روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني سورة الواقعة
«مكية» كما أخرجه البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس وابن
مردويه عن ابن الزبير، واستثنى بعضهم قوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة: 39، 40]
كما حكاه في الإتقان وكذا استثني قوله سبحانه: فَلا أُقْسِمُ
بِمَواقِعِ النُّجُومِ إلى تُكَذِّبُونَ [الواقعة: 75، 82] لما
أخرجه مسلم في سبب نزوله وسيأتي إن شاء الله تعالى، وفي مجمع
البيان حكاية استثناء قوله تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ
أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة: 82] عن ابن عباس وقتادة وعدد
آيها تسع وتسعون في الحجازي والشامي، وسبع وتسعون في البصري،
وست وتسعون في الكوفي، وتفصيل ذلك فيما أعد لمثله، وهي وسورة
الرحمن متواخية في أن في كل منهما وصف القيامة والجنة والنار،
وقال في البحر: مناسبتها لما قبلها أنه تضمن العذاب للمجرمين
والنعيم للمؤمنين، وفاضل سبحانه بين جنتي بعض المؤمنين وجنتي
بعض آخر منهم فانقسم المكلفون بذلك إلى كافر ومؤمن فاضل ومؤمن
مفضول وعلى هذا جاء ابتداء هذه السورة من كونهم أصحاب ميمنة
وأصحاب مشأمة وسابقين، وقال بعض الأجلة انظر إلى اتصال قوله
تعالى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الواقعة: 10] بقوله سبحانه:
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ [الرحمن: 37] وأنه اقتصر في
الرحمن على ذكر انشقاق السماء، وفي الواقعة على ذكر رج الأرض
فكأن السورتين لتلازمهما واتحادهما سورة واحدة فذكر في كل شيء،
وقد عكس الترتيب فذكر في أول هذه ما في آخر تلك وفي آخر هذه ما
في أول تلك فافتتح في سورة الرحمن بذكر القرآن، ثم ذكر الشمس
والقمر، ثم ذكر النبات، ثم خلق الإنسان والجان، ثم صفة يوم
القيامة، ثم صفة النار، ثم صفة الجنة، وهذه ابتداؤها بذكر
القيامة، ثم صفة الجنة، ثم صفة النار ثم خلق الإنسان، ثم
النبات، ثم الماء، ثم النار، ثم ذكرت النجوم ولم تذكر في
الرحمن كما لم يذكر هنا الشمس والقمر، ثم ذكر الميزان فكانت
هذه كالمقابلة لتلك وكالمتضمنة لرد العجز على الصدر، وجاء في
فضلها آثار.
أخرج أبو عبيد في فضائله وابن الضريس والحارث بن أبي أسامة
وأبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال:
«سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: من قرأ سورة
الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا»
.
وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس نحوه مرفوعا، وأخرج ابن مردويه عن
أنس عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «سورة الواقعة
سورة الغنى فاقرؤوها وعلموها أولادكم» .
وأخرج الديلمي عنه مرفوعا «علموا نساءكم سورة الواقعة فإنها
سورة الغنى»
.
(14/128)
إِذَا وَقَعَتِ
الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2)
خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا
(6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ
الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ
الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ
(11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ
(13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ
مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ
وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ
عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا
يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)
وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)
جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ
فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا
سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ
الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ
(29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31)
وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ
(33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ
إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا
أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا
وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي إذا حدثت القيامة على أن وَقَعَتِ
بمعنى حدثت والْواقِعَةُ علم بالغلبة أو منقول للقيامة، وصرح
ابن عباس بأنها من أسمائها وسميت بذلك للإيذان بتحقيق وقوعها
لا محالة كأنها واقعة في نفسها مع قطع النظر عن الوقوع الواقع
في حيز الشرط فليس الإسناد كما في- جاءني جاء- فإنه لغو لدلالة
كل فعل على فاعل له غير معين، وقال الضحاك: الْواقِعَةُ الصيحة
وهي النفخة في الصور، وقيل:
الْواقِعَةُ صخرة بيت المقدس تقع يوم القيامة وليس بشيء، وإِذا
ظرف متضمن معنى الشرط على ما هو الظاهر، والعامل فيها عند أبي
حيان الفعل بعدها فهي عنده في موضع نصب- بوقعت- كسائر أسماء
الشرط وليست مضافة إلى الجملة، والجمهور على إضافتها فقيل: هي
هنا قد سلبت الظرفية ووقعت مفعولا به لا ذكر محذوفا، وقيل: لم
تسلب ذلك وهي منصوبة بليس، وصنيع الزمخشري يشعر باختياره.
وقيل: بمحذوف وهو الجواب أي إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ كان كيت
وكيت، قال في الكشف: هذا الوجه العربي الجزل فالنصب بإضمار
اذكر إنما كثر في إذ، وبليس إنما يصح إذا جعلت لمجرد الظرفية
وإلا لوجب الفاء في ليس، وأبو حيان تعقب النصب بليس بأنه لا
يذهب إليه نحوي لأن ليس في النفي ك (ما) وهي لا تعمل. فكذا ليس
فإنها مسلوبة الدلالة على الحدث والزمان، والقول: بأنها فعل
على سبيل المجاز، والعامل في الظرف إنما هو ما يقع فيه من
الحدث فحيث لا حدث فيها لا عمل لها فيه، ثم ذكر نحو ما ذكر
صاحب الكشف من وجوب الفاء في ليس إذا لم تجرد عن الشرطية
واعترض دعواه أن (ما) لا تعمل بأنهم صرحوا بجواز تعلق الظرف
بها لتأويلها بانتفى وأنه يكفي له رائحة الفعل، ويقاس عليها في
ذلك ليس، وكذا دعوى وجوب الفاء في ليس إذا لم تجرد إِذا عن
الشرطية بأن لزوم الفاء مع الأفعال الجامدة إنما هو في جواب إن
الشرطية لعملها كما صرحوا به. وأما إِذا فدخول الفاء في جوابها
على خلاف الأصل. وسيأتي إن شاء الله تعالى فيها قولان آخران،
وبعد القيل والقال الأولى كون
(14/129)
العامل محذوفا وهو الجواب كما سمعت وفي
إبهامه تهويل وتفخيم لأمر الواقعة.
وقوله تعالى: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ إما اعتراض يؤكد
تحقيق الوقوع أو حال من الواقعة كما قال ابن عطية، وكاذِبَةٌ
اسم فاعل وقع صفة لموصوف محذوف أي نفس، وقيل: مقالة والأول
أولى لأن وصف الشخص بالكذب أكثر من وصف الخبر به. والْواقِعَةُ
السقطة القوية وشاعت في وقوع الأمر العظيم وقد تخص بالحرب ولذا
عبر بها هنا واللام للتوقيت مثلها في قولك: كتبته لخمس خلون أي
لا يكون حين وقوعها نفس كاذبة على معنى تكذب على الله تعالى
وتكذب في تكذيبه سبحانه وتعالى في خبره بها، وإيضاحه أن منكر
الساعة الآن مكذب له تعالى في أنها تقع وهو كاذب في تكذيبه
سبحانه لأنه خبر على خلاف الواقع وحين تقع لا يبقى كاذبا
مكذبا، بل صادقا مصدقا، وقيل: على معنى ليس في وقت وقوعها نفس
كاذبة في شيء من الأشياء، ولا يخفى أن صحته مبنية على القول
بأنه لا يصدر من أحد كذب يوم القيامة وأن قولهم:
وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] مجاب
عنه بما هو مذكور في محله أو اللام على حقيقتها، وكاذِبَةٌ صفة
لذلك المحذوف أيضا أي لَيْسَ لِوَقْعَتِها نفس كاذبة بمعنى لا
ينكر وقوعها أحد ولا يقول للساعة لم تكوني لأن الكون قد تحقق
كما يقول لها في الدنيا بلسان القول أو الفعل لأن من اغتر
بزخارف الدنيا فقد كذب الساعة في وقعتها بلسان الحال لن تكوني،
وهذا كما تقول لمخاطبك ليس لنا ملك ولمعروفك كاذب أي لا يكذبك
أحد فيقول: إنه غير واقع، وفيه استعارة تمثيلية لأن الساعة لا
تصلح مخاطبا إلا على ذلك إما على سبيل التخييل من باب لو قيل
للشحم أين تذهب، وهو الأظهر وإما على التحقيق، وجوز كون
كاذِبَةٌ من قولهم كذبت نفسي وكذبته إذا منته الأماني وقربت له
الأمور البعيدة وشجعته على مباشرة الخطب العظيم، واللام قيل:
على حقيقتها أيضا أي ليس لها إذا وقعت نفس تحدث صاحبها بإطاقة
شدتها واحتمالها وتغريه عليها.
وفي الكشف أن اللام على هذا الوجه للتوقيت كما على الوجه
الأول، وجوز أيضا كون كاذِبَةٌ مصدرا بمعنى التكذيب وهو
التثبيط وأمر اللام ظاهر أي ليس لوقعتها ارتداد ورجعة كالحملة
الصادقة من ذي سطوة قاهرة وروي نحوه عن الحسن وقتادة، وذكر أن
حقيقة التكذيب بهذا المعنى راجعة إلى تكذيب النفس في كذبها
وإغرائها وتشجيعها وأنشد على ذلك لزهير:
ليث بعثّر يصطاد الرجال إذا ... ما الليث كذب عن أقرانه صدقا
ويجوز جعل الكاذبة بمعنى الكذب على معنى ليس للوقعة كذب بل هي
وقعة صادقة لا تطاق على نحو- حملة صادقة، وحملة لها صادق- أو
على معنى ليس هي في وقت وقوعها كذب لأنه حق لا شبهة فيه، ولعل
ما ذكر أظهر مما تقدم، وإن روي نحوه عمن سمعت، نعم قيل: عليهما
إن مجيء المصدر على زنة الفاعل نادر، وقوله عز وجل: خافِضَةٌ
رافِعَةٌ خبر مبتدأ محذوف أي هي خافضة لأقوام رافعة لآخرين كما
قال ابن عباس، وأخرجه عنه جماعة، والجملة تقرير لعظمتها وتهويل
لأمرها فإن الوقائع العظام شأنها الخفض والرفع كما يشاهد في
تبدل الدول وظهور الفتن من ذل الأعزة وعز الأذلة، وتقديم الخفض
على الرفع لتشديد التهويل، أو بيان لما يكون يومئذ من حط
الأشقياء إلى الدركات ورفع السعداء إلى درجات الجنات، وعلى هذا
قول عمر رضي الله تعالى عنه: خفضت أعداء الله تعالى إلى النار
ورفعت أولياءه إلى الجنة، أو بيان لما يكون من ذلك ومن إزالة
الأجرام عن مقارها ونثر الكواكب وتسيير الجبال في الجو
كالسحاب، والضحاك بعد
(14/130)
أن فسر الواقعة بالصيحة قال: خافضة تخفض
قوتها لتسمع الأدنى رافِعَةٌ ترفعها لتسمع الأقصى، وروي ذلك
أيضا عن ابن عباس وعكرمة، وقدر أبو علي المبتدأ مقرونا بالفاء
أي فهي خافِضَةٌ وجعل الجملة جواب إذا فكأنه قيل: إِذا
وَقَعَتِ الْواقِعَةُ خفضت قوما ورفعت آخرين، وقرأ زيد بن علي
والحسن وعيسى وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم والزعفراني
واليزيدي في اختياره «خافضة رافعة» بنصبهما، ووجهه أن يجعلا
حالين عن الواقعة على أن لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ اعتراض
أو حالين عن وقعتها، وقوله سبحانه: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ
رَجًّا أي زلزلت وحركت تحريكا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من
بناء وجبل متعلق- بخافضة- أو- برافعة- على أنه من باب الأعمال،
أو بدل من إِذا وَقَعَتِ كما قال به غير واحد، وقال ابن جني
وأبو الفضل الرازي: إِذا رُجَّتِ في موضع رفع على أنه خبر
للمبتدأ الذي هو إِذا وَقَعَتِ وليست واحدة منهما شرطية بل هي
بمعنى وقت أي وقت وقوعها وقت رج الأرض، وادعى ابن مالك أن إِذا
تكون مبتدأ، واستدل بهذه الآية، وقال أبو حيان: هو بدل من إِذا
وَقَعَتِ وجواب الشرط عندي ملفوظ به وهو قوله تعالى:
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ والمعنى إذا كان كذا وكذا، فأصحاب
الميمنة ما أسعدهم وما أعظم ما يجازون به أي إن سعادتهم وعظم
رتبهم عند الله عز وجل تظهر في ذلك الوقت الشديد الصعب على
العالم، وفيه بعد وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا أي فتت كما قال
ابن عباس ومجاهد حتى صارت كالسويق الملتوت من بس السويق إذا
لتّه، وقيل: سيقت وسيرت من أماكنها من بس الغنم إذا ساقها فهو
كقوله تعالى: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ [النبأ: 20] .
وقرأ زيد بن علي «رجّت» و «بسّت» بالبناء للفاعل أي ارتجت
وتفتتت، وفي كلام هند بنت الخس تصف ناقة بما يستدل به على
حملها:- عينها هاج وصلاها راج، وهي تمشي وتفاج- فَكانَتْ فصارت
بسبب ذلك هَباءً غبارا مُنْبَثًّا متفرقا، والمراد مطلق الغبار
عند الأكثرين، وقال ابن عباس: هو ما يثور مع شعاع الشمس إذا
دخلت من كوة، وفي رواية أخرى عنه أنه الذي يطير من النار إذا
اضطرمت.
وقرأ النخعي- منبتا- بالتاء المنطوقة بنقطتين من فوق من البت
بمعنى القطع، والمراد به ما ذكر من الليث بالمثلثة وَكُنْتُمْ
خطاب للأمة الحاضرة والأمم السالفة تغليبا كما ذهب إليه
الكثير، وقال بعضهم:
خطاب للأمة الحاضرة فقط، والظاهر أن- كان- أيضا بمعنى صار أي
وصرتم أَزْواجاً أي أصنافا ثَلاثَةً وكل صنف يكون مع صنف آخر
في الوجود أو في الذكر فهو زوج، قال الراغب: الزوج يكون لكل
واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة
ولكل قرينين فيها، وفي غيرها كالخف والنعل، ولكل ما يقترن بآخر
مماثلا له أو مضادا، وقوله تعالى: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما
أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ
الْمَشْئَمَةِ تفصيل للأزواج الثلاثة مع الإشارة الإجمالية إلى
أحوالهم قبل تفصيلها، والدائر على ألسنتهم أن أصحاب الميمنة
مبتدأ، وقوله تعالى: ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما فيه
استفهامية مبتدأ ثان وأَصْحابُ خبره، والجملة خبر المبتدأ
الأول والرابط الظاهر القائم مقام الضمير، وكذا يقال في قوله
تعالى: وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ إلخ، والأصل في الموضعين ما
هم؟ أي أيّ شيء هم في حالهم وصفتهم فإن ما وإن شاعت في طلب
مفهوم الاسم والحقيقة لكنها قد تطلب بها الصفة والحال كما تقول
ما زيد؟
فيقال: عالم، أو طبيب فوضع الظاهر موضع الضمير لكونه أدخل في
المقصود وهو التفخيم في الأول والتفظيع في الثاني، والمراد
تعجيب السامع من شأن الفريقين في الفخامة والفظاعة كأنه قيل:
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ في غاية حسن الحال وَأَصْحابُ
الْمَشْئَمَةِ في نهاية سوء الحال، وقيل: جملة ما أَصْحابُ خبر
(14/131)
بتقدير القول على ما عرف في الجملة
الانشائية إذا وقعت خبرا أي مقول في حقهم ما أَصْحابُ إلخ فلا
حاجة إلى جعله من إقامة الظاهر مقام الضمير وفيه نظر،
والْمَيْمَنَةِ ناحية اليمين، أو اليمن والبركة،
والْمَشْئَمَةِ ناحية الشمال من اليد الشؤمى وهي الشمال، أو هي
من الشؤم مقاب اليمن، ورجح إرادة الناحية فيهما بأنها أوفق بما
يأتي في التفصيل، واختلفوا في الفريقين فقيل: أصحاب الميمنة
أصحاب المنزلة السنية، وأصحاب المشأمة أصحاب المنزلة الدنية
أخذا من تيمنهم بالميامن وتشؤمهم بالشمائل كما تسمع في السانح
والبارح، وهو مجاز شائع، وجوز أن يكون كناية، وقيل: الذين
يؤتون صحائفهم بأيمانهم والذين يؤتونها بشمائلهم، وقيل: الذين
يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة والذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى
النار، وقيل:
أصحاب اليمن وأصحاب الشؤم، فإن السعداء ميامين على أنفسهم
بطاعتهم والأشقياء مشائيم على أنفسهم بمعاصيهم، وروي هذا عن
الحسن والربيع، وقوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ هو
الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة، ولعل تأخير ذكرهم مع كونهم
أسبق الأصناف وأقدمهم في الفضل ليردف ذكرهم ببيان محاسن
أحوالهم على أن إيرادهم بعنوان السبق مطلقا معرض عن إحرازهم
قصب السبق من جميع الوجوه.
واختلف في تعيينهم فقيل: هم الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة
عند ظهور الحق من غير تلعثم وتوان، وروي هذا عن عكرمة ومقاتل،
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت في حزقيل مؤمن آل
فرعون وحبيب النجار الذي ذكر في يس وعليّ بن أبي طالب كرم الله
تعالى وجهه وكل رجل منهم سابق أمته وعليّ أفضلهم، وقيل: هم
الذين سبقوا في حيازة الكمالات من العلوم اليقينية ومراتب
التقوى الواقعة بعد الإيمان، وقيل هم الأنبياء عليهم السلام
لأنهم مقدمو أهل الأديان، وقال ابن سيرين: هم الذين صلوا إلى
القبلتين كما قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ
الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [التوبة: 100] وعن ابن عباس هم
السابقون إلى الهجرة،
وعن عليّ كرم الله تعالى وجهه هم السابقون إلى الصلوات الخمس،
وأخرج أبو نعيم والديلمي عن ابن عباس مرفوعا أول من يهجر إلى
المسجد وآخر من يخرج منه.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عبادة بن أبي سودة مولى
عبادة بن الصامت قال: بلغنا أنهم السابقون إلى المساجد والخروج
في سبيل الله عز وجل، وعن الضحاك هم السابقون إلى الجهاد، وعن
ابن جبير هم السابقون إلى التوبة وأعمال البر، وقال كعب: هم
أهل القرآن،
وفي البحر في الحديث «سئل عن السابقين فقال: هم الذين إذا
أعطوا الحق قبلوه وإذا سألوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم
لأنفسهم»
، وقيل: الناس ثلاثة فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم دام
عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق، ورجل ابتكر عمره
بالذنب وطول الغفلة ثم تراجع بتوبته فهذا صاحب اليمين، ورجل
ابتكر الشر في حداثة سنه ثم لم يزل عليه حتى خرج من الدنيا
فهذا صاحب الشمال، وعن ابن كيسان أنهم المسارعون إلى كل ما دعا
الله تعالى إليه ورجحه بعضهم بالعموم، وجعل ما ذكر في أكثر
الأقوال من باب التمثيل، وأيا ما كان فالشائع أن الجملة مبتدأ
وخبر والمعنى وَالسَّابِقُونَ هم الذين اشتهرت أحوالهم وعرفت
فخامتهم كقوله:
أنا أبو النجم وشعري شعري وفيه من تفخيم شأنهم والإيذان بشيوع
فضلهم ما لا يخفى، وقيل متعلق السبق مخالف لمتعلق السبق الثاني
أي السابقون إلى طاعة الله تعالى «السابقون» إلى رحمته سبحانه،
أو السَّابِقُونَ إلى الخير السَّابِقُونَ إلى الجنة، والتقدير
الأول محكي عن صاحب المرشد.
(14/132)
وأنت تعلم أن الحمل مفيد بدون ذلك كما سمعت
بل هو أبلغ وأنسب بالمقام وأيا ما كان فقوله تعالى: أُولئِكَ
الْمُقَرَّبُونَ مبتدأ وخبر والجملة استئناف بياني، وقيل:
السَّابِقُونَ السابق مبتدأ وَالسَّابِقُونَ اللاحق تأكيد له
وما بعد خبر وليس بذاك أيضا لفوات مقابلة ما ذكر لقوله تعالى:
فَأَصْحابُ إلخ ولأن القسمة لا تكون مستوفاة حينئذ، ولفوات
المبالغة المفهومة من نحو هذا التركيب على ما سمعت مع أنهم
أعني السابقين أحق بالمدح والتعجيب من حالهم من السابقين
ولفوات ما في الاستئناف بأولئك المقربون من الفخامة وإنما لم
يقل- السابقون ما السابقون- على منوال الأولين لأنه جعل أمرا
مفروغا مسلما مستقلا في المدح والتعجيب، والاشارة بأولئك إلى
السابقين وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه
للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل، والْمُقَرَّبُونَ من القربة
بمعنى الحظوة أي أولئك الموصوفون بذلك النعت الجليل الذين
أنيلوا حظوة ومكانة عند الله تعالى، وقال غير واحد: المراد
الذين قربت إلى العرش العظيم درجاتهم.
هذا وفي الإرشاد الذي تقتضيه جزالة التنزيل أن قوله تعالى:
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ خبر مبتدأ محذوف وكذا قوله سبحانه:
وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وقوله جل شأنه: وَالسَّابِقُونَ فإن
المترقب عند بيان انقسام الناس إلى الأقسام الثلاثة بيان أنفس
الأقسام.
وأما أوصافها وأحوالها فحقها أن تبين بعد ذلك بإسنادها إليها،
والتقدير فأحدها أصحاب الميمنة والآخر أصحاب المشأمة، والثالث
السابقون خلا أنه لما أخر بيان أحوال القسمين الأولين عقب كلا
منهما بجملة معترضة بين القسمين منبئة عن ترامي أحوالهما في
الخير والشر إنباء إجماليا مشعرا بأن لأحوال كل منهما تفصيلا
مترقبا لكن لا على أن ما الاستفهامية مبتدأ وما بعدها خبر على
ما رآه سيبويه في أمثاله بل على أنها خبر لما بعدها فإن مناط
الإفادة بيان أن أصحاب الميمنة أمر بديع كما يفيده كون ما خبرا
لا بيان أن أمرا بديعا أصحاب الميمنة كما يفيده كونها مبتدأ
وكذا الحال في ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ، وأما القسم الأخير
فحيث قرن به بيان محاسن أحواله لم يحتج فيه إلى تقديم الأنموذج
فقوله تعالى: السَّابِقُونَ مبتدأ والإظهار في مقام الإضمار
للتفخيم وأُولئِكَ مبتدأ ثان، أو بدل من الاول وما بعده خبر
له، أو للثاني، والجملة خبر للأول انتهى، وقيل عليه: إنه ليس
في جعل جملتي الاستفهام وقوله سبحانه: السَّابِقُونَ إخبارا
لما قبلها بيان لأوصاف الأقسام وأحوالها تفصيلا حتى يقال: حقها
أن تبين بعد أنفس الأقسام بل فيه بيان الأقسام مع إشارة إلى
ترامي أحوالها في الخير والشر والتعجيب من ذلك.
وأيضا مقتضى ما ذكره أن لا يذكر ما أَصْحابُ الْيَمِينِ وما
أَصْحابُ الشِّمالِ في التفصيل، وتعقب هذا بأن الذكر محتاج إلى
بيان نكتة على الوجه الدائر على ألسنتهم كاحتياجه إليه على هذا
الوجه، ولعلها عليه أنه لما عقب الأولين بما يشعر بأن لأحوال
كل تفاصيل مترقبة أعيد ذلك للإعلام بأن الأحوال العجيبة هي هذه
فلتسمع، والذي يتبادر للنظر الجليل ما في الإرشاد من كون أصحاب
الميمنة وكذا كل من الأخيرين خبر مبتدأ محذوف كما سمعت لأن
المتبادر بعد بيان الانقسام ذكر نفس الأقسام على أن تكون هي
المقصودة أولا وبالذات دون الحكم عليها وبيان أحوالها مطلقا
وإن تضمن ذلك ذكرها لكن ما ذكروه أبعد مغزى ومع هذا لا يتعين
على ما ذكر كون تينك الجملتين الاستفهاميتين معترضتين بل يجوز
أن يكون كل منهما صفة لما قبلها بتقدير القول كأنه قيل: فأحدها
أصحاب الميمنة المقول فيهم ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وكذا
يقال في وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ إلخ، ويجعل أيضا
السَّابِقُونَ صفة- للسابقون- قبله، والتأويل في الوصفية
كالتأويل
(14/133)
في الخبرية ويكون الوصف بذلك قائما مقام
تينك الجملتين في المدح، والجملة بعد مستأنفة استئنافا بيانيا
كما في الوجه الشائع، وما يقال: إن في هذا الوجه حذف الموصول
مع بعض أجزاء الصلة يجاب عنه بمنع كون- أل- في الوصف حيث لم
يرد منه الحدوث موصولة فتأمل ولا تغفل، وقوله تعالى: فِي
جَنَّاتِ النَّعِيمِ متعلق بالمقربون، أو بمضمر هو حال من
ضميره أي كائنين في جنات النعيم، وعلى الوجهين فيه إشارة إلى
أن قربهم محض لذة وراحة لا كقرب خواص الملك القائمين بأشغاله
عنده بل كقرب جلسائه وندمائه الذين لا شغل لهم ولا يرد عليهم
أمر أو نهي ولذا قيل: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دون جنات الخلود
ونحوه، وقيل: خبر ثان لاسم الإشارة وتعقب بأن الإخبار بكونهم
فيها بعد الإخبار بكونهم مقربين ليس فيه مزيد مزية، وأجيب بأن
الإخبار الأول للإشارة إلى اللذة الروحانية والإخبار الثاني
للإشارة إلى اللذة الجسمانية.
وقرأ طلحة في جنة النعيم بالإفراد، وقوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ خبر مبتدأ مقدر أي هم ثلة إلخ، وجوز كونه مبتدأ
خبره محذوف أي منهم، أو خبرا أولا أو ثانيا- لأولئك- وجوز أبو
البقاء كونه مبتدأ والخبر عَلى سُرُرٍ، والثلة في المشهور
الجماعة كثرت أو قلّت، وقال الزمخشري: الأمة من الناس الكثيرة
وأنشد قوله:
وجاءت إليهم ثلة خندفية ... بجيش كتيار من السيل مزبد
وقوله تعالى بعد: وَقَلِيلٌ إلخ كفى به دليلا على الكثرة
انتهى، والظاهر أنه أنشد البيت شاهدا لمعنى الكثرة في الثلة
فإن كانت الباء تجريدية وهو الظاهر فنص وإلا فالاستدلال عليها
من أن المقام مقام مبالغة ومدح، وأما استدلاله بما بعد فذلك
لأن التقابل مطلوب لأن الثلة لم توضع للقليل بالإجماع حتى يحمل
ما بعد على التقنن بل هي إما للكثرة والاشتقاق عليها أدل لأن
الثل بمعنى الصب وبمعنى الهدم بالكلية، والثلة بالكسر الضأن
الكثيرة وإما لمطلق الجماعة كالفرقة والقطعة من الثل بمعنى
الكسر كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم إلا أن لاستعمال
غلب على الكثير فيها فالمعنى جماعة كثيرة من الأولين وهم الناس
المتقدمون من لدن آدم إلى نبينا عليهما الصلاة والسلام وعلى من
بينهما من الأنبياء العظام وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ وهم
الناس من لدن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إلى قيام الساعة
ولا يخالفه
قوله عليه الصلاة والسلام: «إن أمتي يكثرون سائر الأمم»
أي يغلبونهم في الكثرة لأن أكثرية سابقي المتقدمين من سابقي
هذه الأمة لا تمنع أكثرية تابعي هؤلاء من تابعي أولئك.
وحاصل ذلك غلبة مجموع هذه الأمة كثرة على من سواها كقرية فيها
عشرة من العلماء ومائة من العوام وأخرى فيها خمسة من العلماء
وألف من العوام فخواص الأولى أكثر من خواص الثانية وعوام
الثانية ومجموع أهلها أضعاف أولئك، لا يقال يأبى أكثرية تابعي
هؤلاء قوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ
الْآخِرِينَ [الواقعة: 39، 40] فإنه في حق أصحاب اليمين وهم
التابعون، وقد عبر في كل بالثلة أي الجماعة الكثيرة لأنا نقول
لا دلالة في الآية على أكثر من وصف كل من الفريقين بالكثرة
وذلك لا ينافي أكثرية أحدهما فتحصل أن سابقي الأمم السوالف
أكثر من سابقي أمتنا. وتابعي أمتنا أكثر من تابعي الأمم،
والمراد بالأمم ما يدخل فيه الأنبياء وحينئذ لا يبعد أن يقال:
إن كثرة سابقي الأولين ليس إلا بأنبيائهم فما على سابقي هذه
الأمة بأس إذ أكثرهم سابقو الأمم بضم لأنبياء عليهم السلام،
وأخرج الإمام أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن
أبي هريرة قال: «لما نزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ
وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم فنزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ
وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فقال النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة بل أنتم نصف أهل
الجنة- أو شطر أهل الجنة- وتقاسمونهم النصف الثاني»
وظاهره أنه شق عليهم قلة من وصف بها وأن الآية الثانية أزالت
ذلك ورفعته وأبدلته
(14/134)
بالكثرة، ويدل على ذلك ما أخرج ابن مردويه
عن أبي هريرة قال: لما نزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ
وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ حزن أصحاب رسول الله صلّى الله
عليه وسلم وقالوا إذا لا يكون من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم
إلا قليل فنزلت نصف النهار ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ
وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فنسخت وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ
وأبى ذلك الزمخشري فقال: إن الرواية غير صحيحة لأمرين:
أحدهما أن الآية الأولى واردة في السابقين، الثانية في أصحاب
اليمين، والثاني أن النسخ في الأخبار غير جائز فإذا أخبر تعالى
عنهم بالقلة لم يجز أن يخبر عنهم بالكثرة من ذلك الوجه وما ذكر
من عدم جواز النسخ في الأخبار أي في مدلولها مطلقا هو المختار.
وقيل: يجوز النسخ في المتغير إن كان عن مستقبل لجواز المحو لله
تعالى فيما يقدره والإخبار يتبعه، وعلى هذا البيضاوي، وقيل:
يجوز عن الماضي أيضا وعليه الإمام الرازي والآمدي، وأما نسخ
مدلول الخبر إذا كان مما لا يتغير كوجود الصانع وحدوث العالم
فلا يجوز اتفاقا فإن كان ما نحن فيه مما يتغير فنسخه جائز عند
البيضاوي ويوافقه ظهر خبر أبي هريرة الثاني، ولا يجوز على
المختار الذي عليه الشافعي وغيره فقول صاحب الكشف: لا خلاف في
عدم جواز النسخ في مثل ما ذكر من الخبر إذ لا يتضمن حكما شرعيا
لا يخلو عن شيء.
وأقول: قد يتعقب ما ذكره الزمخشري بأن الحديث قد صح وورود
الآية الأولى في السابقين والثانية في أصحاب اليمين لا يرد
مقتضاه فإنه يجوز أن يقال: إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لما
سمعوا الآية الاولى حسبوا أن الأمر في هذه الأمة يذهب على هذا
النهج فيكون أصحاب اليمين ثلة من الأولين وقليلا منهم فيكثرهم
الفائزون بالجنة من الأمم السوالف فخزنوا لذلك فنزل قوله تعالى
في أصحاب اليمين: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ
الْآخِرِينَ وقال لهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال
مما أذهب به حزنهم وليس في هذا نسخ للخبر كما لا يخفى.
وقول أبي هريرة فنسخت وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ إن صح عنه
ينبغي تأويله بأن يقال أراد به فأزالت حسبان أن يذكر نحوه في
الفائزين بالجنة من هذه الأمة غير السابقين فتدبر، وعن عائشة
رضي الله تعالى عنها: الفرقتان أي في قوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ في أمة كل نبي في
صدرها ثلة وفي آخرها قليل، وقيل: هما من الأنبياء عليهم السلام
كانوا في صدر الدنيا كثيرين وفي آخرها قليلين.
وقال أبو حيان:
جاء في الحديث- الفرقتان في أمتي فسابق أول الأمة ثلة وسابق
سائرها إلى يوم القيامة قليل-
انتهى، وجاء في فرقتي أصحاب اليمين نحو ذلك،
أخرج مسدد في مسنده وابن المنذر والطبراني وابن مردويه بسند
حسن عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم في قوله سبحانه: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ
وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ قال: هما جميعا من هذه الأمة
،
وأخرج جماعة بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا ما لفظه هما جميعا
من أمتي
وعلى هذا يكون الخطاب في قوله عز وجل: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً
ثَلاثَةً لهذه الأمة فقط عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ حال من
المقربين أو من ضميرهم في قوله تعالى: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ
بناء على أنه في موضع الحال كما تقدم، وقيل: هو خبر آخر للضمير
المحذوف المخبر عنه أولا- بثلة- وفيه وجه آخر أشرنا إليه فيما
مر، ومَوْضُونَةٍ من الوضن وهو نسج الدرع قال الأعشى:
ومن نسج داود موضونة ... تسير مع الحي عيرا فعيرا
واستعير لمطلق النسج أو لنسج محكم مخصوص، ومن ذلك وضين الناقة
وهو حزامها لأنه موضون أي مفتول والمراد هنا على ما أخرجه ابن
جرير وغيره عن ابن عباس مرمولة أي منسوجة بالذهب، وفي رواية
عنه بقضبان الفضة، وقال عكرمة: مشبكة بالدر والياقوت، وقيل:
مَوْضُونَةٍ متصل بعضها ببعض كحلق الدرع، والمراد متقاربة،
وقرأ
(14/135)
زيد بن علي وأبو السمال «سرر» بفتح الراء
وهي لغة لبعض تميم، وكلب يفتحون عين فعل جمع فعيل المضعف نحو
سرير مُتَّكِئِينَ عَلَيْها حال من الضمير المستقر في الجار
والمجرور أعني على سرر، وقوله تعالى: مُتَقابِلِينَ حال منه
أيضا ولك أن تعتبر الحالين متداخلين.
والمراد كما قال مجاهد: لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه وهو وصف
لهم بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق ورعاية الآداب وصفاء البواطن،
وقوله تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ حال أخرى أو استئناف أي يدور
حولهم للخدمة وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي مبقون أبدا على شكل
الولدان وحد الوصافة لا يتحولون عن ذلك، وإلا فكل أهل الجنة
مخلد لا يموت، وقال الفراء وابن جبير: مقرطون بخلدة وهي ضرب من
الأقراط قيل:
هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات
فيعاقبوا عليها، وروى هذا أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى
وجهه
، وعن الحسن البصري-
واشتهر أنه عليه الصلاة والسلام- قال: أولاد الكفار خدم أهل
الجنة
- وذكر الطيبي أنه لم يصح بل صح ما يدفعه:
أخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة قالت: توفي صبي
فقلت: طوبى له عصفور في الجنة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم:
أو لا تدرين أن الله تعالى خلق الجنة وخلق النار فخلق لهذه
أهلا ولهذه أهلا،
وفي رواية خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم.
وأخرج أبو داود عنها أنها قالت: قلت: يا رسول الله ذراري
المؤمنين فقال من آبائهم فقلت: يا رسول الله بلا عمل قال: الله
أعلم بما كانوا عاملين قلت: يا رسول الله فذراري المشركين قال:
من آبائهم فقلت: بلا عمل قال: الله أعلم بما كانوا عاملين
، وقيل: إنهم يمتحنون يوم القيامة فتخرج لهم نار ويؤمرون
بالدخول فيها فمن دخلها وجدها بردا وسلاما وأدخل الجنة، ومن
أبى أدخل النار مع سائر الكفار ويروون في ذلك أثرا.
ومن الغريب ما قيل: إنهم بعد الإعادة يكونون ترابا كالبهائم،
وفي الكشف الأحاديث متعارضة في المسألة وكذلك المذاهب،
والمسألة ظنية والعلم عند الله تعالى وهو عز وجل أعلم انتهى
والأكثر على دخولهم الجنة بفضل الله تعالى ومزيد رحمته تبارك
وتعالى، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك
بِأَكْوابٍ بآنية لا عرا لها ولا خراطيم، والظاهر أنها الأقداح
وبذلك فسرها عكرمة وهي جمع كوب وَأَبارِيقَ جمع إبريق وهو إناء
له خرطوم قيل: وعروة، وفي البحر أنه من أواني الخمر، وأنشد قول
عدي بن زيد:
ودعوا بالصبوح يوما فجاءت ... قينة في يمينها إبريق
وفيه أيضا أنه إفعيل من البريق، وذكر غير واحد أنه معرب- آب
ريزاي- صاب الماء وهو أنسب مما في بعض نسخ القاموس أنه معرب-
آب ري- بلا زاي، وأيا ما كان فهو ليس مأخوذا من البريق، نعم
الإبريق بمعنى المرأة الحسنة والبراقة والسيف البراق والقوس
فيها تلاميع مأخوذ من ذلك، ولعله يقول بأنه عربي لا معرب، وأن
البريق مما فيه من الخمر والشعراء يصفونها بذلك كقوله:
مشعشعة كأن الحص فيها ... إذا ما الماء خالطها سخينا
أو لأنه غالبا يتخذ مما له نوع بريق كالبلور والفضة وَكَأْسٍ
مِنْ مَعِينٍ أي خمر جارية من العيون كما قال ابن عباس وقتادة
أي لم يعصر كخمر الدنيا، وقيل: خمر ظاهرة للعيون مرئية بها
لأنها كذلك أهنأ، وأفرد الكأس على ما قيل لأنها لا تسمى كأسا
إلا إذا كانت مملوءة لا يُصَدَّعُونَ عَنْها أي بسببها وحقيقته
لا يصدر صداعهم عنها، والمراد أنهم لا يلحق رؤوسهم صداع لأجل
خمار يحصل منها كما في خمور الدنيا، وقيل: لا يفرقون عنها
بمعنى لا تقطع عنهم لذتهم بسبب من الأسباب كما تفرق أهل خمر
الدنيا بأنواع التفريق.
(14/136)
وقرأ مجاهد «لا يصّدعون» بفتح الياء وشد
الصاد على أن أصله يتصدعون فأدغم التاء في الصاد أي لا يتفرقون
كقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم: 43] ، وقرىء
«لا يصدعون» بفتح الياء والتخفيف أي لا يصدع بعضهم بعضا ولا
يفرقونهم أي لا يجلس داخل منهم بين اثنين فيفرق بين المتقاربين
فإنه سوء الأدب وليس من حسن العشرة وَلا يُنْزِفُونَ قال مجاهد
وقتادة والضحاك: لا تذهب عقولهم بكسرها من نزف الشارب كعنى إذا
ذهب عقله، ويقال للسكران نزيف ومنزوف، وقيل: وهو من نزف الماء
نزحه من البئر شيئا فشيئا فكان الكلام على تقدير مضاف.
وقرأ ابن أبي إسحاق وعبد الله والسلمي والجحدري والأعمش وطلحة
وعيسى وعاصم كما أخرج عنه عبد بن حميد «ولا ينزفون» بضم الياء
وكسر الزاي من أنزف الشارب إذا ذهب عقله أو شرابه، ومعناه صار
ذا نزف ونظيره أقشع السراب وقشعته الريح وحقيقته دخل في القشع،
وقرأ ابن أبي إسحاق أيضا «ولا ينزفون» بفتح الياء وكسر الزاي
قال: في المجمع وهو محمول على أنه لا يفنى خمرهم، والتناسب بين
الجملتين على ما سمعت فيهما أولا على قراءة الجمهور أن الأولى
لبيان نفي الضرر عن الأجسام، والثانية لبيان نفي الضرر عن
العقول وتأمل لتعرفه إن شاء الله تعالى على ما عدا ذلك
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ أي يأخذون خيره وأفضله
والمراد مما يرضونه وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ مما
تميل نفوسهم إليه وترغب فيه، والظاهر أن فاكهة ولحم معطوفان
على أكواب فتفيد الآية أن الولدان يطوفون بهما عليهم، واستشكل
بأنه قد جاء في الآثار أن فاكهة الجنة وثمارها ينالها القائم
والقاعد والنائم، وعن مجاهد أنها دانية من أربابها فيتناولونها
متكئين فإذا اضطجعوا نزلت بإزاء أفواههم فيتناولونها مضطجعين،
وأن الرجل من أهل الجنة يشتهي الطير من طيور الجنة فيقع في يده
مقليا نضجا، وقد أخرج هذا ابن أبي الدنيا عن أبي أمامة.
وأخرج عن ميمونة مرفوعا أن الرجل ليشتهي الطير في الجنة فيجيء
مثل البختي حتى يقع على خوانه لم يصبه دخان ولم تمسه نار فيأكل
منه حتى يشبع ثم يطير إلى غير ذلك
، وإذا كان الأمر كما ذكر استغنى عن طوافهم بالفاكهة واللحم،
وأجيب بأن ذلك- والله تعالى أعلم- حالة الاجتماع والشرب،
ويفعلون ذلك الإكرام ومزيد المحبة والتعظيم والاحترام، وهذا
كما يناول أحد الجلساء على خوان الآخر بعض ما عليه من الفواكه
ونحوها وإن كان ذلك قريبا منه اعتناء بشأنه وإظهارا لمحبته
والاحتفال به، وجوز أن يكون العطف على جنات النعيم وهو من باب-
متقلدا سيفا ورمحا- أو من بابه المعروف، وتقديم الفاكهة على
اللحم للإشارة إلى أنهم ليسوا بحالة تقتضي تقديم اللحم كما في
الجائع فإن حاجته إلى اللحم أشد من حاجته إلى الفاكهة بل هم
بحالة تقتضي تقديم الفاكهة واختيارها كما في الشبعان فإنه إلى
الفاكهة أميل منه إلى اللحم، وجوز أن يكون ذلك لأن عادة أهل
الدنيا لا سيما أهل الشرب منهم تقديم الفاكهة في الأكل وهو طبا
مستحسن لأنها ألطف وأسرع انحدارا وأقل احتياجا إلى المكث في
المعدة للهضم، وقد ذكروا أن أحد أسباب الهيضة إدخال اللطيف من
الطعام على الكثيف منه ولأن الفاكهة تحرك الشهوة للأكل واللحم
يدفعها غالبا.
ويعلم من الوجه الأول وجه تخصيص التخير بالفاكهة والاشتهاء
باللحم، وفيه إشارة إلى أن الفاكهة لم تزل حاضرة عندهم وبمرأى
منهم دون اللحم ووجه ذلك أنها مما تلذه الأعين دونه، وقيل: وجه
التخصيص كثرة أنواع الفاكهة واختلاف طعومها وألوانها وأشكالها
وعدم كون اللحم كذلك، وفي التعبير بيتخيرون دون يختارون وإن
تقاربا معنى إشارة لمكان صيغة التفعل إلى أنهم يأخذون ما يكون
منها في نهاية الكمال وأنهم في غاية الغنى عنها، والله تعالى
أعلم بأسرار كلامه وَحُورٌ عِينٌ عطف على وِلْدانٌ أو على
الضمير المستكن في مُتَّكِئِينَ أو على مبتدأ حذف هو وخبره أي
لهم هذا كل وَحُورٌ أو مبتدأ حذف خبره أي لهم، أو فيها حور،
وتعقب الوجه الأول بأن
(14/137)
الطواف لا يناسب حالهن، وأجيب بأنه لا يبعد
أن يكون من الحور ما ليس بمقصورات في الخيام ولا مخدرات هن
كالخدم لهن لا يبالي بطوافهن ولا ينكر ذلك عليهن، وأن الطواف
في الخيام أنفسها وهو لا ينافي كونهم مقصورات فيها، أو أن
العطف على معنى لهم وِلْدانٌ وحُورٌ والثاني بأنه خلاف الظاهر
جدا، والثالث بكثرة الحذف، وعِينٌ جمع عيناء وأصله عين على فعل
كما تقول حمراء وحمر فكسرت العين لئلا تنقلب الياء واوا، وليس
في كلام العرب ياء ساكنة قبلها ضمة كما أنه ليس فيه واو ساكنة
قبلها كسرة.
وقرأ السلمي والحسن وعمرو بن عبيد وأبو جعفر وشيبة والأعمش
وطلحة والمفضل وأبان وعصمة عن عاصم وحمزة والكسائي «وحور عين»
بالجر، وقرأ النخعي كذلك إلا أنه قلب الواو ياء والضمة قبلها
كسرة في «حور» فقال:
وحير على الاتباع- لعين- وخرج على العطف على جَنَّاتِ
النَّعِيمِ وفيه مضاف محذوف كأنه قيل: هم في جنات وفاكهة ولحم
ومصاحبة حور على تشبيه مصاحبة الحور بالظرف على نهج الاستعارة
المكنية، وقرينتها التخييلية إثبات معنى الظرفية بكلمة فِي فهي
باقية على معناها الحقيقي ولا جمع بين الحقيقة والمجاز، وذهب
إلى العطف المذكور الزمخشري، وتعقبه أبو حيان فقال: فيه بعد
وتفكيك كلام مرتبط بعضه ببعض، وهو فهم أعجمي- وليس كما قال كما
لا يخفى- أو على (أكواب) ويجعل من باب- متقلدا سيفا ورمحا- كما
سمعت آنفا فكأنه قيل: ينعمون بأكواب وبحور، وجوز أن يبقى على
ظاهره المعروف، وأن الولدان يطوفون عليهم بالحور أيضا لعرض
أنواع اللذات عليهم من المأكول والمشروب والمنكوح كما تأتي
الخدام بالسراري للملوك ويعرضوهن عليهم، وإلى هذا ذهب أبو عمر
وقطرب، وأبى ذلك صاحب الكشف فقال: أما العطف على الولدان على
الظاهر فلا لأن الولدان لا يطوفون بهن طوافهم بالأكواب، والقلب
إلى هذا أميل إلا أن يكون هناك أثر يدل على خلافه، وكون الجر
للجوار يأباه الفصل أو يضعفه. وقرأ أبيّ وعبد الله- وحورا
عينا- بالنصب، وخرج على العطف على محل بِأَكْوابٍ لأن المعنى
يعطون أكوابا وحورا على أنه مفعول به لمحذوف أي ويعطون حورا أو
على العطف على محذوف وقع مفعولا به لمحذوف أيضا أي يعطون هذا
كله وحورا، وقرأ قتادة «وحور» بالرفع مضافا إلى «عين» ، وابن
مقسم «وحور» بالنصب مضافا، وعكرمة- وحوراء عيناء- على التوحيد
اسم جنس وبفتح الهمزة فيهما فاحتمل الجر والنصب كَأَمْثالِ
اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ أي في الصفاء، وقيد بالمكنون أي
المستور بما يحفظه لأنه أصفى وأبعد من التغير، وفي الحديث
صفاؤهن كصفاء الدر الذي لا تمسه الأيدي، ووصف الحسنات بذلك
شائع في العرب، ومنه قوله:
قامت تراءى بين سجفي كلة ... كالشمس يوم طلوعها بالأسعد
أو درة صدفية غواصها ... بهج متى يرها يهل ويسجد
والجار والمجرور في موضع الصفة لحور، أو الحال، والإتيان
بالكاف للمبالغة في التشبيه، ولعل الأمر عليه نحو زيد قمر
جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ مفعول له لفعل محذوف أي يفعل
بهم ذلك كله جزاءا بأعمالهم أو بالذي استمروا على عمله أو هو
مصدر مؤكد أي يجزون جزاء لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً ما لا
يعتد به من الكلام وهو الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى
اللغا- وهو صوت العصافير ونحوها من الطير- وقد يسمى كل كلام
قبيح لغوا وَلا تَأْثِيماً أي ولا نسبة إلى الإثم أي لا يقال
لهم أثمتم، وعن ابن عباس كما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم
تفسيره بالكذب، وأخرجه هناد عن الضحاك- وهو من المجاز كما لا
يخفى- والكلام من باب.
ولا ترى الضب بها ينجحر
(14/138)
إِلَّا قِيلًا أي قولا فهو مصدر مثله
سَلاماً سَلاماً بدل من قِيلًا كقوله تعالى: لا يَسْمَعُونَ
فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً [مريم: 62] وقال الزجاج: هو صفة
له بتأويله بالمشتق أي سالما من هذه العيوب أو مفعوله، والمراد
لفظه فلذا جاز وقوعه مفعولا للقول مع إفراده، والمعنى إلا أن
يقول بعضهم لبعض سَلاماً، وقيل: هو مصدر لفعل مقدر من لفظه وهو
مقول القول ومفعوله حينئذ أي نسلم سلاما، والتكرير للدلالة على
فشو السلام وكثرته فيما بينهم لأن المراد سلاما بعد سلام،
والاستثناء منقطع وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم محتمل لأن
يكون من الضرب الأول منه، وهو أن يستثنى من صفة ذم منفية عن
الشيء صفة مدح له بتقدير دخولها فيها بأن يقدر السلام هنا
داخلا فيما قيل فيفيد التأكيد من وجهين، وأن يكون من الضرب
الثاني منه وهو أن يثبت لشيء صفة مدح ويعقب بأداة استثناء
يليها صفة مدح أخرى بأن لا يقدر ذلك، ويجعل الاستثناء من أصله
منقطعا فيفيد التأكيد من وجه، ولولا ذكر التأثيم- على ما قاله
السعد- جاز جعل الاستثناء متصلا حقيقة لأن معنى السلام الدعاء
بالسلامة وأهل الجنة أغنياء عن ذلك فكان ظاهره من قبيل اللغو
وفضول الكلام لولا ما فيه من فائدة الإكرام، وإنما منع التأثيم
الذي هو النسبة إلى الإثم لأنه لا يمكن جعل السلام من قبيله
وليس لك في الكلام أن تذكر متعددين ثم تأتي بالاستثناء المتصل
من الأول مثل أن تقول: ما جاء من رجل ولا امرأة إلا زيدا ولو
قصدت ذلك كان الواجب أن تؤخر ذكر لرجل، وقرىء- سلام سلام-
بالرفع على الحكاية، وقوله تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ إلخ
شروع في بيان تفاصيل شؤونهم بعد بيان تفاصيل شؤون السابقين
«وأصحاب» مبتدأ وقوله: ما أَصْحابُ الْيَمِينِ جملة استفهامية
مشعرة بتفخيمهم والتعجيب من حالهم وهي على ما قالوا: إما خبر
للمبتدأ، وقوله سبحانه: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ خبر ثان له، أو
خبر لمبتدأ محذوف أي هم في سدر، والجملة استئناف لبيان ما أبهم
في قوله عز وجل: ما أَصْحابُ الْيَمِينِ من علو الشأن، وإما
معترضة والخبر هو قوله تعالى شأنه: فِي سِدْرٍ وجوز أن تكون
تلك الجملة في موضع الصفة والخبر هو هذا الجار والمجرور،
والجملة عطف على قوله تبارك وتعالى في شرح أحوال السابقين:
أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الواقعة:
11، 12] أي وَأَصْحابُ الْيَمِينِ المقول فيهم ما أَصْحابُ
الْيَمِينِ كائنون فِي سِدْرٍ إلخ، والظاهر أن التعبير
بالميمنة فيما مر، وباليمين هنا للتفنن، وكذا يقال في المشأمة
والشمال فيما بعد، وقال الإمام: الحكمة في ذلك أن في الميمنة
وكذا المشأمة دلالة على الموضع والمكان والأزواج الثلاثة في
أول الأمر يتميز بعضهم عن بعض ويتفرقون بالمكان فلذا جيء أولا
بلفظ يدل على المكان وفيما بعد يكون التميز والتفرق بأمر فيهم
فلذا لم يؤت بذلك اللفظ ثانيا، والسدر شجر النبق، والمخضود
الذي خضد أي قطع شوكه،
أخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن أبي أمامه قال: «كان أصحاب رسول
الله صلّى الله عليه وسلم يقولون: إن الله تعالى ينفعنا
بالأعراب ومسائلهم أقبل أعرابي يوما فقال: يا رسول الله لقد
ذكر الله تعالى في القرآن شجر مؤذية وما كنت أرى أن في الجنة
شجرة تؤذي صاحبها قال: وما هي؟ قال: السدر فإن له شوكا فقال
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:
أليس الله يقول: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ خضد الله شوكه فجعل مكان
كل شوكة ثمرة وأن الثمرة من ثمره تفتق عن اثنين وسبعين لونا من
الطعام ما فيها لون يشبه الآخر» .
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس وقتادة وعكرمة والضحاك أنه
الموقر حملا على أنه في خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب فمخضود
مثنى الأغصان كني به عن كثير الحمل.
وقد أخرج ابن المنذر عن يزيد الرقاشي أن النبقة أعظم من القلال
والظرفية مجازية للمبالغة في تمكنهم من التنعم والانتفاع بما
ذكر
وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ قد نضد حمله من أسفله إلى أعلاه ليست له
ساق بارزة وهو شجر الموز
(14/139)
كما أخرج ذلك عبد الرزاق وهناد وعبد بن
حميد وابن جرير وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه
، وأخرجه جماعة من طرق عن ابن عباس ورواه ابن المنذر عن أبي
هريرة، وأبي سعيد الخدري وعبد بن حميد عن الحسن، ومجاهد
وقتادة، وعن الحسن أنه قال: ليس بالموز ولكنه شجر ظله بارد
رطب، وقال السدي: شجر يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر أحلى من
العسل، وقيل: هو شجر من عظام العضاه، وقيل: شجر أم غيلان وله
نوار كثير طيب الرائحة وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ممتد منبسط لا يتقلص
ولا يتفاوت كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، وظاهر الآثار
يقتضي أنه ظل الأشجار.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة وغيرهم عن أبي
هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة
يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها اقرؤوا إن شئتم
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ»
.
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن مردويه عن أبي سعيد
قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الجنة شجرة يسير
الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها وذلك الظل الممدود» .
وأخرج ابن أبي حاتم ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما قال: الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق ظلها قدر ما
يسير الراكب في كل نواحيها مائة عام يخرج إليها أهل الجنة وأهل
الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا
فيرسل الله تعالى ريحا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في
الدنيا
وعن مجاهد أنه قال: هذا الظل من سدرها وطلحها، وأخرج عبد بن
حميد وابن جرير وابن المنذر عن عمرو بن ميمون أنه قال: الظل
الممدود مسيرة سبعين ألف سنة وَماءٍ مَسْكُوبٍ قال سفيان
وغيره: جار من غير أخاديد، وقيل:
منساب حيث شاؤوا لا يحتاجون فيه إلى سانية ولا رشاء وذكر هذه
الأشياء لما أن كثيرا من المؤمنين لبداوتهم تمنوها، أخرج عبد
بن حميد وابن جرير والبيهقي عن مجاهد قال: كانوا يعجبون بوج
وظلاله من طلحه وسدره فأنزل الله تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ
ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ إلخ، وفي رواية
عن الضحاك «نظر المسلمون إلى وج فأعجبهم سدره وقالوا: يا ليت
لنا مثل هذا فنزلت هذه الآية» .
وقيل: كأنه لما شبه حال السابقين بأقصى ما يتصور لأهل المدن من
كونهم على سرر تطوف عليهم خدامهم بأنواع الملاذ شبه حال أصحاب
اليمين بأكمل ما يتصور لأهل البوادي من نزولهم في أماكن مخصبة
فيها مياه وأشجار وظلال إيذانا بأن التفاوت بين الفريقين
كالتفاوت بين أهل المدن والبوادي، وذكر الإمام مدعيا أنه مما
وفق له أن قوله تعالى: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ
مَنْضُودٍ من باب قوله سبحانه: رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ [الشعراء:
28، المزمل: 9] لأن السدر أوراقه في غاية الصغر والطلح يعني
الموز أوراقه في غاية الكبر فوقعت الإشارة إلى الطرفين فيراد
جميع الأشجار لأنها نظرا إلى أوراقها محصورة بينهما وهو مما لا
بأس به،
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه، وجعفر بن محمد وعبد الله رضي
الله تعالى عنهم «وطلع» بالعين بدل وَطَلْحٍ بالحاء
، وأخرج ابن الأنباري في المصاحف وابن جرير عن قيس بن عباد
قال: قرأت على علي كرم الله تعالى وجهه وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ
فقال: ما بال الطلح؟ أما تقرأ وطلع، ثم قرأ قوله تعالى: لَها
طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق: 10] فقيل له: يا أمير المؤمنين أنحكها من
المصحف؟ فقال: لا يهاج القرآن اليوم وهي رواية غير صحيحة كما
نبه على ذلك الطيبي، وكيف يقر أمير المؤمنين كرم الله تعالى
وجهه تحريفا في كتاب الله تعالى المتداول بين الناس، أو كيف
يظنّ بأن نقلة القرآن ورواته وكتابه من قبل تعمدوا ذلك أو
غفلوا عنه؟ هذا والله تعالى قد تكفل بحفظه سبحانك هذا بهتان
عظيم.
ثم إن الذي يقتضيه النظم الجليل كما قال الطيبي: حمل فِي
سِدْرٍ مَخْضُودٍ إلخ على معنى التظليل،
(14/140)
وتكاثف الأشجار على سبيل الترقي لأن
الفواكه مستغنى عنها بما بعد وليقابل قوله تعالى: وَأَصْحابُ
الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ
وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ [الواقعة: 41- 43] قوله سبحانه:
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ إلخ فإذن لا مدخل لحديث الطلع في معنى
الظل وما يتصل به لكن قال صاحب الكشف: إن وصف الطلح بكونه
منضودا لا يظهر له كثير ملاءمة لكون المقصود منفعة التظليل
وينبغي أن يحمل الطلح على أنه من عظام العضاه على ما ذكره في
الصحاح فشجر أم غيلان والموز لا ظل لهما يعتد به، ثم قال ولو
حمل الطلح على المشموم لكان وجها انتهى، وقد قدمنا لك خبر سبب
النزول فلا تغفل وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ أي بحسب الأنواع
والأجناس على ما يقتضيه المقام.
لا مَقْطُوعَةٍ في وقت من الأوقات كفواكه الدنيا وَلا
مَمْنُوعَةٍ عمن يريد تناولها بوجه من الوجوه ولا يحظر عليها
كما يحظر على بساتين الدنيا، وقرىء وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا
مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ بالرفع في الجميع على تقدير
وهناك فاكِهَةٍ إلخ وَفُرُشٍ جمع فراش كسراج وسرج، وقرأ أبو
حيوة بسكون الراء مَرْفُوعَةٍ منضدة مرتفعة أو مرفوعة على
الأسرة فالرفع حسي كما هو الظاهر،
وقد أخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وجماعة عن أبي سعيد
الخدري عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ارتفاعها
كما بين السماء والأرض ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام
ولا تستبعد ذلك من حيث العروج والنزول ونحوهما فالعالم عالم
آخر وراء طور عقلك.
وأخرج هناد عن الحسن أن ارتفاعها مسيرة ثمانين سنة وليس بمثابة
الخبر السابق، وقال بعضهم: أي رفيعة القدر على أن رفعها معنوي
بمعنى شرفها وأيا ما كان فالمراد بالفرش ما يفرش للجلوس عليه.
وقال أبو عبيدة المراد بها النساء لأن المرأة يكنى عنها
بالفراش كما يكنى عنها باللباس ورفعهن في الأقدار والمنازل.
وقيل: على الأرائك وأيد إرادة النساء بقوله تعالى: إِنَّا
أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً لأن الضمير في الأغلب يعود على مذكور
متقدم وليس إلا الفرش ولا يناسب العود إليه إلا بهذا المعنى
والاستخدام بعيد هنا، وعلى القول في الفرش الضمير للنساء وإن
لم يجر لها ذكر لتقدم ما يدل عليها فهو تتميم بيانا لمقدر يدل
عليه السياق كأنه قيل: وفرش مرفوعة ونساء أو وحور عين، ثم
استؤنف وصفهن بقوله سبحانه: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ تتميما
للبيان زيادة للترغيب لا لتعليل الرفع، وقيل: إن المرجع مضمر
وتقدير المنزل وفرش مرفوعة لأزواجهم أو لنسائهم فإنا إلخ
استئناف علة للرفع أي وفرش مرفوعة لأزواجهم لأنا أنشأناهن،
والأول أوفق لبلاغة القرآن العظيم، والمراد بأنشأناهن أعدنا
إنشاءهن من غير ولادة لأن المخبر عنهن بذلك نساءكن في الدنيا.
فقد أخرج ابن جرير وعبد بن حميد والترمذي وآخرون عن أنس قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: في الآية إن المنشئات
اللاتي كن في الدنيا عجائز عمشا رمصا»
وأخرج الطبراني وابن أبي حاتم وجماعة عن سلمة بن مرثد الجعفي
قال: «سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول في قوله
تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً الثيب والأبكار اللاتي
كن في الدنيا»
وأخرج الترمذي في الشمائل وابن المنذر وغيرهما عن الحسن قال:
«أتت عجوز فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة فقال:
يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز فولت تبكي قال: أخبروها
أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تعالى يقول: إِنَّا
أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً
إلخ، وقال أبو حيان: الظاهر أن الإنشاء هو الاختراع الذي لم
يسبق بخلق ويكون ذلك مخصوصا بالحور العين فالمعنى إنا
ابتدأناهن ابتداء جديدا من غير ولادة ولا خلق أول
فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً تفسير لما تقدم، والجعل إما بمعنى
التصيير، وأَبْكاراً مفعول ثان، أو بمعنى الخلق و «أبكارا» حال
أو مفعول ثان، والكلام من قبيل ضيق فم الركية،
وفي الحديث «إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن
(14/141)
ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي
سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا
بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ
مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ
الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا
وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47)
أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ
وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ
مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ
الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ
(52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ
عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ
(55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ
خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا
تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ
الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ
وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ
أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا
تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63)
أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ
نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ
أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ
(69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ
(70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ
الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً
وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ
لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا
يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (80)
أبكارا» أخرجه الطبراني في الصغير والبزار
عن أبي سعيد مرفوعا
عُرُباً متحببات إلى أزواجهن جمع عروب كصبور وصبر، وروي هذا عن
جماعة من السلف وفسرها جماعة أخرى بغنجات، ولا يخفى أن الغنج
ألطف أسباب التحبب، وعن زيد بن أسلم العروب الحسنة الكلام، وفي
رواية عن ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد هن العواشق
لأزواجهن، ومنه على ما قيل قول لبيد:
وفي الخدور عروب غير فاحشة ... ريا الروادف يعشى دونها البصر
وفي رواية أخرى عن مجاهد أنهن الغلمات اللاتي يشتهين أزواجهم،
وأخرج ابن عدي بسند ضعيف عن أنس مرفوعا- خير نسائكم العفيفة
الغلمة- وقال إسحاق بن عبد الله بن الحارث النوفلي: العروب
الخفرة المتبذلة لزوجها، وأنشد:
يعرين عند بعولهن إذا خلوا ... وإذا هم خرجوا فهن خفار
ويرجع هذا إلى التحبب،
وأخرج ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال رسول
الله صلّى الله عليه وسلم في قوله تعالى: عُرُباً كلامهن عربي
، ولا أظن لهذا صحة والتفسير بالمتحببات هو الذي عليه الأكثر.
وقرأ حمزة وجماعة- منها عباس والأصمعي- عن أبي عمرو، وأخرى-
منها خارجة وكردم- عن نافع، وأخرى منها حماد وأبو بكر وأبان-
عن عاصم «عربا» بسكون الراء وهي لغة تميم، وقال غير واحد: هي
للتخفيف كما في عنق وعنق أَتْراباً مستويات في سن واحد كما قال
أنس وابن عباس ومجاهد والحسن وعكرمة وقتادة وغيرهم كأنهن شبهن
في التساوي بالترائب التي هي ضلوع الصدر أو كأنهن وقعن معا على
التراب أي الأرض وهن بنات ثلاث وثلاثين سنة وكذا أزواجهن.
وأخرج الترمذي عن معاذ مرفوعا «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا
مكحلين أبناء ثلاثين، أو ثلاث وثلاثين»
والمراد بذلك كمال الشباب، وقوله تعالى: لِأَصْحابِ الْيَمِينِ
متعلق- بأنشانا- أو بجعلنا، وقيل: متعلق- بأترابا- كقولك فلان
ترب لفلان أي مساو له فهو محتاج إلى التأويل، وتعقب بأنه مع
هذا ليس فيه كثير فائدة وفيه نظر، وقيل: بمحذوف هو صفة-
لأبكارا- أي كائنات لأصحاب اليمين، وفيه إقامة الظاهر مقام
الضمير لطول العهد أو للتأكيد والتحقيق [الواقعة: 39- 80]
وقوله تعالى:
(14/142)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ
الْآخِرِينَ خبر مبتدأ محذوف أي هم ثلة، أو خبر ثان لهم المقدر
مبتدأ مع فِي سِدْرٍ أو لِأَصْحابِ الْيَمِينِ في قوله تعالى:
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ أو مبتدأ خبره
محذوف أي منهم، أو مبتدأ خبره الجار والمجرور قبله احتمالات
اعترض الأخير منها بأن المعنى عليه غير ظاهر ولا طلاوة فيه،
وجعل اللام بمعنى من كما في قوله:
ونحن لكم يوم القيامة أفضل لا يخفى حاله- والأولون والآخرون-
المتقدمون والمتأخرون إما من الأمم وهذه الأمة، أو من هذه
الأمة فقط على ما سمعت فيما تقدم، هذا ولم يقل سبحانه في حق
أصحاب اليمين- جزاء بما كانوا يعملون- كما قاله عز وجل في حق
السابقين رمزا إلى أن الفضل في حقهم متمحض كأن عملهم لقصوره عن
عمل السابقين لم يعتبر اعتباره. ثم الظاهر أن ما ذكر من حال
أصحاب اليمين هو حالهم الذي ينتهون إليه فلا ينافي أن يكون
منهم من يعذب لمعاص فعلها ومات غير تائب عنها ثم يدخل الجنة.
ولا يمكن أن يقال: إن المؤمن العاصي من أصحاب الشمال لأن صريح
أوصافهم الآتية يقتضي أنهم كانوا كافرين ويلزم من جعل هذا قسما
على حدة كون القسمة غير مستوفاة فليتأمل، والله تعالى أعلم.
والكلام في قوله تعالى: وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ
الشِّمالِ فِي سَمُومٍ على نمط ما سلف في نظيره، والسموم قال
الراغب: الريح الحارة التي تؤثر تأثير السم، وفي الكشاف حرّ
نار ينفذ في المسام والتنوين للتعظيم وكذا في قوله تعالى:
وَحَمِيمٍ وهو الماء الشديد الحرارة وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ أي
دخان أسود كما قال ابن عباس وأبو مالك وابن زيد والجمهور وهي
على وزن يفعول، وله نظائر قليلة من الحممة القطعة من الفحم
وتسميته ظلّا على التشبيه التهكمي، وعن ابن عباس أيضا أنه
سرادق النار المحيط بأهلها يرتفع من كل ناحية حتى يظلهم، وقال
ابن كيسان: هو من أسماء جهنم فإنها سوداء وكذا كل ما فيها أسود
بهيم نعوذ بالله تعالى منها. وقال ابن بريدة وابن زيد أيضا: هو
جبل من النار أسود يفزع أهل النار إلى ذراه فيجدونه أشد شيء،
والجار والمجرور في موضع الصفة- لظل- وكذا قوله سبحانه: لا
بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ صفتان له، وتقديم الصفة الجار والمجرور
على الصفة المفردة جائز كما صرح به الرضي وغيره أي لا بارد
كسائر الظلال، ولا نافع لمن يأوي إليه من أذى الحر- وذلك كرمه-
فهناك استعارة، ونفى ذلك ليمحق توهم ما في الظل من الاسترواح
إليه وإن وصف أولا بقوله تعالى: مِنْ يَحْمُومٍ والمعنى أنه ظل
حار ضار إلا أن للنفي شأنا ليس للإثبات. ومن ذلك جاء التهكم
والتعريض بأن الذي يستأهل الظل الذي فيه برد وإكرام غير هؤلاء
فيكون أشجى لحلوقهم وأشد لتحسرهم، وقيل: الكرم باعتبار أنه
مرضي في بابه، فالظل الكريم هو المرضي في برده وروحه، وفيه أنه
لا يلائم ما هنا لقوله تعالى: لا بارِدٍ وجوز أن يكون ذلك نفيا
لكرامة من يستروح
(14/143)
إليه ونسب إلى الظل مجازا، والمراد أنهم
يستظلون به وهم مهانون، وقد يحتمل المجلس الرديء لنيل الكرامة،
وفي البحر يجوز أن يكونا صفتين- ليحموم- ويلزم منه وصف الظل
بهما، وتعقب بأن وصف اليحموم وهو الدخان بذلك ليس فيه كبير
فائدة! وقرأ ابن أبي عبلة «لا بارد ولا كريم» برفعهما أي لا هو
بارد ولا كريم على حدّ قوله:
فأبيت لا حرج ولا محروم أي لا أنا حرج ولا محروم، وقوله تعالى:
إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ تعليل لابتلائهم
بما ذكر من العذاب، وسلك هذا المسلك في تعليل الابتداء بالعذاب
اهتماما بدفع توهم الظلم في التعذيب، ولما كان إيصال الثواب
مما ليس فيه توهم نقص أصلا لم يسلك فيه نحو هذا، والمترف هنا
بقرينة المقام هو المتروك يصنع ما يشاء لا يمنع، والمعنى أنهم
عذبوا لأنهم كانوا قبل ما ذكر من العذاب في الدنيا متبعين هوى
أنفسهم وليس لهم رادع منها يردعهم عن مخالفة أوامره عز وجل
وارتكاب نواهيه سبحانه كذا قيل، وقيل: هو العاتي المستكبر عن
قبول الحق والإذعان له، والمعنى أنهم عذبوا لأنهم كانوا في
الدنيا مستكبرين عن قبول ما جاءتهم به رسلهم من الإيمان بالله
عز وجل وما جاء منه سبحانه، وقيل: هو الذي أترفته النعمة أي
أبطرته وأطغته، وقريب منه ما قيل: هو المنعم المنهمك في
الشهوات، وعليه قول أبي السعود أي إنهم كانوا قبل ما ذكر من
سوء العذاب في الدنيا منعمين بأنواع النعم من المآكل والمشارب
والمساكن الطيبة والمقامات الكريمة منهمكين في الشهوات فلا جرم
عذبوا بنقائضها، وتعقب بأن كثيرا من أهل الشمال ليسوا مترفين
بالمعنى الذي اعتبره فكيف يصح تعليل عذاب الكل بذلك ولا يرد
هذا على ما قدمناه من القولين كما لا يخفى.
ومن الناس من فسر المترف بما ذكر وتفصى عن الاعتراض بأن تعليل
عذاب الكل بما ذكر في حيز العلة لا يستدعي أن يكون كل من
المذكورات موجودا في كل من أصحاب الشمال بل وجود المجموع في
المجموع وهذا لا يضر فيه اختصاص البعض بالبعض فتأمله، وقيل:
المترف المجعول ذا ترفة أي نعمة واسعة والكل مترفون بالنسبة
إلى الحالة التي يكونون عليها يوم القيامة، وهو على ما فيه لا
يظهر أمر التعليل عليه وَكانُوا يُصِرُّونَ يتشددون ويمتنعون
من الإقلاع ويداومون عَلَى الْحِنْثِ أي الذنب الْعَظِيمِ وفسر
بعضهم الحنث بالذنب العظيم لا بمطلق الذنب وأيد بأنه في الأصل
العدل العظيم فوصفه بالعظيم للمبالغة في وصفه بالعظم كما وصف
الطود وهو الجبل العظيم به أيضا، والمراد به كما روي عن قتادة
والضحاك وابن زيد الشرك وهو الظاهر.
وأخرج عبد بن حميد عن الشعبي أن المراد به الكبائر وكأنه جعل
المعنى- وكانوا يصرون على كل حنث عظيم- وفي رواية أخرى عنه أنه
اليمين الغموس وظاهره الإطلاق، وقال التاج السبكي في طبقاته:
سألت الشيخ، يعني والده تقي الدين- ما الحنث العظيم؟ - فقال:
هو القسم على إنكار البعث المشار إليه بقوله تعالى:
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ
اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل: 38] وهو تفسير حسن لأن الحنث وإن
فسر بالذنب مطلقا أو العظيم فالمشهور استعماله في عدم البر في
القسم، وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى: وَكانُوا يَقُولُونَ
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً إلى آخره للزوم
التكرار، وأجيب بأن المراد بالأول وصفهم بالثبات على القسم
الكاذب وبالثاني وصفهم بالاستمرار على الإنكار والرمز إلى
استدلال ظاهر الفساد مع أنه لا محذور في تكرار ما يدل على
الإنكار وهو توطئة وتمهيد لبيان فساده، والمراد بقولهم:- كنا
ترابا وعظاما- كان بعض أجزائنا من اللحم والجلد ونحوهما ترابا
وبعضها عظاما نخرة، وتقديم التراب لأنه أبعد عن الحياة التي
يقتضيها ما هم بصدد إنكاره من البعث،- وإذا- متمحضة للظرفية
والعامل فيها ما دل عليه قوله تعالى: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
لا مبعوثون نفسه لتعدد ما يمنع من عمل ما بعده فيما قبله- وهو
(14/144)
نبعث- وهو المرجع للإنكار وتقييده بالوقت
المذكور ليس لتخصيص إنكاره به فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت
وإن كان البدن على حاله لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إليه في
حالة منافية له بالكلية وهذا كالاستدلال على ما يزعمونه،
وتكرير الهمزة لتأكيد النكير وتحلية الجملة بأن لتأكيد الإنكار
لا لإنكار التأكيد، وقوله سبحانه: أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ
عطف على محل- إن- واسمها أو على الضمير المستتر في مبعوثون
وحسن للفصل بالهمزة وإن كانت حرفا واحدا- كما قال الزمخشري-
ولا يضر عمل ما قبل هذه الهمزة في المعطوف بعدها لأنها مكررة
للتأكيد وقد زحلقت عن مكانها، وقولهم: الحرف إذا كرر للتأكيد
فلا بد أن يعاد معه ما اتصل به أولا أو ضمير لا يسلم اطراده
لورود:
«ولا- للما- بهم أبدا دواء» وأمثاله، وجوز أن يكون آباؤُنَا
مبتدأ وخبره محذوف دل عليه ما قبل أي مبعوثون، والجملة عطف على
الجملة السابقة وهو تكلف يغني عنه العطف المذكور والمعنى-
أيبعث أيضا آباؤنا- على زيادة الاستبعاد يعنون أنهم أقدم
فبعثهم أبعد وأبطل، وقرأ قالون وابن عامر «أو آباؤنا» بإسكان
الواو وعلى هذه القراءة لا يعطف على الضمير إذ لا فاصل.
قُلْ ردا لإنكارهم وتحقيقا للحق إِنَّ الْأَوَّلِينَ
وَالْآخِرِينَ من الأمم الذين من جملتهم أنتم وآباؤكم، وتقديم
الأولين للمبالغة في الرد حيث كان إنكارهم لبعث آبائهم أشد من
إنكارهم لبعثهم مع مراعاة الترتيب الوجودي لَمَجْمُوعُونَ بعد
البعث، وقرىء «لمجمعون» إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وهو يوم
القيامة ومعنى كونه معلوما كونه معينا عند الله عز وجل،
والميقات ما وقت به الشيء أي حد، ومنه مواقيت الإحرام وهي
الحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرما، وإضافته
إلى يَوْمٍ بيانية كما في خاتم فضة، وكون يوم القيامة ميقاتا
لأنه وقتت به الدنيا، وإِلى للغاية والانتهاء، وقيل: والمعنى
لَمَجْمُوعُونَ منتهين إلى ذلك اليوم، وقيل: ضمن معنى السوق
فلذا تعدى بها ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ عطف على
إِنَّ الْأَوَّلِينَ داخل في حيز القول، وثُمَّ للتراخي
الزماني أو الرتبي الْمُكَذِّبُونَ بالبعث، أو بما يعمه وغيره
ويدخل هو دخولا أوليا للسياق على ما قيل، والخطاب لأهل مكة
وأضرابهم لَآكِلُونَ بعد البعث والجمع ودخول جهنم مِنْ شَجَرٍ
مِنْ زَقُّومٍ مِنْ الأولى لابتداء الغاية والثانية لبيان
الشجر وتفسيره أي مبتدئون للأكل من شجر هو زقوم، وجوز كون
الأولى تبعيضية ومِنْ الثانية على حالها، وجوز كون مِنْ
زَقُّومٍ بدلا من قوله تعالى: مِنْ شَجَرٍ فمن تحتمل الوجهين،
وقيل: الأولى زائدة، وقرأ عبد الله من شجرة فوجه التأنيث ظاهر
في قوله تعالى: فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ أي بطونكم من
شدة الجوع فإنه الذي اضطرهم وقسرهم على أكل مثلها مما لا يؤكل،
وأما على قراءة الجمهور فوجهه الحمل على المعنى لأنه بمعنى
الشجرة، أو الأشجار إذا نظر لصدقه على المتعدد، وأما التذكير
على هذه القراءة في قوله سبحانه: فَشارِبُونَ عَلَيْهِ أي عقيب
ذلك بلا ريث مِنَ الْحَمِيمِ أي الماء الحار في الغاية لغلبة
العطش فظاهر لا يحتاج إلى تأويل، وقال بعضهم: التأنيث أولا
باعتبار المعنى والتذكير ثانيا باعتبار اللفظ، فقيل عليه: إن
فيه اعتبار اللفظ بعد اعتبار المعنى على خلاف المتعارف فلو
أعيد الضمير المذكور على الشجر باعتبار كونه مأكولا ليكون
التذكير والتأنيث باعتبار المعنى كان أولى وفيه بحث، ووجهه على
القراءة الثانية أن الضمير عائد على الزقوم أو على الشجر
باعتبار أنها زقوم أو باعتبار أنها مأكول، وقيل: هو مطلقا عائد
على الأكل، وتعقب بأنه بعيد لأن الشرب عليه لا على تناوله مع
ما فيه من تفكيك الضمائر وكونه مجازا شائعا وغير ملبس لا يدفع
البعد فتأمل.
(14/145)
فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ قال ابن عباس
ومجاهد وعكرمة والضحاك جمع أهيم وهو الجمل الذي أصابه الهيام
بضم الهاء وهو داء يشبه الاستسقاء يصيب الإبل فتشرب حتى تموت،
أو تسقم سقما شديدا، ويقال إبل هيماء وناقة هيماء كما يقال:
جمل أهيم قال الشاعر:
فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد ... صداها ولا يقضي عليها
هيامها
وجعل بعضهم الْهِيمِ هنا جمع الهيماء، وقيل: هو جمع هائم أو
هائمة، وجمع فاعل على فعل كبازل وبزل شاذ، وعن ابن عباس أيضا
وسفيان الْهِيمِ الرمال التي لا تروى من الماء لتخلخلها ومفرده
هيام بفتح الهاء على المشهور كسحاب وسحب ثم خفف وفعل به ما فعل
بجمع أبيض من قلب الضمة كسرة لتسلم بالياء ويخفف اللفظ فكسرت
الهاء لأجل الياء وهو قياس مطرد في بابه، وقال ثعلب: هو بالضم
كقراد وقرد ثم خفف وفعل به ما فعل مما سمعت والعطف بالفاء قيل:
لأن الإفراط بعد الأصلي، وقيل: لأن كلّا من المتعاطفين أخص من
الآخر فإن شارب الحميم قد لا يكون به داء الهيام ومن به داء
الهيام قد يشرب غير الحميم، والشرب الذي لا يحصل الري ناشىء عن
شرب الحميم لأنه لا يبل الغليل، والذي اختاره ما قاله مفتي
الديار الرومية: إن ذلك كالتفسير لما قبله أي لا يكون شربكم
شربا معتادا بل يكون مثل شرب الهيم، والشرب بالضم مصدر، وقيل:
اسم لما يشرب،
وقرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم- كما روى جماعة منهم
الحاكم وصححه- عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «شرب» بفتح
الشين
وهو مصدر شرب المقيس، وبذلك قرأ جمع من السبعة والأعرج وابن
المسيب وشعيب ومالك بن دينار وابن جريج، وقرأ مجاهد وأبو عثمان
النهدي بكسر الشين وهو اسم بمعنى المشروب لا مصدر كالطحن
والرعي هذا الذي ذكر من ألوان العذاب نُزُلُهُمْ يَوْمَ
الدِّينِ يوم الجزاء فإذا كان ذلك نزلهم وهو ما يقدم للنازل
مما حضر فما ظنك بما لهم بعد ما استقر لهم القرار واطمأنت لهم
الدار في النار، وفي جعله نزلا مع أنه مما يكرم به النازل من
التهكم ما لا يخفى، ونظير ذلك قوله:
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا ... جعلنا القنا والمرهفات له
نزلا
وقرأ ابن محيصن وخارجة عن نافع ونعيم ومحبوب وأبو زيد وهارون
وعصمة وعباس كلهم عن أبي عمرو نزلهم بتسكين الزاي المضمومة
للتخفيف كما في البيت، والجملة مسوقة من جهته سبحانه وتعالى
بطريق الفذلكة مقررة لمضمون الكلام الملقن غير داخلة تحت
القول، وقوله تعالى: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا
تُصَدِّقُونَ تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكفرة بطريق الإلزام
والتبكيت والفاء لترتيب التحضيض على ما قبلها أي فهلا تصدقون
بالخلق بقرينة نَحْنُ خَلَقْناكُمْ ولما لم يحقق تصديقهم
المشعر به قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25،
الزمر: 38] عملهم حيث لم يقترن بالطاعة والأعمال الصالحة بل
اقترن بما ينبىء عن خلافه من الشرك والعصيان نزل منزلة العدم
والإنكار فحضوا على التصديق بذلك، وقيل: المراد فهلا تصدقون
بالبعث لتقدمه وتقدم إنكاره في قولهم أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
[الإسراء: 49، 98، المؤمنون: 82، الصافات: 16، الواقعة: 47]
فيكون الكلام إشارة إلى الاستدلال بالإبداء على الاعادة فإن من
قدر عليه قدر عليها حتما، والأول هو الوجه كما يظهر مما بعد إن
شاء الله تعالى أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أي ما تقذفونه في
الأرحام من النطف، وقرأ ابن عباس وأبو الثمال «تمنون» بفتح
التاء من مني النطفة بمعنى أمناها أي أزالها بدفع الطبيعة
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أي تقدرونه وتصورونه بشرا سويا تام
الخلقة، فالمراد خلق ما يحصل منه على أن في الكلام تقديرا أو
(14/146)
تجوزا، وجوز إبقاء ذلك على ظاهره أي
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ وتنشئون نفس ذات ما تمنونه أَمْ
نَحْنُ الْخالِقُونَ له من غير دخل شيء فيه- وأرأيتم- قد مر
الكلام غير مرة فيه، ويقال هنا: إن اسم الموصول مفعوله الأول
والجملة الاستفهامية مفعوله الثاني، وكذا يقال فيم بعد من
نظائره وما يعتبر فيه الرؤية بصرية تكون الجملة الاستفهامية
فيه مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وجوز في- أنتم- أن يكون
مبتدأ، والجملة بعده خبره، وأن يكون فاعلا لفعل محذوف والأصل
أتخلقون فلما حذف الفعل انفصل الضمير، واختاره أبو حيان. وأَمْ
قيل: منقطعة لأن ما بعدها جملة فالمعنى- بل أنحن الخالقون- على
أن الاستفهام للتقرير، وقال قوم من النحاة: متصلة معادلة
للهمزة كأنه قيل:
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ ثم جيء- بالخالقون- بعد
بطريق التأكيد لا بطريق الخبرية أصالة نَحْنُ قَدَّرْنا
بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ قسمناه عليكم ووقتنا موت كل أحد بوقت
معين حسبما تقتضيه مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة، وقرأ
ابن كثير «قدرنا» بالتخفيف وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي لا
يغلبنا أحد عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
أي على أن نذهبكم ونأتي مكانكم أشباهكم من الخلق فالسبق مجاز
عن الغلبة استعارة تصريحية أو مجاز مرسل عن لازمه، وظاهر كلام
بعض الأجلة أنه حقيقة في ذلك إذا تعدى بعلى، والجملة في موضع
الحال من ضمير قَدَّرْنا وكأن المراد قَدَّرْنا ذلك ونحن
قادرون على أن نميتكم دفعة واحدة ونخلق أشباهكم.
وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
من الخلق والأطوار التي لا تعهدونها، وقال الحسن: من كونكم
قردة وخنازير، ولعل اختيار ذلك لأن الآية تنحو إلى الوعيد،
والمراد ونحن قادرون على هذا أيضا وجوز أن يكون أمثالكم جمع
مثل بفتحتين بمعنى الصفة لا جمع مثل بالسكون بمعنى الشبه كما
في الوجه الأول أي ونحن نقدر على أن نغير صفاتكم التي أنتم
عليه خلقا وخلقا وننشئكم في صفات لا تعلمونها، وقيل: المعنى
وننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا، وقيل: المعنى وما
يسبقنا أحد فيهرب من الموت أو يغير وقته الذي وقتناه، على أن
المراد تمثيل حال من سلم من الموت أو تأخر أجله عن الوقت
المعين له بحال من طلبه طالب فلم يلحقه وسبقه، وقوله تعالى:
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ
إلخ في موضع الحال من الضمير المستتر في مسبوقين أي حال كوننا
قادرين أو عازمين على تبديل أمثالكم، والجملة السابقة على
حالها، وقال الطبري: عَلى أَنْ نُبَدِّلَ
متعلق- بقدّرنا- وعلة له وجملة وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ
اعتراض، والمعنى نحن قدرنا بينكم الموت لأن نبدل أمثالكم أي
نميت طائفة ونبدلها بطائفة هكذا قرنا بعد قرن وَلَقَدْ
عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى من خلقكم من نطفة، ثم من
علقه، ثم من مضغة وقال قتادة:
هي فطرة آدم عليه السلام من التراب ولا ينكرها أحد من ولده
فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ فهلا تتذكرون أن من قدر عليها فهو على
النشأة الأخرى أقدر وأقدر فإنها أقل صنعا لحصول المواد وتخصيص
الأجزاء وسبق المثال، وهذا- على ما قالوا- دليل على صحة القياس
لكن قيل: لا يدل إلا على قياس الأولى لأنه الذي في الآية، وفي
الخبر عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة
الأولى، وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور.
وقرأ طلحة تذكرون بالتخفيف وضم الكاف أَفَرَأَيْتُمْ ما
تَحْرُثُونَ ما تبذرون حبه وتعملون في أرضه أَأَنْتُمْ
تَزْرَعُونَهُ تنبتونه وتردونه نباتا يرف وينمى إلى أن يبلغ
الغاية أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ أي المنبتون لا أنتم والكلام
في- أنتم- وأَمْ كما مر آنفا،
وأخرج البزار وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي في شعب
الايمان- وضعفه- وابن حبان- كما قال الخفاجي- عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا يقولن أحدكم
زرعت ولكن ليقل حرثت
، ثم قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه ألم تسمعوا الله تعالى
يقول: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ
أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ» يشير رضي الله تعالى عنه إلى أنه
عليه الصلاة والسلام أخذ النهي من
(14/147)
هذه الآية فإنه أسند الحرث إلى المخاطبين
دون الزرع، وقال القرطبي: إنه يستحب للزارع أن يقول بعد
الاستعاذة وتلاوة هذه الآية الله تعالى الزارع والمنبت والمبلغ
اللهم صل على محمد وارزقنا ثمره وجنبنا ضرره واجعلنا لأنعمك من
الشاكرين، وقيل: وقد جرب هذا الدعاء لدفع آفات الزرع كلها
وإنتاجه لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً هشيما متكسرا متفتتا
لشدة يبسه بعد ما أنبتناه وصار بحيث طمعتم في حيازة غلاله
فَظَلْتُمْ بسبب ذلك تَفَكَّهُونَ تتعجبون من سوء حاله إثر ما
شاهدتموه على أحسن ما يكون من الحال على ما روي عن ابن عباس
ومجاهد وقتادة، وقال الحسن: تندمون أي على ما تعبتم فيه،
وأنفقتم عليه من غير حصول نفع، أو على ما اقترفتم لأجله من
المعاصي، وقال عكرمة: تلاومون على ما فعلتم، وأصل التفكه
التنقل بصنوف الفاكهة واستعير للتنقل بالحديث وهو هنا ما يكون
بعد هلاك الزرع وقد كني به في الآية عن التعجب، أو الندم أو
التلاوم على اختلاف التفاسير، وفي البحر كل ذلك تفسير باللازم،
ومعنى تَفَكَّهُونَ تطرحون الفكاهة عن أنفسكم وهي المسرة، ورجل
فكه منبسط النفس غير مكترث بشيء وتفكه من أخوات تحرج وتحوب أي
إن التفعل فيه للسلب.
وقرأ أبو حيوة وأبو بكر في رواية العتكي عنه «فظلتم» بكسر
الظاء كما قالوا: مست بالكسر ومست بالفتح، وحكاها الثوري عن
ابن مسعود وجاءت عن الأعمش، وقرأ عبد الله والجحدري- فظللتم-
بلامين أولاهما مكسورة، وقرأ الجحدري أيضا كذلك مع فتح اللام
والمشهور ظللت بالكسر، وقرأ أبو حزام «تفكنون» بالنون بدل
الهاء، قال ابن خالويه: تفكه بالهاء تعجب، وتفكن بالنون تندم
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ أي معذبون مهلكون من الغرام وهو الهلاك
قال الشاعر:
إن يعذب يكن غراما وإن يع ... ط جزيلا فإنه لا يبالي
والمراد مهلكون بهلاك رزقنا، وقيل: بالمعاصي أو ملزمون غرامة
بنقص رزقنا، وقرأ الأعمش والجحدري وأبو بكر- أإنا بالاستفهام
والتحقيق، والجملة على القراءتين بتقدير قول هو في حيز النصب
على الحالية من فاعل تفكهون أي قائلين، أو تقولون ذلك بَلْ
نَحْنُ مَحْرُومُونَ محدودون لا مجدودون أو محرومون الرزق
كأنهم لما قالوا: إنا مهلكون لهلاك رزقنا أضربوا عنه وقالوا:
بل هذا أمر قدر علينا لنحوسة طالعنا وعدم بختنا، أو لما قالوا:
إنا ملزمون غرامة بنقص أرزاقنا أضربوا فقالوا: بَلْ نَحْنُ
مَحْرُومُونَ الرزق بالكلية أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي
تَشْرَبُونَ عذبا فراتا، وتخصيص هذا الوصف بالذكر مع كثرة
منافعه لأن الشرب أهم المقاصد المنوطة به أَأَنْتُمْ
أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أي السحاب واحدته مزنة، قال
الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها
وقيل: هو السحاب الأبيض وماؤه أعذب أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ
له بقدرتنا.
لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً ملحا ذعاقا لا يمكن شربه من
الأجيج وهو تلهب النار. وقيل: الأجاج كل ما يلذع الفم ولا يمكن
شربه فيشمل الملح والمر والحار، فإما أن يراد ذلك، أو الملح
بقرينة المقام وحذفت اللام من جواب لو هاهنا للقرينة اللفظية
والحالية ومتى جاز حذف- لم أر- في قول أوس:
حتى إذا الكلاب قال لها ... « ... » كاليوم مطلوبا ولا طلبا
والقرينة حالية فأولى أن يجوز حذفها وحدها لذلك على ما قرره
الزمخشري، وقرر وجها آخر حاصله أن اللام لمجرد التأكيد فتناسب
مقام التأكيد فأدخلت في آية المطعوم دون المشروب للدلالة على
أن أمره مقدم على أمره، وأن
(14/148)
الوعيد بفقده أشدّ وأصعب من قبل أن المشروب
تبع له ألا يرى أن الضيف يسقى بعد أن يطعم، وقد ذكر الأطباء أن
الماء مبذرق، ويؤيد ذلك تقديمه على المشروب في النظم الجليل،
وللإمام في هذا المقام كلام طويل اعترض به على الزمخشري وبين
فيه وجه الذكر أولا والحذف ثانيا، ولم أره أتى بما يشرح الصدر،
وخير منه عندي قول ابن الأثير في المثل السائر: إن اللام أدخلت
في المطعوم دون المشروب لأن جعل الماء العذب ملحا أسهل إمكانا
في العرف والعادة والموجود من الماء الملح أكثر من الماء
العذب، وكثيرا ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة
التربة أحالتها إلى الملوحة فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحا
إلى زيادة تأكيد فلذا لم تدخل لام التأكيد المفيدة لزيادة
التحقيق، وأما المطعوم فإن جعله حطاما من الأشياء الخارجة عن
المعتاد وإذا وقع يكون عن سخط شديد، فلذا قرن باللام لتقرير
إيجاده وتحقيق أمره انتهى.
فَلَوْلا تَشْكُرُونَ تحضيض على شكر الكل لأنه أفيد دون عذوبة
الماء فقط كما ذهب إليه البعض.
نعم
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه «أن النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا شرب الماء قال: الحمد لله
الذي سقانا عذبا فراتا برحمته ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا»
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أي تقدحونها
وتستخرجونها من الزناد أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها
التي منها الزناد وهي المرخ والعفار، وقيل: المراد بالشجرة نفس
النار كأنه قيل: نوعها أو جنسها فاستعير الشجرة لذلك وهو قول
متكلف بلا حاجة.
أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ لها بقدرتنا والتعبير عن خلقها
بالإنشاء المنبئ عن بديع الصنع المعرب عن كمال القدرة والحكمة
لما فيه من الغرابة الفارقة بينها وبين سائر الأشجار التي لا
تخلو عن النار حتى قيل- في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار-
كما أن التعبير عن نفخ الروح بالإنشاء في قوله تعالى: ثُمَّ
أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: 14] لذلك نَحْنُ
جَعَلْناها تَذْكِرَةً استئناف معين لمنافعها أي جعلناها
تذكيرا لنار جهنم حيث علقنا بها أسباب المعاش لينظروا إليها
ويذكروا بها ما أوعدوا به، أو جعلناها تذكرة وأنموذجا من جهنم
لما
في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة عنه صلى الله تعالى عليه
وسلم «ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم»
وعلى الوجهين التذكرة من الذكر المقابل للنسيان ولم ينظر في
الأول إلى أنها من جنس نار جهنم أولا وفي الثاني نظر إلى ذلك،
وقيل: تبصرة في أمر البعث لأن من أخرج النار من الشجر الأخضر
المضاد لها قادر على إعادة ما تفرقت مواده، وقيل: تبصرة في
الظلام يبصر بضوئها، وفيه أن التذكرة لا تكون بمعنى التبصرة
المأخوذة من البصر وكون المراد تذكرة لنار جهنم هو المأثور عن
الكثيرين، ومنهم ابن عباس ومجاهد وقتادة وَمَتاعاً ومنفعة
لِلْمُقْوِينَ للذين ينزلون القواء وهي القفر من أقوى دخل
القواء كأصحر دخل الصحراء وتخصيص المقوين بذلك لأنهم أحوج
إليها فإن المقيمين، أو النازلين بقرب منهم ليسوا بمضطرين إلى
الاقتداح بالزناد.
وقيل: لِلْمُقْوِينَ أي المسافرين، ورواه جمع عن ابن عباس وعبد
بن حميد عن الحسن، وهو وابن جرير وعبد الرزاق عن قتادة بزيادة
كم من قوم قد سافروا ثم أرملوا فأججوا نارا فاستدفئوا وانتفعوا
بها، وكان إطلاق المقوين على المسافرين لأنهم كثيرا ما يسلكون
القفراء والمفاوز، وقيل: لِلْمُقْوِينَ للفقراء يستضيئون بها
في الظلمة ويصطلون من البرد كأنه تصور من حال الحاصل في القفر
الفقر، فقيل:- أقوى- فلان أي افتقر كقولهم أترب وأرمل، وقال
ابن زيد: للجائعين لأنهم أقوت أي خلت بطونهم ومزاودهم من
الطعام فهم يحتاجون إليها لطبخ ما يأكلون وخصوا- على ما قيل-
لأن غيرهم يتنعم بها لا يجعلها متاعا، وتعقب بأنه بعيد لعدم
انحصار ما يهمهم ويسدّ خلتهم فيما لا يؤكل إلا بالطبخ، وقال
عكرمة ومجاهد: المقوين المستمتعين بها من الناس أجمعين
المسافرين والحاضرين
(14/149)
يستضيئون بها ويصطلون من البرد وينتفعون
بها في الطبخ والخبز، قال العلامة الطيبي والطبرسي: وعلى هذا
القول- المقوي- من الأضداد يقال للفقير: مقو لخلوه من المال،
وللغني مقو لقوّته على ما يريد يقال: أقوى الرجل إذا صار إلى
حال القوة والمعنى متاعا للأغنياء والفقراء لأنه لا غنى لأحد
عنها انتهى.
وفيه بحث لا يخفى، ولعل الأقرب عليه أنه أريد بالإقواء
الاحتياج والمستمتع بها محتاج إليها فتدبر، وتأخير هذه المنفعة
للتنبيه على أن الأهم هو النفع الأخروي وتقديم أمر الماء على
أمر النار لأن الاحتياج إليه أشد وأكثر والانتفاع به أعم
وأوفر، وقال بعضهم: قدم أمر خلق الإنسان من نطفة لأن النعمة في
ذلك قبل النعمة في الثلاثة بعد، ثم ذكر بعده ما به قوام
الإنسان من فائدة الحرث وهو الطعام الذي لا يستغني عنه الجسد
الحي وذلك الحب الذي يختبز فيحتاج بعد حصوله إلى حصول الماء
ليعجن به فلذا ذكر بعده ثم إلى النار لتصيره خبزا فلذا ذكرت
بعد الماء وهو كما ترى، واستحسن بعضهم من القارئ أن يقول بعد
كل جملة استفهامية من الجمل السابقة: بل أنت يا رب،
فقد أخرج عبد الرزاق وابن المنذر والحاكم والبيهقي في سننه عن
حجر المروي قال: بت عند عليّ كرم تعالى وجهه فسمعته وهو يصلي
بالليل يقرأ فمر بهذه الآية أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ فقال: بل
أنت يا رب ثلاثا، ثم قرأ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ
الزَّارِعُونَ فقال: بل أنت يا رب ثلاثا، ثم قرأ أَأَنْتُمْ
أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ
فقال: بل أنت يا رب ثلاثا، ثم قرأ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ
شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ فقال:
بل أنت يا رب ثلاثا
، وأنت تعلم أن في استحسان قول مثل ذلك في الصلاة اختلافا بين
العلماء فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ مرتب على ما عدد
من بدائع صنعه عز وجل وودائع نعمه سبحانه وتعالى، والمراد على
ما قيل: أحدث التسبيح تنزيلا للفعل المتعدي منزلة اللازم وأريد
من إحداثه استمراره لا إيجاده لأنه عليه الصلاة والسلام غير
معرض عنه، وتعقبه الطيبي بأن هذا عكس ما يقتضيه لفظ الإحداث،
فالمراد تجديد التسبيح، وفي الكلام إضمار أي سبح بذكر اسم ربك،
أو الاسم مجاز عن الذكر فإن إطلاق الاسم للشيء ذكره، والباء
للاستعانة أو الملابسة وكونها للتعدية كما هو ظاهر كلام أبي
حيان ليس بشيء، والعظيم صفة للاسم، أو للرب، وتعقيب الأمر
بالتسبيح لما عدد إما لتنزيهه تعالى عما يقوله الجاحدون
لوحدانيته عز وجل الكافرون بنعمه سبحانه مع عظمها وكثرتها، أو
للشكر على تلك النعم السابقة لأن تنزيهه تعالى وتعظيمه جل وعلا
بعد ذكر نعمه سبحانه مدح عليها فهو شكر للمنعم في الحقيقة، أو
للتعجب من أمر الكفرة في غمط تلك النعم الباهرة مع جلالة قدرها
وظهور أمرها وسبحان ترد للتعجب مجازا مشهورا فسبح بمعنى تعجب،
وأصله فقل سبحان الله للتعجب وفيه بعد وما تقدم أظهر.
هذا وجوز أن لا يكون في بِاسْمِ رَبِّكَ إضمار ولا مجاز بل
يبقى على ظاهره فقد قالوا في قوله تعالى:
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] : كما يجب تنزيه
ذاته تعالى وصفاته سبحانه عن النقائص يجب تنزيه الألفاظ
الموضوعة لها عن سوء الأدب وهو أبلغ لأنه يلزمه تقديس ذاته عز
وجل بالطريق الأولى على طريق الكناية الرمزية، وفيه أنه إنما
يتأتى لو لم تذكر الباء، وجعلها زائدة خلاف الظاهر، وحال كونها
للتعدية قد سمعته، وجعل بعضهم على هذا الخطاب لغير معين فقال:
إنه تعالى لما ذكر ما ذكر من الأمور وكان الكل معترفين بأنها
من الله تعالى وكان الكفار إذا طولبوا بالوحدانية قالوا: نحن
لا نشرك في المعنى وإنما نتخذ أصناما آلهة وذلك إشراك في
الاسم، والذي خلقنا وخلق السماوات والأرض هو الله تعالى فنحن
ننزهه في الحقيقة قال سبحانه: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ على
معنى كما أنك أيها الغافل اعترفت بعدم اشتراكها في الحقيقة
اعترف بعدم اشتراكها في الاسم ولا تقل لغيره تعالى إلها فإن
الاسم يتبع المعنى والحقيقة، فالخطاب كالخطاب في قول الواعظ يا
مسكين أفنيت عمرك وما
(14/150)
أصلحت أمرك لا يريد به أحدا بعينه، وإنما
يريد أيها المسكين السامع وهو كما ترى، نعم احتمال عموم الخطاب
مما لا ينكر لكن لا يتعين عليه هذا التقرير، ثم الظاهر أن
المراد بذكر الرب أو ذكر اسمه سبحانه على ما تقرر سابقا ما هو
المتبادر المعروف.
وفي الكشف إن المراد بذلك تلاوته صلى الله تعالى عليه وسلم
للقرآن أو لهذه السورة الكريمة المتضمنة لإثبات البعث والجزاء
ومراتب أهله لينطبق عليه قوله تعالى بعد: فَلا أُقْسِمُ وعلى
الأول لا بد من إضمار- أي فسبح باسم ربك وامتثل ما أمرت به-
فأقسم إنه لقرآن، والغرض تأكيد الأمر بالتسبيح، وأنا أقول
يتأتى الانطباق على الظاهر أيضا سوى أنه يعتبر في الكلام إضمار
ولا بأس بأن يقال: إنه تعالى لما ذكر ما ذكر من النعم الجليلة
الداعية لتوحيده سبحانه ووصفه بما يليق به عز وجل قال سبحانه:
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ أي فنزهه تعالى عما يقولون في وصفه
سبحانه، وأقبل على إنذارهم بالقرآن والاحتجاج عليه به بعد
الاحتجاج بما ذكرنا فأقسم إنه لقرآن كيت وكيت فلا في قوله عز
وجل: فَلا أُقْسِمُ مزيدة للتأكيد مثلها في قوله تعالى:
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد: 29] أو هي لام
القسم أشبعت فتحتها فتولدت منها ألف نظير ما في قوله:
أعوذ بالله من العقراب واختاره أبو حيان ثم قال: وهو وإن كان
قليلا فقد جاء نظيره في قوله تعالى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ
النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم: 37] بياء بعد الهمزة
وذلك في قراءة هشام.
ويؤيد قراءة الحسن وعيسى فلا قسم- وهو مبني على ما ذهب إليه
تبعا لبعض النحويين من أن فعل الحال يجوز القسم عليه فيقال:
والله تعالى ليخرج زيد وعليه قول الشاعر:
ليعلم ربي أن بيتي واسع وحينئذ لا يصح أن يقرن الفعل بالنون
المؤكدة لأنها تخلصه للاستقبال وهو خلاف المراد، والذي اختاره
ابن عصفور والبصريون أن فعل الحال كما هنا لا يجوز أن يقسم
عليه ومتى أريد من الفعل الاستقبال لزمت فيه النون المؤكدة
فقيل: لأقسمن وحذفها ضعيف جدا، ومن هنا خرجوا قراءة الحسن
وعيسى على أن اللام لام الابتداء والمبتدأ محذوف لأنها لا تدخل
على الفعل والتقدير فلأنا أقسم، وقيل: نحوه في قراءة الجمهور
على أن الألف قد تولدت من الإشباع، وتعقب بأن المبتدأ إذ دخل
عليه لام الابتداء يمتنع أو يقبح حذفه لأن دخولها لتأكيده وهو
يقتضي الاعتناء به وحذفه يدل على خلافه، وقال سعيد بن جبير
وبعض النحاة:- لا- نفي وردّ لما يقوله الكفار في القرآن من أنه
سحر وشعر وكهانة كأنه قيل: فلا صحة لما يقولون فيه ثم استؤنف
فقيل: أُقْسِمُ إلخ، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز لما فيه من
حذف اسم- لا- وخبرها في غير جواب سؤال نحو- لا- في جواب هل من
رجل في الدار، وقيل: الأولى فيما إذا قصد بلا نفي لمحذوف
واستئناف لما بعدها في اللفظ الإتيان بالواو نحو- لا- وأطال
الله تعالى بقاءك، وقال: بعضهم إن- لا- كثيرا ما يؤتى بها قبل
القسم على نحو الاستفتاح كما في قوله:
لا وأبيك ابنة العامريّ ... لا يدّعي القوم أني أفرّ
وقال أبو مسلم وجمع: إن الكلام على ظاهره المتبادر منه،
والمعنى لا أقسم إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم أي لا
يحتاج إلى قسم ما فضلا عن أن هذا القسم العظيم، فقول مفتي
الديار الرومية أنه يأباه تعيين المقسم به وتفخيمه ناشىء عن
الغفلة على ما لا يخفى على فطن بِمَواقِعِ النُّجُومِ أي
بمساقط كواكب السماء ومغاربها
(14/151)
كما جاء في رواية عن قتادة والحسن على أن
الوقوع بمعنى السقوط والغروب وتخصيصها بالقسم لما في غروبها من
زوال أثرها، والدلالة على وجود مؤثر دائم لا يتغير، ولذا استدل
الخليل عليه السلام بالأفول على وجود الصانع جل وعلا، أو لأن
ذلك وقت قيام المتهجدين والمبتهلين إليه تعالى وأوان نزول
الرحمة والرضوان عليهم.
وقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا «ينزل ربنا كل
ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من
يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له»
وعن الحسن أيضا المراد مواقعها عند الانكدار يوم القيامة قيل:
وموقع عليه مصدر ميمي أو اسم زمان ولعل وقوعها ذلك اليوم ليس
دفعة واحدة والتخصيص لما في ذلك من ظهور عظمته عز وجل وتحقق ما
ينكره الكفار من البعث،
وعن أبي جعفر وأبي عبد الله على آبائهما وعليهما السلام المراد
مواقعها عند الانقضاض إثر المسترقين السمع من الشياطين
، وقد مرّ لك تحقيق أمر هذا الانقضاض فلا تغفل، وقيل: مواقع
النجوم هي الأنواء التي يزعم الجاهلية أنهم يمطرون بها، ولعله
مأخوذ من بعض الآثار الواردة في سبب النزول وسنذكره إن شاء
الله تعالى وليس نصا في إرادة الأنواء بل يجوز عليه أن يراد
المغارب مطلقا.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة أنها منازلها ومجاريها
على أن الوقوع النزول كما يقال: على الخبير سقطت وهو شائع
والتخصيص لأن له تعالى في ذلك من الدليل على عظيم قدرته وكمال
حكمته ما لا يحيط به نطاق البيان، وقال جماعة منهم ابن عباس:
النجوم نجوم القرآن ومواقعها أوقات نزولها.
وأخرج النسائي وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عنه
أن قال: «أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى
السماء الدنيا جملة واحدة ثم فرق في السنين» وفي لفظ «ثم نزل
من السماء الدنيا إلى الأرض نجوما ثم قرأ فلا أقسم بمواقع
النجوم»
وأيد هذا القول بأن الضمير في قوله تعالى بعد: إِنَّهُ
لَقُرْآنٌ يعود حينئذ على ما يفهم من مواقع النجوم حتى يكاد
يعدّ كالمذكور صريحا ولا يحتاج إلى أن يقال يفسره السياق كما
في سائر الأقوال، ووجه التخصيص أظهر من أن يخفى، ولعل الكلام
عليه من باب «وثناياك إنها إغريض» .
وقرأ ابن عباس وأهل المدينة وحمزة والكسائي «بموقع» مفردا
مرادا به الجمع.
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ مشتمل على اعتراض
في ضمن آخر فقوله تعالى: إِنَّهُ لَقَسَمٌ عَظِيمٌ معترض بين
القسم والمقسم عليه وهو قوله سبحانه: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ
كَرِيمٌ وهو تعظيم للقسم مقرر مؤكد له، وقوله عز وجل لَوْ
تَعْلَمُونَ معترض بين الصفة والموصوف وهو تأكيد لذلك التعظيم
وجواب لَوْ إما متروك أريد به نفي علمهم أو محذوف ثقة بظهوره
أي لعظمتموه أو لعملتم بموجبه، ووجه كون ذلك القسم عظيما قد
أشير إليه فيما مر، أو هو ظاهر بناء على أن المراد بِمَواقِعِ
النُّجُومِ ما روي عن ابن عباس والجماعة، ومعنى كون القرآن
كريما أنه حسن مرضي في جنسه من الكتب أو نفاع جم المنافع، وكيف
لا وقد اشتمل على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش،
والمعاد، والكرم على هذا مستعار- كما قال الطيبي- من الكرم
المعروف.
وقيل: الكرم أعم من كثرة البذل والإحسان والاتصاف بما يحمد من
الأوصاف ككثرة النفع فإنه وصف محمود فكونه كرما حقيقة، وجوز أن
يراد كريم على الله تعالى قيل: هو يرجع لما تقدم، وفيه تقدير
من غير حاجة وأيا ما كان فمحط الفائدة الوصف المذكور قيل: إن
مرجع الضمير هو القرآن لا من حيث عنوان كونه قرآنا فبمجرد
الإخبار عنه بأنه قرآن تحصل الفائدة أي إنه لمقروء على النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم لا أنه أنشأه كما زعمه
(14/152)
الكفار، وقوله تعالى: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ
وصف آخر للقرآن أي كائن في كتاب مصون عن غير المقربين من
الملائكة عليهم السلام لا يطلع عليه من سواهم، فالمراد به
اللوح المحفوظ كما روي عن الربيع بن أنس وغيره، وقيل: أي في
كتاب مصون عن التبديل والتغيير وهو المصحف الذي بأيدي المسلمين
ويتضمن ذلك الإخبار بالغيب لأنه لم يكن إذ ذاك مصاحف، وأخرج
عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة أنه قال: في كتاب أي التوراة
والإنجيل، وحكي ذلك في البحر ثم قال: كأنه قال: ذكر في كتاب
مكنون كرمه وشرفه، فالمعنى على هذا الاستشهاد بالكتب المنزلة
انتهى.
والظاهر أنه أريد على هذا بالكتاب الجنس لتصح إرادة التوراة
والإنجيل، وفي وصف ذلك بالمكنون خفاء ولعله أريد به جليل الشأن
عظيم القدر فإن الستر كاللازم للشيء الجليل، وجوز إرادة هذا
المعنى المجازي على غير هذا القول من الأقوال، وقيل: الكتاب
المكنون قلب المؤمن وهو كما ترى.
وقيل: المراد من كونه في كتاب مكنون كونه محفوظا من التغيير
والتبديل ليس إلا كما قال تعالى: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ
[يوسف: 63] والمعول عليه ما تقدم، وجوز تعلق الجار بكريم كما
يقال زيد كريم في نفسه، والمعنى إنه كريم في اللوح المحفوظ وإن
لم يكن كريما عند الكفار، والوصفية أبلغ كما لا يخفى، وقوله
تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ إما صفة بعد صفة
لكتاب مرادا به اللوح، فالمراد بالمطهرون الملائكة عليهم
السلام أي المطهرون المنزهون عن كدر الطبيعة ودنس الحظوظ
النفسية، وقيل: عن كدر الأجسام ودنس الهيولى والطهارة عليهما
طهارة معنوية، ونفي مسه كناية عن لازمه وهو نفي الاطلاع عليه
وعلى ما فيه، وإما صفة أخرى لقرآن.
والمراد بالمطهرون المطهرون عن الحدث الأصغر والحدث الأكبر
بحمل الطهارة على الشرعية، والمعنى لا ينبغي أن يمس القرآن إلا
من هو على طهارة من الناس فالنفي هنا نظير ما في قوله تعالى:
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً [النور: 3]
وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه»
الحديث
وهو بمعنى النهي بل أبلغ من النهي الصريح، وهذا أحد أوجه
ذكروها للعدول عن جعل- لا- ناهية، وثانيها أن المتبادر كون
الجملة صفة والأصل فيها أن تكون خبرية ولا داعي لاعتبار
الإنشائية وارتكاب التأويل، وثالثها أن المتبادر من الضمة أنها
إعراب فالحمل على غيره فيه إلباس، ورابعها أن عبد الله قرأ ما
يمسه وهي تؤيد أن لا نافية وكون المراد بالمطهرين الملائكة
عليهم السلام مروي من عدة طرق عن ابن عباس، وكذا أخرجه جماعة
عن أنس وقتادة وابن جبير ومجاهد وأبي العالية وغيرهم إلا أن في
بعض الآثار عن بعض هؤلاء ما هو ظاهر في أن الضمير في لا
يَمَسُّهُ مع كون المراد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام راجع
إلى القرآن.
أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال: في الآية ذاك
عند رب العالمين لا يمسه إلا المطهرون من الملائكة فأما عندكم
فيمسه المشرك والنجس، والمنافق الرجس، وأخرجاهما وابن المنذر
والبيهقي في المعرفة عن الحبر قال: في الآية الكتاب المنزل في
السماء لا يمسه إلا الملائكة، ويشير إليه ما أخرج ابن المنذر
عن النعيمي قال:
قال مالك: أحسن ما سمعت في هذه الآية لا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ أنها بمنزلة الآية التي في عبس كَلَّا إِنَّها
تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ
مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ
[عبس: 11- 16] وكون المراد بهم المطهرين من الأحداث مروي عن
محمد الباقر على آبائه وعليه السلام وعطاء وطاوس وسالم.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر
والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن زيد قال: كنا مع سلمان- يعني
الفارسي- رضي الله تعالى عنه فانطلق إلى حاجة فتوارى عنا فخرج
إلينا فقلنا لو توضأت
(14/153)
فسألناك عن أشياء من القرآن؟ فقال: سلوني
فإني لست أمسه إنما يمسه المطهرون ثم تلا لا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ، وقيل: الجملة صفة لقرآن، والمراد- بالمطهرون-
المطهرون من الكفر، والمس مجاز عن الطلب كاللمس في قوله تعالى:
أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ [الجن: 8] أي لا يطلبه إلا
المطهرون من الكفر، ولم أر هذا مرويا عن أحد من السلف، والنفي
عليه على ظاهره، ورجح جمع جعل الجملة وصفا للقرآن لأن الكلام
مسوق لحرمته وتعظيمه لا لشأن الكتاب المكنون، وإن كان في
تعظيمه تعظيمه. وصحح الإمام جعلها وصفا للكتاب- وفيه نظر- وعلى
الوصفية للقرآن ذهب من ذهب إلى اختيار تفسير المطهرين
بالمطهرين عن الحدث الأكبر والأصغر.
وفي الأحكام للجلال السيوطي استدل الشافعي بالآية على منع
المحدث من مس المصحف وهو ظاهر في اختيار ذلك، والاحتمال جعل
الجملة صفة للكتاب المكنون أو للقرآن، وكون المراد بالمطهرين
الملائكة المقربين عليهم السلام على ما سمعت عن ابن عباس
وقتادة عدل الأكثرون عن الاستدلال بها على ذلك إلى الاستدلال
بالأخبار،
فقد أخرج الامام مالك وعبد الرزاق وابن أبي داود وابن المنذر
عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه قال في كتاب النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم لعمرو بن حزم «ولا تمس القرآن إلا على طهور» .
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما
قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا يمس القرآن إلا
طاهر»
إلى غير ذلك، وقال بعضهم: يجوز أن يؤخذ منع مس غير الطاهر
القرآن من الآية على الاحتمالين الآخرين أيضا، وذلك لأنها
أفادت تعظيم شأن القرآن وكونه كريما، والمس بغير طهر مخل
بتعظيمه فتأباه الآية وهو كما ترى، وأطال الإمام الكلام في هذا
المقام بما لا يخفى حاله على من راجعه، نعم لا شك في دلالة
الآية على عظم شأن القرآن ومقتضى ذلك الاعتناء بشأنه ولا ينحصر
الاعتناء بمنع غير الطاهر عن مسه بل يكون بأشياء كثيرة
كالإكثار من تلاوته والوضوء لها وأن لا يقرأه الشخص وهو متنجس
الفم فإنه مكروه.
وقيل: حرام كالمس باليد المتنجسة، وكون القراءة في مكان نظيف،
والقارئ مستقبل القبلة متخشعا بسكينة ووقار مطرقا رأسه،
والاستياك لقراءته، والترتيل، والتدبر، والبكاء، أو التباكي،
وتحسين الصوت بالقراءة وأن لا يتخذه معيشة، وأن يحافظ على أن
لا ينسى آية أوتيها منه،
فقد أخرج أبو داود وغيره «عرضت عليّ ذنوب أمتي فلم أر ذنبا
أعظم من سورة القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها
، وأن لا يجامع بحضرته فإن أراد ستره، وأن لا يضع غيره من
الكتب السماوية وغيرها فوقه، وأن لا يقلب أوراقه بأصبع عليها
بزاق ينفصل منه شيء فقد قيل بكفر من يفعل ذلك إلى أمور أخر
مذكورة في محالها، وفي وجوب كون القارئ طاهرا من الأحداث خلاف،
فعن ابن عباس في رواية أنه يجوز للجنب قراءة القرآن، وروي ذلك
أيضا عن الإمام أبي حنيفة، وعن ابن عمر أحب إلي أن لا يقرأ إلا
طاهر وكأنهم اعتبروه كسائر الأذكار والفرق مثل الشمس ظاهر.
وقرأ عيسى «المطهرون» اسم مفعول مخففا من أطهر، ورويت عن نافع
وأبي عمرو، وقرأ سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه «المطهّرون»
بتخفيف الطاء وتشديد الهاء وكسرها اسم فاعل من طهر أي
الْمُطَهَّرُونَ أنفسهم، أو غيرهم بالاستغفار لهم والإلهام،
وعنه أيضا «المطّهّرون» بتشديدهما وأصله المتطهرون فأدغم التاء
بعد إبدالها في الطاء ورويت عن الحسن وعبد الله بن عون، وقرىء
المتطهرون على الأصل تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ صفة
أخرى للقرآن أي منزل، أو وصف بالمصدر لأنه ينزل نجوما من بين
سائر كتب الله تعالى فكأنه في نفسه تنزيل ولذلك أجري مجرى بعض
أسمائه فقيل جاء في التنزيل كذا ونطق به التنزيل.
وجوز كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو تنزيل على الاستئناف، وقرىء
تنزيلا بالنصب على نزل تنزيلا.
(14/154)
أَفَبِهَذَا
الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا
بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ
(84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا
تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ
(86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا
إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ
وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ
الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ
(91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ
(92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أي أتعرضون فبهذا
الحديث الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة لإعظامه وإجلاله
والإيمان بما تضمنه وأرشد إليه وهو القرآن الكريم أَنْتُمْ
مُدْهِنُونَ متهاونون به كمن يدهن في الأمر أي يلين جانبه ولا
يتصلب فيه تهاونا به، وأصل الادهان كما قيل: جعل الأديم ونحوه
مدهونا بشيء من الدهن ولما كان ذلك ملينا لينا محسوسا يراد به
اللين المعنوي على أنه تجوز به عن مطلق اللين أو استعير له،
ولذا سميت المداراة مداهنة وهذا مجاز معروف ولشهرته صار حقيقة
عرفية، ولذا تجوز به هنا عن التهاون أيضا لأن المتهاون بالأمر
لا يتصلب فيه وعن ابن عباس والزجاج مُدْهِنُونَ أي مكذبون
وتفسيره بذلك لأن التكذيب من فروع التهاون.
وعن مجاهد أي منافقون في التصديق به تقولون للمؤمنين آمنا به
وإذا خلوتم إلى إخوانكم قلتم: إنا معكم والخطاب عليه للمنافقين
وما قدمناه أولى، والخطاب عليه للكفار كما يقتضيه السياق.
وجوز أن يراد بهذا الحديث ما تحدثوا به من قبل في قوله سبحانه:
وكانوا يقولون أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً
أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الواقعة:
47، 48] فالكلام عود إلى ذلك بعد رده كأنه قيل: أفبهذا الحديث
الذي تتحدثون به في إنكار البعث أنتم مدهنون أصحابكم أي تعلمون
خلافه وتقولونه مداهنة أم أنتم به جازمون وعلى الإصرار عليه
عازمون، ولا يخفى بعده، وفيه مخالفة لسبب النزول وستعلمه قريبا
إن شاء الله تعالى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ شكركم
أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا
وكذا، أخرج ذلك الإمام أحمد والترمذي وحسنه والضياء في
المختارة وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه عن النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم
هو إما إشارة منه عليه الصلاة والسلام إلى أن في الكلام مضافا
مقدرا أي شكر رزقكم أو إشارة إلى أن الرزق مجاز عن لازمه وهو
الشكر، وحكى الهيثم بن عدي أن من لغة ازدشنوءة ما رزق فلان
فلانا بمعنى شكره، ونقل عن الكرماني أنه نقل في شرح البخاري أن
الرزق من أسماء الشكر واستبعد ذلك ولعله هو ما حكاه الهيثم،
وفي البحر وغيره أن عليا كرم الله تعالى وجهه وابن عباس قرآ-
شكركم- بدل رِزْقَكُمْ
وحمله بعض شراح البخاري على التفسير من غير قصد للتلاوة وهو
خلاف الظاهر،
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قرأ علي
كرم الله تعالى وجهه «الواقعة» في الفجر فقال: «وتجعلون-
شكركم- أنكم تكذبون» فلما انصرف قال: إني قد عرفت أنه سيقول
قائل لم قرأها هكذا إني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم يقرأ كذلك كانوا إذا أمطروا قالوا: أمطرنا بنوء كذا وكذا
فأنزل الله تعالى- وتجعلون- شكركم أنكم إذا مطرتم تكذبون-
ومعنى جعل شكرهم التكذيب جعل التكذيب مكان الشكر فكأنه عينه
عندهم فهو من باب.
تحية بينهم ضرب وجيع ومنه قول الراجز:
(14/155)
وكان شكر القوم عند المنن ... كي الصحيحات
وفقء الأعين
وأكثر الروايات أن قوله تعالى: وَتَجْعَلُونَ إلخ نزل في
القائلين: مطرنا بنوء كذا من غير تعرض لما قبل.
وأخرج مسلم وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: «مطر
الناس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال النبي عليه
الصلاة والسلام: أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا: هذه
رحمة وضعها الله وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا فنزلت هذه الآية
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الواقعة: 75] حتى بلغ
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ.
وأخرج نحوه ابن عساكر في تاريخه عن عائشة رضي الله تعالى عنها
وكان ذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي عروة رضي الله تعالى
عنه في غزوة تبوك نزلوا الحجر فأمرهم صلّى الله عليه وسلم أن
لا يحملوا من مائه شيئا ثم ارتحلوا ونزلوا منزلا آخر وليس معهم
ماء فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقام
عليه الصلاة والسلام فصلى ركعتين ثم دعا فأمطروا وسقوا فقال
رجل من الأنصار يتهم بالنفاق: إنما مطرنا بنوء كذا فنزل ما نزل
، ولعل جمعا من الكفار قالوا نحو ذلك أيضا بل هم لم يزالوا
يقولون ذلك، والأخبار متضافرة على أن الآية في القائلين
بالأنواء، بل قال ابن عطية: أجمع المفسرون على أنها توبيخ
لأولئك، وظاهر مقابلة الشكر بالكفر في الحديث السابق أن المراد
بالكفر كفران النعمة إذا أضيفت لغير موجدها جل جلاله وقد صح
ذكره مع الإيمان،
أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم عن زيد بن خالد
الجهني قال: صلى بنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الصبح
بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل فلما سلم أقبل علينا
فقال: هل تدرون ما قال ربكم في هذه الليلة؟ قالوا: الله ورسوله
أعلم فقال: قال: ما أنعمت على عبادي نعمة إلا أصبح فريق منهم
بها كافرين فأما من آمن بي وحمدني على سقياي فذلك الذي آمن بي
وكفر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك الذي آمن
بالكوكب وكفر بي»
والآية على القول بنزولها في قائلي ذلك ظاهرة في كفرهم المقابل
للإيمان فكأنهم كانوا يقولونه عن اعتقاد أن الكواكب مؤثرة
حقيقة موجدة للمطر وهو كفر بلا ريب بخلاف قوله مع اعتقاد أنه
من فضل الله تعالى، والنوء ميقات وعلامة له فإنه ليس بكفر،
وقيل: تسميته كفرا لأنه يفضي إليه إذا اعتقد أنه مؤثر حقيقة.
هذا وقيل: معنى الآية- وتجعلون شكركم- لنعمة القرآن- أنكم
تكذبون- به، ويشير إلى ذلك ما رواه قتادة عن الحسن: بئس ما أخذ
القوم لأنفسهم لم يرزقوا من كتاب الله تعالى إلا التكذيب.
وفي الإرشاد أنه الأوفق لسياق النظم الكريم وسباقه، وأقول ما
قدمناه تفسير مأثور نطقت به السنة المقبولة، وذهب إليه الجمهور
وليس فيه ما يأبى إرادة معنى مطابق لسبب النزول وموافق لسياق
النظم الكريم وسباقه، وذلك بأن يقال: إنه عز وجل بعد أن وصف
القرآن بما دل على جلالة شأنه وعزة مكانه وأشعر باشتماله على
ما فيه تزكية النفوس وتحليتها بما يوجب كمالها من العقائد
الحقة ونحوها حيث قال سبحانه: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ فعبر جل وعلا عن ذاته سبحانه بلفظ الرب الدال على
التربية وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا.
وقد يستفاد ذلك من وصفه بكريم بناء على أن المراد به نفاع جم
المنافع فإنه لا منفعة أجل مما ذكر وكان قد ذكر عز وجل غير
بعيد ما يدل على أنه تعالى هو المنزل لماء المطر لا غيره
سبحانه استقلالا ولا اشتراكا قال عز قائلا:
أفبهذا القرآن الجليل الشأن المشتمل على العقائد الحقة المرشد
إلى ما فيه نفعكم أنتم متهاونون فلا تشكرون الله تعالى عليه
وتجعلون بدل شكركم أنكم تكذبون به، ومن ذلك أنكم تقولون إذا
مطرتم مطرنا بنوء كذا وكذا فتسندون إنزال المطر إلى الكواكب
وقد أرشدكم غير مرة إلى ما يأبى ذلك من العقائد وهداكم إلى أنه
تعالى هو المنزل للمطر لا الكواكب ولا غيرها أصلا- فما جاء من
تفسير تكذبون بتقولون مطرنا بنوء كذا وكذا ليس المراد منه إلا
بيان نوع
(14/156)
اقتضاه الحال من التكذيب بالقرآن المنعوت
بتلك النعوت الجليلة وكون ذلك على الوجه الذي يزعمه الكفار
تكذيبا به مما لا ينتطح فيه كبشان، وهذا لا تمحل فيه، وقد يقال
على تقدير أن يراد بالرزق المطر وكون تُكَذِّبُونَ على معنى
تكذبون بكونه- أي المطر- من الله تعالى حيث تنسبونه إلى
الأنواء وإن لم أقف على التصريح به في أثر يعول عليه، المعنى
أفبهذا القرآن الجليل المرشد إلى أن كل نعمة منه تعالى لا غير
المصرح عن قريب بأنه المنزل للمطر وحده أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ
أي تكذبون على ما سمعت عن ابن عباس والزجاج ومن ذلك أنكم
تَجْعَلُونَ موضع شكر ما يرزقكم من المطر وينزله لكم أنكم
تكذبون بكونه من الله تعالى وتنسبونه إلى الأنواء، والتبكيت
الآتي مبني على تكذيبهم بالقرآن المفهوم من تُكَذِّبُونَ أو من
قوله سبحانه: أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ لكن التكذيب به باعتبار
التكذيب ببعض ما نطق به بما سبق وتوقف المراد بالآية على الخبر
غير بدع في القرآن الكريم، وحال عطف تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ
أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ على ما قبله لا يخفى على نبيه، فتأمل
والله تعالى الموفق لفهم كتابه الكريم.
وقرأ المفضل عن عاصم «تكذبون» بالتخفيف من الكذب وهو قولهم في
القرآن إنه- وحاشاه- افتراء ويرجع إلى هذا قولهم في المطر: إنه
من الأنواء لأن القرآن ناطق بخلافه، وقوله تعالى: فَلَوْلا
إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ إلخ تبكيت كما سمعت وذلك باعتبار
تكذيبهم بما نطق به قوله تعالى: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ إلخ أعني
الآيات الدالة على كونهم تحت ملكوته تعالى من حيث ذواتهم ومن
حيث طعامهم وشرابهم وسائر أسباب معايشهم- ولولا- للتحضيض
بإظهار عجزهم، وإِذا ظرفية، والْحُلْقُومَ مجرى الطعام وضمير
بَلَغَتِ للنفس لانفهامها من الكلام وإن لم يجر لها ذكر قبل،
والمراد بها الروح بمعنى البخار المنبعث عن القلب دون النفس
الناطقة فإنها لا توصف بما ذكر وكأنه مبني على القول بتجرد
النفس الناطقة وهي المسماة بالروح الأمرية، وأنها لا داخل
البدن ولا خارجه ولا تتصف بصفات الأجسام كالصعود والنزول
وغيرهما على ما اختاره حجة الإسلام الغزالي وجماعة من
المحققين، ومذهب السلف أن النفس الناطقة وهي الروح المشار
إليها بقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ
مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85] جسم لطيف جدا سار في البدن
سريان ماء الورد في الورد وهو حي بنفسه يتصف بالخروج والدخول
وغيرهما من صفات الأجسام وقد رد العلامة ابن القيم قول الغزالي
ومن وافقه بأدلة كثيرة ذكرها في كتابه الروح، ووصفها ببلوغ
الحلقوم عليه ظاهر.
وأما على القول بالتجرد وعدم التحيز فقيل: المراد به ضعف
التعلق بالبدن وقرب انقطاعه عنه فكأنه قيل: فلولا إذا حان
انقطاع تعلق الروح بالبدن وَأَنْتُمْ أيها الخاسرون حول صاحبها
حِينَئِذٍ أي حين إذ بلغت الحلقوم ووصلت إليه أو حان انقطاع
تعلقها تَنْظُرُونَ إلى ما يقاسيه من الغمرات، وقيل:
تَنْظُرُونَ حالكم ووجهه أنهم يعلمون أن ما جرى عليه يجري
عليهم فكأنهم شاهدوا حال أنفسهم وليس بذاك.
وقرأ عيسى حينئذ بكسر النون اتباعا لحركة الهمزة في إذ
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ أي المحتضر المفهوم من الكلام
مِنْكُمْ والمراد بالقرب العلم وهو من إطلاق السبب وإرادة
المسبب فإن القرب أقوى سبب للاطلاع والعلم، وقال غير واحد:
المراد القرب علما وقدرة أي نحن أقرب إليه من كل ذلك منكم حيث
لا تعرفون من حاله إلا ما تشاهدونه من آثار الشدّة من غير أن
تقفوا على كنهها وكيفيتها وأسبابها الحقيقية ولا أن تقدروا على
مباشرة دفعها إلا بما لا ينجع شيئا ونحن المستولون لتفاصيل
أحواله بعلمنا وقدرتنا أو بملائكة الموت وَلكِنْ لا
تُبْصِرُونَ لا تدركون كوننا أقرب إليه منكم لجهلكم بشؤوننا
وقد علمت أن الخطاب
(14/157)
للكفار، وقيل: لا تدركون كنه ما يجري عليه
على أن الاستدراك من تنظرون والابصار من البصر بالعين تجوّز به
عن الإدراك أو هو من البصيرة بالقلب وقيل: أريد بأقربيته تعالى
إليه منهم أقربية رسله عز وجل أي ورسلنا الذين يقبضون روحه
ويعالجون إخراجها أقرب إليه منهم ولكن لا تبصرونهم فَلَوْلا
إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ أي غير مربوبين من دان
السلطان الرعية إذا ساسهم وتعبدهم، ومنه قيل للعبد: مدين
وللأمة مدينة قال الأخطل:
ربت وربا في حجرها ابن مدينة ... تراه على مسحاته يتركل
والكلام ناظر إلى قوله تعالى: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا
تُصَدِّقُونَ [الواقعة: 57] ، وقيل: هو من دان بمعنى انقاد
وخضع، وتجوز به عن الجزاء كما في قولهم- كما تدين تدان- أي
فلولا إن كنتم غير مجزيين وجعل ناظرا لإنكارهم البعث وليس بشيء
تَرْجِعُونَها أي الروح إلى مقرها والقائلون بالتجرد يقولون أي
ترجعون تعلقها كما كان أولا.
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في اعتقادكم عدم خالقيته تعالى فإن
عدم تصديقهم بخالقيته سبحانه لهم عبارة عن تصديقهم بعدمها على
مذهبهم، وفي البحر وغيره إن كنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم
بالمحيي المميت المبدئ المعيد ونسبتكم إنزال المطر إلى الأنواء
دونه عز وجل، وترجعون المذكور هو العامل- بإذا- الظرفية في
إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وهو المحضض عليه- بلولا- الأولى،
ولولا الثانية تكرير للتأكيد، ولولا الأولى مع ما في حيزها
دليل جواب الشرط الأول أعني إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ
والشرط الثاني مؤكد للأول مبين له، وقدم أحد الشرطين على
تَرْجِعُونَها للاهتمام والتقدير- فلولا ترجعونها إذا بلغت
الحلقوم إن كنتم غير مربوبين صادقين فيما تزعمونه من الاعتقاد
الباطل فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم- وحاصل المعنى أنكم إن
كنتم غير مربوبين كما تقتضيه أقوالكم وأفعالكم فما لكم لا
ترجعون الروح إلى البدن إذا بلغت الحلقوم وتردونها كما كانت
بقدرتكم أو بواسطة علاج للطبيعة، وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ
حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ جملة حالية من فاعل بَلَغَتِ والاسمية
المقترنة بالواو لا تحتاج في الربط للضمير لكفاية الواو فلا
حاجة إلى القول بأن العائد ما تضمنه حينئذ لأن التنوين عوض عن
جملة أي فلولا ترجعونها زمان بلوغها الحلقوم حال نظركم إليه
وما يقاسيه من هول النزع مع تعطفكم عليه وتوفركم على إنجائه من
المهالك، وقوله سبحانه: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلخ اعتراض يؤكد ما
سيق له الكلام من توبيخهم على صدور ما يدل على سوء اعتقادهم
بربهم سبحانه منهم، وفي جواز جعله حالا مقال.
وقال أبو البقاء: تَرْجِعُونَها جواب لولا الأولى، وأغنى ذلك
عن جواب الثانية، وقيل: عكس ذلك.
وقيل: إِنْ كُنْتُمْ شرط دخل على شرط فيكون الثاني مقدما في
التقدير- أي إن كنتم صادقين إن كنتم غير مربوبين فارجعوا
الأرواح إلى الأبدان- وما ذكرناه سابقا اختيار جار الله وأيّا
ما كان فقوله تعالى: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ
إلى آخره شروع في بيان حال المتوفى بعد الممات إثر بيان حاله
عند الوفاة وضمير كانَ للمتوفى المفهوم مما مر أي فأما إن كان
المتوفى الذي بين حاله من السابقين من الأزواج الثلاثة عبر
عنهم بأجل أوصافهم فَرَوْحٌ أي فله روح على أنه مبتدأ خبره
محذوف مقدم عليه لأنه نكرة، وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي فجزاؤه
روح أي استراحة، والفاء واقعة في جواب أما، قال بعض الأجلة:
تقدير هذا الكلام مهما يكن من شيء فروح إلخ إن كان من المقربين
فحذف مهما يكن من شيء، وأقيم أما مقامه ولم يحسن أن يلي الفاء
أما، فأوقع الفصل بين أما والفاء بقوله سبحانه: إِنْ كانَ مِنَ
الْمُقَرَّبِينَ لتحسين اللفظ كما يقع الفصل بينهما بالظرف
والمفعول، والفاء في فَرَوْحٌ وأخويه جواب أما دون إِنْ، وقال
أبو البقاء: جواب أما فَرَوْحٌ، وأما إِنْ فاستغنى بجواب أما
عن جوابها
(14/158)
لأنه يحذف كثيرا، وفي البحر أنه إذا اجتمع
شرطان فالجواب للسابق منهما، وجواب الثاني محذوف، فالجواب
هاهنا لأما، وهذا مذهب سيبويه.
وذهب الفارسي إلى أن المذكور جواب إِنْ وجواب أما محذوف، وله
قول آخر موافق لمذهب سيبويه.
وذهب الأخفش إلى أن المذكور جواب لهما معا، وقد أبطلنا
المذهبين في شرح التسهيل انتهى، والمشهور أنه لا بد من لصوق
الاسم- لأما- وهو عند الرضي وجماعة أكثري لهذه الآية،
والذاهبون إلى الأول قالوا: هي بتقدير فأما المتوفى إِنْ كانَ
وتعقب بأنه لا يخفى أن التقدير مستغنى عنه ولا دليل عليه إلا
اطراد الحكم، ثم إن كون- أما- قائمة مقام مهما يكن أغلبي إذ لا
يطرد في نحو أما قريشا فأنا أفضلها إذ التقدير مهما ذكرت قريشا
فأنا أفضلها، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من كتب العربية.
وأخرج الإمام أحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود والنسائي
والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وآخرون عن عائشة رضي الله تعالى
عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ
«فروح» بضم الراء
، وبه قرأ ابن عباس وقتادة ونوح القاري والضحاك والأشهب وشعيب
وسليمان التيمي والربيع بن خيثم ومحمد بن علي وأبو عمران
الجوني والكلبي وفياض وعبيد وعبد الوارث عن أبي عمرو ويعقوب بن
حسان وزيد ورويس عنه والحسن وقال:
«الروح» الرحمة لأنها كالحياة للمرحوم، أو سبب لحياته الدائمة
فإطلاقه عليها من باب الاستعارة أو المجاز المرسل، وروي هذا عن
قتادة أيضا. وقال ابن جني: معنى هذه القراءة يرجع إلى معنى
الروح فكأنه قيل: فله ممسك روح وممسكها هو الروح كما تقول:
الهواء هو الحياة وهذا السماع هو العيش، وفسر بعضهم الروح
بالفتح بالرحمة أيضا كما في قوله تعالى: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ
رَوْحِ اللَّهِ [يوسف: 87] وقيل: هو بالضم البقاء وَرَيْحانٌ
أي ورزق كما روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك، وفي رواية أخرى
عن الضحاك أنه الاستراحة، وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أنه قال:
هو هذا الريحان أي المعروف.
وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: تخرج روح المؤمن من جسده في
ريحانة: ثم قرأ فَأَمَّا إِنْ كانَ إلخ.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: لم يكن أحد
من المقربين يفارق الدنيا حتى يؤتى بغصنين من ريحان الجنة
فيشمهما ثم يقبض وَجَنَّةُ نَعِيمٍ أي ذات تنعم فالإضافة لامية
أو لأدنى ملابسة، وهذا إشارة إلى مكان المقربين بحيث يلزم منه
أن يكونوا أصحاب نعيم.
وأخرج الإمام أحمد في الزهد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن
المنذر عن الربيع بن خيثم قال في قوله تعالى: فَأَمَّا إِنْ
كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ: هذا له عند
الموت، وفي قوله تعالى: وَجَنَّةُ نَعِيمٍ تخبأ له الجنة إلى
يوم يبعث ولينظر ما المراد بالريحان على هذا، وعن بعض السلف ما
يقتضي أن يكون الكل في الآخرة.
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ عبر عنهم
بالعنوان السابق إذ لم يذكر لهم فيما سبق وصف ينبىء عن شأنهم
سواه كما ذكر للفريقين الأخيرين، وقوله تعالى: فَسَلامٌ لَكَ
مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ قيل: هو على تقدير القول أي فيقال
لذلك المتوفى منهم سلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب
اليمين أي يسلمون عليك كقوله تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها
لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً
[الواقعة: 25، 26] فالخطاب لصاحب اليمين ولا التفات فيه مع
تقدير القول، ومِنْ للابتداء كما تقول سلام من فلان على فلان
وسلام لفلان منه.
وقال الطبري: معناه فسلام لك أنت من أصحاب اليمين، فمن أصحاب
اليمين خبر مبتدأ محذوف والكلام
(14/159)
بتقدير القول أيضا، وكأن هذا التفسير مأخوذ
من كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أنه قال في ذلك: تأتيه الملائكة
من قبل الله تعالى تسلم عليه وتخبره أنه من أصحاب اليمين،
والظاهر أن هذا على هذا المعنى عند الموت، وأنه على المعنى
السابق في الجنة.
وجوز أن يكون المعنى فسلامة لك عما يشغل القلب من جهتهم فإنهم
في خير أي كن فارغ البال عنهم لا يهمك أمرهم، وهذا كما تقول
لمن علق قلبه بولده الغائب وتشوش فكره لا يدري ما حاله كن فارغ
البال من ولدك فإنه في راحة ودعة، والخطاب لمن يصلح له أو لسيد
المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم، وعليه قيل: يجوز أن يكون
ذلك تسلية له عليه الصلاة والسلام على معنى أنهم غير محتاجين
إلى شفاعة وغيرها، ولا يخفى أن كون جميع أصحاب اليمين غير
محتاجين إلى ما ذكر غير مسلم فالشفاعة لأهل الكبائر أمر ثابت
عند أهل السنة ولا جائز أن يكونوا من أصحاب الشمال فصرائح
الآيات أنهم كفار «وما لهم من ولي ولا شفيع يطاع» وكونهم من
أصحاب اليمين أقرب من كونهم من السابقين وجعلهم قسما على حدة
قد علمت حاله فتذكر فما في العهد من قدم.
وذكر بعض الأجلة أن هذه الجملة كلام يفيد عظمة حالهم كما يقال
فلان ناهيك به وحسبك أنه فلان إشارة إلى أنه ممدوح فوق حد
التفصيل، وكأني بك تختار ذلك فإنه حسن لطيف.
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ وهم
أصحاب الشمال عبر عنهم بذلك حسبما وصفوا به عند بيان أحوالهم
بقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ
الْمُكَذِّبُونَ [الواقعة: 51] ذمّا لهم بذلك وإشعارا بسبب ما
ابتلوا به من العذاب، ولما وقع هذا الكلام بعد تحقق تكذيبهم
ورده على أتم وجه ولم يقع الكلام السابق كذلك قدم وصف التكذيب
هنا على عكس ما تقدم، ويجوز أن يقال في ذلك على تقدير عموم
متعلق التكذيب بحيث يشمل تكذيبه صلّى الله عليه وسلم في دعوى
الرسالة إن هذا الكلام إخبار من جهته سبحانه بأحوال الأزواج
الثلاثة لم يؤمر عليه الصلاة والسلام بأن يشافه بكل جمله منه
من هي فيه فقدم فيه وصف التكذيب الشامل لتكذيبه عليه الصلاة
والسلام المشعر بسبب الابتلاء بالعذاب كرامة له صلّى الله عليه
وسلم وتنويها بعلو شأنه، ولما كان الكلام السابق داخلا في حيز
القول المأمور عليه الصلاة والسلام بأن يشافه به أولئك الكفرة
لم يحسن التقديم للكرامة إذ يكون حينئذ من باب مادح نفسه يقرئك
السلام، ويجوز أن يقال أيضا إن الكلام في حال الكافر المحتضر
والتكذيب لكونه مقابل التصديق لا يكون إلا بالقلب وهو لم يتعطل
منه تعطل سائر أعضائه فلذا قدم هنا، ويرشد إلى هذا ما قالوه في
دعاء صلاة الجنازة اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن
توفيته منا فتوفه على الإيمان من وجه تخصيص الإسلام بالإحياء
والإيمان بالإماتة.
وقال الإمام في ذلك: إن المراد من الضلال هناك ما صدر عنهم من
الإصرار على الحنث العظيم فضلوا عن سبيل الله تعالى ولم يصلوا
إليه ثم كذبوا رسله، وقالُوا أَإِذا مِتْنا [المؤمنون: 82] إلخ
فكذبوا بالحشر فقال تعالى: أَيُّهَا الضَّالُّونَ الذين أشركتم
المكذبون الذين أنكرتم الحشر لآكلون ما تكرهون، وأما هنا فقال
سبحانه لهم: أيها المكذبون الذين كذبتم بالحشر الضالون من طريق
الخلاص الذي لا يهتدون إلى النعيم، وفيه وجه آخر وهو أن الخطاب
هناك مع الكفار فقال سبحانه: أيها الذين أشركتم أولا وكذبتم
ثانيا، والخطاب هنا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يبين له
عليه الصلاة والسلام حال الأرواح الثلاثة كما يدل عليه. فسلام
لك فقال سبحانه: المقربون في روح وريحان وجنة ونعيم وأصحاب
اليمين في سلامة، وأما المكذبون الذين كذبوك وضلوا فقدم
تكذيبهم إشارة إلى كرامته صلى الله تعالى عليه وسلم حيث بين أن
أقوى سبب في عقابهم تكذيبهم انتهى.
وعليك بالتأمل والإنصاف والنظر لما قال دون النظر لمن قال،
وقوله تعالى: فَنُزُلٌ بتقدير فله نزل أو فجزاؤه
(14/160)
نزل كائن مِنْ حَمِيمٍ قيل: يشرب بعد أكل
الزقوم كما فصل فيما قبل وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ أي إدخال في
النار، وقيل: إقامة فيها ومقاساة لألوان عذابها وكل ذلك مبني
على أن المراد بيان ما لهم يوم القيامة، وقيل: هذا محمول على
ما يجده في القبر من حرارة النار ودخانها لأن الكلام في حال
التوفي وعقب قبض الأرواح والأنسب بذلك كون ما ذكر في البرزخ،
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: لا يخرج
الكافر حتى يشرب كأسا من حميم، وقرأ أحمد بن موسى والمنقري
واللؤلؤي عن أبي عمرو «وتصلية» بالجر عطفا على حَمِيمٍ إِنَّ
هذا أي الذي ذكر في السورة الكريمة كما أخرج ابن أبي حاتم عن
ابن عباس لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ اليقين على ما يفهم من كلام
الزمخشري في الجاثية اسم للعلم الذي زال عنه اللبس وبذلك صرح
صاحب المطلع وذكر أنه تفسير بحسب المعنى وهو مأخوذ من المقام
وإلا فهو العلم المتيقن مطلقا والإضافة بمعنى اللام والمعنى-
لهو عين اليقين- فهو على نحو عين الشيء ونفسه ولا يخفى أن
الإضافة من إضافة العام إلى الخاص وكونها بمعنى اللام قول
لبعضهم، وقال بعض آخر: إنها بيانية على معنى من، وقدر بعضهم
هنا موصوفا أي لهو حق الخبر اليقين وكونه لا يناسب المقام غير
متوجه، وفي البحر قيل: إن الإضافة من إضافة المترادفين على
سبيل المبالغة كما تقول هذا يقين اليقين وصواب الصواب بمعنى
أنه نهاية في ذلك فهما بمعنى أضيف أحدهما إلى الآخر للمبالغة
وفيه نظر، والفاء في قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الْعَظِيمِ لترتيب التسبيح أو الأمر به، فإن حقية ما فصل في
تضاعيف السورة الكريمة مما يوجب التسبيح عما لا يليق مما ينسبه
الكفرة إليه سبحانه قالا أو حالا تعالى عن ذلك علوا كبيرا
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن حبان والحاكم
وصححه وغيرهم عن عقبة بن عامر الجهني قال: «لما نزلت على رسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الْعَظِيمِ قال: اجعلوها في ركوعكم ولما نزلت سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: اجعلوها في سجودكم» .
«ومما قاله السادة أرباب الاشارة» متعلقا ببعض هذه السورة
الكريمة أن «الواقعة» اسم لقيامة الروح كما أن «الآزفة» اسم
لقيامة الخفي، و «الحاقة» اسم لقيامة السر، و «الساعة» اسم
لقيامة القلب، وقالوا: إن الواقعة إذا وقعت ترفع صاحبها طورا
وتخفضه طورا وتشعل نيران الغيرة وتفجر أنهار المعرفة وتحصل
للسالك إذا اشتغل بالسلوك والتصفية ووصل ذكره إلى الروح وهي في
البداية مثل ستر أسود يجيء من فوق الرأس عند غلبة الذكر وكلما
زاد في النزول يقع على الذاكر هيبة وسكينة وربما يغمى عليه في
البداية ويشاهد إذا وقع على عينيه عوالم الغيب فيرى ما شاء
الله تعالى أن يرى وتكشف له العلوم الروحانية ويرى عجائب
وغرائب لا تحصى، وإذا أفاق فليعرض ما حصل له لمسلكه ليرشده إلى
ما فيه مصلحة وقته ويعبر له ما هو مناسب لحوصلته ويقوى قلبه
ويأمره بالذكر والتوجه الكلي حتى يكمل بصفو سر الواقعة فيكون
سرا منورا فربما يصير السالك بحيث إذا فتح عينيه بعد نزولها في
عالم الشهادة يشاهد ما كان مشاهدا له فيها وهي حالة سنية
معتبرة عند أرباب السلوك- فليس لوقعتها كاذبة- بل هي صادقة لأن
الشيطان يفر عندها والنفس لا تقدر أن تلبس على صاحبها وهي
اليقظة الحقيقية وما يعده الناس يقظة هو النوم كما يشير إليه
قول أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه: الناس نيام فإذا
ماتوا انتبهوا
، ثم إنهم تكلموا على أكثر ما في السورة الجليلة بما يتعلق
بالأنفس، وقالوا في مواقع النجوم: إنها إشارة إلى اللطائف
المطهرة لأنها مواقع نجوم الواردات القدسية الخفية من السماء
الجبروتية اللاهوتية، وقيل: في قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ
إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ إن فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن لم
يكن طاهر النفس من حدث الميل إلى صغائر الشهوات- وهو الحدث
الأصغر- ومن حدث الميل إلى كبائر الشهوات- وهو الحدث الأكبر-
أن يمس بيد نفسه وفكره معاني القرآن الكريم كما لا ينبغي
(14/161)
لمن لم يكن طاهر البدن من الحدثين
المعروفين في البدن أن يمس بيد بدنه وجسده ألفاظه المكتوبة،
وقيل: أيضا يجوز أن يقال المعنى لا يصل إلى أدبي حقائق أسرار
القرآن الكريم إلا المطهرون من أرجاس الشهوات وأنجاس
المخالفات.
وإذا كانت هذه الجملة صفة للكتاب المكنون المراد منه اللوح
المحفوظ وأريد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام، وكان المعنى
لا يطلع عليه إلا الملائكة عليهم السلام كان في ذلك ردّ على من
يزعم أن الأولياء يرون اللوح المحفوظ ويطلعون على ما فيه، وحمل
المطهرين على ما يعم الملائكة والأولياء الذين طهرت نفوسهم
وقدست ذواتهم حتى التحقوا بالملائكة عليهم السلام لا ينفع في
البحث مع أهل الشرع فإن مدار استدلالاتهم على الأحكام الشرعية
الظواهر على أنه لم يسمع عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
وهو هو أنه نظر يوما وهو بين أصحابه إلى اللوح المحفوظ واطلع
على شيء مما فيه. وقال لهم: إني رأيت اللوح المحفوظ واطلعت على
كذا وكذا فيه، وكذلك لم يسمع عن أجلة أصحابه الخلفاء الراشدين
أنه وقع لهم ذلك، وقد وقعت بينهم مسائل اختلفوا فيها وطال
نزاعهم في تحقيقها إلى أن كاد يغم هلال الحق فيها ولم يراجع
أحد منهم لكشفها اللوح المحفوظ.
وذكر بعض العلماء أن سدرة المنتهى ينتهي علم من تحتها إليها
وأن اللوح فوقها بكثير، وبكل من ذلك نطقت الآثار، وهو يشعر
بعدم اطلاع الأولياء على اللوح، ومع هذا كله من ادعى وقوع
الاطلاع فعليه البيان وأنى به، وهذا الذي سمعت مبني على ما
نطقت به الأخبار في صفة اللوح المحفوظ وأنه جسم كتب فيه ما كان
وما هو كائن إلى يوم القيامة، وأما إذا قيل فيه غير ذلك انجر
البحث إلى وراء ما سمعت، واتسعت الدائرة.
ومن ذلك قولهم: إن الألواح أربعة، لوح القضاء السابق على المحو
والإثبات وهو لوح العقل الأول، ولوح القدر أي لوح النفس
الناطقة الكلية التي يفصل فيها كليات اللوح الأول وهو المسمى
باللوح المحفوظ، ولوح النفس الجزئية السماوية التي ينتقش فيها
كل ما في هذا العالم شكله وهيئته ومقداره- وهو المسمى بالسماء
الدنيا- وهو بمثابة خيال العالم كما أن الأول بمثابة روحه
والثاني بمثابة قلبه ولوح الهيولى القابل للصورة في عالم
الشهادة ويقولون أيضا ما يقولون وينشد المنتصر له قوله:
وإذا لم تر الهلال فسلم ... لأناس رأوه بالأبصار
هذا ولا تظنن أن نفي رؤيتهم للوح المحفوظ نفي لكراماتهم
الكشفية وإلهاماتهم الغيبية معاذ الله تعالى من ذلك، وطرق
إطلاع الله تعالى من شاء من أوليائه على من شاء من علمه غير
منحصر بإراءته اللوح المحفوظ ثم إن الإمكان مما لا نزاع فيه
وليس الكلام إلا في الوقوع، وورود ذلك عن النبي صلّى الله عليه
وسلم وأجلة أصحابه كالصديق والفاروق وذي النورين وباب مدينة
العلم والنقطة التي تحت الباء رضي الله تعالى عنهم أجمعين،
والله تعالى أعلم.
وقالوا في قوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ
وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ ما بنوه على القول بوحدة الوجود
والكلام فيها شائع- وقد أشرنا إليه في هذا الكتاب غير مرة-
ولهم في اليقين وعين اليقين وحق اليقين عبارات شتى، منها
اليقين رؤية العيان بقوة الإيمان لا بالحجة والبرهان وقيل:
مشاهدة الغيوب بصفاء القلوب وملاحظة الأسرار بمحافظة الأفكار،
وقيل: طمأنينة القلب على حقيقة الشيء من يقن الماء في الحوض
إذا
(14/162)
استقر، وحق اليقين فناء العبد في الحق
والبقاء به علما وشهودا وحالا لا علما فقط فعلم كل عاقل الموت
علم اليقين فإذا عاين الملائكة فهو عين اليقين، وإذا ذاق الموت
فهو حق اليقين، وقيل: علم اليقين ظاهر الشريعة، وعين اليقين
الإخلاص فيها، وحق اليقين المشاهدة فيها، «وقيل:، وقيل:» ونحن
نسأل الله تعالى الهداية إلى أقوم سبيل، وأن يشرح صدورنا
بأنوار علوم كتابه الكريم الجليل وهو سبحانه حسبنا في الدارين
ونعم الوكيل.
(14/163)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ
مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا
يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى
اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي
النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ
فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ
كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ
أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ
الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ
لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ
اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا
تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ
أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ
دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ
قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ
(11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى
نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ
الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
سورة الحديد
أخرج جماعة عن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة، وقال النقاش
وغيره: هي مدنية بإجماع المفسرين ولم يسلم له، فقد قال قوم:
إنها مكية، نعم الجمهور- كما قال ابن الفرس- على ذلك.
وقال ابن عطية: لا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا لكن يشبه أن يكون
صدرها مكيا، ويشهد لهذا ما أخرجه البزار في مسنده والطبراني
وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي وابن عساكر عن عمر
رضي الله تعالى عنه أنه دخل على أخته قبل أن يسلم فإذا صحيفة
فيها أول سورة الحديد فقرأه حتى بلغ آمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ
فِيهِ [الحديد: 7] فأسلم، ويشهد لمكية آيات أخر ما أخرج مسلم
والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن ابن مسعود ما كان بين إسلامنا
وبين أن عاتبنا الله تعالى بهذه الآية أَلَمْ يَأْنِ
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ
اللَّهِ [الحديد: 16] إلا أربع سنين، وأخرج الطبراني والحاكم
وصححه وغيرهما عن عبد الله بن الزبير أن ابن مسعود أخبره أنه
لم يكن بين إسلامهم وبين أن نزلت هذه الآية يعاتبهم الله تعالى
بها إلا أربع سنين وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ [الحديد: 16] الآية لكن سيأتي إن شاء
الله تعالى آثار تدل على مدنية ما ذكر ولعلها لا تصلح
للمعارضة.
ونزلت يوم الثلاثاء على ما أخرج الديلمي عن جابر مرفوعا لا
تحتجموا يوم الثلاثاء فإن سورة الحديد أنزلت عليّ يوم
الثلاثاء، وفيه أيضا خبر رواه الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر
رضي الله تعالى عنهما بسند ضعيف، وهي تسع وعشرون آية في
العراقي، وثمان وعشرون في غيره، ووجه اتصالها- بالواقعة- أنها
بدئت بذكر التسبيح وتلك ختمت بالأمر به، وكان أولها واقعا موقع
العلة للأمر به فكأنه قيل: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الْعَظِيمِ [الواقعة: 74، 96، الحاقة: 52] لأنه سبح له ما في
السماوات والأرض، وجاء في فضلها مع أخواتها ما
أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن
مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن عرباض بن سارية «أن رسول
الله صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد،
وقال: إن فيهن آية أفضل من ألف آية» وأخرج ابن الضريس نحوه عن
يحيى بن أبي كثير
ثم قال: قال يحيى: نراها الآية التي في آخر الحشر.
(14/164)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ التسبيح على
المشهور تنزيه الله تعالى اعتقادا وقولا وعملا عما لا يليق
بجنابه سبحانه من سبح في الأرض والماء إذا ذهب وأبعد فيهما،
وحيث أسندها هنا إلى غير العقلاء أيضا فإن ما في السماوات
والأرض يعم جميع ما فيهما سواء كان مستقرا فيهما أو جزءا منهما
بل المراد بما فيهما الموجودات فيكون أظهر في تناول السماوات
والأرض ويتناول أيضا الموجودات المجردة عند القائل بها، قال
الجمهور: المراد به معنى عام مجازي شامل لما نطق به لسان
المقال كتسبيح الملائكة والمؤمنين من الثقلين، ولسان الحال
كتسبيح غيرهم فإن كل فرد من أفراد الموجودات يدل بإمكانه
وحدوثه على الصانع القديم الواجب الوجود المتصف بكل كمال
المنزه عن كل نقص، وذهب بعض إلى أن التسبيح على حقيقته
المعروفة في الجميع وهو مبني على ثبوت النفوس الناطقة والإدراك
لسائر الحيوانات والجمادات على ما يليق بكل، وقد صرح به جمع من
الصوفية فتسبيح كل شيء عندهم قالي وإن تفاوت الأمر، وقيل: معنى
سبح حمل رائيه العاقل على قول سبحان الله تعالى ونبهه عليه وهو
كما ترى، ومن يجوز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه معا لا
يحتاج إلى عموم المجاز، وجوز الطبرسي كون ما للعالم فقط مثلها
في قول أهل الحجاز كما حكى أبو زيد عند سماع الرعد- سبحان ما
سبحت له ولا يخفى أن عمومها العالم وغيره أولى، والظاهر أنها
في الوجهين موصولة، وقال بعضهم: إنها نكرة موصوفة وإن أصل
الكلام ما في السماوات وما في الأرض ثم حذفت ما الثانية وأقيمت
صفتها مقامها، ولا يحسن أن تكون موصولة لأن الصلة لا تقوم مقام
الموصول عند البصريين وتقوم الصفة مقام الموصوف عند الجميع،
والحمل على المتفق عليه أولى من الحمل على المختلف فيه وكون
المذكورة موصولة والمحذوفة نكرة موصوفة مما لا وجه له انتهى.
وأنت تعلم أن حذف الموصول الصريح في مثل ذلك أكثر من أن يحصى
وجيء باللام مع أن التسبيح متعد بنفسه كما في قوله تعالى:
وَتُسَبِّحُوهُ [الفتح: 9] للتأكيد فهي مزيدة لذلك كما في نصحت
له وشكرت له،
(14/165)
وقيل: للتعليل والفعل منزل منزلة اللازم أي
فعل التسبيح وأوقعه لأجل الله تعالى وخالصا لوجهه سبحانه، وفيه
شيء لا يخفى، وعبر بالماضي هنا وفي بعض الأخوات وبالمضارع في
البعض الآخر إيذانا بتحقق التسبيح في جميع الأوقات، وفي كل
دلالة على أن من شأن ما أسند إليه التسبيح أن يسبحه وذلك
هجيراه وديدنه، أما دلالة المضارع عليه فللدلالة على الاستمرار
إلى زمان الإخبار وكذلك فيما يأتي من الزمان لعموم المعنى
المقتضي للتسبيح وصلوح اللفظ لذلك حيث جرد عن الدلالة على
الزمان وأوثر على الاسم دلالة على تجدد تسبيح غبّ تسبيح، وأما
دلالة الماضي فللتجرد عن الزمان أيضا مع التحقيق الذي هو
مقتضاه فيشمل الماضي من الزمان ومستقبله كذلك، وقيل: الإيذان
والدلالة على الاستمرار مستفادان من مجموعي الماضي والمضارع
حيث دل الماضي على الاستمرار إلى زمان الإخبار والمضارع على
الاستمرار في الحال والاستقبال فشملا معا جميع الأزمنة، وقال
الطيبي: افتتحت بعض السور بلفظ المصدر وبعض بالماضي وبعض
بالمضارع وبعض بالأمر فاستوعب جميع جهات هذه الكلمة إعلاما بأن
المكونات من لدن إخراجها من العدم إلى الوجود إلى الأبد مسبحة
مقدسة لذاته سبحانه وتعالى قولا وفعلا طوعا وكرها وَإِنْ مِنْ
شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44] وَهُوَ
الْعَزِيزُ القادر الغالب الذي لا ينازعه ولا يمانعه شيء
الْحَكِيمُ الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة،
والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مشعر بعلة الحكم،
وكذا قوله تعالى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي
التصرف الكلي فيهما وفيما فيهما من الموجودات من حيث الإيجاد
والإعدام وسائر التصرفات، وقوله سبحانه: يُحْيِي وَيُمِيتُ أي
يفعل الإحياء والإماتة استئناف مبين لبعض أحكام الملك وإذا جعل
خبر مبتدأ محذوف أي هو يحيي ويميت كانت تلك الجملة كذلك وجعله
حالا من ضمير له يوهم تقييد اختصاص الملك بهذه الحال، وقوله
تعالى: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها ما
ذكر من الإحياء والإماتة قَدِيرٌ مبالغ في القدرة تذييل وتكميل
لما قبله هُوَ الْأَوَّلُ السابق على جميع الموجودات فهو
سبحانه موجود قبل كل شيء حتى الزمان لأنه جل وعلا الموجد
والمحدث للموجودات وَالْآخِرُ الباقي بعد فنائها حقيقة أو نظرا
إلى ذاتها مع قطع النظر عن مبقيها فإن جميع الموجودات الممكنة
إذا قطع النظر عن علتها فهي فانية.
ومن هنا قال ابن سينا: الممكن في حدّ ذاته ليس وهو عن علته أيس
فلا ينافي هذا كون بعض الموجودات الممكنة لا تفنى كالجنة
والنار ومن فيهما كما هو مقرر مبين بالآيات والأحاديث لأن
فناءها في حدّ ذاتها أمر لا ينفك عنها، وقد يقال: فناء كل ممكن
بالفعل ليس بمشاهد، والذي يدل عليه الدليل إنما هو إمكانه
فالبعدية في مثله بحسب التصور والتقدير، وقيل: هو الأول الذي
تبتدئ منه الأسباب إذ هو سبحانه مسببها وَالْآخِرُ الذي تنتهي
إليه المسببات فالأولية ذاتية والآخرية بمعنى أنه تعالى المرجع
والمصير بقطع النظر عن البقاء الثابت بالأدلة، وقيل:
الأول خارجا لأنه تعالى أوجد الأشياء فهو سبحانه متقدم عليها
في نفس الأمر الخارجي والآخر ذهنا وبحسب التعلق لأنه عز شأنه
يستدل عليه بالموجودات الدالة على الصانع القديم كما قيل: ما
رأيت شيئا إلا رأيت الله تعالى بعده، وقال حجة الإسلام
الغزالي: إن الأول يكون أولا بالإضافة إلى شيء، والآخر يكون
آخرا بالإضافة إلى شيء، وهما متناقضان فلا يتصور أن يكون الشيء
الواحد من وجه واحد بالإضافة إليها أول إذ كلها استفادت الوجود
منه سبحانه وأما هو عز وجل فموجود بذاته وما استفاد الوجود من
غيره سبحانه وتعالى عن ذلك، ومهما نظرت إلى ترتيب السلوك
ولاحظت منازل السالكين فهو تعالى آخر إذ هو آخر ما ترتقي إليه
درجات العارفين وكل معرفة تحصل قبل معرفته تعالى فهي مرقاة إلى
معرفته جل وعلا، والمنزل الأقصى هو معرفة الله جل جلاله فهو
سبحانه بالإضافة إلى السلوك آخر
(14/166)
وبالإضافة إلى الوجود أول فمنه عز شأنه
المبدأ أولا وإليه سبحانه والمرجع والمصير آخر انتهى.
والظاهر أن كونه تعالى أولا وآخرا بالنسبة إلى الموجودات أولى
ولعل ما ذكره أوفق بمشرب القوم.
وَالظَّاهِرُ أي بوجوده لأن كل الموجودات بظهوره تعالى ظاهر
وَالْباطِنُ بكنهه سبحانه فلا تحوم حوله العقول، وقال حجة
الإسلام: هذان الوصفان من المضافات فلا يكون الشيء ظاهرا لشيء
وباطنا له من وجه واحد بل يكون ظاهرا من وجه بالإضافة إلى
إدراك وباطنا من وجه آخر فإن الظهور والبطون إنما يكون
بالإضافة إلى الإدراكات والله تعالى باطن إن طلب من إدراك
الحواس وخزانة الخيال ظاهر إن طلب من خزانة العقل بالاستدلال
والريب من شدة الظهور وكل ما جاوز الحد انعكس إلى الضد، وإلى
تفسير الباطن بغير المدرك بالحواس ذهب الزمخشري، ثم قال: إن
الواو الأولى لعطف المفرد على المفرد فتفيد أنه تعالى الجامع
بين الصفتين الأولية والآخرية والأخيرة أيضا كذلك فتفيد أنه
تعالى الجامع بين الظهور والخفاء، وأما الوسطى فلعطف المركب
على المركب فتفيد أنه جل وعلا الجامع بين مجموع الصفتين
الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين فهو تعالى المستمر الوجود في
جميع الأوقات الماضية والآتية وهو تعالى في جميعها ظاهر وباطن
جامع للظهور بالأدلة والخفاء فلا يدرك بالحواس، وفي هذا حجة
على من جوز إدراكه سبحانه في الآخرة بالحاسة أي وذلك لأنه
تعالى ما من وقت يصح اتصافه بالأولية والآخرية إلا ويصح اتصافه
بالظاهرية والباطنية معا، فإذا جوز إدراكه سبحانه بالحاسة في
الآخرة فقد نفى كونه سبحانه باطنا وهو خلاف ما تدل عليه الآية،
وأجاب عن ذلك صاحب الكشف فقال: إن تفسير الباطن بأنه غير مدرك
بالحواس تفسير بحسب التشهي فإن بطونه تعالى عن إدراك العقول
كبطونه عن إدراك الحواس لأن حقيقة الذات غير مدركة لا عقلا ولا
حسا باتفاق بين المحققين من الطائفتين، والزمخشري ممن سلم فهو
الظاهر بوجوده والباطن بكنهه وهو سبحانه الجامع بين الوصفين
أزلا وأبدا، وهذا لا ينافي الرؤية لأنها لا تفيد ذلك عند
مثبتها انتهى، وهو حسن فلا تغفل.
وعليه فالتذليل بقوله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
لئلا يتوهم أن بطونه تعالى عن الأشياء يستلزم بطونها عنه عز
وجل كما في الشاهد، وقال الأزهري: قد يكون الظاهر والباطن
بمعنى العلم لما ظهر وبطن وذلك أن من كان ظاهرا احتجب عنه
الباطن ومن كان باطنا احتجب عنه الظاهر فإن أردت أن تصفه
بالعلم قلت هو ظاهر باطن مثله قوله تعالى: لا شَرْقِيَّةٍ وَلا
غَرْبِيَّةٍ [النور: 35] أي لا شرقية فقط ولا غربية فقط ولكنها
شرقية غربية، وفي التذييل المذكور حينئذ خفاء، وقريب منه من
وجه ما نقل أن الظاهر بمعنى العالي على كل شيء الغالب له من
قوله ظهر عليهم إذا علاهم وغلبهم، والباطن الذي بطن كل شيء أي
علم باطنه، وتعقب بفوات المطابقة بين الظاهر والباطن عليه وأن
بطنه بمعنى علم باطنه غير ثابت في اللغة، لكن قيل في الآثار:
ما ينصر تفسير الظاهر بما فسر.
أخرج مسلم والترمذي وابن أبي شيبة والبيهقي عن أبي هريرة قال:
«جاءت فاطمة رضي الله تعالى عنها إلى رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم تسأله خادما فقال لها: قولي اللهم رب السماوات السبع
ورب العرش الكريم العظيم ربنا ورب كل شيء منزل التوراة
والإنجيل والفرقان فالق الحب والنوى أعوذ بك من شر كل شيء أنت
آخذ بناصيته أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء
وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا
الدين وأغننا من الفقر»
وقال الطيبي: المعنى بالظاهر في التفسير النبوي الغالب الذي
يغلب ولا يغلب فيتصرف في المكونات على سبيل الغلبة والاستيلاء
إذ ليس فوقه أحد يمنعه، وبالباطن من لا ملجأ ولا منجي دونه
يلتجىء إليه ملتجىء، وبحث فيه بجواز أن يكون المراد أنت الظاهر
فليس فوقك شيء في الظهور أي أنت أظهر
(14/167)
من كل شيء إذ ظهور كل شيء بك وأنت الباطن
فليس دونك في البطون شيء أي أنت أبطن من كل شيء إذ كل شيء يعلم
حقيقته غيره وهو أنت وأنت لا يعلم حقيقتك غيرك، أو لأن كل شيء
يمكن معرفة حقيقته وأنت لا يمكن أصلا معرفة حقيقتك، وأيضا في
دلالة الباطن على ما قال: خفاء جدا على أنه لو كان الأمر كما
ذكر ما عدل عنه أجلة العلماء فان الخير صحيح، وقد جاء نحوه من
رواية الإمام أحمد وأبي داود وابن ماجة ويبعد عدم وقوف أولئك
الأجلة عليه، وأبعد من ذلك أن يكون ما ذكره صلّى الله عليه
وسلم من أسمائه تعالى غير ما في الآية، ويحتمل أنه عليه الصلاة
والسلام أراد بقوله: «فليس دونك شيء» ليس أقرب منك شيء، ويؤيده
ما أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات عن مقاتل قال:
بلغنا في قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ إلخ هو الأول قبل كل شيء
والآخر بعد كل شيء والظاهر فوق كل شيء والباطن أقرب من كل شيء،
وإنما يعني القرب بعلمه وقدرته وهو فوق عرشه والذي يترجح عندي
ما ذكر أولا، وعن بعض المتصوفة أهل وحدة الوجود أن المراد
بقوله سبحانه: هُوَ الْأَوَّلُ إلخ أنه لا موجود غيره تعالى إذ
كل ما يتصور موجودا فهو إما أول أو آخر هو سبحانه لا غيره،
وأيدوه بما
في حديث مرفوع أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن
المنذر وجماعة عن أبي هريرة «والذي نفسي بيده لو أنكم دليتم
بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله» قال أبو هريرة، ثم قرأ
النبي صلّى الله عليه وسلم هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
وحال القول بوحدة الوجود مشهور وأما الخبر فمن المتشابه، وقد
قال فيه الترمذي: فسر أهل العلم الحديث فقالوا: أي لهبط على
علم الله تعالى وقدرته وسلطانه، ويؤيد هذا ذكر التذييل وعدم
اقتصاره عليه الصلاة والسلام على ما قبله، وهذه الآية ينبغي
لمن وجد في نفسه وسوسة فيما يتعلق بالله تعالى أن يقرأها، فقد
أخرج أبو داود عن أبي زميل أن ابن عباس قال له وقد أعلمه أن
عنده وسوسة في ذلك: «إذا وجدت في نفسك شيئا فقل هو الأول»
الآية.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر وأبي سعيد رضي الله
تعالى عنهم عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لا يزال
الناس يسألون عن كل شيء حتى يقولوا هذا الله كان قبل كل شيء
فماذا كان قبل الله فإن قالوا لكم ذلك فقالوا هو الأول والآخر
والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم» .
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ بيان بعض أحكام ملكهما
وقد مر تفسيره مرارا يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما
يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ
فِيها مر بيانه في سورة سبأ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما
كُنْتُمْ تمثيل لإحاطة علمه تعالى بهم وتصوير لعدم خروجهم عنه
أينما كانوا، وقيل:
المعية مجاز مرسل عن العلم بعلاقة السببية والقرينة السباق
واللحاق مع استحالة الحقيقة، وقد أول السلف هذه الآية بذلك،
أخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قال فيها:
عالم بكم أينما كنتم.
وأخرج أيضا عن سفيان الثوري أنه سئل عنها فقال: علمه معكم، وفي
البحر أنه اجتمعت الأمة على هذا التأويل فيها وأنها لا تحمل
على ظاهرها من المعية بالذات وهي حجة على منع التأويل في غيرها
مما يجري مجراها في استحالة الحمل على الظاهر، وقد تأول هذه
الآية وتأول الحجر الأسود يمين الله في الأرض، ولو اتسع عقله
لتأول غير ذلك مما هو في معناه انتهى.
وأنت تعلم أن الأسلم ترك التأويل فإنه قول على الله تعالى من
غير علم ولا نؤوّل إلا ما أوّله السلف ونتبعهم فيما كانوا عليه
فإن أوّلوا أوّلنا وإن فوضوا فوضنا ولا نأخذ تأويلهم لشيء سلما
لتأويل غيره، وقد رأيت بعض الزنادقة الخارجين من ربقة الإسلام
يضحكون من هذه الآية مع قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ ويسخرون من القرآن
(14/168)
الكريم لذلك وهو جهل فظيع وكفر شنيع نسأل
الله تعالى العصمة والتوفيق.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ عبارة عن إحاطته بأعمالهم
وتأخير صفة العلم الذي هو من صفات الذات عن الخلق الذي هو من
صفات الأفعال مع أن صفات الذات متقدمة على صفات الأفعال لما أن
المراد الإشارة إلى ما يدور عليه الجزاء من العلم التابع
للمعلوم، وقيل: إن الخلق دليل العلم إذ يستدل بخلقه تعالى
وإيجاده سبحانه لمصنوعاته المتقنة على أنه عز وجل عالم ومن شأن
المدلول التأخر عن الدليل لتوقفه عليه، وقوله تعالى: لَهُ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تكرير للتأكيد وتمهيد لقوله
سبحانه المشعر بالإعادة: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ
أي إليه تعالى وحده لا إلى غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا
ترجع جميع الأمور أعراضها وجواهرها، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق
والأعرج «ترجع» مبنيا للفاعل من رجع رجوعا، وعلى البناء
للمفعول كما في قراءة الجمهور هو من رجع رجعا يُولِجُ
اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ مر
تفسيره مرارا وقوله تعالى: وَهُوَ عَلِيمٌ أي مبالغ في العلم
بِذاتِ الصُّدُورِ أي بمكنوناتها اللازمة لها بيان لإحاطة علمه
تعالى بما يضمرونه من نياتهم بعد بيان إحاطته بأعمالهم التي
يظهرونها، وجوز أن يراد بِذاتِ الصُّدُورِ نفسها وحقيقتها على
أن الإحاطة بما فيها تعلم بالأولى.
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ
مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ أي جعلكم سبحانه خلفاء عنه عز وجل في
التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة، عبر جل شأنه عما بأيديهم
من الأموال بذلك تحقيقا للحق وترغيبا في الإنفاق فإن من علم
أنها لله تعالى وإنما هو بمنزلة الوكيل يصرفها إلى ما عينه
الله تعالى من المصاريف هان عليه الإنفاق، أو جعلكم خلفاء عمن
كان قبلكم فيما كان بأيديهم فانتقل لكم، وفيه أيضا ترغيب في
الإنفاق وتسهيل له لأن من علم أنه لم يبق لمن قبله وانتقل إليه
علم أنه لا يدوم له وينتقل لغيره فيسهل عليه إخراجه ويرغب في
كسب الأجر بإنفاقه ويكفيك قول الناس فيما ملكته لقد كان هذا
مرة لفلان،
وفي الحديث «يقول ابن آدم: مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما
أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت»
والمعنى الأول هو المناسب لقوله تعالى: لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وعليه ما حكي أنه قيل لأعرابي: لمن
هذه الإبل؟ فقال: هي لله تعالى عندي، ويميل إليه قول القائل:
وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بد يوما أن ترد الودائع
والآية على ما روي عن الضحاك نزلت في تبوك فلا تغفل
فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا حسبما أمروا به
لَهُمْ بسبب ذلك أَجْرٌ كَبِيرٌ وعد فيه من المبالغات ما لا
يخفى حيث جعل الجملة اسمية وكان الظاهر أن تكون فعلية في جواب
الأمر بأن يقال مثلا آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا تعطوا أجرا
كبيرا، وأعيد ذكر الإيمان والإنفاق دون أن يقال فمن يفعل ذلك
فله أجر كبير وعدل عن فللذين آمنوا منكم وأنفقوا أجر إلى ما في
النظم الكريم وفخم الأجر بالتنكير، ووصف بالكبير، وقوله عز
وجل: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ استئناف قيل: مسوق
لتوبيخهم على ترك الإيمان حسبما أمروا به بإنكار أن يكون لهم
في ذلك عذر ما في الجملة على أن لا تؤمنون حال من ضمير لكم
والعامل ما فيه من معنى الاستقرار أي أيّ شيء حصل لكم غير
مؤمنين على توجيه الإنكار والنفي إلى السبب فقط مع تحقيق
المسبب وهو مضمون الجملة الحالية أعني عدم الإيمان فأي لإنكار
سبب الواقع ونفيه فقط، ونظيره قوله تعالى: ما لَكُمْ لا
تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [نوح: 13] وقد يتوجه الإنكار والنفي
في مثل هذا التركيب لسبب الوقوع فيسريان إلى المسبب أيضا كما
في قوله تعالى: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ [يس: 22] إلخ ولا يمكن
إجراء ذلك هنا لتحقق عدم الإيمان وهذا المعنى مما لا غبار
عليه، وقوله تعالى: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا
بِرَبِّكُمْ حال من
(14/169)
ضمير لا تُؤْمِنُونَ مفيدة على ما قيل:
لتوبيخهم على الكفر مع تحقق ما يوجب عدمه بعد توبيخهم عليه مع
عدم ما يوجبه، ولام لِتُؤْمِنُوا صلة- يدعو- وهو يتعدى بها
وبإلى أي وأيّ عذر في ترك الايمان وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ
إليه وينبهكم عليه، وجوّز أن تكون اللام تعليلية وقوله سبحانه:
وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ حال من فاعل يدعوكم أو من مفعوله أي
وقد أخذ الله ميثاقكم بالإيمان من قبل كما يشعر به تخالف
الفعلين مضارعا وماضيا، وجوز كونه حالا معطوفة على الحال قبلها
فالجملة حال بعد حال من ضمير تُؤْمِنُونَ والتخالف بالاسمية
والفعلية يبعد ذلك في الجملة، وأيا ما كان فأخذ الميثاق إشارة
إلى ما كان منه تعالى من نصب الأدلة الآفاقية والأنفسية
والتمكين من النظر فقوله تعالى: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ
إشارة إلى الدليل السمعي وهذا إشارة إلى الدليل العقلي وفي
التقديم والتأخير ما يؤيد القول بشرف السمعي على العقلي.
وقال البغوي: هو ما كان حين أخرجهم من ظهر آدم وأشهدهم بأنه
سبحانه ربهم فشهدوا- وعليه لا مجاز- والأول اختيار الزمخشري،
وتعقبه ابن المنير فقال: لا عليه أن يحمل العهد على حقيقته وهو
المأخوذ يوم الذر وكل ما أجازه العقل وورد به الشرع وجب
الإيمان به، وروي ذلك عن مجاهد وعطاء والكلبي ومقاتل، وضعفه
الإمام بأن المراد إلزام المخاطبين الإيمان ونفى أن يكون لهم
عذر في تركه وهم لا يعلمون هذا العهد إلا من جهة الرسول فقبل
التصديق بالرسول لا يكون سببا لإلزامهم الايمان به، وقال
الطيبي: يمكن أن يقال إن الضمير في أَخَذَ إن كان لله تعالى
فالمناسب أن يراد بالميثاق ما دلّ عليه قوله تعالى: قُلْنَا
اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي
هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ [البقرة: 38] إلخ لأن المعنى
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً برسول أبعثه إليكم
وكتاب أنزله عليكم، ويدل على الأول قوله سبحانه: وَالرَّسُولُ
يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا وعلى الثاني هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ
عَلى عَبْدِهِ آياتٍ إلخ، وإن كان للرسول صلى الله تعالى عليه
وسلم فالظاهر أن يراد به ما في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ
اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ
وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمران: 81] على أن
يضاف الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الموثق لا الموثق عليه أي
الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم، وهو الوجه لأن الخطاب
مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما يدل عليه ما بعد، ولعل
الميثاق نحو ما روينا عن الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت
بايعنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على السمع والطاعة
في النشاط والكسل وعلى النفقة في العسر واليسر وعلى الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر. وعلى أن نقول في الله تعالى ولا
نخاف لومة لائم انتهى.
ويضيف الأول بنحو ما ضعف به الإمام حمل العهد على ما كان يوم
الذر، وضعف الثاني أظهر من أن ينبه عليه.
والخطاب قال صاحب الكشف: عام يوبخ من لم يؤمن منهم بعدم
الإيمان ثم من آمن بعدم الإنفاق في سبيله.
وكلام أبي حيان ظاهر في أنه للمؤمنين، وجعل آمنوا أمرا بالثبات
على الإيمان ودوامه وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ إلخ على معنى
كيف لا تثبتون على الإيمان ودواعي ذلك موجودة.
وظاهر كلام بعضهم كونه للكفرة وهو الذي أشرنا إليه من قبل،
ولعل ما ذكره صاحب الكشف أولى إلا أنه قيل عليه: إن آمنوا إذا
كان خطابا للمتصفين بالإيمان ولغير المتصفين به يلزم استعمال
الأمر في طلب أصل الفعل نظرا لغير المتصفين وفي طلب الثبات
نظرا للمتصفين وفيه ما فيه، ويحتاج في التفصي عن ذلك إلى إرادة
معنى عام للأمرين، وقد يقال أراد أنه عمد إلى جماعة مختلفين في
الأحوال فأمروا بأوامر شتى وخوطبوا بخطابات متعددة فتوجه كل
أمر
(14/170)
وكل خطاب إلى من يليق به وهذا كما يقول
الوالي لأهل بلده: أذنوا وصلوا ودرسوا وأنفقوا على الفقراء
وأوفوا الكيل والميزان إلى غير ذلك فإن كل أمر ينصرف إلى من
يليق به منهم فتأمل، وقرىء وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بالله
ورسوله، وقرأ أبو عمرو وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ بالبناء
للمفعول ورفع مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرط جوابه
محذوف دل عليه ما قبل، والمعنى إن كنتم مؤمنين لموجب ما فهذا
موجب لا موجب وراءه، وجوز أن يكون المراد إن كنتم ممن يؤمن فما
لكم لا تؤمنون والحالة هذه، وقال الواحدي: أي إن كنتم مؤمنين
بدليل عقلي أو نقلي فقد بان وظهر لكم على يدي محمد صلى الله
تعالى عليه وسلم ببعثته وإنزال القرآن عليه وأيا ما كان فلا
تناقض بين هذا وقوله تعالى: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ وقال
الطبري في ذلك: المراد إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال
فآمنوا الآن وقيل: المراد إن كنتم مؤمنين بموسى وعيسى عليهما
السلام فآمنوا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فإن شريعتهما
تقتضي الإيمان به عليه الصلاة والسلام أو إن كنتم مؤمنين
بالميثاق المأخوذ عليكم في عالم الذر فآمنوا الآن، وقيل المراد
إن دمتم على الإيمان فأنتم في رتب شريفة وأقدار رفيعة، والكل
كما ترى.
وظاهر الأخير أن الخطاب مع المؤمنين وهو الذي اختاره الطيبي،
وقال في هذا الشرط: يمكن أن يجري على التعليل كما في قوله
تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
[البقرة: 278] لأن الكلام مع المؤمنين على سبيل التوبيخ
والتقريع يدل عليه ما بعد هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى
عَبْدِهِ حسبما يعن لكم من المصالح آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات،
والظاهر أن المراد بها آيات القرآن، وقيل: المعجزات
لِيُخْرِجَكُمْ أي الله تعالى إذ هو سبحانه المخبر عنه، أو
العبد لقرب الذكر والمراد ليخرجكم بها مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى
النُّورِ من ظلمات الكفر إلى نور الايمان، وقرىء في السبعة
ينزل مضارعا فبعض ثقل وبعض خفف.
وقرأ الحسن بالوجهين، وقرأ زيد بن علي والأعمش أنزل ماضيا
وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ مبالغ في الرأفة
والرحمة حيث أزال عنكم موانع سعادة الدارين وهداكم إليها على
أتم وجه، وقرىء في السبعة لَرَؤُفٌ بواوين، وقوله عز وجل: وَما
لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا توبيخ على ترك الإنفاق إما للمؤمنين
الغير المنفقين أو لأولئك الموبخين أولا على ترك الإيمان،
وبخهم سبحانه على ذلك بعد توبيخهم على ترك الإيمان بإنكار أن
يكون لهم في ذلك أيضا عذر من الأعذار، و (أن) مصدرية لا زائدة
كما قيل، واقتضاه كلام الأخفش والكلام على تقدير حرف الجر،
فالمصدر المؤول في محل نصب أو جر على القولين وحذف مفعول
الإنفاق للعلم به مما تقدم وقوله تعالى: فِي سَبِيلِ اللَّهِ
لتشديد التوبيخ، والمراد به كل خير يقربهم إليه تعالى على سبيل
الاستعارة التصريحية أي أيّ شيء لكم في أن لا تنفقوا فيما هو
قربة إلى الله تعالى ما هو له في الحقيقة وإنما أنتم خلفاؤه
سبحانه في صرفه إلى ما عينه عز وجل من المصارف، أو ما انتقل
إليكم من غيركم وسينتقل منكم إلى الغير.
وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يرث كل شيء
فيهما ولا يبقى لأحد مال على أن ميراثهما مجاز أو كناية عن
ميراث ما فيهما لأن أخذ الظرف يلزمه أخذ المظروف.
وجوز أن يراد يرثهما وما فيهما، واختير الأول أنه يكفي
لتوبيخهم إذ لا علاقة لأخذ السماوات والأرض هنا، والجملة حال
من فاعل لا تنفقوا أو مفعوله مؤكدة للتوبيخ فإن ترك الإنفاق
بغير سبب قبيح منكر ومع تحقق ما يوجب الإنفاق أشد في القبح
وأدخل في الإنكار فإن بيان بقاء جميع ما في السماوات والأرض من
الأموال بالآخرة لله عز وجل من غير أن يبقى لأحد من أصحابها
شيء أقوى في إيجاب الانفاق عليهم من بيان أنها لله تعالى في
الحقيقة، أو أنها انتقلت إليهم من غيرهم كأنه قيل: ومالكم في
ترك إنفاقها في سبيل الله تعالى، والحال أنه لا يبقى لكم ولا
(14/171)
لغيركم منها شيء بل تبقى كلها لله عز وجل،
وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لزيادة التقرير وتربية
المهابة، وقوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ
مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ بيان لتفاوت درجات المنفقين
حسب تفاوت أحوالهم في الإنفاق بعد بيان أن لهم أجرا كبيرا على
الإطلاق حثا لهم على تحري الأفضل، وعطف القتال على الإنفاق
للإيذان بأنه من أهم مواد الإنفاق مع كونه في نفسه من أفضل
العبادات وأنه لا يخلو من الانفاق أصلا وقسيم مَنْ أَنْفَقَ
محذوف أي لا يستوي ذلك وغيره، وحذف لظهوره ودلالة ما بعد عليه،
والفتح فتح مكة على ما روي عن قتادة، وزيد بن أسلم ومجاهد- وهو
المشهور- فتعريفه للعهد أو للجنس ادعاء وقال الشعبي: هو فتح
الحديبية وقد مر وجه تسميته فتحا في سورة الفتح، وفي بعض
الآثار ما يدل عليه.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل
من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال:
خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عام الحديبية حتى
إذا كان بعسفان قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: يوشك أن
يأتي قوم يحتقرون أعمالكم مع أعمالهم قلنا: من هم يا رسول الله
أقريش؟ قال: لا ولكن هم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا،
فقلنا: أهم خير منا يا رسول الله؟
قال: لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مدّ أحدكم ولا
نصيفه ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس لا يَسْتَوِي
مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ الآية.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما قَبْلِ بغير مَنْ
أُولئِكَ إشارة إلى من أنفق، والجمع بالنظر إلى معنى مَنْ كما
أن إفراد الضميرين السابقين بالنظر إلى لفظها، ووضع اسم
الإشارة البعيد موضع الضمير للتعظيم والإشعار بأن مدار الحكم
هو إنفاقهم قبل الفتح وقتالهم، ومحله الرفع على الابتداء
والخبر قوله تعالى: أَعْظَمُ دَرَجَةً أي أولئك المنعوتون
بذينك النعتين الجليلين أرفع منزلة وأجل قدرا.
مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ بعد الفتح وَقاتَلُوا
وذهب بعضهم إلى أن فاعل لا يَسْتَوِي ضمير يعود على الانفاق أي
لا يستوي هو أي الإنفاق أي جنسه إذ منه ما هو قبل الفتح ومنه
ما هو بعده، ومَنْ أَنْفَقَ مبتدأ، وجملة أُولئِكَ أَعْظَمُ
خبره وفيه تفكيك الكلام وخروج عن الظاهر لغير موجب فالوجه ما
تقدم، ويعلم منه التزاما التفاوت بين الإنفاق قبل الفتح
والانفاق بعده، وإنما كان أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا بعد
لأنهم إنما فعلوا ما فعلوا عند كمال الحاجة إلى النصرة بالنفس
والمال لقلة المسلمين وكثرة أعدائهم وعدم ما ترغب فيه النفوس
طبعا من كثرة الغنائم فكان ذلك أنفع وأشد على النفس وفاعله
أقوى يقينا بما عند الله تعالى وأعظم رغبة فيه، ولا كذلك الذين
أنفقوا بعد وَكُلًّا أي كل واحد من الفريقين لا الأولين فقط
وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي المثوبة الحسنى وهي الجنة على ما
روي عن مجاهد وقتادة، وقيل: أعم من ذلك والنصر والغنيمة في
الدنيا، وقرأ ابن عامر وعبد الوارث- وكل- بالرفع، والظاهر أنه
مبتدأ والجملة بعده خبر والعائد محذوف أي وعده كما في قوله:
وخالد يحمد ساداتنا ... بالحق لا يحمد بالباطل
يريد يحمده والجملة عطف على أولئك أعظم درجة وبينهما من
التطابق ما ليس على قراءة الجمهور، ومنع البصريون حذف العائد
من خبر المبتدأ، وقالوا: لا يجوز إلا في الشعر بخلاف حذفه من
جملة الصفة وهم محجوجون بهذه القراءة، وقول بعضهم فيها: إن كل
خبر مبتدأ تقديره، وأولئك كل، وجملة وَعَدَ اللَّهُ صفة- كل-
تأويل ركيك، وفيه زيادة حذف، على أن بعض النحاة منع وصف- كل-
بالجملة لأنه معرفة بتقدير
(14/172)
وكلهم، وقال الشهاب: الصحيح ما ذهب إليه
ابن مالك من أن عدم جواز حذف العائد من جملة الخبر في غير- كل-
وما ضاهاها في الافتقار والعموم فإنه في ذلك مطرد لكن ادعى فيه
الإجماع وهو محل نزاع.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم بظاهره وباطنه
ويجازيكم على حسبه فالكلام وعد ووعيد، وفي الآيات من الدلالة
على فضل السابقين المهاجرين والأنصار ما لا يخفى، والمراد بهم
المؤمنون المنفقون المقاتلون قبل فتح مكة أو قبل الحديبية بناء
على الخلاف السابق، والآية على ما ذكره الواحدي عن الكلبي نزلت
في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي بسببه، وأنت تعلم أن
خصوص السبب لا يدل على تخصيص الحكم، فلذلك قال: أُولئِكَ ليشمل
غيره رضي الله تعالى عنه ممن اتصف بذلك، نعم هو أكمل الأفراد
فإنه أنفق قبل الفتح وقبل الهجرة جميع ماله وبذل نفسه معه عليه
الصلاة والسلام ولذا
قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «ليس أحد أمّن علي بصحبته من
أبي بكر»
وذلك يكفي لنزولها فيه،
وفي الكشاف إن أولئك هم السابقون الأولون من المهاجرين
والأنصار الذين قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيهم: «لو
أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه»
قال الطيبي: الحديث من رواية البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي
عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم: لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدا أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ
مدّ أحدهم ولا نصيفه»
، وتعقبه في الكشف بأنه على هذا لا يختص بالسابقين الأولين كما
أشار في الكشاف إليه وهو مبني على أن الخطاب في لا تسبوا ليس
للحاضرين ولا للموجودين في عصره صلى الله تعالى عليه وسلم بل
لكل من يصلح للخطاب كما في قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ
وُقِفُوا [الأنعام: 27، 30] الآية وإلا فقد قيل: إن الخطاب
يقتضي الحضور والوجود ولا بد من مغايرة المخاطبين بالنهي عن
سبهم فهم السابقون الكاملون في الصحبة.
وأقول شاع الاستدلال بهذا الحديث على فضل الصحابة مطلقا بناء
على ما قالوا: إن إضافة الجمع تفيد الاستغراق وعليه صاحب
الكشف، واستشكل أمر الخطاب، وأجيب عنه بما سمعت وبأنه على حدّ
خطاب الله تعالى الأزلي لكن من بعض الأخبار ما يؤيد أن
المخاطبين بعض من الصحابة والممدوحين بعض آخر منهم فتكون
الإضافة للعهد أو بحمل الأصحاب على الكاملين في الصحبة.
أخرج أحمد عن أنس قال: «كان بين خالد بن الوليد وبين عبد
الرحمن بن عوف كلام فقال لعبد الرحمن ابن عوف: تستطيلون علينا
بأيام سبقتمونا بها فبلغ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال:
دعوا لي أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد- أو مثل
الجبال- ذهبا ما بلغتم أعمالهم»
ثم في هذا الحديث تأييد ما لكون أولئك هم الذين أنفقوا قبل
الحديبية لأن إسلامه رضي الله تعالى عنه كان بين الحديبية وفتح
مكة كما في التقريب وغيره، والزمخشري فسر الفتح بفتح مكة فلا
تغفل، قال الجلال المحلي: كون الخطاب في «لا تسبوا» للصحابة
السابين، وقال: نزلهم صلى الله تعالى عليه وسلم بسبهم الذي لا
يليق بهم منزلة غيرهم حيث علل بما ذكره وهو وجه حسن فتدبر
وقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً
حَسَناً ندب بليغ من الله تعالى إلى الانفاق في سبيله مؤكد
للأمر السابق به وللتوبيخ على تركه فالاستفهام ليس على حقيقته
بل للحث، والقرض الحسن الانفاق بالإخلاص وتحري أكرم المال
وأفضل الجهات، وذكر بعضهم أن القرض الحسن ما يجمع عشر صفات. أن
يكون من الحلال فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا. وأن يكون
من أكرم ما يملكه المرء. وأن يكون والمرء صحيح شحيح يأمل العيش
ويخشى الفقر وأن يضعه في الأحوج الأولى. وأن يكتم ذلك، وأن لا
يتبعه بالمنّ والأذى، وأن يقصد به وجه الله تعالى وأن يستحقر
ما يعطي وإن كثر، وأن يكون من أحب أمواله إليه.
(14/173)
وأن يتوخى في إيصاله للفقير ما هو أسر لديه
من الوجوه كحمله إلى بيته. ولا يخفى أنه يمكن الزيادة والنقص
فيما ذكر.
وأيما كان فالكلام إما على التجوز في الفعل فيكون استعارة
تبعية تصريحية أو التجوز في مجموع الجملة فيكون استعارة
تمثيلية وهو الأبلغ أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله
تعالى مخلصا متحريا أكرمه وأفضل الجهات رجاء أن يعوضه سبحانه
بدله كمن يقرضه فَيُضاعِفَهُ لَهُ فيعطيه أجره على إنفاقه
مضاعفا أضعافا كثيرة من فضله.
وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ أي وذلك الأجر المضموم اليه الإضعاف
كريم مرضي في نفسه حقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون، ففيه إشارة
إلى أن الأجر كما أنه زائد في الكم بالغ في الكيف فالجملة
حاليه لا عطف على فَيُضاعِفَهُ، وجوز العطف والمغايرة ثابتة
بين الضعف والأجر نفسه فإن الإضعاف من محض الفضل والمثل فضل هو
أجر، ونصب يضاعفه على جواب الاستفهام بحسب المعنى كأنه قيل:
أيقرض الله تعالى أحد فيضاعفه له فإن المسئول عنه بحسب اللفظ
وإن كان هو الفاعل لكنه في المعنى هو الفعل إذ ليس المراد أن
الفعل قد وقع السؤال عن تعيين فاعله كقولك: من جاءك اليوم؟ إذا
علمت أنه جاءه جاء لم تعرفه بعينه وإنما أورد على هذا الأسلوب
للمبالغة في الطلب حتى كأن الفعل لكثرة دواعيه قد وقع وإنما
يسأل عن فاعله ليجازي ولم يعتبر الظاهر لأنه يشترط بلا خلاف في
النصب بعد الفاء أن لا يتضمن ما قبل وقوع الفعل نحو لم ضربت
زيدا فيجازيك فإنه حينئذ لا يتضمن سبق مصدر مستقبل وعلى هذا
يؤول كل ما فيه نصب وما قبل متضمن للوقوع، وقرأ غير واحد
«فيضاعفه» بالرفع على القياس نظرا للظاهر المتضمن للوقع وهو
إما عطف على يقرض أو على فهو (يضاعفه) وقرىء فيضعفه بالرفع
والنصب يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ظرف لما
تعلق به له أو له أو لقوله تعالى: فَيُضاعِفَهُ أو منصوب
بإضمار اذكر تفخيما لذلك اليوم، والرؤية بصرية والخطاب لكل من
تتأتى منه أو لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم، وقوله
عز وجل: يَسْعى نُورُهُمْ حال من مفعول ترى والمراد بالنور
حقيقته على ما ظهر من شموس الأخبار- وإليه ذهب الجمهور-
والمعنى يسعى نورهم إذا سعوا.
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ
أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال: «يؤتون نورهم
على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل
ومنهم من نوره مثل النخلة وأدناهم نورا من نوره على إبهامه
يطفأ مرة ويقد أخرى»
وظاهره أن هذا النور يكون عند المرور على الصراط، وقال بعضهم:
يكون قبل ذلك ويستمر معهم إذا مروا على الصراط، وفي الأخبار ما
يقتضيه كما ستسمعه قريبا إن شاء الله تعالى، والمراد أنه يكون
لهم في جهتين جهة الإمام وجهة اليمين وخصا لأن السعداء يؤتون
صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كما أن الأشقياء يؤتونها من
شمائلهم ووراء ظهورهم، وفي البحر الظاهر أن النور قسمان: نور
بين أيديهم يضيء الجهة التي يؤمونها. ونور بأيمانهم يضيء ما
حواليهم من الجهات، وقال الجمهور: إن النور أصله بأيمانهم
والذي بين أيديهم هو الضوء المنبسط من ذلك، وقيل: الباء بمعنى
عن أي وعن أيمانهم والمعنى في جميع جهاتهم، وذكر الأيمان
لشرفها انتهى، ويشهد لهذا المعنى ما
أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن عبد الرحمن بن
جبير بن نضير أنه سمع أبا ذر وأبا الدرداء قالا: قال رسول الله
صلّى الله عليه وسلم: «أنا أول من يؤذن له في السجود يوم
القيامة وأول من يؤذن له فيرفع رأسه فأرفع رأسي فأنظر بين يدي
ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي بين الأمم فقيل: يا
رسول الله وكيف تعرفهم من بين الأمم ما بين نوح عليه السلام
إلى أمتك؟ قال: غرّ
(14/174)
يَوْمَ يَقُولُ
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا
انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا
وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ
لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ
قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ
مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ
وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ
حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ
(14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا
أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ
الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ
الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ
الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ
قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ
(18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ
الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ
أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
محجلون من أثر الوضوء ولا يكون لأحد غيرهم
وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم
من أثر السجود وأعرفهم بنورهم الذي يسعى بين أيديهم وعن
أيمانهم وعن شمائلهم»
وظاهر هذا الخبر اختصاص النور بمؤمني هذه الأمة وكذا إيتاء
الكتب بالأيمان وبعض الأخبار يقتضي كونه لكل مؤمن،
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال: «تبعث ظلمة يوم القيامة
فما من مؤمن ولا كافر يرى كفه حتى يبعث الله تعالى بالنور
للمؤمنين بقدر أعمالهم» الخبر
، وأخرج عنه الحاكم وصححه وابن أبي حاتم من وجه آخر وابن
المبارك والبيهقي في الأسماء والصفات خبرا طويلا فيه أيضا ما
هو ظاهر في العموم، وكذا ما
أخرج ابن جرير والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال: بينما الناس
في ظلمة إذ بعث الله تعالى نورا فلما رأى المؤمنين النور
توجهوا نحوه وكان النور دليلا لهم من الله عز وجل إلى الجنة
، ولا ينافي هذا الخبر كونهم يمرون بنورهم على الصراط كما لا
يخفى، وكذا إيتاء الكتب بالأيمان، ففي هداية المريد لجوهرة
التوحيد ظاهر الآيات والأحاديث عدم اختصاصه يعني أخذ الصحف
بهذه الأمة وإن تردد فيه بعض العلماء انتهى.
ويمكن أن يقال: إن ما يكون من النور هذه الأمة أجلى من النور
الذي يكون لغيرها أو هو ممتاز بنوع آخر من الامتياز، وأما
إيتاء الكتب بالأيمان فلعله لكثرته فيها بالنسبة إلى سائر
الأمم تعرف به، وفي هذا المطلب أبحاث أخر تذكر إن شاء الله
تعالى في محلها، وقيل: أريد بالنور القرآن، وقال الضحاك: النور
استعارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه، وقرأ سهل بن شعيب
السهمي وأبو حيوة «وبإيمانهم» بكسر الهمزة، وخرّج ذلك أبو حيان
على أن الظرف يعني أيديهم متعلق بمحذوف والعطف عليه بذلك
الاعتبار أي كائنا بين أيديهم وكائنا بسبب إيمانهم وهو كما
ترى، ولعله متعلق بالقول المقدر في قوله تعالى: بُشْراكُمُ
الْيَوْمَ جَنَّاتٌ أي وبسبب إيمانهم يقال لهم ذلك، وجملة
القول، إما معطوفة على ما قبل أو استئناف أو حال ويجوز على
الحالية تقدير الوصف منه أي مقولا لهم، والقائل الملائكة الذين
يتلقونهم.
والمراد بالبشرى ما يبشر به دون التبشير والكلام على حذف مضاف
أي ما تبشرون به دخول جنات يصح بدونه أي ما تبشرون به جنات،
ويصح بدونه أي ما تبشرون به جنات، وما قيل: البشارة لا تكون
بالأعيان فيه نظر، وتقدير المضاف لا يغني عن تأويل البشرى لأن
التبشير ليس عين الدخول، وجملة قوله تعالى: تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ في موضع الصفة لجنات: وقوله سبحانه:
خالِدِينَ فِيها حال من جنات، قال أبو حيان: وفي الكلام التفات
من ضمير الخطاب في بُشْراكُمُ إلى ضمير الغائب في خالِدِينَ
ولو أجرى على الخطاب لكان التركيب خالدا أنتم فيها: ذلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يحتمل أن يكون من كلامه تعالى فالإشارة
إلى ما ذكر من النور والبشرى بالجنات، ويحتمل أن يكون من كلام
الملائكة عليهم السلام المتلقين لهم، فالإشارة إلى ما هم فيه
من النور وغيره أو إلى الجنات بتأويل ما ذكر أو لكونها فوزا
على ما قيل، وقرىء ذلك الفوز بدون هُوَ.
(14/175)
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ
وَالْمُنافِقاتُ بدل من يَوْمَ تَرَى، وجوز أن يكون معمولا لا
ذكر.
وقال ابن عطية: يظهر لي أن العامل فيه ذلك هو الفوز العظيم،
ويكون معنى الفوز عليه أعظم كأنه قيل: إن المؤمنين يفوزون يوم
يعتري المنافقين والمنافقات كذا وكذا لأن ظهور المرء يوم خمول
عدوه مضاده أبدع وأفخم.
وتعقبه في البحر بأن ظاهر تقريره أن يوم منصوب بالفوز وهو لا
يجوز لأنه مصدر قد وصف قبل أخذ متعلقاته فلا يجوز إعماله ولو
أعمل وصفه وهو العظيم لجاز- أي الفوز الذي عظم- أي قدره يوم
انتهى، وفي عدم جواز إعمال مثل هذا المصدر في مثل هذا المعمول
خلاف، ثم إن تعلق هذا الظرف بشيء من تلك الجملة خلاف الظاهر
لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا أي انتظرونا نَقْتَبِسْ مِنْ
نُورِكُمْ نصب منه وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به.
وقيل: فيأخذوا شيئا منه يكون معهم تخيلوا تأتّي ذلك فقالوه،
وأصل الاقتباس طلب القبس أي الجذوة من النار، وجوز أن يكون
المعنى انظروا إلينا نقتبس إلخ لأنهم إذا نظروا إليهم
استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به فانظرونا
على الحذف والإيصال لأن النظر بمعنى مجرد الرؤية يتعدى بإلى
فإن أريد التأمل تعدى بفي لكن حمل الآية على ذلك خلاف الظاهر
وقولهم: للمؤمنين ذلك لأنهم في ظلمة لا يذرون كيف يمشون فيها،
وروي أنه يكون ذلك على الصراط.
وفي الآثار دلالة على أنهم يكون لهم نور فيطفأ فيقولون ذلك،
أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله يدعو الناس يوم
القيامة بأمهاتهم سترا منه على عباده وأما عند الصراط قال الله
يعطي كل مؤمن نورا وكل منافق نورا فإذا استووا على الصراط أطفأ
الله نور المنافقين والمنافقات فقال المنافقون: انظرونا نقتبس
من نوركم، وقال المؤمنون: أتمم لنا نورنا فلا يذكر عند ذلك أحد
أحدا» .
وفي حديث آخر مرفوع عنه أيضا إن نور المنافق يطفأ قبل أن يأتي
الصراط
،
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي فاختة يجمع الله تعالى
الخلائق يوم القيامة ويرسل الله سبحانه على الناس ظلمة
فيستغيثون ربهم فيؤتي الله تعالى كل مؤمن منهم نورا ويؤتي
المنافقين نورا فينطلقون جميعا متوجهين إلى الجنة معهم نورهم
فبينما هم كذلك إذ أطفأ الله نور المنافقين فيترددون في الظلمة
ويسبقهم المؤمنون بنورهم بين أيديهم فيقولون انظرونا نقتبس من
نوركم الخبر
، والاخبار في إيتاء المنافق نورا ثم إطفائه كثيرة وليس في
الآية ما يأباه.
وقرأ زيد بن علي وابن وثاب والأعمش وطلحة وحمزة «أنظرونا» بقطع
الهمزة وفتحها وكسر الظاء من النظرة وهي الامهال يقال أنظر
المديون أي أمهله، وضع انْظُرُونا بمعنى المهلة وإنظار الدائن
المديون موضع اتئاد الرفيق ومشيه الهوينا ليلحقه رفيقه على
سبيل الاستعارة بعد سبق تشبيه الحالة بالحالة مبالغة في العجز
وإظهار الافتقار، وقيل: هو من أنظر أي أخر، والمراد اجعلونا في
آخركم ولا تسبقونا بحيث تفوتونا ولا نلحق بكم.
(14/176)
وقال المهدوي: «أنظرونا» «وانظرونا» بمعنى
وهما من الانتظار تقول العرب: أنظرته بكذا وانتظرته بمعنى واحد
والمعنى أمهلونا قِيلَ القائلون على ما روي عن ابن عباس
المؤمنون، وعلى ما روي عن مقاتل الملائكة عليهم السلام.
ارْجِعُوا وَراءَكُمْ قال ابن عباس: أي من حيث جئتم من الظلمة
أو إلى المكان الذي قسم فيه النور على ما صح عن أبي أمامة
فَالْتَمِسُوا نُوراً هناك، قال مقاتل: هذا من الاستهزاء بهم
كما استهزؤوا بالمؤمنين في الدنيا حين قالوا آمنا وليسوا
بمؤمنين، وذلك قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ
[البقرة: 15] أي حين يقال لهم ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا،
وقال أبو أمامة: يرجعون حين يقال لهم ذلك إلى المكان الذي قسم
فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسور
وهي خدعة الله تعالى التي خدع بها المنافقين حيث قال سبحانه:
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النساء: 142] ، وقيل: المراد ارجعوا إلى الدنيا والتمسوا نورا
أي بتحصيل سببه وهو الإيمان أو تنحوا عنا والتمسوا نورا غير
هذا فلا سبيل لكم إلى الاقتباس منه، والغرض التهكم والاستهزاء
أيضا.
وقيل: أرادوا بالنور ما وراءهم من الظلمة الكثيفة تهكما بهم
وهو خلاف الظاهر، وأيا ما كان فالظاهر أن وراءكم معمول
لارجعوا.
وقيل: لا محل له من الإعراب لأنه بمعنى ارجعوا فكأنه قيل:
ارجعوا ارجعوا كقولهم وراءك أوسع لك أي ارجع تجد مكانا أوسع لك
فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ أي بين الفريقين، وقرأ زيد بن علي وعبيد
بن عمير «فضرب» مبنيا للفاعل أي فضرب هو أي الله عز وجل
بِسُورٍ أي بحاجز، قال ابن زيد: هو الأعراف، وقال غير واحد:
حاجز غيره والباء مزيدة لَهُ بابٌ باطِنُهُ أي الباب كما روي
عن مقاتل أو السور وهو الجانب الذي يلي مكان المؤمنين أعني
الجنة فِيهِ الرَّحْمَةُ الثواب والنعيم الذي لا يكتنه
وَظاهِرُهُ الجانب الذي يلي مكان المنافقين أعني النار مِنْ
قِبَلِهِ أي من جهته الْعَذابُ وهذا السور قيل: يكون في تلك
النشأة وتبدل هذا العالم واختلاف أوضاعه في موضع الجدار الشرقي
من مسجد بيت المقدس.
أخرج عبد بن حميد عن أبي سنان قال: كنت مع علي بن عبد الله بن
عباس عند وادي جهنم يعني المكان المعروف عند بيت المقدس فحدث
عن أبيه أنه قال، وقد تلا قوله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ
بِسُورٍ هذا موضع السور عند وادي جهنم، وأخرج هو وابن جرير
وابن المنذر والحاكم وصححه وغيرهم عن عبد الله بن عمرو بن
العاص قال:
إن السور الذي ذكره الله تعالى في القرآن فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ
بِسُورٍ هو سور بيت المقدس الشرقي باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ
المسجد وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ يعني وادي جهنم وما
يليه.
وأخرج عن عبادة بن الصامت أنه كان على سور بيت المقدس الشرقي
فبكى فقيل: ما يبكيك؟ فقال: هاهنا أخبرنا رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم أنه رأى جهنم
ولا يخفى أن هذا ونظائره أمور مبنية على اختلاف العالمين
وتغاير النشأتين على وجه لا تصل العقول إلى إدراك كيفيته
والوقوف على تفاصيله، فإن صح الخبر لم يسعنا إلا الايمان لعدم
خروج الأمر عن دائرة الإمكان، وأبو حيان حكى عمن سمعت وعن كعب
الأحبار أنه الجدار الشرقي من مسجد بيت المقدس واستبعده ثم
قال: ولعله لا يصح عنهم يُنادُونَهُمْ استئناف مبني على السؤال
كأنه قيل: فماذا يفعلون بعد ضرب السور ومشاهدة العذاب؟ فقيل:
ينادي المنافقون والمنافقات المؤمنين والمؤمنات أَلَمْ نَكُنْ
في الدنيا مَعَكُمْ يريدون به موافقتهم لهم في الظاهر قالُوا
بَلى كنتم معنا كما تقولون وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ محنتموها بالنفاق وأهلكتموها وَتَرَبَّصْتُمْ
بالمؤمنين الدوائر وَارْتَبْتُمْ وشككتم في أمور الدين
(14/177)
وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ الفارغة التي
من جملتها الطمع في انتكاس الإسلام وقال ابن عباس: فَتَنْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ بالشهوات واللذات وَتَرَبَّصْتُمْ بالتوبة
وَارْتَبْتُمْ قال محبوب الليثي: شككتم في الله وَغَرَّتْكُمُ
الْأَمانِيُّ طول الآمال، وقال أبو سنان: قلتم سيغفر لنا
حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ أي الموت وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ
الْغَرُورُ الشيطان قال لكم: إن الله عفو كريم لا يعذبكم.
وعن قتادة كانوا على خدعة من الشيطان والله ما زالوا عليها حتى
قذفهم الله تعالى في النار.
وقرأ سماك بن حرب الغرور بالضم، قال ابن جني: وهو كقوله: وغركم
بالله تعالى الاغترار، وتقديره على حذف المضاف أي وغركم بالله
تعالى سلامة الاغترار (1) ومعناه سلامتكم منه اغتراركم.
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ أيها المنافقون فِدْيَةٌ
فداء وهو ما يبذل لحفظ النفس عن النائبة والناصب ليوم الفعل
المنفي بلا، وفيه حجة على من منع ذلك، وقرأ أبو جعفر والحسن
وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر وهارون عن أبي عمرو لا تؤخذ
التاء الفوقية وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ظاهرا وباطنا
فيغاير المخاطبين المنافقين، ثم الظاهر أن المراد بالفدية ما
هو من جنس المال ونحوه، وجوز أن يراد بها ما يعم الإيمان
والتوبة فتدل الآية على أنه لا يقبل إيمانهم وتوبتهم يوم
القيامة وفيه بعد،
وفي الحديث: إن الله تعالى يقول للكافر: أرأيتك لو كان لك
أضعاف الدنيا أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار؟ فيقول: نعم
يا رب فيقول الله تبارك وتعالى: قد سألتك ما هو أيسر من ذلك
وأنت في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك
مَأْواكُمُ النَّارُ محل أويكم هِيَ مَوْلاكُمْ أي ناصركم من
باب- تحية بينهم ضرب وجيع- والمراد نفي الناصر على البتات بعد
نفي أخذ الفدية وخلاصهم بها عن العذاب، ونحوه قولهم: أصيب بكذا
فاستنصر الجزع، ومنه قوله تعالى: يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ
[الكهف: 29] وقال الكلبي والزجاج والفراء وأبو عبيدة: أي أولى
بكم كما في قول لبيد يصف بقرة وحشية نفرت من صوت الصائد:
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافة خلفها وأمامها
أي فغدت كلا جانبيها الخلف والإمام تحسب أنه أولى بأن يكون فيه
الخوف، قال الزمخشري: وحقيقة مولاكم هي على هذا محراكم ومقمنكم
أي المكان الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل: هو مئنة للكرم
أي مكان لقول القائل: إنه لكريم فأولى نوع من اسم المكان لوحظ
فيه معنى أولى إلا أنه مشتق منه كما أن المئنة ليست مشتقة من
إن التحقيقية، وفي التفسير الكبير إن قولهم ذلك بيان لحاصل
المعنى وليس بتفسير اللفظ لأنه لو كان مولى وأولى بمعنى واحد
في اللغة لصح استعمال كل منهما في مكان الآخر وكان يجب أن يصح
هذا أولى فلان كما يقال: هذا مولى فلان ولما بطل ذلك علمنا أن
الذي قالوه معنى وليس بتفسير، ثم صرح بأنه أراد بذلك رد
استدلال الشريف المرتضى بحديث الغدير من كنت مولاه فعليّ مولاه
على إمامة الأمير كرم الله تعالى وجهه حيث قال: أحد معاني
المولى الاولى.
وحمله في الخبر عليه متعين لأن إرادة غيره يجعل الاخبار عبثا
كإرادة الناصر والصاحب وابن العم، أو يجعله كذبا كالمعتق
والمعتق ولا يخفى على المنصف أنه إن أراد بكونه معنى لا تفسير
ما أشار إليه الزمخشري من التحقيق فهو لا يرد الاستدلال إذ
يكفي للمرتضى أن يقول: المولى في الخبر بمعنى المكان الذي يقال
فيه أولى إذ يلزم على
__________
(1) هكذا في الأصل فليتنبه. ادارة.
(14/178)
غيره العبث أو الكذب وإن أراد أن ذلك معنى
لازم لما هو تفسير له كأن يكون تفسيره القائم بمصالحكم ونحوه
مما يكون ذلك لازما له ففي رده الاستدلال أيضا تردد، وإن أراد
شيئا آخر فنحن لا ندري ما هو- وهو لم يبينه- والحق أنه ولو جعل
المولى بمعنى الأولى أو المكان الذي يقال فيه الأولى لا يتم
الاستدلال بالخبر على الإمامة التي تدعيها الإمامية للأمير كرم
الله تعالى وجهه لما بين في موضعه، وفي التحفة الاثني عشرية ما
فيه كفاية لطالب الحق.
وقال ابن عباس أي مصيركم وتحقيقه على ما قال الإمام: إن المولى
بمعنى موضع الولي وهو القرب والمعنى هي موضعكم الذي تقربون منه
وتصلون إليه، وأنت تعلم أن الاخبار بذلك بعد الاخبار بأنها
مأواهم ليس فيه كثير جدوى على أن وضع اسم المكان للموضع الذي
يتصف صاحبه بالمأخذ حال كونه فيه والقرب من النار وصف لأولئك
قبل الدخول فيها ولا يحسن وصفهم به بعد الدخول ولو اعتبر مجاز
الكون كما لا يخفى، وجوز بعضهم اعتبار كونه اسم مكان من الولي
بمعنى القرب لكن على أن المعنى هي مكان قربكم من الله سبحانه
ورضوانه على التهكم بهم وقيل: أي متوليكم أن المتصرفة فيكم
كتصرفكم فيما أوجبها واقتضاها في الدنيا من المعاصي والتصرف
استعارة للإحراق والتعذيب، وقيل: مشاكلة تقديرية وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ أي النار وهي المخصوص بالذم المحذوف لدلالة السياق
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ
لِذِكْرِ اللَّهِ استئناف لعتاب المؤمنين على الفتور والتكاسل
فيما ندبوا اليه والمعاتب على ما قاله الزجاج طائفة من
المؤمنين وإلا فمنهم من لم يزل خاشعا منذ أسلم إلى أن ذهب إلى
ربه، وما نقل عن الكلبي ومقاتل أن الآية نزلت في المنافقين فهم
المراد بالذين آمنوا مما لا يكاد يصح، وقد سمعت صدر السورة
الكريمة ما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
وأخرج ابن المبارك وعبد الرزاق وابن المنذر والأعمش قال: لما
قدم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة فأصابوا من
لين العيش ما أصابوا بعد ما كان لهم من الجهد فكأنهم فتروا عن
بعض ما كانوا عليه فعوتبوا فنزلت أَلَمْ يَأْنِ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: إن الله
تعالى استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من
نزول القرآن فقال سبحانه: أَلَمْ يَأْنِ الآية، وفي خبر ابن
مردويه عن أنس بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن.
وأخرج عن عائشة قالت: خرج رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم
على نفر من أصحابه في المسجد وهم يضحكون فسحب رداءه محمرا وجهه
فقال: أتضحكون ولم يأتكم من ربكم بأنه قد غفر لكم وقد نزل علي
في ضحككم آية أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ إلخ؟ قالوا: يا رسول
الله فما كفارة ذلك؟ قال: تبكون بقدر ما ضحكتم
، وفي الخبر أن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قد ظهر فيهم
المزاح والضحك فنزلت، وحديث مسلم ومن معه السابق مقدم على هذه
الآثار على ما يقتضيه كلام أهل الحديث، ويَأْنِ مضارع أنى
الأمر أنيا وأناء وإناء بالكسر إذا جاء أناه أي وقته، أي ألم
يجىء وقت أن تخشع قلوبهم لذكره عز وجل.
وقرأ الحسن وأبو السمال- ألما- بالهمزة، ولما النافية الجازمة
كلم إلا أن فيه أن المنفي متوقع.
وقرأ الحسن يئن مضارع آن أينا بمعنى أني السابق، وقال أبو
العباس: قال قوم: إن يئين أينا الهمزة مقلوبة فيه عن الحاء
وأصله حان يحين حينا وأصل الكلمة من الحين وَما نَزَلَ مِنَ
الْحَقِّ أي القرآن وهو عطف على ذكر الله فإن كان هو المراد به
أيضا فالعطف لتغاير العنوانين نحو:
هو الملك القرم وابن الهمام فإنه ذكر وموعظة كما أنه حق نازل
من السماء وإلا بأن كان المراد به تذكير الله تعالى إياهم
فالعطف لتغاير
(14/179)
الذاتين على ما هو الشائع في العطف وكذا
إذا أريد به ذكرهم الله تعالى بالمعنى المعروف، وجوز العطف على
الاسم الجليل إذا أريد بالذكر التذكير وهو كما ترى، وقال
الطيبي: يمكن أن يحمل الذكر على القرآن وما نزل من الحق على
نزول السكينة معه أي الواردات الإلهية ويعضده ما
روينا عن البخاري ومسلم والترمذي عن البراء كان رجل يقرأ سورة
الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين فغشيته سحابة فجعلت تدنو وجعل
فرسه ينفر منها فلما أصبح أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
فذكر له ذلك فقال: تلك السكينة تنزل للقرآن.
وفي رواية اقرأ فلان فإنها السكينة تنزل عند القرآن وللقرآن
انتهى، ولا يخفى بعد ذلك جدّا ولعلك تختار حمل الذكر وما نزل
على القرآن لما يحس مما بعد من نوع تأييد له، وفسر الخشوع
للقرآن بالانقياد التام لأوامره ونواهيه والعكوف على العمل بما
فيه من الأحكام من غير توان ولا فتور، والظاهر أنه اعتبر كون
اللام صلة الخشوع، وجوز كونها للتعليل على أوجه الذكر فالمعنى
ألم يأن لهم أن ترق قلوبهم لأجل ذكر الله تعالى وكتابه الحق
النازل فيسارعوا إلى الطاعة على أكمل وجوهها، وفي الآية حض على
الخشوع، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كما أخرج عنه ابن
المنذر إذا تلاها بكى ثم قال: بلى يا رب بلى يا رب، وعن الحسن
أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤون من القرآن أقل مما تقرءون
فانظروا في طول ما قرأتم وما ظهر فيكم من الفسق، وروى السلمي
عن أحمد بن أبي الحواري قال بينا أنا في بعض طرقات البصرة إذ
سمعت صعقة فأقبلت نحوها فرأيت رجلا قد خر مغشيا عليه فقلت: ما
هذا؟ فقالوا:
كان رجلا حاضر القلب فسمع آية من كتاب الله فخر مغشيا عليه
فقلت: ما هي؟ فقيل: قوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ فأفاق
الرجل عند سماع كلامنا فأنشأ يقول:
أما آن للهجران أن يتصرما ... وللغصن غصن البان أن يتبسما
وللعاشق الصب الذي ذاب وانحنى ... ألم يأن أن يبكى عليه ويرحما
كتبت بماء الشوق بين جوانحي ... كتابا حكى نقش الوشي المنمنما
ثم قال: إشكال إشكال إشكال فخر مغشيا عليه فحركناه فإذا هو
ميت، وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أن هذه الآية قرئت بين
يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديدا فنظر إليهم
فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب، ولعله أراد رضي الله تعالى عنه
أن الطراز الأول كان كذلك حتى قست قلوب كثير من الناس ولم
يتأسوا بالسابقين وغرضه مدح أولئك القوم بما كان هو ونظراؤه
عليه رضي الله تعالى عنهم، ويحتمل أن يكون قد أراد ما هو
الظاهر، والكلام من باب هضم النفس كقوله رضي الله تعالى عنه:
أقيلوني فلست بخيركم، وقال شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس
سره:
معناه تصلبت وأدمنت سماع القرآن وألفت أنواره فما تستغربه حتى
تتغير كما تغير هؤلاء السامعون انتهى وهو خلاف الظاهر، وفيه
نوع انتقاص للقوم ورمز إلى أن البكاء عند سماع القرآن لا يكون
من كامل كما يزعمه بعض جهلة الصوفية القائلين: إن ذلك لا يكون
إلا لضعف القلب عن تحمل الواردات الإلهية النورانية ويجل عن
ذلك كلام الصديق رضي الله تعالى عنه، وقرأ غير واحد من السبعة
«وما نزّل» بالتشديد، والجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو في
رواية يونس وعباس عنه «نزّل» مبنيا للمفعول مشددا، وعبد الله-
أنزل- بهمزة النقل مبنيا للفاعل.
وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ لا
نافية وما بعدها منصوب معطوف على تخشع.
وجوز أن تكون ناهية وما بعدها مجزوم بها ويكون ذلك انتقالا إلى
نهي أولئك المؤمنين عن مماثلة أهل الكتاب بعد أن عوتبوا بما
سمعت وعلى النفي هو في المعنى نهي أيضا، وقرأ أبو بحرية وأبو
حيوة وابن أبي عبلة وإسماعيل عن أبي جعفر، وعن شيبة ويعقوب
وحمزة في رواية عن سليم عنه «ولا تكونوا» بالتاء الفوقية على
سبيل الالتفات للاعتناء
(14/180)
بالتحذير، وفي لا ما تقدم، والنهي مع
الخطاب أظهر منه مع الغيبة.
فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ أي الأجل بطول أعمارهم وآمالهم،
أو طال أمد ما بينهم وبين أنبيائهم عليهم السلام وبعد العهد
بهم، وقيل: أمد انتظار القيامة والجزاء، وقيل: أمد انتظار
الفتح، وفرقوا بين الأمد والزمان بأن الأمد يقال الغاية
والزمان عام من المبدأ والغاية، وقرأ ابن كثير في رواية الأمدّ
بتشديد الدال أي الوقت الأطول فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ صلبت فهي
كالحجارة، أو أشد قسوة وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن
حدود دينهم رافضون لما في كتابهم بالكلية، قيل: من فرط القسوة
وذكر أنه مأخوذ من كون الجملة حال، وفيه خفاء والأظهر أنه من
السياق، والمراد بالكتاب الجنس فالموصول يعم اليهود والنصارى
وكانوا كلهم في أوائل أمرهم يحول الحق بينهم وبين كثير من
شهواتهم وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله تعالى ورقت
قلوبهم فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة وزالت عنهم
الروعة التي كانوا يجدونها عند سماع الكتابين وأحدثوا ما
أحدثوا واتبعوا الأهواء وتفرقت بهم السبل، والقسوة مبدأ الشرور
وتنشأ من طول الغفلة عن الله تعالى، وعن عيسى عليه السلام: لا
تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم فإن القلب
القاسي بعيد من الله عز وجل ولا تنظروا إلى ذنوب العباد كأنكم
أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عباد والناس رجلان مبتلى ومعافى
فارحموا أهل البلاء واحمدوا على العافية ومن أحس بقسوة في قلبه
فليهرع إلى ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه يرجع إليه حاله كما
أشار إليه قوله عز وجل: اعلموا أنّ الله يحيي الأرض بعد موتها
فهو تمثيل ذكر استطرادا لإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة
بإحياء الأرض الميتة بالغيث للترغيب في الخشوع والتحذير عن
القساوة قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ التي من جملتها هذه
الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ كي تعقلوا ما فيها وتعملوا
بموجبها فتفوزوا بسعادة الدارين.
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ أي المتصدقين
والمتصدقات، وقد قرأ أبيّ كذلك، وقرأ ابن كثير وأبو بكر
والمفضل وأبان وأبو عمرو في رواية هارون بتخفيف الصاد من
التصديق لا من الصدقة كما في قراءة الجمهور أي الذين صدقوا
واللاتي صدقن الله عز وجل ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم،
والقراءة الأولى أنسب بقوله تعالى:
وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وقيل: الثانية أرجح لأن
الإقراض يغني عن ذكر التصديق، وأنت ستعلم إن شاء الله تعالى
فائدته، وعطف أَقْرَضُوا على معنى الفعل من المصدقين على ما
اختاره أبو علي والزمخشري لأن أل بمعنى الذين، واسم الفاعل
بمعنى الفعل فكأنه قيل: إن الذين اصدقوا أو صدقوا على
القراءتين وَأَقْرَضُوا وتعقبه أبو حيان وغيره بأن فيه الفصل
بين أجزاء الصلة إذ المعطوف على الصلة بأجنبي وهو المصدقات،
وذلك لا يجوز، وقال صاحب التقريب: هو محمول على المعنى كأنه
قيل: إن الناس الذين تصدقوا وتصدقن أأقرضوا فهو عطف على الصلة
من حيث المعنى بلا فصل، وتعقب بأنه لا محصل له إلا إذا قيل: إن
أل الثانية زائدة لئلا يعطف على صورة جزء الكلمة، وفيه بعد،
ولا يخفى أن حديث اعتبار المعنى يدفع ما ذكر، ومن هنا قيل: إنه
قريب ولا يبعد تأنيثا وتذكيرا لا يضر لأن أل تصلح للجميع فيراد
بها معنى اللاتي عند عود ضمير جمع الإناث عليها ومعنى الذي عند
عود ضمير جمع الذكور عليها وهو كما ترى، ومثله ما قيل: هو من
باب كل رجل وضيعته أي إن المصدقين مقرونون مع المصدقات في
الثواب والمنزلة، أو يقدر خبر أي- إن المصدقين والمصدقات
يفلحون- وَأَقْرَضُوا في الوجهين ليس عطفا على الصلة بل مستأنف
ويضاف بعد صفة قرضا أو استئناف ومن أنصف لم ير ذلك مما ينبغي
أن يخرج عليه كلام أدنى الفصحاء فضلا عن كلام رب العالمين،
واختار أبو حيان تخريج ذلك على حذف الموصول لدلالة ما قبله
عليه كأنه قيل: والذين أقرضوا فيكون مثل قوله
(14/181)
فمن يهجر رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره
سواء
وهو مقبول على رأي الكوفيين دون رأي البصريين فإنهم لا يجوزون
حذف الموصول في مثله، وبعض أئمة المحققين بعد أن استقرب توجيه
التقريب ولم يستبعد تنزيل ما سمعت عن الزمخشري وأبي علي عليه
قال: وأقرب منه أن يقال: إن الْمُصَّدِّقاتِ منصوب على التخصيص
كأنه قيل: «إن المصدقين» عاما على التغليب وأخص المتصدقات منهم
كما تقول: إن الذين آمنوا ولا سيما العلماء منهم وعملوا
الصالحات لهم كذا.
ووجه التخصيص ما
ورد في قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «يا معشر النساء تصدقن
فإني أريتكن أكثر أهل النار»
يحضهن على الصدقة بأنهن إذا فعلن ذلك كان له تعالى أقبل وجزاؤه
عنه سبحانه أوفر وأفضل، ثم قال: ولما لم يكن الإقراض غير ذلك
التصدق قيل: وأقرضوا أي بذلك التصدق تحقيقا لكينونته وأنهم مثل
ذلك ممثلون عند الله تعالى بمن يعامل مع أجود الأجودين معاملة
برضاه، ولو قيل: والمقرضين لفاتت هذه النكتة انتهى.
ولا يخفى أن نصب المصدقات على التخصيص خلاف الظاهر، وأما ما
ذكره في نكتة العدول عن المفروضين فحسن وهو متأت على تخريج أبي
علي والزمخشري، وعلى تخريج أبي حيان، وقال الخفاجي: القول- أي
قول أبي البقاء- بأن أقرضوا إلخ معترض بين اسم إن وخبرها أظهر
وأسهل، وكأن النكتة فيه تأكيد الحكم بالمضاعفة، وزعم أن الجملة
حال بتقدير قد أو بدونها من ضميري المصدقين والمصدقات لا يخفى
معنى وعربية فتدبر يُضاعَفُ لَهُمْ الضمير لجميع المتقدمين
الذكور والإناث على التغليب كضمير أقرضوا، والجار والمجرور
نائب الفاعل، وقيل: هو ضمير التصدق أو ضمير القرض على حذف مضاف
أي يضاعف ثواب التصدق أو ثواب القرض لهم، وقرأ ابن كثير وابن
عامر «يضعّف» بتشديد العين، وقرىء «يضاعف» بالبناء للفاعل أي
يضاعف الله عز وجل لهم ثواب ذلك وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ قد مر
الكلام فيه.
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ قد بين كيفية
إيمانهم في خاتمة سورة البقرة، والموصول مبتدأ أول، وقوله
تعالى:
أُولئِكَ مبتدأ ثان، وهو إشارة إلى الموصول وما فيه من معنى
البعد لما مر مرارا، وقوله سبحانه: هُمُ مبتدأ ثالث، وقوله عز
وجل: الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ خبر الثالث، والجملة خبر
الثاني وهو مع خبره خبر الأول أو هم ضمير فصل وما بعده خبر
الثاني، وقوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ متعلق على ما قيل:
بالثبوت الذي تقتضيه الجملة أي أولئك عند ربهم عز وجل وفي حكمه
وعلمه سبحانه هم الصديقون والشهداء.
والمراد أولئك في حكم الله تعالى بمنزلة الصديقين والشهداء
المشهورين بعلو الرتبة ورفعة المحل وهم الذين سبقوا إلى
التصديق ورسخوا فيه واستشهدوا في سبيل الله جل جلاله وسمي من
قتل مجاهدا في سبيله شهيدا لأن الله سبحانه وملائكته عليهم
السلام شهود له بالجنة، وقيل: لأنه حي لم يمت كأنه شاهد أي
حاضر، وقيل: لأن ملائكة الرحمة تشهده، وقيل: لأنه شهد ما أعد
الله تعالى له من الكرامة، وقيل: غير ذلك فهو إما فعيل بمعنى
فاعل أو بمعنى مفعول على اختلاف التأويل، وقوله تعالى لَهُمْ
أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ خبر ثان للموصول على أنه جملة من مبتدأ
وخبر. أو لَهُمْ الخبر وما بعده مرتفع به على الفاعلية وضمير
لَهُمْ للموصول، والضميران الأخيران للصديقين والشهداء، والغرض
بيان ثمرات ما وصفوا به من نعوت الكمال أي أولئك لهم مثل أجر
الصديقين والشهداء ونورهم المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال،
وقد حذف أداة التشبيه تنبيها على قوة المماثلة وبلوغها حد
الاتحاد كما فعل ذلك أولا حيث قيل:
أولئك هم الصديقون والشهداء وليست المماثلة بين ما للفريق
الأول من الأجر والنور. وبين تمام ما للفريقين الأخيرين بل بين
تمام ما للأول من الأصل والإضعاف وبين ما للأخيرين من الأصل
بدون الإضعاف، فالإضعاف هو الذي امتاز به
(14/182)
الفريقان الأخيران على الفريق الأول وقد لا
يعتبر تشبيه بليغ في الكلام أصلا ويبقى على ظاهره والضمائر
كلها للموصول أي أولئك هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا وصدقوا
جميع أخبار الله تعالى وأخبار رسله عليهم الصلاة والسلام
والقائمون بالشهادة لله سبحانه بالوحدانية وسائر صفات الكمال
ولهم بما يليق بهم من ذلك لهم الأجر والنور الموعودان لهم،
وقال بعضهم: وصفهم بالشهادة لكونهم شهداء على الناس كما نطق به
قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً
لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] فعند ربهم
متعلق بالشهداء، والمراد والشهداء على الناس يوم القيامة، وجوز
تعلقه بالشهداء أيضا على الوجه الأول على معنى الذين شهدوا
مزيد الكرامة بالقتل في سبيل الله تعالى يوم القيامة أو في
حظيرة رحمته عز وجل أو نحو ذلك، ويشهد لكون الشهداء معطوفا على
الصديقين آثار كثيرة.
أخرج ابن جرير عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله صلّى
الله عليه وسلم يقول: إن مؤمني أمتي شهداء، ثم تلا النبي صلى
الله تعالى عليه وسلم وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ
رَبِّهِمْ
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنه قال يوما لقوم عنده: كلكم
صديق وشهيد قيل له: ما تقول يا أبا هريرة؟ قال: اقرؤوا
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ الآية، وأخرج عبد
الرزاق وعبد بن حميد عن مجاهد قال: كل مؤمن صديق وشهيد ثم تلا
الآية، وأخرج عبد بن حميد نحوه عن عمرو بن ميمون،
وأخرج ابن حبان عن عمرو بن مرة الجهني قال: «جاء رجل إلى النبي
صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن شهدت
أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وأديت
الزكاة وصمت رمضان وقمته فممن أنا؟ قال: من الصديقين والشهداء»
وينبغي أن يحمل الذين آمنوا على من لهم كما في ذلك يعتدّ به
ولا يتحقق إلا بفعل طاعات يعتدّ بها وإلا فيبعد أن يكون المؤمن
المنهمك في الشهوات الغافل عن الطاعات صديقا شهيدا، ويستأنس
لذلك بما جاء من حديث عمر رضي الله تعالى عنه ما لكم إذا رأيتم
الرجل يخترق أعراض الناس أن لا تعيبوا عليه؟ قالوا: نخاف لسانه
قال: ذلك أحرى أن لا تكونوا شهداء، قال ابن الأثير: أي إذا لم
تفعلوا ذلك لم تكونوا في جملة الشهداء الذين يستشهدون يوم
القيامة على الأمم التي كذبت أنبياءها، وكذا
بقوله عليه الصلاة والسلام: اللعانون لا يكونون شهداء
بناء على أحد قولين فيه. وفي بعض الأخبار ما ظاهره إرادة طائفة
من خواص المؤمنين،
أخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله
تعالى عليه وسلم: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض مخافة الفتنة
على نفسه ودينه كتب عند الله صديقا فإذا مات قبضه الله شهيدا
وتلا هذه الآية وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ ثم قال هذه فيهم
ثم قال:
الفرّارون بدينهم من أرض إلى أرض يوم القيامة مع عيسى ابن مريم
في درجته في الجنة»
ويجوز أن يراد من قوله: «هذه فيهم» أنها صادقة عليهم وهم
داخلون فيها دخولا أوليا، ويقال: في
قوله عليه الصلاة والسلام: «مع عيسى في درجته»
المراد معه في مثل درجته وتوجه المماثلة بما مر والخبر إذا صح
يؤيد الوجه الأول في الآية.
وروي عن الضحاك أنها نزلت في ثمانية نفر سبقوا أهل الأرض في
زمانهم إلى الإسلام وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وطلحة
والزبير وسعد وزيد رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وهذا لا يضر في
العموم كما لا يخفى، وقيل: الشهداء مبتدأ وعِنْدَ رَبِّهِمْ
خبره، وقيل: الخبر لَهُمْ أَجْرُهُمْ والكلام عليهما قد تم عند
قوله تعالى: الصِّدِّيقُونَ، وأخرج هذا ابن جرير عن ابن عباس
والضحاك قالا: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ هذه مفصولة سماهم صديقين، ثم
قال: والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم.
وروى جماعة عن مسروق ما يوافقه، واختلفوا في المراد بالشهداء
على هذا فقيل: الشهداء في سبيل الله تعالى.
وحكي ذلك عن مقاتل بن سليمان، وقيل: الأنبياء عليهم السلام
الذين يشهدون للأمم عليهم، وحكي ذلك
(14/183)
اعْلَمُوا أَنَّمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ
بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ
كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ
فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ
عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ
عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ
لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ
وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ
نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)
لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا
بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
(23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ
بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ
وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ
شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ
يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ
عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ
وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ
فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ
قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا
بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ
وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً
وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا
عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا
رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا
بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ
لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ
أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ
الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
عن مسروق ومقاتل بن حيان واختاره الفراء
والزجاج، وزعم أبو حيان أن الظاهر كون الشهداء مبتدأ وما بعده
خبر، ومن أنصف يعلم أنه ليس كما قال، وأن الذي تقتضيه جزالة
النظم الكريم هو ما تقدم، ثم النور على جميع الأوجه على حقيقته
وعن مجاهد وغيره أنه عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي بجميعها على
اختلاف أنواعها وهو إشارة إلى كفرهم بالرسل عليهم السلام
جميعهم أُولئِكَ الموصوفون بتلك الصفة القبيحة أَصْحابُ
الْجَحِيمِ بحيث لا يفارقونها أبدا [الحديد: 20- 29] اعْلَمُوا
أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ
وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ
وَالْأَوْلادِ بعد ما بين حال الفريقين في الآخرة شرح حال
الحياة التي اطمأن بها الفريق الثاني، وأشير إلى من محقرات
الأمور التي لا يركن إليها العقلاء فضلا عن الاطمئنان بها
بأنها لعب لا ثمرة فيها سوى التعب وَلَهْوٌ تشغل الإنسان عما
يعنيه ويهمه وَزِينَةٌ لا يحصل منها شرف ذاتي كالملابس الحسنة
والمراكب البهية والمنازل الرفيعة وَتَفاخُرٌ بالأنساب والعظام
البالية وَتَكاثُرٌ بالعدد والعدد، وقرأ السلمي «وتفاخر بينكم»
بالإضافة ثم أشير إلى أنها مع ذلك
(14/184)
سريعة الزوال وشيكة الاضمحلال بقوله
سبحانه: كَمَثَلِ غَيْثٍ مطر أَعْجَبَ الْكُفَّارَ أي راقهم
نَباتُهُ أي النبات الحاصل به، والمراد بالكفار إما الحراث على
ما روي عن ابن مسعود لأنهم يكفرون أي يسترون البذر في الأرض
ووجه تخصيصهم بالذكر ظاهر، وأما الكافرون بالله سبحانه ووجه
تخصيصهم أنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا فإن المؤمن إذا رأى
معجبا انتقل فكره إلى قدرة موجده عز وجل فأعجب بها، ولذا قال
أبو نواس في النرجس:
عيون من لجين شاخصات ... على أطرافها ذهب سبيك
على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك
والكافر لا يتخطى فكره عما أحس به فيستغرق إعجابا ثُمَّ
يَهِيجُ يتحرك إلى أقصى ما يتأتى له، وقيل: أي يجف بعد خضرته
ونضارته فَتَراهُ يا من تصح منه الرؤية مُصْفَرًّا بعد ما
رأيته ناضرا مونقا، وقرىء مصفارا وإنما لم يقل فيصفر قيل:
إيذانا بأن اصفراره غير مقارن لهيجانه وإنما المترتب عليه
رؤيته كذلك، وقيل: للإشارة إلى ظهور ذلك لكل أحد ثُمَّ يَكُونُ
حُطاماً هشيما متكسرا من اليبس، ومحل الكاف قيل: النصب على
الحالية من الضمير في لَعِبٌ لأنه في معنى الوصف، وقيل: الرفع
على أنه خبر بعد خبر للحياة الدنيا بتقدير المضاف إليه أي مثل
الحياة كمثل إلخ، ولتضمن ذلك تشبيه جميع ما فيها من السنين
الكثيرة بمدة نبات غيث واحد يفنى ويضمحل في أقل من سنة جاءت
الإشارة إلى سرعة زوالها وقرب اضمحلالها، وبعد ما بيّن حقارة
أمر الدنيا تزهيدا فيها وتنفيرا عن العكوف عليها أشير إلى
فخامة شأن الآخرة وعظم ما فيها من اللذات والآلام ترغيبا في
تحصيل نعيمها المقيم وتحذيرا من عذابها الأليم، وقدم سبحانه
ذكر العذاب فقال جل وعلا: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ
لأنه من نتائج الانهماك فيما فصل من أحوال الحياة الدنيا
وَمَغْفِرَةٌ عظيمة مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ عظيم لا يقادر
قدره، وفي مقابلة العذاب الشديد بشيئين إشارة إلى غلبة الرحمة
وأنه من باب «لن يغلب عسر يسرين» .
وفي ترك وصف العذاب بكونه من الله تعالى مع وصف ما بعده بذلك
إشارة إلى غلبتها أيضا ورمز إلى أن الخير هو المقصود بالقصد
الأولى وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ
لمن اطمأن بها ولم يجعلها ذريعة للآخرة ومطية لنعيمها، روي عن
سعيد بن جبير الدنيا متاع الغرور إن ألهتك عن طلب الآخرة. فأما
إذا دعتك إلى طلب رضوان الله تعالى وطلب الآخرة فنعم المتاع
ونعم الوسيلة سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ أي سارعوا مسارعة
السابقين لأقرانهم في المضمار إلى أسباب مغفرة عظيمة كائنة
مِنْ رَبِّكُمْ والكلام على الاستعارة أو المجاز المرسل
واستعمال اللفظ في لازم معناه وإنما لزم ذلك لأن اللازم أن
يبادر من يعمل ما يكون سببا للمغفرة ودخول الجنة لا أن يعمله
أو يتصف بذلك سابقا على آخر وقيل: المراد سابقوا ملك الموت قبل
أن يقطعكم بالموت عن الأعمال الموصلة لما ذكر وقيل: سابقوا
إبليس قبل أن يصدقكم بغروره وخداعه عن ذلك وهو كما ترى.
والمراد بتلك الأسباب الأعمال الصالحة على اختلاف أنواعها،
وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية: كن أوّل داخل
المسجد وآخر خارج،
وقال عبد الله: كونوا في أول صف القتال، وقال أنس: اشهدوا
تكبيرة الإحرام مع الإمام وكل ذلك من باب التمثيل، واستدل بهذا
الأمر على أن الصلاة بأول وقتها أفضل من التأخير وَجَنَّةٍ
عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي كعرضهما جميعا لو
ألصق أحدهما بالآخر وإذا كان العرض وهو أقصر الامتدادين موصوفا
بالسعة دل على سعة الطول بالطريق الأولى فالاقتصار عليه أبلغ
من ذكر الطول معه، وقيل: المراد بالعرض البسطة ولذا وصف به
الدعاء ونحوه مما ليس من ذوي الابعاد وتقدم قول آخر في تفسير
نظير الآية من سورة آل عمران وتقديم المغفرة على الجنة لتقدم
التخلية على التحلية.
(14/185)
أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرُسُلِهِ أي هيئت لهم، واستدل بذلك عن أن الجنة موجودة الآن
لقوله تعالى:
أُعِدَّتْ بصيغة الماضي والتأويل خلاف الظاهر، وقد صرح بخلافه
في الأحاديث الصحيحة وتمام الكلام في علم الكلام، وعلى أن
الإيمان وحده كاف في استحقاق الجنة لذكره وحده فيما في حيز ما
يشعر بعلة الإعداد وإدخال العمل في الإيمان المعدّى بالباء غير
مسلم كذا قالوا، ومتى أريد بالذين آمنوا المذكورين من لهم درجة
في الايمان يعتد بها، وقيل: بأنها لا تحصل بدون الأعمال
الصالحة على ما سمعته منا قريبا انخدش الاستدلال الثاني في
الجملة كما لا يخفى، وذكر النيسابوري في وجه التعبير هنا-
بسابقوا- وفي آية آل عمران- بسارعوا- وبالسماء هنا، والسماوات
هناك- وبكعرض- هنا- وبعرض- بدون أداة تشبيه ثمّ كلاما مبنيا
على أن المراد بالمتقين هناك السابقون المقربون، وبالذين آمنوا
هنا من هم دون أولئك حالا فتأمل ذلِكَ أي الذي وعد من المغفرة
والجنة فَضْلُ اللَّهِ عطاؤه الغير الواجب عليه يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشاءُ إيتاءه وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فلا يبعد
منه عز وجل التفضل بذلك على من يشاء وإن عظم قدره، فالجملة
تذييل لإثبات ما ذيل بها.
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ أي نائبة أيّ نائبة وأصلها في الرمية
وهي من أصاب السهم إذا وصل إلى المرمى بالصواب ثم خصت بها.
وزعم بعضهم أنها لغة عامة في الشر والخير وعرفا خاصة بالشر،
ومِنْ مزيدة للتأكيد، وأصاب جاء في الشر كما هنا، وفي الخير
كقوله تعالى: وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ
[النساء: 73] وذكر بعضهم أنه يستعمل في الخير اعتبارا بالصوب
أي بالمطر وفي الشر اعتبارا بإصابة السهم، وكلاهما يرجعان إلى
أصل وتذكير الفعل في مثل ذلك جائز كتأنيثه، وعليه قوله تعالى:
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها [الحجر: 5، المؤمنون: 43]
والكلام على العموم لجميع الشرور أي مصيبة أيّ مصيبة فِي
الْأَرْضِ كجدب وعاهة في الزرع والثمار وزلزلة وغيرها وَلا فِي
أَنْفُسِكُمْ كمرض وآفة كالجرح والكسر إِلَّا فِي كِتابٍ أي
إلا مكتوبة مثبتة في اللوح المحفوظ، وقيل: في علم الله عز وجل.
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها أي نخلقها، والضمير على ما روي عن
ابن عباس وقتادة والحسن وجماعة: للأنفس، وقيل: للأرض، واستظهر
أبو حيان كونه للمصيبة لأنها هي المحدث عنها، وذكر الأرض
والأنفس إنما هو على سبيل ذكر محلها، وذكر المهدوي جواز عوده
على جميع ما ذكر، وقال جماعة: يعود على المخلوقات وإن لم يجر
لها ذكر، وقيل: المراد بالمصيبة هنا الحوادث من خير وشر وهو
خلاف الظاهر من استعمال المصيبة إلا أن فيما بعد نوع تأييد له
وأيا ما كان ففي الأرض متعلق بمحذوف مرفوع أو مجرور صفة لمصيبة
على الموضع أو على اللفظ، وجوز أن يكون ظرفا لأصاب أو للمصيبة،
قيل: وإنما قيدت المصيبة بكونها في الأرض والأنفس لأن الحوادث
المطلقة كلها ليست مكتوبة في اللوح لأنها غير متناهية، واللوح
متناه وهو لا يكون ظرفا لغير المتناهي ولذا
جاء «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة»
وفي الآية تخصيص آخر وهو أنه سبحانه لم يذكر أحوال أهل
السماوات لعدم تعلق الغرض بذلك مع قلة المصائب في أهلها لا
يكاد يصيبهم سوى مصيبة الموت، وما ذكره في وجه التخصيص الأول
لا يتم إذا أريد بالكتاب علمه سبحانه، وقيل: بأن كتابة الحوادث
فيه على نحو كتابتها في القرآن العظيم بناء على ما يقولون: إنه
ما من شيء إلا ويمكن استخراجه منه حتى أسماء الملوك ومددهم وما
يقع منهم ولو قيل في وجهه- إن الأوفق بما تقدم من شرح حال
الحياة الدنيا إنما هو ذكر المصائب الدنيوية فلذا خصت بالذكر-
لكان تاما مطلقا إِنَّ ذلِكَ أي إثباتها في كتاب عَلَى اللَّهِ
لا غيره سبحانه يَسِيرٌ لاستغنائه تعالى فيه عن العدة والمدة،
وإن
(14/186)
أريد بذلك تحققها في علمه جل شأنه فيسره
لأنه من مقتضيات ذاته عز وجل، وفي الآية رد على هشام بن الحكم
الزاعم أنه سبحانه لا يعلم الحوادث قبل وقوعها، وفي الإكليل إن
فيها ردا على القدرية، وجاء ذلك في خبر مرفوع،
أخرج الديلمي عن سليم بن جابر الجهيمي قال: قال رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم: «سيفتح على أمتي باب من القدر في آخر
الزمان لا يسدّه شيء يكفيكم منه أن تلقوه بهذه الآية ما أصاب
من مصيبة» الآية.
وأخرج الإمام أحمد والحاكم وصححه عن أبي حسان أن رجلين دخلا
على عائشة رضي الله تعالى عنها فقالا:
«إن أبا هريرة يحدث أن نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان
يقول إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار فقالت:
والذي أنزل القرآن على أبي القاسم صلى الله تعالى عليه وسلم ما
هكذا كان يقول، ولكن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
كان أهل الجاهلية يقولون: إنما الطيرة في المرأة والدابة
والدار
، ثم قرأت ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ الآية لِكَيْلا تَأْسَوْا
أي أخرناكم بذلك لئلا تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ من نعم الدنيا
وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ أي أعطاكموه الله تعالى منها فإن
من علم أن الكل مقدر يفوت ما قدر فواته ويأتس ما قدّر إتيانه
لا محالة لا يعظم جزعه على ما فات ولا فرحه بما هو آت، وعلم
كون الكل مقدرا مع أن المذكور سابقا المصائب دون النعم وغيرها
لأنه لا قائل بالفرق وليس في النظم الكريم اكتفاء كما توهم،
نعم إن حملت المصيبة على الحوادث من خير وشر كان أمر العلم
أوضح كما لا يخفى وترك التعادل بين الفعلين في الصلتين حيث لم
يسندا إلى شيء واحد بل أسند الأول إلى ضمير الموصول والثاني
إلى ضميره تعالى لأن الفوات والعدم ذاتي للأشياء فلو خليت
ونفسها لم تبق بخلاف حصولها وبقائها فإنه لا بد من استنادهما
إليه عز وجل كما حقق في موضعه. وعليه قول الشاعر:
فلا تتبع الماضي سؤالك لم مضى ... وعرج على الباقي وسائله لم
بقي
ومثل هذه القراءة قراءة عبد الله- أوتيتم- مبنيا للمفعول أي
أعطيتم وقرأ أبو عمرو- أتاكم- من الإتيان أي جاءكم وعليها بين
الفعلين تعادل، والمراد نفي الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن
الصبر والتسليم لأمر الله تعالى ورجاء ثواب الصابرين ونفي
الفرح المطغى الملهى عن الشكر، وأما الحزن الذي لا يكاد
الإنسان يخلو منه مع الاستسلام والسرور بنعمة الله تعالى
والاعتداد بها مع الشكر فلا بأس بهما.
أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال في الآية:
ليس أحد إلا هو يحزن ويفرح ولكن من أصابته مصيبة جعلها صبرا
ومن أصابه خير جعله شكرا، وقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ
كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ تذييل يفيد أن الفرح المذموم هو الموجب
للبطر والاختيال والمختال المتكبر عن تخيل فضيلة تراءت له من
نفسه، والفخور المباهي في الأشياء الخارجة عن المرء كالمال
والجاه.
وذكر بعضهم أن الاختيال في الفعل والفخر فيه وفي غيره، والمراد
من لا يحب يبغض إذ لا واسطة بين الحب والبغض في حقه عز وجل
وأولا بالإثابة والتعذيب، ومذهب السلف ترك التأويل مع التنزيه،
ومن لا يحب كل مختال لا يحب كل فرد فرد من ذلك لا أنه لا يحب
البعض دون البعض ويرد بذلك على الشيخ عبد القاهر في قوله: إذا
تأملنا وجدنا إدخال كل في حيز النفي لا يصلح إلا حيث يراد أن
بعضا كان وبعضا لم يكن، نعم إن هذا الحكم أكثري لا كلي، وقوله
تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ
بِالْبُخْلِ يدل من كُلَّ مُخْتالٍ بدل لك من كل فإن المختال
بالمال يضن به غالبا ويأمر غيره بذلك، والظاهر أن المراد أنهم
يأمرون حقيقة، وقيل: كانوا قدوة فكأنهم يأمرون أو هو خبر مبتدأ
محذوف أي هم الذين إلخ، أو مبتدأ خبره محذوف تقديره يعرضون عن
الإنفاق الغني عنه الله عز وجل، ويدل عليه قوله تعالى: وَمَنْ
يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فإن
معناه ومن يعرض عن الإنفاق فإن الله
(14/187)
سبحانه غني عنه وعن إنفاقه محمود في ذاته
لا يضره الإعراض عن شكره بالتقرب إليه بشيء من نعمه جل جلاله،
وقيل: تقديره مستغنى عنهم، أو موعودون بالعذاب أو مذمومون.
وجوز أن يكون في موضع نصب على إضمار أعني أو على أنه نعت- لكل
مختال- فإنه مخصص نوعا ما من التخصيص فساغ وصفه بالمعرفة وهذا
ليس بشيء، وقال ابن عطية: جواز مثل ذلك مذهب الأخفش ولا يخفى
ما في الجملة من الإشعار بالتهديد لمن تولى، وقرأ نافع وابن
عامر- فإن الله الغني- بإسقاط- هو- وكذا في مصاحف المدينة
والشام وهو في القراءة الأخرى ضمير فصل، قال أبو علي: ولا يحسن
أن يكون مبتدأ وإلا لم لم يجز حذفه في القراءة الثانية لأن ما
بعده صالح لأن يكون خبرا فلا يكون هناك دليل على الحذف وهذا
مبني على وجوب توافق القراءتين إعرابا وليس بلازم لَقَدْ
أَرْسَلْنا رُسُلَنا أي من بني آدم كما هو الظاهر
بِالْبَيِّناتِ أي الحجج والمعجزات وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ
الْكِتابَ أي جنس الكتاب الشامل للكل، والظرف حال مقدرة منه
على ما قال أبو حيان، وقيل: مقارنة بتنزيل الاتصال منزلة
المقارنة وَالْمِيزانَ الآلة المعروفة بين الناس كما قال ابن
زيد وغيره، وإنزاله إنزال أسبابه، ولو بعيدة، وأمر الناس
باتخاذه مع تعليم كيفيته.
لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ علة لا نزال الكتاب والميزان
والقيام بالقسط أي بالعدل يشمل التسوية في أمور التعامل
باستعمال الميزان، وفي أمور المعاد باحتذاء الكتاب وهو لفظ
جامع مشتمل على جميع ما ينبغي الاتصاف به معاشا ومعادا.
وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ قال الحسن: أي خلقناه كقوله تعالى:
وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ
[الزمر: 6] وهو تفسير يلازم الشيء فإن كل مخلوق منزل باعتبار
ثبوته في اللوح وتقديره موجودا حيث ما ثبت فيه.
وقال قطرب: هيأناه لكم وأنعمنا به عليكم من نزل الضيف فِيهِ
بَأْسٌ أي عذاب شَدِيدٌ لأن آلات الحرب تتخذ منه، وهذا إشارة
إلى احتياج الكتاب والميزان إلى القائم بالسيف ليحصل القيام
بالقسط فإن الظلم من شيم النفوس، وقوله تعالى: وَمَنافِعُ
لِلنَّاسِ أي في معايشهم ومصالحهم إذ ما من صنعة إلا والحديد
أو ما يعمل به آلتها للإيماء إلى أن القيام بالقسط كما يحتاج
إلى الوازع وهو القائم بالسيف يحتاج إلى ما به قوام التعايش،
ومن يوم بذلك أيضا ليتم التمدن المحتاج إليه النوع، وليتم
القيام بالقسط، كيف وهو شامل أيضا لما يخص المرء وحده، والجملة
الظرفية في موضع الحال، وقوله سبحانه: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ
مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ عطف على محذوف يدل عليه السياق أو
الحال لأنها متضمنة للتعليل أي لينفعهم وليعلم الله تعالى علما
يتعلق به الجزاء من ينصره ورسله باستعمال آلات الحرب من الحديد
في مجاهدة أعدائه والحذف للإشعار بأن الثاني هو المطلوب لذاته
وأن الأول مقدمة له، وجوز تعلقه بمحذوف مؤخر والواو اعتراضية
أي وليعلم إلخ أنزله أو مقدم والواو عاطفة والجملة معطوفة على
ما قبلها وقد حذف المعطوف وأقيم متعلقة مقامه، وقوله تعالى:
بِالْغَيْبِ حال من فاعل ينصر، أو من مفعوله أي غائبا منهم أو
غائبين منه، وقوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ
اعتراض تذييلي جيء به تحقيقا للحق وتنبيها على أن تكليفهم
الجهاد وتعريضهم للقتال ليس لحاجته سبحانه في إعلاء كلمته
وإظهار دينه إلى نصرتهم بل إنما هو لينتفعوا به ويصلوا بامتثال
الأمر فيه إلى الثواب وإلا فهو جل وعلا غني بقدرته وعزته عنهم
في كل ما يريد.
هذا وذهب الزمخشري إلى أن المراد بالرسل رسل الملائكة عليهم
السلام أي أرسلناهم إلى الأنبياء عليهم السلام، وفسر- البينات-
كما فسرنا بناء على الملائكة ترسل بالمعجزات كإرسالها بالحجج
لتخبر بأنها معجزات وإلا فكان الظاهر الاقتصار على الحجج
وإنزال الكتاب أي الوحي مع أولئك الرسل ظاهر، وإنزال الميزان
بمعنى الآلة
(14/188)
عنده على حقيقته، قال:
روي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه
السلام، وقال: مر قومك يزنوا به
. وفسره كثير بالعدل، وعن ابن عباس في إنزال الحديد نزل مع آدم
عليه السلام الميقعة والسندان والكلبتان، وروي أنه نزل ومعه
المرّ والمسحاة، وقيل: نزل ومعه خمسة أشياء من الحديد السندان
والكلبتان والإبرة والمطرقة والميقعة، وفسرت بالمسن، وتجيء
بمعنى المطرقة أو العظيمة منها، وقيل: ما تحدّ به الرحى، وفي
حديث ابن عباس نزل آدم عليه السلام من الجنة بالباسنة وهي آلات
الصناع، وقيل: سكة الحرث وليس بعربي محض والله تعالى أعلم.
واستظهر أبو حيان كون- ليقوم الناس بالقسط- علة لإنزال الميزان
فقط وجوز ما ذكرناه وهو الأولى فيما أرى، وقوله تعالى:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ نوع تفصيل لما أجمل
في قوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا وتكرير القسم
لإظهار مزيد الاعتناء بالأمر أي وبالله لقد أرسلنا نوحا
وإبراهيم.
وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ بأن
استنبأناهم وأوحينا إليهم الكتب، وقال ابن عباس: الكتاب الخط
بالقلم، وفي مصحف عبد الله- والنبية- مكتوبة بالياء عوض الواو
فَمِنْهُمْ أي من الذرية وقيل: أي من المرسل إليهم المدلول
عليه بذكر الإرسال والمرسلين مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ
فاسِقُونَ خارجون عن الطريق المستقيم، ولم يقل- ومنهم- ضال مع
أنه أظهر في المقابلة لأن ما عليه النظم الكريم أبلغ في الذم
لأن الخروج عن الطريق المستقيم بعد الوصول بالتمكن منه، وعرفته
أبلغ من الضلال عنه ولإيذانه بغلبة أهل الضلال على غيرهم ثُمَّ
قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا أي أرسلنا بعدهم رسولا
بعد رسول وأصل التقفية جعل الشيء خلف القفا، وضمير آثارهم لنوح
وإبراهيم ومن أرسلا إليهم من قومها. وقيل: لمن عاصرهما من
الرسل عليهم السلام.
واعترض بأنه لو عاصر رسول نوحا فإما أن يرسل إلى قومه كهارون
مع موسى عليهما السلام أو إلى غيرهم كلوط مع إبراهيم عليهما
السلام ولا مجال للأول لمخالفته للواقع ولا إلى الثاني إذ ليس
على الأرض قوم غيره، وأجيب بأن ذاك توجيه لجمع الضمير وكون لوط
مع إبراهيم كاف فيه، وقيل: للذرية، وفيه أن الرسل المقفي بهم
من الذرية فلو عاد الضمير عليهم لزم أنهم غيرهم أو اتحاد
المقفي والمقفي به وتخصيص الذرية مرجع الضمير بالأوائل منهم
خلاف الظاهر من غير قرينة تدل عليه وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ جعلناه بعد.
وحاصل المعنى أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى الإرسال إلى
عيسى عليه الصلاة والسلام وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ بأن أوحينا
إليه وليس هو الذي بين أيدي النصارى اليوم أعني المشتمل على
قصة ولادته وقصة صلبه المفتراة: وقرأ الحسن «الإنجيل» بفتح
الهمزة، وقال أبو الفتح: وهو مثال لا نظير له، قال الزمخشري:
وأمره أهون من من أمر البرطيل بفتح الباء والكسر أشهر وهو حجر
مستطيل واستعماله في الرشوة مولّد مأخوذ منه بنوع تجوز لأنه
عجمي وهذا عربي وهم يتلاعبون بالعجمي ولا يلتزمون فيه أوزانهم،
وزعم بعض أن لفظ الإنجيل عربي من نجلت بمعنى استخرجت لاستخراج
الأحكام منه وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ
رَأْفَةً وَرَحْمَةً أي خلقنا أو صيرنا- ففي قلوب- في موضع
المفعول الثاني وأيا ما كان فالمراد جعلنا ذلك في قلوبهم فهم
يرأف بعضهم ببعض ويرحم بعضهم بعضا، ونظيره في شأن أصحاب النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29]
والرأفة في المشهور الرحمة لكن قال بعض الأفاضل: إنها إذا ذكرت
معها يراد بالرأفة ما فيه درء الشر ورأب الصدع، وبالرحمة ما
فيه جلب الخير ولذا ترى في الأغلب تقديم الرأفة على الرحمة
وذلك لأن درء المفاسد أهم من جلب المصالح وقرىء رافة على فعالة
كشجاعة وَرَهْبانِيَّةً منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر أي
وابتدعوا رهبانية.
ابْتَدَعُوها فهو من باب الاشتغال، واعترض بأنه يشترط فيه- كما
قال ابن الشجري وأبو حيان- أن يكون
(14/189)
الاسم السابق مختصا يجوز وقوعه مبتدأ
والمذكور نكرة لا مسوغ لها من مسوغات الابتداء، ورد بأنه على
فرض تسليم هذا الشرط الاسم هنا موصوف معنى بما يؤخذ من تنوين
التعظيم كما قيل في قولهم: شر أهر ذا ناب.
ومما يدل عليه من النسبة كما ستسمعه إن شاء الله تعالى أو
منصوب بالعطف على ما قبل، وجملة ابْتَدَعُوها في موضع الصفة
والكلام على حذف مضاف أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة وحب
رهبانية مبتدعة لهم، وبعضهم جعله معطوفا على ما ذكر ولم يتعرض
للحذف، وقال: الرهبانية من أفعال العباد لأنها المبالغة في
العبادة بالرياضة والانقطاع عن الناس، وأصل معناها الفعلة
المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف فعلان من رهب كخشيان من خشي،
وأفعال العباد يتعلق بها جعل الله تعالى عند أهل الحق وهي في
عين كونها مخلوقة له تعالى مكتسبة للعبد، والزمخشري جوز العطف
المذكور وفسر الجعل بالتوفيق كأنه قيل: وفقناهم للتراحم بينهم
ولابتداع الرهبانية واستحداثها بناء على مذهبه أن الرهبانية
فعل العبد المخلوق له باختياره، وفائدة فِي قُلُوبِ على هذا
التصوير على ما قيل، ولا يخفى ما في هذا التفسير من العدول عن
الظاهر لكن الإنصاف أنه لا يحسن العطف بدون هذا التأويل أو
اعتبار حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه على ما تقدم أو
تفسير الرهبانية بما هو من أفعال القلوب كالخوف المفرط المقتضي
للغلو في التعبد ويرتكب نوع تجوز في ابتدعوها وما بعده كأن
يكون المراد ابتداع أعمالها وآثارها أو ارتكاب استخدام في
الكلام بأن يعتبر للرهبانية معنيان الخوف المفرط مثلا، ويراد
في جعلنا في قلوبهم رهبانية والأعمال التعبدية الشاقة كرفض
الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهن، ويراد في ابْتَدَعُوها وما
بعده وليس الداعي للتأويل الاعتزال بل كون الرهبانية بمعنى
الأعمال البدنية ليست مما تجعل في القلب كالرأفة والرحمة
فتأمل.
وقرىء «رهبانيّة» بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان بالضم وهو
كما قال الراغب: يكون واحدا وجمعا فالنسبة إليه باعتبار كونه
واحدا ومن ظن اختصاص المضموم بالجمع قال: إنه لما اختص بطائفة
مخصوصة أعطى حكم العلم فنسبته إليه كما قالوا في أنصار وأنصاري
أو أن النسبة إلى رهبان المفتوح وضم الراء في المنسوب من
تغييرات النسب كما في دهري بضم الدال، وقوله تعالى: ما
كَتَبْناها عَلَيْهِمْ جملة مستأنفة، وقوله سبحانه: إِلَّا
ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ استثناء منقطع أي ما فرضناها نحن
عليهم رأسا ولكن ابتدعوها وألزموا أنفسهم بها ابتغاء رضوان
الله تعالى، وقوله تعالى: فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أي
ما حافظوا عليها حق المحافظة ذم لهم من حيث إن ذلك كالنذر وهو
عهد مع الله تعالى يجب رعايته لا سيما إذا قصد به رضاه عز وجل.
واستدل بذلك على أن من اعتاد تطوعا كره له تركه، وجوز أن يكون
قوله تعالى: ما كَتَبْناها إلخ صفة أخرى لرهبانية والنفي متوجه
إلى قيد الفعل لا نفسه كما في الوجه الأول، وقوله سبحانه:
إِلَّا ابْتِغاءَ إلخ استثناء متصل من أعم العلل أي ما قضيناها
عليهم بأن جعلناهم يبتدعونها لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا بها
رضوان الله تعالى ويستحقوا بها الثواب، ومن ضرورة ذلك أن
يحافظوا عليها ويراعوها حق رعايتها فما رعوها كذلك والوجه
الأول مروي عن قتادة وجماعة، وهذا مروي عن مجاهد ولا مخالفة
عليه بين ابْتَدَعُوها وما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إلخ حيث إن
الأول يقتضي أنهم لم يؤمروا بها أصلا والثاني يقتضي أنهم أمروا
بها لابتغاء رضوان الله تعالى لما أشرنا إليه من معنى ما
كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ إلخ، ودفع بعضهم
المخالفة بأن يقال: الأمر وقع بعد ابتداعها أو يؤول ابتدعوها
بأنهم أول من فعلها بعد الأمر ويؤيد ما ذكره في الدفع أو لا ما
أخرجه أبو داود وأبو يعلى والضياء عن أنس «أن رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم قال: لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم
فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليه فتلك بقاياهم في الصوامع
والديارات رهبانية ما ابتدعوها ما كتبناها عليهم»
يعني الآية، والظاهر أن ضمير فما رعوها
(14/190)
لأولئك الذين ابتدعوا الرهبانية، والمراد
نفي وقوع الرعاية من كلهم على أن المعنى فما رعاها كلهم بل
بعضهم، وليس المراد بالموصول فيما سبق أشخاصا بأعيانهم بل
المراد به ما يعم النصارى إلى زمان الإسلام ولا يضر في ذلك أن
أصل الابتداع كان من قوم مخصوصين لأن إسناده على نحو الإسناد
في- بنو تميم قتلوا زيدا- والقاتل بعضهم.
وقال الضحاك وغيره: الضمير في فَما رَعَوْها للاخلاف الذين
جاؤوا بعد المبتدعين والأول أوفق بالصناعة، والمراد بالذين
آمنوا في قوله تعالى: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ
الذين آمنوا إيمانا صحيحا وهو لمن أدرك وقت النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم الايمان به عليه الصلاة والسلام أي فآتينا
الذين آمنوا منهم إيمانا صحيحا بعد رعاية رهبانيتهم أَجْرَهُمْ
أي ما يختص به من الأجر وهو الأجر على ما سلف منهم والأجر على
الإيمان به عليه الصلاة والسلام، وليس المراد بهم الذين بقوا
على رعاية الرهبانية إلى زمان البعثة ولم يؤمنوا لأن رعايتها
لغو محض وكفر بحت وإنما لها استتباع الأجر، ويجوز أن يقال: إن
الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها هم الذين كذبوه عليه
الصلاة والسلام، قال الزجاج: قوله تعالى: فَما رَعَوْها حَقَّ
رِعايَتِها على ضربين: أحدهما أن يكونوا قصروا فيما ألزموه
أنفسهم، والآخر وهو الأجود أن يكونوا حين بعث النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم ولم يؤمنوا فكانوا تاركين لطاعة الله تعالى
فما رعوا تلك الرهبانية، ودليل ذلك قوله تعالى: فَآتَيْنَا
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ إلخ انتهى، فحمل الذين آمنوا على
من أدرك وقته عليه الصلاة والسلام منهم وآمن به صلى الله تعالى
عليه وسلم، والفاسقين في قوله تعالى: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ
فاسِقُونَ على الذين لم يؤمنوا به صلى الله تعالى عليه وسلم
مقتضى حمل الذين آمنوا على ما سمعت أولا حمله على الأعم الشامل
لمن خرج عن اتباع عيسى عليه السلام من قبل وحمل الفريقين على
من مضى من المراعين لحقوق الرهبانية قبل النسخ والمخلين بها إذ
ذاك بالتثليث والقول بالاتحاد وقصد السمعة ونحو ذلك من غير
تعرض لإيمانهم برسول الله عليه وسلم وكفرهم به مما لا يساعده
المقام.
ومن الآثار ما يأباه
ففي حديث طويل أخرجه جماعة منهم الحاكم وصححه والبيهقي في شعب
الإيمان من طرق عن ابن مسعود «اختلف من كان قبلنا على ثنتين
وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها فرقة وازت الملوك
وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم، وفرقة لم تكن لهم طاقة
بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله
ودين عيسى فقتلتهم الملوك ونشرتهم بالمناشر، وفرقة لم تكن لهم
طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام معهم فساحوا في الجبال
وترهبوا فيها وهم الذين قال الله: وَرَهْبانِيَّةً
ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ
رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ الذين آمنوا بي وصدقوني
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ الذي جحدوا بي وكفروا بي»
وهذا الخبر يؤيد ما استجوده الزجاج، ويعلم منه أيضا سبب ابتداع
الرهبانية وليس في الآية ما يدل على ذم البدعة مطلقا، والذي
تدل عليه ظاهرا ذم عدم رعاية ما التزموه، وتفصيل الكلام في
البدعة ما ذكره الإمام محيي الدين النووي في شرح صحيح مسلم قال
العلماء: البدعة خمسة أقسام واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة
ومباحة (1) فمن الواجبة تعلم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة
والمبتدعين وشبه ذلك، ومن المندوبة تصنيف كتب العلم وبناء
المدارس والربط وغير ذلك، ومن المباحة التبسط في ألوان الاطعمة
وغير ذلك، والحرام والمكروه ظاهران، فعلم أن
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «كل بدعة ضلالة»
من العام المخصوص.
__________
(1) هذا التقسيم لا يصح أن يكور للبدع بالمعنى الشرعي إذا ما
ذكره دل عليه الكتاب والسنة وإنما يصح للبدع بالمعنى اللغوي
وقد أشبع الكلام على ذلك الاعتصام فراجعه اه إدارة الطباعة
النيرية.
(14/191)
وقال صاحب جامع الأصول: الابتداع من
المخلوقين إن كان في خلاف ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى
الله تعالى عليه وسلم فهو في حيز الذم والإنكار وإن كان واقعا
تحت عموم ما ندب الله تعالى إليه وحض عليه أو رسوله صلى الله
تعالى عليه وسلم فهو في حيز المدح وإن لم يكن مثاله موجودا
كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، ويعضد ذلك قول عمر بن
الخطاب رضي الله تعالى عنه في صلاة التراويح: نعمت البدعة هذه
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استظهر أبو حيان كون الخطاب لمن
آمن من أمته صلى الله تعالى عليه وسلم غير أهل الكتاب والآثار
تؤيد ذلك،
أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن سعيد بن
جبير قالا: إن أربعين من أصحاب النجاشي قدموا على النبي صلى
الله تعالى عليه وسلم فشهدوا معه أحدا فكانت فيهم جراحات ولم
يقتل منهم أحد فلما رأوا ما بالمؤمنين من الحاجة قالوا: يا
رسول الله إنّا أهل ميسرة فأذن لنا نجيء بأموالنا نواسي بها
المسلمين فأنزل الله تعالى فيهم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إلى قوله
سبحانه: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما
صَبَرُوا [القصص: 52- 54] فجعل لهم أجرين فلما نزلت هذه الآية
قالوا: يا معشر المسلمين أما من آمن منا بكتابكم فله أجران ومن
لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا الآية أي أي رادا عليهم قولهم: ومن لم يؤمن
بكتابكم فله أجر كأجوركم.
وفي الكشاف إن قائل ذلك من لم يكن آمن من أهل الكتاب قالوه حين
سمعوا تلك الآية يفخرون به على المسلمين، والمعنى يا أيها
الذين اتصفوا بالإيمان اتَّقُوا اللَّهَ اثبتوا على تقواه عز
وجل فيما نهاكم عنه.
وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ وأثبتوا على الإيمان برسوله الذي أرسله
إليكم وهو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وفي التعبير عنه
بذلك ما لا يخفى من الدلالة على جلالة قدره عليه الصلاة
والسلام يُؤْتِكُمْ بسبب ذلك.
كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ قال أبو موسى الأشعري: ضعفين بلسان
الحبشة، وقال غير واحد: نصيبين، والمراد إيتاؤهم أجرين كمؤمني
أهل الكتاب كأنه قيل: يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من
الأجرين لأنكم مثلهم في الإيمان بالرسل المتقدمين وبخاتمهم صلى
الله تعالى عليه وسلم عليهم أجمعين لا تفرقوا بين أحد من رسله.
وقال الراغب: الكفل الحظ الذي فيه الكفاية كأنه تكفل بأمره،
والكفلان هما المرغوب فيهما بقوله تعالى رَبَّنا آتِنا فِي
الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [البقرة: 201]
ولا دلالة على التخصيص.
وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يوم القيامة وهو
النور المذكور في قوله تعالى: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الحديد: 12] وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ما سلف منكم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي مبالغ في المغفرة
والرحمة فلا بدع إذا فعل سبحانه ما فعل، وقوله تعالى: لِئَلَّا
يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ
مِنْ فَضْلِ اللَّهِ قيل:
متعلق بمضمون الجملة الطلبية المتضمنة لمعنى الشرط إذ التقدير
إن تتقوا الله وتؤمنوا برسوله يؤتكم كذا وكذا لئلا إلخ، وقيل:
متعلق بالأفعال الثلاثة قبله على التنازع، أو بمقدر كفعل ذلك
وأعلمهم ونحوه و (لا) مزيدة مثلها في قوله تعالى: ما مَنَعَكَ
أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: 12] ويجوز زيادتها مع القرينة كثيرا
و (أن) مخففة من الثقيلة واسمها المحذوف ضمير أهل الكتاب أي
إنهم، وقيل: ضمير الشأن وما بعد خبرها والجملة في حيز النصب
على أنها مفعول يعلم أي ليعلم أهل الكتاب القائلون من آمن
بكتابكم منا فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم
أنهم لا ينالون شيئا من فضل الله من الأجرين وغيرهما ولا
يتمكنون من نيله ما لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم
وحاصله الإعلام بأن إيمانهم بنبيهم لا ينفعهم شيئا ما لم
يؤمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام فقولهم: من لم يؤمن بكتابكم
فله أجر باطل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: لما نزلت أُولئِكَ
يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا [القصص:
(14/192)
54] فخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي
صلّى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: لنا أجران ولكم أجر فاشتد
ذلك على أصحابه عليه الصلاة والسلام فأنزل الله تعالى يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ فجعل لهم سبحانه أجرين مثل ما
لمؤمني أهل الكتاب، وقال الثعلبي: فأنزل الله تعالى يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ الآية فجعل لهم
أجرين وزادهم النور ثم قال سبحانه: لِئَلَّا يَعْلَمَ إلخ،
وحاصله على هذا ليعلموا أنهم ليسوا ملاك فضله عز وجل فيزوره عن
المؤمنين ويستبدوا به دونهم، وقوله تعالى: وَأَنَّ الْفَضْلَ
بِيَدِ اللَّهِ عطف على أن لا يقدرون داخل معه في حيز العلم،
وقوله سبحانه: يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ خبر ثان لأن أو هو الخبر
وما قبله على ما قيل: حال لازمة أو استئناف، وقوله عز وجل:
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ اعتراض تذييلي مقرر لمضمون
ما قبله.
وذهب بعض إلى أن الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب اليهود والنصارى
أو لمن لم يؤمن منهم بعد: فالمعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى
وعيسى عليهما السلام آمنوا بمحمد صلّى الله تعالى عليه وسلم أي
اثبتوا على الإيمان به أو أحدثوا الايمان به عليه الصلاة
والسلام يؤتكم نصيبين من رحمته نصيبا على إيمانكم بمن آمنتم به
أولا ونصيبا على إيمانكم بمحمد صلّى الله تعالى عليه وسلم آخرا
ليعلم الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب أنهم لا ينالون شيئا مما
يناله المؤمنون منهم ولا يتمكنون من نيله حيث لم يأتوا بشرطه
الذي هو الإيمان برسوله صلّى الله عليه وسلم. وأيد ذلك بما
في صحيح البخاري «من كانت له أمة علمها فأحسن تعليمها وأدبها
فأحسن تأديبها وأعتقها وتزوجها فله أجران، وأيما رجل من أهل
الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران، وأيما مملوك أدى حق الله
تعالى وحق مواليه فله أجران»
ولا إشكال في ذلك بالنسبة إلى النصارى، ولذا قيل: الخطاب لهم
لأن ملتهم غير منسوخة قبل ظهور الملة المحمدية ومعرفتهم بها
فيثابون على العمل بها حتى يجب عليه الإيمان بالنبي صلّى الله
تعالى عليه وسلم فإذا آمنوا أثيبوا أيضا فكان لهم ثوابان، نعم
قد يستشكل بالنسبة إلى غيرهم لأن مللهم منسوخة بملة عيسى عليه
السلام والمنسوخ لا ثواب في العمل به، ويجاب بأنه لا يبعد أن
يثابوا على العمل بملتهم السابقة وإن كانت منسوخة ببركة
الإسلام.
وأجاب بعضهم أن الإثابة على نفس إيمان ذلك الكتابي بنبيه وإن
كان منسوخ الشريعة فإن الإيمان بكل نبي فرض سواء كان منسوخ
الشريعة أم لا، وقيل: إن (لا) في لِئَلَّا يَعْلَمَ غير مزيدة
وضمير لا يقدرون للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين أي
فعلنا ما فعلنا لئلا يعتقد أهل الكتاب أن الشأن لا يقدر النبي
صلّى الله عليه وسلم والمؤمنون به على شيء من فضل الله تعالى
الذي هو عبارة عما أوتوه من سعادة الدارين ولا ينالونه، أو
أنهم أي النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنون لا يقدرون إلخ،
على أن عدم علمهم بعدم قدرتهم على ذلك كناية عن علمهم بقدرتهم
عليه فيكون قوله سبحانه: وَأَنَّ الْفَضْلَ إلخ معطوفا على- أن
لا يعلم- داخلا معه في حيز التعليل دون أن لا يقدر فكأنه قيل:
فعلنا ما فعلنا لئلا يعتقدوا كذا ولأن الفضل بيد الله فيكون من
عطف الغاية على الغاية بناء على المشهور ولتكلف هذا القيل مع
مخالفته لبعض القراءات لم يذهب إليه معظم المفسرين، وقرأ خطاب
بن عبد الله- لأن لا يعلم- بالإظهار، وعبد الله بن مسعود وابن
عباس وعكرمة والجحدري وعبد الله بن سلمة على اختلاف ليعلم،
وقرأ الجحدري أيضا- ولييعلم- على أن أصله لئن يعلم فقلبت
الهمزة ياء لكسرة ما قبلها وأدغمت النون في الياء بغير غنة،
وروى ابن مجاهد عن الحسن- ليلا- مثل ليلى اسم المرأة «يعلم»
بالرفع، ووجه بأن أصله- لأن لا- بفتح لام الجر وهي لغة عليه
قوله:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل
فحذفت الهمزة اعتباطا وأدغمت النون في اللام فصار- للا-
فاجتمعت الأمثال وثقل النطق بها فأبدلوا من اللام
(14/193)
المدغمة ياء نظير ما فعلوا في قيراط ودينار
حيث إن الأصل قراط ودنار فأبدوا أحد المثلين فيهما ياء للتخفيف
فصار- ليلا- ورفع الفعل لأن أن هي المخففة من الثقيلة لا
الناصبة للمضارع، وروى قطرب عن الحسن أيضا- ليلا- بكسر اللام
ووجهه كالذي قبله إلا أن كسر اللام على اللغة الشهيرة في لام
الجر وعن ابن عباس كي يعلم، وعنه أيضا لكيلا يعلم، وعن عبد
الله وابن جبير وعكرمة لكي يعلم.
وقرأ عبد الله أن لا يقدروا بحذف النون على أن إن هي الناصبة
للمضارع، والله تعالى أعلم.
ومما ذكره المتصوفة قدست أسرارهم في بعض آياتها هُوَ
الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ قالوا: هو
إشارة إلى وحدانية ذاته سبحانه المحيطة بالكل، وقالوا في قوله
تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ إشارة إلى أنهم لا
وجود لهم في جميع مراتبهم بدون وجوده عز وجل، وقوله تعالى:
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي
اللَّيْلِ إشارة إلى ظهور تجلي الجلال في تجلي الجمال وبالعكس
وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ إشارة
للمشايخ الكاملين إلى تربية المريدين بإفاضة ما يقوي استعدادهم
مما جعلهم الله تعالى متمكنين فيه من الأحوال والملكات.
وقال سبحانه: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِها لئلا يقنط القاسي من رحمته تعالى ويترك الاشتغال
بمداواة القلب الميت فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أوردها
الصوفية في باب الرعاية وقسموها إلى رعاية الأعمال والأحوال
والأوقات- ويرجع ما قالوه فيها- على ما قيل- إلى حفظها عن
إيقاع خلل فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ
رَحْمَتِهِ أي نصيبين نصيبا من معارف الصفات الفعلية ونصيبا من
معارف الصفات الذاتية وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً من نور ذاته عز
وجل وهو على ما قيل: إشارة إلى البقاء بعد الفناء، وقيل: هذا
النور إشارة إلى نور الكشف والمشاهدة رتب سبحانه جعله للمؤمن
على تقواه وإيمانه برسوله الأعظم صلّى الله تعالى عليه وسلم،
وقيل: هو نور العلم النافع الذي يتمكن معه من السير في الحضرات
الإلهية كما يشير إليه وصفه بقوله عز وجل:
تَمْشُونَ بِهِ
وفي بعض الآثار «من عمل بما علم علمه الله تعالى علم ما لم
يعلم»
وقال سبحانه: اتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وكل
ذلك في الحقيقة فضل الله تعالى والله عز وجل ذو الفضل العظيم
نسأله سبحانه أن لا يحرمنا من فضله العظيم ولطفه العميم وأن
يثبتنا على متابعة حبيبه الكريم عليه من الله تعالى أفضل
الصلاة وأكمل التسليم.
تم بعونه تعالى وتوفيقه الجزء السابع والعشرون، ويليه الجزء
الثامن والعشرون أوله سورة المجادلة
(14/194)
|