ولا يخفى أنه مجاز فلا مصير إليه بموجبه،
فإن قلت: المعنى الذي باعتباره يصير اللفظ مجازا ويندرج
فيه التعدد الحكمي ما هو؟ قلت: هو الحاجة فيكون ستين
مسكينا مجازا عن ستين حاجة، وهو أعم من كونها حاجات ستين
أو حاجات واحد إذا تحقق تكررها إلا أن الظاهر إنما هو عدد
معدوده ذوات المساكين مع عقلية أن العدد مما يقصد لما في
تعميم الجميع من بركة الجماعة وشمول المنفعة واجتماع
القلوب على المحبة والدعاء- قاله في فتح القدير- وهو كلام
متين يظهر منه ترجيح مذهب الجمهور، وذهب الأصحاب إلى أنه
لا يشترط اتحاد نوع المدفوع لكل من المساكين فلو دفع لواحد
بعضا من الحنطة وبعضا من الشعير مثلا جاز إذا كان المجموع
قدر الواجب كأن دفع ربع صاع من بر ونصف صاع من شعير، وجاز
نحو هذا التكميل لاتحاد المقصود- وهو الإطعام- ولا يجوز
دفع قيمة القدر الواجب من منصوص عليه، وهو البر والشعير
ودقيق كلّ وسويقه والزبيب والتمر إذا كانت من منصوص عليه
آخر إلا أن يبلغ المدفوع الكمية المقدرة شرعا فلو دفع نصف
صاع تمر يبلغ قيمة نصف صاع بر لا يجوز، فالواجب عليه أن
يتم للذين أعطاهم القدر المقدر من ذلك الجنس الذي دفعه
إليهم فإن لم يجدهم بأعيانهم استأنف في غيرهم، ومن غير
المنصوص كالأرز والعدس يجوز كما إذا دفع ربع صاع من أرز
يساوي قيمة نصف صاع من بر مثلا، وذلك لأنه لا اعتبار لمعنى
النص في المنصوص عليه وإنما الاعتبار في غير المنصوص عليه،
ونقل في ذلك خلاف الشافعي رحمه الله تعالى فلا يجوز دفع
القيمة عنده مطلقا، ولا يجوز في الكفارة إعطاء المسكين أقل
من نصف صاع من البر مثلا فقط، ففي التاتارخانية لو أعطى
ستين مسكينا كل مسكين مدّا من الحنطة لم يجز، وعليه أن
يعيد مدّا آخر على كل فإن لم يجد الأولين فأعطى ستين آخرين
كلا مدّا لم يجز، ولو أعطى كلا من المساكين مدّا ثم
استغنوا ثم افتقروا فأعاد على كل مدّا لم يجز، وكذا لو
أعطى المكاتبين مدّا مدّا ثم ردوا إلى الرق ومواليهم
أغنياء ثم كوتبوا ثانيا ثم أعاد عليهم لم يجز لأنهم صاروا
بحال لا يجوز دفع الكفارة إليهم فصاروا كجنس آخر، وعليه
فالمراد- بستين مسكينا- ستون مسكينا لم يعرض لهم في أثناء
الإطعام ما ينافي ذلك، والظاهر أن فاعل إطعام هو المظاهر
الغير المستطيع للصيام، ولا فرق بين أن يباشر ذلك أو يأمر
به غيره، فإن أمر غيره فأطعم أجزاه لأنه استقراض معنى،
فالفقير قابض له أولا ثم يتحقق تملكه ثم تمليكه، والمراد
بالمسكين ما يعم الفقير، وقد قالوا: المسكين والفقير إذا
اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، ويشترط أن لا يكون
المطعم أصله أو فرعه أو زوجته أو مملوكه أو هاشميا لمزيد
شرفه فيجل عن هذه الغسالة، ولا حربيا ولو مستأمنا لمزيد
خسته فليس أهلا لأدنى منفعة، ويجوز أن يكون ذميا ولو دفع
بتحرّ فبان أنه ليس بمصرف أجزاه عندهما خلافا لأبي يوسف
كما في البدائع.
واستنبط الشافعية من التعبير بعدم الوجود عند الانتقال إلى
الصوم، وبعدم الاستطاعة عند الانتقال إلى الإطعام أنه لو
كان له مال غائب ينتظره ولا يصوم ولو كان مريضا يرجى برؤه
يطعم ولا ينتظر الصحة ليصوم، وهو موافق لمذهبنا في الصوم
لا في الإطعام كما سمعت، ثم هذا الحكم في الأحرار أما
العبد فلا يجوز له إلا الصوم لأنه لا يملك وإن ملك
والإعتاق والإطعام شرطهما الملك فإن أعتق عنه المولى أو
أطعم لم يجز ولو بأمره، ويجب تقديم الإطعام على المسيس فإن
قرب المظاهر المظاهرة في خلاله إثم ولم يستأنف لأنه عز وجل
ما شرط أن يكون قبل المسيس كما شرط فيما قبل، ونحن لا نحمل
المطلق على المقيد وإن كانا في حادثة واحدة بعد أن يكونا
حكمين، والوجوب قيل: لم يثبت إلا لتوهم وقوع الكفارة بعد
التماس بيانه أنه لو قدر على العتق أو الصيام في خلال
الإطعام أو قبله يلزمه التكفير بالمقدور عليه فلو جوز
للعاجز عنهما القربان قبل الإطعام، ثم اتفق قدرته فلزم
التكفير به لزم أن يقع العتق بعد التماس، والمفضي إلى
الممتنع ممتنع.
(14/212)
وتعقب بأن فيه نظرا فإن القدرة حال قيام
العجز بالفقر والكبر والمرض الذي لا يرجى زواله أمر موهوم،
وباعتبار الأمور الموهومة لا تثبت الأحكام ابتداء بل يثبت
الاستحباب ورعا فالأولى الاستدلال على حرمة المسيس قبل
الإطعام لمن يتعين كفارة له بما
ورد من حديث «اعتزلها حتى تكفر»
ونحوه، وما ذكر من أنه لو قدر على العتق مثلا خلال الإطعام
لزم التكفير به خالف فيه الشافعية.
قال ابن حجر عليه الرحمة: لا أثر لقدرته على صوم أو عتق
بعد الإطعام ولو لمدّ كما لو شرع في صوم يوم من الشهرين
فقدر على العتق، وأجاز بعض المسيس في خلال الإطعام من غير
إثم، ونقل ذلك عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وهو توهم
نشأ من عدم إيجابه الاستئناف، وقد صرح في الكشاف بأنه لا
فرق عند أبي حنيفة بين الكفارات الثلاث في وجوب تقديمها
على المساس وإن ترك ذكره عند الإطعام للدلالة على أنه إذا
وجد في خلال الإطعام لم يستأنف كما يستأنف الصوم.
وجعل بعضهم ذكر القيد فيما قبل وتركه في الإطعام دليلا
لأبي حنيفة في قوله: بعدم الاستئناف أي مع الإثم.
وتعقبه ابن المنير في الانتصاف بأن لقائل أن يقول لأبي
حنيفة: إذا جعلت الفائدة في ذكر عدم التماس في بعضها
وإسقاطه من بعضها الفرق بين أنواعها فلم جعلته مؤثرا في
أحد الحكمين دون الآخر؟ وهل التخصيص إلا نوع من التحكم؟ ثم
قال: وله أن يقول: اتفقنا على التسوية بين الثلاث في هذا
الحكم أعني حرمة المساس قبل التكفير، وقد نطقت الآية
بالتفرقة فلم يمكن صرفها إلى ما وقع الاتفاق على التسوية
فيه فتعين صرفه إلى الآخر، هذا منتهى النظر مع أبي حنيفة
وأطال الكلام في هذا المقام بما لا يخلو عن بحث على أصول
الإمام.
وإذا عجز المظاهر عن الجميع قال الشافعية: استقرت في ذمته
فإذا قدر على خصلة فعلها ولا أثر لقدرته على بعض عتق أو
صوم بخلاف بعض الطعام ولو بعض ما يجب لواحد من المساكين
فيخرجه، ثم الباقي إذا أيسر، والظاهر بقاء حرمة المسيس إلى
أن يؤدي الكفارة تماما ولم يبال بإضرار المرأة بذلك لأن
الإيسار مترقب كزوال المرض المانع من الجماع، ولم أراجع
حكم المسألة في الظهار عند الحنفية، وأما في الجماع في
نهار رمضان الموجب للكفارة فقد قال ابن الهمام بعد نقل
حديث الأعرابي الواقع على امرأته فيه العاجز عن الخصال
الثلاثة، وفيه:
«فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال:
تصدق به، فقال: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فو الله ما
بين لابيتها أفقر مني ولا أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك
صلّى الله تعالى عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال: خذه
فأطعمه أهلك»
في لفظ لأبي داود- زاد الزهري- وإنما كان هذا رخصة له
خاصة، ولو أن رجلا فعل ذلك اليوم لم يكن له بدّ من
التكفير، وجمهور العلماء على قوله، وذكر النووي في شرح
صحيح مسلم أن للشافعي في هذا العاجز قولين: أحدهما لا شيء
عليه- واحتج له بحديث الأعرابي المذكور لأنه عليه الصلاة
والسلام لم يقل له: إن الكفارة ثابته في ذمته بل أذن له في
إطعام عياله- والثاني- وهو الصحيح عند أصحابنا وهو
المختار- أن الكفارة لا تسقط بل تستقر في ذمته حتى يتمكن
قياسا على سائر الديون والحقوق والمؤاخذات كجزاء الصيد
وغيره، وأما الحديث فليس فيه نفي استقرار الكفارة بل فيه
دليل لاستقرارها لأنه أخبر النبي صلّى الله تعالى عليه
وسلم بالعجز عن الخصال ثم أتى عليه الصلاة والسلام بعرق
التمر فأمره بإخراجه في الكفارة فلو كانت تسقط بالعجز لم
يكن عليه شيء فلم يأمره بالإخراج فدل على ثبوتها في ذمته،
وإنما أذن له في إطعام عياله لأنه محتاج إلى الانفاق عليهم
في الحال والكفارة واجبة على التراخي، وإنما لم يبين عليه
الصلاة والسلام بقاءها في ذمته لأن تأخير البيان إلى وقت
الحاجة جائز عند جماهير الأصوليين فهذا هو الصواب في معنى
الحديث، وحكم المسألة وفيها أقوال وتأويلات أخر ضعيفة
انتهى.
(14/213)
ومن الناس من قال: لم يكن هناك تأخير بيان
وإنما اكتفى صلّى الله تعالى عليه وسلم بفهم الأعرابي عن
التصريح له بالاستقرار، والأخبار في وقوع مثل ذلك للمظاهر
مضطربة كما لا يخفى على من راجع الدر المنثور للسيوطي.
ومسائل الظهار كثيرة والمذاهب في ذلك مختلفة، ومن أراد
كمال الاطلاع فليرجع إلى كتب الفروع، ولولا التأسي ببعض
الأجلة لما ذكرنا شيئا منها، ومع هذا لا يخلو أكثره عن
تعلق بتفسير الآية والله تعالى أعلم.
ذلِكَ إشارة إلى ما مر من البيان والتعليم، ومحله إما
الرفع على الابتداء أو النصب بمضمر معلل بما بعده أي ذلك
واقع أو فعلنا ذلك لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وتعلموا بشرائعه التي شرعها لكم وترفضوا ما كنتم عليه في
جاهليتكم وَتِلْكَ الأحكام المذكورة حُدُودُ اللَّهِ التي
لا يجوز تعديها فالزموها وقفوا عندها وَلِلْكافِرِينَ أي
الذين يتعدونها ولا يعملون بها عَذابٌ أَلِيمٌ على كفرهم
وأطلق الكافر على متعدي الحدود تغليظا لزجره، ونظير ذلك
قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ
الْعالَمِينَ [آل عمران:
97] .
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي
يعادونهما ويشاقونهما لأن كلا من المتعاديين في حدّ وجهة
غير حدّ الآخر وجهته كما أن كلا منهما في عدوة وشق غير
عدوة الآخر وشقه، وقيل: إطلاق ذلك على المتعاديين باعتبار
استعمال الحديد لكثرة ما يقع بينهما في المحاربة بالحديد
كالسيوف والنصال وغيرها والأول أظهر وفي ذكر المحادّة في
أثناء ذكر حدود الله تعالى دون المعاداة والمشاقة حسن موقع
جاوز الحد، وقال ناصر الدين البيضاوي: أو يضعون أو يختارون
حدودا غير حدود الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه
وسلم ومناسبته لما قبله في غاية الظهور.
قال المولى شيخ الإسلام سعد الله جبلي: وعلى هذا ففيه وعيد
عظيم للملوك وأمراء السوء الذين وضعوا أمورا خلاف ما حده
الشرع وسموها اليسا والقانون (1) ، والله تعالى المستعان
على ما يصفون اه، وقال شهاب الدين الخفاجي بعد نقله: وقد
صنف العارف بالله الشيخ بهاء الدين قدس الله تعالى روحه
رسالة في كفر من يقول: يعمل بالقانون والشرع إذا قابل
بينهما، وقد قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ [المائدة: 3] وقد وصل الدين إلى مرتبة من الكمال
لا يقبل التكميل، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، ولكن
أين من يعقل؟! انتهى.
وليتني رأيت هذه الرسالة ووقفت على ما فيها فإن إطلاق
القول بالكفر مشكل عندي فتأمل، ثم إنه لا شبهة في أنه لا
بأس بالقوانين السياسية (2) وإذا وقعت باتفاق ذوي الآراء
من أهل الحل والعقد على وجه يحسن
__________
(1) قوله: اليسا هو بياء مثناة تحتية وسين مهملة وضع قانون
للمعاملة، ويقال: يسق لفظ غير عربي كذا قاله الشهاب، ورأيت
في بعض كتب اللغة التركية أن يصاق بفتح الياء والصاد
المهملة بعدها ألف بعدها قاف معناه المنع اه منه.
(2) أرسل إلينا الفاضل الأديب الأستاذ الشيخ محمد بهجة
الأثري مقالة تتعلق بالقوانين السياسية، وأخبرنا أنه وجدها
بهامش نسخة الأصل المخطوطة بخط أحد تلاميذ المؤلف رحمه
الله تعالى فوضعناها في مكانها إتماما للفائدة.
يقول محمد بهجة الأثري البغدادي:
قوله: ثم إنه لا شبهة في أنه لا بأس بالقوانين السياسية-
إلى قوله- كما لا يخفى على العارف النبيه ليس للمؤلف وإنما
وجدته
(14/214)
__________
على هامش الأصل بخط أحد تلاميذه وقد كتبه عوضا عن بحث نفيس
لصاحب التفسير في «القانون والشرع» لم تسمح السلطة الغاشمة
بنشره وإليك نص ذلك نقلا عن خطه، قال: وليتني رأيت هذه
الرسالة ووقفت على ما فيها فإن إطلاق القول بالكفر مشكل
عندي.
نعم لا شك في كفر من يستحسن القانون ويفضله على الشرع
ويقول: هو أوفق بالحكمة وأصلح للأمة، ويتميز غيظا ويتقصف
غضبا إذا قيل له في أمر: أمر الشرع فيه كذا كما شاهدنا ذلك
في بعض من خذلهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم، وهذا القانون
الذي ذكروه قد نقصت منه اليوم أمور وزيدت فيه أمور وسمي
بالأصول، وألفت فيها رسائل وطبعت ونشرت وفرقت وألزم العمل
بما حوتها كل أمير ومأمور وعقدت مجالس الشورى عليها، ورجع
في أحكام الأحكام إليها ومن خالفها نكل تنكيلا، وربما حبس
حبسا طويلا، وكم قد قال لي بعض الولاة: إياك أن تقول في
مجلسنا: المسألة شرعا كذا، وقد أصابني منه عامله الله
بعدله لعدولي عن قوله مزيد الأذى، واتفق أن قال لي بعض
خاصته يوما: أرى ثلثي الشرع شرا، فقلت له- وإن كنت عالما
أن في أذنيه وقرا.: نعم ظهر الشر لما أذهبتم من الشرع
العين، ولم تأخذوا من اسمه سوى حرفين فتأمل العبارة وتغير
وجهه لما فهم الاشارة، والذي ينبغي أن يقال في ذلك: إن ما
يرجع من تلك الأصول إلى ما يتعلق بسوق الجيوش وتعبئتهم
وتعليمهم ما يلزم في الحرب مما يغلب على الظن الغلبة به
على الكفرة وما يتعلق بأحكام المدن والقلاع ونحو ذلك لا
بأس في أكثره على ما نعلم، وكذا ما يتعلق بجزاء ذوي
الجنايات التي لم يرد فيها عن الشارع حد مخصوص بل فرض
التأديب عليها إلى رأي الإمام كأنواع التعازير، وللإمام أن
يستوفي ذلك وإن عفا المجني عليه لأن الساقط به حق الآدمي
والذي يستوفيه الإمام حق الله تعالى للمصلحة كما نص على
ذلك العلامة ابن حجر في شرح المنهاج، والقواعد لا تأباه،
نعم ينبغي أن يجتنب في ذلك الإفراط والتفريط، وقد شاهدنا
في العراق مما يسمونه «جزاء» ما القتل أهون منه بكثير.
ومثل ذلك ظلم عظيم وتعد كبير.
وأما ما يتعلق بالحدود الإلهية كقطع السارق. ورجم الزاني
المحصن. وما فصل في حق قطاع الطريق من قطع الأيدي والأرجل
من خلاف وغيره مما فصل في آيتهم- إلى غير ذلك- فظاهر أمره
دخوله في حكم الآية هنا على ما ذكره البيضاوي.
وأما ما يتعلق بالمعاملات والعقود فإن كان موافقا لما ورد
عن الشارع فيها من الصحة وعدمها سميناه «شرعا» ولا نسميه
«قانونا» و «أصولا» وإن لم يكن موافقا لذلك كالحكم في
إعطاء الربا مثلا المسمى عندهم- بالكرشته- لزعم أنه تتعطل
مصالح الناس لو لم يحكم بذلك فهو حكم بغير ما أنزل الله عز
وجل.
وأما ما يتعلق بحق بيت المال في الأراضي فما كان موافقا
لعمل النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وخلفائه الراشدين
فذاك وما كان مخالفا لعمل الخلفاء الصادر منهم باجتهاد فإن
كانت مخالفته إلى ما هو أسهل وأنفع للناس فنظرا إلى زمانهم
فهو مما لا بأس فيه، وإن كانت مخالفته إلى ما هو أشق ففيه
بأس، ولا يجري هذا التفصيل فيما وصفه رسول الله عليه
الصلاة والسلام كالعشر في بعض الأراضي التي فتحت في زمنه
الشريف صلّى الله تعالى عليه وسلم فإنه لا تجوز المخالفة
فيه أصلا على ما ذكره أبو يوسف في كتاب الخراج وما ليس فيه
موافقة ولا مخالفة بحسب الظاهر بأن لم يكن منصوصا عليه كان
يندرج في العمومات المنصوص عليها في أمر الاراضي فذاك وإلا
فقبوله ورده باعتبار المدخول في العمومات الواردة في الحظر
والإباحة فإن دخل في عمومات الإباحة قبل وإن في عمومات
الحظر رد، وأمر تكفير العامل بالأصول المذكورة خطر فلا
ينبغي إطلاق القول فيه، نعم لا ينبغي التوقف في تكفير من
يستحسن ما هو بين المخالفة للشرع منها ويقدمه على الأحكام
الشرعية متنقصا لها به، ولقد سمعت بعض خاصة أتباع بعض
الولاة يقول: وإن تلك الأحكام أصول وقوانين سياسية كانت
حسنة في الأزمنة المتقدمة لما كان أكثر الناس بلها، وأما
اليوم فلا يستقيم أمر السياسة بها والأصول الجديدة أحسن
وأوفق للعقل منها، ويقول كلما ذكرها: الأصول المستحسنة.
وكان يرشح كلامه بنفي رسالة النبي صلّى الله تعالى عليه
وسلم وكذا رسالة الأنبياء عليهم السلام قبله، ويزعم أنهم
كانوا حكماء في أوقاتهم توصلوا إلى أغراضهم بوضع ما ادعوا
فيه أنه وحي من الله تعالى، فهذا وأمثاله مما لا شك في
كفره وفي كفر من يدعي للمرافعة عند القاضي فيأبى إلا
المرافعة بمقتضى تلك الأصول عند أهل تلك الأصول راضيا بما
يقضون به عليه تردد وإنما لم يجزم بكفره مع قوله تعالى:
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما
شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً
[.....]
(14/215)
به الانتظام ويصلح أمر الخاص والعام، ومنها
تعيين مراتب التأديب والزجر على معاص وجنايات لم ينص
الشارع فيها على حد معين بل فوض الأمر في ذلك لرأي الإمام
فليس ذلك في المحادّة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه
وسلم في شيء بل فيه استيفاء حقه تعالى على أتم وجه لما فيه
من الزجر عن المعاصي وهو أمر مهم للشارع عليه الصلاة
والسلام. ويرشد إليه ما في تحفة المحتاج أن للإمام أن
يستوفي التعزير إذا عفى صاحب الحق لأن الساقط بالعفو هو حق
الآدمي، والذي يستوفيه الامام هو حق الله تعالى للمصلحة،
وفي كتاب الخراج للإمام أبي يوسف عليه الرحمة إشارة إلى
ذلك أيضا ولا يعكر على ذلك ونحوه قوله تعالى: الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] لأن المراد
إكماله من حيث تضمنه ما يدل على حكمه تعالى خصوصا أو
عموما، ويرشد إلى هذا عدم النكير على أحد من المجتهدين إذا
قال بشيء لم يكن منصوصا عليه بخصوصه، ومن ذلك ما ثبت
بالقياس بأقسامه، نعم القانون الذي يكون وراء ذلك بأن كان
مصادقا لما نطقت به الشريعة الغراء زائغا عن سنن المحجة
البيضاء فيه ما فيه كما لا يخفى على العارف النبيه، وقد
يقال في الآية على المعنى الذي ذكره البيضاوي: إن المراد
بالموصول الواضعون لحدود الكفر وقوانينه كأئمة الكفر أو
المختارون لها العاملون بها كأتباعهم، ثم إن الآية- على ما
في البحر- نزلت في كفار قريش كُبِتُوا أي أخزوا كما قال
قتادة، أو غيظوا كما قال الفراء أو ردّوا مخذولين- كما قال
ابن زيد- أو أهلكوا كما قال أبو عبيدة والأخفش.
وعن أبي عبيدة أن تاءه بدل من الدال، والأصل- كبدوا- أي
أصابهم داء في أكبادهم وقال السدي: لعنوا، وقيل: الكبت
الكب وهو الإلقاء على الوجه، وفسره الراغب هنا بالرد بعنف
وتذليل، وذلك إشارة عند الأكثرين إلى ما كان يوم الخندق،
وقيل: إلى ما كان يوم بدر، وقيل: معنى كُبِتُوا سيكبتون
على طريقة قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل: 1] وهو
بشارة للمؤمنين بالنصر على الكفار وتحقق كبتهم.
كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من كفار الأمم
الماضية المحادّين لله عز وجل ورسله عليهم الصلاة والسلام
وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ حال من واو كُبِتُوا أي
كبتوا لمحادّتهم، والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن
حادّ الله تعالى ورسوله من قبلهم من الأمم وفيما فعلنا
بهم، وقيل: آيات تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به
وَلِلْكافِرِينَ أي بتلك الآيات أو بكل ما يجب الإيمان به
فتدخل فيه تلك الآيات دخولا أوليا عَذابٌ مُهِينٌ يذهب
بعزهم وكبرهم يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ منصوب بما تعلق
به اللام من الاستقرار، أو- بمهين- أو بإضمار اذكر أي
__________
لأن حكم أكثر القضاة مخالف لحكم الله تعالى ورسوله صلّى
الله عليه وسلم في أكثر المسائل، والبلية العظمى انهم
يسمون ذلك شرعا ومع ذلك يأخذون عليه ما يأخذون من المال
ظلما فلمن لم يرض بالمرافعة عند هؤلاء القضاة العجزة ويرضى
بالمرافعة عند أهل الأصول عذر لذلك.
ولقد سمعت في كثير أن أحد أسباب وضع الأصول الجديدة هؤلاء
القضاة الظلمة حيث اتبعوا الهوى وحكموا بغير ما أنزل
المولى جل وعلا ولم يمكن خلاص الشريعة من أيديهم وتطهير
المحاكم من أرجاسهم لملاحظات مقبولة أو غير مقبولة فوضعوا
ما يهون به في زعم الواضع شرهم ويهن به أمرهم ثم إن باطل
أولئك القضاة لا قاعدة له فيتلون تلون الحرباء لأنه تابع
لهوى الأنفس وتفاوت الرشا أمور أخرى وباطل غيرهم له قاعدة
ما في الأغلب.
وقصارى الكلام أن ما خالف الشرع مردود كائنا ما كان ولا
فرق في ذلك بين ما عليه أكثر القضاة اليوم بين الأصول
المخالفة:
فإن لا يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها
وإلى الله تعالى المشتكى، وهو عز وجل حسبنا وكفى. انتهى
كلامه.
(14/216)
اذكر ذلك اليوم تعظيما له وتهويلا، وقيل
منصوب بيكون مضمرا على أنه جواب لمن سأل متى يكون عذاب
هؤلاء؟
فقيل له: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ أي يكون يوم إلخ، وقيل:
بالكافرين وليس بشيء، وقوله تعالى: جَمِيعاً حال جيء به
للتأكيد، والمعنى يبعثهم الله تعالى كلهم بحيث لا يبقى
منهم أحد غير مبعوث، ويجوز أن يكون حالا غير مؤكدة أي
يبعثهم مجتمعين في صعيد واحد فَيُنَبِّئُهُمْ بِما
عَمِلُوا من القبائح ببيان صدورها عنهم أو بتصويرها في تلك
النشأة بما يليق بها من الصور الهائلة على رؤوس الاشهاد
تخجيلا لهم وتشهيرا بحالهم وزيادة في خزيهم ونكالهم، وقوله
تعالى: أَحْصاهُ اللَّهُ استئناف وقع جوابا عما نشأ مما
قبله من السؤال إما عن كيفية التنبئة أو عن سببها كأنه
قيل:
كيف ينبئهم بأعمالهم وهي أعراض متقضية متلاشية؟ فقيل:
أحصاه الله تعالى عددا ولم يفته سبحانه منه شيء، وقوله
تعالى: وَنَسُوهُ حينئذ حال من مفعول- أحصى- بإضمار قد أو
بدونه، أو قيل: لم ينبئهم بذلك؟ فقيل: أحصاه الله تعالى
ونسوه فينبئهم به ليعرفوا أن ما عاينوه من العذاب إنما حاق
بهم لأجله، وفيه مزيد توبيخ وتنديم لهم غير التخجيل
والتشهير وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ لا يغيب عنه
أمر من الأمور أصلا، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لإحصائه
تعالى أعمالهم، وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ استشهاد
على شمول شهادته تعالى أي ألم تعلم أنه عز وجل يعلم ما
فيهما من الموجودات سواء كان ذلك بالاستقرار فيهما أو
بالجزئية منهما.
وقوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إلخ استئناف
مقرر لما قبله من سعة علمه تعالى، ويَكُونُ من كان التامة،
ومِنْ مزيدة، ونَجْوى فاعل وهي مصدر بمعنى التناجي وهو
المسارّة مأخوذة من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض لأن
المتسارين يخلوان وحدهما بنجوة من الأرض، أو لأن السر يصان
فكأنه رفع من حضيض الظهور إلى أوج الخفاء، وقيل: أصل
ناجيته من النجاة وهو أن تعاونه على ما فيه خلاصة أو أن
تنجو بسرك من أن يطلع عليه وهي مضافة إلى ثَلاثَةٍ أي ما
يقع من تناجي ثلاثة نفر وقد يقدر مضاف أي من ذوي نجوى، أو
يؤول نجوى بمتناجين- فثلاثة- صفة للمضاف المقدر، أو لنجوى
المؤوّل بما ذكر.
وجوز أن يكون بدلا أيضا والتأويل والتقدير المذكوران
ليتأتى الاستثناء الآتي من غير تكلف، وفي القاموس النجوى
السر والمسارون اسم مصدر، وظاهره أن استعماله في كل حقيقة
فإذا أريد المسارون لم يحتج إلى تقدير أو تأويل لكن قال
الراغب: إن النجوى أصله المصدر كما في الآيات بعد، وقد
يوصف به فيقال: هو نجوى، وهم نجوى، قال تعالى: وَإِذْ هُمْ
نَجْوى [الإسراء: 47] وعليه يحتمل أن يكون من باب زيد عدل.
وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وشيبة- ما تكون- بالتاء الفوقية
لتأنيث الفاعل، والقراءة بالياء التحتية قال الزمخشري:
على أن النجوى تأنيثها غير حقيقي، ومِنْ فاصلة أو على أن
المعنى ما يكون شيء من النجوى، واختار في الكشف الثاني،
فقال: هو الوجه لأن المؤنث وحده لم يجعل فاعلا لفظا لوجود
مِنْ ولا معنى لأن المعنى شيء منها، فالتذكير هو الوجه
لفظا ومعنى، وهو قراءة العامة انتهى، وإلى نحوه يشير كلام
صاحب اللوامح، وصرح بأن الأكثر في هذا الباب التذكير،
وتعقبه أبو حيان بالمنع وأن الأكثر التأنيث وأنه القياس
قال تعالى: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ
رَبِّهِمْ [الأنعام: 4] ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها
[الحجر: 5، المؤمنون: 43] فتأمل، وقوله سبحانه: إِلَّا
هُوَ رابِعُهُمْ استثناء مفرغ من أعم الأحوال، والرابع
لإضافته إلى غير مماثله هنا بمعنى الجاعل المصير لهم أربعة
أي ما يكونون في حال من الأحوال إلا في حال تصيير الله
تعالى لهم أربعة حيث إنه عز وجل يطلع أيضا على نجواهم،
وكذا قوله تعالى: وَلا خَمْسَةٍ أي ولا نجوى خمسة إِلَّا
هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى أي ولا نجوى أدنى مِنْ ذلِكَ
أي مما ذكر كالاثنين والأربعة وَلا أَكْثَرَ كالستة وما
فوقها.
(14/217)
إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ يعلم ما يجري بينهم
أَيْنَ ما كانُوا من الأماكن، ولو كانوا في بطن الأرض فإن
علمه تعالى بالأشياء ليس لقرب مكاني حتى يتفاوت باختلاف
الأمكنة قربا وبعدا، وفي الداعي إلى تخصيص الثلاثة
والخمسة، وجهان: أحدهما أن قوما من المنافقين تخلفوا
للتناجي مغايظة للمؤمنين على هذين العددين ثلاثة وخمسة،
فقيل: ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة كما ترونهم يتناجون
كذلك ولا أدنى من عددهم ولا أكثر إلا والله تعالى معهم
يعلم ما يقولون. فالآية تعريض بالواقع على هذا، وقد روي عن
ابن عباس أنها نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن
أمية كانوا يوما يتحدثون فقال أحدهم: أترى أن الله يعلم ما
نقول؟ فقال الآخر: يعلم بعضا ولا يعلم بعضا، وقال الثالث:
إن كان يعلم بعضا فهو يعلمه كله أي لأن من علم بعض الأشياء
بغير سبب فقد علمها كلها لأن كونه عالما بغير سبب ثابت له
مع كل معلوم، والثاني أنه قصد أن يذكر ما جرت عليه العادة
من أعداد أهل النجوى والجالسين في خلوة للشورى والمنتدبون
لذلك إنما هم طائفة مجتباة من أولي الأحلام والنهى، وأول
عددهم الاثنان فصاعدا إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته
الحال، وحكم به الاستصواب، فذكر عز وجل الثلاثة والخمسة،
وقال سبحانه: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ فدل على الاثنين
والأربعة، قال تعالى: وَلا أَكْثَرَ فدل على ما يلي هذا
العدد ويقاربه كذا في الكشاف.
وفي الكشف في خلاصة الوجه الثاني أنه خص العددان على
المعتاد من عدد أهل النجوى فإنهم قليلو العدد غالبا فلزم
أن يخص بالذكر نحو الثلاثة والأربعة إلى الثمانية والتسعة
فأوثر الثلاثة ليكون قوله تعالى: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ
دالا على ما تحتها إذ لو أوثر الأربعة والستة مثلا كان
الأدنى الثلاثة دون الاثنين إلا على التوسع ولما أوثرت جيء
بالخمسة لتناسب الوترين وكان الأمر دائرا بين الثلاثة
والخمسة والأربعة والستة فأوثرا بالتصريح لذلك، ولأنه
تعالى وتر يحب الوتر انتهى.
وقد يقال: إن التناجي يكون في الغالب للشورى وهي لا تكون
إلا بين عدد وأهلها قليلو العدد غالبا، والأليق أن يكون
وترا من الأعداد كالثلاثة والخمسة والسبعة والتسعة ليتحقق
عند الاختلاف طرف يترجح بالزيادة على الطرف الآخر فيرجع
إليه دونه كما هو العادة اليوم عند اختلاف أهل الشورى.
وجعل عمر رضي الله تعالى عنه الشورى في ستة لانحصار الأمر
فيهم كما يدل على قوله لهم: نظرت فوجدتكم رؤساء الناس
وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وقد قبض رسول الله
صلّى الله تعالى عليه وسلم وهو عنكم راض، ومع هذا أمر ابنه
عبد الله رضي الله تعالى عنه أن يحضر معهم وإن لم يكن له
من أمر الخلافة شيء، فدار الأمر بعد اعتبار ما ذكر من
وترية العدد وقلته بين الثلاثة والخمسة والسبعة والتسعة
فاختيرت الثلاثة لأنها أول الأوتار العددية وإذا ضربت في
نفسها حصل منتهاها من الآحاد ولا يخلو منها اعتبار كل ممكن
حتى أن المطالب الفكرية للمتناجين مثلا لا تتم بدون ثلاثة
أشياء: الموضوع والمحمول والحدّ الأوسط بل القضية التي
يتناجى لها لا بد فيها من ثلاثة أجزاء، والخمسة لأنها عدد
دائر لا تنعدم بالضرب في نفسها، وكذا بضرب الحاصل في نفسه
إلى ما لا يتناهى فلها شبه بالثلاثة من حيث إنها دائرة مع
مراتب الضرب لا تنعدم أصلا كما أن الثلاثة دائرة مع
اعتبارات الممكن لا تنعدم أصلا، ومع ذلك هي عدد المشاعر
التي يحتاج إليها التناجي، وكذا عدد الحواس الظاهرة، ويدخل
ما عداهما في عموم قوله تعالى: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ
وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ ولا يدخل في العموم
الواحد لأن التناجي للمشاورة لا بد فيه من اثنين فأكثر،
ومن أدخله لم يعتبر التناجي لها ولا يضر دخول الأشفاع فيه
لأن أليقية كون المتناجين وترا إنما كانت نكتة للتصريح
بالعددين السابقين ولا تأبى تحقق النجوى في الأشفاع كما لا
يخفى.
(14/218)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا
نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا
لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي
أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ
حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ
(8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ
فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ
وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ
لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ
شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي
الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا
قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ
فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ
خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ
تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ
لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ
وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ
جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ
مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا
أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ
لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا
إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ
الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ
حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ
الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ
اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ
قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ
أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ
أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ
اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
(22)
وادعى ابن سراقة أن النجوى مختصة بما كان
بين أكثر من اثنين وأن ما يكون بين اثنين يسمى سرارا، وقال
ابن عيسى: كل سرار نجوى، وفي الآية لطائف وأسرار لا يعقلها
إلا العالمون فليتأمل.
وقرأ ابن أبي عبلة «ثلاثة» و «خمسة» بالنصب على الحال
بإضمار يتناجون يدل عليه نجوى، أو على تأويل نجوى بمتناجين
ونصبهما من المستكن فيه، وفي مصحف عبد الله- إلا الله
رابعهم ولا أربعة إلا الله خامسهم ولا خمسة إلا الله
سادسهم ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا الله معهم إذا انتجوا-
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق والأعمش وأبو حيوة وسلام ويعقوب
«ولا أكثر» بالرفع قال الزمخشري: على أنه معطوف على محل-
لا أدنى- كقولك: لا حول ولا قوة إلا بالله بفتح الحول ورفع
القوة، ويجوز أن يعتبر «أدنى» مرفوعا على هذه القراءة
ورفعهما على الابتداء، والجملة التي بعد إِلَّا هي الخبر،
أو على العطف على محل مِنْ نَجْوى كأنه قيل: ما يكون أدنى
ولا أكثر إلا هو معهم، وأَكْثَرَ على قراءة الجمهور يحتمل
أن يكون مجرورا بالفتح معطوفا على لفظ نَجْوى كأنه قيل:
ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم، وأن يكون مفتوحا
لأن لا لنفي الجنس، وقرأ كل من الحسن ويعقوب أيضا ومجاهد
والخليل بن أحمد- ولا أكبر- بالباء الموحدة والرفع وهو على
ما سمعت ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ
الْقِيامَةِ تفضيحا لهم وإظهارا لما يوجب عذابهم.
وقرىء «ينبئهم» بالتخفيف والهمز، وقرأ زيد بن علي بالتخفيف
وترك الهمز وكسر الهاء.
إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لأن نسبة ذاته
المقتضي للعلم إلى الكل على السواء، وقد بدأ الله تعالى في
هذه الآيات بالعلم حيث قال سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُ إلخ، وختم جل وعلا بالعلم أيضا حيث قال
الله تعالى:
أَنَّ اللَّهَ إلخ، ومن هنا قال معظم السلف فيما ذكر في
البين من قوله عز وجل: رابِعُهُمْ وسادِسُهُمْ ومَعَهُمْ
أن المراد به كونه تعالى كذلك بحسب العلم مع أنهم الذين لا
يؤوّلون، وكأنهم لم يعدّوا ذلك تأويلا لغاية ظهوره
واحتفافه بما يدل عليه دلالة لا خفاء فيها، ويعلم من هذا
أن ما شاع من أن السلف لا يؤولون ليس على إطلاقه.
(14/219)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ
النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ قال ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما:
نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون دون المؤمنين
وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم عليهم يوهمونهم عن
أقاربهم أنهم أصابهم شر فلا يزالون كذلك حتى تقدم أقاربهم
فلما كثر ذلك منهم شكا المؤمنون إلى الرسول صلّى الله
تعالى عليه وسلم فنهاهم أن يتناجوا دون المؤمنين فعادوا
لمثل فعلهم، وقال مجاهد: نزلت في اليهود.
وقال ابن السائب: في المنافقين، والخطاب للرسول عليه
الصلاة والسلام والهمزة للتعجيب من حالهم، وصيغة المضارع
للدلالة على تكرر عودهم وتجدده واستحضار صورته العجيبة،
وقوله تعالى: وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ
وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ عطف عليه داخل في حكمه أي
ويتناجون بما هو إثم في نفسه ووبال عليهم وتعدّ على
المؤمنين وتواص بمخالفة الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم،
وذكره عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة بين الخطابين
المتوجهين- وإليه صلّى الله عليه وسلم- لزيادة تشنيعهم
واستعظام معصيتهم.
وقرأ حمزة وطلحة والأعمش ويحيى بن وثاب ودويس- وينتجون-
بنون ساكنة بعد الياء وضم الجيم مضارع انتجى، وقرأ أبو
حيوة- العدوان- بكسر العين حيث وقع، وقرىء- معصيات- بالجمع
ونسبت فيما بعد إلى الضحاك وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما
لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ
صح من رواية البخاري ومسلم وغيرها عن عائشة «أن ناسا من
اليهود دخلوا على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم
فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم فقال عليه الصلاة
والسلام:
وعليكم، قالت عائشة: وقلت: عليكم السام ولعنكم الله وغضب
عليكم»
وفي رواية «عليكم السام والذام واللعنة، فقال عليه الصلاة
والسلام: يا عائشة إن الله لا يحب الفاحش ولا المتفحش،
فقلت: ألا تسمعهم يقولون: السام؟! فقال صلى الله تعالى
عليه وسلم: أو ما سمعت أقول: وعليكم؟! فأنزل الله تعالى
وَإِذا جاؤُكَ» الآية.
وأخرج أحمد والبيهقي في شعب الإيمان بسند جيد عن عبد الله
بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن اليهود كانوا يقولون لرسول
الله صلّى الله تعالى عليه وسلم سام عليك يريدون بذلك شتمه
ثم يقولون في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول فنزلت هذه
الآية وَإِذا جاؤُكَ إلخ، والسام قال ابن الأثير: المشهور
فيه ترك الهمز ويعنون به الموت،
(14/220)
وجاء في رواية مهموزا ومعناه أنكم تسأمون
دينكم، وصرح الخفاجي بأنه بمعنى الموت عبراني، ولم يذكر
فيه الهمز وتركه.
وقال الطبرسي: من قال: السام الموت فهو من سأم الحياة
بذهابها وهذا إرجاع له إلى المهموز، وجعل البيضاوي من
التحية التي لم يحيه بها الله تعالى تحيتهم له عليه الصلاة
والسلام بأنعم صباحا وهي تحية الجاهلية كعم صباحا ولم نقف
على أثر في ذلك، وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ فِي
أَنْفُسِهِمْ أي فيما بينهم، وجوّز إبقاؤه على ظاهره
لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ أي هلا يعذبنا
الله تعالى بسبب ذلك لو كان محمد صلّى الله تعالى عليه
وسلم نبيا- أي لو كان نبيا عذبنا الله تعالى بسبب ما نقول
من التحية- أوفق بالأول لأن أنعم صباحا دعاء بخير والعدول
إليه عن تحية الإسلام التي حيا الله تعالى بها رسوله صلّى
الله تعالى عليه وسلم، وأشير إليها بقوله تعالى: سَلامٌ
عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 181] وَسَلامٌ عَلى
عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل: 59] وما جاء في التشهد
«السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» ليس فيه كثير
إثم يتوقع معه التعذيب الدنيوي حتى أنهم يقولون ذلك إذا لم
يعذبوا اللهم إلا إذا انضم إليه أنهم قصدوا بذلك تحقيرا
وإعلانا بعدم الاكتراث، ولعل قائل ذلك هم المنافقون من
المشركين وهو أظهر من كون قائله اليهود، وحكم التحية به
اليوم أنها خلاف السنة، والقول بالكراهة غير بعيد.
وفي تحفة المحتاج لا يستحق مبتدى بنحو صبحك الله بالخير أو
قواك الله جوابا ودعاؤه له في نظيره حسن إلا أن يقصد
بإهماله له تأديبه لتركه سنة السلام انتهى، وأنعم صباحا
نحو صبحك الله بالخير، غاية ما في الباب أنه مجلسه صلّى
الله تعالى عليه وسلم، والجمع لتعدده باعتبار من يجلس معه
عليه الصلاة والسلام فإن لكل أجد منهم مجلسا، وفي أخبار
سبب النزول ما يؤيد كلا،
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان «كان صلّى الله عليه
وسلم يوم جمعة في الصفة وفي المكان ضيق وكان عليه الصلاة
والسلام يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس من
أهل بدر منهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبقوا إلى المجالس
فقاموا حيال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا: السلام
عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فرد النبي صلّى الله
تعالى عليه وسلم ثم سلموا على القوم فردوا عليهم فقاموا
على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا لهم فشق ذلك
على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال لبعض من حوله: قم
يا فلان ويا فلان فأقام نفرا مقدار من قدم فشق ذلك عليهم
وعرفت كراهيته في وجوههم، وقال المنافقون: ما عدل بإقامة
من أخذ مجلسه وأحب قربه لمن تأخر عن الحضور فأنزل الله
تعالى هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا»
إلخ، وكان ذلك ممن لم يفسح تنافسا في القرب من رسول الله
صلّى الله عليه وسلم ورغبة فيه ولا تكاد نفس تؤثر غيرها
بذلك.
وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب: كان الصحابة يتشاحون في
مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة
في الشهادة فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ،
والأكثرون على أنها نزلت لما كان عليه المؤمنون من التضام
في مجلسه صلّى الله تعالى عليه وسلم والضنة بالقرب منه
وترك التفسح لمقبل وأيا ما كان فالحكم مطرد في مجلسه عليه
الصلاة والسلام ومصاف القتال وغير ذلك، وقرىء في- المجلس-
بفتح اللام، فإما أن يراد به ما أريد بالمكسور والفتح شاذ
في الاستعمال، وإما أن يراد به المصدر، والجار متعلق-
بتفسحوا- أي إذا قيل لكم توسعوا في جلوسكم ولا تضايقوا فيه
فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي في رحمته أو في
منازلكم في الجنة أو في قبوركم أو في صدوركم أو في رزقكم
أقوال.
وقال بعضهم: المراد يفسح سبحانه لكم في كل ما تريدون الفسح
فيه أي مما ذكر وغيره، وأنت تعلم أن الفسح يختلف المراد
منه باختلاف متعلقاته كالمنازل والرزق والصدر فلا تغفل
وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا أي انهضوا
(14/221)
للتوسعة على المقبلين فَانْشُزُوا فانهضوا
ولا تتثبطوا، وأصله من النشز وهو المرتفع من الأرض فإن
مريد التوسعة على المقبل يرتفع إلى فوق فيتسع الموضع، أو
لأن النهوض نفسه ارتفاع قال الحسن وقتادة والضحاك: المعنى
إذا دعيتم إلى قتال أو صلاة أو طاعة فأجيبوا، وقيل: إذا
دعيتم إلى القيام عن مجلس النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم
فقوموا، وهذا لأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤثر أحيانا
الانفراد في أمر الإسلام أو لأداء وظائف تخصه صلّى الله
تعلى عليه وسلم لا تتأتى أو لا تكمل بدون الانفراد، وعمم
الحكم فقيل: إذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه: قوموا ينبغي
أن يجاب، وفعل ذلك لحاجة إذا لم يترتب عليه مفسدة أعظم
منها مما لا نزاع في جوازه، نعم لا ينبغي لقادم أن يقيم
أحدا ليجلس في مجلسه،
فقد أخرج مالك والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن عمر رضي
الله تعالى عنهما أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم
قال: «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ولكن تفسحوا وتوسعوا»
.
وقرأ الحسن والأعمش وطلحة وجمع من السبعة- انشزوا فانشزوا-
بكسر الشين منهما.
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ جواب الأمر
كأنه قيل: إن تنشزوا يرفع عز وجل المؤمنين منكم في الآخرة
دعاء كان يستعمل تحية في الجاهلية، نعم تحيتهم به له عليه
الصلاة والسلام على الوجه الذي قصدوه حرام بلا خلاف
حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ عذابا يَصْلَوْنَها يدخلونها أو
يقاسون حرها أو يصطلون بها.
فَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي جهنم يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ في أنديتكم وفي خلواتكم.
فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ
الرَّسُولِ كما يفعله المنافقون، فالخطاب للخلّص تعريضا
بالمنافقين، وجوز جعله لهم وسموا مؤمنين باعتبار ظاهر
أحوالهم.
وقرأ الكوفيون والأعمش وأبو حيوة ورويس- فلا تنتجوا- مضارع
انتجى، وقرأ ابن محيصن- فلا تناجوا- بإدغام التاء في
التاء، وقرىء بحذف إحداهما وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ
وَالتَّقْوى بما يتضمن خبر المؤمنين والاتقاء عن معصية
الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم وَاتَّقُوا فيما تأتون
وما تذرون اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ وحده لا إلى غيره
سبحانه استقلالا أو اشتراكا تُحْشَرُونَ فيجازيكم على ذلك
إِنَّمَا النَّجْوى المعهودة التي هي التناجي بالإثم
والعدوان والمعصية مِنَ الشَّيْطانِ لا من غيره باعتبار
أنه هو المزين لها والحامل عليها، وقوله تعالى: لِيَحْزُنَ
الَّذِينَ آمَنُوا خبر آخر أي إنما هي ليحزن المؤمنين
بتوهمهم أنها في نكبة أصابتهم، وقرىء «ليحزن» بفتح الياء
والزاي- فالذين- فاعل وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ أي ليس الشيطان
أو التناجي بضار المؤمنين شَيْئاً من الأشياء أو شيئا من
الضرر إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي إلا بإرادته ومشيئته عز
وجل، وذلك بأن يقضي سبحانه الموت أو الغلبة على أقاربهم
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ولا
يبالوا بنجواهم.
وحاصله أن ما يتناجى المنافقون به مما يحزن المؤمنين إن
وقع فبإرادة الله تعالى ومشيئته لا دخل لهم فيه فلا يكترث
المؤمنون بتناجيهم وليتوكلوا على الله عز وجل ولا يحزنوا
منه، فهذا الكلام لإزالة حزنهم، ومنه ضعف ما أشار إليه
الزمخشري من جواز أن يرجع ضمير- ليس بضارهم- للحزن، وأجيب
بأن المقصود يحصل عليه أيضا فإنه إذا قيل: إن هذا الحزن لا
يضرهم إلا بإرادة الله تعالى اندفع حزنهم، هذا ومن الغريب
ما قيل: إن الآية نازلة في المنامات التي يراها المؤمن في
النوم تسوؤه ويحزن منها فكأنها نجوى يناجى بها، وهذا على
ما فيه لا يناسب السباق والسياق كما لا يخفى، ثم إن
التناجي بين المؤمنين قد يكون منهيا عنه،
فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن ابن مسعود
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا كنتم ثلاثة
فلا يتناج اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن
ذلك يحزنه»
ومثل التناجي في ذلك أن يتكلم اثنان بحضور ثالث بلغة لا
يفهمها الثالث إن كان يحزنه ذلك، ولما نهى
(14/222)
سبحانه عن التناجي والسرار علم منه الجلوس
مع الملأ فذكر جل وعلا آدابه بعده بقوله عز من قائل: يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا
فِي الْمَجالِسِ إلخ ولما نهى عز وجل عما هو سبب للتباغض
والتنافر أمر سبحانه بما هو سبب للتواد والتوافق أي إذا
قال لكم قائل كائنا من كان: توسعوا فليفسح بعضكم عن بعض في
المجالس ولا تتضاموا فيها، من قولهم: افسح عني أي تنح،
والظاهر تعلق فِي الْمَجالِسِ بتفسحوا، وقيل: متعلق-
بقيل..
وقرأ الحسن وداود بن أبي هند وقتادة وعيسى- تفاسحوا- وقرأ
الأخيران وعاصم في المجالس، والجمهور في- المجلس-
بالإفراد، فقيل: على إرادة الجنس لقراءة الجمع، وقيل: على
إرادة العهد، والمراد به جزاء للامتثال وَالَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ الشرعي دَرَجاتٍ أي كثيرة جليلة كما
يشعر به المقام، وعطف- الذين أوتوا العلم- على الَّذِينَ
آمَنُوا من عطف الخاص على العام تعظيما لهم بعدّهم كأنهم
جنس آخر، ولذا أعيد الموصول في النظم الكريم،
وقد أخرج الترمذي وأبو داود والدارمي عن أبي الدرداء
مرفوعا «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على
سائر الكواكب» .
وأخرج الدارمي عن عمر بن كثير عن الحسن قال: قال رسول الله
صلّى الله تعالى عليه وسلم: «من جاءه الموت وهو يطلب العلم
ليحيي به الإسلام فبينه وبين النبيين درجة»
وعنه صلّى الله تعالى عليه وسلم «بين العالم والعابد مائة
درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة»
وعنه عليه الصلاة والسلام «يشفع يوم القيامة ثلاثة:
الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء»
، فأعظم بمرتبة بين النبوة والشهادة بشهادة الصادق المصدوق
صلّى الله تعالى عليه وسلم، وعن ابن عباس «خيّر سليمان
عليه السلام بين العلم والملك والمال فاختار العلم فأعطاه
الله تعالى الملك والمال تبعا له» .
وعن الأحنف «كاد العلماء يكونون أربابا» وكل عز لم يوطد
بعلم فإلى ذل ما يصير، وعن بعض الحكماء: ليت شعري أي شيء
أدرك من فاته العلم؟ وأي شيء فاته من أدرك العلم؟ والدال
على فضل العلم والعلماء أكثر من أن يحصى، وأرجى حديث عندي
في فضلهم ما
رواه الإمام أبو حنيفة في مسنده عن ابن مسعود قال: قال
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «يجمع الله العلماء
يوم القيامة فيقول: إني لم أجعل حكمتي في قلوبكم إلا وأنا
أريد بكم الخير اذهبوا إلى الجنة فقد غفرت لكم على ما كان
منكم» .
وذكر العارف الياس الكوراني أنه أحد الأحاديث المسلسلة
بالأولية، ودلالة الآية على فضلهم ظاهرة بل أخرج ابن
المنذر عن ابن مسعود أنه قال: ما خص الله تعالى العلماء في
شيء من القرآن ما خصهم في هذه الآية- فضل الله الذين آمنوا
وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم بدرجات-
وجعل بعضهم العطف عليه للتغاير بالذات بحمل الَّذِينَ
آمَنُوا على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم، وفي رواية أخرى
عنه يا أيها الذين آمنوا افهموا معنى هذه الآية ولترغبكم
في العلم فإن الله تعالى يرفع المؤمن العالم فوق الذي لا
يعلم.
وادعى بعضهم أن في كلامه رضي الله تعالى عنه إشارة إلى أن-
الذين أوتوا- معمول لفعل محذوف والعطف من عطف الجمل أي
ويرفع الله تعالى الذين أوتوا العلم خاصة درجات، ونحوه
كلام ابن عباس فقد أخرج عنه ابن المنذر والبيهقي في المدخل
والحاكم وصححه أنه قال في الآية: يرفع الذين أوتوا العلم
من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات.
وقال بعض المحققين: لا حاجة إلى تقدير العامل، والمعنى على
ذلك من غير تقدير، واختار الطيبي التقدير وجعل الدرجات
معمولا لذلك المقدر، وقال: يضمر للمذكور أحط منه مما يناسب
المقام نحو أن يقال: يرفع الله
(14/223)
الذين آمنوا في الدنيا بالنصر وحسن الذكر
أو يرفعهم في الآخرة بالإيواء إلى ما يليق بهم من غرف
الجنات، ويرفع الذين أوتوا العلم درجات تعظيما لهم، وجوز
كون المراد بالموصولين واحدا والعطف لتنزيل تغاير الصفات
بمنزلة تغاير الذات، فالمعنى يرفع الله المؤمنين العالمين
درجات، وكون العطف من عطف الخاص على العام هو الأظهر، وفي
الانتصاف في الجزاء برفع الدرجات مناسبة للعمل المأمور به
وهو التفسيح في المجالس وترك ما تنافسوا فيه من الجلوس في
أرفعها وأقربها من النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فلما
كان الممتثل لذلك يخفض نفسه عما يتنافس فيه من الرفعة
امتثالا وتواضعا جوزي على تواضعه برفع الدرجات كقوله: من
تواضع لله تعالى رفعه الله تعالى، ثم لما علم سبحانه أن
أهل العلم بحيث يستوجبون عند أنفسهم وعند الناس ارتفاع
مجالسهم خصهم بالذكر عند الجزاء ليسهل عليهم ترك ما لهم من
الرفعة في المجلس تواضعا لله عز وجل.
وقيل: إنه تعالى خص أهل العلم ليسهل عليهم ترك ما عرفوا
بالحرص عليه من رفعة المجالس وحبهم للتصدير، وهذا من
مغيبات القرآن لما ظهر من هؤلاء في سائر الأعصار من
التنافس في ذلك.
والخفاجي أدرج هذا في نقل كلام صاحب الانتصاف وكلامه على
ما سمعته أوفق بالأدب مع أهل العلم، ولا أظن- بالذين أوتوا
العلم- المذكورين في الآية أنهم كالعلماء الذين عرّض بهم
الخفاجي، نعم إنه عليه الرحمة صادق فيما قال بالنسبة إلى
كثير من علماء آخر الزمان كعلماء زمانه وكعلماء زماننا-
لكن كثير من هؤلاء- إطلاق اسم العالم على أحدهم مجاز لا
تعرف علاقته، ومع ذلك قد امتلأ قلبه من حب الصدر وجعل
يزاحم العلماء حقيقة عليه ولم يدر أن محله لو أنصف العجز،
هذا واستدل غير واحد بالآية على تقديم العلم ولو باهليا
شابا على الجاهل ولو هاشميا شيخا، وهو بناء على ما تقدم من
معناها لدلالتها على فضل العالم على غيره من المؤمنين وأن
الله تعالى يرفعه يوم القيامة عليه، ويجعل منزلته فوق
منزلته فينبغي أن يكون محله في مجالس الدنيا فوق محل
الجاهل.
وقال الجلال السيوطي في كتاب الأحكام قال قوم: معنى الآية
يرفع الله تعالى المؤمنين العلماء منكم درجات على غيرهم
فلذلك أمر بالتفسح من أجلهم، ففيه دليل على رفع العلماء في
المجالس والتفسح لهم عن المجالس الرفيعة انتهى.
وهذا المعنى الذي نقله ظاهر في أن المتعاطفين متحدان
بالذات والعطف لجعل تغاير الصفات بمنزلة تغاير الذات وهو
احتمال بعيد، ويظهر منه أيضا أنه ظن رفع يرفع على أن
الجملة استئناف وقع جوابا عن السؤال عن علة الأمر السابق
مع أن الأمر ليس كذلك، ويحتمل أنه علم أنه مجزوم في جواب
الأمر لكن لم يعتبر كون الرفع درجات جزاءه الامتثال على
نحو كون الفسح قبله جزاءه فتأمله وَاللَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تهديد لمن لم يمتثل بالأمر واستكره،
وقرىء بما- يعملون- بالياء التحتانية يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ أي إذا
أردتم المناجاة معه عليه الصلاة والسلام لأمر ما من الأمور
فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً أي فتصدقوا
قبلها، وفي الكلام استعارة تمثيلية، وأصل التركيب يستعمل
فيمن له يدان أو مكنية بتشبيه النجوى بالإنسان، وإثبات
اليدين تخييل، وفي بَيْنَ ترشيح على ما قيل، ومعناه قبل،
وفي هذا الأمر تعظيم الرسول صلّى الله عليه وسلم ونفع
للفقراء وتمييز بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب
الدنيا ودفع للتكاثر عليه صلّى الله تعالى عليه وسلم من
غير حاجة مهمة،
فقد روي عن ابن عباس وقتادة أن قوما من المسلمين كثرت
مناجاتهم للرسول عليه الصلاة والسلام في غير حاجة إلا
لتظهر منزلتهم وكان صلّى الله عليه وسلم سمحا لا يرد أحدا
فنزلت هذه الآية.
وعن مقاتل أن الأغنياء كانوا يأتون النبي صلّى الله عليه
وسلم فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس حتى كره
عليه
(14/224)
الصلاة والسلام طول جلوسهم ومناجاتهم فنزلت
، واختلف في أن الأمر للندب أو للجواب لكنه نسخ بقوله
تعالى:
أَأَشْفَقْتُمْ إلخ، وهو وإن كان متصلا به تلاوة لكنه غير
متصل به نزولا، وقيل: نسخ بآية الزكاة والمعول عليه الاول،
ولم يعين مقدار الصدقة ليجزي الكثير والقليل،
أخرج الترمذي وحسنه وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه
قال: لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
ناجَيْتُمُ إلخ قال لي النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما ترى
في دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال:
نصف دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟ قلت: شعيرة، قال:
فإنك لزهيد» فلما نزلت أَأَشْفَقْتُمْ الآية قال صلى الله
تعالى عليه وسلم: «خفف الله عن هذه الأمة»
ولم يعمل بها على المشهور غيره كرم الله تعالى وجهه،
أخرج الحاكم وصححه وابن المنذر وعبد بن حميد وغيرهم عنه
كرم الله تعالى وجهه أنه قال: إن في كتاب الله تعالى لآية
ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ
إلخ كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فكنت كلما ناجيت
النبي صلّى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهما ثم
نسخت فلم يعمل بها أحد، فنزلت أَأَشْفَقْتُمْ الآية
، قيل: وهذا على القول بالوجوب محمول على أنه لم يتفق
للأغنياء مناجاة في مدة بقاء الحكم، واختلف في مدة بقائه،
فعن مقاتل أنها عشرة ليال، وقال قتادة: ساعة من نهار،
وقيل: إنه نسخ قبل العمل به ولا يصح لما صح أنفا.
وقرىء- صدقات- بالجمع لجمع المخاطبين ذلِكَ أي تقديم
الصدقات خَيْرٌ لَكُمْ لما فيه من الثواب وَأَطْهَرُ وأزكى
لأنفسكم لما فيه من تعويدها على عدم الاكتراث بالمال
وإضعاف علاقة حبه المدنس لها، وفيه إشارة إلى أن في ذلك
إعداد النفس لمزيد الاستفاضة من رسول الله صلّى الله تعالى
عليه وسلم عند المناجاة.
وفي الكلام إشعار بندب تقديم الصدقة لكن قوله تعالى:
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي
لمن لم يجد حيث رخص سبحانه له في المناجاة بلا تقديم صدقة
أظهر إشعارا بالوجوب.
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ
صَدَقاتٍ أي أخفتم الفقر لأجل تقديم الصدقات فمفعول
أَشْفَقْتُمْ محذوف، وأَنْ على إضمار حرف التعليل، ويجوز
أن يكون المفعول أَنْ تُقَدِّمُوا فلا حذف أي أخفتم تقديم
الصدقات لتوهم ترتيب الفقر عليه، وجمع الصدقات لما أن
الخوف لم يكن في الحقيقة من تقديم صدقة واحدة لأنه ليس
مظنة الفقر بل من استمرار الأمر، وتقديم صَدَقاتٍ وهذا
أولى مما قيل: إن الجمع لجمع المخاطبين إذ يعلم منه وجه
إفراد الصدقة فيما تقدم على قراءة الجمهور فَإِذْ لَمْ
تَفْعَلُوا ما أمرتم به وشق عليكم ذلك وَتابَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ بأن رخص لكم المناجاة من غير تقديم صدقة، وفيه
على ما قيل: إشعار بأن إشفاقهم ذنب تجاوز الله تعالى عنه
لما رؤي منهم من الانقياد وعدم خوف الفقر بعد ما قام مقام
نوبتهم و (إذ) على بابها أعني أنها ظرف لما مضى، وقيل:
إنها بمعنى- إذ- الظرفية للمستقبل كما قوله تعالى: إِذِ
الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ [غافر: 71] .
وقيل: بمعنى إن الشرطية كأنه قيل: فإن لم تفعلوا
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ والمعنى على
الأول إنكم تركتم ذلك فيما مضى فتداركوه بالمثابرة على
إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، واعتبرت المثابرة لأن
المأمورين مقيمون للصلاة ومؤتون للزكاة، وعدل عن فصلوا إلى
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ليكون المراد المثابرة على توفية
حقوق الصلاة ورعاية ما فيه كما لها لا على أصل فعلها فقط،
ولما عدل عن ذلك لما ذكر جيء بما بعده على وزانه ولم يقل
وزكوا لئلا يتوهم أن المراد الأمر بتزكية النفس كذا قيل
فتدبر وَأَطِيعُوا اللَّهَ
(14/225)
وَرَسُولَهُ
أي في سائر الأوامر، ومنها ما تقدم في ضمن قوله تعالى: يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا
فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا الآيات وغير ذلك. وَاللَّهُ
خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ظاهرا وباطنا.
وعن أبي عمرو و «يعملون» بالتحتية أَلَمْ تَرَ تعجيب من
حال المنافقين الذين كانوا يتخذون اليهود أولياء
ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين، وفيه على ما قال
الخفاجي: تلوين للخطاب بصرفه عن المؤمنين إلى الرسول صلّى
الله تعالى عليه وسلم أي ألم تنظر إِلَى الَّذِينَ
تَوَلَّوْا أي والوا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وهم اليهود ما هُمْ أي الذين تولوا مِنْكُمْ معشر المؤمنين
وَلا مِنْهُمْ أي من أولئك القوم المغضوب عليهم أعني
اليهود لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك،
وفي الحديث «مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين غنمين- أي
المترددة بين قطيعين- لا تدري أيهما تتبع» .
وجوز ابن عطية أن يكون هُمْ للقوم، وضمير مِنْهُمْ للذين
تولوا، ثم قال: فيكون فعل المنافقين على هذا أخس لأنهم
تولوا مغضوبا عليهم ليسوا من أنفسهم فيلزمهم ذمامهم ولا من
القوم المحقين فتكون الموالاة صوابا:
والأول هو الظاهر والجملة عليه مستأنفة، وجوز كونها حالا
من فاعل تَوَلَّوْا ورد بعدم الواو، وأجيب بأنهم صرحوا بأن
الجملة الاسمية المثبتة أو المنفية إذا وقعت حالا تأتي
بالواو فقط وبالضمير فقط وبهما معا، وما هاهنا أتت بالضمير
أعني هم، وعلى ما قال ابن عطية: في موضع الصفة لقوم.
وذكر المولى سعد الله أن في مِنْكُمْ التفاتا، وتعقب بأنه
إن غلب فيه خطاب الرسول صلّى الله عليه وسلم فظاهر أنه لا
التفات فيه وإن لم يغلب فكذلك لا التفات فيه إذ ليس فيه
مخالفة لمقتضى الظاهر لسبق خطابهم قبله، وفي جعله التفاتا
على رأي السكاكي نظر وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ عطف
على تَوَلَّوْا داخل في حيز التعجيب، وجوز عطفه على جملة
ما هُمْ مِنْكُمْ وصيغة المضارع للدلالة على تكرر الحلف،
وقوله تعالى: وَهُمْ يَعْلَمُونَ حال من فاعل- يحلفون-
مفيدة لكمال شناعة ما فعلوا فإن الحلف على ما يعلم أنه كذب
في غاية القبح، واستدل به على أن الكذب يعم ما يعلم المخبر
مطابقته للواقع وما لا يعلم مطابقته له فيرد به على مذهبي
النظام والجاحظ إذ عليهما لا حاجة اليه، وبحث فيه أنه يجوز
أن يراد بالكذب ما خالف اعتقادهم وَهُمْ يَعْلَمُونَ بمعنى
يعلمون خلافه فيكون جملة حالية مؤكدة لا مقيدة، نعم
التأسيس هو الأصل لكنه غير متعين، والاحتمال يبطل
الاستدلال والكذب الذي حلفوا عليه دعواهم الإسلام حقيقة،
وقيل: إنهم ما شتموا النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم بناء
على ما
روي «أنه كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم جالسا
في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين، فقال: إنكم
سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا جاءكم فلا
تكلموه فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق فقال عليه الصلاة
والسلام حين رآه: علام تشتمني أنت وأصحابك فقال: ذرني آتك
بهم فانطلق فدعاهم فحلفوا» فنزلت، وهذا الحديث أخرجه
الإمام أحمد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي
في الدلائل وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس إلا أن
آخره «فأنزل الله يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة:
18] » الآية
والتي بعدها، ولعله يؤيد أيضا اعتبار كون الكذب دعواهم
أنهم ما شتموا.
وفي البحر رواية نحو ذلك عن السدي ومقاتل، وهو- أنه عليه
الصلاة والسلام قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار
وينظر بعيني شيطان فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق أسمر
خفيف اللحية فقال صلّى الله عليه وسلم: علام تشتمني أنت
وأصحابك فحلف بالله ما فعل فقال له: فعلت فجاء بأصحابه
فحلفوا بالله ما سبوه- فنزلت
، والله تعالى أعلم بصحته.
(14/226)
وعبد الله هذا هو الرجل المبهم في الخبر
الأول، وهو ابن نبتل بفتح النون وسكون الباء الموحدة
وبعدها تاء مثناة من فوق ولام ابن الحارث بن قيس الأنصاري
الأوسي ذكره ابن الكلبي والبلاذري في المنافقين، وذكره أبو
عبيدة في الصحابة فيحتمل كما قال ابن حجر: إنه اطلع على
أنه تاب، وأما قوله في القاموس: عبد الله بن نبيل- كأمير-
من المنافقين فيحتمل أنه هو هذا، واختلف في ضبط اسم أبيه
ويحتمل أنه غيره أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ بسبب ذلك عَذاباً
شَدِيداً نوعا من العذاب متفاقما إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ ما اعتادوا عمله وتمرنوا عليه اتَّخَذُوا
أَيْمانَهُمْ الفاجرة التي يحلفون بها عند الحاجة جُنَّةً
وقاية وسترة عن المؤاخذة، وقرأ الحسن- إيمانهم- بكسر
الهمزة أي إيمانهم الذي أظهروه للنبي صلّى الله تعالى عليه
وسلم وخلص المؤمنين، قال في الإرشاد: والاتخاذ على هذا
عبارة عن التستر بالفعل كأنه قيل: تستروا بما أظهروه من
الإيمان عن أن تستباح دماؤهم وأموالهم، وعلى قراءة الجمهور
عبارة عن إعدادهم لأيمانهم الكاذبة وتهيئتهم لها إلى وقت
الحاجة ليحلفوا بها ويخلصوا عن المؤاخذة لا عن استعمالها
بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية،
وعن سببها أيضا كما يعرب عنه الفاء في قوله تعالى:
فَصَدُّوا أي الناس.
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ في خلال أمنهم بتثبيط من لقوا عن
الدخول في الإسلام وتضعيف أمر المسلمين عندهم، وقيل: فصدوا
المسلمين عن قتلهم فإنه سبيل الله تعالى فيهم، وقيل:
(صدوا) لازم، والمراد فأعرضوا عن الإسلام حقيقة وهو كما
ترى فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وعيد ثان بوصف آخر لعذابهم،
وقيل: الأول عذاب القبر وهذا عذاب الآخرة، ويشعر به وصفه
بالإهانة المقتضية للظهور فلا تكرار.
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ
مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ
فِيها خالِدُونَ قد سبق مثله في سورة آل عمران، وسبق
الكلام فيه فمن أراده فليرجع إليه يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللَّهُ جَمِيعاً تقدم الكلام في نظيره غير بعيد
فَيَحْلِفُونَ لَهُ أي لله تعالى يومئذ قائلين: وَاللَّهِ
رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] كَما
يَحْلِفُونَ لَكُمْ في الدنيا أنهم مسلمون مثلكم، والتشبيه
بمجرد الحلف لهم في الدنيا وإن اختلف المحلوف عليه بناء
على ما قدمنا من سبب النزول وَيَحْسَبُونَ في الآخرة
أَنَّهُمْ بتلك الأيمان الفاجرة عَلى شَيْءٍ من جلب منفعة
أو دفع مضرة كما كانوا عليه في الدنيا حيث كانوا يدفعون
بها عن أرواحهم وأموالهم ويستجرون بها فوائد دنيوية أَلا
إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ البالغون في الكذب إلى غاية
ليس وراءها غاية حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علام
الغيوب، وزعموا أن أيمانهم الفاجرة تروّج الكذب لديه عز
وجل كما تروّجه عند المؤمنين اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ
الشَّيْطانُ أي غلب على عقولهم بوسوسته وتزيينه حتى اتبعوه
فكان مستوليا عليهم، وقال الراغب: الحوذ أن يتبع السائق
حاذي البعير أي أدبار فخذيه فيعنف في سوقه يقال: حاذ الإبل
يحوذها أي ساقها سوقا عنيفا، وقوله تعالى: اسْتَحْوَذَ
عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ أي استاقهم مستوليا عليهم، أو من
قولهم: استحوذ العير على الأتان أي استولى على حاذيها أي
جانبي ظهرها اه.
وصرح بعض الأجلة أن الحوذ في الأصل السوق والجمع، وفي
القاموس تقييد السوق بالسريع ثم أطلق على الاستيلاء، ومثله
الأحواذ والأحوذي، وهو كما قال الأصمعي: المشمر في الأمور
القاهر لها الذي لا يشذ عنه منها شيء، ومنه قول عائشة في
عمر رضي الله تعالى عنهما كان أحوذيا نسيج وحده مأخوذ من
ذلك، واستحوذ مما جاء على الأصل في عدم إعلاله على القياس
إذ قياسه استحاذ بقلب الواو ألفا كما سمع فيه قليلا، وقرأ
به هنا أبو عمرو فجاء مخالفا للقياس- كاستنوق واستصوب- وإن
وافق الاستعمال المشهور فيه، ولذا لم يخلّ استعماله
بالفصاحة،
(14/227)
وفي استفعل هنا من المبالغة ما ليس في فعل
فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ في معنى لم يمكنهم من ذكره عز
وجل بما زين لهم من الشهوات فهم لا يذكرونه أصلا لا
بقلوبهم ولا بألسنتهم أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من
القبائح حِزْبُ الشَّيْطانِ أي جنوده وأتباعه.
أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ أي
الموصوفون بالخسران الذي لا غاية وراءه حيث فوّتوا على
أنفسهم النعيم المقيم وأخذوا بدله العذاب الأليم، وفي
تصدير الجملة بحرفي التنبيه والتحقيق وإظهار المتضايقين
معا في موقع الإضمار بأحد الوجهين، وتوسيط ضمير الفصل من
فنون التأكيد ما لا يخفى.
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ استئناف
مسوق لتعليل ما قبله من خسران حزب الشيطان عبر عنهم
بالموصول ذما لهم بما في حيز الصلة وإشعارا بعلة الحكم
أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر فِي الْأَذَلِّينَ أي في جملة
من هو أذل خلق الله عز وجل من الأولين والآخرين معدودون في
عدادهم لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر وحيث
كانت عزة الله عز وجل غير متناهية كانت ذلة من حادّه كذلك
كَتَبَ اللَّهُ استئناف وارد لتعليل كونهم في الأذلين أي
أثبت في اللوح المحفوظ أو قضى وحكم، وعن قتادة قال: وأيا
ما كان فهو جار مجرى القسم فلذا قال سبحانه: لَأَغْلِبَنَّ
أَنَا وَرُسُلِي أي بالحجة والسيف وما يجري مجراه أو
بأحدهما، ويكفي في الغلبة بما عدا الحجة تحققها للرسل
عليهم السلام في أزمنتهم غالبا فقد أهلك سبحانه الكثير من
أعدائهم بأنواع العذاب كقوم نوح وقوم صالح وقوم لوط
وغيرهم، والحرب بين نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلم وبين
المشركين وإن كان سجالا إلا أن العاقبة كانت له عليه
الصلاة والسلام وكذا لأتباعهم بعدهم لكن إذا كان جهادهم
لأعداء الدين على نحو جهاد الرسل لهم بأن يكون خالصا لله
عز وجل لا لطلب ملك وسلطنة وأغراض دنيوية فلا تكاد تجد
مجاهدا كذلك إلا منصورا غالبا، وخص بعضهم الغلبة بالحجة لا
طرادها وهو خلاف الظاهر، ويبعده سبب النزول، فعن مقاتل لما
فتح الله تعالى مكة للمؤمنين والطائف وخيبر وما حولها
قالوا: نرجو أن يظهرنا الله تعالى على فارس والروم فقال
عبد الله بن أبيّ: أتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي
غلبتم عليها، والله إنهم لأكثر عددا وأشد بطشا من أن تظنوا
فيهم ذلك فنزلت كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا
وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ على نصر رسله عَزِيزٌ لا
يغلب على مراده عز وجل.
وقرأ نافع وابن عامر «ورسلي» بفتح الياء لا تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ
مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ خطاب للنبي صلّى الله
تعالى عليه وسلم أو لكل أحد يصلح له، وتَجِدُ إما متعد إلى
اثنين فقوله تعالى: يُوادُّونَ إلخ مفعوله الثاني، وإما
متعد إلى واحد فهو حال من مفعوله لتخصصه بالصفة، وقيل: صفة
أخرى له أي قوما جامعين بين الإيمان بالله تعالى واليوم
الآخر وبين موادّة أعداء الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى
عليه وسلم وليس بذاك، والكلام على ما في الكشاف من باب
التخييل خيل أن من الممتنع المحال أن تجد قوما مؤمنين
يوادّون المشركين. والغرض منه أنه لا ينبغي أن يكون ذلك
وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر
عن ملابسته والتصلب في مجانبة أعداء الله تعالى، وحاصل هذا
على ما في الكشف أنه من فرض غير الواقع واقعا محسوسا حيث
نفى الوجدان على الصفة وأريد نفي انبغاء الوجدان على تلك
الصفة فجعل الواقع نفي الوجدان، وإنما الواقع نفي الانبغاء
فخيل أنه هو (1) فالتصوير في
__________
(1) قيل: يجعل ما لا يليق كالعدم لمشاركته له في عدم
الاعتداد به فتأمل اه منه.
(14/228)
جعل ما لا يمتنع ممتنعا، وقيل: المراد لا
تجد قوما كاملي الإيمان على هذه الحال، فالنفي باق على
حقيقته، والمراد بموادة المحادّين موالاتهم ومظاهرتهم،
والمضارع قيل: لحكاية الحال الماضية، ومَنْ حَادَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ ظاهر في الكافر وبعض الآثار ظاهر في شموله
للفاسق، والاخبار مصرحة بالنهي عن موالاة الفاسقين
كالمشركين بل قال سفيان: يرون أن الآية المذكورة نزلت فيمن
يخالط السلطان،
وفي حديث طويل أخرجه الطبراني والحاكم والترمذي عن واثلة
بن الأسقع مرفوعا «يقول الله تبارك وتعالى: وعزتي لا ينال
رحمتي من لم يوال أوليائي ويعاد أعدائي» .
وأخرج أحمد وغيره عن البراء بن عازب مرفوعا، أوثق الإيمان
الحب في الله والبغض في الله.
وأخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ قال: قال رسول الله
صلّى الله تعالى عليه وسلم: «اللهم لا تجعل لفاجر- وفي
رواية- ولا لفاسق علي يدا ولا نعمة فيودّه قلبي فإني وجدت
فيما أوحيت إلي لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ»
وحكى الكواشي عن سهل أنه قال: من صحح إيمانه وأخلص توحيده
فإنه لا يأنس إلى مبتدع ولا يجالسه ولا يؤاكله ولا يشاربه
ولا يصاحبه ويظهر له من نفسه العداوة والبغضاء، ومن داهن
مبتدعا سلبه الله تعالى حلاوة السنن، ومن تحبب إلى مبتدع
يطلب عز الدنيا أو عرضا منها أذله الله تعالى بذلك العز
وأفقره بذلك الغنى ومن ضحك إلى مبتدع نزع الله تعالى نور
الإيمان من قلبه، ومن لم يصدق فليجرب انتهى.
ومن العجيب أن بعض المنتسبين إلى المتصوفة- وليس منهم ولا
قلامة ظفر- يوالي الظلمة بل من لا علاقة له بالدين منهم
وينصرهم بالباطل ويظهر من محبتهم ما يضيق عن شرحه صدر
القرطاس، وإذا تليت عليه آيات الله تعالى وأحاديث رسوله
صلّى الله تعالى عليه وسلم الزاجرة عن مثل ذلك يقول:
سأعالج قلبي بقراءة نحو ورقتين من كتاب المثنوي الشريف
لمولانا جلال الدين القونوي قدس سره وأذهب ظلمته- إن كانت-
بما يحصل لي من الأنوار حال قراءته، وهذا لعمري هو الضلال
البعيد، وينبغي للمؤمنين اجتناب مثل هؤلاء وَلَوْ كانُوا
أي من حادّ الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، والجمع
باعتبار معنى من كما أن الإفراد فيما قبل باعتبار لفظها
آباءَهُمْ أي الموادين أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ
إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ فإن قضية الإيمان بالله
تعالى واليوم الآخر الذي يحشر المرء فيه مع من أحب أن
يهجروا الجميع بالمرة، وليس المراد بمن ذكر خصوصهم وإنما
المراد الأقارب مطلقا، وقدم الآباء لأنه يجب على أبنائهم
طاعتهم ومصاحبتهم في الدنيا بالمعروف، وثنى بالأبناء لأنهم
أعلق بهم لكونهم أكبادهم، وثلث بالأخوان لأنهم الناصرون
لهم:
أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح
وختم بالعشيرة لأن الاعتماد عليهم والتناصر بهم بعد
الإخوان غالبا:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن
شيبانا
إذا لقام بنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال
برهانا
وقرأ أبو رجاء «وعشائرهم» بالجمع أُولئِكَ إشارة إلى الذين
لا يوادّونهم وإن كانوا أقرب الناس إليهم وأمسهم رحما بهم
وما فيه من معنى البعد لرفعة درجتهم في الفضل، وهو مبتدأ
خبره قوله تعالى: كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ أي
أثبته الله تعالى فيها ولما كان الشيء يراد أولا ثم يقال
ثم يكتب عبر عن المبدأ
(14/229)
بالمنتهى للتأكيد والمبالغة، وفيه دليل على
خروج العمل من مفهوم- الإيمان- فإن جزء الثابت في القلب
ثابت فيه قطعا، ولا شيء من أعمال الجوارح يثبت فيه.
وقرأ أبو حيوة والمفضل عن عاصم «كتب» مبنيا للمفعول
«الإيمان» بالرفع على النيابة عن الفاعل.
وَأَيَّدَهُمْ أي قواهم بِرُوحٍ مِنْهُ أي من عنده عز وجل
على أن من ابتدائية، والمراد بالروح نور القلب وهو نور
يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده تحصل به
الطمأنينة والعروج على معارج التحقيق، وتسميته روحا مجاز
مرسل لأنه سبب للحياة الطيبة الأبدية، وجوز كونه استعارة،
وقول بعض الأجلة: إن نور القلب ما سماه الأطباء روحا وهو
الشعاع اللطيف المتكون من القلب- وبه الإدراك- فالروح على
حقيقته ليس بشيء كما لا يخفى، أو المراد به القرآن على
الاحتمالين السابقين، واختيرت الاستعارة أو جبريل عليه
السلام وذلك يوم بدر، وإطلاق الروح عليه شائع أقوال.
وقيل: ضمير مِنْهُ للإيمان، والمراد بالروح الإيمان أيضا،
والكلام على التجريد البديعي- فمن- بيانية أو ابتدائية على
الخلاف فيها، وإطلاق الروح على الإيمان على ما مر وقوله
تعالى: وَيُدْخِلُهُمْ إلخ بيان لآثار رحمته تعالى
الأخروية إثر بيان ألطافه سبحانه الدنيوية أي ويدخلهم في
الآخرة.
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ
فِيها أبد الآبدين، وقوله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
استئناف جار مجرى التعليل لما أفاض سبحانه عليهم من آثار
رحمته عز وجل العاجلة والآجلة، وقوله تعالى وَرَضُوا
عَنْهُ بيان لابتهاجهم بما أوتوه عاجلا وآجلا، وقوله
تعالى: أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ تشريف لهم ببيان اختصاصهم
به تعالى وقوله سبحانه: أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ بيان لاختصاصهم بسعادة الدارين والكلام في
تحلية الجملة- بإلا. وإن- على ما مر في أمثالها، والآية
قيل: نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه.
أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: حدثت أن أبا قحافة سب
النبي صلّى الله عليه وسلم فصكه أبو بكر صكة فسقط فذكر ذلك
للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال: أفعلت يا أبا بكر؟
قال: نعم، قال: لا تعد، قال: والله لو كان السيف قريبا مني
لضربته- وفي رواية- لقتلته فنزلت لا تَجِدُ قَوْماً
الآيات.
وقيل: في أبي عبيدة بن عبد الله بن الجراح، أخرج ابن أبي
حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن
ابن عباس عن عبد الله بن شوذب قال: جعل والد أبي عبيدة
يتصدى له يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه فلما أكثر قصده
أبو عبيدة فقتله فنزلت لا تَجِدُ إلخ، وفي الكشاف أن أبا
عبيدة قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد، وقال الواقدي
في قصة قتله إياه: كذلك يقول أهل الشام، وقد سألت رجالا من
بني فهر فقالوا: توفي أبوه قبل الإسلام أي في الجاهلية قبل
ظهور الإسلام انتهى.
والحق أنه قتله في بدر، أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال:
كان- أي أبو عبيدة- قتل أباه وهو من جملة أسارى بدر بيده
لما سمع منه في رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ما
يكره ونهاه فلم ينته، وقيل: نزلت فيه حيث قتل أباه.
وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز، وقال لرسول الله
صلّى الله تعالى عليه وسلم: دعني أكون في الرعلة الأولى-
وهي القطعة من الخيل- قال: «متعنا بنفسك يا أبا بكر ما
تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري»
وفي معصب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد وفي عمر
قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر. وفي علي كرم الله تعالى
وجهه وحمزة وعبيدة بن الحارث قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة
والوليد بن عتبة يوم بدر.
وتفصيل ذلك ما
رواه أبو داود عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لما كان
يوم بدر تقدم عتبة ابن ربيعة ومعه
(14/230)
ابنه وأخوه فنادى من يبارز- إلى قوله- فقال
رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قم يا حمزة قم يا علي قم
يا عبيدة بن الحارث»
فأقبل حمزة إلى عتبة وأقبلت إلى شيبة واختلفت بين عبيدة
والوليد ضربتان فأثخن كل منهما صاحبه ثم ملنا على الوليد
فقتلناه واحتملنا عبيدة.
هذا ورتب بعض المفسرين وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ
أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ على
قصة أبي عبيدة وأبي بكر ومعصب وعلي كرم الله تعالى وجهه
ومن معه، وقيل: إن قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً إلخ نزل
في حاطب ابن أبي بلتعة، والظاهر على ما قيل: إنه متصل
بالآي التي في المنافقين الموالين لليهود، وأيا ما كان
فحكم الآيات عام وإن نزلت في أناس مخصوصين كما لا يخفى،
والله تعالى أعلم.
(14/231)
سورة الحشر
قال البقاعي: وتسمى سورة- بني النضير- وأخرج البخاري وغيره
عن ابن جبير قال: قلت لابن عباس سورة الحشر، قال: قل: سورة
بني النضير، قال ابن حجر: كأنه كره تسميتها بالحشر لئلا
يظن أن المراد به يوم القيامة وإنما المراد هاهنا إخراج
بني النضير.
وهي مدنية، وآيها أربع وعشرون بلا خلاف، ومناسبتها لما
قبلها أن في آخر تلك كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا
وَرُسُلِي [المجادلة: 21] وفي أول هذه فَأَتاهُمُ اللَّهُ
مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ
الرُّعْبَ [الحشر:
2] وفي آخر تلك ذكر من حادّ الله ورسوله، وفي أول هذه ذكر
من شاقّ الله ورسوله، وأن في الأولى ذكر حال المنافقين
واليهود وتولي بعضهم بعضا، وفي هذه ذكر ما حل باليهود وعدم
إغناء تولي المنافقين إياهم شيئا، فقد روي أن بني النضير
كانوا قد صالحوا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم على
أن لا يكونوا عليه ولا له فلما ظهر يوم بدر قالوا: هو
النبي الذي نعت في التوراة لا تردّ له راية فلما هزم
المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في
أربعين راكبا إلى مكة فخالفوا عليه قريشا عند الكعبة فأخبر
جبريل عليه السلام الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم بذلك
فأمر بقتل كعب فقتله محمد بن سلمة غيلة وهو عروس بعد أن
أخذ بفود رأسه أخوه رضاعا أو نائلة سلكان بن سلامة أحد بني
عبد الأشهل، وكان عليه الصلاة والسلام قد اطلع منهم على
خيانة حين أتاهم يستعينهم في دية المسلمين من بني عامر
اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري عند منصرفه من بئر
معونة فهموا بطرح الحجر عليه صلى الله تعالى عليه وسلم
فعصمه الله تعالى، وبعد أن قتل كعب بأشهر على الصحيح لا
على الأثر كما قيل: أمر صلى الله تعالى عليه وسلم بالتهيؤ
لحربهم والسير إليهم وكان ذلك سنة أربع في شهر ربيع الأول
وكانوا بقرية يقال لها: الزهرة فسار المسلمون معه عليه
الصلاة والسلام وهو على حمار مخطوم بليف.
وقيل: على جمل واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم حتى إذا
نزل صلّى الله تعالى عليه وسلم بهم وجدهم ينوحون على كعب،
وقالوا: ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك فقال: اخرجوا من
المدينة فقالوا: الموت أقرب لنا من ذلك فتنادوا بالحرب،
وقيل: استمهلوه عليه الصلاة والسلام عشرة أيام ليتجهزوا
للخروج ودس المنافقون عبد الله بن أبيّ وأضرابه إليهم أن
لا يخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم ولننصرنكم وإن
أخرجتم لنخرجن معكم فدربوا على الأزقة وحصنوها ثم أجمعوا
على الغدر برسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقالوا:
اخرج في ثلاثين من أصحابك ويخرج منا ثلاثون ليسمعوا منك
فإن صدقوك آمنا كلنا ففعل فقالوا: كيف نفهم ونحن ستون اخرج
في ثلاثة ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا ففعل عليه الصلاة
والسلام فاشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك فأرسلت امرأة
منهم ناصحة إلى أخيها وكان مسلما فأخبرته بما أرادوا فأسرع
إلى الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم فسارّه بخبرهم قبل
أن
(14/232)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ
الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ
فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ
بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ
فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ
كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي
الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ
يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا
قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ
وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ
عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ
مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ
رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (6)
يصل إليهم فلما كان من الغد غدا عليهم
بالكتائب فحاصرهم- على ما قال ابن هشام في سيرته- ست ليال،
وقيل:
إحدى وعشرين ليلة فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب وأيسوا
من نصر المنافقين فطلبوا الصلح فأبى عليه الصلاة والسلام
عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما
شاؤوا من المتاع فجلوا إلى الشام إلى أريحا وأذرعات إلا
أهل بيتين منهم آل سلام ابن أبي الحقيق وآل كنانة بن
الربيع ابن أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فلحقوا بخيبر ولحقت
طائفة بالحيرة وقبض النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم
أموالهم وسلاحهم فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاثمائة
وأربعين سيفا وكان ابن أبيّ قد قال لهم: معي ألفان من قومي
وغيرهم أمدكم بها وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان فلما
نازلهم صلّى الله تعالى عليه وسلم اعتزلتهم قريظة وخذلهم
ابن أبيّ وحلفاؤهم من غطفان فأنزل الله تعالى قوله عز وجل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ إلى قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ [الحشر: 6] وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في
صدر سورة الحديد، وكرر الموصول هاهنا لزيادة التقرير
والتنبيه على استقلال كل من الفريقين بالتسبيح، وقوله
تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ بيان لبعض آثار عزته
تعالى وأحكام حكمته عز وجل إثر وصفه تعالى بالعزة القاهرة
والحكمة الباهرة على الإطلاق، والمراد- بالذين كفروا- بنو
النضير- بوزن الأمير- وهم قبيلة عظيمة من يهود خيبر كبني
قريظة، ويقال للحيين: الكاهنان لأنهما من ولد الكاهن بن
هارون كما في البحر، ويقال: إنهم نزلوا قريبا من المدينة
في فئة من بني إسرائيل انتظارا لخروج الرسول صلّى الله
عليه وسلم فكان من أمرهم ما قصه الله تعالى.
وقيل: إن موسى عليه السلام كان قد أرسلهم إلى قتل
العماليق، وقال لهم: لا تستحيوا منهم أحدا فذهبوا ولم
يفعلوا وعصوا موسى عليه السلام فلما رجعوا إلى الشام وجدوه
قد مات عليه السلام فقال لهم بنو إسرائيل: أنتم عصاة الله
تعالى والله لا دخلتم علينا بلادنا فانصرفوا إلى الحجاز
إلى أن كان ما كان، وروي عن الحسن أنهم بنو قريظة وهو وهم
كما لا يخفى، والجار الأول متعلق بمحذوف أي كائنين من أهل
الكتاب، والثاني متعلق- باخرج- وصحت إضافة الديار إليهم
لأنهم كانوا نزلوا برية لا عمران فيها فبنوا فيها وسكنوا،
وضمير هُوَ راجع إليه تعالى بعنوان العزة
(14/233)
والحكمة إما بناء على كمال ظهور اتصافه
تعالى بهما مع مساعدة تامة من المقام، أو على جعله مستعارا
لاسم الإشارة كما في قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى
قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ
[الأنعام: 46] أي بذلك فكأنه قيل: ذلك المنعوت بالعزة
والحكمة الذي أخرج إلخ، ففيه إشعار بأن في الإخراج حكمة
باهرة، وقوله تعالى: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ متعلق- بأخرج-
واللام لام التوقيت كالتي في قولهم: كتبته لعشر خلون.
ومآلها إلى معنى- في- الظرفية، ولذا قالوا هنا أي في أول
الحشر لكنهم لم يقولوا: إنها بمعنى- في- إشارة إلى أنها لم
تخرج عن أصل معناها وأنها للاختصاص لأن ما وقع في وقت اختص
به دون غيره من الأوقات، وقيل: إنها للتعليل وليس بذاك،
ومعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم إلى الشام أي أول ما
حشروا وأخرجوا، ونبه بالأولية على أنهم لم يصبهم جلاء قبل
ولم يجلهم بختنصر حين أجلى اليهود بناء على أنهم لم يكونوا
معهم إذ ذاك وإن نقلهم من بلاد الشام إلى أرض العرب كان
باختيارهم، أو لم يصبهم ذلك في الإسلام، أو على أنهم أول
محشورين من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام، ولا نظر
في ذلك إلى مقابلة الأول بالآخر، وبعضهم يعتبرها فمعنى أول
الحشر أن هذا أول حشرهم وآخر حشرهم إجلاء عمر رضي الله
تعالى عنه إياهم من خيبر إلى الشام، وقيل: آخر حشرهم حشرهم
يوم القيامة لأن المحشر يكون بالشام.
وعن عكرمة من شك أن المحشر هاهنا يعني الشام فليقرأ هذه
الآية، وكأنه أخذ ذلك من أن المعنى الأول حشرهم إلى الشام
فيكون لهم آخر حشر إليه أيضا ليتم التقابل، وهو يوم
القيامة من القبور، ولا يخفى أنه ضعيف الدلالة وفي البحر
عن عكرمة والزهري أنهما قالا: المعنى لأول موضوع الحشر وهو
الشام،
وفي الحديث أنه صلّى الله عليه وسلم قال لهم: «اخرجوا
قالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر»
ولا يخفى ضعف هذا المعنى أيضا، وقيل: آخر حشرهم أن نارا
تخرج قبل الساعة فتحشرهم كسائر الناس من المشرق إلى
المغرب، وعن الحسن أنه أريد حشر القيامة أي هذا أوله
والقيام من القبور آخره، وهو كما ترى، وقيل: المعنى أخرجهم
من ديارهم لأول جمع حشره النبي صلّى الله عليه وسلم أو
حشره الله عز وجل لقتالهم لأنه صلّى الله تعالى عليه وسلم
لم يكن قبل قصد قتالهم، وفيه من المناسبة لوصف العزة ما لا
يخفى، ولذا قيل: إنه الظاهر، وتعقب بأن النبي صلّى الله
عليه وسلم لم يكن جمع المسلمين لقتالهم في هذه المرة أيضا
ولذا ركب عليه الصلاة والسلام حمارا مخطوما بليف لعدم
المبالاة بهم وفيه نظر، وقيل: لأول جمعهم للمقاتلة من
المسلمين لأنهم لم يجتمعوا لها قبل، والحشر إخراج جمع سواء
كان من الناس لحرب أو لا، نعم يشترط فيه كون المحشور جمعا
من ذوي الأرواح لا غير، ومشروعية الإجلاء كانت في ابتداء
الإسلام، وأما الآن فقد نسخت، ولا يجوز إلا القتل أو السبي
أو ضرب الجزية ما ظَنَنْتُمْ أيها المسلمون أَنْ
يَخْرُجُوا لشدة بأسهم ومنعتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم
وعدتهم.
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ
اللَّهِ أي ظنوا أن حصونهم مانعتهم أو تمنعهم من بأس الله
تعالى- فحصونهم- مبتدأ ومانِعَتُهُمْ خبر مقدم، والجملة
خبر أَنْ وكان الظاهر لمقابلة ما ظَنَنْتُمْ أَنْ
يَخْرُجُوا وظنوا أن لا يخرجوا والعدول إلى ما في النظم
الجليل للإشعار بتفاوت الظنين، وأن ظنهم قارب اليقين فناسب
أن يؤتى بما يدل على فرط وثوقهم بما هم فيه فجيء-
بمانعتهم. وحصونهم- مقدما فيه الخبر على المبتدأ ومدار
الدلالة التقديم لما فيه من الاختصاص فكأنه لا حصن أمنع من
حصونهم، وبما يدل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة
ومنعة لا يبالي معهما بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم،
فجيء بضمير- هم- وصير اسما- لأن- وأخبر عنه بالجملة لما في
ذلك من التقوى على ما في الكشف وشرح الطيبي، وفي كون ذلك
من باب التقوى بحث، ومنع
(14/234)
بعضهم جواز الاعراب السابق بناء على أن
تقديم الخبر المشتق على المبتدأ المحتمل للفاعلية لا يجوز
كتقديم الخبر إذا كان فعلا، وصحح الجواز في المشتق دون
الفعل، نعم اختار صاحب الفرائد أن يكون «حصونهم» فاعلا-
لمانعتهم- لاعتماده على المبتدأ.
وجوز كون مانِعَتُهُمْ مبتدأ خبره حُصُونُهُمْ، وتعقب بأن
فيه الاخبار عن النكرة بالمعرفة إن كانت إضافة مانعة
لفظية، وعدم كون المعنى على ذلك إن كانت معنوية بأن قصد
استمرار المنع فتأمل، وكانت حُصُونُهُمْ على ما قيل أربعة:
الكتيبة والوطيح والسلالم والنطاة، وزاد بعضهم الوخدة (1)
وبعضهم شقا، والذي في القاموس أنه موضع بخيبر أو واد به
فَأَتاهُمُ اللَّهُ أي أمره سبحانه، وقدره عز وجل المتاح
لهم مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ولم يخطر ببالهم وهو
على ما روي عن السدي وأبي صالح وابن جريج قتل رئيسهم كعب
بن الأشرف فإنه مما أضعف قوتهم وقلّ شوكتهم وسلب قلوبهم
الأمن والطمأنينة، وقيل: ضمير فَأَتاهُمُ ولَمْ
يَحْتَسِبُوا للمؤمنين أي فأتاهم نصر الله من حيث لم
يحتسبوا، وفيه تفكيك الضمائر.
وقرىء فآتاهم الله، وهو حينئذ متعدّ لمفعولين ثانيهما
محذوف. أي فآتاهم الله العذاب أو النصر وَقَذَفَ فِي
قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي الخوف الشديد من رعبت الحوض إذ
ملأته لأنه يتصور فيه أنه ملأ القلب، وأصل القذف الرمي
بقوة أو من بعيد، والمراد به هنا للعرف إثبات ذلك وركزه في
قلوبهم.
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ليسدوا بما نقضوا
منها من الخشب والحجارة أفواه الأزقة، ولئلا تبقى صالحة
لسكنى المسلمين بعد جلائهم ولينقلوا بعض آلاتها المرغوب
فيها مما يقبل النقل كالخشب والعمد والأبواب وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ حيث كانوا يخربونها من خارج ليدخلوها عليهم
وليزيلوا تحصنهم بها وليتسع مجال القتال ولتزداد نكايتهم،
ولما كان تخريب أيدي المؤمنين بسبب أمر أولئك اليهود كان
التخريب بأيدي المؤمنين كأنه صادر عنهم، وبهذا الاعتبار
عطفت أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ على- أيديهم- وجعلت آلة
لتخريبهم مع أن الآلة هي أيديهم أنفسهم- فيخربون- على هذا
إما من الجمع بين الحقيقة والمجاز أو من عموم المجاز،
والجملة إما في محل نصب على الحالية من ضمير قُلُوبِهِمُ
أو لا محل لها من الإعراب، وهي إما مستأنفة جواب عن سؤال
تقديره فما حالهم بعد الرعب؟ أو معه أو تفسير للرعب بادعاء
الاتحاد لأن ما فعلوه يدل على رعبهم إذ لولاه ما خربوها.
وقرأ قتادة والجحدري ومجاهد وأبو حيوة وعيسى وأبو عمرو
«يخرّبون» بالتشديد وهو للتكثير في الفعل أو في المفعول،
وجوز أن يكون في الفاعل، وقال أبو عمرو بن العلاء: خرب
بمعنى هدم وأفسد، وأخرب ترك الموضوع خرابا وذهب عنه،
فالإخراب يكون أثر التخريب، وقيل: هما بمعنى عدى خرب
اللازم بالتضعيف تارة وبالهمزة أخرى فَاعْتَبِرُوا يا
أُولِي الْأَبْصارِ فاتعظوا بما جرى عليهم من الأمور
الهائلة على وجه لا تكاد تهتدي إليه الأفكار، واتقوا
مباشرة ما أداهم إليه من الكفر والمعاصي، واعبروا من حالهم
في غدرهم واعتمادهم على غير الله تعالى- الصائرة سببا
لتخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم ومفارقة أوطانهم
مكرهين- إلى حال أنفسكم فلا تعولوا على تعاضد الأسباب
وتعتمدوا على غيره عز وجل بل توكلوا عليه سبحانه.
واشتهر الاستدلال بالآية على مشروعية العمل بالقياس
الشرعي، قالوا: إنه تعالى أمر فيها بالاعتبار وهو العبور
__________
(1) قوله: الكتيبة التاء المثناة والتصغير. والوطيح بفتح
الواو وكسر الطاء وبالمهملة. والسلالم بضم السين، وقيل:
بفتحها. ويقال فيه:
السلاليم. والنطاة من النطو. والوخدة بفتح الواو وسكون
المعجمة بعدها مهملة اه منه.
(14/235)
والانتقال من الشيء إلى غيره، وذلك متحقق
في القياس إذا فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع، ولذا قال
ابن عباس في الأسنان: اعتبر حكمها بالأصابع في أن ديتها
متساوية، والأصل في الإطلاق الحقيقة وإذ ثبت الأمر- وهو
ظاهر في الطلب الغير الخارج عن اقتضاء الوجوب أو الندب-
ثبتت مشروعية العمل بالقياس، واعترض بعد تسليم ظهور الأمر
في الطلب بأنا لا نسلم أن الاعتبار ما ذكر بل هو عبارة عن
الاتعاظ لأنه المتبادر حيث أطلق، ويقتضيه في الآية ترتيبه
بالفاء على ما قبله كما في قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ
لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [آل عمران: 13، النور:
44] وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً [النحل:
66] ولأن القائس في الفرع إذا قدم على المعاصي ولم يتفكر
في أمر آخرته يقال:
إنه غير معتبر، ولو كان القياس هو الاعتبار- لم يصح هذا
السلب- سلمنا لكن ليس في الآية صيغة عموم تقتضي العمل بكل
قياس بل هي مطلقة- فيكفي في العمل بها العمل بالقياس
العقلي- سلمنا لكن العام مخصص بالاتفاق إذ قلتم: إنه إذا
قال لوكيله: أعتق غانما لسواده لا يجوز تعديه ذلك إلى
سالم، وإن كان أسود، وهو بعد التخصيص لا يبقى حجة فيما عدا
محل التخصيص سلمنا غير أن الخطاب مع الموجودين وقته فيختص
بهم، وأجيب بأنه لو كان الاعتبار بمعنى الاتعاظ حيث أطلق
لما حسن قولهم: اعتبر فاتعظ لما يلزم فيه حينئذ من ترتب
الشيء على نفسه وترتيبه في الآية على ما قبله لا يمنع كونه
بمعنى الانتقال المذكور لأنه متحقق في الاتعاظ إذ المتعظ
بغيره منتقل من العلم بحال ذلك الغير إلى العلم بحال نفسه
فكان مأمورا به من جهة ما فيه من الانتقال- وهو القياس.
والآيتان على ذلك- ولا يصح غير معتبر في القائس العاصي
نظرا إلى كونه قائسا، وإنما صح ذلك نظرا إلى أمر الآخرة،
وأطلق النفي نظرا إلى أنه أعظم المقاصد وقد أخل به، والآية
إن دلت على العموم فذاك وإن دلت على الإطلاق وجب الحمل على
القياس الشرعي لأن الغالب من الشارع مخاطبتنا بالأمور
الشرعية دون غيرها، وقد برهن على أن العام بعد التخصيص
حجة، وشمول حكم خطاب الموجودين لغيرهم إلى يوم القيامة قد
انعقد الإجماع عليه، ولا يضر الخلاف في شمول اللفظ وعدمه
على أنه إن عم أو لم يعم هو حجة على الخصوم في بعض محل
النزاع، ويلزم من ذلك الحكم في الباقي ضرورة أنه لا يقول
بالفرق.
هذا وقال الخفاجي في وجه الاستدلال: قالوا: إنا أمرنا في
هذه الآية بالاعتبار وهو ردّ الشيء إلى نظيره بأن يحكم
عليه بحكمه، وهذا يشمل الاتعاظ والقياس العقلي والشرعي،
وسوق الآية الاتعاظ فتدل عليه عبارة وعلى القياس إشارة،
وتمام الكلام على ذلك في الكتب الأصولية وَلَوْلا أَنْ
كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ أي الإخراج أو الخروج
عن أوطانهم على ذلك الوجه الفظيع لَعَذَّبَهُمْ فِي
الدُّنْيا بالقتل كأهل بدر وغيرهم أو كما فعل سبحانه ببني
قريظة في سنة خمس إذ الحكمة تقتضيه لو لم يكتب الجلاء
عليهم، وجاء أجليت القوم عن منازلهم أي أخرجتهم عنها
وأبرزتهم، وجلوا عنها خرجوا أو برزوا، ويقال أيضا: جلاهم
وفرق بعضهم بين الجلاء والإخراج بأن الجلاء ما كان مع
الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.
وقال الماوردي: الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج قد
يكون لواحد ولجماعة، ويقال فيه: الجلأ مهموزا من غير ألف
كالنبأ، وبذلك قرأ الحسن بن صالح وأخوه علي بن صالح وطلحة،
وأن مصدرية لا مخففة واسمها ضمير شأن كما توهمه عبارة
الكشاف، وقد صرح بذلك الرضي، وقوله تعالى: وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ استئناف غير متعلق بجواب
لَوْلا أي إنهم إن نجوا من عذاب الدنيا وهو القتل لأمر أشق
عليهم وهو الجلاء لم ينجوا من عذاب الآخرة فليس تمتعهم
أياما قلائل بالحياة وتهوين أمر الجلاء على أنفسهم بنافع،
وفيه إشارة إلى أن القتل أشدّ من الجلاء لا لذاته بل لأنهم
يصلون عنده إلى عذاب النار، وإنما أوثر الجلاء لأنه أشق
عندهم وأنهم غير معتقدين لما
(14/236)
أمامهم من عذاب النار أو معتقدون ولكن لا
يبالون به بالة ولم تجعل حالية لاحتياجها للتأويل لعدم
المقارنة.
ذلِكَ أي ما نزل بهم وما سينزل بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم
شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وفعلوا ما فعلوا من القبائح
وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ وقرأ طلحة يشاقق بالفك كما في
الأنفال، والاقتصار على ذكر مشاقته عز وجل لتضمنها مشاقته
عليه الصلاة والسلام، وفيه من تهويل أمرها ما فيه، وليوافق
قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وهذه
الجملة إما نفس الجزاء، وقد حذف منه العائد إلى من عند من
يلتزمه أي شديد العقاب له أو تعليل للجزاء المحذوف أي
يعاقبه الله فإن الله شديد العقاب، وأيا ما كان فالشرطية
تكملة لما قبلها وتقرير لمضمونه وتحقيق للسببية بالطريق
البرهاني كأنه قيل: ذلك الذي نزل وسينزل بهم من العقاب
بسبب مشاقتهم لله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم،
وكل من يشاق الله تعالى كائنا من كان فله بسبب ذلك عقاب
شديد فإذا لهم عقاب شديد ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ هي
النخلة مطلقا على ما قال الحسن ومجاهد وابن زيد وعمرو بن
ميمون والراغب وهي فعلة من اللون وياؤها مقلوبة من واو
لكسر ما قبلها كديمة، وتجمع على ألوان، وقال ابن عباس
وجماعة من أهل اللغة: هي النخلة ما لم تكن عجوة، وقال أبو
عبيدة وسفيان: ما تمرها لون وهو نوع من التمر، قال سفيان:
شديد الصفرة يشف عن نواه فيرى من خارج، وقال أبو عبيدة
أيضا: هي ألوان النخل المختلطة التي ليس فيها عجوة ولا
برني،
وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: هي العجوة
، وقال الأصمعي: هي الدقل، وقيل: هي النخلة القصيرة، وقال
الثوري: الكريمة من النخل كأنهم اشتقوها من اللين فتجمع
على لين، وجاء جمعها ليانا كما في قول امرئ القيس:
وسالفة كسوق الليا ... ن أضرم فيه القويّ السعر
وقيل: هي أغصان الأشجار للينها، وهو قول شاذ، وأنشدوا على
كونها بمعنى النخلة سواء كانت من اللون أو من اللين قول ذي
الرمة:
كأن قنودي فوقها عش طائر ... على لينة سوقاء تهفو جنوبها
ويمكن أن يقال: أراد باللينة النخلة الكريمة لأنه يصف
الناقة بالعراقة في الكرم فينبغي أن يرمز في المشبه به إلى
ذلك المعنى، وما شرطية منصوبة- بقطعتم- ومِنْ لِينَةٍ بيان
لها، ولذا أنث الضمير في قوله تعالى:
أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها أي أبقيتموها
كما كانت ولم تتعرضوا لها بشيء ما، وجواب الشرط قوله
سبحانه: فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي فذلك أي قطعها أو تركها
بأمر الله تعالى الواصل إليكم بواسطة رسوله صلّى الله عليه
وسلم أو بإرادته سبحانه ومشيئته عز وجل، وقرأ عبد الله
والأعمش وزيد بن علي- قوما- على وزن فعل كضرب جمع قائم،
وقرىء- قائما- اسم فاعل مذكر على لفظ ما، وأبقى أصولها على
التأنيث، وقرىء- أصلها- بضمتين، وأصله أُصُولِها فحذفت
الواو اكتفاء بالضمة أو هو كرهن بضمتين من غير حذف وتخفيف.
وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ متعلق بمقدر على أنه علة له
وذلك المقدر عطف على مقدر آخر أي ليعز المؤمنين وليخزي
الفاسقين أي ليذلهم أذن عز وجل في القطع والترك، وجوز فيه
أن يكون معطوفا على قوله تعالى: بإذن اللَّهِ وتعطف العلة
على السبب فلا حاجة إلى التقدير فيه، والمراد- بالفاسقين-
أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب، ووضع الظاهر موضع المضمر
إشعارا بعلة الحكم، واعتبار القطع والترك في المعلل هو
الظاهر وإخزاؤهم بقطع اللينة لحسرتهم على ذهابها بأيدي
أعدائهم المسلمين وبتركها لحسرتهم على بقائها في أيدي
أولئك الأعداء كذا في الانتصاف.
قال بعضهم: وهاتان الحسرتان تتحققان كيفما كانت المقطوعة
والمتروكة لأن النخل مطلقا مما يعز على أصحابه فلا تكاد
تسمح أنفسهم بتصرف أعدائهم فيه حسبما شاؤوا وعزته على
صاحبه الغارس له أعظم من عزته على
(14/237)
صاحبه غير الغارس له، وقد سمعت بعض
الغارسين يقول: السعفة عندي كأصبع من أصابع يدي، وتحقق
الحسرة على الذهاب إن كانت المقطوعة النخلة الكريمة أظهر،
وكذا تحققها على البقاء في أيدي أعدائهم المسلمين إن كانت
هي المتروكة، والذي تدل عليه بعض الآثار أن بعض الصحابة
كان يقطع الكريمة وبعضهم يقطع غيرها وأقرهما النبي صلّى
الله عليه وسلم لما أفصح الأول بأن غرضه إغاظة الكفار،
والثاني بأنه استبقاء الكريمة للمسلمين، وكان ذلك أول نزول
المسلمين على أولئك الكفرة ومحاصرتهم لهم، فقد روي أنه
عليه الصلاة والسلام أمر في صدر الحرب بقطع نخيلهم فقالوا:
يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل
وتحريقها؟ فنزلت الآية ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ إلخ،
ولم يتعرض فيها للتحريق لأنه في معنى القطع فاكتفى به عنه،
وأما التعرض للترك مع أنه ليس بفساد عندهم أيضا فلتقرير
عدم كون القطع فسادا لنظمه في سلك ما ليس بفساد إيذانا
بتساويهما في ذلك.
واستدل بالآية على جواز هدم ديار الكفرة وقطع أشجارهم
وإحراق زروعهم زيادة لغيظهم، وحاصل ما ذكره الفقهاء في
المسألة أنه إن علم بقاء ذلك في أيدي الكفرة فالتخريب
والتحريق أولى، وإلا فالإبقاء أولى ما لم يتضمن ذلك مصلحة،
وقوله تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ
شروع في بيان حال ما أخذ من أموالهم بعد بيان ما حل
بأنفسهم من العذاب العاجل والآجل وما فعل بديارهم ونخيلهم
من التخريب والقطع أي ما أعاده الله تعالى إلى رسوله صلّى
الله عليه وسلم من أولئك الكفرة- وهم بنو النضير- وما
موصولة مبتدأ، والجملة بعدها صلة، والعائد محذوف كما أشرنا
إليه، والجملة المتقرنة بالفاء بعد خبر، ويجوز كونها
شرطية، والجملة بعد جواب، والمراد بما أفاء سبحانه عليه
صلى الله تعالى عليه وسلم منهم أموالهم التي بقيت بعد
جلائهم، والمراد بإعادتها عليه الصلاة والسلام تحويلها
إليه، وهو إن لم يقتض سبق حصولها له صلّى الله عليه وسلم
نظير ما قيل في قوله تعالى: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي
مِلَّتِنا [الأعراف: 88، إبراهيم: 13] ظاهر وإن اقتضى سبق
الحصول كان فيما ذكر مجازا، وفيه إشعار بأنها كانت حرية
بأن تكون له صلّى الله عليه وسلم وإنما وقعت في أيديهم
بغير حق فأرجعها الله تعالى إلى مستحقها، وكذا شأن جميع
أموال الكفرة التي تكون فيئا للمؤمنين لأن الله عز وجل خلق
الناس لعبادته وخلق ما خلق من الأموال ليتوسلوا به إلى
طاعته فهو جدير بأن يكون للمطيعين، ولذا قيل للغنيمة التي
لا تلحق فيها مشقة: فيء مع أنه من فاء الظل إذا رجع، ونقل
الراغب عن بعضهم أنه سمي بذلك تشبيها بالفيء الذي هو الظل
تنبيها على أن أشرف أعراض الدنيا يجري مجرى ظل زائل،
وأَفاءَ على ما في البحر بمعنى المضارع أما إذا كانت ما
شرطية فظاهر، وأما إذا كانت موصوله فلأنها إذا كانت الفاء
في خبرها تكون مشبهة باسم الشرط فان كانت الآية نازلة قبل
جلائهم كانت مخبرة بغيب، وإن كانت نزلت بعد جلائهم وحصول
أموالهم في يد الرسول صلّى الله عليه وسلم كانت بيانا لما
يستقبل، وحكم الماضي حكمه، والذي يدل عليه الإخبار أنها
نزلت بعد، روي أن بني النضير لما أجلوا عن أوطانهم وتركوا
رباعهم وأموالهم طلب المسلمون تخميسها كغنائم بدر فنزل ما
أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ
عَلَيْهِ إلخ فكانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم خاصة،
فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي
وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: كانت
أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله صلّى الله
تعالى عليه وسلم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب
وكانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم خاصة فكان ينفق على
أهله منها نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة
في سبيل الله تعالى.
وقال الضحاك: كانت له صلّى الله عليه وسلم خاصة فآثر بها
المهاجرين وقسمها عليهم ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا أبا
دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة أعطاهم
لفقرهم، وذكر نحوه ابن هشام إلا أنه ذكر
(14/238)
مَا أَفَاءَ اللَّهُ
عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ
دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ
دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ
اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا
الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ
هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ
حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ
جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ
لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا
بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا
لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
الأولين ولم يذكر الحارث، وكذا لم يذكره
ابن سيد الناس، وذكر أنه أعطى سعد بن معاذ سيفا لابن أبي
الحقيق كان له ذكر عندهم، ومعنى ما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ
ما أجريتم على تحصيله من الوجيف وهو سرعة السير، وأنشد
عليه أبو حيان قول نصيب:
ألا ربّ ركب قد قطعت وجيفهم ... إليك ولولا أنت لم توجف
الركب
وقال ابن هشام: «أوجفتم» حركتم وأتعبتم في السير، وأنشد
قول تميم بن مقبل:
مذاويد بالبيض الحديث صقالها ... عن الركب أحيانا إذا
الركب أوجفوا
والمآل واحد، ومِنْ في قوله تعالى: مِنْ خَيْلٍ زائدة في
المفعول للتنصيص على الاستغراق كأنه قيل- فما أوجفتم عليه-
فردا من أفراد الخيل أصلا وَلا رِكابٍ ولا ما يركب من
الإبل غلب فيه كما غلب الراكب على راكبه فلا يقال في
الأكثر الفصيح: راكب لمن كان على فرس أو حمار ونحوه بل
يقال: فارس ونحوه، وإن كان ذلك عاما لغيره وضعا، وإنما لم
يعملوا الخيل ولا الركاب بل مشوا إلى حصون بني النضير
رجالا إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه كان
على الحمار. أو على جمل- كما تقدم- لأنها قريبة على نحو
ميلين من المدينة فهي قريبة جدا منها، وكان المراد أن ما
حصل لم يحصل بمشقة عليكم وقتال يعتدّ به منكم، ولهذا لم
يعط صلّى الله تعالى عليه وسلم الأنصار إلا من سمعت، وأما
إعطاؤه المهاجرين فلعله لكونهم غرباء فنزلت غربتهم منزلة
السفر والجهاد، ولما أشير إلى نفي كون حصول ذلك بعملهم
أشير إلى علة حصوله بقوله عز وجل: وَلكِنَّ اللَّهَ
يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ أي ولكن سنته عز وجل
جارية على أن يسلط رسله على من يشاء من أعدائهم تسليطا
خاصا، وقد سلط رسوله محمدا صلّى الله تعالى عليه وسلم على
هؤلاء تسليطا غير معتاد من غير أن تقتحموا مضايق الخطوب
وتقاسوا شدائد الحروب فلا حق لكم في أموالهم، ويكون أمرها
مفوضا إليه صلّى الله تعالى عليه وسلم وَاللَّهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيفعل ما يشاء كما يشاء تارة على
الوجوه المعهودة، وأخرى على غيرها، وقيل: الآية في فدك لأن
بني النضير حوصروا وقوتلوا دون أهل فدك وهو خلاف ما صحت به
الأخبار، والواقع من القتال شيء لا يعتد به.
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى
فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى
وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ بيان لحكم ما أفاءه
الله تعالى على رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم من قرى
الكفار على العموم بعد بيان حكم ما أفاءه من بني النضير
كما رواه القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج عن محمد بن إسحاق
عن الزهري عن عمر بن
(14/239)
الخطاب رضي الله تعالى عنه، ويشعر به كلامه
رضي الله تعالى عنه في حديث طويل فيه مرافعة علي كرم الله
تعالى وجهه والعباس في أمر فدك أخرجه البخاري ومسلم وأبو
داود والترمذي والنسائي وغيرهم فالجملة جواب سؤال مقدر
ناشىء مما فهم من الكلام السابق فكأن قائلا يقول: قد علمنا
حكم ما أفاء الله تعالى من بني النضير فما حكم ما أفاء عز
وجل من غيرهم؟ فقيل: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ
مِنْ أَهْلِ الْقُرى إلخ، ولذا لم يعطف على ما تقدم، ولم
يذكر في الآية قيد الإيجاف ولا عدمه، والذي يفهم من كتب
بعض الشافعية أن ما تضمنته حكم الفيء لا الغنيمة ولا
الأعم، وفرقوا بينهما قالوا: الفيء ما حصل من الكفار بلا
قتال وإيجاف خيل وركاب كجزية وعشر تجارة، وما صولحوا عليه
من غير نحو قتال وما جلوا عنه خوفا قبل تقابل الجيشين أما
بعده فغنيمة، وما لمرتد قتل أو مات على ردته، وذمي أو
معاهد أو مستأمن مات بلا وارث مستغرق، والغنيمة ما حصل من
كفار أصليين حربيين بقتال، وفي حكمه تقابل الجيشين أو
إيجاف منا لا من ذميين فإنه لهم ولا يخمس وحكمها مشهور.
وصرح غير واحد من أصحابنا بالفرق أيضا نقلا عن المغرب
وغيره فقالوا: الغنيمة ما نيل من الكفار عنوة والحرب قائمة
وحكمها أن تخمس، وباقيها للغانمين خاصة. والفيء ما نيل
منهم بعد وضع الحرب أوزارها وصيرورة الدار دار إسلام،
وحكمه أن يكون لكافة المسلمين ولا يخمس أي يصرف جميعه
لمصالحهم ونقل هذا الحكم ابن حجر عمن عدا الشافعي رضي الله
تعالى عنه من الأئمة الثلاثة، والتخميس عنه استدلالا
بالقياس على الغنيمة المخمسة بالنص بجامع أن كلا راجع
إلينا من الكفار، واختلاف السبب بالقتال وعدمه لا يؤثر،
والذي نطقت به الأخبار الصحيحة أن عمر رضي الله تعالى عنه
صنع في سواد العراق ما تضمنته الآية، واعتبرها عامة
للمسلمين محتجا بها على الزبير وبلال وسلمان الفارسي
وغيرهم حيث طلبوا منه قسمته على الغانمين بعقاره وعلوجه،
ووافقه على ما أراد علي وعثمان وطلحة والأكثرون بل
المخالفون أيضا بعد أن قال خاطبا: اللهم اكفني بلالا
وأصحابه مع أن المشهور في كتب المغازي أن السواد فتح عنوة،
وهو يقتضي كونه غنيمة فيقسم بين الغانمين، ولذا قال بعض
الشافعية: إن عمر رضي الله تعالى عنه استطاب قلوب الغانمين
حتى تركوا حقهم فاسترد السواد على أهله بخراج يؤدونه في كل
سنة فليراجع وليحقق، وما جعله الله تعالى من ذلك لمن تضمنه
قوله تعالى: فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إلى ابْنِ السَّبِيلِ
هو خمس الفيء على ما نص عليه بعض الشافعية، ويقسم هذا
الخمس خمسة أسهم: لمن ذكر الله عز وجل وسهمه سبحانه وسهم
رسوله واحد، وذكره تعالى- كما روي عن ابن عباس والحسن بن
محمد بن الحنفية- افتتاح كلام للتيمن والتبرك فإن لله ما
في السماوات وما في الأرض، وفيه تعظيم لشأن الرسول عليه
الصلاة والسلام.
وقال أبو العالية: سهم الله تعالى ثابت يصرف إلى بناء
بيته- وهو الكعبة المشرفة- إن كانت قريبة وإلا فإلى مسجد
كل بلدة ثبت فيها الخمس، ويلزمه أن السهام كانت ستة وهو
خلاف المعروف عن السلف في تفسير ذلك، وسهم الرسول صلّى
الله تعالى عليه وسلم قد كان له في حياته بالإجماع- وهو
خمس الخمس- وكان ينفق منه على نفسه وعياله ويدخر منه مؤونة
سنة أي لبعض زوجاته ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، وسقط
عندنا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام قالوا: لأن عمل
الخلفاء الراشدين على ذلك- وهم أمناء الله تعالى على دينه-
ولأن الحكم معلق بوصف مشتق- وهو الرسول- فيكون مبدأ
الاشتقاق- وهو الرسالة- علة ولم توجد في أحد بعده، وهذا
كما سقط الصفي.
ونقل عن الشافعي أنه يصرف للخليفة بعده لأنه عليه الصلاة
والسلام كان يستحقه لإمامته دون رسالته ليكون ذلك أبعد عن
توهم الأجر على الإبلاغ، والأكثرون من الشافعية أن ما كان
له صلّى الله تعالى عليه وسلم من خمس
(14/240)
الخمس يصرف لمصالح المسلمين كالثغور، وقضاة
البلاد والعلماء المشتغلين بعلوم الشرع وآلاتها ولو
مبتدئين، والأئمة والمؤذنين ولو أغنياء، وسائر من يشتغل عن
نحو كسبه بمصالح المسلمين لعموم نفعهم، وألحق بهم العاجزون
عن الكسب والعطاء إلى رأي الإمام معتبرا سعة المال وضيقه،
ويقدم الأهم فالأهم وجوبا وأهمها سد الثغور، ورد سهمه صلّى
الله تعالى عليه وسلم بعد وفاته للمسلمين الدال عليه
قوله عليه الصلاة والسلام في الخبر الصحيح: «مالي مما أفاء
الله تعالى عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم»
صادق بصرفه لمصالح المسلمين كما أنه صادق بضمه إلى السهام
الباقية فيقسم معها على سائر الأصناف، ولا يسلم ظهوره في
هذا دون ذاك، وسهم لذي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين
وسهم لابن السبيل فهذه خمسة أسهم الخمس، والمراد بذي
القربى قرابته صلّى الله عليه وسلم، والمراد بهم بنو هاشم
وبنو المطلب لأنه صلّى الله عليه وسلم وضع السهم فيهم دون
بني أخيهما شقيقهما عبد شمس، ومن ذريته عثمان وأخيهما
لأبيهما نوفل مجيبا عن ذلك
بقوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «نحن وبنو المطلب شيء
واحد»
وشبك بين أصابعه رواه البخاري أي لم يفارقوا بني هاشم في
نصرته صلّى الله تعالى عليه وسلم جاهلية ولا إسلاما، وكأنه
لمزيد تعصبهم وتواقفهم- حتى كأنهم على قلب رجل واحد- قيل:
لذي القربى دون لذوي بالجمع.
قال الشافعية: يشترك في هذا السهم الغني والفقير لإطلاق
الآية ولإعطائه صلّى الله تعالى عليه وسلم العباس وكان
غنيا، بل قيل: كان له عشرون عبدا يتجرون له، والنساء لأن
فاطمة وصفية عمة أبيها رضي الله تعالى عنهما كانا يأخذان
منه، ويفضل الذكر كالإرث بجامع أنه استحقاق بقرابة الأب
فله مثل حظّي الأنثى، ويستوي فيه العالم والصغير وضدهما،
ولو أعرضوا عنه لم يسقط كالارث، ويثبت كون الرجل هاشميا أو
مطلبيا بالبينة، وذكر جمع أنه لا بد معها من الاستفاضة،
وبقول الشافعي قال أحمد، وعند مالك الأمر مفوض إلى الإمام
إن شاء قسم بينهم وإن شاء أعطى بعضهم دون بعض وإن شاء أعطى
غيرهم وإن كان أمره أهم من أمرهم.
وقال المزني والثوري: يستوي الذكر والأنثى ويدفع للقاصي
والداني ممن له قرابة، والغني والفقير سواء لإطلاق النص،
ولأن الحكم المعلق بوصف مشتق معلل بمبدأ الاشتقاق، وعندنا
ذو القربى مخصوص ببني هاشم وبني المطلب للحديث إلا أنهم
ليس لهم سهم مستقل ولا يعطون مطلقا، وإنما يعطى مسكينهم
ويتيمهم وابن سبيلهم لاندراجه في الْيَتامى وَالْمَساكِينِ
وَابْنِ السَّبِيلِ لكن يقدمون على غيرهم من هذه الأصناف
لأن الخلفاء الثلاثة لم يخرجوا لهم سهما مخصوصا، وإنما
قسموا الخمس ثلاثة أسهم: سهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم
لابن السبيل، وعلي كرم الله تعالى وجهه في خلافته لم
يخالفهم في ذلك مع مخالفته لهم في مسائل، ويحمل على الرجوع
إلى رأيهم إن صح عنه أنه كان يقول: سهم ذوي القربى على ما
حكي عن الشافعي، وفائدة ذكرهم على القول بأن استحقاقهم
لوصف آخر غير القرابة كالفقر دفع توهم أن الفقير منهم مثلا
لا يستحق شيئا لأنه من قبيل الصدقة ولا تحل لهم، ومن تتبع
الأخبار وجد فيها اختلافا كثيرا ومنها ما يدل على أن
الخلفاء كانوا يسهمونهم مطلقا، وهو رأي علماء أهل البيت،
واختار بعض أصحابنا أن المذكور في الآية مصارف الخمس على
معنى أن كلا يجوز أن يصرف له لا المستحقين فيجوز الاقتصار
عندنا على صنف واحد كأن يعطى تمام الخمس لابن السبيل وحده
مثلا.
والكلام مستوفى في شروح الهداية، والمراد باليتامى الفقراء
منهم قال الشافعية: اليتيم هو صغير لا أب له وإن كان له
جد، ويشترط إسلامه وفقره، أو مسكنته على المشهور أن لفظ
اليتيم يشعر بالحاجة، وفائدة ذكرهم مع شمول المساكين لهم
عدم حرمانهم لتوهم أنهم لا يصلحون للجهاد وإفرادهم بخمس
كامل ويدخل فيهم ولد الزنا، والمنفي لا اللقيط على الأوجه
لأنا لم نتحقق فقد أبيه على أنه غني بنفقته في بيت المال،
ولا بد في ثبوت اليتيم والإسلام
(14/241)
والفقر هنا من البينة، ويكفي في المسكين
وابن السبيل قولهما ولو بلا يمين وإن اتهما، نعم يظهر في
مدعي تلف مال له عرف أو عيال أنه يكلف بينة انتهى، واشتراط
الفقر في اليتيم مصرح به عندنا في أكثر الكتب وليراجع
الباقي.
هذا والأربعة الأخماس الباقية مصرفها على ما قال صاحب
الكشف- وهو شافعي- بعد أن اختار جعل لِلْفُقَراءِ بدلا من
ذي الْقُرْبى وما عطف عليه من تضمنه قوله تعالى:
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا إلى قوله سبحانه:
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ على معنى أن له عليه
الصلاة والسلام أن يعم الناس بها حسب اختياره، وقال: إنها
للمقاتلين الآن على الأصح، وفي تحفة ابن حجر أنها على
الأظهر للمرتزقة وقضاتهم وأئمتهم ومؤذنيهم وعمالهم ما لم
يوجد تبرع، والمرتزقة الأجناد المرصودون في الديوان للجهاد
لحصول النصرة بهم بعده صلّى الله عليه وسلم، وصرح في
التحفة بأن الأكثرين على أن هذه الأخماس الأربعة كانت له
عليه الصلاة والسلام مع خمس الخمس، فجملة ما كان يأخذه صلى
الله تعالى عليه وسلم من الفيء أحد وعشرون سهما من خمسة
وعشرين، وكان على ما قال الروياني: يصرف العشرين التي له
عليه الصلاة والسلام يعني الأربعة الأخماس للمصالح وجوبا
في قول وندبا في آخر، وقال الغزالي: كان الفيء كله له صلّى
الله عليه وسلم في حياته، وإنما خمس بعد وفاته.
وقال الماوردي: كان له صلّى الله تعالى عليه وسلم في أول
حياته ثم نسخ في آخرها، وقال الزمخشري: إن قوله تعالى: ما
أَفاءَ اللَّهُ إلخ بيان للجملة الأولى يعني قوله تعالى:
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ولذا لم يدخل
العاطف عليها بين فيها لرسول الله صلّى الله تعالى عليه
وسلم ما يصنع بما أفاء الله تعالى عليه وأمره أن يضعه حيث
يضع الخمس من الغنائم مقسوما على الأقسام الخمسة، وظاهره
أن الجملة استئناف بياني، والسؤال عن مصارف ما أفاء الله
تعالى على رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم من بني النضير
الذي أفادت الجملة الأولى أن أمره مفوض إليه صلّى الله
تعالى عليه وسلم لا يلزم أن يقسم قسمة الغنائم التي قوتل
عليها قتالا معتدا به، وأخذت عنوة وقهرا كما طلب الغزاة
لتكون أربعة أخماسها لهم وأن ما يوضع موضع الخمس من
الغنائم هو الكل لا أن خمسة كذلك والباقي- وهو أربعة
أخماسه- لمن تضمنه قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا إلى
قوله سبحانه: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ على ما
سمعت سابقا، وأن المراد بأهل القرى هو المراد بالضمير في
مِنْهُمْ أعني بني النضير، وعدل عن الضمير إلى ذلك- على ما
في الإرشاد- إشعارا بشمول ما في ما أَفاءَ اللَّهُ
لعقاراتهم أيضا، واعترض صاحب الكشف ما يشعر به الظاهر من
أن الآية دالة على أمره صلّى الله تعالى عليه وسلم بأن يضع
الجميع حيث يضع الخمس من الغنائم، ووجه الآية بما أيد به
مذهبه، ودقق الكلام في ذلك فليراجع وليتدبر.
وقال ابن عطية أَهْلِ الْقُرى المذكورون في الآية هم أهل
الصفراء وينبع ووادي القرى، وما هنالك من قرى العرب التي
تسمى قرى عرينة وحكمها مخالف لحكم أموال بني النضير فإن
تلك كلها له صلّى الله تعالى عليه وسلم خاصة، وهذه قسمها
كغيرها، وقيل: المراد بما أفاء الله على رسوله خيبر، وكان
نصفها لله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم ونصفها
الآخر للمسلمين فكان الذي لله سبحانه ورسوله عليه الصلاة
والسلام من ذلك الكتيبة والوطيح وسلالم ووخدة، وكان الذي
للمسلمين الشق، وكان ثلاثة عشر سهما، ونطاة وكانت خمسة
أسهم، ولم يقسم عليه الصلاة والسلام من خيبر لأحد من
المسلمين إلا لمن شهد الحديبية، ولم يأذن صلّى الله تعالى
عليه وسلم لأحد تخلف عنه عند مخرجه إلى الحديبية أن يشهد
معه خيبر إلا جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري، وروي هذا
عن ابن عباس، وخص بعضهم ما أفاء الله تعالى بالجزية
والخراج.
وعن الزهري أنه قال: بلغني أنه ذلك، وأنت قد سمعت أن عمر
رضي الله تعالى عنه إنما احتج بهذه الآية على
(14/242)
إبقاء سواد العراق بأيادي أهله، وضرب
الخراج والجزية عليهم ردا على من طلب قسمته على الغزاة
بعلوجه لكن ليس ذلك إلا لأن وصول نفع ما أفاء الله تعالى
إلى عامة المسلمين كان بما ذكر دون القسمة فافهم.
وفي إعادة اللام في الرسول وذي القربى مع العاطف ما لا
يخفى من الاعتناء، وفيه على ما قيل: تأييد ما لمن يذهب إلى
عدم سقوط سهميهما، ووجه إفراد ذي القربى- قد ذكرناه غير
بعيد- ولما كان أبناء السبيل بمنزلة الأقارب قبل: وَابْنِ
السَّبِيلِ بالإفراد كما قيل: وَلِذِي الْقُرْبى وعلى ذلك
قوله:
أيا جارتا إنا غريبان هاهنا ... وكل غريب للغريب نسيب
كَيْ لا يَكُونَ تعليل للتقسيم، وضمير يَكُونَ لما أفاء
الله تعالى أي كي لا يكون الفيء دُولَةً هي بالضم، وكذا
بالفتح ما يدول أي ما يدور للإنسان من الغناء والجد
والغلبة، وقال الكسائي وحذاق البصرة:- الدولة- بالفتح في
الملك بالضم، والدولة- بالضم في الملك بالكسر، أو بالضم في
المال وبالفتح في النصرة قيل: وفي الجاه وقيل: هي بالضم ما
يتداول كالغرفة اسم ما يغترف وبالفتح مصدر بمعنى التداول،
والراغب وعيسى بن عمر وكثير أنهما بمعنى واحد، وجمهور
القراء قرؤوا بضم الدال والنصب، وبالياء التحتية في يكون
على أن اسم يَكُونَ الضمير، ودُولَةً الخبر أي كي لا يكون
الفيء جدّا بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ أي بينهم خاصة
يتكاثرون به، أو كي لا يَكُونَ دُولَةً وغلبة جاهلية بينكم
فإن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة ويقولون من
عزيز، وقيل:
المعنى كي لا يكون شيئا يتداوله الأغنياء بينهم ويتعاورونه
فلا يصيب أحدا من الفقراء.
وقرأ عبد الله «تكون» بالتاء الفوقية على أن الضمير على ما
باعتبار المعنى إذ المراد بها الأموال، وقرأ أبو جعفر
وهشام كذلك ورفع «دولة» بضم الدال على أن كان تامة، و
«دولة» فاعل أي كي لا يقع دولة، وقرأ علي والسلمي كذلك
أيضا، ونصب «دولة» بفتح الدال على أن كان ناقصا اسمها ما
سمعت، «دولة» خبرها، ويقدر مضاف على القول بأنها مصدر إن
لم يتجوز فيه، ولم يقصد المبالغة أي كي لا تكون ذات تداول
بين الأغنياء لا يخرجونها إلى الفقراء، وظاهر التعليل بما
ذكر اعتبار الفقر فيمن ذكر وعدم اتصافه تعالى به ضروري مع
أن ذكره سبحانه كان للتيمن عند الأكثرين لا لأن له عز وجل
سهما، وكذا يجل رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عن أن
يسمى فقيرا، وما اشتهر من
قوله عليه الصلاة والسلام: «الفقر فخري»
لا أصل له، وكيف يتوهم مثله والدنيا كلها لا تساوي عند
الله تعالى جناح بعوضة، وهو صلّى الله تعالى عليه وسلم أحب
خلقه إليه سبحانه حتى قال بعض العارفين: لا يقال له صلى
الله تعالى عليه وسلم زاهد لأنه التارك للدنيا وهو عليه
الصلاة والسلام لا يتوجه إليها فضلا عن طلبها اللازم
للترك، وقيل: إن الخبر لو صح يكون المراد بالفقر فيه
الانقطاع عن السوي بالمرة إلى الله عز وجل وهو غير الفقر
الذي الكلام فيه واعتباره فيمن بعد لا محذور فيه حتى أنه
ربما يكون دليلا على القول بأنه لا يعطى أغنياء ذوي
القربى، وإنما يعطى فقراؤهم، وإذا حمل الكلام على ما
حملناه عليه كفى في التعليل أن يكون فيمن يدفع إليه شيء من
الفيء فقر، ولا يلزم أن كل من يدفع إليه شيء منه فقيرا
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ أي ما أعطاكم من الفيء فَخُذُوهُ
لأنه حقكم الذي أحله الله تعالى لكم وَما نَهاكُمْ عَنْهُ
أي عن أخذه منه فَانْتَهُوا عنه وَاتَّقُوا اللَّهَ في
مخالفته عليه الصلاة والسلام إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقابِ فيعاقب من يخالفه صلّى الله تعالى عليه وسلم،
وحمل الآية على خصوص الفيء مروي عن الحسن وكان لذلك لقرينة
المقام، وفي الكشاف الأجود أن تكون عامة في كل ما أمر به
صلى الله تعالى عليه وسلم ونهى عنه، وأمر الفيء داخل في
العموم، وذلك لعموم لفظ ما على أن الواو لا تصح عاطفة فهي
اعتراض على سبيل التذييل، ولذلك عقب بقوله تعالى:
وَاتَّقُوا اللَّهَ تعميما على تعميم فيتناول كل ما
(14/243)
يجب أن يتقى ويدخل ما سبق له الكلام دخولا
أوليا كدخوله في العموم الأول، وروي ذلك عن ابن جريج.
وأخرج الشيخان وأبو داود والترمذي وغيرهم عن ابن مسعود أنه
قال: «لعن الله تعالى الواشمات والمستوشمات والمتنمصات
والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله تعالى» فبلع ذلك
امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن:
فأتته فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال: مالي لا ألعن
من لعن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وهو في كتاب
الله عز وجل، فقالت: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما
وجدته، قال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، أما قرأت قوله
تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ
عَنْهُ فَانْتَهُوا؟ قالت: بلى، قال: فإنه صلى الله تعالى
عليه وسلم قد نهى عنه
. وعن الشافعي أنه قال: سلوني عما شئتم أخبركم به من كتاب
الله تعالى وسنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال عبد
الله بن محمد بن هارون: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟
فقال: قال الله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.
وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن
خراش عنه حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلّى الله
تعالى عليه وسلم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»
. وحدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم
عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب أنه أمر بقتل الزنبور،
وهذا من غريب الاستدلال، وفيه على علاته- ككلام ابن مسعود-
حمل ما في الآية على العموم، وعن ابن عباس ما يدل على ذلك
أيضا، قيل: والمعنى حينئذ ما آتاكم الرسول من الأمر
فتمسكوا به وما نهاكم عن تعاطيه فانتهوا عنه، والأمر جوز
أن يكون واحد الأمور وأن يكون واحد الأوامر لمقابلة نهاكم
له، قيل: والأول أقرب لأنه لا يقال: أعطاه الأمر بمعنى
أمره إلا بتكلف كما لا يخفى، واستنبط من الآية أن وجوب
الترك يتوقف على تحقق النهي ولا يكفي فيه عدم الأمر فما لم
يتعرض له أمرا ولا نهيا لا يجب تركه لِلْفُقَراءِ
الْمُهاجِرِينَ قال الزمخشري:
بدل من قوله تعالى: لِذِي الْقُرْبى والمعطوف عليه، والذي
منع الإبدال من فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وما بعد وإن كان
المعنى لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أن الله عز
وجل أخرج رسوله عليه الصلاة والسلام من الفقراء في قوله
سبحانه: ويَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وأنه يترفع
برسول الله عليه الصلاة والسلام عن التسمية بالفقير، وأن
الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز
وجل، وهذا كما لا يجوز أن يوصف سبحانه بعلامة لأجل التأنيث
لفظا لأن فيه سوء أدب انتهى.
وعنى أنه بدل كل من كل لاعتبار المبدل منه مجموع ما ذكر،
قال الإمام: فكأنه قيل: أعني بأولئك الأربعة هؤلاء الفقراء
والمهاجرين، وما ذكر من الإبدال من لِذِي الْقُرْبى وما
بعده مبني على قوله الحنفية إنه لا يعطى الغني من ذوي
القربى وإنما يعطى الفقير، ومن يرى كالشافعي أنه يعطى
غنيهم كما يعطى فقيرهم خص الإبدال باليتامى وما بعده،
وقيل: يجوز ذلك أيضا إلا أنه يقول بتخصيص اعتبار الفقر
بفيء بني النضير فإنه عليه الصلاة والسلام لم يعط غنيا
شيئا منه، والآية نازلة فيه وفيه تعسف ظاهر.
وفي الكشف أن لِلْفُقَراءِ ليس للقيد بل بيانا للواقع من
حال المهاجرين وإثباتا لمزيد اختصاصهم كأنه قيل: لله
وللرسول وللمهاجرين، وقال ابن عطية: لِلْفُقَراءِ إلخ بيان
لقوله تعالى: الْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ
وكررت لام الجر لما كان ما تقدم مجرورا بها لتبيين أن
البدل هو منها، وقيل: اللام متعلقة بما دل عليه قوله
تعالى: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ
مِنْكُمْ كأنه قيل: ولكن يكون للفقراء المهاجرين.
وسيأتي إن شاء الله تعالى ما خطر لنا في ذلك من الاحتمال
بناء على ما يفهم من ظاهر كلام عمر بن الخطاب بمحضر جمع من
الأصحاب الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
وَأَمْوالِهِمْ حيث اضطرهم كفار مكة وأحوجوهم إلى
(14/244)
الخروج فخرجوا منها، وهذا وصف باعتبار
الغالب، وقيل: كان هؤلاء مائة رجل يَبْتَغُونَ فَضْلًا
مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً أي طالبين منه تعالى رزقا في
الدنيا ومرضاة في الآخرة، وصفوا أولا بما يدل على
استحقاقهم للفيء من الإخراج من الديار والأموال، وقيد ذلك
ثانيا بما يوجب تفخيم شأنهم ويؤكده مما يدل على توكلهم
التام ورضاهم بما قدره المليك العلّام وَيَنْصُرُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ عطف على يَبْتَغُونَ فهي حال مقدرة أي
ناوين لنصرة الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم
أو مقارنة فإن خروجهم من بين الكفار مراغمين لهم مهاجرين
إلى المدينة نصرة وأي نصرة أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من
الصفات الجليلة هُمُ الصَّادِقُونَ أي الكاملون في الصدق
في دعواهم الإيمان حيث فعلوا ما يدل أقوى دلالة عليه مع
إخراجهم من أوطانهم وأموالهم لأجله لا غيرهم ممن آمن في
مكة ولم يخرج من داره وماله، ولم يثبت منه نحو ما ثبت منهم
لنحو لين منه مع المشركين فالحصر إضافي ووجه بغير ذلك.
وحمل بعضهم الكلام على العموم لحذف متعلق الصدق وتمسك به
لذلك في الاستدلال على صحة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله
تعالى عنه لأن هؤلاء المهاجرين كانوا يدعونه بخليفة رسول
الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، والله تعالى قد شهد
بصدقهم فلا بد أن تكون إمامته رضي الله تعالى عنه صحيحة
ثابتة في نفس الأمر وهو تمسك ضعيف مستغنية عن مثله دعوى
صحة خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه بإجماع الصحابة،
ومنهم علي كرم الله تعالى وجهه، ونسبة التقية إليه
بالموافقة لا يوافق الشيعة عليها متق كدعوى الإكراه بل
مستغنية بغير ذلك أيضا وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ
وَالْإِيمانَ الأكثرون على أنه معطوف على المهاجرين،
والمراد بهم الأنصار، والتبوّؤ النزول في المكان، ومنه
المباءة للمنزل، ونسبته إلى الدار والمراد بها المدينة
ظاهر، وأما نسبته إلى الايمان فباعتبار جعله مستقرا
ومتوطنا على سبيل الاستعارة المكنية التخييلية، والتعريف
في الدار للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى دارا وهي
التي أعدها الله تعالى لهم ليكون تبوؤهم إياها مدحا لهم.
وقال غير واحد: الكلام من باب:
علفتها تبنا وماء باردا أي تبوؤوا الدار وأخلصوا الإيمان،
وقيل: التبوؤ مجاز مرسل عن اللزوم وهو لازم معناه فكأنه
قيل: لزموا الدار والإيمان وقيل: في توجيه ذلك أن أل في
الدار للعهد، والمراد دار الهجرة وهي تغني غناء الإضافة.
وفي وَالْإِيمانَ حذف مضاف أي ودار الإيمان فكأنه قيل:
تبوؤوا دار الهجرة ودار الإيمان على أن المراد بالدارين
المدينة، والعطف كما في قولك: رأيت الغيث والليث وأنت تريد
زيدا، ولا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف، وقيل:
إن الإيمان مجاز عن المدينة سمي محل ظهور الشيء باسمه
مبالغة وهو كما ترى، وقيل: الواو للمعية والمراد تبوؤوا
الدار مع إيمانهم أي تبوؤوها مؤمنين، وهو أيضا ليس بشيء،
وأحسن الأوجه ما ذكرناه أولا، وذكر بعضهم أن الدار علم
بالغلبة على المدينة كالمدينة، وأنه أحد أسماء لها منها
طيبة وطابة ويثرب وجابرة إلى غير ذلك.
وأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم حديثا مرفوعا يدل على
ذلك مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل المهاجرين، والجار متعلق
بتبوءوا، والكلام بتقدير مضاف أي من قبل هجرتهم فنهاية ما
يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين، ولا يلزم
منه سبق إيمانهم على إيمانهم ليقال: إن الأمر بالعكس، وجوز
أن لا يقدر مضاف، ويقال: ليس المراد سبق الأنصار لهم في
أصل الإيمان بل سبقهم إياهم في التمكن فيه لأنهم لم
ينازعوا فيه لما أظهروه.
وقيل: الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير تبوؤوا الدار
من قبلهم والإيمان فيفيد سبقهم إياهم في تبويء الدار فقط
وهو خلاف الظاهر على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة
سرية وهي غير ظاهرة هاهنا وقيل: لا حاجة إلى
(14/245)
شيء مما ذكر، وقصارى ما تدل الآية عليه
تقدم مجموع تبوؤىء الأنصار وإيمانهم على تبويء المهاجرين
وإيمانهم، ويكفي في تقدم المجموع تقدم بعض أجزائه وهو
هاهنا تبوؤ الدار، وتعقب بمنع الكفاية ولو سلمت لصلح أن
يقال:
بتقدم تبويء المهاجرين وإيمانهم على تبويء الأنصار
وإيمانهم لتقدم إيمان المهاجرين يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ
إِلَيْهِمْ في موضع الحال من الموصول، وقيل: استئناف،
والكلام قيل: كناية عن مواساتهم المهاجرين وعدم الاستثقال
والتبرم منهم إذا احتاجوا إليهم، وقيل: على ظاهره أي يحبون
المهاجر إليهم من حيث مهاجرته إليهم لحبهم الإيمان وَلا
يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ أي ولا يعلمون في أنفسهم.
حاجَةً أي طلب محتاج إليه مِمَّا أُوتُوا أي مما أعطي
المهاجرون من الفيء وغيره، وحاصله أن نفوسهم لم تتبع ما
أعطي المهاجرون ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه، فالوجدان
إدراك علمي وكونه في الصدر من باب المجاز،- والحاجة- بمعنى
المحتاج إليه، وهو استعمال شائع يقال: خذ منه حاجتك وأعطاه
من ماله حاجته، ومِنْ تبعيضية، وجوز كونها بيانية والكلام
على حذف مضاف وهو طلب، وفيه فائدة جليلة كأنهم لم يتصوروا
ذلك ولا مرّ في خاطرهم أن ذلك محتاج إليه حتى تطمح إليه
النفس.
ويجوز أن يكون المعنى- لا يجدون في أنفسهم ما يحصل عليه
الحاجة كالحزازة والغيظ والحسد والغبطة لأجل ما أعطي
المهاجرون- على أن الحاجة مجاز عما يتسبب عنها، قيل: على
أنه كناية عما ذكر لأنه لا ينفك عن الحاجة فأطلق اسم
اللازم على الملزوم، وما تقدم أولى، وقول بعضهم: أي أثر
حاجة تقدير معنى لا إعراب، ومِنْ في قوله تعالى: مِمَّا
أُوتُوا تعليلية وَيُؤْثِرُونَ أي يقدمون المهاجرين عَلى
أَنْفُسِهِمْ في كل شيء من الطيبات حتى أن من كان عنده
امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحدا منهم، ويجوز أن
لا يعتبر مفعول- يؤثرون- خصوص المهاجرين،
أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة
قال: أتى رجل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول
الله أصابني الجهد فأرسل إليه نسائه فلم يجد عندهن شيئا
فقال عليه الصلاة والسلام: «ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة
رحمه الله؟ فقال رجل من الأنصار- وفي رواية- فقال أبو
طلحة: أنا يا رسول الله فذهب به إلى أهله فقال لامرأته:
أكرمي ضيف رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قالت:
والله ما عندي إلا قوت الصبية قال: إذا أراد الصبية العشاء
فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج ونطوي الليلة لضيف رسول الله
صلّى الله تعالى عليه وسلم ففعلت ثم غدا الضيف على رسول
الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال: لقد عجب الله الليلة
من فلان وفلانة وأنزل الله تعالى فيهما وَيُؤْثِرُونَ»
إلخ.
وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن
عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: أهدي لرجل من أصحاب رسول
الله صلّى الله تعالى عليه وسلم رأس شاة فقال: إن أخي
فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا فبعث به إليه فلم يزل يبعث
به واحد إلى آخر حتى تداوله أهل سبعة أبيات حتى رجع إلى
الأول فنزلت وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ
بِهِمْ خَصاصَةٌ أي حاجة من خصاص البيت وهو ما يبقى بين
عيدانه من الفرج والفتوح، والجملة في موضع الحال، وقد تقدم
وجه ذلك مرارا وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ الشح اللؤم وهو
أن تكون النفس كزة حريصة على المنع كما قال:
يمارس نفسا بين جنبيه كزة ... إذا همّ بالمعروف قالت له
مهلا
وأضيف إلى النفس لأنه غريزة فيها، وأما البخل فهو المنع
نفسه، وقال الراغب: الشح بخل مع حرص وذلك فيما كان عادة،
وأخرج ابن المنذر عن الحسن أنه قال: البخل أن يبخل الإنسان
بما في يده، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس، وأخرج عبد
بن حميد وابن جرير وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والبيهقي
في الشعب والحاكم
(14/246)
وصححه وجماعة عن ابن مسعود أن رجلا قال له:
إني أخاف أن أكون قد هلكت قال: وما ذاك؟ قال: إني سمعت
الله تعالى يقول: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ الآية وأنا
رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء فقال له ابن مسعود: ليس ذاك
بالشح ولكنه البخل ولا خير في البخل، وإن الشح الذي ذكره
الله تعالى أن تأكل مال أخيك ظلما، وأخرج ابن المنذر وابن
مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ليس الشح
أن يمنع الرجل ماله ولكنه البخل إنما الشح أن تطمح عين
الرجل إلى ما ليس له، ولم أر لأحد من اللغويين شيئا من هذه
التفاسير للشح، ولعل المراد أنه البخل المتناهي بحيث يبخل
المتصف به بمال غيره أي لا يودّ جود الغير به وتنقبض نفسه
منه ويسعى في أن لا يكون، أو بحيث يبلغ به الحرص إلى أن
يأكل مال أخيه ظلما أن تطمح عينه إلى ما ليس له ولا تسمح
نفسه بأن يكون لغيره فتأمل.
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «ومن يوقّ» بشدّ القاف، وقرأ
ابن عمر وابن عمر وابن أبي عبلة «شحّ» بكسر الشين، وجاء
فيه لغة الفتح أيضا، ومعنى الكل واحد، ومعنى الآية ومن يوق
بتوفيق الله تعالى ومعونته شح نفسه حتى يخالفها فيما يغلب
عليها من حب المال وبغض الإنفاق فَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ الفائزون بكل مطلوب الناجون من كل مكروه،
والجملة الشرطية تذييل حسن ومدح للأنصار بما هو غاية
لتناوله إياهم تناولا أوليا، وفي الإفراد أولا والجمع
ثانيا رعاية للفظ من ومعناها وإيماء إلى قلة المتصفين بذلك
في الواقع عددا وكثرتهم معنى:
والناس ألف منهم كواحد ... وواحد كالألف إن أمر عنا
ويفهم من الآية ذم الشح جدا، وقد وردت أخبار كثيرة بذمه،
أخرج الحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه عن أنس مرفوعا
«ما محق الإسلام محق الشح شيء قط»
،
وأخرج ابن أبي شيبة والنسائي والبيهقي في الشعب والحاكم
وصححه عن أبي هريرة مرفوعا «لا يجتمع غبار في سبيل الله
ودخان نار جهنم في جوف عبد أبدا ولا يجتمع الإيمان والشح
في قلب عبد أبدا» .
وأخرج أبو داود والترمذي- وقال غريب- والبخاري في الأدب
وغيرهم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا «خصلتان لا يجتمعان في
جوف مسلم البخل وسوء الخلق»
وأخرج ابن أبي الدنيا وابن عدي والحاكم والخطيب عن أنس
قال: قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «خلق الله
تعالى جنة عدن وغرس أشجارها بيده ثم قال لها:
انطقي فقالت: قد أفلح المؤمنون فقال الله عز وجل: وعزتي
وجلالي لا يجاورني فيك بخيل ثم تلا رسول الله صلّى الله
عليه وسلم وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ.
وأخرج أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والبيهقي عن جابر بن
عبد الله أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: «اتقوا
الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح
قد أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا
محارمهم»
إلى غير ذلك من الأخبار، لكن ينبغي أن يعلم أن تقوى الشح
لا تتوقف على أن يكون الرجل جوادا بكل شيء،
فقد أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى والطبراني والضياء عن مجمع
بن يحيى مرفوعا «بريء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف
وأدى في النائبة» .
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله ما يقرب منه، وكذا
ابن جرير والبيهقي عن أنس، وأخرج ابن المنذر عن علي كرم
الله تعالى وجهه قال: من أدى زكاة ماله فقد وقى شح نفسه
، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ عطف عند
الأكثرين أيضا على المهاجرين، والمراد بهؤلاء قيل: الذين
هاجروا حين قوي الإسلام، فالمجيء حسي وهو مجيئهم إلى
المدينة، وضمير مِنْ بَعْدِهِمْ للمهاجرين الأولين، وقيل:
هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم
(14/247)
القيامة، فالمجيء إما إلى الوجود أو إلى
الإيمان، وضمير مِنْ بَعْدِهِمْ للفريقين المهاجرين
والأنصار، وهذا هو الذي يدل عليه كلام عمر رضي الله تعالى
عنه وكلام كثير من السلف كالصريح فيه، فالآية قد استوعبت
جميع المؤمنين، وجملة قوله تعالى: يَقُولُونَ إلخ حالية،
وقيل: استئناف رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا أي
في الدين الذي هو أعز وأشرف عندهم من النسب الَّذِينَ
سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وصفوهم بذلك اعترافا بفضلهم وَلا
تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا أي حقدا، وقرىء غمرا
لِلَّذِينَ آمَنُوا على الإطلاق رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ
رَحِيمٌ أي مبالغ في الرأفة والرحمة. فحقيق بأن تجيب
دعاءنا، وفي الآية حث على الدعاء للصحابة وتصفية القلوب من
بغض أحد منهم، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وجماعة عن
عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أمروا أن يستغفروا لأصحاب
النبي صلّى الله عليه وسلم فسبوهم ثم قرأت هذه الآية
وَالَّذِينَ جاؤُ إلخ.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع
رجلا وهو يتناول بعض المهاجرين فدعاه فقرأ عليه
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الآية، ثم قال: هؤلاء
المهاجرون أفمنهم أنت؟ قال: لا، ثم قرأ عليه وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ الآية، ثم قال: هؤلاء
الأنصار أفمنهم أنت؟ قال: لا، ثم قرأ عليه وَالَّذِينَ
جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال:
أرجو قال: لا والله ليس من هؤلاء من سب هؤلاء.
وفي رواية أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه بلغه أن رجلا نال
من عثمان رضي الله تعالى عنه فدعاه فقرأ عليه الآيات وقال
له ما قال، وقال الإمام مالك: من كان له في أحد من الصحابة
رضي الله تعالى عنهم قول سيء أو بغض فلا حظّ له في الفيء
أخذا من هذه الآية، وفيها ما يدل على ذم الغل لأحد من
المؤمنين،
وفي حديث أخرجه الحكيم الترمذي والنسائي عن أنس رضي الله
تعالى عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: في أيام
ثلاثة يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع فيها رجل من
الأنصار فبات معه عبد الله بن عمرو بن العاص ثلاث ليال
مستكشفا حاله فلم ير له كثير عمل فأخبره الخبر فقال له: ما
هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي غلا لأحد من
المسلمين ولا أحسده على خير أعطاه الله تعالى إياه فقال له
عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق- وفي رواية-
أنه قال: لو كانت الدنيا لي فأخذت مني لم أحزن عليها ولو
أعطيتها لم أفرح بها وأبيت وليس في قلبي غل على أحد فقال
عبد الله: لكني أقوم الليل وأصوم النهار ولو وهبت لي شاة
لفرحت بها ولو ذهبت لحزنت عليها والله لقد فضلك الله تعالى
علينا فضلا بيّنا» هذا وذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى:
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا إلخ مبتدأ، وجملة يُحِبُّونَ إلخ
خبره، والكلام استئناف مسوق لمدح الأنصار، وجوز كون ذلك
معطوفا على أُولئِكَ فيفيد شركة الأنصار للمهاجرين في
الصدق، وجملة يُحِبُّونَ إلخ إما استئناف مقرر لصدقهم أو
حال من ضمير تَبَوَّؤُا وإلى أن قوله تعالى: وَالَّذِينَ
جاؤُ إلخ مبتدأ، وجملة يَقُولُونَ إلخ خبره، والجملة
معطوفة على الجملة السابقة مسوقة لمدح هؤلاء بمحبتهم من
تقدمهم من المؤمنين ومراعاتهم لحقوق الأخوة في الدين
والسبق بالإيمان كما أن ما عطفت عليه من الجملة السابقة
لمدح الأنصار.
واستدل لعدم عطف الَّذِينَ تَبَوَّؤُا على الْمُهاجِرِينَ
بما
روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قسم أموال بني النضير
على المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة كما تقدم، وقال
عليه الصلاة والسلام لهم: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من
أموالكم ودياركم وشاركتموهم من هذه الغنيمة وإن شئتم كانت
لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة فقالوا:
بل نقسم لهم- أي للمهاجرين- من أموالنا وديارنا ونؤثرهم
بالغنيمة ولا نشاركهم فيها» فنزلت الآية وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ إلى آخره
، وبعض القائلين بالعطف يقولون: إن قوله تعالى:
(14/248)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ
لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا
أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ
يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا
لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا
يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ
الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ
أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا
يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ
أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ
تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ
أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ
الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا
كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ
اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا
أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ
جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا
قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ
أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي
أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ
الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا
هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا
مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ
نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ
(22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ
الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ
الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ
الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا إلخ بيان لحكم
الأخماس الأربعة على معنى أن له عليه الصلاة والسلام أن
يعم الناس بها حسب اختياره وأن الأنصار مصرف من المصارف،
ولكن قد اختار صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يكون إعطاؤهم
بالشرط الذي ذكره عليه الصلاة والسلام لهم، وهم اختاروا ما
اختاروا إيثارا منهم، وذلك لا يخرجهم عن كونهم مصرفا بل في
قوله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ رمز إليه على
أن في الأخبار ما هو أصح وأصرح في الدلالة على عطفهم على
ما تقدم، وأنهم يعطون من الفيء، وكذا عطف- الذين جاؤوا من
بعدهم- فقد اخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي
والنسائي وابن حيان وغيرهم عن مالك بن أوس بن الحدثان في
حديث طويل أن عمر رضي الله تعالى عنه قال- أي في قضاء بين
علي كرم الله تعالى وجهه وعمه العباس رضي الله تعالى عنه
في فدك، وقد كان عمر دفعها إليهما وأخذ عليهما عهد الله
تعالى على أن يعملا فيها بما كان رسول الله عليه الصلاة
والسلام يعمل به فيها فتنازعا- إن الله تعالى قال: ما
أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ
عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ
يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ فكانت لرسول الله صلّى الله تعالى عليه
وسلم خاصة، ثم قال سبحانه:
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى
فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى إلى آخر الآية،
ثم والله ما أعطاها هؤلاء وحدهم حتى قال تعالى:
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ
دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ
اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، ثم والله ما جعلها لهؤلاء
وحدهم حتى قال سبحانه: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ
يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا إلى قوله تعالى: رَحِيمٌ
فقسمها هذا القسم على هؤلاء الذين ذكر، ولئن بقيت ليأتين
الرويعي بصنعاء حقه ودمه في وجهه، وظاهر هذا الخبر يقتضي
أن للمهاجرين سهما غير السهام السابقة فلا يكون
لِلْفُقَراءِ بدل من- لذي القربى- وما بعده ولا مما بعده
دونه، وكذا ظاهر ما في مصحف عبد الله وزيد بن ثابت كما
أخرجه ابن الأنباري في المصاحف عن الأعمش- ما أفاء الله
على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى
والمساكين وابن السبيل والمهاجرين في سبيل الله- على أن
الإبدال يقتضي ظاهرا كون اليتامى مهاجرين أخرجوا من ديارهم
وأموالهم إلى آخر الصفات، وفي صدق ذلك عليهم بعد، وكذا
يقتضي كون ابن السبيل كذلك، وفيه نوع بعد أيضا كما لا يخفى
فلعله اعتبر تعلقه بفعل محذوف والجملة استئناف بياني، وذلك
أنهم كانوا يعلمون أن الخمس يصرف لمن تضمنه قوله تعالى:
فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى
وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فلما ذكر ذلك انقدح في
أذهانهم أن المذكورين مصرف الخمس ولم يعلموا مصرف الأخماس
الأربعة الباقية فكأنهم قالوا: فلمن تكون الأخماس الأربعة
الباقية أو فلمن يكون الباقي؟ فقيل: تكون الأخماس الاربعة
الباقية أو يكون الباقي لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ إلى
آخره ولم أر من تعرض لذلك فتأمل، والله تعالى الهادي إلى
أحسن المسالك.
(14/249)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا
حكاية لما جرى بين الكفرة والمنافقين من الأقوال الكاذبة
والأحوال الفاسدة وتعجيب منها بعد حكاية محاسن أحوال
المؤمنين على اختلاف طبقاتهم. والخطاب لرسول الله عليه
الصلاة والسلام أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب والآية كما
أخرج ابن إسحاق وابن المنذر وأبو نعيم عن ابن عباس في رهط
من بني عوف منهم عبد الله بن أبيّ بن سلول ووديعة بن مالك
وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير بما تضمنته الجمل
المحكية بقوله تعالى: يَقُولُونَ إلخ.
وقال السدي: أسلم ناس من بني قريظة والنضير وكان فيهم
منافقون فبعثوا إلى بني النضير ما قص الله تعالى، والمعول
عليه الأول، وقوله سبحانه: يَقُولُونَ استئناف لبيان
المتعجب منه، وصيغة المضارع للدلالة على استمرار قولهم، أو
لاستحضار صورته، واللام في قوله عز وجل: لِإِخْوانِهِمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ للتبليغ والمراد
بإخوتهم الإخوة في الدين واعتقاد الفكرة أو الصداقة، وكثر
جمع الأخ مرادا به ما ذكر على إخوان، ومرادا به الأخوة في
النسب على إخوة، وقل خلاف ذلك، واللام في قوله تعالى:
لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ موطئة للقسم وقوله سبحانه
لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ جواب القسم أي والله لئن أخرجتم من
دياركم قسرا لنخرجن من ديارنا معكم البتة ونذهبن في صحبتكم
أينما ذهبتم وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ في شأنكم أَحَداً يمنعنا
من الخروج معكم وهو لدفع أن يكونوا وعدوهم الخروج بشرط أن
يمنعوا منه أَبَداً وإن طال الزمان، وقيل: لا نطيع في
قتالكم أو خذلانكم، قال في الإرشاد: وليس بذاك لأن تقدير
القتال مترقب بعد، ولأن وعدهم لهم على ذلك التقدير ليس
مجرد عدم طاعتهم لمن يدعوهم إلى قتالهم بل نصرتهم عليه كما
ينطق به قوله تعالى: وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ
أي لنعاوننكم على عدوكم على أن دعوتهم إلى خذلان اليهود
مما لا يمكن صدوره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم
والمؤمنين حتى يدعوا عدم طاعتهم فيها ضرورة أنها لو كانت
لكانت عند استعدادهم لنصرتهم وإظهار كفرهم، ولا ريب في أن
ما يفعله عليه الصلاة والسلام عند ذلك قتلهم لا دعوتهم إلى
ترك نصرتهم، وأما الخروج معهم فليس بهذه المرتبة من إظهار
الكفر لجواز أن يدّعوا أن
(14/250)
خروجهم معهم لما بينهم من الصداقة الدنيوية
لا للموافقة في الدين، ونوقش في ذلك، وجواب إِنْ محذوف،
ولَنَنْصُرَنَّكُمْ جواب قسم محذوف قبل إِنْ الشرطية، وكذا
يقال فيما بعد على ما هو القاعدة المشهورة فيما إذا تقدم
القسم على الشرط وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ
في مواعيدهم المؤكدة بالأيمان، وقوله تعالى: لَئِنْ
أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ إلى آخره تكذيب لهم في
كل واحد من أقوالهم على التفصيل بعد تكذيبهم في الكل على
الإجمال وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وكان الأمر
كذلك، والإخبار عن خلفهم في الميعاد قيل: من الإخبار
بالغيب وهو من أدلة النبوة وأحد وجوه الإعجاز، وهذا مبني
على أن السورة نزلت قبل وقعة بني النضير، وكلام أهل الحديث
والسير على ما قيل: يدل على خلافه.
وقال بعض الأجلة: إن قوله تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ
أُخْرِجْتُمْ إلخ من باب الإخبار بالغيب بناء على ما روي
أن عبد الله بن أبيّ دس إليهم لا يخرجوا فأطلع الله تعالى
رسوله عليه الصلاة والسلام على ما دسه وَلَئِنْ
نَصَرُوهُمْ على سبيل الفرض والتقدير لَيُوَلُّنَّ أي
المنافقون الْأَدْبارَ فرارا ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ بعد ذلك
أي يهلكهم الله تعالى ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم، أو
لَيُوَلُّنَّ أي اليهود المفروضة نصرة المنافقين إياهم
ولينهزمن، ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين، وقيل: الضمير
المرفوع في نَصَرُوهُمْ لليهود، والمنصوب للمنافقين أي
ولئن نصر اليهود المنافقين ليولي اليهود الأدبار وليس
بشيء، وكأنه دعا قائله إليه دفع ما يتوهم من المنافاة بين
لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ على الوجه
السابق، وقد أشرنا إلى دفع ذلك من غير حاجة إلى هذا
التوجيه الذي لا يخفى حاله لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً أي
أشد مرهوبية على أن رَهْبَةً مصدر من المبني للمفعول لأن
المخاطبين وهم المؤمنين مرهوب منهم لا راهبون فِي
صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ أي رهبتهم منكم في السر أشد مما
يظهرونه لكم من رهبة الله عز وجل وكانوا يظهرون لهم رهبة
شديدة من الله عز وجل، ويجوز أن يراد أنهم يخافونكم في
صدورهم أشد من خوفهم من الله تعالى ولشدة البأس والتشجع ما
كانوا يظهرون ذلك، قيل: إن فِي صُدُورِهِمْ على الوجه
الأول مبالغة وتصوير على نحو رأيته بعيني ذلِكَ أي ما ذكر
من كونكم أشد رهبة في صدورهم من الله تعالى بِأَنَّهُمْ
بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ شيئا حتى يعلموا عظمة
الله عز وجل فيخشوه حق خشيته سبحانه وتعالى، والمراد
بهؤلاء اليهود، وقيل:
المنافقون وقيل: الفريقان لا يُقاتِلُونَكُمْ أي اليهود
والمنافقون، وقيل: اليهود يعني لا يقتدرون على قتالكم
جَمِيعاً أي مجتمعين متفقين في موطن من المواطن إِلَّا فِي
قُرىً مُحَصَّنَةٍ بالدروب والخنادق ونحوها أَوْ مِنْ
وَراءِ جُدُرٍ يتسترون بها دون أن يصحروا لكم ويبارزوكم
لقذف الله تعالى الرعب في قلوبهم ومزيد رهبتهم منكم.
وقرأ أبو رجاء والحسن وابن وثاب «جدر» بإسكان الدال
تخفيفا، ورويت عن ابن كثير وعاصم والأعمش، وقرأ أبو عمرو
وابن كثير في الرواية المشهورة وكثير من المكيين جدار بكسر
الجيم وألف بعد الدال وهي مفرد الجدر، والقصد فيه إلى
الجنس، أو المراد به السور الجامع للجدر والحيطان.
وقرأ جمع من المكيين وهارون عن ابن كثير «جدر» بفتح الجيم
وسكون الدال، قال صاحب اللوامح:
وهو الجدار بلغة اليمن، وقال ابن عطية: معناه أصل بنيان
كسور وغيره، ثم قال: ويحتمل أن يكون من جدر النخل أي من
وراء نخلهم إذ هي مما يتقى به عند المصافة بَأْسُهُمْ
بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ استئناف سيق لبيان أن ما ذكر من رهبتهم
ليس لضعفهم وجبنهم في أنفسهم فإن بأسهم إذا اقتتلوا شديد
وإنما ضعفهم وجبنهم بالنسبة
(14/251)
إليكم بما قذف الله تعالى في قلوبهم من
الرعب تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً أي مجتمعين ذوي إلفة واتحاد
وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى جمع شتيت أي متفرقة لا إلفة بينها
يعني أن بينهم إحنا وعدوات فلا يتعاضدون حق التعاضد ولا
يرمون عن قوس واحدة، وهذا تجسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم
على قتالهم.
وقرأ مبشر بن عبيد «شتى» بالتنوين جعل الألف ألف الإلحاق،
وعبد الله- وقلوبهم أشت- أي أكثر أو أشد تفرقا ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ أي ما ذكر من تشتت قلوبهم بسبب أنهم قَوْمٌ لا
يَعْقِلُونَ شيئا حتى يعلموا طرق الألفة وأسباب الاتفاق،
وقيل: لا يَعْقِلُونَ أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم
المركوزة فيهم بحسب الخلقة ويعين على تدميرهم واضمحلالهم
وليس بذاك، وقوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ خبر مبتدأ محذوف تقديره مثلهم أي مثل المذكورين
من اليهود بني النضير، أو منهم ومن المنافقين كمثل أهل
بدر- كما قال مجاهد- أو كبني قينقاع- كما قال ابن عباس-
وهم شعب من اليهود الذين كانوا حوالى المدينة غزاهم النبي
صلّى الله تعالى عليه وسلم يوم السبت على رأس عشرين شهرا
من الهجرة في شوال قبل غزوة بني النضير حيث كانت في ربيع
سنة أربع وأجلاهم عليه الصلاة والسلام إلى أذرعات على ما
فصل في كتب السير.
وقيل: أي مثل هؤلاء المنافقين كمثل منافقي الأمم الماضية
قَرِيباً ظرف لقوله تعالى: ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي
ذاقوا سوء عاقبة كفرهم في زمن قريب من عصيانهم أي لم تتأخر
عقوبتهم وعوقبوا في الدنيا إثر عصيانهم.
وقيل: انتصاب قَرِيباً- بمثل- إذ التقدير كوقوع مثل الذين،
وتعقب بأن الظاهر أنه أريد أن في الكلام مضافا هو العامل
حقيقة في الظرف إلا أنه لما حذف عمل المضاف إليه فيه
لقيامه مقامه، ولا يخفى أن المعنى ليس عليه لأن المراد
تشبيه المثل بالمثل أي الصفة الغريبة لهؤلاء بالصفة
الغريبة للذين من قبلهم دون تشبيه المثل بوقوع المثل،
وأجيب بأن الإضافة من إضافة الصفة إلى موصوفها فيرجع
التشبيه إلى تشبيه المثل بالمثل فكأنه قيل: مثلهم كمثل
الذين من قبلهم الواقع قريبا، وفيه أن ذلك التقدير ركيك
وما ذكر لا يدفع الركاكة، والقول بتقدير مضاف في جانب
المبتدأ أيضا أي وقوع مثلهم كوقوع مثل الذين من قبلهم
قريبا فيكون قد شبه وقوع المثل بوقوع المثل تعسف لا ينبغي
أن يرتكب في الفصيح.
وقيل: إن العامل فيه التشبيه أي يشبهونهم في زمن قريب،
وقيل: متعلق الكاف لأنه يدل على الوقوع، وكلا القولين كما
ترى، ولا يبعد تعلقه بما تعلقت به الصلة أعني من قبلهم أي
الذين كانوا من قبلهم في زمن قريب فيفيد أن قبليتهم قبلية
قريبة، ويلزم من ذلك قرب ما فعل بهم وهو المثل، ويكون هذا
مطمح النظر في الإفادة ويتضمن تعييرهم بأنهم كانت لهم في
أهل بدر أو بني قينقاع أسوة فبعد لم ينطمس آثار ما وقع بهم
وهو كذلك على تقدير الوقوع ونحوه، وجملة ذاقُوا مفسرة
للمثل لا محل لها من الإعراب، ويتعين تعلق قَرِيباً بما
بعد على تقدير أن يراد بمن قبل منافقو الأمم الماضية فتدبر
وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ لا يقادر قدره، والجملة
قيل: عطف على الجملة السابقة وإن اختلفا فعلية واسمية،
وقيل: حال مقدرة من ضمير ذاقُوا وأيا ما كان فهو داخل في
حيز المثل، وقيل: عطف على جملة- مثلهم كمثل الذين من
قبلهم- ولا يخفى بعده، وقوله تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ
جعله غير واحد خبر مبتدأ محذوف أيضا أي مثلهم كمثل الشيطان
على أن ضمير- مثلهم- هاهنا للمنافقين وفيما تقدم لبني
النضير، وقال بعضهم: ضمير- مثلهم- المقدر في الموضعين
للفريقين، وجعله بعض المحققين خبرا ثانيا للمبتدأ المحذوف
في قوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِينَ على أن الضمير هناك
للفريقين إلا أن المثل الأول يخص بني
(14/252)
النضير، والثاني يخص المنافقين، وأسند كل
من الخبرين إلى ذلك المقدر المضاف إلى ضميرهما من غير
تعيين ما أسند إليه بخصوص ثقة بأن السامع يرد كلا إلى ما
يليق به ويماثله كأنه قيل: مثل أولئك الذين كفروا من أهل
الكتاب في حلول العذاب بهم كمثل الذين من قبلهم ومثل
المنافقين في إغرائهم إياهم على القتال حسبما نقل عنهم
كمثل الشيطان إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ أي أغراه على
الكفر إغراء الآمر للمأمور به فهو تمثيل واستعارة فَلَمَّا
كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ
رَبَّ الْعالَمِينَ تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب
ولم ينفعه ذلك كما قال سبحانه: فَكانَ عاقِبَتَهُما
أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها أبد الآبدين
وَذلِكَ أي الخلود في النار جَزاءُ الظَّالِمِينَ على
الإطلاق دون المذكورين خاصة، والجمهور على أن المراد
بالشيطان والإنسان الجنس فيكون التبري يوم القيامة وهو
الأوفق بظاهر قوله: إِنِّي أَخافُ إلخ.
وذهب بعضهم إلى أن المراد بالشيطان إبليس، وبالإنسان أبو
جهل عليهما اللعنة قال له يوم بدر: لا غالب لكم اليوم من
الناس وإني جار لكم حتى وقعوا فيما وقعوا قال: إني بريء
منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله الآية، وفي الآية
عليه مع ما تقدم عن مجاهد لطيفة، وذلك أنه لما شبه أولا
حال إخوان المنافقين من أهل الكتاب بحال أهل بدر شبه هنا
حال المنافقين بحال الشيطان في قصة أهل بدر، ومعنى اكْفُرْ
على تخصيص الإنسان بأبي جهل دم على الكفر عند بعض، وقال
الخفاجي: لا حاجة لتأويله بذلك لأنه تمثيل.
وأخرج أحمد في الزهد والبخاري في تاريخه والبيهقي في الشعب
والحاكم وصححه وغيرهم عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رجلا
كان يتعبد في صومعته وأن امرأة كانت لها إخوة فعرض لها شيء
فأتوه بها فزينت له نفسه فوقع عليها فحملت فجاءه الشيطان
فقال: اقتلها فإنهم إن ظهروا عليك افتضحت فقتلها ودفنها
فجاؤوه فأخذوه فذهبوا به فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان
فقال: أنا الذي زينت لك فاسجد لي سجدة أنجيك فسجد له أي ثم
تبرأ منه وقال له ما قال، فذلك قوله تعالى: كَمَثَلِ
الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ الآية
، وهذا الرجل هو برصيصا الراهب، وقد رويت قصته على وجه
أكثر تفصيلا مما ذكر وهي مشهورة في القصص، وفي البحر إن
قول الشيطان: «إني أخاف الله» كان رياء وهو لا يمنعه الخوف
عن سوء يوقع فيه ابن آدم وقرىء أنا بريء، وقرأ الحسن وعمرو
بن عبيد وسليم ابن أرقم- فكان عاقبتهما- بالرفع على أنه
اسم كان، وأنهما إلخ في تأويل مصدر خبرها على عكس قراءة
الجمهور.
وقرأ عبد الله وزيد بن علي والأعمش وابن أبي عبلة- خالدان-
بالألف على أنه خبر إن، وَفِي النَّارِ متعلق به، وقدم
للاختصاص، وفيها تأكيد له وإعادة تضميره، وجوز أن يكون «في
النار» خبر إن، وخالدان- خبر ثانيا وهو في قراءة الجمهور
حال من الضمير في الجار والمجرور يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وتذرون
وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ أي أي شيء قدمت
من الأعمال ليوم القيامة عبر عنه بذلك لدنوه دنو الغد من
أمسه، أو لأن الدنيا كيوم والآخرة غده يكون فيها أحوال غير
الأحوال السابقة، وتنكيره لتفخيمه وتهويله كأنه قيل: «لغد»
لا يعرف كنهه لغاية عظمه، وأما تنكير نَفْسٌ فلاستقلال
الأنفس النواظر كأنه قيل: ولتنظر نفس واحدة في ذلك، وفيه
حث عظيم على النظر وتعيير بالترك وبأن الغفلة قد عمت الكل
فلا أحد خلص منها، ومنه ظهر- كما في الكشف- أن جعله من
قبيل قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير:
14] غير مطابق للمقام أي فهو كما
في الحديث «الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة»
لأن الأمر بالنظر وإن عم لكن المؤتمر الناظر أقل من
القليل، والمقصود بالتقليل هو هذا لأن المأمور لا ينظر
إليه ما لم يأتمر، وجوز ابن عطية أن يراد بغد يوم الموت،
وليس بذاك، وقرأ أبو حيوة ويحيى بن الحارث- ولتنظر- بكسر
اللام، وروي ذلك عن حفص عن عاصم، وقرأ الحسن بكسرها وفتح
الراء
(14/253)
جعلها لام كي، وكان المعنى ولكي تنظر نفس
ما قدمت لغد أمرنا بالتقوى وَاتَّقُوا اللَّهَ تكرير
للتأكيد، أو الأول في أداء الواجبات كما يشعر به ما بعده
من الأمر بالعمل وهذا في ترك المحارم كما يؤذن به الوعيد
بقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي
من المعاصي، وهذا الوجه الثاني أرجح لفضل التأسيس على
التأكيد، وفي ورود الأمرين مطلقين من الفخامة ما لا يخفى،
وقيل: إن التقوى شاملة لترك ما يؤثم ولا وجه وجيه للتوزيع
والمقام مقام الاهتمام بأمرها، فالتأكيد أولى وأقوى، وفيه
منع ظاهر، وكيف لا والمتبادر مما قدمت أعمال الخير كذا
قيل، ولعل من يقول بالتأكيد يقول: إن قوله سبحانه: إِنَّ
اللَّهَ خَبِيرٌ إلخ يتضمن الوعد والوعيد ويعمم ما قدمت
أيضا، ولعلك مع هذا تميل للتأسيس.
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ أي نسوا حقوقه
تعالى شأنه: وما قدروا الله حق قدره ولم يراعوا مواجب أمره
سبحانه ونواهيه عز وجل حق رعايتها فَأَنْساهُمْ الله تعالى
بسبب ذلك أَنْفُسَهُمْ أي جعلهم سبحانه ناسين لها حتى لم
يسعوا بما ينفعها ولم يفعلوا ما يخلّصها، أو أراهم جل
جلاله يوم القيامة من أهوال ما أنساهم أنفسهم أي أراهم
أمرا هائلا وعذابا أليما، ونسيان النفس حقيقة قيل: مما لا
يكون لأن العلم بها حضوري، وفيه نظر وإن نص عليه ابن سينا
وأشياعه أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الكاملون في الفسوق.
وقرأ أبو حيوة- ولا يكونوا- بياء الغيبة على سبيل
الالتفات، وقال ابن عطية: كناية عن نفس المراد بها الجنس
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ الذين نسوا لله تعالى
فاستحقوا الخلود في النار وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ الذين
اتقوا الله فاستحقوا الخلود في الجنة، ولعل تقديم أصحاب
النار في الذكر للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي
ينبىء عنه عدم الاستواء من جهتهم لا من جهة مقابليهم فإن
مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانا
وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد لكن المتبادر اعتباره
بحسب نقصان الناقص، وعليه قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ
وَالنُّورُ [الرعد: 16] إلى غير ذلك.
ولعل تقديم الفاضل في قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:
9] لأن صفته ملكة لصفة المفضول الإعدام مسبوقة بملكاتها،
والمراد بعدم الاستواء عدم الاستواء في الأحوال الأخروية
كما ينبىء عنه التعبير عن الفريقين بصاحبية النار وصاحبية
الجنة، وكذا قوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ
الْفائِزُونَ فإنه استئناف مبين لكيفية عدم الاستواء
بينهما أي هم الفائزون في الآخرة بكل مطلوب الناجون عن كل
مكروه، والآية تنبيه للناس وإيذان بأنهم لفرط غفلتهم وقلة
فكرتهم في العاقبة وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع
الشهوات الزائلة كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار
والبون العظيم بين أصحابهما وأن الفوز مع أصحاب الجنة فمن
حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه، وهذا كما تقول لمن عق
أباه: هو أبوك تجعله بمنزلة من لا يعرفه فتنبهه على حق
الأبوة الذي يقتضي البر والتعطف، ومما ذكر يعلم ضعف
استدلال أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه بالآية على أن
المسلم لا يقتل بالكافر، وأن الكفار لا يملكون أموال
المسلمين بالقهر، وانتصر لهم بأن لهم أن يقولوا: لما حث
سبحانه على التقوى فعلا وتركا وزجر عز وجل عن الغفلة التي
تضادها غاية المضادة بذكر غايتها أعني نسيان الله تعالى
ترشيحا للتقريع أردفه سبحانه بأن أصحاب التقوى وأصحاب هذه
الغفلة لا يستوون في شيء ما، وعبر عنهم بأصحاب الجنة
وأصحاب النار زيادة تصوير وتبيين، فالمقام يقتضي التباين
في حكمي الدارين وإن كان المقصود بالقصد الأول تباينهم في
الدار التي هي المدار، وأنت تعلم أن بيان اقتضاء المقام
ذلك في مقابلة قول أصحاب أبي حنيفة. إن المقام يقتضي
التخصيص وإلا فالشافعية يقولون: إن العموم مدلول نفي
المساواة لغة لأن النفي داخل على مسمى المساواة
(14/254)
فلا بد من انتفائها من جميع الوجوه إذ لو
وجدت من وجه لما كان مسماها منتفيا وهو خلاف مقتضى اللفظ،
وقول الحنفية: إن الاستواء مطلقا أعم من الاستواء من كل
وجه ومن وجه دون وجه، والنفي إنما دخل على الاستواء الأعم
فلا يكون مشعرا بأحد القسمين الخاصين.
وحاصله أن الأعم لا يشعر بالأخص فيه إن ذلك في الإثبات
مسلم وفي النفي ممنوع، ألا ترى أن من قال: ما رأيت حيوانا
وكان قد رأى إنسانا مثلا عد كاذبا؟ وتمام ذلك في كتب
الأصول، والإنصاف أن كون المراد هنا نفي الاستواء في
الأمور الأخروية ظاهر جدا فلا ينبغي الاستدلال بها على ما
ذكر.
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ العظيم الشأن المنطوي على
فنون القوارع عَلى جَبَلٍ من الجبال أو جبل عظيم
لَرَأَيْتَهُ مع كونه علما في القسوة وعدم التأثر مما
يصادمه خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أي
متشققا منها.
وقرأ أبو طلحة مصدعا بإدغام التاء في الصاد، وهذا تمثيل
وتخييل لعلو شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ
والزواجر، والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه
عند تلاوة القرآن وتدبر ما فيه من القوارع وهو الذي لو
أنزل على جبل وقد ركب فيه العقل لخشع وتصدع، ويشير إلى
كونه تمثيلا قوله تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فإن الإشارة فيه إلى
قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا إلخ وإلى أمثاله، فالكلام
بتقدير وقوع تلك، أو المراد تلك وأشباهها والأمثال في
الأغلب تمثيلات متخيلة هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ وحده سبحانه عالِمُ الْغَيْبِ وهو ما لم يتعلق
به علم مخلوق وإحساسه أصلا وهو الغيب المطلق وَالشَّهادَةِ
وهو ما يشاهده مخلوق.
قال الراغب: الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة إما
بالبصر أو بالبصيرة، وقد يعتبر الحضور مفردا لكن الشهود
بالحضور المجرد أولى والشهادة مع المشاهدة أولى، وحمل
الغيب على المطلق هو المتبادر، وأل فيه للاستغراق إذ لا
قرينة للعهد، ومقام المدح يقتضيه مع قوله تعالى: عَلَّامُ
الْغُيُوبِ [المائدة: 109، 116، التوبة:
78، سبأ: 48] فيشمل كل غيب واجبا كان أو ممكنا موجودا أو
معدوما أو ممتنعا لم يتعلق به علم مخلوق، ويطلق الغيب على
ما لم يتعلق به علم مخلوق معين وهو الغيب المضاف أي الغيب
بالنسبة إلى ذلك المخلوق وهو على ما قيل: مراد الفقهاء في
قولهم: مدعي علم الغيب كافر، وهذا قد يكون من عالم الشهادة
كما لا يخفى، وذكر الشهادة مع أنه إذا كان كل غيب معلوما
له تعالى كان كل شهادة معلوما له سبحانه بالطريق الأولى من
باب قوله عز وجل: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً
إِلَّا أَحْصاها [الكهف: 49] ، وقيل: الغيب ما لا يقع عليه
الحس من المعدوم أو الموجود الذي لا يدرك، والشهادة ما يقع
عليه الإدراك بالحس.
وقال الإمام أبو جعفر رضي الله تعالى عنه: الغيب ما لم يكن
والشهادة ما كان
، وقال الحسن: الغيب السر والشهادة العلانية، وقيل: الأول
الدنيا بما فيها والثاني الآخرة بما فيها، وقيل: الأول
الجواهر المجردة وأحوالها والثاني الأجرام والأجسام
وأعراضها، وفيه أن في ثبوت المجردات خلافا قويا، وأكثر
السلف على نفيها، وتقديم الغيب لأن العلم به كالدليل على
العلم بالشهادة، وقيل: لتقدمه على الشهادة فإن كل شهادة
فإن كل شهادة كان غيبا وما برز ما برز إلا من خزائن الغيب،
وصاحب القيل الأخير يقول: إن تقديم الغيب لتقدمه في الوجود
وتعلق العلم القديم به، واستدل بالآية على أنه تعالى عالم
بجميع المعلومات، ووجهه ما أشرنا إليه، وتتضمن على ما قيل:
دليلا آخر عليه لأنها تدل على أنه لا معبود إلا هو ويلزمه
أن يكون سبحانه خالقا لكل شيء بالاختيار كما هو الواقع في
نفس الأمر، والخلق بالاختيار يستحيل بدون العلم، ومن هنا
قيل: الاستدلال بها على هذا المطلب أولى من الاستدلال
بقوله تعالى: وَاللَّهُ
(14/255)
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
[البقرة: 282، النساء: 176، النور: 35، 64، الحجرات: 16،
التغابن: 11] هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ برحمة تليق بذاته
سبحانه، والتأويل وإن ذكره علماء أجلاء من الماتريدية
والأشاعرة لا يحتاج إليه سلفي كما حقق في التمييز وغيره.
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كرر لإبراز
كمال الاعتناء بأمر التوحيد الْمَلِكُ المتصرف بالأمر
والنهي، أو المالك لجميع الأشياء الذي له التصرف فيها، أو
الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء ويستحيل عليه الاذلال، أو
الذي يولي ويعزل ولا يتصور عليه تولية ولا عزل، أو المنفرد
بالعز والسلطان، أو ذو الملك والملك خلقه، أو القادر أقوال
حكاها الآمدي، وحكي الأخير عن القاضي أبي بكر الْقُدُّوسُ
البليغ في النزاهة عما يوجب نقصانا، أو الذي له الكمال في
كل وصف اختص به، أو الذي لا يحدّ ولا يتصور، وقرأ أبو
السمال وأبو دينار الأعرابي «القدّوس» بفتح القاف وهو لغة
فيه لكنها نادرة، فقد قالوا: فعول بالضم كثير، وأما بالفتح
فيأتي في الأسماء- كسمور وتنور وهبود- اسم جبل باليمامة،
وأما في الصفات فنادر جدا، ومنه سبوح بفتح السين السَّلامُ
ذو السلامة من كل نقص وآفة مصدر وصف به للمبالغة، وعن
الجبائي هو الذي ترجى منه السلامة، وقيل: أي الذي يسلم على
أوليائه فيسلمون من كل مخوف الْمُؤْمِنُ قيل: المصدق لنفسه
ولرسله عليهم السلام فيما بلغوه عنه سبحانه إما بالقول أو
بخلق المعجزة، أو واهب عبادة الأمن من الفزع الأكبر أو
مؤمنهم منه إما بخلق الطمأنينة في قلوبهم أو بإخبارهم أن
لا خوف عليهم، وقيل: مؤمن الخلق من ظلمه، وقال ثعلب:
المصدق المؤمنين في أنهم آمنوا، وقال النحاس: في شهادتهم
على الناس يوم القيامة وقيل: ذو الأمن من الزوال لاستحالته
عليه سبحانه، وقيل: غير ذلك،
وقرأ الإمام أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي الله
تعالى عنهم- وقيل- أبو جعفر المدني «المؤمن» بفتح الميم
على الحذف والإيصال كما في قوله تعالى: وَاخْتارَ مُوسى
قَوْمَهُ [الأعراف: 155] أي المؤمن به.
وقال أبو حاتم: لا يجوز إطلاق ذلك عليه تعالى لإيهامه ما
لا يليق به سبحانه إذ المؤمن المطلق من كان خائفا وآمنه
غيره، وفيه أنه متى كان ذلك قراءة ولو شاذة لا يصح هذا لأن
القراءة ليست بالرأي الْمُهَيْمِنُ الرقيب الحافظ لكل شيء
مفيعل من الأمن بقلب همزته هاء، وإليه ذهب غير واحد،
وتحقيقه كما في الكشف أن أيمن على فيعل مبالغة أمن العدو
للزيادة في البناء، وإذا قلت: أمن الراعي الذئب على الغنم
مثلا دل على كمال حفظه ورقبته، فالله تعالى أمن كل شيء
سواه سبحانه على خلقه وملكه لإحاطة علمه وكمال قدرته عز
وجل ثم استعمل مجرد الدلالة بمعنى الرقيب والحفيظ على
الشيء من ذكر المفعول بلا واسطة للمبالغة في كمال الحفظ
كما قال تعالى:
وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة: 48] وجعله من ذاك أولى
من جعله من الأمانة نظرا إلى أن الأمين على الشيء حافظ له
إذ لا ينبىء عن المبالغة ولا عن شمول العلم والقدرة، وجعله
في الصحاح اسم فاعل من آمنه الخوف على الأصل فأبدلت الهمزة
الأصلية ياء كراهة اجتماع الهمزتين وقلبت الأولى هاء كما
في هراق الماء، وقولهم في إياك: هياك كأنه تعالى بحفظه
المخلوقين صيرهم آمنين، وحرف الاستعلاء- كمهيمنا عليه-
لتضمين معنى الاطلاع ونحوه، وأنت تعلم أن الاشتقاق على ما
سمعت أولا أدل والخروج عن القياس فيه أقل، وظاهر كلام
الكشف أنه ليس من التصغير في شيء.
وقال المبرد: إنه مصغر، وخطىء في ذلك فإنه لا يجوز تصغير
أسمائه عز وجل الْعَزِيزُ الغالب.
وقيل: الذي لا مثل له، وقيل: الذي يعذب من أراد، وقيل:
الذي عليه ثواب العاملين، وقيل: الذي لا يحط عن منزلته،
وقيل: غير ذلك الْجَبَّارُ الذي جبر خلقه على ما أراد
وقسرهم عليه: ويقال في فعله: أجبر، وأمثلة المبالغة
(14/256)
تصاغ من غير الثلاثي لكن بقلة، وقيل: إنه
من جبره بمعنى أصلحه، ومنه جبرت العظم فانجبر فهو الذي جبر
أحوال خلقه أي أصلحها، وقيل: هو المنيع الذي لا ينال يقال
للنخلة إذا طالت وقصرت عنها الأيدي: جبارة، وقيل: هو الذي
لا ينافس في فعله ولا يطالب بعلة ولا يحجر عليه في مقدوره.
وقال ابن عباس: هو العظيم، وقيل: غير ذلك الْمُتَكَبِّرُ
البليغ الكبرياء والعظمة لأنه سبحانه بريء من التكليف الذي
تؤذن به الصيغة فيرجع إلى لازمه من أن الفعل الصادر عن
تأنق أقوى وأبلغ، أو الذي تكبر عن كل ما يوجب حاجة أو
نقصانا سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه الله
تعالى عما يشركون به سبحانه، أو عن إشراكهم به عز وجل إثر
تعداد صفاته تعالى التي لا يمكن أن يشارك سبحانه في شيء
منها أصلا هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ المقدر للأشياء على
مقتضى الحكمة، أو مبدع الأشياء من غير أصل ولا احتذاء،
ويفسر الخلق بإيجاد الشيء الْبارِئُ الموجد لها بريئة من
تفاوت ما تقتضيه بحسب الحكمة والجبلة، وقيل: المميز بعضها
عن بعض بالاشكال المختلفة الْمُصَوِّرُ الموجد لصورها
وكيفياتها كما أراد.
وقال الراغب: الصورة ما تنتقش بها الأعيان وتتميز بها عن
غيرها، وهي ضربان: محسوسة تدركها العامة والخاصة بل
الإنسان وكثير من الحيوانات كصورة الفرس المشاهدة. ومعقولة
تدركها الخاصة دون العامة كالصورة التي اختص الإنسان بها
من العقل والروية والمعاني التي خص بها شيء بشيء، وإلى
الصورتين أشار بقوله سبحانه:
خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الأعراف: 11] إلى آيات
أخر انتهى فلا تغفل.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وحاطب بن أبي بلتعة والحسن
وابن السميفع «المصور» بفتح الواو والنصب على أنه مفعول
للبارىء، وأريد به جنس المصور،
وعن علي كرم الله تعالى وجهه فتح الواو وكسر الراء على
إضافة اسم الفاعل إلى المفعول
نحو الضارب الغلام، وفي الخانية إن قراءة «المصور» بفتح
الواو هنا تفسد الصلاة ولعله أراد إذا أجراه حينئذ على
الله سبحانه، وإلا ففي دعوى الفساد بعد ما سمعت نظر.
لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى الدالة على محاسن المعاني
يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من
الموجودات بلسان الحال لما تضمنته من الحكم والمصالح التي
يضيق عن حصرها نطاق البيان، أو بلسان المقال الذي أوتيه كل
منها حسبما يليق به على ما قاله كثير من العارفين، وقد
تقدم الكلام فيه وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الجامع
للكمالات كافة فإنها مع تكثرها وتشعبها راجعة إلى كمال
القدرة المؤذن به الْعَزِيزُ بناء على تفسيره بالغالب وإلى
كمال العلم المؤذن به الْحَكِيمُ بناء على تفسيره بالفاعل
بمقتضى الحكمة، وفي ذلك إشارة إلى التحلية بعد التخلية كما
في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] فتأمل ولا تغفل.
ولهذه الآيات فضل عظيم كما دلت عليه عدة روايات،
وأخرج الإمام أحمد والدارمي والترمذي وحسنه والطبراني وابن
الضريس والبيهقي في الشعب عن معقل بن يسار عن النبي صلّى
الله تعالى عليه وسلم قال: «من قال:
حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان
الرجيم ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به
سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي وإن مات ذلك اليوم مات
شهيدا ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة»
.
وأخرج الديلمي عن ابن عباس مرفوعا «اسم الله الأعظم في ست
آيات من آخر سورة الحشر» .
وأخرج أبو علي عبد الرحمن بن محمد النيسابوري في فوائده عن
محمد بن الحنفية أن البراء بن عازب قال لعلي بن أبي طالب
كرم الله تعالى وجهه: أسألك بالله إلا ما خصصتني بأفضل ما
خصك به رسول الله عليه الصلاة
(14/257)
والسلام مما خصه به جبريل مما بعث به
الرحمن عز وجل، قال: يا براء إذا أردت أن تدعو الله باسمه
الأعظم فاقرأ من أول الحديد عشر آيات وآخر الحشر، ثم قل:
يا من هو هكذا وليس شيء هكذا غيره أسألك أن تفعل لي كذا
وكذا فو الله يا براء لو دعوت عليّ لخسف بي.
وأخرج الديلمي عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود رضي
الله تعالى عنه مرفوعا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام
أنه قال في قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا إلى آخر السورة هي
رقية الصداع
،
وأخرج الخطيب البغدادي في تاريخه قال: أنبأنا أبو عبيد
الحافظ أنبأ أبو الطيب محمد بن أحمد بن يوسف بن جعفر
المقرئ البغدادي- يعرف بغلام ابن شنبوذ- أنبأ إدريس بن عبد
الكريم الحداد قال: قرأت على خلف فلما بلغت هذه الآية لَوْ
أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ قال: ضع يدك على
رأسك فإني قرأت على حمزة فلما بلغت هذه الآية قال: ضع يدك
على رأسك فإني قرأت على الأعمش فلما بلغت هذه الآية قال:
ضع يدك على رأسك فإني قرأت على يحيى بن وثاب فلما بلغت هذه
الآية قال: ضع يدك على رأسك فإني قرأت على علقمة والأسود
فلما بلغت هذه الآية قالا ضع يدك على رأسك فإنا قرأنا على
عبد الله رضي الله تعالى عنه فلما بلغنا هذه الآية قال ضعا
أيديكما على رؤوسكما فإني قرأت على النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم فلما بلغت هذه الآية قال لي: «ضع يدك على رأسك
فإن جبريل عليه السلام لما نزل بها إلي قال: ضع يدك على
رأسك فإنها شفاء من كل داء إلا السام والسام الموت»
إلى غير ذلك من الآثار، والله تعالى أعلم.
(14/258)