روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ
أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ
كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ
الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ
مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا
أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ
يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ
يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا
إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ
وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ
أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ
وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ
مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا
بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ
وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ
إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ
وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا
عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ
الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ
يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ
عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
سورة الممتحنة
قال ابن حجر: المشهور في هذه التسمية أنها بفتح الحاء وقد تكسر
فعلى الأول هي صفة المرأة التي أنزلت بسببها، وعلى الثاني صفة
السورة كما قيل لبراءة: الفاضحة، وفي جمال القراء تسمى أيضا
سورة الامتحان وسورة المودة، وأطلق ابن عباس وابن الزبير رضي
الله تعالى عنهم القول بمدنيتها، وذكر بعضهم أن أولها نزل يوم
فتح مكة فكونها مدنية إما من باب التغليب أو مبني على أن
المدني ما نزل بعد الهجرة، وهي ثلاث عشرة آية بالاتفاق.
ومناسبتها لما قبلها أنه ذكر فيما قبل موالاة الذين نافقوا
للذين كفروا من أهل الكتاب، وذكر في هذه نهي المؤمنين عن اتخاذ
الكفار أولياء لئلا يشابهوا المنافقين، وبسط الكلام فيه أتم
بسط وقيل في ذلك أيضا: إن فيما قبل ذكر المعاهدين من أهل
الكتاب وفي هذه ذكر المعاهدين من المشركين لأن فيها ما نزل في
صلح الحديبية، ولشدة اتصالها بالسورة قبلها فصل بها بينها وبين
الصف مع تواخيهما في الافتتاح- بسبح-.
(14/259)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ نزلت في حاطب بن عمرو أبي بلتعة- وهو
مولى عبد الله بن حميد بن زهير بن أسد بن عبد العزى-
أخرج الإمام أحمد والبخاري مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي
وابن حبان وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: بعثني رسول
الله صلّى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: «انطلقوا
حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فأتوني
به فخرجنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا: أخرجي
الكتاب قالت: ما معي من كتاب قلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين
الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلّى الله تعالى
عليه وسلم فإذا فيه: من خاطب ابن أبي بلتعة إلى أناس من
المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلّى الله تعالى عليه
وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام ما هذا يا حاطب؟! قال: لا
تعجل عليّ يا رسول الله إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من
أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهلهم
وأموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع
إليهم يدا يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن
ديني فقال عمر رضي الله تعالى عنه: دعني يا رسول الله أضرب
عنقه فقال عليه الصلاة والسلام: إنه شهد بدرا وما يدريك لعل
الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم
فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ»
إلخ.
وفي رواية ابن مردويه عن أنس أنه عليه الصلاة والسلام بعث عمر
وعليا رضي الله تعالى عنهما في أثر تلك المرأة فلحقاها في
الطريق فلم يقدرا على شيء معها فأقبلا راجعين ثم قال أحدهما
لصاحبه: والله ما كذبنا ولا كذبنا ارجع بنا إليها فرجعا فسلا
سيفيهما وقالا: والله لنذيقنك الموت أو لتدفعن الكتاب فأنكرت
ثم قالت: أدفعه إليكما على أن لا ترداني إلى رسول الله صلّى
الله تعالى عليه وسلم فقبلا ذلك فأخرجته لهما من قرون رأسها
، وفيه- على ما في الدر المنثور- أن المرأة تدعى أم سارة كانت
مولاة لقريش، وفي الكشاف يقال لها: سارة مولاة لأبي عمرو بن
صيفي ابن هاشم، وفي صحة خبر أنس تردد، وما تضمنه من رجوع
الإمامين رضي الله تعالى عنهما بعيد، وقيل: إن المبعوثين في
أثرها عمر وعلي وطلحة والزبير وعمار والمقداد وأبو مرثد وكانوا
فرسانا، والمعول عليه ما قدمنا، والذين كانوا له في مكة بنوه
وإخوته على ما روي عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن حاطب
المذكور، وفي رواية لأحمد عن جابر أن حاطبا قال: كانت والدتي
معهم فيحتمل أنها مع بنيه وإخوته.
وصورة الكتاب- على ما في بعض الروايات- أن رسول الله صلّى الله
تعالى عليه وسلم توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل، وأقسم
بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم فإنه منجز له ما
وعده، وفي الخبر السابق على ما قيل: دليل على جواز قتل الجاسوس
لتعليله صلّى الله تعالى عليه وسلم المنع عن قتله بشهوده بدرا-
وفيه بحث- وفي التعبير عن المشركين بالعدو مع الإضافة إلى
ضميره عز وجل تغليظ لأمر اتخاذهم أولياء وإشارة إلى حلول عقاب
الله تعالى بهم، وفيه رمز إلى معنى قوله:
إذا صافى صديقك من تعادي ... فقد عاداك وانقطع الكلام
والعدو فعول من عدا كعفو من عفا، ولكونه على زنة المصدر أوقع
على الجمع إيقاعه على الواحد، ونصب أَوْلِياءَ على أنه مفعول
ثان- لتتخذوا- وقوله تعالى: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ
بِالْمَوَدَّةِ تفسير للموالاة أو لاتخاذها أو استئناف فلا محل
لها من الاعراب، والباء زائدة في المفعول كما في قوله تعالى:
وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:
195] وإلقاء المودة مجاز عن إظهارها، وتفسيره بالإيصال أي
توصلون إليهم المودة لا يقطع التجوز.
(14/260)
وقيل: الباء للتعدية لكون المعنى تفضون
إليهم بالمودة، وأفضى يتعدى بالباء كما في الأساس، وقيل: هي
للسببية والإلقاء مجاز عن الإرسال أي ترسلون إليهم أخبار النبي
صلّى الله تعالى عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم، وعن
البصريين أن الجار متعلق بالمصدر الدال عليه الفعل، وفيه حذف
المصدر مع بقاء معموله، وجوز كون الجملة حالا من فاعل لا
تَتَّخِذُوا أو صفة- لأولياء- ولم يقل- تلقون إليهم أنتم- بناء
على أنه لا يجب مثل هذا الضمير مع الصفة الجارية على غير من هي
له أو الحال أو الخبر أو الصلة سواء في ذلك الاسم والفعل كما
في شرح التسهيل لابن مالك إذا لم يحصل إلباس نحو زيد هند
ضاربها أو يضربها بخلاف زيد عمرو ضاربه أو يضربه فإنه يجب معه
هو لمكان الإلباس.
وزعم بعضهم أن الإبراز في الصفات الجارية على غير من هي له
إنما يشترط في الاسم دون الفعل كما هنا ومنع ذلك، وتعقب
الوجهان بأنهما يوهمان أنه تجوز الموالاة عند عدم الإلقاء
فيحتاج إلى القول بأنه لا اعتبار للمفهوم للنهي عن الموالاة
مطلقا في غير هذه الآية، أو يقال: إن الحال والصفة لازمة ولذا
كانت الجملة مفسرة وقوله تعالى:
وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ حال من فاعل لا
تَتَّخِذُوا وهي حال مترادفة إن كانت جملة تُلْقُونَ حالية
أيضا أو من فاعل تُلْقُونَ وهي متداخلة على تقدير حاليتها،
وجوز كونه حالا من المفعول وكونه مستأنفا.
وقرأ الجحدري والمعلى عن عاصم- لما- باللام أي لأجل ما جاءكم
بمعنى جعل ما هو سبب للإيمان سبب الكفر يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ
وَإِيَّاكُمْ أي من مكة أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ
أي لإيمانكم أو كراهة إيمانكم بالله عز وجل، والجار متعلق-
بيخرجون- والجملة قيل: حال من فاعل كَفَرُوا أو استئناف
كالتفسير لكفرهم كأنه قيل:
كيف كفروا؟ وأجيب بأنهم كفروا أشد الكفر بإخراج الرسول عليه
الصلاة والسلام والمؤمنين لإيمانهم خاصة لا لغرض آخر، وهذا
أرجح من الوجه الاول لطباقه للمقام وكثرة فوائده، والمضارع
لاستحضار الحال الماضية لما فيها من مزيد الشناعة، والاستمرار
غير مناسب للمعنى، وفي تُؤْمِنُوا قيل: تغليب للمؤمنين،
والالتفات عن ضمير المتكلم بأن يقال: بي إلى ما في النظم
الجليل للإشعار بما يوجب الايمان من الألوهية والربوبية إِنْ
كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ
مَرْضاتِي متعلق بقوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا إلخ كأنه قيل: لا
تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي فجواب الشرط محذوف دل عليه ما
تقدم، وجعله الزمخشري حالا من فاعل لا تَتَّخِذُوا ولم يقدر له
جوابا أي لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء والحال أنكم خرجتم لأجل
الجهاد وطلب مرضاتي، واعترض بأن الشرط لا يقع حالا بدون جواب
في غير إن الوصلية، ولا بد فيها من الواو وأن ترد حيث يكون ضد
المذكور أولى- كأحسن إلى زيد وإن أساء إليك- وما هنا ليس كذلك.
وأجيب بأن ابن جني جوزه، وارتضاه جار الله هنا لأن البلاغة
وسوق الكلام يقتضيانه فيقال لمن تحققت صداقته من غير قصد
للتعليق والشك: لا تخذلني إن كنت صديقي تهييجا للحمية، وفيه من
الحسن ما فيه فلا يضر إذا خالف المشهور، ونصب المصدرين على ما
أشرنا إليه على التعليل، وجوز كونهما حالين أي مجاهدين
ومبتغين، والمراد بالخروج إما الخروج للغزو وإما الهجرة،
فالخطاب للمهاجرين خاصة لأن القصة صدرت منهم كما سمعت في سبب
النزول، وقوله تعالى: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ
استئناف بياني كأنهم لما استشعروا العتاب مما تقدم سألوا ما
صدر عنا حتى عوتبنا؟ فقيل: تُسِرُّونَ إلخ، وجوز أن يكون بدلا
من تُلْقُونَ بدل كل من كل إن أريد بالإلقاء الإلقاء خفية، أو
بدل بعض إن أريد الأعم لأن منه السر والجهر.
وقال أبو حيان: هو شبيه ببدل الاشتمال، وجوز ابن عطية كونه خبر
مبتدأ محذوف أي أنتم تُسِرُّونَ
(14/261)
والكلام استئناف للإنكار عليهم، وأنت تعلم
أن الاستئناف لذلك حسن لكنه لا يحتاج إلى حذف والكلام في الباء
هنا على ما يقتضيه ظاهر كلامهم كالباء فيما تقدم، وقوله تعالى:
وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ في
موضوع الحال، وأَعْلَمُ أفعل تفضيل، والمفضل عليه محذوف أي
منكم، وأجاز ابن عطية كونه مضارعا، والعلم قد يتعدى بالباء أو
هي زائدة، وما موصولة أو مصدرية، وذكر ما أَعْلَنْتُمْ مع
الاستغناء عنه للإشارة إلى تساوي العلمين في علمه عز وجل، ولذا
قدم بِما أَخْفَيْتُمْ وفي هذه الحال إشارة إلى أنه لا طائل
لهم في إسرار المودة إليهم كأنه قيل: تسرون إليهم بالمودة
والحال أني أعلم ما أخفيتم وما أعلنتم ومطلع رسولي على ما
تسرون فأي فائدة وجدوى لكم في الإسرار؟ وَمَنْ يَفْعَلْهُ أي
الإسرار.
وقال ابن عطية وجمع: أي الاتخاذ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ
السَّبِيلِ أي الطريق المستوي والصراط الحق فإضافة سَواءَ من
إضافة الصفة إلى الموصوف، ونصبه على المفعول به- لضل- وهو
يتعدى كأضل، وقيل: لا يتعدى وسَواءَ ظرف كقوله:
كما عسل الطريق الثعلب إِنْ يَثْقَفُوكُمْ أي إن يظفروا بكم،
وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء وفعله، ومنه رجل ثقف لقف،
وتجوز به عن الظفر والإدراك مطلقا يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً
أي عداوة يترتب عليها ضرر بالفعل بدليل قوله تعالى:
وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ
بِالسُّوءِ أي بما يسوءكم من القتل والأسر والشتم فكأنه عطف
تفسيري، فوقوع يَكُونُوا إلخ جواب الشرط بالاعتبار الذي أشرنا
إليه وإلا فكونهم أعداء للمخاطبين أمر متحقق قبل الشرط بدليل
ما في صدر السورة، ومثله قول بعضهم: أي يظهروا ما في قلوبهم من
العداوة ويرتبوا عليها أحكامها، وقيل: المراد بذلك لازم
العداوة وثمرتها وهو ظهور عدم نفع التودد فكأنه قيل: إن
يثقفوكم يظهر لكم عدم نفع إلقاء المودة إليهم والتودد لهم،
وقوله تعالى: وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ
عطف على الجواب وهو مستقبل معنى كما هو شأن الجواب، ويؤول كما
أول سابقه بأن يقال- على ما في الكشف- المراد ودادة يترتب
عليها القدرة على الرد إلى الكفر، أو يقال- على ما قال البعض-
المراد إظهار الودادة وإجراء ما تقتضيه، والتعبير بالماضي وإن
كان المعنى على الاستقبال للإشعار بأن ودادتهم كفرهم قبل كل
شيء وأنها حاصلة وإن لم يثقفوهم.
وتحقيق ذلك أن الودادة سابقة بالنوع متأخرة باعتبار بعض
الأفراد، فعبر بالماضي نظرا للأول وجعلت جوابا متأخرا نظرا
للثاني، وآثر الخطيب الدمشقي العطف على مجموع الجملة الشرطية
كقوله تعالى: ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [الحشر: 12] في السورة قبل
فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا
يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34] عند جمع قال: لأن ودادتهم أن
يرتدوا كفارا حاصلة وإن لم يظفروا بهم فلا يكون في التقييد
بالشرط فائدة، وإلى ذلك ذهب أبو حيان، وجوابه يعلم مما ذكرنا،
وقريب منه ما قيل: إن ودادة كفرهم بعد الظفر لما كانت غير
ظاهرة لأنهم حينئذ سبي وخدم لا يعتدّ بهم فيجوز أن لا يتمنى
كفرهم فيحتاج إلى الإخبار عنه بخلاف الودادة قبل الظفر فيكون
للتقييد فائدة لأنها ودادة أخرى متأخرة. وقال بعض الأفاضل: إن
المعطوف على الجزاء في كلام العرب على أنحاء: الأول أن يكون كل
منهما جزاء وعلة نحو إن تأتني آتك وأعطك. الثاني أن يكون
الجزاء أحدهما وإنما ذكر الآخر لشدة ارتباطه به لكونه مسببا له
مثلا نحو إذا جاء الأمير استأذنت وخرجت لاستقباله ونحو حبست
غريمي لأستوفي حقي وأخليه.
الثالث أن يكون المقصود جمع أمرين وحينئذ لا ينافي تقدم أحدهما
نحو كخرجت مع الحجاج لأرافقهم في الذهاب ولا أرافقهم في
الإياب. ومنه قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً
مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ
وَما تَأَخَّرَ
(14/262)
[الفتح: 1، 2] الآية، وما في النظم الجليل
هنا قيل: محتمل للأول لاستقبال الودادة من بعض الاعتبارات كما
تقدم، وعبر بالماضي اعتبارا للتقدم الرتبي من حيث إن الرد عند
الكفرة أشق المضار لعلمهم أن الدين أعز على المؤمنين من
أرواحهم لأنهم باذلون لها دونه، وأهم شيء عند العدو أن يقصد
أهم شيء عند صاحبه ومحتمل للثالث بأن يكون المراد المجموع
بتأويل يريدون لكم مضار الدنيا والآخرة، قيل: وللثاني أيضا بأن
يكون الجزاء هو- يبسطوا- وذكرت عداوتهم وودادتهم الرد لشدة
الارتباط لما هناك من السببية والمسببية وهو كما ترى وجعل
الطيبي المجموع مجازا من إطلاق السبب وإرادة المسبب وهو مضار
الدارين، وذكر أن الجواب في الحقيقة مقدر أي يريدوا لكم مضار
الدنيا والدين، وما ذكر دليله أقيم مقامه، وقيل: عبر في
الودادة بالماضي لتحققها عند المؤمنين أتم من تحقق ما قبلها،
وحمل عليه كلام لصاحب المفتاح.
وعن بعضهم أن الواو واو الحال لا واو العطف، والجملة في موضع
الحال بتقدير قد أو بدونه، ولا يخفى أن العطف هو المتبادر،
وكونه على الجزاء أبعد مغزى، وإخراج الشرط والجزاء على نحو ذلك
أكثر من أن يحصى.
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ دفع لما عسى أن يتخيلوا كونه
عذرا نافعا من أن الداعي للاتخاذ وإلقاء المودّة صيانة الأرحام
والأولاد من أذى أولئك. والرحم في الأصل رحم المرأة، واشتهر في
القرابة حتى صار كالحقيقة فيها، فإما أن يراد به ذلك أو يجعل
مجازا عن القريب، أو يعتبر معه مضاف أي ذوو أرحامكم، ويؤيد
التأويل عطف قوله تعالى: وَلا أَوْلادُكُمْ أي لن ينفعكم
قراباتكم أو أقاربكم ولا أولادكم الذين توالون المشركين لأجلهم
وتتقربون إليهم محاماة عليهم يَوْمَ الْقِيامَةِ بدفع ضر أو
جلب نفع يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ استئناف لبيان عدم نفع الأرحام
والأولاد يومئذ أي يفرق الله تعالى بينكم بما يكون من الهول
الموجب لفرار كل منكم من الآخر حسبما نطق به قوله تعالى:
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [عبس: 34] الآية فلا
ينبغي أن يرفض حق الله تعالى وتوالي أعداؤه سبحانه لمن هذا
شأنه، وما أشرنا إليه من تعلق يوم القيامة بالفعل قبله هو
الظاهر، وجوز تعلقه- بيفصل- بعده.
وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب- يفصل- بضم الياء وتشديد الصاد
مبنيا للفاعل، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة كذلك إلا أنهما
خففا، وطلحة والنخعي- نفصل النون مضمومة والتشديد والبناء
للفاعل، وهما أيضا وزيد بن علي بالنون مفتوحة مخففا مبنيا
للفاعل، وأبو حيوة أيضا بالنون مضمومة.
وقرأ الأعرج وعيسى وابن عامر «يفصّل» بالياء والتشديد والبناء
للمفعول، وجمهور القراء كذلك إلا أنهم خففوا، ونائب الفعل إما
بَيْنَكُمْ وهو مبني على الفتح لإضافته إلى متوغل في البناء
كما قيل، وإما ضمير المصدر المفهوم من الفاعل أي يفصل هو أي
الفصل وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم به.
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ
وَالَّذِينَ مَعَهُ تأكيد لأمر الإنكار عليهم والتخطئة في
موالاة الكفار بقصة إبراهيم عليه السلام ومن معه ليعلم أن الحب
في الله تعالى والبغض فيه سبحانه من أوثق عرا الإيمان فلا
ينبغي أن يغفل عنهما، والأسوة بضم الهمزة وكسرها وهما لغتان،
وبالكسر قرأ جميع القراء إلا عاصما وهي بمعنى الائتساء
والاقتداء، وتطلق على الخصلة التي من حقها أن يؤتسى ويقتدى
بها. وعلى نفس الشخص المؤتسى به، ففي زيد أسوة من باب التجريد
نحو:
وللضعفاء في الرحمن كاف وفي البيضة عشرون منا حديد وكل من ذلك
قيل: محتمل في الآية، ورجح إرادة الخصلة لان الاستثناء الآتي
عليها أظهر، ولَكُمْ للبيان متعلق بمحذوف كما في سقيا لك، أو
هو متعلق بكان على رأى من
(14/263)
يجوز تعلق الظرف بها، وأُسْوَةٌ اسمها
وحَسَنَةٌ صفته، وفِي إِبْراهِيمَ خبرها، أو لَكُمْ هو الخبر،
وفِي إِبْراهِيمَ صفة بعد صفة- لأسوة- أو خبر بعد خبر- لكان-
أو حال من المستكن في لَكُمْ على ما قيل، أو في حَسَنَةٌ ولم
يجوز كونه صلة أُسْوَةٌ بناء على أنها مصدر، أو اسمه وهو إذا
وصف لا يعمل مطلقا لضعف شبهه بالفعل، قيل: وإذا قلنا: إنها
ليست مصدرا ولا اسمه، أو قلنا: إنه يغتفر عمله وإن وصف قبل
العمل في الظرف للاتساع فيه جاز ذلك.
والظاهر أن المراد- بالذين معه- عليه السلام أتباعه المؤمنون
لكن قال الطبري وجماعة: المراد بهم الأنبياء الذين كانوا قريبا
من عصره عليه وعليهم الصلاة والسلام لأنه عليه السلام لم يكن
معه وقت مكافحته قومه وبراءته منهم أتباع مؤمنون كافحوهم معه
وتبرؤوا منهم، فقد روي أنه قال لسارة حين رحل إلى الشام مهاجرا
من بلد نمروذ: ما على الأرض من يعبد الله تعالى غيري وغيرك،
وأنت تعلم أنه لا يلزم وجود الاتباع المؤمنين في أول وقت
المكافحة بل اللازم وجودهم ولو بعد، ولا شك في أنهم وجدوا بعد
فليحمل من معه عليهم، ويكون التبري المحكي في قوله تعالى: إِذْ
قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ إلخ وقت وجودهم،
وإِذْ قيل: ظرف لخبر كانَتْ والعامل الجار والمجرور أو
المتعلق، أو- لكان- نفسها على ما مر، أو بدل من أُسْوَةٌ
وبُرَآؤُا جمع بريء كظريف وظرفاء.
وقرأ الجحدري «براء» كظراف جمع ظريف أيضا، وقرأ أبو جعفر
«برّاء» بضم الباء كتؤام وظؤار، وهو اسم جمع الواحد بريء وتوام
وظئر، وقال الزمخشري: إن ذلك على إبدال الضم من الكسر كرخال
بضم الراء جمع رخل، وتعقب بأنه ضم أصلي، والصيغة من أوزان
أسماء الجموع، وليس ذلك جمع تكسير فتكون الضمة بدلا من الكسرة
ورويت هذه القراءة عن عيسى، قال أبو حاتم: زعموا أنه عيسى
الهمداني وعنه «براء» على فعال كالذي في قوله تعالى:
إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ في [الزخرف: 26] ، وهو
مصدر على فعال يوصف به المفرد وغيره، وتأكيد الجملة لمزيد
الاعتناء بشأنها، أو لأن قومهم المشركون مستبعدون ذلك شاكون
فيه حيث يحسبون أنفسهم على شيء وكأنهم استشعروا ذلك منهم
فقالوا لهم: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ.
وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام والكواكب
وغيرها كَفَرْنا بِكُمْ بيان لقوله سبحانه: إِنَّا بُرَآؤُا
إلى آخره فهو على معنى كفرنا بكم وبما تعبدون من دون الله،
ويكون المراد بِكُمْ القوم ومعبوديهم بتغليب المخاطبين، والكفر
بذلك مجاز أو كناية عن عدم الاعتداد فكأنه قيل: إنا لا نعتد
بشأنكم ولا بشأن آلهتكم وما أنتم عندنا على شيء.
وفي الكشف أن الأصل كفرنا بما تعبدون ثم كفرنا بكم وبما تعبدون
لأن من كفر بما أتى به الشخص فقد كفر به، ثم اكتفى- بكفرنا
بكم- لتضمنه الكفر بجميع ما أتوا به وما تلبسوا به لا سيما وقد
تقدمه إِنَّا بُرَآؤُا فسر بأنا لا نعتد إلخ تنبيها على أنه
تهكم بهم فإن ذلك لا يسمى كفرا لغة وعرفا وإنما هو اسم يقع على
أدخل الأشياء في الاستهجان والذم، وما ذكرناه أقرب، وهو معنى
ما في الكشاف دونه، وأما ما قيل: إن في الكلام معطوفا على
الجار والمجرور محذوفا أي بكم وبما تعبدون، وحذف اكتفاء بدلالة
السياق فليس بشيء.
وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ
أَبَداً أي هذا دأبنا معكم لا نتركه حَتَّى تُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ وَحْدَهُ وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك فتنقلب
العداوة ولاية والبغضاء محبة، وفسر الفيروزآبادي الْبَغْضاءُ
بشدة البغض ضد الحب، وأفاد أن العداوة ضد الصداقة، وفسر
الصداقة بالمحبة، فالعداوة والبغضاء على هذا متقاربان، وأفاد
الراغب أن العداوة منافاة الالتئام قلبا، وقال: البغض نفار
النفس عن الشيء الذي ترغب عنه وهو ضد الحب، ثم قال:
(14/264)
يقال: بغض الشيء بغضا وبغضة وبغضاء، وهو
نحو كلام الفيروزابادي، والذي يفهم من كلام غير واحد أنه كثيرا
ما يعتبر في العداوة التخاذل دون البغضاء فليراجع هذا المطلب.
إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ
استثناء من قوله تعالى: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ كما قاله قتادة.
وجماعة وهو على تقدير التجريد أو تفسيرا- لأسوة- بالاقتداء
منقطع بلا ريب، وأما على تقدير أن يراد بها ما يؤتسى به فقيل:
هو متصل وقيل: منقطع، وإليه ذهب الأكثر، وتوجيه الاستثناء إلى
العدة بالاستغفار لا إلى نفس الاستغفار المحكي عنه عليه السلام
بقوله تعالى: وَاغْفِرْ لِأَبِي [الشعراء: 86] الآية مع أنه
المراد قيل: لأنها كانت هي الحاملة له عليه السلام عليه، ويعلم
من ذلك استثناء نفس الاستغفار بطريق الأولى، وجعلها بعضهم
كناية عن الاستغفار لأن عدة الكريم خصوصا مثل إبراهيم عليه
السلام لا سيما إذا أكدت بالقسم يلازمها الإنجاز وليس بلازم
كما لا يخفى، وكأن هذه العدة غير العدة السابقة في سورة [مريم:
47] في قوله تعالى حكاية عنه عليه السلام: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ
رَبِّي الآية ولعلها وقعت منه عليه السلام بعد تلك تأكيدا لها
وحكيت هاهنا على سبيل الاستثناء.
وفي الإرشاد تخصيصها بالذكر دون ما وقع في سورة مريم لورودها
على طريق التوكيد القسمي، واستثناء ذلك في الأسوة الحسنة قيل:
لأن استغفاره عليه السلام لأبيه الكافر بمعنى أن يوفقه الله
تعالى للتوبة ويهديه سبحانه للإيمان وإن كان جائزا عقلا وشرعا
لوقوعه قبل تبين أنه من أصحاب الجحيم وأنه يموت على الكفر كما
دل عليه ما في سورة التوبة لكنه ليس مما ينبغي أن يؤتسى به
أصلا إذ المراد به ما يجب الائتساء به حتما لورود الوعيد على
الإعراض عنه بقوله تعالى بعد: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ
اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فاستثناؤه عما سبق إنما
يفيد عدم وجوب استدعاء الإيمان والمغفرة للكافر المرجوّ
إيمانه، وذلك مما لا يرتاب فيه عاقل، وأما عدم جوازه فلا دلالة
للاستثناء عليه قطعا، وزعم الإمام علي ما نقل عنه دلالة الآية
على ذلك، ولا يلزم أن يكون الاستغفار منه عليه السلام معصية
لأن كثيرا من خواص الأنبياء عليهم السلام لا يجوز التأسي به
لأنه أبيح لهم خاصة وهو كما ترى إذ هو ظاهر في أن ذلك
الاستغفار الذي وقع منه عليه السلام لو فرض واقعا من غيره لكان
معصية وليس كذلك بل هو مباح ممن وقع.
وعن الطيبي ما حاصله: إن إبراهيم عليه السلام لما أجاب قول
أبيه: لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم: 46]
بقوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي رحمة ورأفة به، ولم يكن
عارفا بإصراره على الكفر وفى بوعده، وقال: وَاغْفِرْ لِأَبِي
فلما تبين إصراره ترك الدعاء وتبرأ منه، فظهر أن استغفاره لم
يكن منكرا، وهو في حياته بخلاف ما نحن فيه فإنه فصل عداوتهم
وحرصهم على قطع أرحامهم بقوله تعالى: لَنْ تَنْفَعَكُمْ إلخ
وسلاهم عن القطيعة بقصة إبراهيم عليه السلام ثم استثنى منها ما
ذكر كأنه قيل: لا تجاملوهم ولا تبدوا لهم الرأفة كما فعل
إبراهيم لأنه لم يتبين له كما تبين لكم انتهى، وفيه رمز إلى
احتمال أن يكون المستثنى نفس العدة من حيث دلالتها على الرأفة
والرحمة، ومآل ذلك استثناء الرأفة والرحمة، وعلل بعض الأجلة
عدم كون استغفاره عليه السلام لأبيه الكافر مما لا ينبغي أن
يؤتسى به بأنه كان قبل النهي أو لموعدة وعدها إياه وتعقب
الثاني بأن الوعد بالمحظور لا يرفع حظره، والأول بأنه مبني على
تناول النهي لاستغفاره عليه السلام له مع أن النهي إنما ورد في
شأن الاستغفار بعد تبين الأمر، وقد كان استغفاره عليه السلام
قبله، ومنبىء عن كون الاستغفار مؤتسى به لو لم ينه عنه مع أن
ما يؤتسى به ما يجب الائتساء به لا ما يجوز فعله في الجملة،
وأجيب بما لا يرفع القال والقيل فالأولى التعليل بما سبق.
واستظهر أبو حيان أن الاستثناء من مضاف لإبراهيم مقدر في نظم
الآية الكريمة أي لقد كان لكم أسوة حسنة في مقالات إبراهيم
ومحاوراته لقومه إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ إلخ، وجزم باتصال
الاستثناء عليه، وكذا جزم الطيبي
(14/265)
باتصاله على قول البغوي أي لكم أسوة حسنة
في إبراهيم وأموره إلا في استغفاره لأبيه المشرك، ولا يخفى أن
التقدير خلاف الظاهر، ومتى ارتكب فالأولى تقدير أمور، بقي أنه
قيل: إن الآية تدل على منع التأسي بإبراهيم عليه السلام في
الاستغفار للكافر الحي مع أنه بالمعنى السابق أعني طلب الإيمان
له لا منع عنه.
وأجيب بأنه إنما منع من التأسي بظاهره وظن أنه جائز مطلقا كما
وقع لبعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وفيه أنه قد تقدم أن
دلالة الآية على أن الاستغفار ليس مما يجب الائتساء به حتما لا
على منعه وحرمته، ثم إنه ينبغي أن يعلم أن تبين كون أبيه من
أصحاب الجحيم الذي كان الاستغفار قبله كان في الدنيا وكذا
التبري منه بعده، وقد تقدم في سورة التوبة قول: بكون ذلك في
الآخرة لدلالة ظواهر بعض الاخبار الصحيحة عليه فإنها دالة على
أنه عليه السلام يشفع لأبيه يوم القيامة، وهي استغفار أي
استغفار فيه، ولو كان تبين أنه يموت كافرا في الدنيا لم يكن
ليشفع، ويطلب على أتم وجه المغفرة له ضرورة أنه عليه السلام
عالم أن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به، وإنكار ذلك مما لا
يكاد يقدم عليه عاقل، والذاهبون إلى أن التبين كان في الدنيا
كما عليه سلف الأمة- وهو الصحيح الذي أجزم به اليوم- أشكلت
عليهم تلك الظواهر من حيث دلالتها على الشفاعة التي هي في ذلك
اليوم استغفار، وأتهموا وأنجدوا في الجواب عنها، وقد تقدم جميع
ما وجدته لهم فارجع إليه واختر لنفسك ما يحلو.
ثم إني أقول الذي يغلب على ظني أن الاستغفار الذي كان منه عليه
السلام قبل التبين بالمعنى المشهور لا بمعنى التوفيق للإيمان،
والآيات التي في سورة التوبة وما ورد في سبب نزولها تؤيد
ظواهرها ذلك.
والتزم أن امتناع جواز الاستغفار إنما علم بالوحي لا بالعقل
لأنه يجوز أن يغفر الله تعالى للكافر وهو سبحانه الغفور
الرحيم، وأنه عليه السلام لم يكن إذ استغفر عالما بالوحي
امتناعه، ومعنى الآية- والله تعالى أعلم- إن لكم الاقتداء
بإبراهيم عليه السلام والذين معه في البراءة من الكفرة لكن
استغفاره للكافر ليس لكم الاقتداء به فيه وما له يجب عليكم
البراءة ويحرم عليكم الاستغفار وإبداء الرأفة، فليس لكم الذي
اعتبرناه في الاستثناء من باب قوله تعالى:
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: 113] إلخ، ودلالة ذلك على المنع
ظاهرة فتأمل جميع ما قدمناه، ووراءه كلام مبني على قول من قال:
ليس لله عز وجل قضاء مبرم، ونقل ذلك عن القطب الشيخ عبد القادر
الكيلاني قدس سره، وشيد بعض الأجلة أركانه في رسالة مستقلة بسط
فيها الأدلة على ذلك لكنها لا تخلو عن بحث والله تعالى أعلم،
وقوله سبحانه: وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ من
تمام القول المستثنى محله النصب على أنه حال من فاعل
لَأَسْتَغْفِرَنَّ ومورد الاستثناء نفس الاستغفار لا قيده فإنه
في نفسه من خصال الخير لكون إظهارا للعجز وتفويضا للأمر إلى
الله تعالى، فالكلام من قبيل ما رجع فيه النفي للمقيد دون
القيد.
وفي الكشف أنه وإن كان في نفسه كلاما مطابقا للواقع حسنا أن
يجعل أسوة إلا أنه شفع بقوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ تحقيقا
للوعد كأنه قيل: لأستغفرن لك وما في طاقتي إلا هذا فهو مبذول
لا محالة، وفيه أنه لو ملك أكثر من ذلك لفعل، وعلى هذا فهو
حقيق بالاستثناء، وقوله عز وجل: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا
وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ إلى آخره جملة
مستأنفة لا محل لها من الإعراب متصلة معنى لقبصة إبراهيم عليه
السلام ومن معه على أنها بيان لحالهم في المجاهدة لأعداء الله
عز وجل وقشر العصا، ثم اللجأ إلى الله تعالى في كفاية شرهم وأن
تلك منهم له عز وجل لا لحظ نفسي، وقيل: اتصالها بما تقدم لفظي
على أنها بتقدير قوله معطوف على قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا
بُرَآؤُا أي وقالوا: ربنا إلخ، وجوز أن يكون المعنى قولوا ربنا
أمرا منه تعالى للمؤمنين بأن يقولوه، وتعليما منه عز وجل لهم
وتتميما لما وصاهم سبحانه به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار
والائتساء بإبراهيم عليه السلام وقومه في البراءة منهم وتنبيها
على الإنابة
(14/266)
إلى الله تعالى والاستعاذة به من فتنه أهل
الكفر والاستغفار مما فرط منهم وهو كما قيل: وجه حسن لا يأباه
النظم الكريم، وفيه شمة من أسلوب انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ
[النساء: 171] لأنه سبحانه لما حثهم على الائتساء بمن سمعت في
الانتهاء عن الكفر وموالاة أهله، ثم قال سبحانه ما يدل على
اللجأ إليه تعالى يكون في المعنى نهيا عن الأول وأمرا بالثاني.
وجعل بعضهم القول على هذا الوجه معطوفا على لا تَتَّخِذُوا أي
وقولوا ربنا إلخ، وأيا ما كان فتقديم الجار والمجرور في
المواضع الثلاثة للقصر كأنه قيل: ربنا عليك توكلنا لا على غيرك
وإليك أنبنا لا إلى غيرك وإليك المصير لا إلى غيرك رَبَّنا لا
تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي لا تسلطهم علينا
فيسبوننا ويعذبوننا- قاله ابن عباس- فالفتنة مصدر بمعنى
المفتون أي المعذب من فتن الفضة إذا أذابها فكأنه قيل: ربنا لا
تجعلنا معذبين للذين كفروا، وقال مجاهد: أي لا تعذبنا بأيديهم،
أو بعذاب من عندك فيظنوا أنهم محقون وأنا مبطلون فيفتنوا لذلك.
وقال قريبا منه قتادة وأبو مجلز، والأول أرجح، ولم تعطف هذه
الجملة الدعائية على التي قبلها سلوكا بهما مسلك الجمل
المعدودة، وكذا الجملة الآتية، وقيل: إن هذه الجملة بدل مما
قبلها، ورد بعدم اتحاد المعنيين كلا وجزءا ولا مناسبة بينهما
سوى الدعاء وَاغْفِرْ لَنا ما فرط منا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الغالب الذي لا يذل من التجأ إليه ولا يخيب رجاء من
توكل عليه الْحَكِيمُ الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أي في إبراهيم عليه السلام ومن معه
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الكلام فيه نحو ما تقدم، وقوله تعالى:
لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي ثوابه
تعالى أو لقاءه سبحانه ونعيم الآخرة أو أيام الله تعالى واليوم
الآخر خصوصا، والرجاء يحتمل الأمل والخوف صلة- لحسنة- أو صفة،
وجوز كونه بدلا من لَكُمْ بناء على ما ذهب إليه الأخفش من جواز
أن يبدل الظاهر من ضمير المخاطب- وكذا من ضمير المتكلم- بدل
الكل كما يجوز أن يبدل من ضمير الغائب، وأن يبدل من الكل بدل
البعض وبدل الاشتمال وبدل الغلط.
ونقل جواز ذلك الإبدال عن سيبويه أيضا، والجمهور على منعه
وتخصيص الجواز ببدل البعض والاشتمال والغلط.
وذكر بعض الأجلة أنه لا خلاف في جواز أن يبدل من ضمير المخاطب
بدل الكل فيما يفيد إحاطة كما في قوله تعالى: تَكُونُ لَنا
عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا [المائدة: 114] وجعل ما هنا من
ذلك وفيه خفاء، وجملة لَقَدْ كانَ إلخ قيل: تكرير لما تقدم من
المبالغة في الحث على الائتساء بإبراهيم عليه السلام ومن معه،
ولذلك صدرت بالقسم وهو على ما قال الخفاجي: إن لم ينظر لقوله
تعالى: إِذْ قالُوا فإنه قيد مخصص فإن نظر له كان ذلك تعميما
بعد تخصيص، وهو مأخوذ من كلام الطيبي في تحقيق أمر هذا
التكرير.
والظاهر أن هذا مقيد بنحو ما تقدم كأنه قيل: لقد كان لكم فيهم
أسوة حسنة إذ قالوا إلخ، وفي قوله سبحانه:
لِمَنْ كانَ إلخ إشارة إلى أن من كان يرجو الله تعالى واليوم
الآخر لا يترك الاقتداء بهم وإن تركه من مخايل عدم رجاء الله
سبحانه واليوم الآخر الذي هو من شأن الكفرة بل مما يؤذن بالكفر
كما ينبىء عن ذلك قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ
اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فإنه مما يوعد بأمثاله
الكفرة.
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ
عادَيْتُمْ مِنْهُمْ أي من أقاربكم المشركين مَوَدَّةً بأن
يوافقكم في الدين، وعدهم الله تعالى بذلك لما رأى منهم التصلب
في الدين والتشدد في معاداة آبائهم وأبنائهم وسائر أقربائهم
ومقاطعتهم إياهم بالكلية تطييبا لقلوبهم، ولقد أنجز الله
سبحانه وعده الكريم حين أتاح لهم الفتح فأسلم قومهم فتم
(14/267)
لَا يَنْهَاكُمُ
اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
(8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ
فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا
عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ
فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ
عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى
الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ
لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ
أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا
تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا
أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ
اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ
فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ
مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ
بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ
الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ
بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا
يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ
يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا
يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ
لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا
يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
بينهم من التحابّ والتصافي ما تم، ويدخل في
ذلك أبو سفيان وأضرابه من مسلمة الفتح من أقاربهم المشركين.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن عدي وابن مردويه والبيهقي
في الدلائل وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كانت المودة التي جعل الله
تعالى بينهم تزوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أم حبيبة بنت
أبي سفيان فصارت أم المؤمنين وصار معاوية خال المؤمنين، وأنت
تعلم أن تزوجها كان وقت هجرة الحبشة، ونزول هذه الآيات سنة ست
من الهجرة فما ذكر لا يكاد يصح بظاهره، وفي ثبوته عن ابن عباس
مقال وَاللَّهُ قَدِيرٌ مبالغ في القدرة فيقدر سبحانه على
تقليب القلوب وتغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة وَاللَّهُ
غَفُورٌ مبالغ في المغفرة فيغفر جل شأنه لما فرط منكم في
موالاتهم رَحِيمٌ مبالغ في الرحمة فيرحمكم عز وجل بضم الشمل
واستحالة الخيانة ثقة وانقلاب المقت مقة، وقيل: يغفر سبحانه
لمن أسلم من المشركين ويرحمهم، والأول أفيد وأنسب بالمقام.
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي
الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ
تَبَرُّوهُمْ أي لا ينهاكم سبحانه وتعالى عن البر بهؤلاء كما
يقتضيه كون أَنْ تَبَرُّوهُمْ بدل اشتمال من الموصول
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أي تفضوا إليهم بالقسط أي العدل،
فالفعل مضمن معنى الإفضاء ولذا عدي بإلى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ أي العادلين.
أخرج البخاري وغيره عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما
قالت: أتتني أمي راغبة وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول
الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فسألت رسول الله صلّى الله
تعالى عليه وسلم أأصلها؟
فأنزل الله تعالى لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ إلخ، فقال عليه الصلاة
والسلام: «نعم صلي أمك»
وفي رواية الإمام أحمد وجماعة عن عبد الله بن الزبير قال: قدمت
قتيلة بنت عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا.
أخرج ابن المنذر والطبراني في الكبير وابن مردويه بسند حسن
وجماعة عن ابن عباس أنه قال في كيفية امتحانهن: كانت المرأة
إذا جاءت النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم حلفها عمر رضي الله
تعالى عنه بالله ما خرجت
(14/268)
رغبة بأرض عن أرض. وبالله ما خرجت من بغض
زوج وبالله ما خرجت التماس دنيا وبالله ما خرجت إلا حبا لله
ورسوله،
وفي رواية عنه أيضا كانت محنة النساء أن رسول الله صلّى الله
تعالى عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب فقال:
قل لهن إن رسول الله عليه الصلاة والسلام بايعكن على أن لا
تشركن بالله شيئا
إلخ اللَّهُ أَعْلَمُ من كل أحد أو منكم بِإِيمانِهِنَّ فإنه
سبحانه هو المطلع على ما في قلوبهن، والجملة اعتراض فَإِنْ
عَلِمْتُمُوهُنَّ أي ظننتموهن ظنا قويا يشبه العلم بعد
الامتحان مُؤْمِناتٍ في نفس الأمر فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى
الْكُفَّارِ أي إلى أزواجهن الكفرة لقوله تعالى: لا هُنَّ
حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ فإنه تعليل للنهي
عن رجعهن إليهم، والجملة الأولى لبيان الفرقة الثابتة وتحقق
زوال النكاح الأول. والثانية لبيان امتناع ما يستأنف ويستقبل
من النكاح، ويشعر بذلك التعبير بالاسم في الأولى والفعل في
الثانية.
وقال الطيبي في وجه اختلاف التعبيرين: إنه أسندت الصفة المشبهة
إلى ضمير المؤمنات في الجملة الأولى إعلاما بأن هذا الحكم يعني
نفي الحل ثابت فيهن لا يجوز فيه الإخلال والتغيير من جانبهن،
وأسند الفعل إلى ضمير الكفار إيذانا بأن ذلك الحكم مستمر
الامتناع في الأزمنة المستقبلة لكنه قابل للتغيير باستبدال
الهدى بالضلال، وجوز أن يكون ذلك تكريرا للتأكيد والمبالغة في
الحرمة وقطع العلاقة، وفيه من أنواع البديع ما سماه بعضهم
بالعكس والتبديل كالذي في قوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ
وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [البقرة: 187] ولعل الأول أولى،
واستدل بالآية على أن الكفار مخاطبون بالفروع كما في الانتصاف،
والقول: بأن المخاطب في حق المؤمنة هي وفي حق الكافر الأئمة
بمعنى أنهم مخاطبون بأن يمنعوا ذلك الفعل من الوقوع لا يخفى
حاله، وقرأ طلحة- لا هن يحللن لهم- وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا
أي وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور قيل: وجوبا،
وقيل: ندبا،
روي أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم عام الحديبية أمر عليا كرم
الله تعالى وجهه أن يكتب بالصلح فكتب: باسمك اللهم هذا ما صالح
عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عن
الناس عشر سنين تأمن فيه الناس ويكف بعضهم عن بعض على أن من
أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليه، ومن جاء قريشا من
محمد لم يردّوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأن لا إسلال ولا
إغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن
أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، فرد رسول الله صلّى
الله تعالى عليه وسلم أبا جندل بن سهيل ولم يأت رسول الله عليه
الصلاة والسلام أحد من الرجال إلا رده في مدّة العهد وإن كان
مسلما، ثم جاء المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن
أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم
وكانت أول المهاجرات، فخرج أخواها عمار، والوليد حتى قدما على
رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فكلماه في أمرها ليردها
عليه الصلاة والسلام إلى قريش فنزلت الآية فلم يردّها عليه
الصلاة والسلام ثم أنكحها صلّى الله تعالى عليه وسلم زيد بن
حارثة رضي الله تعالى عنه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه جاءت امرأة تسمى سبيعة بنت
الحارث الأسلمية مؤمنة، وكانت تحت صيفي بن الراهب وهو مشرك من
أهل مكة فطلبوا ردها فأنزل الله تعالى الآية، وروي أنها كانت
تحت صناب وأقط وسمن وهي مشركة فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو
تدخلها بيتها حتى أرسلت إلى عائشة رضي الله تعالى عنها أن تسأل
رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عن هذا فسألته فأنزل الله
تعالى لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ الآية فأمرها أن تقبل هديتها
وتدخلها بيتها.
وقتيلة هذه- على ما في التحرير- كانت امرأة أبي بكر رضي الله
تعالى عنه فطلقها في الجاهلية وهي أم أسماء
(14/269)
حقيقة، وعن ابن عطية أنها خالتها وسمتها
أما مجازا، والأول هو المعول عليه، وقال الحسن وأبو صالح: نزلت
الآية في خزاعة وبني الحارث بن كعب وكنانة ومزينة وقبائل من
العرب كانوا صالحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أن لا
يقاتلوه ولا يعينوا عليه، وقال قرة الهمداني وعطية العوفي:
نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس.
وعن عبد الله بن الزبير أنها نزلت في النساء والصبيان من
الكفرة، وقال مجاهد: في قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا فكان
المهاجرون والأنصار يتحرجون من برهم لتركهم فرض الهجرة، وقيل:
في مؤمنين من أهل مكة وغيرها أقاموا بين الكفرة وتركوا الهجرة-
أي مع القدرة عليها- وقال النحاس والثعلبي: نزلت في المستضعفين
من المؤمنين الذين لم يستطيعوا الهجرة، والأكثرون على أنها في
كفرة اتصفوا بما في حيز الصلة، وعلى ذلك قال الكيا: فيها دليل
على جواز التصدق على أهل الذمة دون أهل الحرب وعلى وجوب النفقة
للأب الذمي دون الحربي لوجوب قتله، ويخطر لي أني رأيت في
الفتاوى الحديثية لابن حجر عليه الرحمة الاستدلال بها على جواز
القيام لأهل الذمة لأنه من البر والإحسان إليهم ولم ننه عنه،
لكن راجعت تلك الفتاوى عند كتابتي هذا البحث فلم أظفر بذلك،
ومع هذا وجدته نقل في آخر الفتاوى الكبرى في باب السير عن العز
بن عبد السلام أنه لا يفعل القيام لكافر لأنا مأمورون بإهانته
وإظهار صغاره فإن خيف من شره ضرر عظيم جاز لأن التلفظ بكلمة
الكفر جائز للإكراه فهذا أولى، ولم يتعقبه بشيء، ثم إن في كون
القيام من البر مطلقا ترددا، وتخصيص العز جواز القيام للكافر
بما إذا خيف ضرر عظيم مخالف لقول ابن وهبان من الحنفية:
وللميل أو للمال يخدم كافر ... وللميل للإسلام لو قام يغفر
ومن الناس من يجعل كل مصلحة دينية كالميل للإسلام لكن بشرط أن
لا يقصد القائم تعظيما، والله تعالى أعلم، ونقل الخفاجي عن
الدر المنثور أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5] الآية، والاستدلال بها على ما سمعت
بتقدير عدم النسخ إن تم إنما يتم على بعض الأقوال فيها.
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي
الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى
إِخْراجِكُمْ كمشركي مكة، فإن بعضهم سعوا في إخراج المؤمنين
وبعضهم أعانوا المخرجين أَنْ تَوَلَّوْهُمْ تدل من الموصول بدل
اشتمال أيضا أي إنما ينهاكم سبحانه عن أن تتولوهم وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لوضعهم الولاية
موضع العداوة أو هم الظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب، وفي
الحصر من المبالغة ما لا يخفى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بيان لحكم من يظهر الإيمان بعد
بيان حكم فريقي الكافرين إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ أي بحسب
الظاهر مُهاجِراتٍ من بين الكفار، وقرىء «مهاجرات» بالرفع على
البدل من الْمُؤْمِناتُ فكأنه قيل: إذا جاءكم «مهاجرات»
فَامْتَحِنُوهُنَّ فاختبروهن بما يغلب على ظنكم موافقة قلوبهن
لألسنتهن في الإيمان.
مسافر المخزومي وأنه أعطي ما أنفق، وتزوجها عمر رضي الله تعالى
عنه، وفي رواية أنها نزلت في أميمة بنت بشر امرأة من بني عمرو
بن عون كانت تحت أبي حسان بن الدحداحة هاجرت مؤمنة إلى رسول
الله صلّى الله عليه وسلم وطلبوا ردّها فنزلت الآية فلم يردها
عليه الصلاة والسلام، وتزوجها سهيل بن صيف فولدت له عبد الله
بن سهيل، ولعل سبب النزول متعدد، وأيا ما كان فالآية على ما
قيل: نزلت بيانا لأن الشرط في كتاب المصالحة إنما كان في
الرجال دون النساء، وتراخي المخصص عن العام جائز عند الجبائي
ومن وافقه، ونسب للزمخشري أن ذلك من تأخير بيان المجمل لأنه لا
يقول بعموم تلك الألفاظ بل يجعلها مطلقات، والحمل على العموم
والخصوص بحسب المقام، والحنفية يجوزونه لا يقال: إنه شبه
التأخير عن وقت الحاجة وهو غير جائز عند الجميع لأن وقت الحاجة
أي العمل بالخطاب كان بعد
(14/270)
مجيء المهاجرات وطلب ردهن لا حين جرت
المهادنة مع قريش، وهذا ذهب إليه بعض الشافعية أيضا، ومنهم من
زعم أن التعميم كان منه صلّى الله تعالى عليه وسلم عن اجتهاد
أثيب عليه بأجر واحد ولم يقر عليه، ومنهم من وافق جمهور
الحنفية على النسخ لا التخصيص، فمن جوز منهم نسخ السنة بالكتاب
قال: نسخ بالآية، ومن لم يجوز قال:
بالسنة أي امتناعه صلّى الله تعالى عليه وسلم من الرد ووردت
الآية مقررة لفعله عليه الصلاة والسلام.
وعن الضحاك كان بين رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وبين
المشركين عهد أن لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها
إلينا فإن دخلت في دينك ولها زوج أن ترد على زوجها الذي أنفق
عليها، وللنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم من الشرط مثل ذلك،
وعليه فالآية موافقة لما وقع عليه العهد لكن أخرج أبو داود في
ناسخه وابن جرير وغيرهما عن قتادة أنه نسخ هذا العهد وهذا
الحكم يعني إيتاء الأزواج ما أنفقوا براءة، أما نسخ العهد فلما
أمر فيها من النبذ، وأما نسخ الحكم فلأن الحكم فرع العهد فإذا
نسخ نسخ، والذي عليه معظم الشافعية أن الغرامة لأزواجهن غير
ثابتة، وبين ذلك في الكشف على القول بنسخ رد المرأة، والقول
بالتخصيص، والقول: بأن التعميم كان عن اجتهاد لم يقر عليه صلّى
الله عليه وسلم، ثم قال: وأما على قول الضحاك- أي السابق- فهو
مشكل، ووجهه أنه حكم في مخصوصين فلا يعم غير تلك الوقعة على
أنه عز وجل خص الحكم بالمهاجرين ولم يبق بعد الفتح هجرة كما
ثبت في الصحيح فلا يبقى الحكم وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ أي في نكاحهن حيث حال إسلامهن بينهن وبين
أزواجهن الكفار إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي وقت
إيتائكم إياهن مهورهن- فإذا- لمجرد الظرفية، ويجوز كونها شرطية
وجوابها مقدر بدليل ما قبل، وعلى التقديرين يفهم اشتراط إيتاء
المهور في نفي الجناح في نكاحهن، وليس المراد بإيتاء الأجور
إعطاءها بالفعل بل التزامها والتعهد بها، وظاهر هذا مع ما تقدم
من قوله تعالى: وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا أن هناك إيتاء إلى
الأزواج وإيتاء إليهن فلا يقوم ما أوتي إلى الأزواج مقام
مهورهن بل لا بد مع ذلك من إصداقهن، وقيل: لا يخلو إما أن يراد
بالأجور ما كان يدفع إليهن ليدفعنه إلى أزواجهن فيشترط في
إباحة تزويجهن تقديم أدائه، وإما أن يراد أن ذلك إذا دفع إليهن
على سبيل القرض ثم تزوجن على ذلك لم يكن به بأس، وإما أن يبين
إليهم أن ما أعطي لأزواجهن لا يقوم مقام المهر، وهذا ما ذكرناه
أولا من الظاهر وهو الأصح في الحكم، والوجهان الآخران ضعيفان
فقها ولفظا.
واحتج أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه بالآية على أن أحد الزوجين
إذا خرج من دار الحرب مسلما أو بذمة وبقي الآخر حربيا وقعت
الفرقة. ولا يرى العدة على المهاجرة ويبيح نكاحها من غير عدة
إلا أن تكون حاملا، وهذا للحديث المشهور الذي تجوز بمثله
الزيادة على النص
«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره»
ومذهب الشافعي على ما قيل: إنه لا تقع الفرقة إلا بإسلامها،
وأما بمجرد الخروج فلا فإن أسلمت قبل الدخول تنجزت الفرقة وبعد
الدخول توقفت إلى انقضاء العدة، وتعقب الاحتجاج بأن الآية لا
تدل على مجموع ما ذكر، نعم قد احتج بها على عدم العدة في
الفرقة بخروج المرأة إلينا من دار الحرب مسلمة، ووجه بأنه
سبحانه نفى الجناح من كل وجه في نكاح المهاجرات بعد إيتاء
المهر، ولم يقيد جل شأنه بمضي العدة فلولا أن الفرقة بمجرد
الوصول إلى دار الإسلام لكان الجناح ثانيا، ومع هذا فقد قيل:
الجواب على أصل الشافعية أن رفع الإطلاق ليس بنسخ ظاهر لأن عدم
التعرض ليس تعرضا للعدم، وأما على أصل الحنفية فكسائر الموانع،
وكونها حاملا بالاتفاق فتأمل وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ
الْكَوافِرِ جمع كافرة، وجمع فاعلة على فواعل مطرد وهو وصف
جماعة الإناث، وقال الكرخي: الْكَوافِرِ يشمل الإناث والذكور،
فقال له الفارسي: النحويون لا يرون هذا إلا في الإناث جمع
كافرة، فقال: أليس يقال: طائفة كافرة وفرقة كافرة. قال
الفارسي: فبهت، وفيه أنه لا يقال: كافرة في وصف الذكور إلا
تابعا للموصوف، أو يكون محذوفا
(14/271)
مرادا أما بغير ذلك فلا تجمع فاعلة على
فواعل إلا ويكون للمؤنث قاله أبو حيان، وعصم- جمع عصمة وهي ما
يعتصم به من عقد وسبب، والمراد نهي المؤمنين عن أن يكون بينهم
وبين الزوجات المشركات الباقية في دار الحرب علقة من علق
الزوجية أصلا حتى لا يمنع إحداهن نكاح خامسة أو نكاح أختها في
العدة بناء على أنه لا عدة لهن قال ابن عباس: من كانت له امرأة
كافرة بمكة فلا يعتدن بها من نسائه لأن اختلاف الدارين قطع
عصمتها منه، وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن إبراهيم
النخعي أنه قال: نزل قوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوا إلخ في
المرأة من المسلمين تلحق بالمشركين فلا يمسك زوجها بعصمتها قد
برىء منها.
وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد وسعيد بن جبير نحوه، وفي رواية
أخرى عن مجاهد أنه قال: أمرهم سبحانه بطلاق الباقيات مع الكفار
ومفارقتهن، ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه طلق لذلك امرأته
فاطمة أخت أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي فتزوجها
معاوية بن أبي سفيان وامرأته كلثوم بنت جرول الخزاعي فتزوجها
أبو جهم بن حذيفة العدوي، وكذا طلق طلحة زوجته أروى بنت ربيعة،
وتعقب ذلك بأنه بظاهره مخالف لمذهب الحنفية والشافعية، وأما
عند الحنفية فلأن الفرقة بنفس الوصول إلى دار الإسلام، وأما
عند الشافعية فلأن الطلاق موقوف إن جمعتهما العدة تبين وقوعه
من حين اللفظ، وإلا فالبينونة بواسطة بقاء المرأة في الكفر،
فظاهر الآية لا يدل على ما في هذه الرواية، وقرأ أبو عمرو
ومجاهد بخلاف عنه وابن جبير والحسن والأعرج «تمسكوا» مضارع مسك
مشددا، والحسن أيضا وابن أبي ليلى وابن عامر في رواية عبد
الحميد وأبو عمرو في رواية معاذ «تمسّكوا» مضارع تمسك محذوف
إحدى التاءين، والأصل تتمسكوا.
وقرأ الحسن أيضا «تمسكوا» بكسر السين مضارع مسك ثلاثيا
وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ أي واسألوا الكفار مهور نسائكم
اللاحقات بهم وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا أي وليسألكم الكفار
مهور نسائهم المهاجرات إليكم، وظاهره أمر الكفار، وهو من باب
وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة: 123] فهو أمر للمؤمنين
بالأداء مجازا، وقيل: المراد التسوية ذلِكُمْ الذي ذكر حُكْمُ
اللَّهِ أي فاتبعوه، وقوله عز وجل: يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ كلام
مستأنف أو حال من حُكْمُ بحذف الضمير العائد إليه، وهو مفعول
مطلق أي يحكمه الله تعالى بينكم، أو العائد إليه الضمير
المستتر في يَحْكُمُ بجعل الحكم حاكما مبالغة كأن الحكم لقوته
وظهوره غير محتاج لحاكم آخر وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يشرع ما
تقتضيه الحكمة البالغة، روي أنه لما تقرر هذا الحكم أدى
المؤمنون مما أمروا به من مهور المهاجرات إلى أزواجهن، وأبى
المشركون أن يؤدوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المؤمنين
فنزل قوله تعالى: وَإِنْ فاتَكُمْ أي سبقكم وانفلت منكم شَيْءٌ
مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ أي أحد من أزواجكم، وقرىء
كذلك، وإيقاع شَيْءٌ موقعه لزيادة التعميم وشمول محقر الجنس
نصا، وفي الكشف لك أن تقول: أريد التحقير والتهوين على
المسلمين لأن من فات من أزواجهم إلى الكفار يستحق الهون
والهوان، وكانت الفائتات ستا على ما نقله في الكشاف وفصله، أو
أن فاتَكُمْ شَيْءٌ من مهور أزواجكم على أن شَيْءٌ مستعمل في
غير العقلاء حقيقة، ومِنْ ابتدائية لا بيانية كما في الوجه
الأول فَعاقَبْتُمْ من العقبة لا من العقاب، وهي في الأصل
النوبة في ركوب أحد الرفيقين على دابة لهما والآخر بعده أي
فجاءت عقبتكم أي نوبتكم من أداء المهر شبه ما حكم به على
المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة وأداء
أولئك مهور نساء هؤلاء أخرى، أو شبه الحكم بالأداء المذكور
بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب، وحاصل المعنى إن لحق
أحد من أزواجكم بالكفار أو فاتكم شيء من مهورهن ولزمكم أداء
المهر كما لزم الكفار.
(14/272)
فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ
مِثْلَ ما أَنْفَقُوا من مهر المهاجرة التي تزوجتموها ولا
تؤتوه زوجها الكافر ليكون قصاصا، ويعلم مما ذكرنا أن عاقب لا
يقتضي المشاركة، وهذا كما تقول: إبل معاقبة ترعى الحمض تارة
وغيره أخرى ولا تريد أنها تعاقب غيرها من الإبل في ذلك، وحمل
الآية على هذا المعنى يوافق ما روي عن الزهري أنه قال:
يعطى من لحقت زوجته بالكفار من صداق من لحق بالمسلمين من
زوجاتهم.
وعن الزجاج أن معنى فَعاقَبْتُمْ فغنمتم، وحقيقته فأصبتم في
القتال بعقوبة حتى غنمتم فكأنه قيل: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ
مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ ولم يؤدوا إليكم مهورهن
فغنمتم منهم فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ
ما أَنْفَقُوا من الغنيمة وهذا هو الوجه دون ما سبق، وقد كان
صلّى الله تعالى عليه وسلم- كما روي عن ابن عباس- يعطي الذي
ذهبت زوجته من الغنيمة قبل أن تخمس المهر ولا ينقص من حقه
شيئا، وقال ابن جني: روينا عن قطرب أنه قال: فَعاقَبْتُمْ
فأصبتم عقبا منهم يقال: عاقب الرجل شيئا إذا أخذ شيئا وهو في
المعنى كالوجه قبله.
وقرأ مجاهد والزهري والأعرج وعكرمة وحميد وأبو حيوة
والزعفراني- فعقّبتم- بتشديد القاف من عقبه إذا قفاه لأن كل
واحد من المتعاقبين يفقي صاحبه، والزهري والأعرج وأبو حيوة
أيضا والنخعي وابن وثاب بخلاف عنه- فعقبتم- بفتح القاف
وتخفيفها، والزهري والنخعي أيضا بالكسر والتخفيف، ومجاهد أيضا-
فأعقبتم- أي دخلتم في العقبة وفسر الزجاج هذه القراءات الأربعة
بأن المعنى فكانت العقبى لكم أي الغلبة والنصر حتى غنمتم لأنها
العاقبة التي تستحق أن تسمى عاقبة وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي
أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ فإن الإيمان به عز وجل يقتضي التقوى
منه سبحانه وتعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ
الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ أي مبايعات لك أي قاصدات للمبايعة
عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً أي شيئا من الأشياء
أو شيئا من الإشراك وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا
يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ أريد به على ما قال غير واحد: وأد
البنات بالقرينة الخارجية، وإن كان الأولاد أعم منهن، وجوز
إبقاءه على ظاهره فإن العرب كانت تفعل ذلك من أجل الفقر
والفاقة، وانظر هل يجوز حمل هذا النهي على ما يعم ذلك، وإسقاط
الحمل بعد أن ينفخ فيه الروح،
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والحسن والسلمي «ولا يقتّلن»
بالتشديد
وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ
وَأَرْجُلِهِنَّ.
قال الفراء: كانت المرأة في الجاهلية تلتقط المولود فتقول: هذا
ولدي منك فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن، وذلك أن
الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها، وفي الكشاف كني
بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقة
بزوجها كذبا لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين وفرجها الذي
تلده به بين الرجلين، وقيل: كني بذلك عن الولد الدعي لأن
اللواتي كن يظهرن البطون لأزواجهن في بدء الحال إنما فعلن ذلك
امتنانا عليهم، وكن يبدين في ثاني الحال عند الطلق حين يضعن
الحمل بين أرجلهن أنهن ولدن لهم فنهين عن ذلك الذي هو من شعار
الجاهلية المنافي لشعار المسلمات تصويرا لتينك الحالتين
وتهجينا لما كن يفعلنه، وأيا ما كان فحمل الآية على ما ذكر هو
الذي ذهب إليه الأكثرون، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما، وقال بعض الأجلة: معناه لا يأتين ببهتان من قبل أنفسهن،
واليد والرجل كناية عن الذات لأن معظم الأفعال بهما، ولذا قيل
للمعاقب بجناية قولية: هذا ما كسبت يداك، أو معناه لا يأتين
ببهتان ينشئنه في ضمائرهم وقلوبهن، والقلب مقره بين الأيدي
والأرجل، والكلام على الأول كناية عن إلقاء البهتان من تلقاء
أنفسهن، وعلى الثاني كناية عن كون البهتان من دخيلة قلوبهن
المبنية على الخبث الباطني.
وقال الخطابي: معناه لا يبهتن الناس كفاحا ومواجهة كما يقال
للأمر بحضرتك: إنه بين يديك، ورد بأنهم وإن
(14/273)
كنوا عن الحاضر بما ذكر لكن لا يقال فيه:
هو بين رجليك، وهو وارد لو ذكرت الأرجل وحدها أما إذا ذكرت مع
الأيدي تبعا فلا، والكلام قيل: كناية عن خرق جلباب الحياء،
والمراد النهي عن القذف، ويدخل فيه الكذب والغيبة، وروي عن
الضحاك حمل ذلك على القذف، وقيل: بين أيديهن قبلة أو جسة
وأرجلهن الجماع، وقيل: بين أيديهن ألسنتهن بالنميمة، وأرجلهن
فروجهن بالجماع، وهو- وكذا ما قبله- كما ترى.
وقيل: البهتان السحر، وللنساء ميل إليه جدا فنهين عنه وليس
بشيء وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ أي فيما تأمرهن به من
معروف وتنهاهن عنه من منكر، والتقييد بالمعروف مع أن الرسول
صلّى الله تعالى عليه وسلم لا يأمر إلا به للتنبيه على أنه لا
يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، ويرد به على من زعم من
الجهلة أن طاعة أولي الأمر لازمة مطلقا، وخص بعضهم هذا المعروف
بترك النياحة لما
أخرج الإمام أحمد والترمذي وحسنة وابن ماجة وغيرهم عن أم سلمة
الأنصارية قالت امرأة من هذه النسوة: ما هذا المعروف الذي لا
ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟ فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم: «لا
تنحن» الحديث
، ونحوه من الأخبار الظاهرة في تخصيصه بما ذكر كثير، والحق
العموم، وما ذكر في الأخبار من باب الاقتصار على بعض أفراد
العام لنكتة، ويشهد للعموم قول ابن عباس وأنس وزيد بن أسلم: هو
النوح وشق الجيوب ووشم الوجوه ووصل الشعر وغير ذلك من أوامر
الشريعة فرضها وندبها، وتخصيص الأمور المعدودة بالذكر في حقهن
لكثرة وقوعها فيما بينهن مع اختصاص بعضها بهن على ما سمعت أولا
فَبايِعْهُنَّ بضمان الثواب على الوفاء بهذه الأشياء، وتقييد
مبايعتهن بما ذكر من مجيئهن لحثهن على المسارعة إليها مع كمال
الرغبة فيها من غير دعوة لهن إليها وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ
اللَّهَ زيادة على ما في ضمن المبايعة من ضمان الثواب إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي مبالغ جل شأنه في المغفرة والرحمة
فيغفر عز وجل لهن ويرحمهن إذا وفين بما بايعن عليه وهذه الآية
نزلت- على ما أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل- يوم الفتح فبايع
رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم الرجال على الصفا وعمر
رضي الله تعالى عنه يبايع النساء تحتها عن رسول الله صلّى الله
تعالى عليه وسلم، وجاء أنه عليه الصلاة والسلام بايع النساء
أيضا بنفسه الكريمة.
أخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة والترمذي وصححه وغيرهم عن
أميمة بنت رقية قالت: أتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
لنبايعه فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك بالله حتى بلغ
وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فقال:
«فيما استطعن وأطقن قلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا يا
رسول الله ألا تصافحنا؟ قال: إني لا أصافح النساء إنما قولي
لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة» .
وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد عن الشعبي قال: كان رسول الله
صلّى الله تعالى عليه وسلم إذا بايع النساء وضع على يده ثوبا
وفي بعض الروايات أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم يبايعهن وبين
يديه وأيديهن ثوب قطوي
، ومن يثبت ذلك يقول بالمصافحة وقت المبايعة، والأشهر المعول
عليه أن لا مصافحة،
وأخرج ابن سعد وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
قال: كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم إذا بايع النساء
دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ثم يغمس أيديهن فيه
وكأن هذا بدل المصافحة والله تعالى أعلم بصحته.
والمبايعة وقعت غير مرة ووقعت في مكة بعد الفتح وفي المدينة
وممن بايعنه عليه الصلاة والسلام في مكة هند بنت عتبة زوج أبي
سفيان،
ففي حديث أسماء بنت يزيد بن السكن كنت في النسوة المبايعات
وكانت هند بنت عتبة في النساء فقرأ صلّى الله تعالى عليه وسلم
عليهن الآية فلما قال: عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ
شَيْئاً قالت هند:
وكيف نطمع أن يقبل منا ما لم يقبله من الرجال؟ يعني أن هذا بين
لزومه فلما قال وَلا يَسْرِقْنَ قالت: والله إني
(14/274)
لأصيب الهنة من مال أبي سفيان لا يدري أيحل
لي ذلك؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر
فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وعرفها
فقال لها: وإنك لهند بنت عتبة؟ قالت: نعم فاعف عما سلف يا نبي
الله عفا الله عنك، فقال: وَلا يَزْنِينَ فقالت: أو تزني
الحرة؟
تريد أن الزنا في الإماء بناء على ما كان في الجاهلية من أن
الحرة لا تزني غالبا وإنما يزني في الغالب الإماء، وإنما قيد
بالغالب لما قيل: إن ذوات الرايات كن حرائر، فقال: وَلا
يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ فقالت: ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا-
تعني ما كان من أمر ابنها حنظلة بن أبي سفيان فإنه قتل يوم
بدر- فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلّى الله تعالى
عليه وسلم-
وفي رواية- أنها قالت: قتلت الآباء وتوصينا بالأولاد؟! فضحك
صلّى الله تعالى عليه وسلم، فقال: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ
فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح ولا يأمر الله تعالى إلا
بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ
فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء
وكأن هذا منها دون غيرها من النساء لمكان أم حبيبة رضي الله
تعالى عنها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مع أنها
حديثة عهد بجاهلية، ويروى أن أول من بايع النبي صلّى الله
تعالى عليه وسلم من النساء أم سعد بن معاذ وكبشة بنت رافع مع
نسوة أخر رضي الله تعالى عنهن.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ عن الحسن وابن زيد ومنذر بن سعيد أنهم
اليهود لأنه عز وجل قد عبر عنهم في غير هذه الآية بالمغضوب
عليهم، وروي أن قوما من فقراء المؤمنين كانوا يواصلون اليهود
ليصيبوا من ثمارهم فنزلت، قيل: هم اليهود والنصارى، وفي رواية
عن ابن عباس أنهم كفار قريش. وقال غير واحد:
هم عامة الكفرة وهذه الآية على ما قال الطيبي: متصلة بخاتمة
قصة المشركين الذين نهي المؤمنون عن اتخاذهم أولياء بقوله
تعالى: لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ
[الممتحنة: 1] وهي قوله سبحانه: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة: 9] وقوله تعالى: يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ إلخ
مستطرد فإنه لما جرى حديث المعاملة مع الذين لا يقاتلون
المسلمين والذين يقاتلونهم وقد أخرجوهم من ديارهم من الأمر
بمبرة أولئك والنهي عن مبرة هؤلاء أتى بحديث المعاملة مع
نسائهم، ولما فرغ من ذلك أوصل الخاتمة بالفاتحة على منوال رد
العجز على الصدر من حيث المعنى، وفي الانتصاف جعل هذه الآية
نفسها من باب الاستطراد وهو ظاهر على القول:
بأن المراد بالقوم اليهود أو أهل الكتاب مطلقا، وقوله تعالى:
قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ استئناف، والمراد قد يئسوا من
خير الآخرة وثوابها لعنادهم الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم
المنعوت في كتابهم المؤيد بالآيات البينات والمعجزات الباهرات،
وإذا أريد بالقوم الكفرة فيأسهم من الآخرة لكفرهم بها.
كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ أي الذين هم
أصحاب القبور أي الكفار الموتى على أن مِنَ بيانية، والمعنى أن
يأس هؤلاء من الآخرة كيأس الكفار الذين ماتوا وسكنوا القبور
وتبينوا حرمانهم من نعيمها المقيم، وقيل: كيأسهم من أن ينالهم
خير من هؤلاء الأحياء، والمراد وصفهم بكمال اليأس من الآخرة،
وكون مِنَ بيانية مروي عن مجاهد وابن جبير وابن زيد، وهو
اختيار ابن عطية وجماعة، واختار أبو حيان كونها لابتداء
الغاية، والمعنى أن هؤلاء القوم المغضوب عليهم قد يئسوا من
الآخرة كما يئسوا من موتاهم أن يبعثوا ويلقوهم في دار الدنيا،
وهو مروي عن ابن عباس والحسن وقتادة، فالمراد بالكفار أولئك
القوم، ووضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلا لكفرهم وإشعارا بعلة
يأسهم، وقرأ ابن أبي الزناد كما يئس الكافر- بالإفراد على
إرادة الجنس.
هذا «ومن باب الاشارة في بعض الآيات» ما قيل: إن قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي
(14/275)
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ
إلخ إشارة للسالك إلى ترك موالاة النفس الإمارة وإلقاء المودة
إليها فإنها العدو الأكبر كما قيل:
أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك، وهي لا تزال كارهة للحق
ومعارضة لرسول العقل نافرة له ولا تنفك عن ذلك حتى تكون مطمئنة
راضية مرضية، وإليه الإشارة بقوله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ
مَوَدَّةً وقوله سبحانه: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ إلخ اشارة إلى
أنه متى أطاعت النفس وأمن جماحها جاز إعطاؤها حظوظها المباحة،
وإليه الإشارة بما
روي أن «لنفسك عليك حقا»
وفي قوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ
الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ إلخ إشارة إلى مبايعة المرشد
المريد الصادق ذا النفس المؤمنة وذلك أن يبايعه على ترك
الاختيار وتفويض الأمور إلى الله عز وجل وأن لا يرغب فيما ليس
له بأهل، وأن لا يلج في شهوات النفس، وأن لا يئد الوارد
الإلهامي تحت تراب الطبيعة، وأن لا يفتري فيزعم أن الخاطر
السري خاطر الروح وخاطر الروح خاطر الحق إلى غير ذلك، وأن لا
يعصي في معروف يفيده معرفة الله عز وجل، وأن يطلب من الله
سبحانه في ضمن المبالغة أن يستر صفاته بصفاته ووجوده بوجوده،
وحاصله أن يطلب له البقاء بعد الفناء وذلك فضل الله يؤتيه من
يشاء.
(14/276)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ
تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ
اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا
كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ
أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ
اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ
وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ
مُبِينٌ (6)
سورة الصّفّ
وتسمى أيضا سورة الحواريين وسورة عيسى عليه السلام، وهي مدنية
في قول الجمهور، وروي ذلك عن ابن الزبير وابن عباس والحسن
وقتادة وعكرمة ومجاهد، وقال ابن يسار: مكية، وروي ذلك عن ابن
عباس ومجاهد أيضا، والمختار الأول، ويدل له ما أخرجه الحاكم
وغيره عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نقرأ من أصحاب رسول الله
صلّى الله تعالى عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال
أحب إلى الله تعالى لعملناه فأنزل الله سبحانه سَبَّحَ لِلَّهِ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما
لا تَفْعَلُونَ
[الصف: 1، 2] قال عبد الله فقرأها علينا رسول الله صلّى الله
تعالى عليه وسلم حتى ختمها، وروي هذا الحديث مسلسلا يقرأها
علينا، وهو حديث صحيح على شرط الشيخين أخرجه الإمام أحمد
والترمذي وخلق كثير حتى قال الحافظ ابن حجر: إنه أصح مسلسل
يروي في الدنيا إن وقع في المسلسلات مثله في مزيد علوه، وكذا
ما روي في سبب النزول عن الضحاك من أنه قول شباب من المسلمين:
فعلنا في الغزو كذا ولم يفعلوا، وما روي عن ابن زيد من أنه قول
المنافقين للمؤمنين:
نحن منكم ومعكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك.
وآيها أربع عشرة آية بلا خلاف، ومناسبتها لما قبلها اشتمالها
على الحث على الجهاد والترغيب فيه، وفي ذلك من تأكيد النهي عن
اتخاذ الكفار أولياء الذي تضمنه ما قبل ما فيه.
(14/277)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الكلام فيه كالكلام المار في نظيره،
والنداء بوصف الايمان في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ على ما عدا القول
الأخير في سبب النزول ظاهر، وعليه قيل: هو للتهكم بأولئك
المنافقين وبإيمانهم، ولِمَ مركبة من اللام الجارة وما
الاستفهامية قد حذف ألفها- على ما قال النحاة- للفرق بين الخبر
والاستفهام ولم يعكس حرصا على الجواب، وقيل: لكثرة استعمالها
معا فاستحق التخفيف وإثبات الكثرة المذكورة أمر عسير، وقيل:
لاعتناقهما في الدلالة على المستفهم عنه، وبين بأن قولك: لم
فعلت؟ مثلا المستفهم عنه علة الفعل فهو كالمركب من العلة
والفعل والعلة مدلول اللام والفعل مدلول- ما- لأنها بمعنى أي
شيء، والمفيد لذلك المجموع، وعند عدم الحرف المسئول عنه الفعل
وحده وهو كما ترى، والمعنى لأي شيء تقولون ما لا تفعلونه من
الخير والمعروف؟! على أن مدار التوبيخ في الحقيقة عدم فعلهم،
وإنما وجه إلى قولهم تنبيها على تضاعف معصيتهم ببيان أن المنكر
ليس ترك الخير الموعود فقط بل الوعد أيضا، وقد كانوا يحسبونه
معروفا، ولو قيل: لم لا تفعلون ما تقولون لفهم منه أن المنكر
هو ترك الموعود كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا
ما لا تَفْعَلُونَ بيان لغاية قبح ما فعلوه، وكَبُرَ من باب
بئس فيه ضمير مبهم مفسر بالنكرة بعده، وأَنْ تَقُولُوا هو
المخصوص بالذم، وجوز أن يكون في كَبُرَ ضمير يعود على المصدر
المفهوم من قوله سبحانه: لِمَ تَقُولُونَ أي كبر هو أي القول
مقتا وأَنْ تَقُولُوا بدل من المضمر أو خبر مبتدأ محذوف، وقيل:
قصد فيه كثر التعجب من غير لفظه كما في قوله:
وجارة جساس أبأنا بنابها ... كليبا غلت ناب كليب بواؤها
ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين، وأسند إلى أَنْ
تَقُولُوا ونصب مَقْتاً على تفسيره دلالة على أن قولهم: ما لا
يَفْعَلُونَ مقت خالص لا شوب فيه لفرط تمكن المقت منه، واختير
لفظ المقت لأنه أشد البغض وأبلغه، ومنه نكاح المقت لتزوج الرجل
امرأة أبيه، ولم يقتصر على أن جعل البغض كبيرا حتى جعل أشده
وأفحشه، وعند الله أبلغ من ذلك لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله
تعالى الذي يحقر دونه سبحانه كل عظيم فقد تم كبره وشدته
وانزاحت عنه الشكوك، وتفسير المقت بما سمعت ذهب إليه غير واحد
من أهل اللغة، وقال ابن عطية: المقت البغض من أجل ذنب أو ريبة
أو دناءة يصنعها الممقوت، وقال المبرد: رجل ممقوت ومقيت إذا
كان يبغضه كل واحد، واستدل بالآية على وجوب الوفاء بالنذر وعن
بعض السلف أنه قيل له: حدثنا فسكت، فقيل له: حدثنا فقال:
وما تأمرونني أن أقول ما لا أفعل؟ فاستعجل مقت الله عز وجل،
وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ
فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ بيان لما
هو مرضي عنده سبحانه وتعالى بعد بيان ما هو ممقوت عنده جل
شأنه، وظاهره يرجح أن ما قالوه عبارة عن الوعد بالقتال دون ما
يقتضيه ما روي عن الضحاك أو عن ابن زيد في سبب النزول، ويقتضي
أن مناط التوبيخ هو إخلافهم لا وعدهم وصف مصدر وقع موقع اسم
الفاعل، أو اسم المفعول، ونصبه على الحال من ضمير يُقاتِلُونَ
أي صافين أنفسهم أو مصفوفين، وكَأَنَّهُمْ إلخ حال من المستكن
في الحال الأولى أي مشبهين في تلاصقهم ببنيان إلخ، وهذا ما
عناه الزمخشري بقوله: هما أي صَفًّا وكَأَنَّهُمْ إلخ حالان
متداخلان، وقول ابن المنير: إن معنى التداخل أن الحال الأولى
مشتملة على الحال الثانية فإن هيئة الاتصاف هي هيئة الارتصاص
خلاف المعروف من التداخل في اصطلاح النحاة، وجوز أن يكون حالا
ثانية من الضمير.
وقال الحوفي: هو في موضع النعت- لصفا- وهو كما ترى، والمرصوص
على ما قال الفراء ومنذر بن سعيد هو المعقود بالرصاص، ويراد به
المحكم، وقال المبرد: رصصت البناء لاءمت بين أجزائه وقاربته
حتى يصير كقطعة
(14/278)
واحدة، ومنه الرصيص وهو انضمام الأسنان،
والظاهر أن المراد تشبيههم في التحام بعضهم ببعض بالبنيان
المرصوص من حيث إنهم لا فرجه بينهم ولا خلل، وقيل: المراد
استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان
المرصوص، والأكثرون على الأول، وفي أحكام القرآن فيه استحباب
قيام المجاهدين للقتال صفوفا كصفوف الصلاة وأنه يستحب سدّ
الفرج والخلل في الصفوف، وإتمام الصف الأول فالأول، وتسوية
الصفوف عدم تقدم بعض على بعض فيها، وقال ابن الفرس: استدل به
بعضهم على أن قتال الرجالة أفضل من قتال الفرسان لأن التراص
إنما يمكن منهم، ثم قال: وهو ممنوع انتهى، ثم إن القتال على
هذه الهيئة اليوم من أصول العساكر المحمدية النظامية لا زالت
منصورة مؤيدة بالتأييدات الربانية، وأنت تعلم أن للوسائل حكم
المقاصد فما يتوصل به إلى تحصيل الاتصاف بذلك مما لا ينبغي أن
يتكاسل في تحصيله، وقرأ زيد بن علي يقاتلون بفتح التاء، وقرىء-
يقتلون- وقوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ
لِمَ تُؤْذُونَنِي كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك
القتال وَإِذْ منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به سيد
المخاطبين صلّى الله عليه وسلم بطريق التلوين أي اذكر لهؤلاء
المعرضين عن القتال وقت قول موسى عليه السلام لبني إسرائيل حين
ندبهم إلى قتال الجبابرة بقوله: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ
الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا
تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ
[المائدة: 21] فلم يمتثلوا لأمره عليه السلام وعصوه أشد عصيان
حيث قالوا: يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا
لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا
مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ إلى قوله تعالى: فَاذْهَبْ أَنْتَ
وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: 22- 24]
وأصروا على ذلك كل الإصرار وآذوه عليه السلام كل الأذية فربخهم
على ذلك بقوله: يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي بالمخالفة
والعصيان فيما أمرتكم به وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ
اللَّهِ إِلَيْكُمْ جملة حالية مؤكدة لإنكار الإيذاء ونفي سببه
وَقَدْ لتحقيق العلم لا للتقليل ولا للتقريب لعدم مناسبة ذلك
للمقام، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار أي والحال أنكم
تعلمون علما قطعيا مستمرا بمشاهدة ما ظهر على يدي من المعجزات
الباهرة التي معظمها إهلاك عدوكم وإنجائكم من ملكته أني رسول
الله إليكم لأرشدكم إلى خيري الدنيا والآخرة، ومن قضية علمكم
بذلك أن تبالغوا في تعظيمي وتسارعوا إلى طاعتي فَلَمَّا زاغُوا
أي أصروا على الزيغ والانحراف عن الحق الذي جاء به عليه السلام
واستمروا عليه أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أي صرفها عن قبول
الحق والميل والميل إلى الصواب لصرف اختيارهم نحو العمى
والضلال، وقيل: أي فلما زاغوا في نفس الأمر وبمقتضى ما هم عليه
فيها أزاغ الله تعالى في الخارج قلوبهم إذ الإيجاد على حسب
الإرادة، والإرادة على حسب العلم. والعلم على حسب ما عليه
الشيء في نفس الأمر، وعلى الوجهين لا إشكال في الترتيب، وقوله
تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ اعتراض
تذييلي مقرر لمضمون ما قبله من الإزاغة ومؤذن بعلته أي لا يهدي
القوم الخارجين عن الطاعة. ومنهاج الحق المصرين على الغواية
هداية موصلة إلى البغية، وإلا فالهداية إلى ما يوصل إليها
شاملة للكل، والمراد بهم إما المذكورون خاصة والإظهار في مقام
الإضمار لذمهم بالفسق وتعليل عدم الهداية به، أو جنس الفاسقين
وهم داخلون في حكمهم دخولا أوليا، قيل: وأيا ما كان فهو ناظر
إلى ما في قوله تعالى: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ
الْفاسِقِينَ [المائدة: 25] وقوله سبحانه: فَلا تَأْسَ عَلَى
الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [المائدة: 26] هذا وقيل: إذ ظرف متعلق
بفعل مقدر يدل عليه ما بعد كزاغوا ونحوه، والجملة معطوفة على
ما قبلها عطف القصة على القصة.
وذهب بعضهم إلى أن إيذاءهم إياه عليه السلام بما كان من
انتقاصه وعيبه في نفسه وجحود آياته وعصيانه فيما تعود إليهم
منافعه وعبادتهم البقر وطلبهم رؤية الله سبحانه جهرة والتكذيب
الذي هو حق الله تعالى وحقه عليه السلام،
(14/279)
وما ذكر أولا هو الذي تقتضيه جزالة النظم
الكريم ويرتضيه الذوق السليم وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ إما معطوف على إذ الأولى معمول لعاملها، وإما معمول
لمضمر معطوف على عاملها يا بَنِي إِسْرائِيلَ ولعله عليه
السلام لم يقل يا قومي كما قال موسى عليه السلام بل قال: يا
بَنِي إِسْرائِيلَ لأنه ليس له النسب المعتاد وهو ما كان من
قبل الأب فيهم، أو إشارة إلى أنه عامل بالتوراة وأنه مثلهم في
أنه من قوم موسى عليه السلام هضما لنفسه بأنه لا أتباع له ولا
قوم، وفيه من الاستعطاف ما فيه، وقيل: إن الاستعطاف بما ذكر
لما فيه من التعظيم، وقد كانوا يفتخرون بنسبتهم إلى إسرائيل
عليه السلام.
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ
يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ أي مرسل منه تعالى إليكم حال كوني
مصدقا، فنصب مُصَدِّقاً على الحال من الضمير المستتر في
رَسُولُ وهو العامل فيه، وإِلَيْكُمْ متعلق به، وهو ظرف لغو لا
ضمير فيه ليكون صاحب حال، وذكر هذا الحال لأنه من أقوى الدواعي
إلى تصديقهم إياه عليه السلام، وقوله تعالى: وَمُبَشِّراً
بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي معطوف على مُصَدِّقاً، وهو داع
أيضا إلى تصديقه عليه السلام من حيث إن البشارة بهذا الرسول
صلّى الله عليه وسلم واقعة في التوراة كقوله تعالى في الفصل
العشرين من السفر الخامس منها: أقبل الله من سينا وتجلى من
ساعير وظهر من جبال فاران معه الربوات الأطهار عن يمينه، وقوله
سبحانه في الفصل الحادي عشر من هذا السفر: يا موسى إني سأقيم
لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم مثلك أجعل كلامي في فيه، ويقول
لهم ما آمره فيه، والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم
باسمي أنا أنتقم منه ومن سبطه إلى غير ذلك، ويتضمن كلامه عليه
السلام أن دينه التصديق بكتب الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام
جميعا من تقدم ومن تأخر، وجملة يَأْتِي إلخ في موضع الصفة-
لرسول- وكذا جملة قوله تعالى: اسْمُهُ أَحْمَدُ وهذا الاسم
الجليل علم لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلم، وعليه قول حسان:
صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد
وصح من رواية مالك والبخاري ومسلم والدارمي الترمذي والنسائي
عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:
«إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الحاشر الذي يحشر الناس
على قدمي. وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا العاقب»
والعاقب الذي ليس بعده نبي وهو منقول من المضارع للمتكلم أو من
أفعل التفضيل من الحامدية، وجوز أن يكون من المحمودية بناء على
أنه قد سمع أحمد اسم تفضيل منها نحو العود أحمد، وإلا فأفعل من
المبني للمفعول ليس بقياسي، وقرىء «من بعدي» بفتح الياء، هذا
وبشارته عليه السلام بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم مما نطق
به القرآن المعجز، فإنكار النصارى ذلك ضرب من الهذيان، وقولهم:
ولو وقعت لذكرت في الإنجيل الملازمة فيه ممنوعة، وإذا سلمت
قلنا: بوقوعها في الإنجيل إلا أن جامعيه بعد رفع عيسى عليه
السلام أهملوها اكتفاء بما في التوراة ومزامير داود عليه
السلام وكتب شعياء وحبقوق وأرمياء وغيرهم من الأنبياء عليهم
السلام.
ويجوز أن يكونوا قد ذكروها إلا أن علماء النصارى بعد- حبا
لدينهم أو لأمر ما غير ذلك- أسقطوها كذا قيل، وأنا أقول:
الأناجيل التي عند النصارى أربعة: إنجيل متى من الاثني عشر
الحواريين جمعه باللغة السريانية بأرض فلسطين بعد رفع عيسى
عليه السلام بثماني سنين وعدة إصحاحاته ثمانية وستون إصحاحا،
وإنجيل مرقص وهو من السبعين جمعه باللغة الفرنجية بمدينة رومية
بعد الرفع باثنتي عشرة سنة وعدة إصحاحاته ثمانية وأربعون
إصحاحا، وإنجيل لوقا وهو من السبعين أيضا جمعه بالإسكندرية
باللغة اليونانية وعدة إصحاحاته ثلاثة وثمانون إصحاحا، وإنجيل
(14/280)
وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى
إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ
بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى
وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ
كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ
أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ
طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
(12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ
قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ
قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ
طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ
فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ
فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
يوحنا وهو حبيب المسيح جمعه بمدينة إقسس من
بلاد رومية بعد الرفع بثلاثين سنة وعدة إصحاحاته في النسخ
القبطية ثلاثة وثلاثون إصحاحا وهي مختلفة، وفيها ما يشهد
الإنصاف بأنه ليس كلام الله عز وجل ولا كلام عيسى عليه السلام
كقصة صلبه الذي يزعمونه ودفنه ورفعه من قبره إلى السماء فما هي
إلا كتواريخ وتراجم فيها شرح بعض أحوال عيسى عليه السلام ولادة
ورفعا ونحو ذلك، وبعض كلمات له عليه السلام على نحو بعض الكتب
المؤلفة في بعض الأكابر والصالحين فلا يضر إهمالها بعض
الأحوال، والكلمات التي نطق القرآن العظيم بها ككلامه عليه
السلام في المهد وبشارته بنبينا صلّى الله تعالى عليه وسلم على
أن في إنجيل يوحنا ما هو بشارة بذلك عند من أنصف وسلك الصراط
السوي وما تعسف. ففي الفصل الخامس عشر منه قال يسوع المسيح: إن
الفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي يعلمكم كل شيء، وقال يوحنا
أيضا: قال المسيح: من يحبني يحفظ كلمتي وأبي يحبه وإليه يأتي
وعنده يتخذ المنزلة كلمتكم بهذا لأني لست عندكم بمقيم،
والفارقليط روح القدس الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء وهو
يذكركم كل ما قلت لكم أستودعكم سلامي لا تقلق قلوبكم ولا تجزع
فإني منطلق وعائد إليكم لو كنتم تحبوني كنتم تفرحون بمضيي إلى
الأب، وقال أيضا: إن خيرا لكم أن أنطلق لأبي لأني إن لم أذهب
لم يأتكم الفارقليط فإذا انطلقت أرسلته إليكم فإذا جاء فهو
يوبخ العالم على الخطيئة وإن لي كلاما كثيرا أريد قوله ولكنكم
لا تستطيعون حمله لكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى
جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ويخبركم
بكل ما يأتي ويعرفكم جميع ما للأب، وقال أيضا: إن كنتم تحبوني
فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فار قليطا آخر
يثبت معكم إلى الأبد روح الحق الذي لم يطق العالم أن يقبلوه
لأنهم لم يعرفوه ولست أدعكم أيتاما لأني سآتيكم من قريب،
والفارقليط لفظ يؤذن بالحمد، وتعين إرادته صلّى الله تعالى
عليه وسلم من كلامه عليه السلام مما لا غبار عليه لمن كشف الله
تعالى غشاوة التعصب عن عينيه، وقد فسره بعض النصارى بالحماد،
وبعضهم بالحامد فيكون في مدلوله إشارة إلى اسمه عليه الصلاة
والسلام أحمد، وفسره بعضهم بالمخلص لقول عيسى عليه السلام:
فالله يرسل مخلصا آخر فلا يكون ما ذكر بشارة به صلّى الله
تعالى عليه وسلم بعنوان الحمد لكنه بشارة به صلّى الله تعالى
عليه وسلم بعنوان التخليص، فيستدل به على ثبوت رسالته صلّى
الله تعالى عليه وسلم، وإن لم يستدل به على ما في الآية هنا،
وزعم بعضهم أن الفارقليط إشارة إلى ألسن نارية نزلت من السماء
على التلاميذ ففعلوا الآيات والعجائب، ولا يخفى أن وصفه بآخر
يأبى ذلك إذا لم يتقدم لهم غيره فَلَمَّا جاءَهُمْ أي عيسى
عليه السلام بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات الظاهرة.
قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ مشيرين إلى ما جاء به عليه السلام،
فالتذكير بهذا الاعتبار، وقيل: مشيرين إليه عليه السلام
وتسميته سحرا للمبالغة، ويؤيده قراءة عبد الله وطلحة والأعمش
وابن وثاب- هذا ساحر- وكون فاعل جاءَهُمْ ضمير عيسى عليه
السلام هو الظاهر لأنه المحدث عنه، وقيل: هو ضمير أَحْمَدُ
عليه الصلاة والسلام لما فرغ من كلام عيسى تطرق إلى الإخبار عن
أحمد صلّى الله تعالى عليه وسلم أي فلما جاء أحمد هؤلاء الكفار
بالبينات قالُوا إلخ.
(14/281)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ أي الناس
أشد ظلما ممن يدعى إلى الإسلام الذي يوصله إلى سعادة الدارين
فيضع موضع الاجابة الافتراء على الله عز وجل بتكذيب رسوله
وتسمية آياته سحرا فإن الافتراء على الله تعالى يعم نفي الثابت
وإثبات المنفي أي لا أظلم من ذلك، والمراد أنه أظلم من كل
ظالم، وقرأ طلحة «يدّعي» مضارع- ادعى- مبنيا للفاعل وهو ضميره
تعالى: ويُدْعى بمعنى يدعو يقال: دعاه وادعاه نحو لمسه
والتمسه، وقيل: الفاعل ضمير المفتري، وادعى يتعدى بنفسه إلى
المفعول به لكنه لما ضمن معنى الانتماء والانتساب عدي بإلى أي
وهو ينتسب إلى الإسلام مدعيا أنه مسلم وليس بذاك، وعنه «يدّعى»
مضارع ادعى أيضا لكنه مبني للمفعول، ومعناه كما سبق، والآية
فيمن كذب من هذه الأمة على ما يقتضيه ما بعد، وهي إن كانت في
بني إسرائيل الذين جاءهم عيسى عليه السلام ففيها تأييد لمن ذهب
إلى عدم اختصاص الإسلام بالدين الحق الذي جاء به نبينا صلّى
الله تعالى عليه وسلم.
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لا يرشدهم
إلى ما فيه فلاحهم لسوء استعدادهم وعدم توجههم إليه يُرِيدُونَ
لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ تمثيل لحالهم في
اجتهادهم في إبطال الحق بحالة من ينفخ الشمس بفيه ليطفئها
تهكما وسخرية بهم كما تقول الناس: هو يطفىء عين الشمس، وذهب
بعض الأجلة إلى أن المراد بنور الله دينه تعالى الحق كما روي
عن السدي على سبيل الاستعارة التصريحية، وكذا في قوله سبحانه:
وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ومُتِمُّ تجريد، وفي قوله تعالى:
بِأَفْواهِهِمْ تورية، وعن ابن عباس وابن زيد يريدون إبطال
القرآن وتكذيبه بالقول، وقال ابن بحر: يريدون إبطال حجج الله
تعالى بتكذيبهم، وقال الضحاك: يريدون هلاك الرسول صلّى الله
تعالى عليه وسلم بالأراجيف، وقيل: يريدون إبطال شأن النبي صلّى
الله عليه وسلم وإخفاء ظهوره بكلامهم وأكاذيبهم،
فقد روي عن ابن عباس أن الوحي أبطأ أربعين يوما فقال كعب بن
الأشرف:
يا معشر يهود أبشروا أطفأ الله تعالى نور محمد فيما كان ينزل
عليه، وما كان ليتم نوره فحزن الرسول صلّى الله عليه وسلم
فنزلت يُرِيدُونَ إلى آخره
، وفي يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا مذاهب: أحدها أن اللام زائدة
والفعل منصوب بأن مقدرة بعدها، وزيدت لتأكيد معنى الإرادة لما
في لام العلة من الإشعار بالإرادة والقصد كما زيدت اللام في:
لا أبا لك لتأكيد معنى الإضافة ثانيها أنها غير زائدة للتعليل،
ومفعول يُرِيدُونَ محذوف أي يريدون الافتراء لأن يطفئوا ثالثها
أن الفعل أعني يُرِيدُونَ حال محل المصدر مبتدأ واللام للتعليل
والمجرور بها خبر أي إرادتهم كائنة للإطفاء والكلام نظير- تسمع
بالمعيدي خير من أن تراه- من وجه، ورابعها أن اللام مصدرية
بمعنى أن غير تقدير والمصدر مفعول به ويكثر ذلك بعد فعل
الإرادة والأمر، خامسها أن يُرِيدُونَ منزل منزلة اللازم
(14/282)
لتأويله بيوقعون الإرادة، قيل: وفيه مبالغة
لجعل كل إرادة لهم للإطفاء وفيه كلام في شرح المغني. وغيره.
وقرأ العربيان ونافع وأبو بكر والحسن وطلحة والأعرج وابن محيصن
«متمّ» بالتنوين «نوره» بالنصب على المفعولية لمتم وَلَوْ
كَرِهَ الْكافِرُونَ حال من المستكن في مُتِمُّ وفيه إشارة إلى
أنه عز وجل متم ذلك إرغاما لهم هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
رَسُولَهُ محمدا صلّى الله عليه وسلم بِالْهُدى بالقرآن، أو
بالمعجزة بجعل ذلك نفس الهدى مبالغة وَدِينِ الْحَقِّ والملة
الحنيفية لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ليعليه على جميع
الأديان المخالفة له، ولقد أنجز الله عز وجل وعده حيث جعله
بحيث لم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام.
وعن مجاهد إذا نزل عيسى عليه السلام لم يكن في الأرض إلا دين
الإسلام، ولا يضر في ذلك ما روي أنه يأتي على الناس زمان لا
يبقى فيه من الإسلام إلا اسمه إذ لا دلالة في الآية على
الاستمرار، وقيل: المراد بالإظهار الإعلاء من حيث وضوح الأدلة
وسطوع البراهين وذلك أمر مستمر أبدا وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ ذلك لما فيه من محض التوحيد وإبطال الشرك،
وقرىء هو الذي أرسل نبيه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ
أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ جليلة الشأن تُنْجِيكُمْ مِنْ
عَذابٍ أَلِيمٍ يوم القيامة، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق
والأعرج وابن عامر «تنجّيكم» بالتشديد، وقوله تعالى:
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ استئناف بياني كأنه
قيل: ما هذه التجارة؟ دلنا عليه: فقيل: تُؤْمِنُونَ إلخ،
والمضارع في الموضوعين كما قال المبرد وجماعة خبر بمعنى الأمر
أي آمنوا وجاهدوا، ويؤيده قراءة عبد الله كذلك، والتعبير به
للإيذان بوجوب الامتثال كأن الإيمان والجهاد قد وقعا فأخبر
بوقوعهما، والخطاب إذا كان للمؤمنين الخلّص فالمراد تثبتون
وتدومون على الإيمان أو تجمعون بين الإيمان والجهاد أي بين
تكميل النفس وتكميل الغير وإن كان للمؤمنين ظاهرا فالمراد
تخلصون الإيمان، وأيا ما كان فلا إشكال في الأمر، وقال الأخفش:
تُؤْمِنُونَ إلخ عطف بيان على تِجارَةٍ، وتعقب بأنه لا يتخيل
إلا على تقدير أن يكون الأصل أن تؤمنوا حتى يتقدر بمصدر، ثم
حذف أن فارتفع الفعل كما في قوله:
ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى يريد أن احضر فلما حذف أن ارتفع
الفعل وهو قليل، وقال ابن عطية: تُؤْمِنُونَ فعل مرفوع بتقدير
ذلك أنه تؤمنون، وفيه حذف المبتدأ وأن واسمها وإبقاء خبرها،
وذلك على ما قال أبو حيان: لا يجوز، وقرأ زيد بن علي- تؤمنوا
وتجاهدوا- بحذف نون الرفع فيهما على إضمار لام الأمر أي
لتؤمنوا وتجاهدوا، أو ولتجاهدوا كما في قوله:
قلت لبواب على بابها ... تأذن لنا إني من أحمائها
وكذا قوله:
محمد تفد نفسك كل نفس ... إذا ما خفت من أمر تبالا
وجوز الاستئناف، والنون حذفت تخفيفا كما في قراءة «ساحران
يظاهرا» (1) وقوله:
ونقري ما شئت أن تنقري ... قد رفع الفخ فماذا تحذري
__________
(1) سورة: القصص، الآية: 480.
(14/283)
وكذا قوله:
أبيت أسري وتبيتي تدلكي ... وجهك بالعنبر والمسك الذكي
وأنت تعلم أن هذا الحذف شاذ ذلِكُمْ أي ما ذكر من الإيمان
والجهاد خَيْرٌ لَكُمْ على الإطلاق أو من أموالكم وأنفسكم إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كنتم من أهل العلم إذ الجهلة لا
يعتدّ بأفعالهم حتى توصف بالخيرية، وقيل: أي إن كنتم تعلمون
أنه خير لكم كان خيرا لكم حينئذ لأنكم إذا علمتم ذلك واعتقدتم
أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أموالكم وأنفسكم فتخلصون
وتفلحون يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ جواب للأمر المدلول عليه
بلفظ الخبر كما في قولهم: اتقى الله تعالى امرؤ وفعل خيرا يثب
عليه أو جواب لشرط، أو استفهام دل عليه الكلام، والتقدير أن
تؤمنوا وتجاهدوا يغفر لكم. أو هل تقبلون أن أدلكم؟ أو هل
تتجرون بالإيمان والجهاد؟ يغفر لكم، وقال الفراء: جواب
للاستفهام المذكور أي هل أدلكم، وتعقب بأن مجرد الدلالة لا
يوجب المغفرة، وأجيب بأنه كقوله تعالى: قُلْ لِعِبادِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم: 31] وقد
قالوا فيه: إن القول لما كان للمؤمن الراسخ الإيمان كان مظنة
لحصول الامتثال فجعل كالمحقق وقوعه فيقال هاهنا: لما كانت
الدلالة مظنة لذلك نزلت منزلة المحقق، ويؤيده إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ لأن من له عقل إذا دله سيده على ما هو خير له لا
يتركه، وادعاء الفرق بمأثمة من الإضافة التشريفية وما هنا من
المعاتبة قيل: غير ظاهر فتدبر، والإنصاف أن تخريج الفراء لا
يخلو عن بعد، وأما ما قيل:
من أن الجملة مستأنفة لبيان أن ذلك خير لهم، ويَغْفِرْ مرفوع
سكن آخره كما سكن آخر «أشرب» في قوله:
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل
فليس بشيء لما صرحوا به من أن ذلك ضرورة وَيُدْخِلْكُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ
طَيِّبَةً أي طاهرة زكية مستلذة، وهذا إشارة إلى حسنها بذاتها،
وقوله تعالى: فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ إشارة إلى حسنها باعتبار
محلها ذلِكَ أي ما ذكر من المغفرة وما عطف عليها الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ الذي لا فوز وراءه وَأُخْرى أي ولكم إلى ما ذكر من
النعم نعمة أخرى، فأخرى مبتدأ، وهي في الحقيقة صفة للمبتدأ
المحذوف أقيمت مقامه بعد حذفه، والخبر محذوف قاله الفراء،
وقوله تعالى: تُحِبُّونَها في موضع الصفة، وقوله سبحانه:
نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ أي عاجل بدل أو عطف
بيان، وجملة المبتدأ وخبره قيل: حالية وفي الكشف إنها عطف على
جواب الأمر أعني يغفر من حيث المعنى كما تقول: جاهدوا تؤجروا
ولكم الغنيمة وفي تُحِبُّونَها تعبير لهم وكذلك في إيثار
الاسمية على الفعلية وعطفها عليها كأن هذه عندهم أثبت وأمكن
ونفوسهم إلى نيلها والفوز أسكن.
وقيل: أُخْرى مبتدأ خبره نَصْرٌ وقال قوم: هي في موضع نصب
بإضمار فعل أي ويعطكم أخرى، وجعل ذلك من باب:
علفتها تبنا وماء باردا ومنهم من قدر تحبون أخرى على أنه من
باب الاشتغال، ونَصْرٌ على التقديرين خبر مبتدأ محذوف أي ذلك
أو هو نَصْرٌ، أو مبتدأ خبره محذوف أي نصر وفتح قريب عنده،
وقال الأخفش: هي في موضع جر بالعطف على تِجارَةٍ وهو كما ترى.
وقرأ ابن أبي عبلة نصرا وفتحا قريبا بالنصب بأعني مقدرا، أو
على المصدر أي تنصرون نصرا ويفتح لكم فتحا، أو على البدلية من
أُخْرى على تقدير نصبها وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عطف على قل
مقدرا قبل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، وقيل:
على أبشر مقدرا أيضا، والتقدير فأبشر يا محمد وبشر.
(14/284)
وقال الزمخشري: هو عطف على تُؤْمِنُونَ
لأنه في معنى الأمر كأنه قيل: آمنوا وجاهدوا يثبكم الله تعالى
وينصركم وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك، وتعقبه في الإيضاح
بأن فيه نظرا لأن المخاطبين في تُؤْمِنُونَ هم المؤمنون، وفي
بَشِّرِ هو النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم، ثم قوله تعالى:
تُؤْمِنُونَ بيان لما قبله على طريق الاستئناف فكيف يصح عطف
بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه؟ وأجيب بما خلاصته أن قوله
سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا للنبي صلّى الله تعالى
عليه وسلم وأمته كما تقرر في أصول الفقه، وإذ فسر بآمنوا وبشر
دل على تجارته عليه الصلاة والسلام الرابحة وتجارتهم الصالحة،
وقدم آمَنُوا لأنه فاتحة الكل ثم لو سلم فلا مانع من العطف على
جواب السائل بما لا يكون جوابا إذا ناسبه فيكون جوابا للسؤال
وزيادة كيف وهو داخل فيه؟ كأنهم قالوا: دلنا يا ربنا فقيل:
آمنوا يكن لكم كذا وبشرهم يا محمد بثبوته لهم، وفيه من إقامة
الظاهر مقام المضمر وتنويع الخطاب ما لا يخفى نبل موقعه،
واختاره صاحب الكشف فقال: إن هذا الوجه من وجه العطف على قل
ووجه العطف على فابشر لخلوهما عن الفوائد المذكورة يعني ما
تضمنه الجواب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ
اللَّهِ أي نصرة دينه سبحانه وعونة رسوله عليه الصلاة والسلام،
وقرأ الأعرج وعيسى وأبو عمرو والحرميان «أنصارا لله» بالتنوين
وهو للتبعيض فالمعنى كونوا بعض أنصاره عز وجل.
وقرأ ابن مسعود- على ما في الكشاف- كونوا أنتم أنصار الله، وفي
موضح الأهوازي والكواشي- أنتم- دون كُونُوا كَما قالَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ
أن من جندي متوجها إلى نصرة الله تعالى ليطابق قوله سبحانه:
قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ وقيل: إِلَى
بمعنى مع ونَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ بتقدير نحن أنصار نبي الله
فيحصل التطابق، والأول أولى، والإضافة في أَنْصارِي إضافة أحد
المتشاركين إلى الآخر لأنهما لما اشتركا في نصرة الله عز وجل
كان بينهما ملابسة تصحح إضافة أحدهما للآخر والإضافة في
أَنْصارَ اللَّهِ إضافة الفاعل إلى المفعول والتشبيه باعتبار
المعنى إذ المراد قل لهم ذلك كما قال عيسى، وقال أبو حيان: هو
على معنى قلنا لكم كما قال عيسى.
وقال الزمخشري: هو على معنى كونوا أنصار الله كما كان
الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم: مَنْ أَنْصارِي إِلَى
اللَّهِ وخلاصته على ما قيل: إن ما مصدرية وهي مع صلتها ظرف أي
كونوا أنصار الله وقت قولي لكم ككون الحواريين أنصاره وقت قول
عيسى، ثم قيل: كونوا أنصاره كوقت قول عيسى هذه المقالة، وجيء
بحديث سؤاله عن الناصر وجوابهم فهو نظير كاليوم في قولهم:
كاليوم رجل أي كرجل رأيته اليوم فحذف الموصوف مع صفته، واكتفى
بالظرف عنهما لدلالته على الفعل الدال على موصوفه، وهذا من
توسعاتهم في الظروف، وقد جعلت الآية من الاحتباك، والأصل كونوا
أنصار الله حين قال لكم النبي صلّى الله عليه وسلم: مَنْ
أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ كما كان الحواريون أنصار الله حين قال
لهم عيسى عليه السلام مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ فحذف من كل
منهما ما دل عليه المذكور في الآخر، وهو لا يخلو عن حسن،
والْحَوارِيُّونَ أصفياؤه عليه السلام، والعدول عن ضميرهم إلى
الظاهر الاعتناء بشأنهم، وهم أول من آمن به وكانوا اثني عشر
رجلا فرقهم- على ما في البحر- عيسى عليه السلام في البلاد،
فمنهم من أرسله إلى رومية، ومنهم من أرسله إلى بابل، ومنهم من
أرسله إلى إفريقية، ومنهم من أرسله إلى أفسس، ومنهم من أرسله
إلى بيت المقدس، ومنهم من أرسله إلى الحجاز، ومنهم من أرسله
إلى أرض البربر وما حولها وتعيين المرسل إلى كل فيه، ولست على
ثقة من صحة ذلك ولا من ضبط أسمائهم، وقد ذكرها السيوطي أيضا في
الإتقان فليلتمس ضبط ذلك في مظانه، واشتقاق الحواريين من
الحور- وهو البياض- وسموا بذلك لأنهم كانوا قصارين، وقيل:
(14/285)
للبسهم البياض، وقيل: لنقاء ظاهرهم
وباطنهم، وزعم بعضهم أن ما قيل: من أنهم كانوا قصارين إشارة
إلى أنهم كانوا يطهرون نفوس الناس بإفادتهم الدين والعلم، وما
قيل: من أنهم كانوا صيادين إشارة إلى أنهم كانوا يصطادون نفوس
الناس من الحيرة ويقودونهم إلى الحق.
وقيل: الحواريون المجاهدون،
وفي الحديث «لكم نبي حواري وحواريي الزبير»
وفسر بالخاصة من الأصحاب والناصر، وقال الأزهري: الذي أخلص
ونقي من كل عيب، وعن قتادة إطلاق الحواري على غيره رضي الله
تعالى عنه أيضا، فقد قال: إن الحواريين كلهم من قريش أبو بكر
وعمر وعلي وحمزة وجعفر وأبو عبيدة بن الجراح وعثمان بن مظعون
وعبد الرحمن بن عوف وسعد ابن أبي وقاص وعثمان بن عفان وطلحة بن
عبيد الله والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي بعيسى عليه
السلام وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ أخرى فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ
آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ وهم الذي كفروا فَأَصْبَحُوا
ظاهِرِينَ فصاروا غالبين قال زيد بن علي وقتادة: بالحجة
والبرهان، وقيل: إن عيسى عليه السلام حين رفع إلى السماء قالت
طائفة من قومه: إنه الله سبحانه، وقالت أخرى: إنه ابن الله-
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- رفعه الله عز وجل إليه، وقالت
طائفة: إنه عبد الله ورسوله فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان
على الفرقة المؤمنة حتى بعث النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم
فظهرت المؤمنة على الكافرتين، وروي ذلك عن ابن عباس، وقيل:
اقتتل المؤمنون والكفرة بعد رفعه عليه السلام فظهر المؤمنون
على الكفرة بالسيف، والمشهور أن القتال ليس من شريعته عليه
السلام، وقيل: المراد فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي
إِسْرائِيلَ بمحمد عليه الصلاة والسلام وكفرت أخرى به صلّى
الله تعالى عليه وسلم فأيدنا المؤمنين على الكفرة فصاروا
غالبين وهو خلاف الظاهر والله تعالى أعلم.
(14/286)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ
الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي
الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ
مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ
الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا
كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ
لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ
مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
(8)
سورة الجمعة
مدنية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير والحسن ومجاهد وعكرمة
وقتادة وإليه ذهب الجمهور، وقال ابن يسار: هي مكية، وحكي ذلك
عن ابن عباس ومجاهد والأول هو الصحيح لما في صحيح البخاري
وغيره عن أبي هريرة قال: كنا جلوسا عند النبي صلّى الله تعالى
عليه وسلم حين أنزلت سورة الجمعة الحديث، وسيأتي قريبا إن شاء
الله تعالى، وإسلامه رضي الله تعالى عنه بعد الهجرة بمدة
بالاتفاق، ولأن أمر الانفضاض الذي تضمنه آخر السورة وكذا أمر
اليهود المشار إليه بقوله سبحانه: قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ
هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ [الجمعة: 6] إلخ- لم يكن إلا بالمدينة-
وآيها إحدى عشرة آية بلا خلاف، ووجه اتصالها بما قبلها أنه
تعالى لما ذكر فيما قبل حال موسى عليه السلام مع قومه وأذاهم
له ناعيا عليهم ذلك ذكر في هذه السورة حال الرسول صلّى الله
تعالى عليه وسلم وفضل أمته تشريفا لهم لينظر فضل ما بين
الأمتين، ولذا تعرض فيها لذكر اليهود، وأيضا لما حكي هناك قول
عيسى عليه السلام وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي
اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] قال سبحانه هنا: هُوَ الَّذِي
بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة: 2]
إشارة إلى أنه الذي بشر به عيسى، وأيضا لما ختم تلك السورة
بالأمر بالجهاد وسماه تِجارَةٍ [الصف: 10] ختم هذه بالأمر
بالجمعة وأخبر أن ذلك خير من التجارة الدنيوية. وأيضا في كلتا
السورتين إشارة إلى اصطفاف في عبادة، أما في الأولى فظاهر،
وأما في هذه فلأن فيها الأمر بالجمعة، وهي يشترط فيها الجماعة
التي تستلزم الاصطفاف إلى غير ذلك،
وقد كان صلّى الله تعالى عليه وسلم- كما أخرج مسلم- وأبو داود
والنسائي وابن ماجة عن ابن عباس- يقرأ في الجمعة بسورتها-
وإِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ
[المنافقون: 1] .
وأخرج ابن حبان والبيهقي في سننه عن جابر بن سمرة أنه قال: كان
رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب ليلة
الجمعة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: 1] وقُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] وكان يقرأ في صلاة العشاء
الأخيرة ليلة الجمعة سورة الجمعة. والمنافقون
- وفي ذلك دلالة على مزيد شرف هذه السورة.
(14/287)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
تسبيحا متجددا على سبيل الاستمرار الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ
الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ صفات للاسم الجليل، وقد تقدم معناها،
وقرأ أبو وائل، ومسلمة بن محارب، ورؤبة، وأبو الدينار،
والأعرابي برفعها على المدح، وحسن ذلك الفصل الذي فيه نوع طول
بين الصفة والموصوف، وجاء كذلك عن يعقوب، وقرأ أبو الدينار،
وزيد بن علي «القدّوس» بفتح القاف هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي
الْأُمِّيِّينَ يعني سبحانه العرب لأن أكثرهم لا يكتبون ولا
يقرؤون.
وقد أخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي عن ابن عمر عن
النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: «إنا أمة أمية لا نكتب
ولا نحسب»
وأريد بذلك أنهم على أصل ولادة أمهم لم يتعلموا الكتابة
والحساب فهم على جبلتهم الأولى، فالأمي نسبة إلى الأم التي
ولدته، وقيل: نسبة إلى أمة العرب وقيل: إلى أم القرى، والأول
أشهر، واقتصر بعضهم في تفسيره على أنه الذي لا يكتب، والكتابة
على ما قيل: بدئت بالطائف أخذوها من أهل الحيرة وهم من أهل
الأنبار، وقرىء الأمين بحذف ياء النسب رَسُولًا مِنْهُمْ أي
كائنا من جملتهم، فمن تبعيضية، والبعضية: إما باعتبار الجنس
فلا تدل على أنه عليه الصلاة والسلام أمي، أو باعتبار الخاصة
المشتركة في الأكثر فتدل، واختار هذا جمع، فالمعنى رسولا من
جملتهم أميا مثلهم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ مع كونه أميا
مثلهم لم يعهد منه قراءة ولا تعلم وَيُزَكِّيهِمْ عطف على
يَتْلُوا فهو صفة أيضا- لرسولا- أي يحملهم على ما يصيرون به
أزكياء طاهرين من خبائث العقائد والأعمال.
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ صفة أيضا- لرسولا-
مترتبة في الوجود على التلاوة. وإنما وسط بينهم التزكية التي
هي عبارة عن تكميل النفس بحسب قوتها العملية وتهذيبها المتفرع
على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعلم المترتب على
التلاوة للإيذان بأن كلا من الأمور المترتبة نعمة جليلة على
حيالها مستوجبة للشكر، ولو روعي ترتيب الوجود لربما يتبادر إلى
الفهم كون الكل نعمة واحدة كما مر في سورة البقرة، وهو السر في
التعبير عن القرآن تارة بالآيات وأخرى بالكتاب والحكمة رمزا
إلى أنه باعتبار كل عنوان نعمة على حدة. ولا يقدح فيه شمول
الحكمة لما في تضاعيف الأحاديث النبوية من الأحكام والشرائع
قاله بعض الأجلة، وجوز كون الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ كناية عن
جميع النقليات والعقليات كالسماوات والأرض بجميع الموجودات.
والأنصار والمهاجرين بجميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وفيه
من الدلالة على مزيد علمه صلّى الله تعالى عليه وسلم ما فيه
ولو لم يكن له عليه الصلاة والسلام سوى ذلك معجزة لكفاه كما
أشار إليه البوصيري بقوله:
كفاك بالعلم في الأمي معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم
(14/288)
وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ
مُبِينٍ من الشرك وخبث الجاهلية، وهو بيان لشدة افتقارهم إلى
من يرشدهم وإن كانت نسبة الضلال إليهم باعتبار الأكثر إذ منهم
مهتد كورقة وأضرابه، وفي الكلام إزاحة لما عسى أن يتوهم من
تعلمه عليه الصلاة والسلام من الغير وَإِنْ هي المخففة واللام
هي الفارقة وَآخَرِينَ جمع آخر بمعنى الغير، وهو عطف على
الْأُمِّيِّينَ أي وفي آخرين مِنْهُمْ أي من الأميين، ومن-
للتبيين لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ أي لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون، وهم الذين جاؤوا
بعد الصحابة إلى يوم الدين وجوز أن يكون عطفا على المنصوب في
وَيُعَلِّمُهُمُ أي ويعلمهم ويعلم آخرين فإن التعليم إذا تناسق
إلى آخر الزمان كان كله مستندا إلى أوله فكأنه عليه الصلاة
والسلام هو الذي تولى كل ما وجد منه واستظهر الأول، والمذكور
في الآية قومه صلّى الله تعالى عليه وسلم، وجنس الذين بعث
فيهم، وأما المبعوث إليهم فلم يتعرض له فيها نفيا أو إثباتا،
وقد تعرض لإثباته في آيات أخر، وخصوص القوم لا ينافي عموم ذلك
فلا إشكال في تخصيص الآخرين بكونهم من الأميين أي العرب في
النسب، وقيل: المراد من الأميين في الأمية فيشمل العجم، وبهم
فسره مجاهد- كما رواه عنه ابن جرير وغيره- وتعقب بأن العجم لم
يكونوا أميين.
وقيل: المراد منهم في كونهم منسوبين إلى أمة مطلقا لا في كونهم
لا يقرؤون ولا يكتبون، وهو كما ترى إلا أنه لا يشكل عليه- وكذا
على ما قبله- ما
أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وجماعة عن أبي هريرة قال:
«كنا جلوسا عند النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم حين أنزلت
سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا
يَلْحَقُوا بِهِمْ قال له رجل: يا رسول الله من هؤلاء الذين لم
يلحقوا بنا؟ فوضع يده على سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه،
وقال: والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من
هؤلاء» فإنه صلّى الله تعالى عليه وسلم أشار بذلك إلى أنهم
فارس
، ومن المعلوم أنهم ليسوا من الأميين المراد بهم العرب في
النسب.
وقال بعض أهل العلم: المراد بالأميين مقابل أهل الكتاب لعدم
اعتناء أكثرهم بالقراءة والكتابة لعدم كتاب لهم سماوي تدعوهم
معرفته إلى ذلك فيشمل الفرس إذ لا كتاب لهم كالعرب، وعلى ذلك
يخرج ما أشار إليه الحديث من تفسير الآخرين بالفرس وهو مع ذلك
باب التمثيل، والاقتصار على بعض الأنواع بناء على أن بعض الأمم
لا كتاب لهم أيضا، وربما يقال: إن- من- في مِنْهُمْ اسمية
بمعنى بعض مبتدأ كما قيل في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ [البقرة: 8] وضمير الجمع- لآخرين- وجملة لَمَّا
يَلْحَقُوا بِهِمْ خبر فيشمل آخرين، طوائف الناس الذين يلحقون
إلى يوم القيامة من العرب والروم والعجم وغيرهم وبذلك فسره
الضحاك وابن حيان ومجاهد في رواية، ويكون الحديث من باب
الاقتصار والتمثيل كقول ابن عمر: هم أهل اليمن، وابن جبير هم
الروم والعجم فتدبر.
وزعم بعضهم أن المراد بقوله تعالى: لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ
أنهم لم يلحقوا بهم في الفضل لفضل الصحابة على التابعين ومن
بعدهم، وفيه أن لَمَّا منفيها مستمر إلى الحال ويتوقع وقوعه
بعده فتفيد أن لحوق التابعين ومن بعدهم في الفضل للصحابة متوقع
الوقوع مع أنه ليس كذلك، وقد صرحوا أنه لا يبلغ تابعي وإن جل
قدرا في الفضل مرتبة صحابي وإن لم يكن من كبار الصحابة، وقد
سئل عبد الله بن المبارك عن معاوية وعمر بن عبد العزيز أيهما
أفضل؟ فقال: الغبار الذي دخل أنف فرس معاوية أفضل عند الله من
مائة عمر بن عبد العزيز فقد صلّى معاوية خلف رسول الله صلّى
الله تعالى عليه وسلم فقرأ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ
[الفاتحة: 6] إلخ فقال معاوية: آمين، واستدل على عدم اللحوق
بما
صح من قوله عليه الصلاة والسلام فيهم: «لو أنفق أحدكم مثل أحد
ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه»
على القول بأن الخطاب لسائر الأمة، وأما
قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «أمتي كالمطر لا يدري
(14/289)
أوله خير أم آخره»
فمبالغة في خيريتهم كقول القائل في ثوب حسن البطانة: لا يدرى
ظهارته خير أم بطانته ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من كونه عليه
الصلاة والسلام رسولا في الأميين ومن بعدهم معلما مزكيا وما
فيه من معنى البعد للتعظيم أي ذلك الفضل العظيم فَضْلُ اللَّهِ
وإحسانه جل شأنه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ من عباده تفضلا، ولا
يشاء سبحانه إيتاءه لأحد بعده صلّى الله تعالى عليه وسلم.
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الذي يستحقر دونه نعم
الدنيا والآخرة مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ أي
علموها وكلفوا العمل بما فيها، والتحميل في هذا شائع يلحق
بالحقيقة، والمراد بهم اليهود ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها أي لم
يعملوا بما في تضاعيفها التي من جملتها الآيات الناطقة بنبوة
رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم.
كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً أي كتبا كبارا على ما
يشعر به التنكير، وإيثار لفظ السفر وما فيه من معنى الكشف من
العلم يتعب بحملها ولا ينتفع بها، ويَحْمِلُ إما حال من-
الحمار- لكونه معرفة لفظا والعامل فيه معنى المثل، أو صفة له
لأن تعريفه ذهني فهو معنى نكرة فيوصف بما توصف به على الأصح.
ونسب أبو حيان للمحققين تعين الحالية في مثل ذلك، ووجه ارتباط
الآية بما قبلها تضمنها الإشارة إلى أن ذلك الرسول المبعوث قد
بعثه الله تعالى بما نعته به في التوراة وعلى ألسنة أنبياء بني
إسرائيل كأنه قيل: هو الذي بعث المبشر به في التوراة المنعوت
فيها بالنبي الأمي المبعوث إلى أمة أميين، مثل من جاءه نعته
فيها وعلمه ثم لم يؤمن به مثل الحمار، وفي الآية دليل على سوء
حال العالم الذي لا يعمل بعلمه، وتخصيص الحمال بالتشبيه به
لأنه كالعلم في الجهل، ومن ذلك قوله الشاعر:
ذوو أمل للأسفار لا علم عندهم ... بجيدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أو راح ما في
الغرائر
بناء على نقل عن ابن خالويه أن البعير اسم من أسماء الحمار
كالجمل البازل، وقرأ يحيى بن يعمر وزيد بن علي «حملوا» مبنيا
للفاعل، وقرأ عبد الله- حمار- بالتنكير، وقرىء «يحمّل» بشد
الميم مبنيا للمفعول بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أي بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا
فحذف المضاف وهو المخصوص بالذم وأقيم المضاف إليه مقامه، ويجوز
أن يكون الَّذِينَ صفة القوم، والمخصوص محذوف أي بئس مثل القوم
الذين كذبوا بآيات الله هو، والضمير راجع إلى مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلُوا التَّوْراةَ، وظاهر كلام الكشاف أن المخصوص هو
مَثَلُ المذكور، والفاعل مستتر يفسره تمييز محذوف، والتقدير
بئس مثلا مثل القوم إلخ، وتعقب بأن سيبويه نص على أن التمييز
الذي يفسر الضمير المستتر في باب نعم لا يجوز حذفه ولو سلم
جوازه فهو قليل، وأجيب بأن ذاك تقرير لحاصل المعنى وهو أقرب
لاعتبار الوجه الأول، وكان قول ابن عطية التقدير بئس المثل
القوم من ذلك الباب، وإلا ففيه حذف الفاعل، وقد قالوا بعدم
جوازه إلا في مواضع ليس هذا منها وَاللَّهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي الواضعين للتكذيب في موضع التصديق،
أو الظالمين لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بسبب التكذيب.
قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا أي تهودوا أي صاروا يهودا
إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ أي أحباء له
سبحانه ولم يضف أولياء إليه تعالى كما في قوله سبحانه: أَلا
إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ قال الطيبي: ليؤذن بالفرق بين مدعي
الولاية ومن يخصه عز وجل بها مِنْ دُونِ النَّاسِ حال من
الضمير الراجع إلى اسم إِنْ أي متجاوزين عن الناس فَتَمَنَّوُا
الْمَوْتَ أي فتمنوا من الله تعالى أن يميتكم وينقلكم من دار
البلية إلى محل الكرامة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ جوابه محذوف
لدلالة ما قبله عليه أي إن كنتم صادقين في زعمكم واثقين بأنه
حق فتمنوا الموت فإن من
(14/290)
أيقن أنه من أهل الجنة أحب أن يتخلص إليها
من هذه الدار التي هي قرارة الأنكاد والأكدار، وأمر صلّى الله
تعالى عليه وسلم أن يقول لهم ذلك إظهارا لكذبهم فإنهم كانوا
يقولون: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18]
ويدّعون أن الآخرة لهم عند الله خالصة ويقولون: لَنْ يَدْخُلَ
الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً [البقرة: 111] وروي أنه
لما ظهر رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم كتبت يهود
المدينة ليهود خيبر: إن اتبعتم محمدا أطعناه وإن خالفتموه
خالفناه. فقالوا:
نحن أبناء خليل الرحمن ومنا عزير ابن الله والأنبياء ومتى كانت
النبوة في العرب نحن أحق بها من محمد ولا سبيل إلى اتباعه
فنزلت قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا الآية، واستعمال إِنْ
التي للشك مع الزعم وهو محقق للإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يجزم
به لوجود ما يكذبه.
وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق وابن السميفع «فتمنّوا الموت»
بكسر الواو تشبيها بلو استطعنا، وعن ابن السميفع أيضا فتحها،
وحكى الكسائي عن بعض الأعراب أنه قرأ بالهمزة مضمومة بدل الواو
وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً إخبار بحالهم المستقبلة وهو عدم
تمنيهم الموت، وذلك خاص على ما صرح به جمع بأولئك المخاطبين،
وروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لهم: «والذي
نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه»
فلم يتمنه أحد منهم وما ذلك إلا لأنهم كانوا موقنين بصدقه عليه
الصلاة والسلام فعلموا أنهم لو تمنوا لماتوا من ساعتهم ولحقهم
الوعيد، وهذه إحدى المعجزات، وجاء نفي هذا التمني في آية أخرى-
بلن- وهو من باب التفنن على القول المشهور في أن كلا من- لا-
ولن- لنفي المستقبل من غير تأكيد، ومن قال: بإفادة- لن-
التأكيد فوجه اختصاص التوكيد عنده بذلك الموضع أنهم ادعوا
الاختصاص دون الناس في الموضعين، وزادوا هنالك أنه أمر مكشوف
لا شبهة فيه محققة عند الله فناسب أن يؤكد ما ينفيه، والباء في
قوله سبحانه: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ سببية متعلقة بما يدل
عليه النفي أي يأبون التمني بسبب ما قدمت، وجوز تعلقه
بالانتفاء كأنه قيل: انتفى تمنيهم بسبب ما قدمت كما قيل ذلك في
قوله تعالى:
ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم: 2] والمراد
بما قدمته أيديهم الكفر والمعاصي الموجبة لدخول النار، ولما
كانت اليد من بين جوارح الإنسان مناط عامة أفعاله عبر بها تارة
عن النفس وأخرى عن القدرة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
أي بهم وإيثار الإظهار على الإضمار لذمهم والتسجيل عليهم بأنهم
ظالمون في كل ما يأتون ويذرون من الأمور التي من جملتها ادعاء
ما هم عنه بمعزل، والجملة تذييل لما قبلها مقررة لما أشار إليه
من سوء أفعالهم واقتضائها العذاب أي والله تعالى عليم بما صدر
منهم من فنون الظلم والمعاصي وبما سيكون منهم فيجازيهم على
ذلك.
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ ولا تجسرون
على أن تمنوه مخافة أن تؤخذوا بوبال أفعالكم فَإِنَّهُ
مُلاقِيكُمْ البتة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه والجملة
خبر إِنَّ والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار وصفه
بالموصول، فإن الصفة والموصوف كالشيء الواحد، فلا يقال: إن
الفاء إنما تدخل الخبر إذا تضمن المبتدأ معنى الشرط، والمتضمن
له الموصول وليس بمبتدأ، ودخولها في مثل ذلك ليس بلازم كدخولها
في الجواب الحقيقي، وإنما يكون لنكتة تليق بالمقام وهي هاهنا
المبالغة في عدم الفوت، وذلك أن الفرار من الشيء في مجرى
العادة سبب الفوت عليه فجيء بالفاء لإفادة أن الفرار سبب
الملاقاة مبالغة فيما ذكر وتعكيسا للحال، وقيل: ما في حيزها
جواب من حيث المعنى على معنى الإعلام فتفيد أن الفرار المظنون
سببا للنجاة سبب للإعلام بملاقاته كما في قوله تعالى: وَما
بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: 53] وهو وجه ضعيف
فيما نحن فيه لا مبالغة فيه من حيث المعنى، ومنع قوم منهم
الفراء دخول الفاء في نحو هذا، وقالوا: هي هاهنا زائدة، وجوز
أن يكون الموصول خبر إِنَّ والفاء عاطفة كأنه قيل: إن الموت هو
الشيء الذي تفرون منه فيلاقيكم.
(14/291)
وقرأ زيد بن علي «إنه ملاقيكم» بدون فاء،
وخرج على أن الخبر هو الموصول وهذه الجملة مستأنفة أو هي الخبر
والموصول صفة كما في قراءة الجمهور، وجوز أن يكون الخبر
مُلاقِيكُمْ وإنه- توكيدا لأن الموت، وذلك أنه لما طال الكلام
أكد الحرف مصحوبا بضمير الاسم الذي لأن، وقرأ ابن مسعود «تفرون
منه ملاقيكم» بدون الفاء ولا- إنه- وهي ظاهرة ثُمَّ تُرَدُّونَ
إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الذي لا يخفى عليه خافية.
فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفر والمعاصي
بأن يجازيكم بها، واستشعر غير واحد من الآية ذم الفرار من
الطاعون، والكلام في ذلك طويل، فمنهم من حرمه- كابن خزيمة-
فإنه ترجم في صحيحه- باب الفرار من الطاعون من الكبائر- وأن
الله تعالى يعاقب من وقع منه ذلك ما لم يعف عنه، واستدل بحديث
عائشة «الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف» رواه الإمام أحمد
والطبراني وابن عدي وغيرهم، وسنده حسن.
وذكر التاج السبكي أن الأكثر على تحريمه، ومنهم من قال:
بكراهته كالإمام مالك، ونقل القاضي عياض وغيره جواز الخروج عن
الأرض التي يقع بها عن جماعة من الصحابة منهم أبو موسى الأشعري
والمغيرة بن شعبة، وعن التابعين منهم الأسود بن هلال ومسروق،
وروى الإمام أحمد والطبراني أن عمرو بن العاص قال في الطاعون
في آخر خطبته: إن هذا رجز مثل السيل من تنكبه أخطأه ومثل النار
من تنكبها أخطأها ومن أقام أحرقته، وفي لفظ إن هذا الطاعون رجس
فتفرقوا منه في الشعاب وهذه الأودية فتفرقوا فبلغ ذلك عمر رضي
الله تعالى عنه فلم ينكره ولم يكرهه، وعن طارق بن شهاب قال:
كنا نتحدث إلى أبي موسى الأشعري وهو في داره بالكوفة فقال لنا
وقد وقع الطاعون: لا عليكم أن تنزحوا عن هذه القرية فتخرجوا في
فسيح بلادكم حتى يرفع هذا الوباء فإني سأخبركم بما يكره من
ذلك، أن يظن من خرج أنه لو أقام فأصابه ذلك أنه لو خرج لم يصبه
فاذا لم يظن هذا فلا عليه أن يخرج ويتنزه عنه.
وأخرج البيهقي وغيره عنه بسند حسن أنه قال: إن هذا الطاعون قد
وقع فمن أراد أن يتنزه عنه فليفعل واحذروا اثنتين أن يقول
قائل: خرج خارج فسلم وجلس جالس فأصيب، فلو كنت خرجت لسلمت كما
سلم فلان ولو كنت جلست أصبت كما أصيب فلان، ويفهم أنه لا بأس
بالخروج مع اعتقاد أن كل مقدر كائن، وكأني بك تختار ذلك، لكن
في فتاوى العلامة ابن حجر أن محل النزاع فيما إذا خرج فارا منه
مع اعتقاد أنه لو قدر عليه لأصابه وأن فراره لا ينجيه لكن يخرج
مؤملا أن ينجو أما الخروج من محله بقصد أن له قدرة على التخلص
من قضاء الله تعالى وأن فعله هو المنجي له فواضح أنه حرام بل
كفر اتفاقا.
وأما الخروج لعارض شغل أو للتداوي من علة طعن فيه أو غير ذلك
فهو مما لا ينبغي أن يختلف في جوازه كما صرح به بعض المحققين،
ومن ذلك فيما أرى عروض وسوسة طبيعية له لا يقدر على دفعها تضر
به ضررا بينا وغلبة ظن عدم دفنه أو تغسيله إذا مات في ذلك
المحل قيل: ولا يقاس على الفرار من الطاعون الفرار من غيره من
المهالك فإنه مأمور به وقد قال الجلال السيوطي: الفرار من
الوباء كالحمى ومن سائر أسباب الهلاك جائز بالإجماع، والطاعون
مستثنى من عموم المهالك المأمور بالفرار منها للنهي التحريمي
أو التنزيهي عن الفرار منه واختلفوا في علة النهي فقيل:
هي أن الطاعون إذا وقع في بلد مثلا عم جميع من فيه بمداخلة
سببه فلا يفيد الفرار منه بل إن كان أجله قد حضر فهو ميت وإن
رحل وإلا فلا، وإن أقام فتعينت الإقامة لما في الخروج من العبث
الذي لا يليق بالعقلاء، واعترض بمنع عمومه إذا وقع في بلد جميع
من فيه بمداخلة سببه ولو سلم فالوباء مثله في أن الشخص الذي في
بلده إن كان أجله قد حضر فهو ميت وإن رحل وإلا فلا وإن أقام مع
أنهم جوزوا الفرار منه، وقيل: هي أن الناس لو تواردوا على
الخروج لضاعت المرضى العاجزون عن الخروج لفقد من يتعهدهم
والموتى لفقد من يجهزهم، وأيضا في خروج الأقوياء كسرا
(14/292)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا
الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ
وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ
لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا
عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ
وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
لقلوب الضعفاء عن الخروج، وأيضا إن الخارج
يقول: لو لم أخرج لمت، والمقيم: لو خرجت لسلمت فيقعان في اللو
المنهي عنه، واعترض كل ذلك بأنه موجود في الفرار عن الوباء
أيضا، وكذا الداء الحادث ظهوره المعروف بين الناس بأبي زوعة
الذي أعيا الأطباء علاجه ولم ينفع فيه التحفظ والعزلة على
الوجه المعروف في الطاعون، وقيل: هي إن للميت به وكذا للصابر
المحتسب المقيم في محله وإن لم يمت به أجر شهيد، وفي الفرار
إعراض عن الشهادة وهو محل التشبيه في حديث عائشة عند بعض،
واعترض بأنه قد صح أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم مر بحائط
مائل فأسرع ولم يمنع أحد من ذلك. وكذا من الفرار من الحريق مع
أن الميت بذلك شهيد أيضا، وذهب بعض العلماء إلى أن النهي تعبدي
وكأنه لما رأى أنه لا تسلم علة له عن الطعن قال ذلك، ولهم في
هذه المسألة رسائل عديدة فمن أراد استيفاء الكلام فيها فليرجع
إليها.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ أي فعل
النداء لها أي الأذان، والمراد به على ما حكاه في الكشاف
الأذان عند قعود الإمام على المنبر. وقد كان لرسول الله صلّى
الله تعالى عليه وسلم مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن
على باب المسجد فإذا نزل عليه الصلاة والسلام أقام الصلاة، ثم
كان أبو بكر وعمر على ذلك حتى إذا كان عثمان وكثر الناس
وتباعدت المنازل زاد مؤذنا آخر فأمر بالتأذين الأول على داره
التي تسمى زوراء فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن الثاني فإذا
نزل أقام الصلاة فلم يعب ذلك عليه.
وفي حديث الجماعة- إلا مسلما- فلما كان عثمان وكثر الناس زاد
النداء الثالث على الزوراء، وفي رواية للبخاري ومسلم زاد
النداء الثاني، والكل بمعنى، وتسمية ما يفعل من الأذان أولا
ثانيا باعتبار أنه لم يكن على عهد رسول الله صلّى الله تعالى
عليه وسلم وإنما كان بعد، وتسميته ثالثا لأن الإقامة تسمى
أذانا كما
في الحديث «بين كل أذانين صلاة»
وقال مفتي الحنفية في دار السلطنة السنية الفاضل سعد الله
جلبي: المعتبر في تعلق الأمر يعني قوله تعالى الآتي:
فَاسْعَوْا هو الأذان الأول في الأصح عندنا لأن حصول الإعلام
به لا الأذان بين يدي المنبر، ورد بأن الأول لم يكن على عهد
النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم كما سمعت فكيف يقال: المراد
الأول في الأصح، وأما كون الثاني لا إعلام فيه فلا يضر لأن
وقته معلوم تخمينا ولو أريد ما ذكر وجب بالأول السعي وحرم
البيع وليس كذلك.
وفي كتاب الأحكام روي عن ابن عمر والحسن في قوله تعالى: إِذا
نُودِيَ إلخ قال: إذا خرج الإمام وأذن المؤذن فقد نودي للصلاة
انتهى، وهو التفسير المأثور فلا عبرة بغيره كذا قال الخفاجي.
وفي كتب الحنفية خلافه ففي الكنز وشرحه: ويجب السعي وترك البيع
بالأذان الأول لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ الآية وإنما اعتبر لحصول الإعلام به،
وهذا القول هو الصحيح في المذهب، وقيل:
العبرة للأذان الثاني الذي يكون بين يدي المنبر لأنه لم يكن في
زمنه إلا هو- وهو ضعيف- لأنه لو اعتبر في وجوب
(14/293)
السعي لم يتمكن من السنة القبلية ومن
الاستماع بل ربما يخشى عليه فوات الجمعة انتهى، ونحوه كثير لكن
الاعتراض عليه قوي فتدبر مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أي فيه كما
في قوله تعالى: أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ [فاطر:
40] أي فيها، وجوز أبو البقاء أيضا كون مِنْ للتبعيض، وفي
الكشاف هي بيان- لإذا- وتفسير له، والظاهر أنه أراد البيان
المشهور فأورد عليه أن شرط مِنْ البيانية أن يصح حمل ما بعدها
على المبين قبلها وهو منتف هنا لأن الكل لا يحمل على الجزء
واليوم لا يصح أن يراد به هنا مطلق الوقت لأن يوم الجمعة علم
لليوم المعروف لا يطلق على غيره في العرف ولا قرينة عليه هنا
وقيل: أراد البيان اللغوي أي لبيان أن ذلك الوقت في أي يوم من
الأيام إذا فيه إبهام فيجامع كونها بمعنى في، وكونها للتبعيض
وهو كما ترى.
والجمعة بضم الميم وهو الأفصح، والأكثر الشائع، وبه قرأ
الجمهور وقرأ ابن الزبير وأبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي
والأعمش بسكونها، وروي عن أبي عمرو- وهي لغة تميم- وجاء فتحها
ولم يقرأ به، ونقل بعضهم الكسر أيضا، وذكروا أن الجمعة بالضم
مثل الجمعة بالإسكان. ومعناه المجموع أي يوم الفوج المجموع
كقولهم:
ضحكة للمضحوك منه، وأما الجمعة: بالفتح فمعناه الجامع أي يوم
الوقت الجامع كقولهم: ضحكة لكثير الضحك، وقال أبو البقاء:
الجمعة بضمتين وبإسكان الميم مصدر بمعنى الاجتماع.
وقيل: في المسكن هو بمعنى المجتمع فيه كرجل ضحكة أي كثير الضحك
منه انتهى، وقد صار يوم الجمعة علما على اليوم المعروف من أيام
الأسبوع، وظاهر عبارة أكثر اللغويين أن الجمعة وحدها من غير
يوم صارت علما له ولا مانع منه، وإضافة العام المطلق إلى الخاص
جائزة مستحسنة فيما إذا خفي الثاني كما هنا لأن التسمية حادثة
كما ستعلمه إن شاء الله تعالى فليست قبيحة كالإضافة في إنسان
زيد، وكانت العرب- على ما قال غير واحد- تسمي يوم الجمعة
عروبة، قيل: وهو علم جنس يستعمل بأل وبدونها وقيل: أل لازمة،
قال الخفاجي: والأول أصح.
وفي النهاية لابن الأثير عروبة اسم قديم للجمعة، وكأنه ليس
بعربي يقال: يوم عروبة، ويوم العروبة، والأفصح أن لا يدخلها
الألف واللام انتهى، وما ظنه من أنه ليس بعربي جزم به مختصر
كتاب التذييل والتكميل مما استعمل من اللفظ الدخيل لجمال الدين
عبد الله بن أحمد الشهير بالشيشي فقال: عروبة منكرا ومعرفا هو
يوم الجمعة اسم سرياني معرب، ثم قال: قال السهيلي: ومعنى
العروبة الرحمة فيما بلغنا عن بعض أهل العلم انتهى وهو غريب
فليحفظ.
وأول من سماه جمعة قيل: كعب بن لؤي، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن
حميد وابن المنذر عن ابن سيرين قال:
جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلّى الله عليه وسلم وقبل
أن تنزل الجمعة قالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه بكل سبعة
أيام وللنصارى مثل ذلك فهلم فلنجعل لنا يوما نجتمع فيه فنذكر
الله تعالى ونشكره، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد
للنصارى فاجعلوه يوم العروبة، وكانوا يسمون يوم الجمعة بذلك
فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم
فسموه الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم شاة فتغذوا وتعشوا
منها وذلك لعامتهم، فأنزل الله تعالى في ذلك بعد يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ الآية، وكون أسعد
هذا أول من جمع مروي عن غير ابن سيرين أيضا، أخرج أبو داود
وابن ماجة وابن حبان والبيهقي عن عبد الرحمن بن كعب أن أباه
كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم على أسعد بن زرارة فقلت:
يا أبتاه أرأيت استغفارك لأسعد بن زرارة كلما سمعت الأذان
للجمعة ما هو؟ قال:
لأنه أول من جمع بنا في نقيع الخضمات من حرة بني بياضة قلت: كم
كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا، وظاهر قوله ابن سيرين: فأنزل
الله تعالى في ذلك بعد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ أن
أسعد أقام الجمعة قبل أن تفرض، وكذا قوله:
جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلّى الله عليه وسلم وقبل
أن تنزل الجمعة، في فتح القدير التصريح بذلك، وقال العلامة ابن
حجر
(14/294)
في تحفة المحتاج: فرضت- يعني صلاة الجمعة-
بمكة ولم نقم بها لفقد العدد، أو لأن شعارها الإظهار، وكان صلى
الله تعالى عليه وسلم بها مستخفيا، وأول من أقامها بالمدينة
قبل الهجرة أسعد بن زرارة بقرية على ميل من المدينة انتهى،
فلعلها فرضت ثم نزلت الآية كالوضوء للصلاة فإنه فرض أولا بمكة
مع الصلاة ثم نزلت آيته لكن يعكر على هذا ما
أخرجه ابن ماجة عن جابر أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه
وسلم خطب فقال: «إن الله افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في
يومي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة فمن تركها
استخفافا بها أو جحودا بها فلا جمع الله شمله ولا بارك له في
أمره ألا ولا صلاة له ولا زكاة له ولا حج له ولا صوم له ولا بر
له حتى يتوب فمن تاب تاب الله عليه»
فإن الظاهر أن هذه الخطبة كانت في المدينة بل ظاهر الخبر أنها
بعد الهجرة بكثير إذ ظاهر
قوله عليه الصلاة والسلام فيه: «لا حج له»
أن الحج كان مفروضا إذ ذاك، وهو وإن اختلف في وقت فرضه فقيل:
فرض قبل الهجرة، وقيل: أول سنيها، وقيل: ثانيها، وهكذا إلى
العاشرة لكن قالوا: إن الأصح أنه فرض في السنة السادسة فإما أن
يقدح في صحة الحديث، وإما أن يقال: مفاده افتراض الجمعة إلى
يوم القيامة أي بهذا القيد، ويقال:
إن الحاصل قبل افتراضها غير مقيد بهذا القيد ثم ما تقدم من كون
أسعد أول من جمع بالمدينة يخالفه ما أخرج الطبراني من أبي
مسعود الأنصاري قال: أول من قدم من المهاجرين المدينة مصعب بن
عمير، وهو أول من جمع بها يوم الجمعة جمع بهم قبل أن يقدم رسول
الله صلّى الله عليه وسلم وهم اثنا عشر رجلا.
وأخرج البخاري على ما نقله السيوطي نحوه وكان ذلك بأمره عليه
الصلاة والسلام، فقد أخرج الدارقطني عن ابن عباس قال: أذن
النبي عليه الصلاة والسلام بالجمعة قبل أن يهاجر ولم يستطع أن
يجمع بمكة فكتب إلى مصعب ابن عمير: أما بعد فانظر اليوم الذي
تجهر فيه اليهود بالزبور فاجمعوا نساءكم وأبناءكم فإذا مال
النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله
تعالى بركعتين قال: فهو أول من جمع حتى قدم النبي صلّى الله
عليه وسلم المدينة فجمع عند الزوال من الظهر وأظهر ذلك فلعل ما
يدل على كون أسعد أول من جمع أثبت من هذه الأخبار أو يجمع بأن
أسعد أول من أقامها بغير أمر منه صلّى الله تعالى عليه وسلم
كما يدل عليه خبر ابن سيرين، وصرح به ابن الهمام ومصعبا أول من
أقامها بأمره عليه الصلاة والسلام، أو بأن مصعبا أول من أقامها
في المدينة نفسها وأسعد أول من أقامها في قرية قرب المدينة،
وقولهم: في المدينة تسامح، وقال الحافظ ابن حجر: يجمع بين
الحديثين بأن أسعد كان أميرا، ومصعبا كان إماما وهو كما ترى،
ولم يصرح في شيء من الأخبار التي وقفت عليها فيمن أقامها قبل
الهجرة بالمدينة بالخطبة التي هي أحد شروطها، وكان في خبر ابن
سيرين رمزا إليها بقوله: وذكرهم، وقد يقال: إن صلاة الجمعة
حقيقة شرعية في الصلاة المستوفية للشروط، فمتى قيل: إن فلانا
أول من صلّى الجمعة كان متضمنا لتحقق الشروط لكن يبعد كل البعد
كون ما وقع من أسعد رضي الله تعالى عنه إن كان قبل فرضيتها
مستوفيا لما هو معروف اليوم من الشروط، ثم إني لا أدري هل صلّى
أسعد الظهر ذلك اليوم أم اكتفى بالركعتين اللتين صلاهما عنها؟
وعلى تقدير الاكتفاء كيف ساغ له ذلك بدون أمره عليه الصلاة
والسلام؟! وقصارى ما يظن أن الأنصار علموا فرضية الجمعة بمكة
وعلموا شروطها وإغناءها عن صلاة الظهر فأرادوا أن يفعلوها قبل
أن يؤمروا بخصوصهم فرغب خواصهم عوامهم على أحسن وجه وجاؤوا إلى
أسعد فصلى بهم وهو خلاف الظاهر جدا فتدبر والله تعالى الموفق.
وأما ما كان من صلاته عليه الصلاة والسلام إياها
فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة مهاجرا نزل
قبا على بني عمرو بن عوف وأقام بها يوم الأثنين والثلاثاء
والأربعاء والخميس، وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة
فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فخطب
وصلّى الجمعة وهو أول جمعة
(14/295)
صلاها عليه الصلاة والسلام
، وقال بعضهم: إنما سمي هذا اليوم يوم الجمعة لأن آدم عليه
السلام اجتمع فيه مع حواء في الأرض، وقيل: لأن خلق آدم عليه
السلام جمع فيه وهو نحو ما
أخرجه سعيد بن منصور وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قلت: «يا
نبي الله لأي شيء سمي يوم الجمعة؟ فقال: لأن فيها جمعت طينة
أبيكم آدم عليه السلام» الخبر،
ويشعر ذلك بأن التسمية كانت قبل كعب بن لؤي ويسميه الملائكة
يوم القيامة يوم المزيد لما أن الله تعالى يتجلى فيه لأهل
الجنة فيعطيهم ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر
كما
في حديث رواه ابن أبي شيبة عن أنس مرفوعا وهو من أفضل الأيام
،
وفي خبر رواه كثيرون منهم الإمام أحمد وابن ماجة عن أبي لبابة
بن عبد المنذر مرفوعا «يوم الجمعة سيد الأيام وأعظم عند الله
تعالى من يوم الفطر ويوم الأضحى»
وفيه أن فيه خلق آدم وإهباطه إلى الأرض وموته وساعة الإجابة-
أي للدعاء- ما لم يكن سؤال حرام وقيام الساعة،
وفي خبر الطبراني «وفيه دخل الجنة وفيه خرج» .
وصحح ابن حبان خبر «لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من
يوم الجمعة»
وفي خبر مسلم «فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها
وفيه تقوم الساعة وأنه خير يوم طلعت عليه الشمس»
وصح خبر «وفيه تيب عليه وفيه مات» .
وأخذ أحمد من خبري مسلم وابن حبان أنه أفضل حتى من يوم عرفة،
وفضل كثير من الحنابلة ليلته على ليلة القدر، قيل: ويردهما أن
لذينك دلائل خاصة فقدمت، واختلف في تعيين ساعة الإجابة فيه،
فعن أبي بردة: هي حين يقوم الإمام في الصلاة حتى ينصرف عنها،
وعن الحسن: هي عند زوال الشمس، وعن الشعبي: هي ما بين أن يحرم
البيع إلى أن يحل، وعن عائشة: هي حين ينادي المنادي بالصلاة،
وفي حديث مرفوع أخرجه ابن أبي شيبة عن كثير ابن عبد الله
المزني: هي حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها
، وعن أبي أمامة إني لأرجو أن تكون الساعة التي في الجمعة إحدى
هذه الساعات: إذا أذن المؤذن أو جلس الإمام على المنبر، أو عند
الإقامة، وعن طاوس ومجاهد: هي بعد العصر، وقيل: غير ذلك، ولم
يصح تعيين الأكثرين، وقد أخفاها الله تعالى كما أخفى سبحانه
الاسم الأعظم وليلة القدر وغيرها لحكمة لا تخفى.
فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي امشوا إليه بدون إفراط في
السرعة،
وجاء في الحديث مقابلة السعي بالمشي،
وجعل ذلك في خصائص الجمعة،
فقد أخرج الستة في كتبهم عن أبي سلمة من حديث أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة
فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما
أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا»
والمراد بذكر الله الخطبة والصلاة، واستظهر أن المراد به
الصلاة، وجوز كون المراد به الخطبة- وهو على ما قيل- مجاز من
إطلاق البعض على الكل كإطلاقه على الصلاة، أو لأنها كالمحل له،
وقيل:
الذكر عام يشمل الخطبة المعروفة ونحو التسبيحة، واستدلوا
بالآية لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه على أنه يكفي في خطبة
الجمعة التي هي شرط لصحتها الذكر مطلقا ولا يشترط الطويل وأقله
قدر التشهد كما اشترطه صاحباه، وبينوا ذلك بأنه تعالى ذكر
الذكر من غير فصل بين كونه ذكرا طويلا يسمى خطبة أو ذكرا لا
يسمى خطبة فكان الشرط هو الذكر الأعم بالقاطع غير أن المأثور
عنه صلّى الله تعالى عليه وسلم اختيار أحد الفردين وهو الذكر
المسمى بالخطبة والمواظبة عليه فكان ذلك واجبا أو سنة لا أنه
الشرط الذي لا يجزىء غيره إذ لا يكون بيانا لعدم الإجمال في
لفظ الذكر، والشافعية يشترطون خطبتين: ولهما أركان عندهم،
واستدلوا على ذلك بالآثار، وأيا ما كان فالأمر بالسعي للوجوب.
واستدل بذلك على فرضية الجمعة حيث رتب فيها الأمر بالسعي لذكر
الله تعالى على النداء للصلاة فإن أريد به
(14/296)
الصلاة أو هي والخطبة فظاهر، وكذلك إن أريد
به الخطبة لأن افتراض السعي إلى الشرط- وهو المقصود لغيره- فرع
افتراض ذلك الغير، ألا ترى أن من لم تجب عليه الصلاة لا يجب
عليه السعي إلى الجمعة بالإجماع؟ وكذا ثبتت فرضيتها بالسنة
والإجماع، وقد صرح بعض الحنفية بأنها آكد فرضية من الظهر
وبإكفار جاحدها وهي فرض عين، وقيل: كفاية وهو شاذ، وفي حديث
رواه أبو داود وقال النووي: على شرط الشيخين «الجمعة حق واجب
على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: مملوك أو امرأة أو صبي أو
مريض» .
وأجمعوا على اشتراط العدد فيها لهذا الخبر وغيره، وقول
القاشاني: تصح بواحد لا يعتد به كما في شرح المهذب لكنهم
اختلفوا في مقداره على أقوال: أحدها أنه اثنان أحدهما الإمام-
وهو قول النخعي والحسن بن صالح وداود- الثاني: ثلاثة أحدهم
الإمام- وحكي عن الأوزاعي وأبي ثور وعن أبي يوسف ومحمد وحكاه
الرافعي وغيره عن قول الشافعي القديم- الثالث: أربعه أحدهم
الإمام- وبه قال أبو حنيفة والثوري والليث وحكاه ابن المنذر عن
الأوزاعي وأبي ثور واختاره، وحكاه في شرح المهذب عن محمد،
وحكاه صاحب التلخيص قولا للشافعي في القديم- الرابع:
سبعة- حكي عن عكرمة- الخامس: تسعة- حكي عن ربيعة- السادس: اثني
عشر- وفي رواية عن ربيعة. وحكاه الماوردي عن محمد والزهري
والأوزاعي- السابع: ثلاثة عشر أحدهم الإمام- حكي عن إسحاق بن
راهويه- الثامن:
عشرون- رواه ابن حبيب عن مالك- التاسع: ثلاثون- في رواية عن
مالك- العاشر: أربعون أحدهم الإمام- وبه قال عبيد الله بن عبد
الله بن عتبة والإمام الشافعي في الجديد، وهو المشهور عن
الإمام أحمد، وأحد القولين المرويين عن عمر بن عبد العزيز-
الحادي عشر: خمسون- في الرواية الأخرى عنه- الثاني عشر:
ثمانون- حكاه المازري- الثالث عشر: جمع كثير بغير قيد- وهو
مذهب مالك- فقد اشتهر أنه قال: لا يشترط عدد معين بل يشترط
جماعة تسكن بهم قرية ويقع بينهم البيع، ولا تنعقد بالثلاثة
والأربعة ونحوهم.
قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: ولعل هذا المذهب أرجح
المذاهب من حيث الدليل، وأنا أقول أرجحها مذهب الإمام أبي
حنيفة، وقد رجحه المزني- وهو من كبار الآخذين عن الشافعي- وهو
اختيار الجلال السيوطي، ووجه اختياره مع ذكر أدلة أكثر الأقوال
بما لها وعليها مذكور في رسالة له سماها ضوء الشمعة في عدد
الجمعة، ولولا مزيد التطويل لذكرنا خلاصتها. ومن أراد ذلك
فليرجع إليها ليظهر له بنورها حقيقة الحال.
وقرأ كثير من الصحابة والتابعين- فامضوا- وحملت على التفسير
بناء على أنه لا يراد بالسعي الإسراع في المشي ولم تجعل قرآنا
لمخالفتها سواد المصحف المجمع عليه وَذَرُوا الْبَيْعَ أي
واتركوا المعاملة على أن البيع مجاز عن ذلك فيعم البيع والشراء
والإجارة وغيرها من المعاملات، أو هو دال على ما عداه بدلالة
النص ولعله الأولى، والأمر للوجوب فيحرم كل ذلك بل روي عن عطاء
حرمة اللهو المباح وأن يأتي الرجل أهله وأن يكتب كتابا أيضا.
وعبر بعضهم بالكراهة وحملت على كراهة التحريم، وقول الأكمل في
شرح المنار: إن الكراهة تنزيهية مردود وكأنه مأخوذ من زعم
القاضي الإسبيجاني أن الأمر في الآية للندب وهو زعم باطل عند
أكثر الأئمة، وعامة العلماء على صحة البيع، وإن حرم نظير ما
قالوا في الصلاة بالثوب المغصوب أو في الأرض المغصوبة.
وقال ابن العربي: هو فاسد، وعبر مجاهد بقوله: مردود ويستمر زمن
الحرمة إلى فراغ الإمام من الصلاة، وأوله إما وقت أذان الخطبة-
وروي عن الزهري، وقال به جمع- وإما أول وقت الزوال- وروى ذلك
عن عطاء والضحاك والحسن- والظاهر أن المأمورين بترك البيع هم
المأمورون بالسعي إلى الصلاة.
وأخرج عبد بن حميد عن عبد الرحمن بن القاسم أن القاسم دخل على
أهله يوم الجمعة وعندهم عطار يبايعونه
(14/297)
فاشتروا منه وخرج القاسم إلى الجمعة فوجد
الإمام وقد خرج فلما رجع أمرهم أن يناقضوه البيع، وظاهره حرمة
البيع إذا نودي للصلاة على غير من تجب عليه أيضا، والظاهر حرمة
البيع والشراء حالة السعي.
وصرح في السراج الوهاج بعدمها إذا لم يشغله ذلك ذلِكُمْ أي
المذكور من السعي إلى ذكر الله تعالى وترك البيع خَيْرٌ لَكُمْ
أنفع من مباشرة البيع فإن نفع الآخرة أجلّ وأبقى، وقيل: أنفع
من ذلك ومن ترك السعي، وثبوت أصل النفع للمفضل عليه باعتبار
أنه نفع دنيوي لا يدل على كون الأمر للندب والاستحباب دون
الحتم والإيجاب كما لا يخفى إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير
والشر الحقيقيين، أو إن كنتم من أهل العلم على تنزيل الفعل
منزلة اللازم فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ أي أديت وفرغ منها
فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ لإقامة مصالحهم وَابْتَغُوا مِنْ
فَضْلِ اللَّهِ أي الربح على ما قيل، وقال مكحول والحسن وابن
المسيب: المأمور بابتغائه هو العلم.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: لم يؤمروا بشيء من طلب
الدنيا إنما هو عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله
تعالى، وأخرج نحوه ابن جرير عن أنس مرفوعا، والأمر للإباحة على
الأصح فيباح بعد قضاء الصلاة الجلوس في المسجد ولا يجب الخروج،
وروي ذلك عن الضحاك ومجاهد.
وحكى الكرماني في شرح البخاري الاتفاق على ذلك وفيه نظر، فقد
حكى السرخسي القول بأنه للوجوب، وقيل: هو للندب،
وأخرج أبو عبيد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن عبد الله
بن بسر الحراني قال: رأيت عبد الله ابن بسر المازني صاحب النبي
صلّى الله تعالى عليه وسلم إذا صلّى الجمعة خرج فدار في السوق
ساعة ثم رجع إلى المسجد فصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي، فقيل
له: لأي شيء تصنع هذا؟ قال: إني رأيت سيد المرسلين صلّى الله
تعالى عليه وسلم هكذا يصنع وتلا هذه الآية فَإِذا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ
إلخ.
وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: إذا انصرفت يوم الجمعة
فاخرج إلى باب المسجد فساوم بالشيء وإن لم تشتره، ونقل عنه
القول بالندبية وهو الأقرب والأوفق بقوله تعالى: وَاذْكُرُوا
اللَّهَ كَثِيراً أي ذكرا كثيرا ولا تخصوا ذكره عز وجل بالصلاة
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ كي تفوزوا بخير الدارين، ومما ذكرنا
يعلم ضعف الاستدلال بما هنا على أن الأمر الوارد بعد الحظر
للإباحة، واستدل بالآية على تقديم الخطبة على الصلاة وكذا على
عدم ندب صلاة سنتها البعدية في المسجد، ولا دلالة فيها على نفي
سنة بعدية لها، وظاهر كلام بعض الأجلة أن من الناس من نفى أن
للجمعة سنة مطلقا فيحتمل على بعد أن يكون استشعر نفي السنة
البعدية من الأمر بالانتشار وابتغاء الفضل، وأما نفي القبلية
فقد استند فيه إلى ما روي في الصحيح وقد تقدم من أن النداء كان
على عهده عليه الصلاة والسلام إذا جلس على المنبر إذ من
المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام إذا كمل الأذان أخذ في الخطبة
وإذا أتمها أخذ في الصلاة، فمتى كانوا يصلون السنة؟ وأجيب عن
هذا بأن خروجه عليه الصلاة والسلام كان بعد الزوال بالضرورة
فيجوز كونه بعد ما كان يصلي الأربع، ويجب الحكم بوقوع الحكم
بهذا المجوز لعموم ما صح من أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم كان
يصلي إذا زالت الشمس أربعا، وكذا يجب في حقهم لأنهم أيضا
يعلمون الزوال كالمؤذن بل ربما يعلمونه بدخول الوقت ليؤذن،
واستدل بقوله تعالى: إِذا نُودِيَ إلخ من قال: إنما يجب إتيان
الجمعة من مكان يسمع فيه النداء، والمسألة خلافية فقال ابن عمر
وأبو هريرة ويونس والزهري: يجب إتيانها من ستة أميال، وقيل: من
خمسة، وقال ربيعة: من أربعة، وروي ذلك عن الزهري وابن المنكدر.
وقال مالك والليث: من ثلاثة، وفي بحر أبي حيان وقال أبو حنيفة
وأصحابه: يجب الإتيان على من في المصر سمع النداء أو لم يسمع
لا على من هو خارج المصر وإن سمع النداء وعن ابن عمر وابن
المسيب والزهري وأحمد
(14/298)
وإسحاق على من سمع النداء، وعن ربيعة على
من إذا سمع وخرج من بيته ماشيا أدرك الصلاة، وكذا استدل بذلك
من قال بوجوب الإتيان إليها سواء كان إذن عام أم لا، وسواء
أقامها سلطان أو نائبه أو غيرهما أم لا لأنه تعالى إنما رتب
وجوب السعي على النداء مطلقا كذا قيل، وتحقيق الكلام على ذلك
كله في كتب الفروع المطولة.
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها
أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وجماعة عن جابر ابن
عبد الله قال: «بينما النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم يخطب
يوم الجمعة قائما إذ قدمت عير المدينة فابتدرها أصحاب رسول
الله صلّى الله تعالى عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر
رجلا أنا فيهم وأبو بكر وعمر فأنزل الله تعالى وَإِذا رَأَوْا
تِجارَةً إلى آخر السورة
،
وفي رواية ابن مردويه عن ابن عباس أنه بقي في المسجد اثنا عشر
رجلا وسبع نسوة فقال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «لو
خرجوا كلهم لاضطرم المسجد عليهم نارا»
وفي رواية عن قتادة «والذي نفس محمد بيده لو اتبع آخركم أولكم
لالتهب الوادي عليكم نارا»
، وقيل: لم يبق إلا أحد عشر رجلا، وهم على ما قال أبو بكر:
غالب بن عطية العشرة المبشرة وعمار في رواية وابن مسعود في
أخرى، وعلى الرواية السابقة عدوا العشرة أيضا منهم. وعدوا
بلالا وجابرا لكلامه السابق، ومنهم من لم يذكر جابرا وذكر
بلالا وابن مسعود ومنه من ذكر عمارا بدل ابن مسعود، وقيل: لم
يبق إلا ثمانية، وقيل: بقي أربعون، وكانت العير لعبد الرحمن بن
عوف رضي الله تعالى عنه تحمل طعاما، وكان قد أصاب أهل المدينة
جوع وغلاء سعر.
وأخرج أبو داود في مراسيله عن مقاتل بن حيان قال: كان رسول
الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة مثل
العيدين حتى كان يوم الجمعة والنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم
يخطب وقد صلّى الجمعة فدخل رجل فقال: إن دحية بن خليفة قدم
بتجارة وكان إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف فخرج الناس ولم يظنوا
إلا أنه ليس في ترك حضور الخطبة شيء فأنزل الله تعالى وَإِذا
رَأَوْا
إلخ فقدم النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة
وأخر الصلاة، ولا أظن صحة هذا الخبر، والظاهر أنه صلّى الله
تعالى عليه وسلم لم يزل مقدما خطبتها عليها، وقد ذكروا أنها
شرط صحتها وشرط الشيء سابق عليه، ولم أر أحدا من الفقهاء ذكر
أن الأمر كان كما تضمنه ولم أظفر بشيء من الأحاديث مستوف لشروط
القبول متضمن ذلك، نعم ذكر العلامة ابن حجر الهيتمي أن بعضهم
شذ عن الإجماع على كون الخطبة قبلها والله تعالى أعلم، والآية
لما كانت في أولئك المنفضين وقد نزلت بعد وقوع ذلك منهم قالوا:
إن إِذا فيها قد خرجت عن الاستقبال واستعملت للماضي كما في
قوله:
وندمان تزيد الكأس طيبا ... سقيت إذا تغورت النجوم
ووحد الضمير لأن العطف بأو واختير ضمير التجارة دون اللهو
لأنها الأهم المقصود، فإن المراد باللهو ما استقبلوا به العير
من الدف ونحوه، أو لأن الانفضاض للتجارة مع الحاجة إليها
والانتفاع بها إذا كان مذموما فما ظنك بالانفضاض إلى اللهو وهو
مذموم في نفسه؟ وقيل: الضمير للرؤية المفهومة من رَأَوْا وهو
خلاف الظاهر المتبادر، وقيل: في الكلام تقدير، والأصل إذا رأوا
تجارة انفضوا إليها، أو لهوا انفضوا إليه فحذف الثاني لدلالة
الأول عليه، وتعقب بأنه بعد العطف بأو لا يحتاج إلى الضمير لكل
منهما بل يكفي الرجوع لأحدهما فالتقدير من غير حاجة، وقال
الطيبي: يمكن أن يقال: إن أَوْ في أَوْ لَهْواً مثلها في قوله:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أو أنت في العين
أملح
فقال الجوهري: يريد بل أنت فالضمير في إِلَيْها راجع إلى اللهو
باعتبار المعنى، والسر فيه أن التجارة إذا شغلت المكلف عن ذكر
الله تعالى عدت لهوا، وتعدّ فضلا إن لم تشغله كما في قوله
تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ
(14/299)
فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا
مِنْ فَضْلِ اللَّهِ
انتهى وليس بشيء كما لا يخفى.
وقرأ ابن أبي عبلة- إليه- بضمير اللهو، وقرىء- إليهما- بضمير
الاثنين كما في قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ
فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما [النساء: 135] وهو متأول
لأنه بعد العطف بأو لكونها لأحد الشيئين لا يثنى الضمير وكذا
الخبر، والحال والوصف فهي على هذه القراءة بمعنى الواو كما قيل
به في الآية التي ذكرناها وَتَرَكُوكَ قائِماً أي على المنبر.
واستدل به على مشروعية القيام في الخطبة وهو عند الحنفية أحد
سننها، وعند الشافعية هو شرط في الخطبتين إن قدر عليه، وأخرج
ابن ماجة وغيره عن ابن مسعود أنه سئل أكان النبي صلّى الله
عليه وسلم يخطب قائما أو قاعدا؟ فقال: أما تقرأ وَتَرَكُوكَ
قائِماً؟ وكذا سئل ابن سيرين وأبو عبيدة وأجابا بذلك، وأول من
خطب جالسا معاوية.
ولعل ذلك لعجزه عن القيام، وإلا فقد خالف ما كان عليه رسول
الله صلّى الله تعالى عليه وسلم،
فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن ابن
عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يخطب خطبتين يجلس بينهما
، وذكر أبو حيان أن أول من استراح في الخطبة عثمان رضي الله
تعالى عنه، وكأنه أراد بالاستراحة غير الجلوس بين الخطبتين إذ
ذاك ما كان عليه صلّى الله تعالى عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي
الله تعالى عنهما قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ
اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ فإن ذلك نفع محقق مخلد بخلاف ما
فيهما من النفع، فإن نفع اللهو ليس بمحقق بل هو متوهم، ونفع
التجارة ليس بمخلد، وتقديم اللهو ليس من تقديم العدم على
الملكة كما توهم بل لأنه أقوى مذمة، فناسب تقديمه في مقام
الذم، وقال ابن عطية: قدمت التجارة على اللهو في الرؤية لأنها
أهم، وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولا على الأبين، وهو قريب
مما ذكرنا.
وقال الطيبي: قدم ما كان مؤخرا وكرر الجار لإرادة الإطلاق في
كل واحد، واستقلاله فيما قصد منه ليخالف السابق في اتحاد
المعنى لأن ذلك في قصة مخصوصة، واستدل الشيخ عبد الغني
النابلسي عفا الله تعالى عنه على حل الملاهي بهذه الآية لمكان
أفعل التفضيل المقتضي لإثبات أصل الخيرية للهو كالتجارة، وأنت
تعلم أن ذلك مبني على الزعم والتوهم، وأعجب منه استدلاله على
ذلك بعطف التجارة المباحة على اللهو في صدر الآية، والأعجب
الأعجب أنه ألف رسائل في إباحة ذلك مما يستعمله الطائفة
المنسوبة إلى مولانا جلال الدين الرومي دائرة على أدلة أضعف من
خصر شادن يدور على محور الغنج في مقابلتهم، ومنها أكاذيب لا
أصل لها لن يرتضيها عاقل ولن يقبلها، ولا أظن ما يفعلونه إلا
شبكة لاصطياد طائر الرزق والجهلة يظنونه مخلصا من ربقة الرق،
فإياك أن تميل إلى ذلك وتوكل على الله تعالى المالك وَاللَّهُ
خَيْرُ الرَّازِقِينَ فإليه سبحانه اسعوا ومنه عز وجل اطلبوا
الرزق.
واستدل بما وقع في القصة على أقل العدد المعتبر في جماعة
الجمعة بأنه اثنا عشر بناء على ما في أكثر الروايات من أن
الباقين بعد الانفضاض كانوا كذلك، ووجه الدلالة منه أن العدد
المعتبر في الابتداء يعتبر في الدوام فلما لم تبطل الجمعة
بانفضاض الزائد على اثني عشر دل على أن هذا العدد كاف، وفيه أن
ذلك وإن كان دالا على صحتها باثني عشر رجلا بلا شبهة لكن ليس
فيه دلالة على اشتراط اثني عشر، وأنها لا تصح بأقل من هذا
العدد، فإن هذه واقعة عين أكثر ما فيها أنهم انفضوا وبقي اثنا
عشر رجلا وتمت بهم الجمعة، وليس فيها أنه لو بقي أقل من هذا
العدد لم تتم بهم، وفيما يصنع الإمام إن اتفق تفرق الناس عنه
في صلاة الجمعة خلاف: فعند أبي حنيفة إن بقي وحده، أو مع أقل
من ثلاثة رجال يستأنف الظهر إذا نفروا عنه قبل الركوع، وعند
صاحبيه إذا كبروهم معه مضى فيها، وعند زفر إذا نفروا قبل
القعدة بطلت لأن العدد شرط ابتداء فلا بد من دوامه كالوقت،
ولهما أنه شرط الانعقاد فلا
(14/300)
يشترط دوامه كالخطبة، وللإمام أن الانعقاد
بالشروع في الصلاة ولا يتم ذلك إلا بتمام الركعة لأن ما دونها
ليس بصلاة فلا بد من دوامه إلى ذلك بخلاف الخطبة لأنها تنافي
الصلاة فلا يشترط دوامها.
وقال جمهور الشافعية: إن انفض الأربعون، أو بعضهم في الصلاة
ولم يحرم عقب انفضاضهم في الركعة الأولى عدد نحوهم سمع الخطبة
بطلت الجمعة فيتمونها ظهرا لنحو ما قال زفر، وفي قول: لا يضر
إن بقي اثنان مع الإمام لوجود مسمى الجماعة إذ يغتفر في الدوام
ما لا يغتفر في الابتداء وتمام ذلك في محله.
وطعن الشيعة لهذه الآية الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأنهم
آثروا دنياهم على آخرتهم حيث انفضوا إلى اللهو والتجارة ورغبوا
عن الصلاة التي هي عماد الدين وأفضل كثير من العبادات لا سيما
مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وروي أن ذلك قد وقع مرارا
منهم، وفيه أن كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وسائر العشرة
المبشرة لم ينفضوا، والقصة كانت في أوائل زمن الهجرة، ولم يكن
أكثر القوم تام التحلي بحلية آداب الشريعة بعد، وكان قد أصاب
أهل المدينة جوع وغلاء سعر فخاف أولئك المنفضون اشتداد الأمر
عليهم بشراء غيرهم ما يقتات به لو لم ينفضوا، ولذا لم يتوعدهم
الله تعالى على ذلك بالنار أو نحوها بل قصارى ما فعل سبحانه
أنه عاتبهم ووعظهم ونصحهم، ورواية أن ذلك وقع منهم مرارا إن
أريد بها رواية البيهقي في شعب الإيمان عن مقاتل بن حيان أنه
قال: بلغني- والله تعالى أعلم- أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات فمثل
ذلك لا يلتفت إليه ولا يعلو عند المحدثين عليه، وإن أريد بها
غيرها فليبين ولتثبت صحته، وأنى بذلك؟! والجملة الطعن بجميع
الصحابة لهذه القصة التي كانت من بعضهم في أوائل أمرهم وقد
عقبها منهم عبادات لا تحصى سفه ظاهر وجهل وافر.
هذا «ومن باب الإشارة» على ما قيل في الآيات: هُوَ الَّذِي
بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا
عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ إشارة إلى عظيم قدرته عز وجل وأن إفاضة العلوم
لا تتوقف على الأسباب العادية، ومنه قالوا: إن الولي يجوز أن
يكون أميا كالشيخ معروف الكرخي- على ما قال ابن الجوزي- وعنده
من العلوم اللدنية ما تقصر عنها العقول، وقال العز بن عبد
السلام: قد يكون الإنسان عالما بالله تعالى ذا يقين وليس عنده
علم من فروض الكفايات، وقد كان الصحابة أعلم من علماء التابعين
بحقائق اليقين ودقائق المعرفة مع أن علماء التابعين من هو أقوم
بعلم الفقه من بعض الصحابة، ومن انقطع إلى الله عز وجل وخلصت
روحه أفيض على قلبه أنوار إلهية تهيأت بها لإدراك العلوم
الربانية والمعارف اللدنية، فالولاية لا تتوقف قطعا على معرفة
العلوم الرسمية كالنحو والمعاني والبيان وغير ذلك، ولا على
معرفة الفقه مثلا على الوجه المعروف بل على تعلم ما يلزم الشخص
من فروض العين على أي وجه كان من قراءة أو سماع من عالم أو نحو
ذلك، ولا يتصور ولاية شخص لا يعرف ما يلزمه من الأمور الشرعية
كأكثر من تقبل يده في زماننا، وقد رأيت منهم من يقول- وقد بلغ
من العمر نحو سبعين سنة- إذا تشهد لا إله أن الله بأن بدل إلا
فقلت له: منذ كم تقول هكذا؟ فقال: من صغري إلى اليوم فكررت
عليه الكلمة الطيبة فما قالها على الوجه الصحيح إلا بجهد، ولا
أظن ثباته على نحو ذلك،
وخبر «لا يتخذ الله وليا جاهلا ولو اتخذه لعلمه»
ليس من كلامه عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك لا يفيد في دعوى
ولاية من ذكرنا.
وذكر بعضهم أن قوله تعالى: وَيُزَكِّيهِمْ بعد قوله سبحانه:
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ إشارة إلى الإفاضة القلبية بعد
الإشارة إلى الإفادة القالية اللسانية، وقال بحصولها للأولياء
المرشدين: فيزكون مريديهم بإفاضة الأنوار على قلوبهم حتى تخلص
قلوبهم وتزكو نفوسهم، وهو سر ما يقال له التوجه عند السادة
النقشبندية، وقالوا: بالرابطة ليتهيأ ببركتها القلب لما يفاض
عليه، ولا أعلم لثبوت ذلك دليلا يعول عليه عن الشارع الأعظم
صلّى الله تعالى عليه وسلم،
(14/301)
ولا عن خلفائة رضي الله تعالى عنهم، وكل ما
يذكرونه في هذه المسألة ويعدونه دليلا لا يخلو عن قادح بل أكثر
تمسكاتهم فيها تشبه التمسك بحبال القمر، ولولا خوف الإطناب
لذكرتها مع ما فيها، ومع هذا لا أنكر بركة كل من الأمرين:
التوجه والرابطة، وقد شاهدت ذلك من فضل الله عز وجل، وأيضا لا
أدعي الجزم بعدم دليل في نفس الأمر، وفوق كل ذي علم عليم، ولعل
أول من أرشد إليهما من السادة وجد فيهما ما يعول عليه، أو
يقال: يكفي للعمل بمثل ذلك نحو ما تمسك به بعض أجلة متأخريهم
وإن كان للبحث فيه مجال ولأرباب القال في أمره مقال، وفي قوله
تعالى: وَآخَرِينَ إلخ بناء على عطفه على الضمير المنصوب قيل:
إشارة إلى عدم انقطاع فيضه صلّى الله تعالى عليه وسلم عن أمته
إلى يوم القيامة، وقد قالوا بعدم انقطاع فيض الولي أيضا بعد
انتقاله من دار الكثافة والفناء إلى دار التجرد والبقاء: وفي
قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ إلخ إشارة
إلى سوء حال المنكرين مع علمهم، وفي قوله تعالى: قُلْ يا
أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا الآية إشارة الى جواز امتحان مدعي
الولاية ليظهر حاله بالامتحان فعند ذلك يكرم أو يهان، وفي عتاب
الله تعالى المنفضين إشارة إلى نوع من كيفيات تربية المريد إذا
صدر منه نوع خلاف ليسلك الصراط السوي ولا يرتكب الاعتساف، وفي
الآيات بعد إشارات يضيق عنها نطاق العبارات، «ومن عمل بما علم
أورثه الله عز وجل علم ما لم يعلم» .
(14/302)
|