغب هذا إشارة إلى مراعاة المعدلة في جميع ما يتحراه الإنسان من الأفعال والأقوال، وعن مجاهد أن المعنى أقيموا لسان الميزان بالعدل إذا أردتم الأخذ والإعطاء، وقال سفيان بن عيينة: الإقامة باليد، والقسط بالقلب، والظاهر أن الجملة عطف على الجملة المنفية قبلها ولا يضر في ذلك كونها إنشائية، وتلك خبرية لأنها لتأويلها بالمفرد تجردت عن معنى الطلب، وجعل بعضهم لا في الاولى مطلقا ناهية حرصا على التوافق وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ أي لا تنقصوه فإن من حقه أن يسوى لأنه المقصود من وضعه وكرر لفظ الْمِيزانَ بدون إضماره كما هو مقتضى الظاهر تشديدا للتوصية وتأكيدا للأمر باستعماله والحث عليه، بل في الجمل الثلاث تكرار ما معنى لذلك، وقرىء «ولا تخسروا» بفتح التاء وضم السين، وقرأ زيد بن علي وبلال بن أبي بردة بفتح التاء وكسر السين.
وحكى ابن جني وصاحب اللوامح عن بلال أنه قرأ بفتحهما، وخرّج ذلك الزمخشري على أن الأصل- ولا تخسروا في الميزان- فحذف الجار، وأوصل الفعل بناء على أنه لم يجىء إلا لازما، وتعقبه أبو حيان بأن خسر قد جاء متعديا كقوله تعالى: خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الأنعام: 12] وغيرها وخَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ [الحج: 11] فلا حاجة إلى دعوى الحذف والإيصال، وأجيب بأنه على تقدير أن يكون متعديا هنا لا بد من القول بالحذف والإيصال لأن المعنى على حذف المفعول به أي لا تخسروا أنفسكم في الميزان أي لا تكونوا خاسريها يوم القيامة بسبب الميزان بأن لا تراعوا ما ينبغي فيه، والراغب جوز حمل الآية على القراءة المشهورة على نحو هذا فقال: إن قوله تعالى:
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ يجوز أن يكون إشارة إلى تحري العدالة في الوزن وترك الحيف فيما يعاطاه فيه، ويجوز أن يكون إشارة إلى تعاطي ما لا يكون به في القيامة خاسرا فيكون ممن قال سبحانه فيه: مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ [الأعراف: 9، المؤمنين: 103، القارعة: 8] وكلا المعنيين متلازمان، وقيل: المعنى على التعدي بتقدير مضاف أي موزون الميزان، أو جعل الميزان مجازا عن الموزون فيه فتأمل ولا تغفل وَالْأَرْضَ وَضَعَها خلقها موضوعة مخفوضة عن السماء حسبما يشاهد، وقال الراغب: الوضع هنا الإيجاد والخلق وكأن مراده ما ذكر، وقيل: أي خفضها مدحوّة على الماء، والظاهر على تقدير اعتبار الدحو أنه لا حاجة إلى اعتبار أنه سبحانه خلقها كذلك بل لا يصح لأنها لم تخلق مدحوّة وإنما دحيت بعد على ما روي عن ابن عباس، ثم إن كونها على الماء مبني على ما اشتهر أنه عز وجل خلق الماء قبلها وخلقها سبحانه من زبده لِلْأَنامِ قال ابن عباس وقتادة وابن زيد والشعبي ومجاهد على ما في مجمع البحرين: الحيوان كله، وقال الحسن: الإنس والجن.
وفي رواية أخرى عن ابن عباس هم بنو آدم فقط ولم أر هذا التخصيص لغيره رضي الله تعالى عنه، ففي القاموس الأنام الخلق أو الجن والإنس، أو جميع ما على وجه الأرض، ويحتمل أنه أراد أن المراد به هنا ذلك بناء على أن اللام للانتفاع وأنه محمول على الانتفاع التام وهو للإنس أتم منه لغيرهم، والأولى عندي ما حكي عنه أولا، وقرأ أبو السمال «والأرض» بالرفع- وقوله تعالى: فِيها فاكِهَةٌ إلخ استئناف مسوق لتقرير ما أفادته الجملة السابقة من كون الأرض

(14/102)


موضوعة لنفع الأنام، وقيل: حال مقدرة من الأرض، أو من ضميرها، فالأحسن حينئذ أن يكون الحال هو الجار والمجرور، وفاكِهَةٌ رفع على الفاعلية والتنوين بمعونة المقام للتكثير أي فيها ضروب كثيرة مما يتفكه به وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ هي أوعية التمر أعني الطلع على ما روي عن ابن عباس جمع- كم- بكسر الكاف وقد تضم، وهذا في- كم- الثمر، وأما- كم- القميص فهو بالضم لا غير، أو كل ما يكم ويغطى من ليف وسعف وطلع فإنه مما ينتفع به كالمكموم من الثمر والجمار مثلا، واختاره من اختاره، ومما ذكر يعلم فائدة التوصيف وَالْحَبُّ هو ما يتغذى به كالحنطة والشعير ذُو الْعَصْفِ قيل: هو ورق الزرع، وقيده بعضهم باليابس، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه التبن، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الضحاك أنه القشر الذي يكون على الحب وعن السدي والفراء أنه بقل الزرع وهو أول ما ينبت، وأخرجه غير واحد عن الحبر أيضا، واختار جمع ما روي عنه أولا، وفي توصيف الحب بما ذكر تنبيه على أنه سبحانه كما أنعم عليهم بما يقوتهم من الحب أنعم عليهم بما يقوت بهائمهم من العصف وَالرَّيْحانُ هو كل مشموم طيب الريح من النبات على ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد، وأخرج عن الحسن أنه قال: هو ريحانكم هذا أي الريحان المعروف: وأخرج عن مجاهد أنه الرزق بل قال ابن عباس:
كما أخرج هو أيضا عنه كل ريحان في القرآن فهو رزق، وزعم الطبرسي أنه قول الأكثر، وعليه قول بعض الأعراب، وقد قيل له: إلى أين أطلب من ريحان الله فإنه أراد من رزقه عز وجل، ووجه إطلاقه عليه أنه يرتاح له، وظاهر كلام الكشاف أنه أطلق وأريد منه اللب ليطابق العصف ويوافق المراد منه في قراءة حمزة والكسائي والأصمعي عن أبي عمرو «والريحان» بالجر عطفا على الْعَصْفِ إذ يبعد عليها حمله على المشموم والقريب حمله على اللب فكأنه قيل: والحب ذو العصف الذي هو رزق دوابكم، وذو اللب الذي هو رزق لكم، وجوز أن يكون الريحان في هذه القراءة عطفا على فاكهة كما في قراءة الرفع، والجر للمجاورة وهو كما ترى، والزمخشري بعد أن فسر الْأَكْمامِ بما ذكرناه ثانيا فيها وَالرَّيْحانُ باللب قال: أراد سبحانه فيها ما يتلذذ به من الفواكه: والجامع بين التغذي والتلذذ- وهو ثمر النخل- وما يتغذى به- وهو الحب- وهو على ما في الكشف بيان لإظهار وجه الامتنان وأنه مستوعب لأقسام ما يتناول في حال الرفاهية لأنه إما للتلذذ الخالص وهو الفاكهة، أو له وللتغذي أيضا وهو ثمر النخل، أو للتغذي وحده وهو الحب، ولما كان الأخيران أدخل في الامتنان شفع كلا بعلاوة فيها منة أيضا، وأن تعلم أنه إذا كان المقصود من النخل ثمره المعروف فالعطف على أسلوب ملائكته وجبريل كما قيل في قوله تعالى: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن: 68] وإذا كان ما يعمه وسائر ما ينتفع به منه كالجمار والكفرى، فالعطف ليس على ذلك، وجعل صاحب الكشف قول الزمخشري بعد تفسير الْأَكْمامِ بالمعنى الأعم وكله منتفع به كالمكموم إشارة إلى هذا، ثم قال: ولا ينافي جعله منه في قوله تعالى: فِيها فاكِهَةٌ إلخ نظرا إلى أن الجنة دار تخلص للتلذذ فالنظر هنالك إلى المقصود وهو الثمر فقط فتأمل.
وقرأ ابن عامر وأبو حيوة وابن أبي عبلة- والحب ذا العصف والريحان- بنصب الجميع، وخرج على أنه بتقدير وخلق الحب إلخ، وقيل: يجوز تقدير أخص، وفيه دغدغة، وجوزوا أن يكون الريحان بمعنى اللب حالة الرفع وحالة النصب على حذف مضاف والأصل وذو أو وذا الريحان فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه والرَّيْحانُ فيعلان من الروح. فأصله ريوحان قبلت الواو ياء لاجتماعها مع ياء ساكنة قبلها وأدغمت في الياء فصار ريحان بالتشديد ثم حذفت الياء الثانية التي هي عين الكلمة فقيل: ريحان كما قيل: ميت وهين بسكون الياء.
وعن أبي علي الفارسي أنه فعلان وأصله روحان بفتح الراء وسكون الواو قلبت واوه ياء للتخفيف وللفرق بينه

(14/103)


وبين الروحان بمعنى ما له روح فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ الخطاب للثقلين لأنهما داخلان في الأنام على ما اخترناه، أو لأن الأنام عبارة عنهما على ما روي عن الحسن، وسينطق بهما في قوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن: 31] وفي الاخبار كما ستعلمه إن شاء الله تعالى قريبا ما يؤيده، وقد أبعد من ذهب إلى أنه خطاب للذكر والأنثى من بني آدم، وأبعد أكثر منه من قال: إنه خطاب على حد أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ [ق: 24] ويا شرطي اضربا عنقه، يعني أنه خطاب للواحد بصورة الاثنين والفاء لترتيب الإنكار، والتوبيخ على ما فصل من فنون النعماء وصنوف الآلاء الموجبة للإيمان والشكر حتما، والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية الكلية والتربية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد النكير وتشديد التوبيخ ومعنى تكذيبهم بشيء من آلائه تعالى كفرهم به إما بإنكار كونه منه عز وجل مع عدم الاعتراف بكونه نعمة في نفسه كتعليم القرآن وما يستند إليه من النعم الدينية، وإما بإنكار كونه منه تعالى مع الاعتراف بكونه نعمة في نفسه كالنعم الدنيوية الواصلة إليهم بإسناده إلى غيره سبحانه استقلالا، أو اشتراكا صريحا، أو دلالة فإن إشراكهم لآلهتهم به تعالى في العبادة من دواعي إشراكهم لها به تعالى فيما يوجبها، والتعبير عن كفرهم المذكور بالتكذيب لما أن دلالة الآلاء المذكورة على وجوب الإيمان والشكر وشهادة منها بذلك فكفرهم بها تكذيب لا محالة أي فإذا كان الأمر كما فصل فَبِأَيِّ فرد من أفراد نعم مالككما ومربيكما بتلك النعم تُكَذِّبانِ مع أن كلا منها ناطق بالحق شاهد بالصدق ويندب أن يقول سامع هذه الآية: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد،
فقد أخرج البزار وابن جرير وابن المنذر والدارقطني في الافراد وابن مردويه والخطيب في تاريخه بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ سورة «الرحمن» على أصحابه فسكتوا فقال: ما لي أسمع الجن أحسن جوابا لربها منكم ما أتيت على قول الله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إلا قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد» .
وأخرج الترمذي وجماعة وصححه الحاكم عن جابر بن عبد الله نحوه
، وقرىء «فبأي» بالتنوين في جميع السورة كأنه حذف منه المضاف إليه وأبدل منه آلاءِ رَبِّكُما بدل معرفة من نكرة.
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ تمهيد للتوبيخ على إخلالهم بمواجب شكر النعمة المتعلقة بذاتي كل واحد من الثقلين، والمراد بالإنسان آدم عند الجمهور. وقيل: الجنس وساغ ذلك لأن أباهم مخلوق مما ذكر، والصلصال الطين اليابس الذي له صلصلة، وأصله- كما قال الراغب- تردد الصوت من الشيء اليابس ومنه قيل: صل المسمار، وقيل: هو المنتن من الطين من قولهم: صل اللحم، وكأن أصله صلال فقلبت إحدى اللامين صادا ويبعد ذلك قوله سبحانه: كَالْفَخَّارِ وهو الخزف أعني ما أحرق من الطين حتى تحجر وسمي بذلك لصوته إذا نقر كأنه تصور بصورة من يكثر التفاخر، وقد خلق الله تعالى آدم عليه السلام من تراب جعله طينا ثم حمأ مسنونا ثم صلصالا فلا تنافي بين الآية الناطقة بأحدها وبين ما نطق بأحد الآخرين وَخَلَقَ الْجَانَّ هو أبو الجن وهو إبليس قاله الحسن، وقال مجاهد: هو أبو الجن وليس بإبليس، وقيل: هو اسم جنس شامل للجن كلهم مِنْ مارِجٍ من لهب خالص لا دخان فيه- كما هو رواية عن ابن عباس- وقيل: هو اللهب المختلط بسواد النار، أو بخضرة وصفرة وحمرة- كما روي عن مجاهد- من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط، ومِنْ لابتداء الغاية، وقوله تعالى: مِنْ نارٍ بيان لمارج والتنكير للمطابقة ولأن التعريف لكنه عليه فكأنه قيل: خلق من نار خالصة، أو مختلطة على التفسيرين، وجوز جعل مِنْ فيه ابتدائية فالتنكير لأنه أريد نار مخصوصة متميزة من بين النيران لا هذه المعروفة، وأيا ما كان فالمارج بالنسبة إلى الجان كالتراب بالنسبة إلى الإنسان، وفي الآية رد على من يزعم أن الجن نفوس مجردة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما أفاض عليكما في تضاعيف

(14/104)


خلقكما من سوابغ النعم رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ خبر مبتدأ محذوف أي هو رب إلخ، أو الذي فعل ما ذكر من الأفاعيل البديعة- رب مشرقي الشمس صيفا وشتاء ومغربيها- كذلك على ما أخرجه جماعة عن ابن عباس وروي عن مجاهد وقتادة وعكرمة أن الْمَشْرِقَيْنِ مشرقا الشتاء ومشرق الصيف، والْمَغْرِبَيْنِ مغرب الشتاء ومغرب الصيف بدون ذكر الشمس، وقيل: المشرقان مشرقا الشمس والقمر، والمغربان مغرباهما.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن الْمَشْرِقَيْنِ مشرق الفجر ومشرق الشفق، والْمَغْرِبَيْنِ مغرب الشمس ومغرب الشفق، وحكى أبو حيان في المغربين نحو هذا، وفي المشرقين أنهما مطلع الفجر ومطلع الشمس والمعول ما عليه الأكثرون من مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما، ومن قضية ذلك أن يكون سبحانه رب ما بينهما من الموجودات، وقيل: رَبُّ مبتدأ والخبر قوله تعالى: مَرَجَ إلخ، وليس بذاك.
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «ربّ» بالجر على أنه بدل من ربكما فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما في ذلك من فوائد لا تحصى كاعتدال الهواء واختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل في وقته.
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي أرسلهما وأجراهما من- مرجت- الدابة- في المرعى- أرسلتها فيه، والمعنى أرسل البحر الملح والبحر العذب يَلْتَقِيانِ أي يتجاوران وتتماس سطوحهما لا فصل بينهما في مرأى العين، وقيل:
أرسل بحري فارس والروم يلتقيان في المحيط لأنهما خليجان ينشعبان منه، وروي هذا عن قتادة لكنه أورد عليه أنه لا يوافق قوله تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ [الفرقان: 53] والقرآن يفسر بعضه بعضا، وعليه قيل: جملة يَلْتَقِيانِ حال مقدرة إن كان المراد- إرسالهما إلى المحيط، أو المعنى اتحاد أصليهما إن كان المراد إرسالهما إليه بَيْنَهُما بَرْزَخٌ أي حاجز من قدرة الله تعالى، أو من أجرام الأرض كما قال قتادة لا يَبْغِيانِ أي لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصية بالكلية بناء على الوجه الأول فيما سبق، أو لا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما بناء على الوجه الثاني، وروي هذا عن قتادة أيضا، وفي معناه ما أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر عن الحسن لا يَبْغِيانِ عليكم فيغرقانكم، وقيل: المعنى لا يطلبان حالا غير الحال التي خلقا عليها وسخرا لها فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما لكما في ذلك من المنافع
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ صغار الدر وَالْمَرْجانُ كباره كما أخرج ذلك عبد بن حميد وابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه
ومجاهد، وأخرجه عبد عن الربيع وجماعة منهم المذكوران وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس، وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: اللُّؤْلُؤُ ما عظم منه وَالْمَرْجانُ اللؤلؤ الصغار.
وأخرج هو وعبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة نحوه، وكذا أخرج ابن الأنباري في الوقف والابتداء عن مجاهد، وأظن أنه إن اعتبر في اللؤلؤ معنى التلألؤ واللمعان وفي المرجان معنى المرج والاختلاط فالأوفق لذلك ما قيل ثانيا فيهما. وأخرج عبد الرزاق الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبري عن ابن مسعود أنه قال:- المرجان- الخرز الأحمر أعني البسذ وهو المشهور المتعارف، واللُّؤْلُؤُ عليه شامل للكبار والصغار. ثم إن اللؤلؤ بناء غريب قيل: لا يحفظ منه في كلام العرب أكثر من خمسة هو، والجؤجؤ الصدر وقرية بالبحرين، والدؤدؤ آخر الشهر أو ليلة خمس وست وسبع وعشرين أو ثمان وتسع وعشرين أو ثلاث ليال من آخره، والبؤبؤ بالباء الموحدة الأصل والسيد الظريف ورأس المكحلة وإنسان العين ووسط الشيء، واليؤيؤ بالياء آخر الحروف طائر كالباشق، ورأيت في كتب اللغة على هذا البناء غيرها وهو الضؤضؤ الأضل للطائر. والنؤنؤ بالنون المكثر تقليب الحدقة والعاجز الجبان، ومن ذلك شؤشؤ دعاء الحمار إلى الماء وزجر الغنم والحمار للمضي. أو هو دعاء للغنم لتأكل، أو تشرب وأما

(14/105)


المرجان فقد ذكره صاحب القاموس في مادة- مرج- ولم يذكر ما يفهم منه أنه معرب، وقال أبو حيان في البحر: هو اسم أعجمي معرب. وقال ابن دريد: لم أسمع فيه بفعل متصرف.
وقرأ طلحة- اللؤلئ- بكسر اللام الأخيرة. وقرىء اللؤلي بقلب الهمزة المتطرفة ياء ساكنة بعد كسر ما قبلها وكل من ذلك لغة. وقرأ نافع وأبو عمرو «يخرج» مبنيا للمفعول من الإخراج، وقرىء «يخرج» مبنيا للفاعل منه ونصب «اللّؤلؤ والمرجان» أي يخرج الله تعالى. واستشكلت الآية على تفسير البحرين بالعذب والملح دون بحري فارس والروم بأن المشاهد خروج اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ من أحدهما وهو الملح فكيف قال سبحانه: مِنْهُمَا؟ وأجيب بأنهما لما التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال: يخرجان منهما كما يقال يخرجان من البحر ولا يخرجان من جميعه ولكن من بعضه، وكما تقول خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله بل من دار واحدة من دوره، وقد ينسب إلى الاثنين ما هو لأحدهما كما يسند إلى الجماعة ما صدر من واحد منهم. ومثله ما في الانتصاف عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] وعلى ما نقل عن الزجاج سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح: 15، 16] ، وقيل: إنهما لا يخرجان إلا من ملتقى العذب والملح ويرده المشاهدة وكأن من ذكره مع ما تقدم لم يذكره لكونه قولا آخر بل ذكره لتقوية الاتحاد فحينئذ تكون علاقة التجوز أقوى.
وقال أبو علي الفارسي: هذا من باب حذف المضاف والتقدير يخرج من أحدهما وجعل مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ من ذلك. وهو عندي تقدير معنى لا تقدير إعراب. وقال الرماني: العذب منهما كاللقاح للملح فهو كما يقال الولد يخرج من الذكر والأنثى أي بواسطتهما، وقال ابن عباس، وعكرمة: تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر لأن الأصداف في شهر نيسان تتلقى ماء المطر بأفواهها فتتكون منه، ولذا تقل في الجدب، وجعل عليه ضمير مِنْهُمَا للبحرين باعتبار الجنس ولا يحتاج إليه بناء على ما أخرجه ابن جرير عنه أن المراد بالبحرين بحر السماء وبحر الأرض.
وأخرج هو وابن المنذر عن ابن جبير نحوه إلا أن في تكون المرجان بناء على تفسير بالبسذ من ماء المطر كاللؤلؤ ترددا وإن قالوا: إنه يتكون في نيسان، وقال بعض الأئمة: ظاهر كلام الله تعالى أولى بالاعتبار من كلام الناس، ومن علم أن اللؤلؤ لا يخرج من الماء العذب وهب أن الغواصين ما أخرجوه إلا من الملح، ولكن لم قلتم إن الصدف لا يخرج بأمر الله تعالى من الماء العذب إلى الماء الملح فإن خروجه محتمل تلذذا بالملوحة كما تلتذ المتوحمة بها في أوائل حملها حتى إذا خرج لم يمكنه العود، وكيف يمكن الجزم بما قلتم وكثير من الأمور الأرضية الظاهرة خفيت عن التجار الذين قطعوا المفاوز وداروا البلاد فكيف لا يخفى أمر ما في قعر البحر عليهم، والله تعالى أعلم ومن غريب التفسير ما
أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ علي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما.
وأخرج عن إياس بن مالك (1) نحوه لكن لم يذكر فيه البرزخ
، وذكر الطبرسي من الإمامية في تفسيره مجمع البيان الأول بعينه عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير وسفيان الثوري، والذي أراه أن هذا إن صح ليس من التفسير في شيء بل هو تأويل كتأويل المتصوفة لكثير من الآيات، وكل من عليّ وفاطمة رضي الله تعالى عنهما عندي أعظم من البحر المحيط علما وفضلا، وكذا كل من الحسنين رضي الله تعالى عنهما أبهى وأبهج من اللؤلؤ والمرجان بمراتب
__________
(1) هكذا بالأصل ولعله انس بن مالك فدخله التصحيف.

(14/106)


جاوزت حدّ الحسبان فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما في ذلك من الزينة والمنافع الجليلة فقد ذكر الأطباء أن اللُّؤْلُؤُ يمنع الخفقان والبحر وضعف الكبد والكلى والحصى وحرقة البول والسدد واليرقان وأمراض القلب والسموم والوسواس والجنون والتوحش والربو شربا والجذام والبرص والبهق والآثار مطلقا بالطلي إلى غير ذلك، وأن المرجان أعني بالبسذ يفرح ويزيل فساد الشهوة ولو تعليقا ونفث الدم والطحال شربا والدمعة والبياض والسلاق والجرب كحلا إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتبهم وَلَهُ الْجَوارِ السفن جمع جارية وخصها سبحانه بأنها له وهو تعالى له ملك السماوات والأرض وما فيهن للإشارة إلى أن كونهم هم منشئيها لا يخرجها من ملكه عز وجل حيث كان تمام منفعتها إنما هو منه عز وجل، وقرأ عبد الله والحسن وعبد الوارث عن أبي عمرو «الجوار» بإظهار الرفع على الراء لأن المحذوف لما تناسوه أعطوا ما قبل الآخر حكمه كما في قوله:
لها ثنايا أربع حسان ... وأربع فكلها ثمان
الْمُنْشَآتُ أي المرفوعات الشرع- كما قال مجاهد- من أنشأه بمعنى رفعه، وقيل: المرفوعات على الماء وليس بذاك، وكذا ما قيل المصنوعات، وقرأ الأعمش وحمزة وزيد بن علي وطلحة وأبو بكر بخلاف عنه «المنشآت» بكسر الشين أي الرافعات الشرع، أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن، أو اللاتي ينشئن السير إقبالا وإدبار، وفي الكل مجاز، وشدد الشين ابن أبي عبلة، وقرأ الحسن «المنشآت» وحد الصفة ودل على الجمع الموصوف كقوله تعالى: أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة: 25، آل عمران: 15، النساء: 57] وقلب الهمزة ألفا على حد قوله:
إن السباع لتهدأ في مرابضها يريد لتهدأ والتاء لتأنيث الصفة كتبت تاء على لفظها في الأصل فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ كالجبال الشاهقة جمع علم وهو الجبل الطويل فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من خلق مواد السفن والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها وترتيبها غيره سبحانه وتعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْها أي على الأرض التي وضعت للأنام من الحيوانات والمركبات ومَنْ للتغليب أو للثقلين فانٍ هالك وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ أي ذاته عز وجل، والمراد هو سبحانه وتعالى، فالإضافة بيانية وحقيقة الوجه في الشاهد الجارحة واستعماله في الذات مجاز مرسل كاستعمال الأيدي في الأنفس، وهو مجاز شائع، وقيل: أصله الجهة واستعماله في الذات من باب الكناية وتفسيره بالذات هنا مبني على مذهب الخلف القائلين بالتأويل، وتعيين المراد في مثل ذلك دون مذهب السلف، وقد قررناه لك غير مرة فتذكره وعض عليه بالنواجذ.
والظاهر أن الخطاب في- ربك- للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وفيه تشريف عظيم له عليه الصلاة والسلام، وقيل: هو للصالح له لعظم الأمر وفخامته، وفي الآية عند المؤولين كلام كثير منه ما سمعت، ومنه ما قيل:
الوجه بمعنى القصد ويراد به المقصود، أي ويبقى ما يقصد به ربك عز وجل من الأعمال، وحمل كلام من فسره بالعمل الصالح على ذلك وفيه ما فيه، وأقرب منه ما قيل: وجهه تعالى الجهة التي أمرنا عز وجل بالتوجه إليها والتقرب بها إليه سبحانه، ومرجع ذلك العمل الصالح أيضا والله جل شأنه يبقيه للعبد إلى أن يجازيه عليه ولذا وصف بالبقاء أو لأنه بالقبول صار غير قابل للفناء لما أن الجزاء عليه قام مقامه وهو باق، ولا يخفى أن كلا القولين غير مناسب للتعليم في كُلُّ مَنْ عَلَيْها وقيل: وجهه سبحانه الجهة التي يليها الحق أي يتولاها بفضله ويفيضها على الشيء من عنده أي إن ذلك باق دون الشيء في حدّ ذاته فإنه فان في كل وقت، وقيل: المراد بوجهه سبحانه وجهه الممكن وهي جهة حيثية ارتباطه وانتسابه إليه تعالى، والاضافة لأدنى ملابسة فالممكن في حدّ ذاته أي إذا اعتبر مستقلا غير مرتبط

(14/107)


بعلته أعني الوجود الحق كان معدوما لأن ظهوره إنما نشأ من العلة ولولاها لم يك شيئا مذكورا، وقول العلامة البيضاوي: لو استقريت جهات الموجودات وتفحصت وجوهها وجدتها بأسرها فانية في حد ذاتها إلا وجه الله تعالى أي الوجه الذي يلي جهته سبحانه محمول على ذلك عند بعض المحققين وإن كان قد فسر الوجه قبل بالذات، وللعلماء في تقرير كلامه اختلاف، فمنهم من يجعل قوله: لو استقريت إلخ تتمة لتفسيره الأول، ومنهم من يجعله وجها آخر، وهو على الأول أخذ بالحاصل، وعلى الثاني قيل: يحتمل التطبيق على كل من مذاهب في الممكنات الموجودة، وذلك أنها إما موجودة حقيقة بمعنى أنها متصفة بالوجود اتصافا حقيقيا بأن يكون الوجود زائدا عليها قائما بها، وهو مذهب جمهور الحكماء والمتكلمين، وإما موجودة مجازا وليس لها اتصاف حقيقي بالوجود بأن يكون الوجود قائما بها بل إطلاق الموجود عليها كإطلاق الشمس على الماء، وإليه ذهب المتألهون من الحكماء والمحققون من الصوفية إلا أن ذوق المتألهين أن علاقة المجاز أن لها نسبة مخصوصة إلى حضرة الوجود الواجبي على وجوه مختلفة وأنحاء شتى، والطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق، فالوجود عندهم جزئي حقيقي قائم بذاته لا يتصور عروضه لشيء ولا قيامه به ومعنى كون الممكن موجودا أنه مظهر له ومجلى ينجلي فيه نوره- فالله نور السماوات والأرض- والممكنات بمنزلة المرايا المختلفة التي تنعكس إليها أشعة الشمس وينصبغ كل منها بصبغ يناسبه، ومذاق المحققين من الصوفية أن علاقة المجاز أنها بمنزلة صفات قائمة بذات الواجب سبحانه إذ ليس في الوجود على مذاقهم ذوات متعددة بعضها واجب وبعضها ممكن بل ذات واحدة لها صفات متكثرة وشؤونات متعددة وتجليات متجددة قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [الأنعام: 91] والمشهور أنه لا فرق بين المذاقين.
ووجه التطبيق على الأول أن يقال: المراد من الوجه الذي يلي جهته تعالى هو الوجوب بالغير إذ الممكن- وإن كان موجودا حقيقة عند الجمهور- لكن وجوده مستفاد من الواجب بالذات، وجهة الاستفادة ليست هي الذات ولا شيئا آخر من الجهات والوجوه كالإمكان والمعلولية والجوهرية والعرضية والبساطة والتركيب وسائر الأمور العامة لأن كلا منها جهته الخسة، ومقتضى الفطرة الإمكانية البعيدة بمراحل عن الوجوب الذاتي المنافية له، وإنما جهة الشرف القريبة المناسبة للوجوب الذاتي جهة الوجوب بالغير فهو وجه يلي جهة الواجب ويناسبه في كونه وجوبا وإن كان بالغير، ولذا يعقبه فيضان الوجود، ولذا تسمعهم يقولون: الممكن ما لم يجب لو يوجد.
ووجه التطبيق على الثاني أن يقال: الوجه الذي يلي جهته تعالى هو تلك النسبة المخصوصة المصححة لإطلاق لفظ الموجود عليها ولو مجازا، فالمعنى كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ معدوم لا يصح أن يطلق لفظ الموجود عليه ولو مجازا إلا باعتبار الوجه الذي يلي جهته تعالى أي النسبة المخصوصة إلى حضرته تعالى وهي كونه مظهرا له سبحانه، ووجه التطبيق على الثالث أن يقال: المراد بالوجه الذي يلي جهته تعالى كونها شؤونات واعتبارات له تعالى.
فالمعنى كُلُّ مَنْ عَلَيْها معدوم من جميع الوجوه والاعتبارات إلا من الوجه الذي يلي جهته سبحانه والاعتبار الذي يحصل مقيسا إليه عز وجل، وهو كونه شأنا من شؤونه واعتبارا من اعتباراته جل شأنه فتأمل مستعينا بالله عز وجل.
ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ أي يجعله الموحدون عن التشبيه بخلقه ويثبتون له ما يليق بشأنه تعالى شأنه فهذا راجع إلى ما له سبحانه من التعظيم في قلوب من عرفه عز وجل أو الذي يقال في شأنه: ما أجلك وما أكرمك أي هو سبحانه من يستحق أن يقال في شأنه ذلك قيل أو لم يقل فهو راجع إلى ما له تعالى من الكمال في نفسه باعتبار قصور الإدراك عن شأوه، أو من عنده الجلال والإكرام للموحدين فهو راجع إلى الفعل أي يجل الموحدين ويكرمهم، وفسر

(14/108)


يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)

بعض المحققين الْجَلالِ بالاستغناء المطلق وَالْإِكْرامِ بالفضل التام وهذا ظاهر، ووجه الأول بأن الجلال العظمة وهي تقتضي ترفعه تعالى عن الموجودات ويستلزم أنه سبحانه غني عنها، ثم ألحق بالحقيقة، ولذا قال الجوهري: عظمة الشيء الاستغناء عن غيره وكل محتاج حقير، وقال الكرماني: إنه تعالى له صفات عدمية مثل لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام: 163] وتسمى صفات الجلال لما أنها تؤدي بجلّ عن كذا جل عن كذا وصفات وجوديه- كالحياة والعلم- وتسمى صفات الإكرام، وفيه تأمل.
والظاهر أن ذُو صفة للوجه، ويتضمن الوصف بما ذكر على ما ذكره البعض الإشارة إلى أن فناء مَنْ عَلَيْها لا يخل بشأنه عز وجل لأنه الغني المطلق، والاشارة إلى أنه تعالى بعد فنائهم يفيض على الثقلين من آثار كرمه ما يفيض وذلك يوم القيامة، ووصف الوجه بما وصف يبعد كونه عبارة عن العمل الصالح أو الجهة على ما سمعت آنفا وكأن من يقول بذلك يقول: ذُو خبر مبتدأ محذوف هو ضمير راجع إلى الرب وهو في الأصل صفة له، ثم قطعت عن التبعية، ويؤيده قراءة أبيّ وعبد الله- ذي الجلال- بالياء على أنه صفة تابعة للرب، وذكر الراغب أن هذا الوصف قد خص به عز وجل ولم يستعمل في غيره، فهو من أجلّ أوصافه سبحانه، ويشهد له ما
رواه الترمذي عن أنس والإمام أحمد عن ربيعة بن عامر مرفوعا «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام»
أي الزموه واثبتوا عليه وأكثروا من قوله والتلفظ به في دعائكم،
وروى الترمذي وأبو داود والنسائي عن أنس «أنه كان مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورجل يصلي ثم دعا فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم لأصحابه: أتدرون بما دعا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال:
والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى» .
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما يتضمنه ما ذكر فإن الفناء باب للبقاء، والحياة الأبدية، والإثابة بالنعمة السرمدية، وقال الطيبي: المراد من الآية السابقة ملزوم معناها لأنها كناية عن مجيء وقت الجزاء وهو من أجلّ النعم، ولذلك خص الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ بالذكر لأنهما يدلان على الإثابة والعقاب المراد منها تخويف العباد وتحذيرهم من ارتكاب ما يترتب عليه العقاب، والتحذير من مثل ذلك نعمة، فلذا رتب عليها بالفاء قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ إلخ، وليس بذاك.

(14/109)


يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قاطبة ما يحتاجون إليه في ذواتهم حدوثا وبقاء وفي سائر أحوالهم سؤالا مستمرا بلسان المقال أو بلسان الحال فإنهم كافة من حيث حقائقهم الممكنة بمعزل من استحقاق الوجود وما يتفرع عليه من الكمالات بالمرة بحيث لو انقطع ما بينهم وبين العناية الإلهية من العلاقة لم يشموا رائحة الوجود أصلا فهم في كل آن سائلون.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي صالح يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ الرحمة، ومن في- الأرض- المغفرة والرزق، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج يَسْئَلُهُ الملائكة عليهم السلام الرزق لأهل الأرض والمغفرة.
وأهل الأرض يسألونهما جميعا وما تقدم أولى. ولا دليل على التخصيص.
والظاهر أن الجملة استئناف. وقيل: هي حال من- الوجه- والعامل فيها يَبْقى أي هو سبحانه دائم في هذه الحال، ولا يخفى حاله على ذي تمييز كُلَّ يَوْمٍ كل وقت من الأوقات ولحظة من اللحظات.
هُوَ فِي شَأْنٍ من الشؤون التي من جملتها إعطاء ما سألوا فإنه تعالى لا يزال ينشىء أشخاصا، ويفني آخرين ويأتي بأحوال ويذهب بأحوال حسبما تقتضيه مشيئته عز وجل المبنية على الحكم البالغة،
وأخرج البخاري في تاريخه وابن ماجه ابن حيان وجماعة عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: «من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين» زاد البزار «ويجيب داعيا»
، وقيل: إن لله تعالى في كل يوم ثلاث عساكر: عسكر من الأصلاب إلى الأرحام، وعسكر من الأرحام إلى الدنيا، وعسكر من الدنيا إلى القبور. والظاهر أن المراد بيان كثرة شؤونه تعالى في الدنيا فكل يوم على معنى كل وقت من أوقات الدنيا.
وقال ابن عيينة: الدهر عند الله تعالى يومان: أحدهما اليوم الذي هو مدة الدنيا فشأنه فيه الأمر والنهي والإماتة والاحياء. وثانيهما اليوم الذي هو يوم القيامة فشأنه سبحانه فيه الجزاء والحساب، وعن مقاتل إن الآية نزلت في اليهود قالوا: إن الله تعالى لا يقضي يوم السبت شيئا فرد عز وجل عليهم بذلك، وسأل عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن الجمع بين هذه الآية وما صح من أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة فقال: شؤون يبديها لا شؤون يبتديها، وانتصب كُلَّ يَوْمٍ على الظرف، والعامل فيه هو العامل في قوله تعالى فِي شَأْنٍ، وهُوَ ثابت المحذوف: فكأنه قيل هو ثابت في شأن كل يوم فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما يسعف به سؤالكما وما يخرج لكما بيديه من مكمن العدم حينا فحينا سَنَفْرُغُ لَكُمْ الفراغ في اللغة يقتضي سابقة شغل.
والفراغ للشيء يقتضي لا حقيقته أيضا، والله سبحانه لا يشغله شأن عن شأن فجعل انتهاء الشؤون المشار إليها بقوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ يوم القيامة إلى واحد هو جزاء المكلفين فراغا لهم على سبيل التمثيل لأن من ترك أشغاله إلى شغل واحد يقال: فرغ له وإليه فشبه حال هؤلاء- وأخذه تعالى في جزائهم فحسب- بحال من فرغ له، وجازت الاستعارة التصريحية التبعية في سَنَفْرُغُ بأن يكون المراد سنأخذ في جزائكم فقط الاشتراك الأخذ في الجزاء فقط، والفراغ عن جميع المهام إلى واحد في أن المعنى به ذلك الواحد، وقيل: المراد التوفر في الانتقام والنكاية، وذلك أن الفراغ للشيء يستعمل في التهديد كثيرا كأنه فرغ عن كل شيء لأجله فلم يبق له شغل غيره فيدل

(14/110)


على التوفر المذكور، وهو كناية فيمن يصح عليه، ومجاز في غيره كالذي نحن فيه، ولعل مراد ابن عباس والضحاك بقولهما- كما أخرج ابن جرير عنهما- هذا وعيد من الله تعالى لعباده ما ذكر، والخطاب عليه قيل: للمجرمين، وتعقب بأن النداء الآتي يأباه، نعم المقصود بالتهديد هم، وقيل: لا مانع من تهديد الجميع، ثم إن هذا التهديد إنما هو بما يكون يوم القيامة، وقول ابن عطية: يحتمل أن يكون ذلك توعدا بعذاب الدنيا مما لا يكاد يلتفت إليه، وقيل:
إن فرغ يكون بمعنى قصد، واستدل عليه بما أنشده ابن الأنباري لجرير:
ألان وقد فرغت إلى نمير ... فهذا حين كنت لهم عذابا
أي قصدت، وأنشد النحاس:
فرغت إلى العبد المقيد في الحجل
وفي الحديث «لأتفرغن لك يا خبيث»
قاله صلى الله تعالى عليه وسلم مخاطبا به أزب العقبة يوم بيعتها أي لأقصدن إبطال أمرك، ونقل هذا عن الخليل والكسائي والفراء، والظاهر أنهم حملوا ما في الآية على ذلك، فالمراد حينئذ تعلق الإرادة تعلقا تنجيزيا بجزائهم، وقرأ حمزة والكسائي وأبو حيوة وزيد بن علي- سيفرغ- بياء الغيبة، وقرأ قتادة والأعرج «سنفرغ» بنون العظمة وفتح الراء مضارع فرغ بكسرها- وهو لغة تميم- كما أن سَنَفْرُغُ في قراءة الجمهور مضارع فرغ بفتحها لغة الحجاز، وقرأ أبو السمال وعيسى «سنفرغ» بكسر النون وفتح الراء وهي- على ما قال أبو حاتم- لغة سفلى مضر، وقرأ الأعمش وأبو حيوة بخلاف عنهما وابن أبي عبلة والزعفراني «سيفرع» بضم الياء وفتح الراء مبنيا للمفعول وقرأ عيسى أيضا «سنفرع» بفتح النون وكسر الراء، والأعرج أيضا- سيفرغ- بفتح الياء والراء وهي لغة، وقرىء سأفرغ بهمزة المتكلم وحده، وقرأ أبيّ «سنفرغ» إليكم عداه بإلى فقيل: للحمل على القصد، أو لتضمينه معناه أي سَنَفْرُغُ قاصدين إليكم أَيُّهَ الثَّقَلانِ هما الإنس والجن من ثقل الدابة وهو ما يحمل عليها جعلت الأرض كالحمولة والإنس والجن ثقلاها، وما سواهما على هذا كالعلاوة، وقال غير واحد: سميا بذلك لثقلهما على الأرض، أو لرزانة رأيهما وقدرهما وعظم شأنهما. ويقال لكل عظيم القدر مما يتنافس فيه: ثقل، ومنه
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي»
وقيل: سميا بذلك لأنهما مثقلان بالتكليف، وعن الحسن لثقلهما بالذنوب فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ التي من جملتها التنبيه على ما ستلقونه يوم القيامة للتحذير عما يؤدي إلى سوء الحساب يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ هما الثقلان خوطبا باسم جنسهما لزيادة التقرير ولأن الجن مشهورون بالقدرة على الأفاعيل الشاقة فخوطبوا بما ينبىء عن ذلك لبيان أن قدرتهم لا تفي بما كلفوه وكأنه لما ذكر سبحانه أنه مجاز للعباد لا محالة عقب عز وجل ذلك ببيان أنهم لا يقدرون على الخلاص من جزائه وعقابه إذا أراده فقال سبحانه: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ إن قدرتم، وأصل الاستطاعة طلب طواعية الفعل وتأتيه.
أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض هاربين من الله تعالى فارّين من قضائه سبحانه فَانْفُذُوا فاخرجوا منها وخلصوا أنفسكم من عقابه عز وجل، والأمر للتعجيز لا تَنْفُذُونَ لا تقدرون على النفوذ إِلَّا بِسُلْطانٍ أي بقوة وقهر وأنتم عن ذلك بمعزل وألف ألف منزل، روي أن الملائكة عليهم السلام ينزلون يوم القيامة فيحيطون بجميع الخلائق فإذا رآهم الجن والإنس هربوا فلا يأتون وجها إلا وجدوا الملائكة أحاطت به، وقيل: هذا أمر يكون في الدنيا، قال الضحاك: بينما الناس في أسواقهم انفتحت السماء ونزلت الملائكة فتهرب الجن والإنس فتحدق بهم الملائكة وذلك قبيل قيام الساعة، وقيل: المراد إن استطعتم الفرار من الموت ففروا، وقيل: المعنى إن قدرتم أن تنفذوا لتعلموا بما في السماوات والأرض فنفذوا لتعلموا لكن لا

(14/111)


تَنْفُذُونَ
ولا تعلمون إلا ببينة وحجة نصبها الله تعالى فتعرجون عليها بأفكاركم، وروي ما يقاربه عن ابن عباس والأنسب بالمقام لا يخفى.
وقرأ زيد بن علي إن استطعتما رعاية للنوعين وإن كان تحت كل أفراد كثيرة والجمع لرعاية تلك الكثرة وقد جاء كل في الفصيح نحو قوله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما [الحجرات: 9] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة على العقوبة، وقيل: على الوجه الأخير فيما تقدم أي مما نصب سبحانه من المصاعد العقلية والمعارج النقلية فتنفذون بها إلى ما فوق السماوات العلا يُرْسَلُ عَلَيْكُما استئناف في جواب سؤال مقدر عن الداعي للفرار أو عما يصيبهم أي يصب عليكما شُواظٌ هو اللهب الخالص كما روي عن ابن عباس، وأنشد عليه أبو حيان قول حسان:
هجوتك فاختضعت لنا بذل ... بقافية تأجج كالشواظ
وقيل: اللهب المختلط بالدخان، وقال مجاهد: اللهب الأحمر المنقطع، وقيل: اللهب الأخضر، وقال الضحاك: الدخان الذي يخرج من اللهب، وقيل: هو النار والدخان جميعا، وقرأ عيسى وابن كثير وشبل «شواظ» بكسر الشين مِنْ نارٍ متعلق- بيرسل- أو بمضمر هو صفة- لشواظ- و «من» ابتدائية أي كائن من نار والتنوين للتفخيم وَنُحاسٌ هو الدخان الذي لا لهب فيه كما قاله ابن عباس لنافع بن الأزرق وأنشد له قول الأعشى، أو النابغة الجعدي:
تضيء كضوء السراج السلي ... ط لم يجعل الله فيه نحاسا
وروي عنه أيضا، وعن مجاهد أنه الصفر المعروف أي يصب على رؤوسكما صفر مذاب، والراغب فسره باللهب بلا دخان ثم قال: وذلك لشبهه في اللون بالنحاس، وقرأ ابن أبي إسحاق والنخعي وابن كثير وأبو عمرو «ونحاس» بالجر على أنه عطف على نار، وقيل: على شُواظٌ وجر للجوار فلا تغفل.
وقرأ الكلبي وطلحة ومجاهد بالجر أيضا لكنهم كسروا النون وهو لغة فيه، وقرأ ابن جبير- ونحس- كما تقول يوم نحس، وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة وابن أبي إسحاق أيضا «ونحس» مضارعا، وماضيه حسه أي قتله أي ونقتل بالعذاب، وعن ابن أبي إسحاق أيضا- ونحس- بالحركات الثلاث في الحاء على التخيير وحنظلة بن عثمان- ونحس- بفتح النون وكسر السين، والحسن وإسماعيل- ونحس- بضمتين والكسر، وهو جمع- نحاس- كلحاف ولحف، وقرأ زيد بن علي- نرسل- بالنون- شواظا- بالنصب- ونحاسا- كذلك عطفا على شواظا فَلا تَنْتَصِرانِ فلا تمتنعان وهذا عند الضحاك في الدنيا أيضا.
أخرج ابن أبي شيبة عنه أنه قال في الآية: تخرج نار من قبل المغرب تحشر الناس حتى إنها لتحشر القردة والخنازير تبيت معهم حيث باتوا وتقيل حيث قالوا، وقال في البحر: المراد تعجيز الجن والإنس أي أنتما بحال من يرسل عليه هذا فلا يقدر على الامتناع مما يرسل عليه فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإن التهديد لطف والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار من عداد الآلاء فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ أي انصدعت يوم القيامة، وحديث امتناع الخرق حديث خرافة، ومثله ما يقوله أهل الهيئة اليوم في السماء على أن الانشقاق فيها على زعمهم أيضا متصور فَكانَتْ وَرْدَةً أي كالوردة في الحمرة، والمراد بها النور المعروف قاله الزجاج وقتادة، وقال ابن عباس وأبو صالح: كانت مثل لون الفرس الورد، والظاهر أن مرادهما كانت حمراء.

(14/112)


وقال الفراء: أريد لون الفرس الورد يكون في الربيع إلى الصفرة، وفي الشتاء إلى الحمرة، وفي اشتداد البرد إلى الغبرة فشبه تلون السماء بتلون الورد من الخيل، وروي هذا عن الكلبي أيضا، وقال أبو الجوزاء: وَرْدَةً صفراء والمعول عليه إرادة الحمرة، ونصب وَرْدَةً على أنه خبر- كان- وفي الكلام تشبيه بليغ، وقرأ عبيد بن عمير «وردة» بالرفع على أن- كان- تامة أي فحصلت سماء وردة فيكون من باب التجريد لأنه بمعنى كانت منها، أو فيها سماء وردة مع أن المقصود أنها نفسها كذلك فهو كقول قتادة بن مسلمة:
فلئن بقيت لأرحلن بغزوة ... نحو المغانم أو يموت كريم
حيث عنى بالكريم نفسه، وقوله تعالى: كَالدِّهانِ خبر ثان لكانت- أو نعت- لوردة- أو حال من اسم- كانت- على رأي من أجازه أي كدهن الزيت كما قال تعالى: كَالْمُهْلِ [الكهف: 29، الدخان: 45، المعارج:
8] وهو دردي الزيت، وهو ما جمع دهن كقرط وقراط، أو اسم لما يدهن به كالحزام والأدام، وعليه قوله في وصف عينين كثيرتي التذارف:
كأنهما مزادتا متعجل ... فريان لما تدهنا بدهان
وهو الدهن أيضا إلا أنه أخص لأنه الدهن باعتبار إشرابه الشيء، ووجه الشبه الذوبان وهو في السماء على وقيل من حرارة جهنم وكذا الحمرة، وقيل: اللمعان، وقال الحسن: أي كالدهان المختلفة لأنها تتلون ألوانا وقال ابن عباس:
الدهان الأديم الأحمر ومنه قول الأعشى:
وأجرد من كرام الخيل طرف ... كأن على شواكله دهانا
وهو مفرد، أو جمع، واستدل للثاني بقوله:
تبعن الدهان الحمر كل عشية ... بموسم بدر أو بسوق عكاظ
وإذا شرطية جوابها مقدر أي كان ما كان مما لا تطيقه قوة البيان، أو وجدت أمرا هائلا، أو رأيت ما يذهل الناظرين وهو الناصب لإذا، ولهذا كان مفرعا ومسببا عما قبله لأن في إرسال الشواظ ما هو سبب لحدوث أمر هائل، أو رؤيته في ذلك الوقت فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإن الإخبار بنحو ما ذكر مما يزجر عن الشر فهو لطف أيّ لطف ونعمة أيّ نعمة فَيَوْمَئِذٍ أي يوم إذ تنشق السماء حسبما ذكر.
لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ لأنهم يعرفون بسيماهم وهذا في موقف، وما دل على السؤال من نحو قوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 92] في موقف آخر قاله عكرمة وقتادة، وموقف السؤال على ما قيل: عند الحساب، وترك السؤال عند الخروج من القبور، وقال ابن عباس: حيث ذكر السؤال فهو سؤال توبيخ وتقرير، وحيث نفي فهو استخبار فحض عن الذنب، وقيل: المنفي هو السؤال عن الذنب نفسه والمثبت هو السؤال عن الباعث عليه، وأنت تعلم أن في الآيات ما يدل على السؤال عن نفس الذنب.
وحكى الطبرسي عن الرضا رضي الله تعالى عنه أن من اعتقد الحق ثم أذنب ولم يتب عذب في البرزخ ويخرج يوم القيامة وليس له ذنب يسأل عنه، ولعمري إن الرضا لم يقل ذلك، وحمل الآية عليه مما لا يلتفت إليه بعين الرضا كما لا يخفى، وضمير ذنبه للإنس وهو متقدم رتبة لأنه نائب عن الفاعل، وإفراده باعتبار اللفظ، وقيل: لما أن المراد فرد من الإنس كأنه قيل: لا يسأل عن ذنبه إنسي ولا جني، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد- ولا جأن- بالهمزة فرارا من التقاء الساكنين وإن كان على حدّه فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يقال فيه نحو ما سمعت في سباقه

(14/113)


يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ استئناف يجري مجرى التعليل لانتفاء السؤال، والْمُجْرِمُونَ قيل: من وضع الظاهر موضع الضمير للإشارة إلى أن المراد بعض من الإنس وبعض من الجن وهم المجرمون فيكون ذلك كقوله تعالى: لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص: 78] ، وسيماهم- على ما روي عن الحسن سواد الوجوه وزرقة العيون، وقيل: ما يعلوهم من الكآبة والحزن، وجوز أن تكون أمورا أخر- كالعمى. والبكم. والصمم..
وقرأ حماد بن سليمان بسيمائهم فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي جمع ناصية وهي مقدم الرأس وَالْأَقْدامِ جمع قدم وهي قدم الرجل المعروفة والباء للآلة مثلها في أخذت بخطام الدابة، والجار والمجرور نائب الفاعل وقال أبو حيان: إن الباء للتعدية والفعل مضمن معنى ما يعدى بها أي فيسحب بالنواصي إلخ، وفيه بحث وظاهر كلام غير واحد أن- أل- عوض عن المضاف إليه الضمير أي بنواصيهم وأقدامهم، ونص عليه أبو حيان فقال:- أل- فيهما عوض عن الضمير على مذهب الكوفيين، والضمير محذوف على مذهب البصريين أي بالنواصي والأقدام منهم، وأنت تعلم أن الخلاف بين أهل البلدين فيما إذا احتيج إلى الضمير للربط ولا احتياج إليه هنا، نعم المعنى على الضمير وكيفية هذا الأخذ على ما روي عن الضحاك أن يجمع الملك بين ناصية أحدهم وقدميه في سلسلة من وراء ظهره ثم يكسر ظهره ويلقيه في النار، وقيل: تأخذ الملائكة عليهم السلام بعضهم سحبا بالناصية وبعضهم سحبا بالقدم، وقيل: تسحبهم الملائكة عليهم السلام تارة بأخذ النواصي وتارة بأخذ الأقدام، فالواو بمعنى أو التي للتقسيم وهو خلاف الظاهر، وإبهام الفاعل لأنه كالمتعين، وقيل: للرمز إلى عظمته
فقد أخرج ابن مردويه والضياء المقدسي في صفة النار عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «والذي نفسي بيده لقد خلقت ملائكة جهنم قبل أن تخلق جهنم بألف عام فهم كل يوم يزدادون قوة إلى قوتهم حتى يقبضوا على من قبضوا بالنواصي والأقدام»
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يقال فيه نحو ما تقدم، وقوله تعالى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ مقول قول مقدر معطوف على قوله تعالى: (يؤخذ) إلخ أي ويقال هذه إلخ أو مستأنف في جواب ماذا يقال لهم لأنه مظنة للتوبيخ والتقريع، أو حال من أصحاب النواصي بناء على أن التقدير نواصيهم أو النواصي منهم، وما في البين اعتراض على الأول والأخير وكان أصل الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ التي كذبتم بها فعدل عنه لما ذكر للدلالة على استمرار ذلك وبيان لوجه توبيخهم وعلته.
يَطُوفُونَ بَيْنَها أي يترددون بين نارها وَبَيْنَ حَمِيمٍ ماء حار آنٍ متناه إناه وطبخه بالغ في الحرارة أقصاها، قال قتادة: الحميم يغلي منذ خلق الله تعالى جهنم والمجرم ويعاقب بين تصلية النار وشرب الحميم، وقيل:
يحرقون في النار ويصب على رؤوسهم الحميم، وقيل: إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم، وقيل: يغمسون في واد في جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فتنخلع أوصالهم ثم يخرجون منه وقد أحدث الله تعالى لهم خلقا جديدا، وعن الحسن أنه قال: حَمِيمٍ آنٍ النحاس انتهى حره، وقيل: آنٍ حاضر.
وقرأ السلمي يطافون، والأعمش وطلحة وابن مقسم يَطُوفُونَ بضم الياء وفتح الطاء وكسر الواو مشددة، وقرىء «يطّوفون» أي يتطوفون فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هو أيضا كما تقدم وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ إلخ شروع في تعديد الآلاء التي تفاض في الآخرة، ومَقامَ مصدر ميمي بمعنى القيام مضاف إلى الفاعل أي وَلِمَنْ خافَ قيام ربه وكونه مهيمنا عليه مراقبا له حافظا لأحواله، فالقيام هنا مثله في قوله تعالى:
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرعد: 33] وهذا مروي عن مجاهد وقتادة، أو هو اسم مكان، والمراد به مكان وقوف الخلق في يوم القيامة للحساب، والإضافة إليه تعالى لامية اختصاصية لأن الملك له عز

(14/114)


وجل وحده فيه بحسب نفس الأمر، والظاهر والخلق قائمون له كما قال سبحانه: يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين: 6] منتظرون ما يحل عليهم من قبله جل شأنه، وزعم بعضهم أن الإضافة على هذا الوجه لأدنى ملابسة وليس بشيء، وقيل: المعنى وَلِمَنْ خافَ مقامه عند ربه على أن المقام مصدر أو اسم مكان وهو للخائف نفسه، وإضافته للرب لأنه عنده تعالى فهي مثلها في قولهم: شاة رقود الحلب، وهي بمعنى- عند- عند الكوفيين أي رقود عند الحلب، وبمعنى اللام عند الجمهور كما صرح به شراح التسهيل وليست لأدنى ملابسة كما زعم أيضا، ثم إن المراد بالعندية هنا مما لا يخفى، وجوز أن يكون مقحما على سبيل الكناية، فالمراد ولمن خاف ربه لكن بطريق برهاني بليغ، ومثله قول الشماخ:
ذعرت به القطا ونقيت عنه ... مقام الذئب كالرجل اللعين (1)
وهو الأظهر على ما ذكره صاحب الكشف، والظاهر أن المراد ولكل فرد فرد من الخائفين: جَنَّتانِ فقيل:
إحداهما منزله ومحل زيارة أحبابه له، والأخرى منزل أزواجه وخدمه، وإليه ذهب الجبائي، وقيل: بستانان بستان داخل قصره وبستان خارجه، وقيل: منزلان ينتقل من أحدهما إلى الآخر لتتوفر دواعي لذته وتظهر ثمار كرامته، وأي هذا ممن يطوف بين النار، وبين حميم آن؟؟.
وجوز أن يقال: جنة لعقيدته وجنة لعمله، أو جنة لفعل الطاعات وجنة لترك المعاصي، أو جنة يثاب بها وأخرى يتفضل بها عليه، أو إحداهما روحانية والأخرى جسمانية، ولا يخفى أن الصفات الآتية ظاهرة في الجسمانية.
وقال مقاتل: جنة عدن وجنة نعيم، وقيل: المراد لكل خائفين منكما جنتان جنة للخائف الإنسي وجنة للخائف الجني، فإن الخطاب للفريقين، وهذا عندي خلاف الظاهر، وفي الآثار ما يبعده، فقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الحسن أنه كان شاب على عهد عمر رضي الله تعالى عنه ملازم للمسجد والعبادة فعشقته جارية فأتته في خلوة فكلمته فحدثته نفسه بذلك فشهق شهقة فغشي عليه فجاء عم له فحمله إلى بيته فلما أفاق قال: يا عم انطلق إلى عمر فأقرئه مني السلام وقل له ما جزاء من خاف مقام ربه؟ فانطلق فأخبر عمر وقد شهق الفتى شهقة أخرى فمات فوقف عليه عمر رضي الله تعالى عنه فقال: لك جنتان لك جنتان.
والخوف في الأصل توقع مكروه عند أمارة مظنونة أو معلومة ويضاده الأمن قال الراغب: والخوف من الله تعالى لا يراد به ما يخطر بالبال من الرعب كاستشعار الخوف من الأسد بل إنما يراد به الكف عن المعاصي وتحري الطاعات، ولذلك قيل: لا يعد خائفا من لم يكن للذنوب تاركا، ويؤيد هذا تفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الخائف هنا كما أخرج ابن جرير عنه بمن ركب طاعة الله تعالى وترك معصيته.
وقول مجاهد: هو الرجل يريد الذنب فيذكر الله تعالى فيدع الذنب، والذي يظهر أن ذلك تفسير باللازم، وقد يقال: إن ارتكاب الذنب قد يجامع الخوف من الله تعالى وذلك كما إذا غلبته نفسه ففعله خائفا من عقابه تعالى عليه، وأيد ذلك بما
أخرجه أحمد والنسائي والطبراني والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن أبي شيبة وجماعة عن أبي الدرداء «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ هذه الآية وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فقلت: وإن زنى وإن سرق
__________
(1) ضمير «هـ» و «عنه» راجع الى الماء في البيت قبله وماء قد وردت لوصل أروى عليه الطير كالورق اللجين وهو من قصيدة للشماخ مدح بها عرابة بن أوس الخزرجي والشاهد في قوله: «مقام الذئب» .

(14/115)


يا رسول الله؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: الثانية وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فقلت: وإن زنى وإن سرق؟
فقال الثالثة: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فقلت وإن زنى وإن سرق؟ قال: نعم وإن رغم أنف أبي الدرداء»
وأخرج الطبراني وابن مردويه من طريق الجريري عن أخيه قال: سمعت محمد بن سعد يقرأ- ولمن خاف مقام ربه جنتان وإن زنى وإن سرق- فقلت: ليس فيه وإن زنى وإن سرق فقال: سمعت أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه يقرؤها كذلك فأنا أقرؤها كذلك حتى أموت، وصرح بعضهم أن المراد بالخوف في الآية أشده فتأمل. وجاء في شأن هاتين الجنتين من
حديث عياض بن غنم مرفوعا «إن عرض كل واحدة منهما مسيرة مائة عام»
والآية على ما روي عن ابن الزبير وابن شوذب نزلت في أبي بكر.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن عطاء أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ذكر ذات يوم وفكر في القيامة والموازين والجنة والنار وصفوف الملائكة وطي السماوات ونسف الجبال وتكوير الشمس وانتثار الكواكب فقال: وددت أني كنت خضرا من هذه الخضر تأتي عليّ بهيمة فتأكلني وأني لم أخلق فنزلت وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ذَواتا أَفْنانٍ صفة لجنتان وما بينهما اعتراض وسط بينهما تنبيها على أن تكذيب كل من الموصوف والصفة موجب للإنكار والتوبيخ، وجوز أن يكون خبر مبتدأ مقدر أي هما ذواتا، وأيا ما كان فهو تثنية- ذات- بمعنى صاحبة فإنه إذا ثنى فيه لغتان ذاتا على لفظه وهو الأقيس كما يثنى مذكره ذوا، والأخرى ذَواتا برده إلى أصله فإن التثنية ترد الأشياء إلى أصولها، وقد قالوا:
أصل ذات ذوات لكن حذفت الواو تخفيفا وفرقا بين الواحد والجمع ودلت التثنية ورجوع الواو فيها على أصل الواحد وليس هو تثنية الجمع كما يتوهم وتفصيله في باب التثنية من شرح التسهيل، والأفنان إما جمع فن بمعنى النوع ولذا استعمل في العرف بمعنى العلم أي ذواتا أنواع من الأشجار والثمار، وروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير والضحاك وعليه قول الشاعر:
ومن كل أفنان اللذاذة والصبا ... لهوت به والعيش أخضر ناضر
وإما جمع فنن وهو ما دق ولان من الأغصان كما قال ابن الجوزي، وقد يفسر بالغصن، وحمل على التسامح وتخصيصها بالذكر مع أنها ذواتا قصب وأوراق وثمار أيضا لأنها هي التي تورق وتثمر. فمنها تمتد الظلال ومنها تجنى الثمار ففي الوصف تذكير لهما فكأنه قيل: ذَواتا ثمار وظلال لكن على سبيل الكناية هو أخصر وأبلغ، وتفسيره بالأغصان على أنه جمع فنن مروي عن ابن عباس أيضا، وأخرجه ابن جرير عن مجاهد قال أبو حيان: وهو أولى لأن أفعالا في فعل أكثر منه في فعل بسكون العين كفن، ويجمع هو على فنون.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ صفة أخرى لجنتان أو خبر ثان للمبتدأ المقدر أي في كل منهما عين تجري بالماء الزلال تسمى إحدى العينين بالتسنيم، والأخرى بالسلسبيل، وروي هذا عن الحسن، وقال عطية العوفي: عَيْنانِ إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين، وقيل: عَيْنانِ من الماء تَجْرِيانِ حيث شاء صاحبهما من الأعالي والأسافل من جبل من مسك، وعن ابن عباس عَيْنانِ مثل الدنيا أضعافا مضاعفة تَجْرِيانِ بالزيادة والكرامة على أهل الجنة.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ صنفان معروف وغريب لم يعرفوه في الدنيا، أو رطب ويابس ولا يقصر يابسه عن رطبه في الفضل والطيب، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قال ابن عباس في هذه الآية: ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل، ونقل هذا

(14/116)


في البحر عن ابن عباس أيضا إلا أنه حلو، والجملة كالجملة التي قبلها.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ حال من قوله تعالى:- ولمن خاف- وجمع رعاية للمعنى بعد الإفراد رعاية اللفظ، وقيل: العامل محذوف أي يتنعمون متكئين، وقيل: مفعول به بتقدير أعني، والاتكاء من صفات المتنعم الدالة على صحة الجسم وفراغ القلب، والمعنى متكئين في منازلهم عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ من ديباج ثخين قال ابن مسعود- كما رواه عنه جمع وصححه الحاكم- أخبرتم بالبطائن فكيف بالظهائر، وقيل: ظهائرها من سندس، عن ابن جبير من نور جامد،
وفي حديث من نور يتلألأ
وهو إن صح وقف عنده.
وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنه قيل له: بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ فماذا الظواهر؟ قال: ذلك مما قال الله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] وقال الحسن: البطائن هي الظهائر وروي عن قتادة، وقال الفراء: قد تكون البطانة الظهارة والظهارة البطانة لأن كلا منهما يكون وجها والعرب تقول: هذا ظهر السماء وهذا بطن السماء، والحق أن البطائن هنا مقابل الظهائر على الوجه المعروف، وقرأ أبو حيوة «فرش» بسكون الراء، وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال: قرأ عبد الله على «سرر. وفرش بطائنها من إستبرق» وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ أي ما يجنى ويؤخذ من أشجارهما من الثمار، فجنى اسم أو صفة مشبهة بمعنى المجني دانٍ قريب يناله القائم والقاعد والمضطجع، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولي الله تعالى إن شاء قائما وإن شاء قاعدا وإن شاء مضطجعا، وعن مجاهد ثمار الجنتين دانية إلى أفواه أربابها فيتناولونها متكئين فإذا اضطجعوا نزلت بإزاء أفواههم فيتناولونها مضطجعين لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك، وقرأ عيسى «وجني» بفتح الجيم وكسر النون كأنه أمال النون وإن كانت الألف قد حذفت في اللفظ كما أمال أبو عمرو حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:
55] وقرىء «وجني» بكسر الجيم وهو لغة فيه.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ أي الجنان المدلول عليها بقوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فإنه يلزم من أنه لكل خائف جنتان تعدد الجنان، وكذا على تقدير أن يكون المراد لكل خائفين من الثقلين جنتان لا سيما وقد تقدر اعتبار الجمعية في قوله تعالى: مُتَّكِئِينَ وقال الفراء: الضمير لجنتان، والعرب توقع ضمير الجمع على المثنى ولا حاجة إليه بعد ما سمعت، وقيل: الضمير للبيوت والقصور المفهومة من الجنتين أو للجنتين باعتبار ما فيهما مما ذكر، وقيل: يعود على الفرش، قال أبو حيان: وهذا قول حسن قريب المأخذ، وتعقب بأن المناسب للفرش- على- وأجيب بأنه شبه تمكنهن على الفرش بتمكن المظروف في الظرف وإيثار للإشعار بأن أكثر حالهن الاستقرار عليها، ويجوز أن يقال: الظرفية للإشارة إلى أن الفرش إذا جلس عليها ينزل مكان الجالس منها ويرتفع ما أحاط به حتى يكاد يغيب فيها كما يشاهد في فرش الملوك المترفهين التي حشوها ريش النعام ونحوه، وقيل:
الضمير للآلاء المعدودة من- الجنتين. والعينين. والفاكهة والفرش. والجني والمراد معهن قاصِراتُ الطَّرْفِ أي نساء يقصرن أبصارهم على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم، أو يقصرن طرف الناظر إليهن عن التجاوز إلى غيرهن، قال ابن رشيق في قول امرئ القيس:
من القاصرات الطرف لو دب محول ... من الذر فوق الأنف منها لأثرا
أراد بالقاصرات الطرف أنها منكسرة الجفن خافضة النظر غير متطلعة لما بعد ولا ناظرة لغير زوجها، ويجوز أن يكون معناه أن طرف الناظر لا يتجاوزها كقول المتنبي:
وخصر تثبت الأبصار فيه ... كأن عليه من حدق نطاقا

(14/117)


انتهى فلا تغفل، والأكثرون على أول المعنيين اللذين ذكرناهما بل في بعض الأخبار ما يدل على أنه تفسير نبوي.
أخرج ابن مردويه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في ذلك «لا ينظرن إلا إلى أزواجهن»
ومتى صح هذا ينبغي قصر الطرف عليه، وفي بعض الآثار تقول الواحدة منهن لزوجها:
وعزة ربي ما أرى في الجنة أحسن منك فالحمد لله الذي جعلني زوجك وجعلك زوجي، والطَّرْفِ في الأصل مصدر فلذلك وحد لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ قال ابن عباس: لم يفتضهن قبل أزواجهن إنس ولا جان، وفيه إشارة إلى أن ضمير قبلهن للأزواج، ويدل عليه قاصِراتُ الطَّرْفِ وفي البحر هو عائد على من عاد عليه الضمير في مُتَّكِئِينَ، وأصل الطمث خروج الدم ولذلك يقال للحيض طمث، ثم أطلق على جماع الأبكار لما فيه من خروج الدم، وقيل: ثم عمم لكل جماع، وهو المروي هنا عن عكرمة، وإلى الأول ذهب الكثير، وقيل: إن التعبير به للإشارة إلى أنهن يوجدن أبكارا كلما جومعن، ونفي طمثهن عن الإنس ظاهر، وأما عن الجن فقال مجاهد والحسن: قد تجامع الجن نساء البشر مع أزواجهم إذا لم يذكر الزوج اسم الله تعال فنفى هنا جميع المجامعين وقيل:
لا حاجة إلى ذلك إذ يكفي في نفي الطمث عن الجن إمكانه منهم، ولا شك في إمكان جماع الجني إنسية بدون أن يكون مع زوجها الغير الذاكر اسم الله تعالى، ويدل على ذلك ما رواه أبو عثمان سعيد بن داود الزبيدي قال: كتب قوم من أهل اليمن إلى مالك يسألونه عن نكاح الجن وقالوا: إن هاهنا رجلا من الجن يزعم أنه يريد الحلال فقال ما أرى بذلك بأسا في الدين ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل قيل: من زوجك؟ قالت: من الجن فيكثر الفساد في الإسلام، ثم إن دعوى أن الجن تجامع نساء البشر جماعا حقيقيا مع أزواجهم إذا لم يذكروا اسم الله تعالى غير مسلمة عند جميع العلماء، وقوله تعالى: وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ [الإسراء: 64] غير نص في المراد كما لا يخفى، وقال ضمرة بن حبيب: الجن في الجنة لهم قاصرات الطرف من الجن نوعهم، فالمعنى لم يطمث الإنسيات أحد من الإنس، ولا الجنيات أحد من الجن قبل أزواجهن، وقد أخرج نحو هذا عنه ابن أبي حاتم، وظاهره أن ما للجن لسن من الحور.
ونقل الطبرسي عنه أنهن من الحور وكذا الإنسيات، ولا مانع من أن يخلق الله تعالى في الجنة حورا للإنس يشاكلنهم يقال لهن لذلك إنسيات، وحورا للجن يشاكلنهم يقال لهن لذلك جنيات، ويجوز أن تكون الحور كلهن نوعا واحدا ويعطى الجني منهن لكنه في تلك النشأة غيره في هذه النشأة، ويقال: ما يعطاه الإنسي منهن لم يطمثها إنسي قبله، وما يعطاه الجني لم يطمثها جني قبله وبهذا فسر البلخي الآية، وقال الشعبي والكلبي: تلك القاصرات الطرف من نساء الدنيا لم يمسسهن منذ أنشئن النشأة الآخرة خلق قبل والذي يعطاه الإنسي زوجته المؤمنة التي كانت له في الدنيا ويعطى غيرها من نسائها المؤمنات أيضا، ويبعد أن يعطى الجني من نساء الدنيا الإنسانيات في الآخرة.
والذي يغلب على الظن أن الإنسي يعطي من الإنسيات والحور والجني يعطى من الجنيات والحور ولا يعطى إنسي جنية، ولا جني إنسية وما يعطاه المؤمن إنسيا كان أو جنيا من الحور شيء يليق به وتشتهيه نفسه، وحقيقة تلك النشأة وراء ما يخطر بالبال، واستدل بالآية على أن الجن يدخلون الجن ويجامعون فيها كالإنس فهم باقون فيها منعمين كبقاء المعذبين منهم في النار، وهو مقتضى ظاهر ما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد وابن أبي ليلى والأوزاعي. وعليه الأكثر- كما ذكره العيني في شرح البخاري- من أنهم يثابون على الطاعة ويعاقبون

(14/118)


فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72)

على المعصية، ويدخلون الجنة فإن ظاهره أنهم كالإنس يوم القيامة، وعن الإمام أبي حنيفة ثلاث روايات الاولى أنهم لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ثم يقال لهم كونوا ترابا كسائر الحيوانات، الثانية أنهم من أهل الجنة ولا ثواب لهم أي زائد على دخولها، الثالثة التوقف قال الكردري: وهو في أكثر الروايات، وفي فتاوى أبي إسحاق ابن الصفار أن الإمام يقول: لا يكونون في الجنة ولا في النار ولكن في معلوم الله تعالى.
ونقل عن مالك وطائفة أنهم يكونون في ربض الجنة، وقيل: هم أصحاب الأعراف، وعن الضحاك أنهم يلهمون التسبيح والذكر فيصيبون من لذته ما يصيبه بنو آدم من نعيم الجنة وعلى القول بدخولهم الجنة قيل:
نراهم ولا يرونا عكس ما كانوا عليه في الدنيا، وإليه ذهب الحارث المحاسبي، وفي اليواقيت الخواص منهم يرونا كما أن الخواص منا يرونهم في الدنيا، وعلى القول بأنهم يتنعمون في الجنة قيل: إن تنعمهم بغير رؤيته عز وجل فإنهم لا يرونه، وكذا الملائكة عليهم السلام ما عدا جبريل عليه السلام فإنه يراه سبحانه مرة ولا يرى بعدها على ما حكاه أبو إسحاق إبراهيم بن الصفار في فتاويه عن أبيه، والأصح ما عليه الأكثر مما قدمناه وأنهم لا فرق بينهم وبين البشر في الرؤية وتمامه في محله، وقرأ طلحة وعيسى وأصحاب عبد الله «يطمثهن» بضم الميم هنا وفيما بعد، وقرأ أناس بضمه في الاول وكسره في الثاني. وناس بالعكس وناس بالتخيير، والجحدري بفتح الميم فيهما، والجملة صفة- لقاصرات الطرف- لأن إضافتها لفظية أو حال منها لتخصيصها بالإضافة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ إما صفة لقاصرات الطرف، أو حال منها كالتي قيل أي مشبهات بالياقوت والمرجان، وقول النحاس: إن الكاف في موضع رفع على الابتداء ليس بشيء كما لا يخفى، أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال في الآية في صفاء الياقوت وبياض اللؤلؤ، وعن الحسن نحوه، وفي البحر عن قتادة في صفاء الياقوت. وحمرة المرجان فحمل المرجان على ما هو المعروف وقيل: مشبهات بالياقوت في حمرة الوجه وبالمرجان أي صغار الدر في بياض البشرة وصفائها وتخصيص الصغار على ما في الكشاف لأنه أنصع بياضا من الكبار، وقيل، يحسن هنا إرادة الكبار كما قيل في معناه لأنه أوفق بقوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات: 49] فلا تغفل.
وأخرج أحمد وابن حيان والحاكم وصححه والبيهقي في البعث والنشور عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم في قوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ إلخ قال: ينظر إلى وجهها في خدرها أصفى من المرآة وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب وأنه يكون عليها سبعون ثوبا ينفذها بصره حتى يوضح سوقها من وراء ذلك.
وأخرج عبد بن حميد والطبراني والبيهقي في البعث عن ابن مسعود قال: إن المرأة من الحور العين يرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم من تحت سبعين حلة كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ استئناف مقرر لمضمون ما قبله أي ما جزاء الإحسان في العمل إلا الإحسان في الثواب، وقيل: المراد ما جزاء التوحيد إلا

(14/119)


الجنة وأيد بظواهر كثير من الآثار،
أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والبغوي في تفسيره والديلمي في مسند الفروس وابن النجار في تاريخه عن أنس قال: «قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ فقال: وهل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: يقول: هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة»
وأخرج ابن النجار في تاريخه عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا بلفظ «قال الله عز وجل هل جزاء من أنعمت عليه»
إلخ ووراء ذلك أقوال تقرب من مائة قول، واختير العموم ويدخل التوحيد دخولا أوليا، والصوفية أوردوا الآية في باب الإحسان وفسروه بما
في الحديث «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
قالوا: فهو اسم يجمع أبواب الحقائق، وقرأ ابن أبي إسحاق إلا الحسان يعني بالحسان قاصرات الطرف اللاتي تقدم ذكرهن فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ مبتدأ وخبر أي ومن دون تينك الجنتين في المنزلة والقدر جنتان أخريان، قال ابن زيد والأكثرون الأوليان للسابقين وهاتان لأصحاب اليمين،
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي موسى عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرحمن: 46] وقوله سبحانه: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ قال: «جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من ورق لأصحاب اليمين»
وقال الحسن: الأوليان للسابقين والأخريان للتابعين، وروي موقوفا وصححه الحاكم عن أبي موسى، وزعم بعضهم أن الأوليين للخائفين والأخريين لذرياتهم الذين ألحقوا بهم ولم أجد له مستندا من الآثار، وحكي في البحر عن ابن عباس أنه قال: وَمِنْ دُونِهِما في القرب للمنعمين والمؤخرتا الذكر أفضل من الأوليين، وادعى أن الصفات الآتية أمدح من الصفات السابقة ووافقه من وافقه، وسيأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى: مُدْهامَّتانِ صفة لجنتان وسط بينها الاعتراض لما تقدم من التنبيه على أن تكذيب كل من الموصوف والصفة حقيق بالإنكار والتوبيخ أو خبر مبتدأ محذوف أي هما مدهامتان من الدهمة وهي في الأصل على ما قال الراغب سواد الليل ويعبر بها عن سواد الفرس وقد يعبر بها عن الخضرة الكاملة اللون كما يعبر عنها بالخضرة إذا لم تكن كاملة وذلك لتقاربهما في اللون، ويقال: ادهام ادهيماما فهو مدهام على وزن مفعال إذا اسود أو اشتدت خضرته، وفسرها هنا ابن عباس ومجاهد وابن جبير وعكرمة وعطاء ابن أبي رباح وجماعة بخضراوان، بل
أخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه قال: «سألت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن قوله تعالى: مُدْهامَّتانِ فقال عليه الصلاة والسلام:
خضراوان»
والمراد أنهما شديدتا الخضرة والخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد وذلك من الري من الماء كما روي عن ابن عباس وابن الزبير وأبي صالح قيل: إن في وصف هاتين الجنتين بما ذكر إشعارا بأن الغالب عليهما النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض كما أن في وصف السابقتين بذواتا أفنان إشعارا بأن الغالب عليهما الأشجار فإن الأشجار توصف بأنها ذوات أفنان والنبات يوصف بالخضرة الشديدة فالاقتصار في كل منهما على أحد الأمرين مشعر بما ذكر وبني على هذا كون هاتين الجنتين دون الأوليين في المنزلة والقدر كيف لا والجنة الكثيرة الظلال والثمار أعلى وأغلى من الجنة القليلة الظلال والثمار، ومن ذهب إلى تفضيل هاتين الجنتين مع اختصاص الوصف بالخضرة بالنبات وكذا كونه أغلب من وصف الأشجار به فكثيرا ما تسمع الناس يقولون إذا مدحوا بستانا أشجاره خضر يانعة وهو أظهر في مدحه بأنه ذو ثمار من ذي أفنان، وهو يشعر أيضا بكثر مائه والاعتناء بشأنه وبعده عن التصوح والهلاك.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ فوارتان بالماء على ما هو الظاهر، وفي البحر

(14/120)


النضخ فوران الماء، وفي الكشاف وغيره النضج أكثر من النضخ بالحاء المهملة لأنه مثل الرش وهو عند من فضل الجنتين الأوليين دون الجري، فالمدح به دون المدح به، وعليه قول البراء بن عازب فيما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم العينان اللتان تجريان خير من النضاختين، ومن ذهب إلى تفضيل هاتين يقول في الفوران جري مع زيادة حسن فإن الماء إذا فار وارتفع وقع متناثر القطرات كحبات اللؤلؤ المتناثرة كما يشاهد في الفوارات المعروفة، أو يقول بما أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن أنس ضَّاخَتانِ
بالمسك والعنبر تنضخان على دور الجنة كما ينضخ المطر على دور أهل الدنيا، أو بما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن مجاهدضَّاخَتانِ
بالخير، ولفظ ابن أبي شيبة بكل خير.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ عطف الأخيرين على الفاكهة عطف جبريل وميكال عليهما السلام على الملائكة بيانا لفضلهما، وقيل: إنهما في الدنيا لما لم يخلصا للتفكه فإن النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء عدا جنسا آخر فعطفا على الفاكهة وإن كان كل ما في الجنة للتفكه لأنه تلذذ خالص، ومنه قال الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث، وخالفه صاحباه ثم إن نخل الجنة ورمانها وراء ما نعرفه.
أخرج ابن المبارك وابن أبي شيبة وهناد وابن أبي الدنيا وابن المنذر والحاكم وصححه وآخرون عن ابن عباس نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر وكرانيفها ذهب أحمر وسعفها كسوة أهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم وثمرها أمثال القلال أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد وليس له عجم وحكمه حكم المرفوع. وفي حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا أصوله فضة وجذوعه فضة وسعفه حلل وحمله الرطب إلخ.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعا قال عليه الصلاة والسلام: «نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كمثل البعير المقتب»
وهذا المدح بحسب الظاهر دون المدح في قوله تعالى في الجنتين السابقتين: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرحمن: 52] ومن ذهب إلى تفضيلهما يقول إن التنوين في فاكهة للتعميم بقرينة المقام نظير ما قيل في قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير: 14] فيكون في قوة فيها كل فاكِهَةٌ ويزيد ما في النظم الجليل على ما ذكر بتضمنه الإشارة إلى مدح بعض أنواعها، وقال الإمام الرازي: إن (ما) هنا كقوله تعالى: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ وذلك لأن الفاكهة أنواع أرضية وشجرية كالبطيخ وغيره من الأرضيات المزروعات والنخل وغيرها من الشجريات فقال تعالى: مُدْهامَّتانِ لأنواع الخضر التي فيها الفواكه الأرضية، وفيها أيضا الفواكه الشجرية وذكر سبحانه منها نوعين: الرطب والرمان لأنهما متقابلان أحدهما حلو والآخر فيه حامض، وأحدهما حار والآخر بارد، وأحدهما فاكهة وغذاء والآخر فاكهة، وأحدهما من فواكه البلاد الحارة والآخر من فواكه البلاد الباردة، وأحدهما أشجاره تكون في غاية الطول والآخر ليس كذلك، وأحدهما ما يؤكل منه بارز وما لا يؤكل كامن والآخر بالعكس فهما كالضدين، والإشارة إلى الطرفين تتناول الاشارة إلى ما بينهما كما في قوله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن: 17] انتهى، ولعل الأول أولى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى: فِيهِنَّ خَيْراتٌ صفة أخرى لجنتان، أو خبر بعد خبر للمبتدأ المحذوف كالجملة التي قبلها، ويجوز أن تكون مستأنفة والكلام في ضمير الجمع هنا كالكلام فيه في قوله تعالى: فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ [الرحمن:
56] وخَيْراتٌ قال أبو حيان: جمع خيرة وصف بني على فعلة من الخير كما بنوا من الشر فقالوا شرة، وقال الزمخشري: أصله «خيّرات» بالتشديد فخفف
كقوله عليه الصلاة والسلام: «هينون لينون»
وليس جمع خير بمعنى أخير

(14/121)


فإنه لا يقال فيه خيرون ولا خيرات، ولعله لأن أصل اسم التفضيل أن لا يجمع خصوصا إذا نكر، وقرأ بكر بن حبيب وأبو عثمان النهدي وابن مقسم «خيّرات» بتشديد الياء وهو يؤيد أن أصله كذلك، وروي عن أبي عمرو «خيرات» بفتح الياء كأنه جمع خائرة جمع على فعلة حِسانٌ قيل: أي حسان الخلق والخلق.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال في الآية: خَيْراتٌ الأخلاق حِسانٌ الوجوه، وأخرج ذلك ابن جرير والطبراني وابن مردويه عن أم سلمة مرفوعا.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى: حُورٌ بدل من خَيْراتٌ وهو جمع حوراء وكذا جمع أحور،
والمراد بيض كما أخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس وروته أم سلمة أيضا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:
وقال ابن الأثير: الحوراء هي الشديدة بياض العين الشديدة سوادها، وفي القاموس الحور بالتحريك أن يشتد بياض بياض العين وسواد سوادها وتستدير حدقتها وترق جفونها ويبيض ما حواليها أو شدة بياضها وسوادها في بياض الجسد، أو اسوداد العين كلها مثل الظباء ولا يكون في بني آدم بل يستعار لها. وإذا صح حديث أم سلمة لم يعدل في القرآن عن تفسير رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ أي مخدرات يقال: امرأة قصيرة ومقصورة أي مخدرة ملازمة لبيتها لا تطوف في الطرق، قال كثير عزة:
وأنت التي حبّبت كل قصيرة ... إليّ ولم تشعر بذاك القصائر

عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطا شر النساء البحاتر
والنساء يمدحن بملازمتهن البيوت لدلالتها على صيانتهن كما قال قيس بن الأسلت:
وتكسل عن جاراتها فيزرنها ... وتغفل عن أبياتهن فتعذر

وهذا التفسير مأثور عن ابن عباس والحسن والضحاك وهو رواية عن مجاهد، وأخرج ابن أبي شيبة وهناد بن السري وابن جرير عنه أنه قال: مَقْصُوراتٌ قلوبهن وأبصارهن ونفوسهن على أزواجهن، والأول أظهر، وفِي الْخِيامِ عليه متعلق بمقصورات، وعلى الثاني يحتمل ذلك، ويحتمل كونه صفة ثانية لحور فلا تغفل، والخيام جمع خيمة- وهي على ما في البحر- بيت من خشب وثمام وسائر الحشيش، وإذا كان من شعر فهو بيت ولا يقال له خيمة وقال غير واحد: هي كل بيت مستدير أو ثلاثة أعواد أو أربعة يلقى عليها الثمام ويستظل بها في الحر أو كل بيت يبنى من عيدان الشجر وتجمع أيضا على خيمات وخيم بفتح فسكون وخيم بالفتح وكعنب- والخيام هنا بيوت من لؤلؤ- أخرج ابن أبي شيبة وجماعة عن ابن عباس أنه قال: الخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة أربعة فراسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب، وأخرج جماعة عن أبي الدرداء أنه قال: الخيمة لؤلؤة واحدة لها سبعون بابا من در،
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون يطوف عليهم المؤمن
، إلى ذلك من الاخبار، وقوله سبحانه: فِيهِنَّ إلخ دون ما تقدم في الجنتين السابقتين أعني قوله عز وجل: فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ إلى قوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: 58] في المدح عند من فضلهما على الأخيرتين قيل لما في مَقْصُوراتٌ على التفسير الثاني من الإشعار بالقسر في القصر، وأما على تفسيره الأول فكونه دونه ظاهر وإن لم يلاحظ كونها مخدرة فيما تقدم، أو يجعل قوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ كناية عنه لأنهما مما يصان كما قيل:

(14/122)


فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)

جوهرة أحقاقها الخدور ومن ذهب إلى تفضيل الأخيرتين يقول: هذا أمدح لعموم خَيْراتٌ حِسانٌ الصفات الحسنة خلقا وخلقا ويدخل في ذلك قصر الطرف وغيره مما يدل عليه التشبيه بالياقوت والمرجان، والمراد بالقاصر على التفسير الثاني لمقصورات القاصر الطبيعي بقرينة المقام فيكون فيه إشارة إلى تعذر ترك القصر منهن، وقاصِراتُ الطَّرْفِ ربما يوهم أن القصر باختيارهن فمتى شئن قصرن ومتى لم يشأن لم يقصرن.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ الكلام فيه كالكلام في نظيره فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله سبحانه: مُتَّكِئِينَ قيل: بتقدير يتنعمون متكئين أو أعني متكئين، والضمير لأهل الجنتين المدلول عليهم بذكرهما عَلى رَفْرَفٍ اسم جنس أو اسم جمع واحده رفرفة، وعلى الوجهين يصح وصفه بقوله تعالى: خُضْرٍ وجعله بعضهم جمعا لهذا الوصف ولا يخفى أن أمر الوصفية لا يتوقف على ذلك الجعل،
وفسره في الآية علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس والضحاك بفضول المحابس وهي ما يطرح على ظهر الفراش للنوم عليه
، وقال الجوهري: الرفرف ثياب خضر تتخذ منها المحابس واشتقاقه من رف إذا ارتفع، وقال الحسن- فيما أخرجه ابن المنذر وغيره عنه- هي البسط.
وأخرج عن عاصم الجحدري أنها الوسائد، وروي ذلك عن الحسن أيضا وابن كيسان وقال الجبائي: الفرش المرتفعة، وقيل: ما تدلى من الأسرّة من غالي الثياب، وقال الراغب: ضرب من الثياب مشبهة بالرياض، وأخرج ابن جرير وجماعة عن سعيد بن جبير أنه قال: الرفرف رياض الجنة، وأخرج عن عبد بن حميد نحوه عن ابن عباس وهو عليه- كما في البحر- من رف النبت نعم وحسن، ويقال الرفرف لكل ثوب عريض وللرقيق من ثياب الديباج ولأطراف الفسطاط والخباء الواقعة على الأرض دون الأطناب والأوتاد، وظاهر كلام بعضهم أنه قيل بهذا المعنى هنا وفيه شيء وَعَبْقَرِيٍّ هو منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه اسم بلد الجن فينسبون إليه كل عجيب غريب من الفرش وغيرها فمعناه الشيء العجيب النادر، ومنه ما جاء في عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه فلم أر عبقريا يفري فريه، ولتناسي تلك النسبة قيل: إنه ليس بمنسوب بل هو مثل كرسي وبختي كما نقل عن قطرب، والمراد الجنس ولذلك وصف بالجمع وهو قوله تعالى: حِسانٍ حملا على المعنى، وقيل: هو اسم جمع أو جمع واحده عبقرية، وفسره الأكثرون بعتاق الزرابي وعن أبي عبيدة هو ما كله وشي من البسط.
وروى غير واحد عن مجاهد أنه الديباج الغليظ، وعن الحسن أنها بسط فيها صور وقد سمعت ما نقل عنه في الرفرف فلا تغفل عما يقتضيه العطف.
وقرأ عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ونصر بن عاصم الجحدري ومالك بن دينار وابن محيصن وزهير الفرقبي وغيرهم رفارف جمع لا ينصرف «خضر» بسكون الضاد، «وعباقري» بكسر القاف وفتح الياء مشددة، وعنهم أيضا ضم الضاد، وعنهم أيضا فتح القاف قاله صاحب اللوامح ثم قال أما منع الصرف من عباقري فلمجاورته لرفارف يعني للمشاكلة وإلا فلا وجه لمنع الصرف مع ياءي النسب إلا في ضرورة الشعر انتهى.
وقال ابن خالويه قرأ- على رفارف خضر وعباقري- النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، الجحدري وابن

(14/123)


محيصن، وقد روي عمن ذكرنا- على رفارف خضر وعباقري- بالصرف، وكذلك روي عن مالك بن دينار، وقرأ أبو محمد المروزي وكان نحويا- على رفارف خضار- بوزن فعال، وقال صاحب الكامل: قرأ رفارف بالجمع ابن مصرف وابن مقسم وابن محيصن، واختاره شبل وأبو حيوة والجحدري والزعفراني وهو الاختيار لقوله تعالى:
خُضْرٍ، و «عباقريّ» بالجمع وبكسر القاف من غير تنوين ابن مقسم وابن محيصن، وروي عنهما التنوين.
وقال ابن عطية: قرأ زهير القرقبي (1) رفارف بالجمع وترك الصرف، وأبو طعمة المدني وعاصم فيما روي عنه رفارف بالصرف وعثمان رضي الله تعالى عنه كذلك، وعباقري بالجمع والصرف، وعنه وعباقري بفتح القاف والياء على أن اسم الموضع عباقر بفتح القاف، والصحيح فيه عبقر، وقال الزمخشري: قرىء عباقري كمدائني.
وروى أبو حاتم عباقري بفتح القاف ومنع الصرف وهذا لا وجه لصحته، وقال الزجاج: هذه القراءة لا مخرج لها لأن ما جاوز الثلاثة لا يجمع بياء النسب فلو جمعت عبقري قلت: عباقرة نحو مهلبي ومهالبة ولا تقول مهالبي.
وقال ابن جني: أما ترك صرف عباقري فشاذ في القياس ولا يستنكر شذوذه مع استعماله، وقال ابن هشام: كونه من النسبة إلى الجمع كمدائني باطل فإن من قرأ بذلك قرأ رفارف خضر بقصد المجانسة ولو كان كما ذكر كان مفردا ولا يصح منع صرفه كمدايني وقد صحت الرواية بمنعه الصرف عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فهو من باب كرسي وكراسي وهو من صيغة منتهى الجموع لكنها خالفت القياس في زيادة ما بعد الألف على المعروف كما ذكره السهيلي، وقال صاحب الكشف فتح القاف لا وجه له بوجه والمذكور في المنتقى عن النبي صلّى الله عليه وسلم الكسر.
وأما منع الصرف فليس بمتعين ليرد بل وجهه أنه نصب على محل رفرف على حد: يذهبن في نجد وغورا.
وإضافته إلى حِسانٍ مثل إضافة حور إلى عين في قراءة عكرمة كأنه قيل: عباقري مفارش، أو نمارق حسان فهو من باب أخلاق ثياب لأن أحد الوصفين قائم مقام الموصوف، ولعل عبقر وعباقر مثل عرفة وعرفات انتهى، فأحط بجوانب الكلام ولا تغفل، وقرأ ابن هرمز خضر بضم الضاد وهي لغة قليلة ومن ذلك قول طرفة:
أيها القينات في مجلسنا ... جرّدوا منها ورادا وشقر
وقول الآخر:
وما انتميت إلى خود ولا كشف ... ولا لئام غداة الروع أوزاع
فشقر جمع أشقر، وكشف جمع أكشف وهو من ينهزم في الحرب، هذا والوصف بقوله تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ إلخ دون الوصف بقوله سبحانه: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [الرحمن: 54] عند القائل بتفضيل الجنتين السابقتين لما في هذا الوصف من الإشارة إلى أن الظهائر مما يعجز عنها الوصف. ومن ذهب إلى تفضيل الأخيرتين يقول: الرفرف ما يطرح على ظهر الفراش وليست الفرش التي يطرح عليها الرفرف مذكورة فيجوز أن يكون ترك ذكرها للإشارة إلى عدم إحاطة الوصف بها ظهارة وبطانة وهو أبلغ من الأول، ولا يسلم أن تلك الفرش هي العبقري، أو يقول الرفرف الفرش المرتفعة وترك التعرض لسوى لونها وهو الخضرة التي ميل الطباع إليها أشد وهي جامعة لأصول الألوان الثلاثة على ما بينه الإمام يشير إلى أنها مما لا تكاد تحيط بحقيقتها العبارات، وقد يقال غير ذلك فتأمل، وينبغي على القول بتفضيل الأخيرتين وكونهما لطائفة غير الطائفة المشار إليهم بمن خاف أن لا يفسر من
__________
(1) هكذا بقافين وقد مر بالفاء بعد الراء قاف، وفي البحر العرقبي بالعين المهملة.

(14/124)


خاف بمن له شدة الخوف بحيث يختص بأفضل المؤمنين وأجلهم. أو يقال: إنهما مع الأوليين لمن خاف مقام ربه ويكون المعنى وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أيضا جَنَّتانِ صفتهما كيت وكيت من دون تينك الجنتين، وعليه قيل:
جَنَّتانِ عطف على جَنَّتانِ قبله وَمِنْ دُونِهِما في موضع الحال، وذهب بعضهم إلى أن هاتين الجنتين سواء كانتا أفضل من الأوليين أم لا لمن خاف مقام ربه عز وجل فله يوم القيامة أربع جنان.
قال الطبرسي: والأخيرتان دون الأوليين أي أقرب إلى قصره ومجالسه ليتضاعف له السرور بالتنقل من جنة إلى جنة على ما هو معروف من طبع البشر من شهوة مثل ذلك وهو أبعد عن الملل الذي طبع عليه البشر، وأنت تعلم أن الآية تحتمل ذلك احتمالا ظاهرا لكن ما تقدم من حديث أبي موسى رضي الله تعالى عنه يأباه فإذا صح ولو موقوفا- إذ حكم مثله حكم المرفوع- لم يكن لنا العدول عما يقتضيه، وقد روي عنه أيضا حديث مرفوع ذكره الجلال السيوطي في الدر المنثور يشعر بأن الجنان الأربع هي جنان الفردوس.
وأخرج عنه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم أنه قال: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «جنان الفردوس أربع جنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنه عدن»
والظاهر على هذا أنه يشترك الألوف في الجنة الواحدة من هذه الجنان، ومعنى قوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ إلخ عليه مما لا يخفى، ثم إن قاصرات الطرف إن كنّ من الإنس فهنّ أجل قدرا وأحسن منظرا من الحور المقصورات في الخيام بناء على أنهن النساء المخلوقات في الجنة.
فقد جاء من حديث أم سلمة «قلت يا رسول الله: أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة، قلت: يا رسول الله وبم ذاك؟ قال: بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن ألبس الله وجوههن النور وأجسادهن الحرير بيض الوجوه خضر الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر وأمشاطهن الذهب يقلن ألا نحن الخالدات فلا نموت أبدا ألا ونحن الناعمات فلا نيأس أبدا طوبى لمن كنا له وكان لنا»
إلى غيره من الأخبار ويكون هذا مؤيدا للقول بتفضيل الجنتين الأوليين على الأخيرتين ولعله إنما قدم سبحانه ذكر الاتكاء أولا على ذكر النساء لأنه عز وجل ذكر في صدر الآية الخوف حيث قال سبحانه: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فناسب التعجيل بذكر ما يشعر بزواله إشعارا ظاهرا وهو الاتكاء فإنه من شأن الآمنين، وأخر سبحانه ذكره ثانيا عن ذكرهن لعدم ما يستدعي التقديم وكونه مما يكون للرجل عادة بعد فراغ ذهنه عما يحتاجه المنزل من طعام وشراب وقينة تكون فيه، وإذا قلنا: إن الحور كالجواري في المنزل كان أمر التقديم والتأخير أوقع، وقال الإمام في ذلك: إن أهل الجنة ليس عليهم تعب وحركة فهم متنعمون دائما لكن الناس في الدنيا على أقسام منهم من يجتمع مع أهله اجتماع مستوفز وعند قضاء وطره يغتسل وينتشر في الأرض للكسب، ومنهم من يكون مترددا في طلب الكسب وعند تحصيله يرجع إلى أهله ويستريح عما لحقه من تعب قبل قضاء الوطر أو بعده فالله عز وجل قال في أهل الجنة: مُتَّكِؤُنَ قيل اجتماعهم بأهاليهم متكئون بعد الاجتماع ليعلم أنهم دائمون على السكون، ولا يخفى أن هذا على ما فيه لا يحسم السؤال إذ لقائل أن يقول لم لم يعكس أمر التقديم والتأخير في الموضعين مع أنه يتضمن الإشارة إلى ذلك أيضا، ثم ذكر في ذلك وجها ثانيا وهو على ما فيه مبني على ما لا مستند له فيه من الآثار فتدبر فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله عز وجل: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ تنزيه وتقديس له تعالى فيه تقرير لما ذكر في هذه السورة الكريمة من آلائه جل شأنه الفائضة على الأيام،- فتبارك- بمعنى تعالى لأنه يكون بمعناه وهو أنسب بالوصف الآتي، وقد ورد في

(14/125)


الأحاديث «تعالى اسمه» أي تعالى اسمه الجليل الذي من جملته ما صدرت به السورة من اسم الرَّحْمنُ المنبئ عن إفاضة الآلاء المفصلة، وارتفع مما لا يليق بشأنه من الأمور التي من جملتها جحود نعمائه وتكذيبها، وإذا كان حال اسمه تعالى بملابسة دلالته عليه سبحانه كذلك فما ظنك بذاته الأقدس الأعلى؟؟.
وقيل: الاسم بمعنى الصفة لأنها علامة على موصوفها، وقيل: هو مقحم كما في قول من قال: ثم اسم السلام عليكما، وقيل: هو بمعنى المسمى، وزعم بعضهم أن الأنسب بما قصد من هذه السورة الكريمة هو تعدد الآلاء والنعم تفسير تَبارَكَ بكثرت خيراته ثم إنه لا بعد في إسناده بهذا المعنى لاسمه تعالى إذ به يستمطر فيغاث ويستنصر فيعان، وقوله سبحانه: ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ صفة للرب ووصف جل وعلا بذلك تكميلا لما ذكر من التنزيه والتقرير، وقرأ ابن عامر وأهل الشام- ذو- بالرفع على أنه وصف للاسم ووصفه بالجلال والإكرام بمعنى التكريم واضح.
هذا «ومن باب الإشارة» في بعض الآيات الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ إشارة إلى ما أودعه سبحانه في الأرواح الطيبة القدسية من العلوم الحقانية الإجمالية عند استوائه عز وجل على عرش الرحمانية خَلَقَ الْإِنْسانَ الكامل الجامع عَلَّمَهُ الْبَيانَ وهو تفصيل تلك العلوم الإجمالية فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
[القيامة: 18، 19] الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ يشير إلى شمس النبوة وقمر الولاية الدائرتين في فلك وجود الإنسان بحساب التجليات ومراتب الاستعدادات، والنَّجْمُ القوى السفلية وَالشَّجَرُ الاستعدادات العلوية يَسْجُدانِ يتذللان بين يديه تعالى عند الرجوع إليه سبحانه وَالسَّماءَ سماء القوى الإلهية القدسية رَفَعَها فوق أرض البشرية وَوَضَعَ الْمِيزانَ القوة المميزة أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ لا تتجاوزوا عند أخذ الحظوظ السفلية وإعطاء الحقوق العلوية.
وجوز أن يكون الْمِيزانِ الشريعة المطهرة فإنها ميزان يعرف به الكامل من الناقص وَالْأَرْضَ أرض البشرية وَضَعَها بسطها وفرشها لِلْأَنامِ للقوى الإنسانية فِيها فاكِهَةٌ من فواكه معرفة الصفات الفعلية وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ وهي الشجرة الإنسانية التي هي المظهر الأعظم وذات أطوار كل طور مستور بطور آخر وَالْحَبُّ هو حب الحب المبذور في مزارع القلوب السليمة من الدغل ذُو الْعَصْفِ أوراق المكاشفات وَالرَّيْحانُ ريحان المشاهدة رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ رب مشرق شمس النبوة ومشرق قمر الولاية في العالم الجسماني ورب مغربهما في العالم الروحاني مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ بحر سماء القوى العلوية وبحر أرض القوى السفلية يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ حاجز القلب يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ أنواع أنوار الأسرار ونيران الأشواق وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ سفن الخواطر المسخرة في بحر الإنسان كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ما شم رائحة الوجود وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ الجهة التي تليه سبحانه وهي شؤوناته عز وجل ذُو الْجَلالِ أي الاستغناء التام عن جميع المظاهر وَالْإِكْرامِ الفيض العام يفيض على القوابل حسبما استعدت له وسألته بلسان حالها، وإليه الاشارة بقوله تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلخ، واستدل الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره بقوله سبحانه:
كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ على شرف التلون، وكذا استدل به على عدم بقاء الجوهر آنين، وعلى هذا الطراز ما قيل في الآيات بعد، وذكر بعض أهل العلم أن قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قد ذكر إحدى وثلاثين مرة، ثمانية منها عقيب تعداد عجائب خلقه تعالى وذكر المبدأ والمعاد، وسبعة عقيب ذكر ما يشعر بالنار وأهوالها على عدد أبواب جهنم، وثمانية في وصف الجنتين الأوليين ومثلها في وصف الجنتين اللتين دونهما على عدد أبواب الجنة

(14/126)


فكأنه أشير بذلك إلى أن من اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق كلتا الجنتين من الله تعالى ووقاه جهنم ذات الأبواب السبعة والله تعالى أعلم بإشارات كتابه وحقائق خطابه ودقائق كلامه التي لا تحيط بها الأفهام وتبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام.

(14/127)