روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)

سورة التّحريم
ويقال لها: سورة المتحرم وسورة لم تحرم وسورة النبي صلّى الله عليه وسلم، عن ابن الزبير- سورة النساء- والمشهور أنها مدنية، وعن قتادة أن المدني منها إلى رأس العشر، والباقي مكي، وآيها اثنتا عشرة آية بالاتفاق، وهي متوخية مع التي قبلها في الافتتاح بخطاب النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم، وتلك مشتملة على طلاق النساء، وهذه على تحريم الإماء، وبينهما من الملابسة ما لا يخفى، ولما كانت تلك في خصام نساء الأمة ذكر في هذه خصومة نساء المصطفى صلّى الله تعالى عليه وسلم إعظاما لمنصبهن أن يذكرن مع سائر النسوة فأفردن بسورة خاصة ولذا ختمت بذكر زوجيه صلّى الله تعالى عليه وسلم في الجنة آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران قاله الجلال السيوطي عليه الرحمة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ
روى البخاري وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة «أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا فتواصيت أنا وحفصة إن أيتنا دخل عليها النبي صلّى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له، فقال: لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود»
وفي رواية

(14/341)


«وقد حفلت فلا تخبري بذلك أحدا» فنزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ

إلخ،
وفي رواية «قالت سودة: أكلت مغافير؟
قال: لا قالت: فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل، فقالت: جرست نحلة العرفط» فحرم العسل فنزلت
، وفي حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة شرب العسل في بيت حفصة، والقائلة سودة وصفية.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال الحافظ السيوطي: بسند صحيح عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم شرب من شراب عند سودة من العسل فدخل على عائشة فقالت:
إني أجد منك ريحا فدخل على حفصة فقالت: إني أجد منك ريحا فقال: أراه من شراب شربته عند سودة والله لا أشربه» فنزلت
،
وأخرج النسائي والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حراما فأنزل الله تعالى هذه الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ

إلخ، ويوافقه ما أخرجه البراز، والطبراني بسند حسن صحيح عن ابن عباس قال: نزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ الآية في سريته.
والمشهور أنها مارية
وأنه عليه الصلاة والسلام وطئها في بيت حفصة في يومها فوجدت وعاتبته فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم: ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها؟ قالت: بلى فحرمها
، وفي رواية أن ذلك كان في بيت حفصة في يوم عائشة،
وفي الكشاف روي أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة فقال لها: اكتمي عليّ وقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي فأخبرت عائشة وكانتا متصادقتين.
وبالجملة الأخبار متعارضة، وقد سمعت ما قيل فيها لكن قال الخفاجي: قال النووي في شرح مسلم: الصحيح أن الآية في قصة العسل لا في قصة مارية المروية في غير الصحيحين، ولم تأت قصة مارية في طريق صحيح ثم قال الخفاجي نقلا عنه أيضا: الصواب أن شرب العسل كان عند زينب رضي الله تعالى عنها، وقال الطيبي فيما نقلناه عن الكشاف: ما وجدته في الكتب المشهورة والله تعالى أعلم.
والمغافير: بفتح الميم والغين المعجمة وبياء بعد الفاء- على ما صوبه القاضي عياض- جمع مغفور بضم الميم شيء له رائحة كريهة ينضحه العرفط وهو شجر أو نبات له ورق عريض، وعن المطلع أن العرفط هو الصمغ، والمغفور شوك له نور يأكل منه النخل يظهر العرفط عليه، وكان صلّى الله تعالى عليه وسلم يحب الطيب جدا ويكره الرائحة الكريهة للطافة نفسه الشريفة ولأن الملك يأتيه وهو يكرهها فشق عليه صلّى الله تعالى عليه وسلم ما قيل فجرى ما جرى، وفي ندائه صلّى الله تعالى عليه وسلم- بيا أيها النبي- في مفتتح العتاب من حسن التلطف به والتنويه بشأنه عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى، ونظير ذلك قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] والمراد بالتحريم الامتناع. وبما أحل الله العسل على ما صححه النووي رحمه الله تعالى، أو وطء سريته على ما في بعض الروايات، ووجه التعبير- بما- على هذين التفسيرين ظاهر.
وفسر بعضهم ما بمارية والتعبير عنها- بما- على ما هو الشائع في التعبير بها عن ملك اليمين، والنكتة فيه لا تخفى، وقوله تعالى: تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ حال من فاعل تُحَرِّمُ، واختاره أبو حيان فيكون هو محل العتاب على ما قيل، وكأن وجهه أن الكلام الذي فيه قيد المقصود فيه القيد إثباتا أو نفيا، أو يكون التقييد على نحو «أضعافا مضاعفة» على أن التحريم في نفسه محل عتب والباعث عليه كذلك كما في الكشف، أو استئناف

(14/342)


نحوي أو بياني، وهو الأولى، ووجهه أن الاستفهام ليس على الحقيقة بل هو معاتبة على أن التحريم لم يكن عن باعث مرضي فاتجه أن يسأل ما ينكر منه وقد فعله غيري من الأنبياء عليهم السلام ألا ترى إلى قوله تعالى: إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ [آل عمران: 93] فقيل: تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ ومثلك من أجل أن تطلب مرضاتهن بمثل ذلك، وجوز أن يكون تفسيرا- لتحرم- بجعل ابتغاء مرضاتهن عين التحريم مبالغة في كونه سببا له، وفيه من تفخيم الأمر ما فيه، والإضافة في أَزْواجِكَ للجنس لا للاستغراق.
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيه تعظيم لشأنه صلّى الله تعالى عليه وسلم بأن ترك الأولى بالنسبة إلى مقامه السامي الكريم يعد كالذنب وإن لم يكن في نفسه كذلك، وأن عتابه صلّى الله تعالى عليه وسلم ليس إلا لمزيد الاعتناء به، وقد زل الزمخشري هاهنا كعادته فزعم أن ما وقع من تحريم الحلال المحظور لكنه غفر له عليه الصلاة والسلام، وقد شن ابن المنير في الانتصاف الغارة في التشنيع عليه فقال ما حاصله: إن ما أطلقه في حقه صلّى الله تعالى عليه وسلم تقول وافتراء والنبي عليه الصلاة والسلام منه براء، وذلك أن تحريم الحلال على وجهين: الأول اعتقاد ثبوت حكم التحريم فيه وهو كاعتقاد ثبوت حكم التحليل في الحرام محظور يوجب الكفر فلا يمكن صدوره من المعصوم أصلا، والثاني الامتناع من الحلال مطلقا أو مؤكدا باليمين مع اعتقاد حله وهذا مباح صرف وحلال محض، ولو كان ترك المباح والامتناع منه غير مباح لاستحالت حقيقة الحلال، وما وقع منه صلّى الله تعالى عليه وسلم كان من هذا النوع وإنما عاتبه الله تعالى عليه رفقا به وتنويها بقدره وإجلالا لمنصبه عليه الصلاة والسلام أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشق عليه جريا على ما ألف من لطف الله تعالى به، وتأول بعضهم كلام الزمخشري، وفيه ما ينبو عن ذلك.
وقيل: نسبة التحريم إليه صلّى الله تعالى عليه وسلم مجاز، والمراد لم تكون سببا لتحريم الله تعالى عليك ما أحل لك بحلفك على تركه وهذا لا يحتاج إليه، وفي وقوع الحلف خلاف، ومن قال به احتج ببعض الاخبار، وبظاهر قوله تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ أي قد شرع لكم تحليلها وهو حل ما عقدته الأيمان بالكفارة، فالتحلة مصدر حلل كتكرمة من كرم، وليس مصدرا مقيسا، والمقيس التحليل والتكريم لأن قياس فعل الصحيح العين غير المهموز هو التفعيل، وأصله تحللة فأدغم، وهو من الحل ضد العقد فكأنه باليمين على الشيء لالتزامه عقد عليه وبالكفارة يحل ذلك، ويحل أيضا بتصديق اليمين كما في
قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «لا يموت لرجل ثلاثة أولاد فتمسه النار إلا تحلة القسم»
يعني وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] إلخ، وتحليله بأقل ما يقع عليه الاسم كمن حلف أن ينزل يكفي فيه إلمام خفيف، فالكلام كناية عن التقليل أي قدر الاجتياز اليسير، وكذا يحل بالاستثناء أي بقول الحالف: إن شاء الله تعالى بشرطه المعروف في الفقه.
ويفهم من كلام الكشاف أن التحليل يكون بمعنى الاستثناء ومعناه كما في الكشف تعقيب اليمين عند الإطلاق بالاستثناء حتى لا تنعقد، ومنه حلا أبيت اللعن، وعلى القول بأنه كان منه عليه الصلاة والسلام يمين كما جاء في بعض الروايات وهو ظاهر الآية اختلف هل أعطى صلّى الله تعالى عليه وسلم الكفارة أم لا؟ فعن الحسن أنه عليه الصلاة والسلام لم يعط لأنه كان مغفورا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وإنما هو تعليم للمؤمنين، وفيه أن غفران الذنب لا يصلح دليلا لأن ترتب الأحكام الدنيوية على فعله عليه الصلاة والسلام ليس من المؤاخذة على الذنب كيف وغير مسلم أنه ذنب، وعن مقاتل أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية، وقد نقل مالك في المدونة عن زيد بن أسلم أنه عليه الصلاة والسلام أعطى الكفارة في تحريمه أم ولده حيث حلف أن لا يقربها، ومثله عن الشعبي، واختلف العلماء في حكم قول الرجل لزوجته: أنت عليّ حرام أو الحلال عليّ حرام ولم يستثن زوجته فقيل: قال

(14/343)


جماعة منهم مسروق وربيعة وأبو سلمة والشعبي وأصبغ: هو كتحريم الماء والطعام لا يلزمه شيء، وقال أبو بكر وعمر وزيد وابن مسعود وابن عباس وعائشة وابن المسيب وعطاء وطاوس وسليمان بن يسار وابن جبير وقتادة والحسن والاوزاعي وأبو ثور وجماعة: هو يمين يكفرها، وابن عباس أيضا في رواية، والشافعي في قول في أحد قوليه: فيه تكفير يمين وليس بيمين، وأبو حنيفة يرى تحريم الحلال يمينا في كل شيء، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه فإذا حرم طعاما فقد حلف على عدم أكله أو أمة فعلى وطئها أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم تكن له نية فإن نوى الظهار فظهار وإن نوى الطلاق فطلاق بائن، وكذلك إن نوى اثنتين (1) وإن نوى ثلاثا فكما نوى، وإن قال: نويت الكذب دين بينه وبين الله تعالى، ولكن لا يدين في قضاء الحاكم بإبطال الإيلاء لأن اللفظ إنشاء في العرف، وقال جماعة: إن لم يرد شيئا فهو يمين، وفي التحرير قال أبو حنيفة وأصحابه: إن نوى الطلاق فواحدة بائنة أو اثنتين فواحدة أو ثلاثا فثلاث. أو لم ينو شيئا فمول. أو الظهار فظهار، وقال ابن القاسم: لا تنفعه نية الظهار ويكون طلاقا، وقال يحيى بن عمر: يكون كذلك فإن ارتجعها فلا يجوز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار، ويقع ما أراد من إعداده فإن نوى واحدة فرجعية وهو قول للشافعي، وقال الأوزاعي وسفيان وأبو ثور: أي شيء نوى به من الطلاق وقع وإن لم ينو شيئا فقال سفيان: لا شيء عليه، وقال الاوزاعي وأبو ثور: تقع واحدة، وقال ابن جبير: عليه عتق رقبة وإن لم يكن ظهارا، وقال أبو قلابة وعثمان وأحمد وإسحاق: التحريم ظهار ففيه كفارته، وعن الشافعي إن نوى أنها محرمة كظهر أمه فظهار، أو تحريم عينها بغير طلاق، أو لم ينو فكفارة يمين، وقال مالك: يقع ثلاث في المدخول بها وما أراد من واحدة أو ثنتين. أو ثلاث في غير المدخول بها، وقال ابن أبي ليلى وعبد الملك ابن الماجشون: تقع ثلاث في الوجهين، وروى ابن خويزمنداد عن مالك، وقاله زيد وحماد بن أبي سليمان: تقع واحدة بائنة فيهما، وقال الزهري وعبد العزيز بن الماجشون: واحدة رجعية، وقال أبو مصعب ومحمد بن عبد الحكم: يقع في التي لم يدخل بها واحدة وفي المدخول بها ثلاث، وفي الكشاف لا يراه الشافعي يمينا ولكن سببا في الكفارة في النساء وحدهن، وأما الطلاق فرجعي عنده، وعن علي كرم الله تعالى وجهه ثلاث، وعن زيد واحدة بائنة، وعن عثمان ظهار، وأخرج البخاري ومسلم وابن ماجة والنسائي عن ابن عباس أنه قال: من حرم امرأته فليس بشيء.
وقرأ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] وللنسائي أنه أتاه رجل فقال: جعلت امرأتي عليّ حراما قال: كذبت ليست عليك بحرام ثم تلا هذه الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ عليك أغلظ الكفارة عتق رقبة إلى غير ذلك من الأقوال، وهي في هذه المسألة كثيرة جدا، وفي نقل الأقوال عن أصحابها اختلاف كثير أيضا، واحتج بما في هذه الآية من فرض تحليلها بالكفارة إن لم يستثن من رأى التحريم مطلقا، أو تحريم المرأة يمينا لأنه لو لم يكن يمينا لم يوجب الله تعالى فيه كفارة اليمين هنا.
وأجيب بأنه لا يلزم من وجوب الكفارة كونه يمينا لجواز اشتراك الأمرين المتغايرين في حكم واحد فيجوز أن تثبت الكفارة فيه لمعنى آخر، ولو سلم أن هذه الكفارة لا تكون إلا مع اليمين فيجوز أن يكون صلّى الله تعالى عليه وسلم أقسم مع التحريم فقال في مارية: «والله لا أطؤها» أو في العسل «والله لا أشربه» وقد رواه بعضهم فالكفارة لذلك اليمين لا للتحريم وحده، والله تعالى أعلم.
__________
(1) قوله: وكذلك إن نوى اثنتين، وقال بعض الحنفية: هذا عند أبي يوسف ومحمد، وعند أبي حنيفة لا يصح نية الثنتين وتقع واحدة اه طيبي اه منه.

(14/344)


وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ سيدكم ومتولي أموركم وَهُوَ الْعَلِيمُ فيعلم ما يصلحكم فيشرعه سبحانه لكم الْحَكِيمُ المتقن أفعاله وأحكامه فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا حسبما تقتضيه الحكمة وَإِذْ أَسَرَّ أي واذكر إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ هي حفصة على ما عليه عامة المفسرين، وزعم بعض الشيعة أنها عائشة وليس له في ذلك شيعة، نعم رواه ابن مردويه عن ابن عباس وهو شاذ حَدِيثاً هو
قوله عليه الصلاة والسلام على ما في بعض الروايات: «لكني كنت أشرب عسلا عند زينب ابنة جحش فلن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا»
فَلَمَّا نَبَّأَتْ أي أخبرت.
وقرأ طلحة- أنبأت- بِهِ أي بالحديث عائشة لأنهما كانتا متصادقتين، وتضمن الحديث نقصان حظ ضرتهما زينب من حبيبهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حيث إنه عليه الصلاة والسلام- كما في البخاري وغيره- كان يمكث عندها لشرب ذلك وقد اتخذ ذلك عادة- كما يشعر به لفظ- كان فاستخفها السرور فنبأت بذلك وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أي جعل الله تعالى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ظاهرا على الحديث مطلعا عليه من قوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة: 33، الفتح: 28، الصف: 9] والكلام على ما قيل: على التجوز، أو تقدير مضاف أي على إفشائه، وجوز كون الضمير لمصدر نَبَّأَتْ وفيه تفكيك الضمائر، أو جعل الله تعالى الحديث ظاهرا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فهو نظير ظهر لي هذه المسألة وظهرت علي إذا كان فيه مزيد كلفة واهتمام بشأن الظاهر فلا تغفل عَرَّفَ أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حفصة بَعْضَهُ أي الحديث أي أعلمها وأخبرها ببعض الحديث الذي أفشته.
والمراد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لها: قلت كذا لبعض ما أسره إليها قيل: هو
قوله لها: «كنت شربت عسلا عند زينب ابنة جحش فلن أعود»
وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ هو على ما قيل
قوله عليه الصلاة والسلام: «وقد حلفت»
فلم يخبرها به تكرما لما فيه من مزيد خجلتها حيث إنه يفيد مزيد اهتمامه صلى الله تعالى عليه وسلم بمرضاة أزواجه وهو لا يحب شيوع ذلك، وهذا من مزيد كرمه صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد أخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه ما استقصى كريم قط،
وقال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام، وقال الشاعر:
ليس الغبيّ بسيد في قومه ... لكنّ سيد قومه المتغابي
وجوز أن يكون عَرَّفَ بمعنى جاز أي جازاها على بعض بالعتب واللوم أو بتطليقه عليه الصلاة والسلام إياها، وتجاوز عن بعض، وأيد بقراءة السلمي والحسن وقتادة وطلحة والكسائي وأبي عمرو في رواية هارون عنه عرف بالتخفيف لأنه على هذه القراءة لا يحتمل معنى العلم لأن العلم تعلق به كله بدليل قوله تعالى: أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مع أن الإعراض عن الباقي يدل على العلم فتعين أن يكون بمعنى المجازاة.
قال الأزهري في التهذيب: من قرأ «عرف» بالتخفيف أراد معنى غضب وجازى عليه كما تقول للرجل يسيء إليك: والله لأعرفن لك ذلك، واستحسنه الفراء، وقول القاموس: هو بمعنى الإقرار لا وجه له هاهنا، وجعل المشدد من باب إطلاق المسبب على السبب والمخفف بالعكس، ويجوز أن تكون العلاقة بين المجازاة والتعريف اللزوم، وأيد المعنى الأول بقوله تعالى: فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ لتعرف هل فضحتها عائشة أم لا؟ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ الذي لا تخفى عليه خافية فإنه أوفق للإعلام، وهذا على ما في البحر على معنى بهذا، وقرأ ابن المسيب وعكرمة- عراف بعضه- بألف بعد الراء وهي إشباع، وقال ابن خالويه: ويقال: إنها لغة يمانية.

(14/345)


وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن مجاهد أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أسر إلى حفصة تحريم مارية وأن أبا بكر وعمر يليان الناس بعده فأسرت ذلك إلى عائشة فعرف بعضه وهو أمر مارية وأعرض عن بعض وهو أن أبا بكر وعمر يليان بعده مخافة أن يفشو، وقيل: بالعكس، وقد جاء إسرار أمر الخلافة في عدة أخبار
فقد أخرج ابن عدي وأبو نعيم في فضائل الصدّيق، وابن مردويه من طريق عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس قالا: إن إمارة أبي بكر وعمر لفي كتاب الله وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً قال لحفصة: «أبوك وأبو عائشة واليا الناس بعدي فإياك أن تخبري أحدا» .
وأخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة عن الضحاك أنه قال: في الآية أسر صلى الله تعالى عليه وسلم إلى حفصة أن الخليفة من بعده أبو بكر ومن بعد أبي بكر عمر، وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران نحوه، وفي مجمع البيان للطبرسي من أجل الشيعة عن الزجاج قال: لما حرم عليه الصلاة والسلام مارية القبطية أخبر أنه يملك من بعده أبو بكر وعمر فعرفها بعض ما أفشت من الخبر وأعرض عن بعض أن أبا بكر وعمر يملكان من بعدي، وقريب من ذلك ما رواه العياشي بالإسناد عن عبد الله بن عطاء المكي عن أبي جعفر الباقر رضي الله تعالى عنه إلا أنه زاد في ذلك أن كل واحدة منهما حدثت أباها بذلك فعاتبهما في أمر مارية وما أفشتا عليه من ذلك، وأعرض أن يعاتبهما في الأمر الآخر انتهى.
وإذا سلم الشيعة صحة هذا لزمهم أن يقولوا بصحة خلافة الشيخين لظهوره فيها كما لا يخفى، ثم إن تفسير الآية على هذه الأخبار أظهر من تفسيرها على حديث العسل لكن حديثه أصح، والجمع بين الاخبار مما لا يكاد يتأتى.
وقصارى ما يمكن أن يقال: يحتمل أن يكون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قد شرب عسلا عند زينب كما هو عادته، وجاء إلى حفصة فقالت له ما قالت فحرم العسل، واتفق له عليه الصلاة والسلام قبيل ذلك أو بعيده أن وطئ جاريته مارية في بيتها في يومها على فراشها فوجدت فحرم صلى الله تعالى عليه وسلم مارية، وقال لحفصة ما قال تطييبا لخاطرها واستكتمها ذلك فكان منها ما كان، ونزلت الآية بعد القصتين فاقتصر بعض الرواة على إحداهما.
والبعض الآخر على نقل الأخرى، وقال كل: فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إلخ، وهو كلام صادق إذ ليس فيه دعوى كل حصر علة النزول فيما نقله فإن صح هذا هان أمر الاختلاف وإلا فاطلب لك غيره، والله تعالى أعلم.
واستدل بالآية على أنه لا بأس بإسرار بعض الحديث إلى من يركن إليه من زوجة أو صديق، وأنه يلزمه كتمه، وفيها على ما قيل: دلالة على أنه يحسن حسن العشرة مع الزوجات والتلطف في العتب والإعراض عن استقصاء الذنب، وقد روي أن عبد الله بن رواحة- وكان من النقباء- كانت له جارية فاتهمته زوجته ليلة، فقال قولا بالتعريض، فقالت: إن كنت لم تقربها فاقرأ القرآن فأنشد:
شهدت فلم أكذب بأن محمدا ... رسول الذي فوق السماوات من عل

وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما ... له عمل في دينه متقبل

وأن التي بالجزع من بطن نخلة ... ومن دانها كل عن الخير معزل
فقالت: زدني، فأنشد:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... كما لاح معروف من الصبح ساطع

أتى بالهدى بعد العمى فنفوسنا ... به موقنات أن ما قال واقع

(14/346)


يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا رقدت بالكافرين المضاجع
فقالت: زدني، فأنشد:
شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا

وأن محمدا يدعو بحق ... وأن الله مولى المؤمنينا

وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا

ويحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا
فقالت: أما إذ قرأت القرآن فقد صدقتك،
وفي رواية أنها قالت- وقد كانت رأته على ما تكره- إذن صدق الله وكذب بصري، فأخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فتبسم، وقال: «خيركم خيركم لنسائه»
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ خطاب لحفصة وعائشة رضي الله تعالى عنهما على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في المعاتبة فإن المبالغ في العتاب يصير المعاتب أولا بعيدا عن ساحة الحضور، ثم إذا اشتد غضبه توجه إليه وعاتبه بما يريد، وكون الخطاب لهما لما أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن حبان وغيره عن ابن عباس قال: لم أزل حريصا أن أسأل عمر رضي الله تعالى عنه عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اللتين قال الله تعالى: إِنْ تَتُوبا إلخ حتى حج عمر وحججت معه فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة فنزل ثم إني صببت على يديه فتوضأ فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اللتان قال الله تعالى: إِنْ تَتُوبا إلخ؟ فقال: وا عجبا لك يا ابن عباس هما عائشة وحفصة ثم أنشأ يحدثني الحديث الحديث بطوله، ومعنى قوله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما مالت عن الواجب من مخالفته صلى الله تعالى عليه وسلم بحب ما يحبه وكراهة ما يكرهه إلى مخالفته، والجملة قائمة مقام جواب الشرط بعد حذفه. والتقدير إن تتوبا فلتوبتكما موجب وسبب فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما أو فحق لكما ذلك فقد صدر ما يقتضيها وهو على معنى فقد ظهر أن ذلك حق كما قيل في قوله:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة من أنه بتأويل تبين أني لم تلدني لئيمة، وجعلها ابن الحاجب جوابا من حيث الإعلام كما قيل في: إن تكرمني اليوم فقد أكرمتك أمس، وقيل: الجواب محذوف تقديره يمح إثمكما، وقوله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ إلخ بيان لسبب التوبة، وقيل: التقدير فقد أديتما ما يجب عليكما أو أتيتما بما يحق لكما، وما ذكر دليل على ذلك قيل: وإنما لم يفسروا فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما بمالت إلى الواجب أو الحق أو الخبر حتى يصح جعله جوابا من غير احتياج إلى نحو ما تقدم لأن صيغة الماضي- وقد- وقراءة ابن مسعود- فقد زاغت قلوبكما- وتكثير المعنى مع تقليل اللفظ تقتضي ما سلف، وتعقب بأنه إنما يتمشى على ما ذهب إليه ابن مالك من أن الجواب يكون ماضيا وإن لم يكن لفظ كان، فيه نظر، والجمع في قُلُوبُكُما دون التثنية لكراهة اجتماع تثنيتين مع ظهور المراد وهو في مثل ذلك أكثر استعمالا من التثنية والإفراد، قال أبو حيان: لا يجوز عند أصحابنا إلا في الشعر كقوله:
حمامة بطن الواديين ترنمي وغلط رحمه الله تعالى ابن مالك في قوله في التسهيل: ويختار لفظ الإفراد على لفظ التثنية وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ بحذف إحدى التاءين وتخفيف الظاء، وهي قراءة عاصم ونافع في رواية، وطلحة والحسن وأبي رجاء، وقرأ الجمهور- تظاهرا- بتشديد الظاء، وأصله تتظاهرا فأدغمت التاء في الظاء، وبالأصل قرأ عكرمة، وقرأ أبو عمرو في

(14/347)


رواية أخرى- تظهرا- بتشديد الظاء والهاء دون ألف، والمعنى فإن تتعاونا عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بما يسوؤه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره.
فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ أي ناصره والوقف على ما في البحر وغيره هنا أحسن، وجعلوا قوله تعالى: وَجِبْرِيلُ مبتدأ، وقوله سبحانه: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ معطوفا عليه، وقوله عز وجل: بَعْدَ ذلِكَ أي بعد نصرة الله تعالى متعلقا بقوله جل شأنه: ظَهِيرٌ وجعلوه الخبر عن الجميع، وهو بمعنى الجمع أي مظاهرون، واختير الإفراد لجعلهم كشيء واحد، وجوز أن يكون خبرا عن جِبْرِيلُ وخبره ما بعده مقدر نظير ما قالوا في قوله:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب
وجوز أن يكون الوقف على جِبْرِيلُ أي وَجِبْرِيلُ مولاه وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ مبتدأ، وما بعده معطوف عليه، والخبر ظَهِيرٌ، وظاهر كلام الكشاف اختيار الوقف على الْمُؤْمِنِينَ فظهير خبر الملائكة، وعليه غالب مختصريه، وظاهر كلامهم التقدير لكل من جبريل وصالح المؤمنين خبرا وهو إما لفظ مولى مرادا به مع كل معنى من معانيه المناسبة أي وَجِبْرِيلُ مولاه أي قرينه وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ مولاه أي تابعه، أو لفظ آخر بذلك المعنى المناسب وهو قرينه في الأول وتابعه في تابعه، ولا مانع من أن يكون المولى في الجمع بمعنى الناصر كما لا يخفى، وزيادة هُوَ على ما في الكشاف للإيذان بأن نصرته تعالى عزيمة من عزائمه وأنه عز وجل متولي ذلك بذاته تعالى، وهو تصريح بأن الضمير ليس من الفصل في شيء، وأنه للتقوي لا للحصر، والحصر أكثري في المعرفتين على ما نقله في الإيضاح، وإن كان كلام السكاكي موهما الوجوب وهذا والمبالغة محققة على ما نص عليه سيبويه وحقق في الأصول، وأما الحصر فليس من مقتضى اللفظ فلا يرد أن الأولى أن يكون وَجِبْرِيلُ وما بعده مخبرا عنه- بظهير- وإن سلم فلا ينافيه لأن نصرتهم نصرته تعالى فليس من الممتنع على نحو زيد المنطلق وعمرو، كذا في الكشف، ووجه تخصيص جبريل عليه السلام بالذكر مزيد فضله بل هو رأس الكروبيين، والمراد بالصالح عند كثير الجنس الشامل للقليل والكثير، وأريد به الجمع هنا، ومثله قولك: كنت في السامر والحاضر، ولذا عم بالإضافة، وجوز أن يكون اللفظ جميعا، وكان القياس أن يكتب- وصالحوا- بالواو إلا أنها حذفت خطا تبعا لحذفها لفظا، وقد جاءت أشياء في المصحف تبع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط نحو- وَيَدْعُ الْإِنْسانُ [الإسراء: 11] ويَدْعُ الدَّاعِ [القمر: 6] وسَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: 18] وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ [ص:
21]- إلى غير ذلك، وذهب غير واحد إلى أن الإضافة للعهد فقيل: المراد به الأنبياء عليهم السلام.
وروي عن ابن زيد وقتادة والعلاء بن زياد، ومظاهرتهم له قيل: تضمن كلامهم ذم المتظاهرين على نبي من الأنبياء عليهم السلام وفيه من الخفاء ما فيه وقيل: علي كرم الله تعالى وجهه، وأخرجه ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس،
وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت عميس قالت، سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ علي بن أبي طالب
وروى الإمامية عن أبي جعفر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين نزلت أخذ بيد علي كرم الله تعالى وجهه فقال: يا أيها الناس هذا صالح المؤمنين.
وأخرج ابن عساكر عن الحسن البصري أنه قال: هو عمر بن الخطاب، وأخرج هو وجماعة عن سعيد بن جبير قال: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ نزل في عمر بن الخطاب خاصة، وأخرج ابن عساكر عن مقاتل بن سليمان أنه قال:
وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أبو بكر وعمر وعلي رضي الله تعالى عنهم، وقيل: الخلفاء الأربعة.
وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن ابن عمر وابن عباس قالا: نزلت وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ في أبي

(14/348)


بكر وعمر، وذهب إلى تفسيره بهما عكرمة وميمون بن مهران وغيرهما،
وأخرج الحاكم عن أبي أمامة والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أبو بكر وعمر
، وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان أبي يقرؤها وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أبو بكر وعمر، ورجح إرادة ذلك بأنه اللائق بتوسيطه بين جبريل والملائكة عليهم السلام فإنه جمع بين الظهير المعنوي والظهير الصوري كيف لا وإن جبريل عليه السلام ظهير له صلّى الله عليه وسلم يؤيده بالتأييدات الإلهية وهما وزيراه وظهيراه في تدبير أمور الرسالة وتمشية أحكامها الظاهرة مع أن بيان مظاهرتهما له عليه السلام أشد تأثيرا في قلوب بنتيهما وتوهينا لأمرهما.
وأنا أقول العموم أولى، وهما- وكذا علي كرم الله تعالى وجهه- يدخلان دخولا أوليا، والتنصيص على بعض في الأخبار المرفوعة إذا صحت لنكتة اقتضت ذلك لا لإرادة الحصر، ويؤيد ذلك ما
أخرجه ابن عساكر عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في ذلك: من صالح المؤمنين أبو بكر وعمر
، وفائدة بَعْدَ ذلِكَ التنبيه على أن نصرة الملائكة عليهم السلام أقوى وجوه نصرته عز وجل وإن تنوعت، ثم لا خفاء في أن نصرة جميع الملائكة- وفيهم جبريل- أقوى من نصرة جبريل عليه السلام وحده.
وقيل: الإشارة إلى مظاهرة صالح المؤمنين خاصة فالتعظيم بالنسبة إليها، وفي التنبيه على هذا دفع توهم ما يوهمه الترتيب الذكري من أعظمية مظاهرة المتقدم، وبالجملة فائدة بَعْدَ ذلِكَ نحو فائدة- ثم- في قوله تعالى:
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وهو التفاوت الرتبي أي أعظمية رتبة ما بعدها بالنسبة إلى ما قبلها وهذا لا يتسنى على ما نقل عن البحر بل ذلك للإشارة إلى تبعية المذكورين في النصرة والإعانة عز وجل، وأيا ما كان فإن شرطية- وتظاهرا- فعل الشرط، والجملة المقرونة بالفاء دليل الجواب، وسبب أقيم مقامه، والأصل فإن تَظاهَرا عليه فلن يعدم من يظاهره فإن الله مولاه، وجوز أن تكون هي بنفسها الجواب على أنها مجاز أو كناية عن ذلك، وأعظم جل جلاله شأن النصرة لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم على هاتين الضعيفتين إما للإشارة إلى عظم مكر النساء أو للمبالغة في قطع حبال طمعهما لعظم مكانتهما عند رسول الله عليه الصلاة والسلام وعند المؤمنين ولأمومتهما لهم وكرامة له صلّى الله عليه وسلم ورعاية لأبويهما في أن تظاهرهما يجديهما نفعا.
وقيل: المراد المبالغة في توهين أمر تظاهرهما ودفع ما عسى أن يتوهمه المنافقون من ضرره في أمر النبوة والتبليغ وقهر أعداء الدين لما أن العادة قاضية باشتغال بال الرجل بسبب تظاهر أزواجه عليه، وفيه أيضا مزيد إغاظة للمنافقين وحسم لأطماعهم الفارغة فكأنه قيل: فإن تظاهرا عليه لا يضر ذلك في أمره فإن الله تعالى هو مولاه وناصره في أمر دينه وسائر شؤونه على كل من يتصدى لما يكرهه وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ مظاهرون له ومعينون إياه كذلك، ويلائم هذا ترك ذكر المعان عليه حيث لم يقل ظهير له عليكما مثلا، وكذا ترك ذكر المعان فيه وتخصيص- صالح المؤمنين- بالذكر، وتقوى هذه الملاءمة على ما روي عن ابن جبير من تفسير- صالح المؤمنين- بمن برىء من النفاق فتأمل.
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أي أن يعطيه عليه الصلاة والسلام بدلكن أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ والخطاب لجميع زوجاته صلى الله تعالى عليه وسلم أمهات المؤمنين على سبيل الالتفات، وخوطبن لأنهن في مهبط الوحي وساحة العز والحضور، ويرشد إلى هذا ما أخرجه البخاري عن أنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ خَيْراً مِنْكُنَّ فنزلت هذه الآية وليس فيها

(14/349)


أنه عليه الصلاة والسلام لم يطلق حفصة وأن في النساء خيرا منهن مع أن المذهب على ما قيل: إنه ليس على وجه الأرض خير منهن لأن تعليق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة والمعلق بما لم يقع لا يجب وقوعه، وجوز أن يكون الخطاب للجميع على التغليب، وأصل الخطاب لاثنتين منهن وهما المخاطبتان أولا بقوله تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما إلخ فكأنه قيل: عسى ربه إن طلقكما وغيركما أن يبدله خيرا منكما ومن غيركما من الأزواج، والظاهر أن عدم دلالة الآية على أنه عليه الصلاة والسلام لم يطلق حفصة وأن في النساء خيرا من أزواجه صلى الله تعالى عليه وسلم على حاله لأن التعليق على طلاق الاثنتين ولم يقع فلا يجب وقوع المعلق ولا ينافي تطليق واحدة، وقال الخفاجي والتغليب في خطاب الكل مع أن المخاطب أولا اثنتان، وفي لفظة إِنْ الشرطية أيضا الدالة على عدم وقوع الطلاق.
وقد روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم طلق حفصة فغلب ما لم يقع من الطلاق على الواقع وعلى التعميم لا تغليب في الخطاب ولا في إِنْ انتهى، وفيه بحث، ثم إن المشهور أن عَسى في كلامه تعالى للوجوب، وأن الوجوب هنا إنما هو بعد تحقق الشرط، وقيل: هي كذلك إلا هنا، والشرط معترض بين اسم عَسى وخبرها.
والجواب محذوف أي إن طلقكن فعسى إلخ، وأَزْواجاً مفعول ثان- ليبدل- وخَيْراً صفته وكذا ما بعد، وقرأ أبو عمرو في رواية عياش «طلقكن» بإدغام القاف في الكاف.
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير «يبدّله» بالتشديد للتكثير مُسْلِماتٍ مقرات مُؤْمِناتٍ مخلصات لأنه يعتبر في الإيمان تصديق القلب، وهو لا يكون إلا مخلصا، أو منقادات على أن الإسلام بمعناه اللغوي مصدقات قانِتاتٍ مصليات أو مواظبات على الطاعة مطلقا تائِباتٍ مقلعات عن الذنب عابِداتٍ متعبدات أو متذللات لأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سائِحاتٍ صائمات كما قال ابن عباس وأبو هريرة وقتادة والضحاك والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن، وروي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، قال الفراء: وسمي الصائم سائحا لان السائح لا زاد معه. وإنما يأكل من حيث يجد الطعام، وعن زيد بن أسلم ويمان مهاجرات، وقال ابن زيد: ليس في الإسلام سياحة إلا الهجرة، وقيل: ذاهبات في طاعة الله تعالى أي مذهب.
وقرأ عمرو بن فائد «سيحات» ثَيِّباتٍ جمع ثيب من ثاب يثوب ثوبا، وزنه فيعل كسيد وهي التي تثوب أي ترجع عن الزوج أي بعد زوال عذرتها وَأَبْكاراً جمع بكر من بكر إذا خرج بكرة وهي أول النهار، وفيها معنى التقدم سميت بها التي لم تفتض اعتبارا بالثيب لتقدمها عليها فيما يراد له النساء، وترك العطف في الصفات السابقة لأنها صفات تجتمع في شيء واحد وبينها شدة اتصال يقتضي ترك العطف ووسط العاطف هنا للدلالة على تغاير الصفتين وعدم اجتماعهما في ذات واحدة، ولم يؤت- بأو- قيل: ليكون المعنى أزواجا بعضهن ثيبات وبعضهن أبكار، وقريب منه ما قيل: وسط العاطف بين الصفتين لأنهما في حكم صفة واحدة إذ المعنى مشتملات على الثيبات والأبكار فتدبر، وفي الانتصاف لابن المنير ذكر لي الشيخ ابن الحاجب أن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني الكاتب كان يعتقد أن الواو في الآية هي الواو التي سماها بعض ضعفة النحاة واو الثمانية لأنها ذكرت مع الصفة الثامنة، وكان الفاضل يتبجح باستخراجها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة قبله: أحدها في التوبة التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ إلى قوله سبحانه: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة: 112] ، والثاني في قوله تعالى: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: 22] ، والثالث في قوله تعالى: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 73] إلى أن ذكر ذلك يوما بحضرة أبي الجود النحوي المقرئ فبين له أنه واهم في عدها من ذلك القبيل، وأحال على المعنى الذي ذكره الزمخشري من

(14/350)


دعاء الضرورة إلى الإتيان بها هاهنا لامتناع اجتماع الصفتين في موصوف واحد وواو الثمانية إن ثبتت فإنما ترد بحيث لا حاجة إليها إلا الإشعار بتمام نهاية العدد الذي هو السبعة فأنصفه الفاضل واستحسن ذلك منه، وقال: أرشدتنا يا أبا الجود انتهى.
وذكر الجنسان لأن في أزواجه صلّى الله تعالى عليه وسلم من تزوجها ثيبا وفيهن من تزوجها بكرا، وجاء أنه عليه الصلاة والسلام لم يتزوج بكرا إلا عائشة رضي الله تعالى عنها وكانت تفتخر بذلك على صواحباتها، وردت عليها الزهراء على أبيها وعليها الصلاة والسلام بتعليم النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم إياها حين افتخرت على أمها خديجة رضي الله تعالى عنها بقولها: إن أمي تزوج بها رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وهو بكر لم يره أحد من النساء غيرها ولا كذلك أنتن فسكتت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً أي نوعا من النار وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ تتقد بهما اتقاد غيرها بالحطب، ووقاية النفس عن النار بترك المعاصي وفعل الطاعات، ووقاية الأهل بحملهم على ذلك بالنصح والتأديب،
وروي أن عمر قال حين نزلت: يا رسول الله نقي أنفسنا فكيف لنا بأهلينا؟
فقال عليه الصلاة والسلام: تنهوهن عما نهاكم الله عنه وتأمروهن بما أمركم الله به فيكون ذلك وقاية بينهن وبين النار» .
وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية: علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم
، والمراد بالأهل على ما قيل: ما يشمل الزوجة والولد والعبد والأمة.
واستدل بها على أنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من الفرائض وتعليمه لهؤلاء، وأدخل بعضهم الأولاد في الأنفس لأن الولد بعض من أبيه،
وفي الحديث «رحم الله رجلا قال: يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكنكم يتيمكم جيرانكم لعل الله يجمعكم معه في الجنة»
، وقيل: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من جهل أهله.
وقرىء- وأهلوكم- بالواو وهو عطف على الضمير في قُوا وحسن العطف للفصل بالمفعول، والتقدير عند بعض وليق أهلوكم أنفسهم ولم يرتضه الزمخشري، وذكر ما حاصله أن الأصل قُوا أنتم وأهلوكم أنفسكم وأنفسهم بأن يقي ويحفظ كل منكم ومنهم نفسه عما يوبقها، فقدم أنفسكم، وجعل الضمير المضاف إليه الأنفس مشتملا على الأهلين تغليبا فشملهم الخطاب، وكذا اعتبر التغليب في قُوا، وفيه تقليل للحذف وإيثار العطف المفرد الذي هو الأصل والتغليب الذي نكتته الدلالة على الأصالة والتبعية.
وقرأ الحسن ومجاهد «وقودها» بضم الواو أي ذو وقودها، وتمام الكلام في هذه الآية يعلم مما مر في سورة البقرة عَلَيْها مَلائِكَةٌ أي أنهم موكلون عليها يلون أمرها وتعذيب أهلها وهم الزبانية التسعة عشر قيل: وأعوانهم غِلاظٌ شِدادٌ غلاظ الأقوال شداد الأفعال، أو غلاظ الخلق شداد الخلق أقوياء على الأفعال الشديدة، أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن أبي عمران الجوني قال: بلغنا أن خزنة النار تسعة عشر ما بين منكبي أحدهم مسيرة مائة خريف ليس في قلوبهم رحمة إنما خلقوا للعذاب يضرب الملك منهم الرجل من أهل النار الضربة فيتركه طحنا من لدن قرنه إلى قدمه لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ صفة أخرى- لملائكة- وما في محل النصب على البدل أي لا يعصون ما أمر الله أي ما أمره تعالى كقوله تعالى: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه: 93] أو على إسقاط الجار أي لا يعصون فيما أمرهم به وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ أي الذي يأمرهم عز وجل به، والجملة الأولى لنفي المعاندة والاستكبار عنهم صلوات الله تعالى عليهم فيه كقوله تعالى: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الأعراف: 206] ، والثانية لإثبات الكياسة لهم ونفي الكسل عنهم فهي كقوله تعالى: وَلا يَسْتَحْسِرُونَ إلى لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:
19، 20] ، وبعبارة أخرى إن الأولى لبيان القبول باطنا فإن العصيان أصله المنع والإباء، وعصيان الأمر صفة الباطن

(14/351)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)

بالحقيقة لأن الإتيان بالمأمور إنما يعدّ طاعة إذا كان بقصد الامتثال فاذا نفي العصيان عنهم دل على قبولهم وعدم إبائهم باطنا، والثانية لأداء المأمور به من غير تثاقل وتوان على ما يشعر به الاستمرار المستفاد من يَفْعَلُونَ فلا تكرار، وفي الحصول لا يَعْصُونَ فيما مضى على أن المضارع لحكاية الحال الماضية وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ في الآتي.
وجوز أن يكون ذلك من باب الطرد والعكس وهو كل كلامين يقرر الأول بمنطوقه مفهوم الثاني وبالعكس مبالغة في أنهم لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله عز وجل والغضب له سبحانه.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ مقول لقول قد حذف ثقة بدلالة الحال عليه يقال لهم ذلك عند إدخال الملائكة إياهم النار حسبما أمروا به، فتعريف اليوم للعهد ونهيهم عن الاعتذار لأنهم لا عذر لهم أو لأن العذر لا ينفعهم إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من الكفر والمعاصي بعد ما نهيتم عنهما أشد النهي وأمرتم بالإيمان والطاعة على أتم وجه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ من الذنوب.
تَوْبَةً نَصُوحاً أي بالغة في النصح فهو من أمثلة المبالغة كضروب وصفت التوبة به على الإسناد المجازي وهو وصف التائبين، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم فيأتوا بها على طريقها، ولعله ما نضمنه ما
أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال: «قال معاذ بن جبل: يا رسول الله ما التوبة النصوح؟ قال: أن يندم العبد على الذنب الذي أصاب فيعتذر إلى الله تعالى ثم لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع»
وروي تفسيرها بما ذكر عن عمر وابن مسعود وأبي والحسن ومجاهد وغيرهم، وقيل: نصوحا من نصاحة الثوب أي خياطته أي توبة ترفو خروقك في دينك وترم خللك، وقيل: خالصته من قولهم: عسل ناصح إذا خلص من الشمع، وجوز أن يراد توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها، واستعمال الجد والعزيمة في العمل بمقتضياتها، وفي المراد بها أقوال كثيرة أوصلها بعضهم إلى نيف وعشرين قولا: منها ما سمعت.
وقرأ زيد بن علي- توبا- بغير تاء، وقرأ الحسن والأعرج وعيسى وأبو بكر عن عاصم وخارجة عن نافع «نصوحا»

(14/352)


بضم النون وهو مصدر نصح فإن النصح والنصوح كالشكر والشكور والكفر والكفور أي ذات نصح أو تنصح نصوحا أو توبوا لنصح أنفسكم على أنه مفعول له.
هذا والكلام في التوبة كثير وحيث كانت أهم الأوامر الإسلامية وأول المقامات الإيمانية ومبدأ طريق السالكين ومفتاح باب الواصلين لا بأس في ذكر شيء مما يتعلق بها فنقول: هي لغة الرجوع، وشرعا وصفا لنا على ما قال السعد: الندم على المعصية لكونها معصية لأن الندم عليها بإضرارها بالبدن أو إخلالها بالعرض أو المال مثلا لا يكون توبة، وأما الندم لخوف النار أو للطمع في الجنة ففي كونه توبة تردد. ومبناه على أن ذلك هل يكون ندما عليها لقبحها ولكونها معصية أم لا؟ وكذا الندم عليها لقبحها مع غرض آخر، والحق أن جهة القبح إن كانت بحيث لو انفردت لتحقق الندم فتوبة وإلا فلا كما إذا كان الغرض مجموع الأمرين لا كل واحد منهما. وكذا في التوبة عند مرض مخوف بناء على أن ذلك الندم هل يكون لقبح المعصية بل للخوف، وظاهر الإخبار قبول التوبة ما لم تظهر علامات الموت ويتحقق أمره عادة، ومعنى الندم تحزن وتوجع على أن فعل وتمني كونه لم يفعل ولا بد من هذا للقطع بأن مجرد الترك كالماجن إذا مل مجونه فاستروح إلى بعض المباحات ليس بتوبة،
ولقوله عليه الصلاة والسلام: «الندم توبة»
وقد يزاد قيد العزم على ترك المعاودة.
واعترض بأن فعل المعصية في المستقبل قد لا يخطر بالبال لذهول أو جنون أو نحوه، وقد لا يقدر عليه لعارض آفة كخرس في القذف مثلا أو جب في الزنا فلا يتصور العزم على الترك لما فيه من الاشعار بالقدرة والاختيار.
وأجيب بأن المراد العزم على الترك على تقدير الخطور والاقتداء حتى لو سلب القدرة لم يشترط العزم على الترك، وبذلك يشعر كلام إمام الحرمين حيث قال: إن العزم على ترك المعاودة إنما يقارن بالتوبة في بعض الأحوال ولا يطرد في كل حال إذ العزم إنما يصح ممن يتمكن من مثل ما قدمه، ولا يصح من المجبوب العزم على ترك الزنا. ومن الأخرس العزم على ترك القذف، وقال بعض الأجلة: التحقيق أن ذكر العزم إنما هو للبيان والتقرير لا للتقييد والاحتراز إذ النادم على المعصية لقبحها لا يخلو عن ذلك العزم البتة على تقدير الخطور والاقتدار، وعلامة الندم طول الحسرة والخوف وانسكاب الدمع، ومن الغريب ما قيل: إن علامة صدق الندم عن ذنب كالزنا أن لا يرى في المنام أنه يفعله اختيارا إذ يشعر ذلك ببقاء حبه إياه وعدم انقلاع أصوله من قلبه بالكلية وهو ينافي صدق الندم، وقال المعتزلة: يكفي في التوبة أن يعتقد أنه أساء وأنه لو أمكنه رد تلك المعصية لردها ولا حاجة إلى الأسف والحزن لإفضائه إلى التكليف بما لا يطاق.
وقال الإمام النووي: التوبة ما استجمعت ثلاثة أمور: أن يقلع عن المعصية وأن يندم على فعلها وأن يعزم عزما جازما على أن لا يعود إلى مثلها أبدا فإن كانت تتعلق بآدمي لزم رد الظلامة إلى صاحبها أو وارثه أو تحصيل البراءة منه، وركنها الأعظم الندم.
وفي شرح المقاصد قالوا: إن كانت المعصية في خالص حق الله تعالى فقد يكفي الندم كما في ارتكاب الفرار من الزحف وترك الأمر بالمعروف، وقد تفتقر إلى أمر زائد كتسليم النفس للحد في الشرب وتسليم ما وجب في ترك الزكاة، ومثله في ترك الصلاة وإن تعلقت بحقوق العباد لزم مع الندم، والعزم إيصال حق العبد أو بدله إليه إن كان الذنب ظلما كما في الغصب والقتل العمد، ولزم إرشاده إن كان الذنب إضلالا له، والاعتذار إليه إن كان إيذاء كما في الغيبة إذا بلغته ولا يلزم تفصيل ما اغتابه به إلا إذا بلغه على وجه أفحش، والتحقيق أن هذا الزائد واجب آخر خارج عن التوبة- على ما قاله إمام الحرمين- من أن القاتل إذا ندم من غير تسليم نفسه للقصاص صحت توبته في حق الله تعالى

(14/353)


وكان منعه القصاص من مستحقه معصية متجددة تستدعي توبة ولا يقدح في التوبة عن القتل، ثم قال: وربما لا تصح التوبة بدون الخروج من حق العبد كما في الغصب ففرق بين القتل والغصب، ووجهه لا يخفى على المتأمل، ولم يختلف أهل السنة وغيرهم في وجوب التوبة على أرباب الكبائر، واختلف في الدليل، فعندنا السمع كهذه الآية وغيرها وحمل الأمر فيها على الرخصة والإيذان بقولها ودفع القنوط- كما جوزه الآمدي- احتمالا وبني عليه عدم الإثابة عليها مما لا يكاد يقبل، وعند المعتزلة العقل، وأوجبت الجهمية التوبة عن الصغائر سمعا لا عقلا، وأهل السنة على ذلك، ومقتضى كلام النووي والمازري وغيرهما وجوبها حال التلبس بالمعصية، وعبارة المازري اتفقوا على أن التوبة من جميع المعاصي واجبة، وأنها واجبة على الفور، ولا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة.
وفي شرح الجوهرة أن التمادي على الذنب بتأخير التوبة منه معصية واحدة ما لم يعتقد معاودته، وصرحت المعتزلة بأنها واجبة على الفور حتى يلزم بتأخيرها ساعة إثم آخر تجب التوبة عنه وساعتين إثمان وهلم جرا، بل ذكروا أن بتأخير التوبة عن الكبيرة ساعة واحدة يكون له كبيرتان: المعصية وترك التوبة، وساعتين أربع: الأوليان وترك التوبة على كل منهما، وثلاث ساعات ثمان وهكذا، وتصح عن ذنب دون ذنب لتحقق الندم والعزم على عدم العود، وخالف أبو هاشم محتجا بأن الندم على المعصية يجب أن يكون لقبحها وهو شامل لها كلها فلا يتحقق الندم على قبيح مع الإصرار على آخر.
وأجيب بأن الشامل للكل هو القبح لا خصوص قبح تلك المعصية وهذا الخلاف في غير الكافر إذا أسلم وتاب من كفره مع استدامته بعض المعاصي أما هو فتوبته صحيحة وإسلامه كذلك بالإجماع ولا يعاقب إلا عقوبة تلك المعصية، نعم اختلف في أن مجرد إيمانه هل يعدّ توبة أم لا بد من الندم على سالف كفره؟ فعند الجمهور مجرد إيمانه توبة، وقال الإمام والقرطبي: لا بد من الندم على سالف الكفر وعدم اشتراط العمل الصالح مجمع عليه عند الأئمة خلافا لابن حزم، وكذا تصح التوبة عن المعاصي إجمالا من غير تعيين المتوب عنه ولو لم يشق عليه تعيينه، وخالف بعض المالكية فقال: إنما تصح إجمالا مما علم إجمالا، وأما ما علم تفصيلا فلا بد من التوبة منه تفصيلا ولا تنتقص التوبة الشرعية بالعود فلا تعود عليه ذنوبه التي تاب منها بل العود والنقض معصية أخرى يجب عليه أن يتوب منها.
وقالت المعتزلة: من شروط صحتها أن لا يعاود الذنب فإن عاوده انتقصت توبته وعادت ذنوبه لأن الندم المعتبر فيها لا يتحقق إلا بالاستمرار، ووافقهم القاضي أبو بكر والجمهور على أن استدامة الندم غير واجبة بل الشرط أن لا يطرأ عليه ما ينافيه ويدفعه لأنه حينئذ دائم حكما كالإيمان حال النوم، ويلزم من اشتراط الاستدامة مزيد الحرج والمشقة، وقال الآمدي: يلزم أيضا اختلال الصلوات وسائر العبادات، ويلزم أيضا أن لا يكون بتقدير عدم استدامة الندم وتذكره تائبا، وأن يجب عليه إعادة التوبة وهو خلاف الإجماع، نعم اختلف العلماء فيمن تذكر المعصية بعد التوبة منها، هل يجب عليه أن يجدد الندم؟ وإليه ذهب القاضي منا وأبو علي من المعتزلة زعما منهما أنه لو لم يندم كلما ذكرها لكان مشتهيا لها فرحا بها، وذلك إبطال للندم ورجوع إلى الإصرار، والجواب المنع إذ ربما يضرب عنها صفحا من غير ندم عليها ولا اشتهاء لها وابتهاج بها ولو كان الأمر كما ذكر للزم أن لا تكون التوبة السابقة صحيحة، وقد قال القاضي نفسه: إنه إذا لم يجدد ندما كان ذلك معصية جديدة يجب الندم عليها والتوبة الأولى مضت على صحتها إذ العبادة الماضية لا ينقضها شيء بعد ثبوتها انتهى.
وبعدم وجوب التجديد عند ذكر المعصية صرح إمام الحرمين، ويفهم من كلامهم أن محل الخلاف إذا لم

(14/354)


يبتهج عند ذكر الذنب به ويفرح ويتلذذ بذكره أو سماعه، والا وجب التجديد اتفاقا، وظاهر كلامهم أن المعاودة غير مبطلة ولو كانت في مجلس التوبة بل ولو تكررت تكرارا يلتحق بالتلاعب، وفي هذا الأخير نظر فقد قال القاضي عياض: إن الواقع في حق الله تعالى بما هو كفر تنفعه توبته مع شديد العقاب ليكون ذلك زجرا له ولمثله إلا من تكرر ذلك منه وعرف استهانته بما أتى فهو دليل على سوء طويته وكذب توبته انتهى.
وينبغي عليه أن يقيد ذلك بأن تكثر كثرة تشعر بالاستهانة وتدخل صاحبها في دائرة الجنون، واختلف في صحة التوبة المؤقتة بلا إصرار كأن لا يلابس الذنوب أو ذنب كذا سنة فقيل: تصح، وقيل: لا، وفي شرح الجوهرة قياس صحتها من بعض الذنوب دون بعض صحتها فيما ذكر، ثم إن للتوبة مراتب من أعلاها ما
روي عن يعسوب المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه سمع أعرابيا يقول: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك فقال: يا هذا إن سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذابين، فقال الاعرابي: ما التوبة؟ قال كرم الله تعالى وجهه: يجمعها ستة أشياء: على الماضي من الذنوب الندامة، وللفرائض الإعادة ورد المظالم واستحلال الخصوم وأن تعزم على أن لا تعود وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية وأن تذيقها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعاصي
، وأريد بإعادة الفرائض أن يقضي منها ما وقع في زمان معصيته كشارب الخمر يعيد صلاته قبل التوبة لمخامرته للنجاسة غالبا، وهذه توبة نحو الخواص فلا مستند في هذا الأثر لابن حزم وأضرابه كما لا يخفى، ثم إنه تعالى بين فائدة التوبة بقوله سبحانه: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ قيل: المراد أنه عز وجل يفعل ذلك لكن جيء بصيغة الإطماع للجري على عادة الملوك فإنهم إذا أرادوا فعلا قالوا: عَسى أن نفعل كذا، والإشعار بأن ذلك تفضل منه سبحانه والتوبة غير موجبة له. وأن العبد ينبغي أن يكون بين خوف ورجاء وإن بالغ في إقامة وظائف العبادة، واستدل بالآية على عدم وجوب قبول التوبة لأن التكفير أثر القبول، وقد جيء معه بصيغة الإطماع دون القطع، وهذه المسألة خلافية فذهب المعتزلة إلى أنه يجب على الله تعالى قبولها عقلا وأتوا في ذلك بمقدمات مزخرفات، وقال إمام الحرمين والقاضي أبو بكر: يجب قبولها سمعا ووعدا لكن بدليل ظني إذ لم يثبت في ذلك نص قاطع لا يحتمل التأويل، وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري: بل بدليل قطعي ومحل النزاع بين الأشعري وتلميذيه ما عدا توبة الكافر أما هي فالإجماع على قبولها قطعا بالسمع لوجود النص المتواتر بذلك كقوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38] بخلاف ما جاء في توبة غيره فإنه ظاهر، وليس بنص في غفران ذنوب المسلم بالتوبة كقوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] ، وأما حديث- التوبة تجب ما قبلها- فليس بمتواتر ولأنه إذا قطع بقبول توبة الكافر كان ذلك فتحا لباب الإيمان وسوقا إليه، وإذا لم يقطع بتوبة المؤمن كان ذلك سدا لباب العصيان ومنعا منه، وهذا- وما قبله- ذكرهما القاضي لما قيل له: إن الدلائل مع الشيخ أبي الحسن: وقال ابن عطية: إن جمهور أهل السنة على قول القاضي، والدليل على ذلك دعاء كل أحد من التائبين بقبول توبته ولو كان مقطوعا به لما كان للدعاء معنى، ومثل ذلك وجوب الشكر على القبول فإنه لو كان واجبا لما وجب الشكر عليه.
وتعقب ذلك السعد بأنه ربما يدفع بأن المسئول في الدعاء هو استجماعها لشرائط القبول فإن الأمر فيه خطير، ووجوب القبول لا ينافي وجوب الشكر لكونه إحسانا في نفسه كتربية الوالد ولده وقال الإمام النووي: لا يجب على الله تعالى قبول التوبة إذا وجدت بشروطها عند أهل السنة لكنه سبحانه يقبلها كرما منه وتفضلا، وعرفنا قبولها بالشرع والإجماع فلا تغفل، وقرىء «يدخلكم» بسكون اللام، وخرجه أبو حيان على أن يكون حذف الحركة تخفيفا وتشبيها

(14/355)


لما هو في كلمتين بالكلمة الواحدة فإنه يقال في قمع: قمع. وفي نطع، نطع وقال: إنه أولى من كونه للعطف على محل عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ، واختاره الزمخشري كأنه قيل: توبوا يرج تكفير أو يوجب تكفير سيئاتكم ويدخلكم يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ ظرف- ليدخلكم- وتعريف النَّبِيَّ للعهد، والمراد به سيد الأنبياء محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم، والمراد بنفي الإخزاء إثبات أنواع الكرامة والعز.
وفي القاموس يقال: أخزى الله تعالى فلانا فضحه، وقال الراغب: يقال: خزي الرجل لحقه انكسار إما من نفسه وهو الحياء المفرط ومصدره الخزاية. وإما من غيره وهو ضرب من الاستخفاف، ومصدره الخزي، ويَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ هو من الخزي أقرب، ويجوز أن يكون منهما جميعا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ عطف عليه الصلاة والسلام، وفيه تعريض بمن أخزاهم الله تعالى من أهل الكفر والفسوق، واستحماد على المؤمنين على أن عصمهم من مثل حالهم، والمراد بالإيمان هنا فرده الكامل على ما ذكره الخفاجي، وقوله تعالى: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ أي على الصراط كما قيل، ومر الكلام فيه جملة مستأنفة، وكذا قوله سبحانه: يَقُولُونَ إلخ، وجوز أن تكون الجملتان في موضع الحال من الموصول، وأن تكون الأولى حالا منه. والثانية حالا من الضمير في يَسْعى، وأن تكون الأولى مستأنفة. والثانية من الضمير، وأن تكون الأولى حالا من الموصول. والثاني مستأنفة أو حالا من الضمير، وجوز أن يكون الموصول مبتدأ خبره معه، والجملتان خبران آخران أو مستأنفتان أو حالان من الموصول، أو الأولى حال منه والثانية حال من الضمير، أو الأولى مستأنفة والثانية حال من الضمير، أو الأولى حال والثانية مستأنفة، أو الأولى خبر بعد خبر والثانية حال من الضمير أو مستأنفة، وجوز أن يكون الموصول مبتدأ خبره قوله تعالى: نُورُهُمْ يَسْعى إلخ، والجملة الأخرى مستأنفة أو حال أو خبر بعد خبر فهذه عدة احتمالات لا يخفى ما هو الأظهر منها.
والقول على ما روي عن ابن عباس والحسن: يكون إذا طفىء نور المنافقين أي يقولون إذا طفىء نور المنافقين رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وفي رواية أخرى عن الحسن يدعون تقربا إلى الله تعالى مع تمام نورهم، وقيل: يقول ذلك من يمر على الصراط زحفا وحبوا.
وقيل: من يعطي من النور بقدر ما يبصر به موضع قدمه، ويعلم منه عدم تعين حمل الإيمان على فرده الكامل كما سمعت عن الخفاجي، وقرأ سهل بن شعيب السهمي وأبو حيوة «وبإيمانهم» بكسر الهمزة على أنه مصدر معطوف على الظرف أي كائنا بين أيديهم وكائنا بسبب إيمانهم يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسيف وَالْمُنافِقِينَ بالحجة وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ واستعمل الخشونة على الفريقين فيما تجاهدهم به إذا بلغ الرفق مداه.
وعن الحسن أكثر ما كان يصيب الحدود في ذلك الزمان المنافقين فأمر عليه الصلاة والسلام أن يغلظ عليهم في إقامة الحدود،
وحكى الطبرسي عن الباقر أنه قرأ- جاهد الكفار بالمنافقين
- وأظن ذلك من كذب الإمامية عاملهم الله تعالى بعدله وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي وسيرون فيها عذابا غليظا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي جهنم أو مأواهم، والعطف قيل: من عطف القصة على القصة ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا ضرب المثل في مثل هذا الموقع عبارة عن إيراد حالة غريبة لتعرف بها حالة أخرى مشاكلة لها في الغرابة أي جعل الله تعالى مثلا لحال الكفرة حالا ومآلا على أن مثلا مفعول ثان لضرب واللام متعلقة به، وقوله تعالى: امْرَأَتَ نُوحٍ واسمها قيل: والعة وَامْرَأَتَ لُوطٍ واسمها قيل:
واهلة، وقيل: والهة، وعن مقاتل اسم امرأة نوح والهة. واسم امرأة لوط والعة مفعوله الأول، وأخر عنه ليتصل به ما هو شرح وتفسير لحالهما، ويتضح بذلك حال الكفرة، والمراد ضرب الله تعالى مثلا لحال أولئك حال امْرَأَتَ إلخ،

(14/356)


فقوله تعالى: كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ بيانا لحالهما الداعية لهما إلى الخير والصلاح، ولم يقل:
تحتهما للتعظيم أي كانتا في عصمة نبيين عظيمي الشأن متمكنتين من تحصيل خير الدنيا والآخرة، وحيازة سعادتهما، وقوله تعالى: فَخانَتاهُما بيان لما صدر عنهما من الخيانة العظيمة مع تحقق ما ينافيها من مرافقة النبي عليه الصلاة والسلام، أما خيانة امرأة نوح عليه السلام فكانت تقول للناس: إنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل على الضيف رواه جمع وصححه الحاكم عن ابن عباس.
وأخرج ابن عدي والبيهقي في شعب الإيمان، وابن عساكر عن الضحاك أنه قال: خيانتهما النميمة، وتمامه في رواية: كانتا إذا أوحى الله تعالى بشيء أفشتاه للمشركين، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال:
خيانتهما أنها كانتا كافرتين مخالفتين، وقيل: كانتا منافقتين، والخيانة والنفاق قال الراغب: واحد إلا أن الخيانة تقال اعتبارا بالعهد والأمانة، والنفاق يقال اعتبارا بالدين ثم يتداخلان، فالخيانة مخالفة الحق بنقص العهد في السر ونقيضها الأمانة، وحمل ما في الآية على هذا، ولا تفسر هاهنا بالفجور لما أخرج غير واحد عن ابن عباس «ما زنت امرأة نبي قط» ورفعه اشرس إلى النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم، وفي الكشاف لا يجوز أن يراد بها الفجور لأنه سمج في الطبع نقيصة عند كل أحد بخلاف الكفر فإن الكفر لا يستسمجونه ويسمونه حقا.
ونقل ابن عطية عن بعض تفسيرها بالكفر والزنا وغيره، ولعمري لا يكاد يقول بذلك إلا ابن زنا، فالحق عندي أن عهر الزوجات كعهر الأمهات من المنفرات التي قال السعد: إن الحق منعها في الحق الأنبياء عليهم السلام، وما ينسب للشيعة مما يخالف ذلك في حق سيد الأنبياء صلّى الله تعالى عليه وسلم كذب عليهم فلا تعول عليه وإن كان شائعا، وفي هذا على ما قيل: تصوير لحال المرأتين المحاكية لحال الكفرة في خيانتهم لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بالكفر والعصيان مع تمكنهم التام من الإيمان والطاعة، وقوله تعالى: فَلَمْ يُغْنِيا إلخ بيان لما أدى إليه خيانتهما أي فلم يغن ذانك العبدان الصالحان والنبيان العظيمان عَنْهُما بحق الزواج مِنَ اللَّهِ أي من عذابه عز وجل شَيْئاً أي شيئا من الإغناء، أو شيئا من العذاب.
وَقِيلَ لهما عند موتهما أو يوم القيامة، وعبر بالماضي لتحقق الوقوع ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ أي مع سائر الداخلين من الكفرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء عليهم السلام.
وذكر غير واحد أن المقصود الإشارة إلى أن الكفرة يعاقبون بكفرهم ولا يراعون بما بينهم وبين النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم من الوصلة، وفيه تعريض لأمهات المؤمنين وتخويف لهنّ بأنه لا يفيدهن إن أتين بما حظر عليهن كونهن تحت نكاح النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وليس في ذلك ما يدل على أن فيهن كافرة أو منافقة كما زعمه يوسف الأوالي من متأخري الإمامية سبحانك هذا بهتان عظيم.
وقرأ مبشر بن عبيد «تغنيا» بالتاء المثناة من فوق، وعَنْهُما عليه بتقدير عن نفسهما قال أبو حيان: ولا بد من هذا المضاف إلا أن يجعل- عن- اسما كهي في: دع عنك لأنها إن كانت حرفا كان في ذلك تعدية الفعل الرافع للضمير المتصل إلى ضميره المجرور وهو يجري مجرى الضمير المنصوب وذلك لا يجوز، وفيه بحث وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ أي جعل حالها مثلا لحال المؤمنين في أن وصلة الكفرة لا تضرهم حيث كانت في الدنيا تحت أعدى أعداء الله عز وجل وهي في أعلى غرف الجنة واسمها آسية بنت مزاحم، وقوله تعالى: إِذْ قالَتْ ظرف لمحذوف أي وضرب الله مثلا للذين آمنوا حال امرأة فرعون إذ قالت رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ قيل: أي قريبا من

(14/357)


رحمتك لتنزهه سبحانه عن المكان.
وجوز في عِنْدَكَ كونه حالا من ضمير المتكلم وكونه حالا من قوله تعالى: بَيْتاً لتقدمه عليه وكان صفة لو تأخر، وقوله تعالى: فِي الْجَنَّةِ بدل أو عطف بيان لقوله تعالى: عِنْدَكَ أو متعلق بقوله تعالى: ابْنِ وقدم عِنْدَكَ لنكتة، وهي كما في الفصوص الإشارة إلى قولهم: الجار قبل الدار، وجوز أن يكون المراد- بعندك- أعلى درجات المقربين لأن ما عند الله تعالى خير، ولأن المراد القرب من العرش، وعِنْدَكَ بمعنى عند عرشك ومقر عزك وهو على ما قيل: على الاحتمالات في إعرابه ولا يلزم كونه ظرفا للفعل وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ أي من نفس فرعون الخبيثة وسلطانه الغشوم وَعَمَلِهِ أي وخصوصا من عمله وهو الكفر وعبادة غير الله تعالى والتعذيب بغير جرم إلى غير ذلك من القبائح والكلام على أسلوب مَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [البقرة: 98] . وجوز أن يكون المراد نَجِّنِي من عمل فرعون فهو من أسلوب أعجبني زيد وكرمه، والأول أبلغ لدلالته على طلب البعد من نفسه الخبيثة كأنه بجوهره عذاب ودمار يطلب الخلاص منه، ثم طلب النجاة من عمله ثانيا تنبيها على أنه الطامة العظمى، وخص بعضهم عمله بتعذيبه، وعن ابن عباس أنه الجماع، وما تقدم أولى وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ من القبط التابعين له في الظلم قاله مقاتل، وقال الكلبي: من أهل مصر: وكأنه أراد بهم القبط أيضا، والآية ظاهرة في أنها كانت مؤمنة مصدقة بالبعث، وذكر بعضهم أنها عمة موسى عليه السلام آمنت حين سمعت بتلقف العصا الإفك فعذبها فرعون.
وأخرج أبو يعلى والبيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة أن فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد في يديها ورجليها فكانت إذا تفرقوا عنها أظلتها الملائكة عليهم السلام فقالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ فكشف لها عن بيتها في الجنة وهو على ما قيل: من درة، وفي رواية عبد بن حميد عنه أنه وتد لها أربعة أوتاد وأضجعها على ظهرها وجعل على صدرها رحى واستقبل بها عين الشمس فرفعت رأسها إلى السماء فقالت رَبِّ ابْنِ لِي إلى الظَّالِمِينَ ففرج الله تعالى عن بيتها في الجنة فرأته، وقيل: أمر بأن تلقى عليها صخرة عظيمة فدعت الله تعالى فرقى بروحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه، وعن الحسن فنجاها الله تعالى أكرم نجاة فرفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب وتتنعم فيها، وظاهره أنها رفعت بجسدها وهو لا يصح.
وفي الآية دليل على أن الاستعاذة بالله تعالى والالتجاء إليه عز وجل ومسألة الخلاص منه تعالى عند المحن والنوازل من سير الصالحين وسنن الأنبياء، وهو في القرآن كثير، وقوله تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ عطف على امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ أي وضرب مثلا للذين آمنوا حالتها وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء مع كون أكثر قومها كفارا، وجمع في التمثيل بين من لها زوج ومن لا زوج لها تسلية للأرامل وتطييبا لقلوبهن على ما قيل، وهو من بدع التفاسير كما في الكشاف، وقرأ السختياني- ابنه- بسكون الهاء وصلا أجراه مجرى الوقف الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها صانته ومنعته من الرجال، وقيل: منعته عن دنس المعصية.
والفرج ما بين الرجلين وكني به عن السوءة وكثر حتى صار كالصريح، ومنه ما هنا عند الأكثرين فَنَفَخْنا فِيهِ النافخ رسوله تعالى وهو جبريل عليه السلام فالإسناد مجازي، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي فنفخ

(14/358)


رسولنا، وضمير فِيهِ للفرج، واشتهر أن جبريل عليه السلام نفخ في جيبها فوصل أثر ذلك إلى الفرج.
وروي ذلك عن قتادة، وقال الفراء: ذكر المفسرون أن الفرج جيب درعها وهو محتمل لأن الفرج معناه في اللغة كل فرجة بين الشيئين، وموضع جيب درع المرأة مشقوق فهو فرج، وهذا أبلغ في الثناء عليها لأنها إذا منعت جيب درعها فهي للنفس أمنع، وفي مجمع البيان عن الفراء أن المراد منعت جيب درعها عن جبريل عليه السلام، وكان ذلك على ما قيل: قولها إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
[مريم: 18] وأفاد كلام البعض أن أحصنت فرجها على ما نقل أولا عن الفراء كناية عن العفة نحو قولهم: هو نقي الجيب طاهر الذيل.
وجوز في ضمير فِيهِ رجوعه إلى الحمل، وهو عيسى عليه السلام المشعر به الكلام، وقرأ عبد الله- فيها- كما في الأنبياء، فالضمير لمريم، والإضافة في قولها تعالى: مِنْ رُوحِنا للتشريف، والمراد من روح خلقناه بلا توسط أصل، وقيل: لأدنى ملابسة وليس بذاك وَصَدَّقَتْ آمنت بِكَلِماتِ رَبِّها بصحفه عز وجل المنزلة على إدريس عليه السلام وغيره، وسماها سبحانه كلمات لقصرها وَكُتُبِهِ بجميع كتبه والمراد به ما عدا الصحف مما في طول، أو التوراة والإنجيل والزبور، وعد المصحف من ذلك وإيمانها به ولم يكن منزلا بعد كالإيمان بالنبي الموعود عليه الصلاة والسلام فقد كان صلّى الله تعالى عليه وسلم مذكورا بكتابه في الكتب الثلاث، وتفسير الكلمات والكتب بذلك هو ما اختاره جمع، وجوز غير واحد أن يراد بالكلمات ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائه عليهم السلام، وبالكتب ما عرف فيها مما يشمل الصحف وغيرها، وقيل: جميع ما كتب مما يشمل اللوح وغيره، وأن يراد بالكلمات وعده تعالى ووعيده أو ذلك وأمره عز وجل ونهيه سبحانه، وبالكتب أحد الأوجه السابقة، وإرادة كلامه تعالى القديم القائم بذاته سبحانه من الكلمات بعيد جدا، وقرأ يعقوب وأبو مجلز وقتادة عصمة عن عاصم «صدقت» بالتخفيف، ويرجع إلى معنى المشدد وفي البحر أي كانت صادقة بما أخبرت به من أمر عيسى وما أظهره الله تعالى لها من الكرامات وفيه قصور لا يخفى.
وقرأ الحسن ومجاهد والجحدري- بكلمة- على التوحيد فاحتمل أن يكون اسم جنس، وأن يكون عبارة عن كلمة التوحيد، وأن يكون عبارة عن عيسى عليه السلام فقد أطلق عليه السلام أنه كلمة الله ألقاها إلى مريم، وقد مر شرح ذلك، وقرأ غير واحد من السبعة- وكتابه- على الإفراد فاحتمل أن يراد به الجنس وأن يراد به الإنجيل لا سيما إن فسرت الكلمة بعيسى عليه السلام، وقرأ أبو رجاء «وكتبه» بسكون التاء على ما قال ابن عطية، وبه وبفتح الكاف على أنه مصدر أقيم الاسم على ما قال صاحب اللوامح.
وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ أي من عداد المواظبين على الطاعة- فمن- للتبعيض، والتذكير للتغليب، والإشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال حتى عدت من جملتهم فهو أبلغ من قولنا: وكانت من القانتات، أو قانتة، وقيل:
مِنْ لابتداء الغاية، والمراد كانت من نسل القانتين لأنها من أعقاب هارون أخي موسى عليهما السلام، ومدحها بذلك لما أن الغالب أن الفرع تابع لأصله وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف: 58] وهي على ما في بعض الأخبار سيدة النساء ومن أكملهن، روى أحمد في مسنده: سيدة نساء أهل الجنة مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية ثم عائشة، وفي الصحيح كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ومريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام وخص الثريد- وهو خبز يجعل في مرق وعليه لحم-

(14/359)


كما قيل:
إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانة الله الثريد
لا اللحم فقط كما قيل لأن العرب لا يؤثرون عليه شيئا حتى سموه بحبوحة الجنة، والسر فيه على ما قال الطيبي: إن الثريد مع اللحم جامع بين الغذاء واللذة والقوة وسهولة التناول وقلة المئونة في المضغ وسرعة المرور في المريء فضرب به مثلا ليؤذن بأنها رضي الله تعالى عنها أعطيت مع حسن الخلق حلاوة المنطق وفصاحة اللهجة وجودة القريحة ورزانة الرأي ورصانة العقل والتحبب للبعل فهي تصلح للبعل والتحدث والاستئناس بها والإصغاء إليها، وحسبك أنها عقلت من النبي صلّى الله عليه وسلم ما لم يعقل غيرها من النساء وروت ما لم يرو مثلها من الرجال، وعلى مزيد فضلها في هذه السورة الكريمة من عتابها وعتاب صاحبتها حفصة رضي الله تعالى عنهما ما لا يخفى، ثم لا يخفى أن فاطمة رضي الله تعالى عنها من حيث البضعية لا يعد لها في الفضل أحد، وتمام الكلام في ذلك في محله.
وجاء في بعض الآثار أن مريم وآسية زوجا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم في الجنة
، أخرج الطبراني عن سعد بن جنادة قال: قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى عليه السلام»
وزعم نبوتها كزعم نبوة غيرهما من النساء كهاجر وسارة غير صحيح لاشتراط الذكورة في النبوة على الصحيح خلافا للأشعري، وقد نبه على هذا الزعم العلامة ابن قاسم في الآيات البينات وهو غريب فليحفظ، والله تعالى أعلم.

(14/360)


سورة الملك
وتسمى تبارك والمانعة والمنجية والمجادلة، فقد أخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: كنا نسميها على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم المانعة.
وأخرج الترمذي وغيره عن ابن عباس قال: ضرب بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي صلّى الله عليه وسلم فأخبره فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر»
وأخرج الطبراني والحاكم وابن مردويه وعبد بن حميد في مسنده واللفظ له عن ابن عباس أنه قال لرجل: ألا أتحفك بحديث تفرح به؟
قال: بلى قال اقرأ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك: 1] وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك فإنها المنجية والمجادلة يوم القيامة عند ربها لقارئها وتطلب له أن تنجيه من عذاب النار وينجو بها صاحبها من عذاب القبر الخبر.
وفي جمال القراء تسمى أيضا الواقية المناعة وهي مكية على الأصح. وقيل غير ثلاث آيات منها وأخرج ابن جويبر في تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس، وفي قول غريب إنها مدنية وآيها إحدى ثلاثون آية في المكي والمدني الأخير وثلاثون في الباقي وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما يرجحه.
ووجه مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ضرب مثلا للكفار بتينك المرأتين المحتوم لهما بالشقاوة وإن كانتا تحت نبيين عظيمين ومثلا للمؤمنين بآسية ومريم وهما محتوم لهما بالسعادة وإن أكثر قومهما كفار، افتتح هذه بما يدل على إحاطته عز وجل وقهره وتصرفه في ملكه على ما سبق به قضاؤه. وقيل إن أول هذه متصل بقوله تعالى آخر الطلاق اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ [الطلاق: 12] لما فيه من مزيد البسط لما يتعلق بذلك وفصل بسورة التحريم لأنها كالقطعة من سورة الطلاق والتتمة لها، وقد جاء في فضلها أخبار كثيرة منها ما مر آنفا ومنها ما
أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له»
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ومنها ما
جاء في حديث رواه الطبراني وابن مردويه بسند جيد عن ابن مسعود وآخر رواه عنه جماعة وصححه الحاكم: «من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب»
وأخرج ابن مردويه عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ الم تَنْزِيلُ السجدة وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ كل ليلة لا يدعهما سفر ولا حضر
، ولهذا ونحوه قيل يندب قراءتها كل ليلة. والحمد لله الذي وفقني لقراءتها كذلك منذ بلغت سن التمييز إلى اليوم، وأسأل الله تعالى التوفيق لما بعد والقبول. ورأيت في بعض شروح البخاري ندب قراءتها عند رؤية الهلال رجاء الحفظ من المكاره في ذلك الشهر ببركة آيها الثلاثين والله تعالى الموفق.

(15/3)


تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ البركة النماء والزيادة حسية كانت أو عقلية وكثرة الخير ودوامه، ونسبتها إلى الله عز وجل على المعنى الأول وهو الأليق بالمقام باعتبار تعاليه جل وعلا عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله وصيغة التفاعل للمبالغة في ذلك كما في نظائره مما لا يتصور نسبته إليه تعالى من الصيغ كالتكبر. وعلى الثاني باعتبار كثرة ما يفيض منه سبحانه على مخلوقاته من فنون الخيرات والصيغة حينئذ يجوز أن تكون لإفادة نماء تلك الخيرات وازديادها شيئا فشيئا وآنا فآنا بحسب حدوثها أو حدوث متعلقاتها. قيل: ولاستقلالها بالدلالة على غاية الكمال وإنبائها عن نهاية التعظيم لم يجز استعمالها في حق غيره سبحانه ولا استعمال غيرها من الصيغ في حقه تبارك وتعالى. وقد مرّ تمام الكلام في هذا المقام وإسنادها إلى الموصول للاستشهاد بما في حيز الصلة على تحقق مضمونها لأن المراد بذلك أنه سبحانه كامل الإحاطة والاستيلاء بناء على أن بيده الملك استعارة تمثيلية لذلك ولا تجوز في شيء من مفرداته، أو أن الملك على حقيقته واليد مجاز عن الإحاطة والاستيلاء كما قيل، ولاستدعاء ذلك استغناء المتصف به مع افتقار الغير إليه في وجوده وكمالات وجوده كان له اختصاص بالموجود وكذلك في العرف العامي لا يطلق الملك على ما ليس كذلك فلذا قيل هنا في بيان معنى الآية: تعالى وتعاظم بالذات عن كل ما سواه ذاتا وصفة وفعلا الكامل الإحاطة الاستيلاء على كل موجود. وقوله تعالى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تكميل لذلك لأن القرينة الأولى تدل على التصرف التام في الموجودات على مقتضى إرادته سبحانه ومشيئته من غير منازع ولا مدافع لا متصرف فيها غيره عز وجل كما يؤذن به تقديم الظرف وهذه تدل على القدرة الكاملة الشاملة، ولو اقتصر على الأولى لأوهم أن تصرفه تعالى مقصور على تغيير أحوال الملك كما يشاهد من تصرف الملاك المجازي، فقرنت بالثانية ليؤذن بأنه عزّ سلطانه قادر على التصرف وعلى إيجاد الأعيان المتصرف فيها

(15/4)


وعلى إيجاد عوارضها الذاتية وغيرها، ومن ثم عقب ذلك بالوصف المتضمن للعوارض وهذا ما اختاره العلامة الطيبي، وصاحب الكشاف اختار في القرينة الأولى ما ذكرناه فيها من التخصيص بالموجود فقال: أي تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين الذي بيده الملك على كل موجود لما سمعت، وفي الثانية التخصيص بالمعدوم فقال: وهو على كل ما لم يوجد مما يدخل تحت القدرة قدير ووجهه على ما في الكشف أن الشيء وإن كان عاما في كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه لكن لما قرن بالقدرة اختص بالمعدوم لاستغناء الموجود عن الفاعل عند جمهور المتكلمين القائلين بأن علة الاحتياج الحدوث وعليه الزمخشري وأصحابه، وأما عند القائلين بأن علة الاحتياج الإمكان كالمحققين فلأن الاختيار يستدعي سبق العدم. وجيء بالقرينة الثانية عليه تكميلا أيضا لأن الاختصاص بالموجود فيه إيهام نقص واختار صاحب التقريب أن قوله تعالى: الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ مطلق. وقوله سبحانه وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عام لما وضع له الشيء فيكون قد قصد بيان القدرة أولا وعمومها ثانيا، ولم يرتض صنيع الزمخشري ونظر فيه بأن الشيء إما أن يختص بالموجود أو يشمل الموجود والمعدوم، وعلى المذهبين فلا وجه لتخصيصه بما لم يوجد مع انضمام كل إليه اللهم إلا أن يقال خصصه به ليغاير ما قبله إذ خصصه بالموجود، وفيه أيضا نظر إذ لو عمم الثاني لتحقق التغاير أيضا مع أن اليد مجاز عن القدرة فإن تخصصت به كما هو مذهبه تخصص الأول بالمعدوم وإن لم تتخصص لم يتخصص الثاني بالمعدوم. وادعى صاحب الكشف سقوطه بما نقلناه عنه واعترض عليه وأجيب بما لا يخلو عن نظر فليتأمل. ومن الناس من حمل الْمُلْكُ على الموجودات وجعل إليه مجازا عن القدرة فيكون المعنى في قدرته الموجودة وتعقبه بعضهم بأن فيه ركاكة وأشار إلى أن الخلاص منها إما بجعل اليد مجازا عن التصرف أو بتفسير الملك بالتصرف، وقيل المراد من كون الملك بيده تعالى أنه عز وجل مالكه فمعنى بِيَدِهِ الْمُلْكُ مالك الملك وفسر الراغب الْمُلْكُ في مثل ذلك بضبط الشيء المتصرف فيه بالحكم، وشاع تخصيصه بعالم الشهادة ويقابله حينئذ الملكوت وليس بمراد هنا كما لا يخفى.
وقوله تعالى الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ شروع في تفصيل بعض أحكام الملك وآثار القدرة وبيان ابتنائهما على قوانين الحكم والمصالح واستتباعهما لغايات جليلة والموصول بدل من الموصول الأول وصلته كصلته في الشهادة بتعاليه عز وجل. وجوز الطبرسي كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي إلخ. والموت على ما ذهب الكثير من أهل السنة صفة وجودية تضاد الحياة، واستدل على وجوديته بتعلق الخلق به وهو لا يتعلق بالعدمي لأزلية الإعدام. وأما ما روي عن ابن عباس من أنه تعالى خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء إلا مات، وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء لا تمر بشيء ولا يجد رائحتها شيء إلا حيي فهو أشبه شيء بكلام الصوفية لا يعقل ظاهره. وقيل: هو وارد على منهاج التمثيل والتصوير وذهب القدرية وبعض أهل السنة إلى أنه أمر عدمي هو عدم الحياة عما هي من شأنه وهو المتبادر الأقرب وأجيب عن الاستدلال بالآية بأن الخلق فيها بمعنى التقدير وهو يتعلق بالعدمي كما يتعلق بالوجودي، أو أن الْمَوْتَ ليس عدما مطلقا صرفا بل هو عدم شيء مخصوص ومثله يتعلق به الخلق والإيجاد بناء على أنه إعطاء الوجود ولو للغير دون إعطاء الوجود للشيء في نفسه، أو أن الخلق بمعنى الإنشاء والإثبات دون الإيجاد وهو بهذا المعنى يجري في العدميات، أو أن الكلام على تقدير مضاف أي خلق أسباب الموت أو أن المراد بخلق الْمَوْتَ وَالْحَياةَ خلق زمان ومدة معينة لهما لا يعلمها إلا الله تعالى فإيجادهما عبارة عن إيجاد زمانهما مجازا ولا يخفى الحال في هذه الاحتمالات. ومن الغريب ما قيل إنه كنى بالموت عن الدنيا إذ هو واقع فيها، وبالحياة عن الآخرة

(15/5)


من حيث لا موت فيها فكأنه قيل الذي خلق الدنيا والآخرة والحق أنهما بمعناهما الحقيقي والموت على ما سمعت والحياة صفة وجودية بلا خلاف وهي ما يصح بوجوده الإحساس أو معنى زائد على العلم والقدرة يوجب للموصوف به حالا لم يكن قبله من صحة العلم والقدرة، وتقديم الموت على تقدير كونه عدما مطلقا أعني عدم الحياة عما هي من شأنه ظاهر لسبقه على الوجود وعلى تقدير كونه العدم اللاحق كما هو الأنسب بالإرادة هنا أعني عدم الحياة عما اتصف بها فلان فيه مزيد عظة وتذكرة وزجر عن ارتكاب المعاصي وحثّ على حسن العمل، ولذا
ورد: «أكثروا من ذكر ذم اللذات والحياة»
وإن كانت داعية لذلك ضرورة أن من عرف أنها نعمة عظيمة وكان ذا بصيرة عمل شكر الله تعالى عليها لكنها ليست بمثابة الموت في ذلك، فمن زعم أنها لا داعية فيها أصلا وإنما ذكرت باعتبار توقف العمل عليها لم يدقق النظر. وأل في الموضعين عوض عن المضاف إليه أي الذي خلق موتكم الطارئ وحياتكم أيها المكلفون لِيَبْلُوَكُمْ أي ليعاملكم معاملة من يختبركم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي أصوبه وأخلصه فيجازيكم على مراتب متفاوتة حسب تفاوت مراتب أعمالكم. وأصل البلاء الاختبار ولأنه يقتضي عدم العلم بما اختبره وهو غير صحيح في حقه عز وجل وحمل الكلام على ما ذكر، ويرجع ذلك إلى الاستعارة التمثيلية واعتبار الاستعارة التبعية فيه دونها دون في البلاغة والمراد بالعمل ما يشمل عمل القلب وعمل الجوارح ولذا
قال صلّى الله عليه وسلم في الآية: «أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله تعالى وأسرع في طاعة الله عز وجل»
أي أيكم أتمّ فهما لما يصدر عن جناب الله تعالى وأكمل ضبطا لما يؤخذ من خطابه سبحانه، وإيراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل للمكلفين باعتبار أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح أيضا لا إلى الحسن والأحسن فقط للإيذان بأن المراد بالذات. والمقصد الأصلي من الابتلاء هو ظهور كمال إحسان المحسنين مع تحقق أصل الإيمان والطاعة في الباقين أيضا لكمال تعاضد الموجبات له، وأما الإعراض عن ذلك فبمعزل من الاندراج تحت لوقوع فضلا عن الانتظام في سلك الغاية أو الفرض عند من يراه لأفعال الله عز وجل وإنما هو عمل يصدر عن عامله لسوء اختياره من غير مصحح له ولا تقريب، وفيه من الترغيب في الترقي إلى معارج العلوم ومدارج الطاعات والزجر عن مباشرة نقائصها ما لا يخفى. وجعل ذلك من باب الزيادة المطلقة أو من باب أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً [مريم: 73] ليس بذاك وأَيُّكُمْ أَحْسَنُ مبتدأ وخبر والجملة في محل نصب على أنها مفعول ثان لِيَبْلُوَكُمْ وذلك على ما في الكشاف لتضمنه معنى العلم، وهل يسمى نحو هذا تعليقا أم لا؟ قيل: فيه خلاف ففي البحر لأبي حيان نقلا عن أصحابه أنه يسمى بذلك قال: إذا عدي الفعل إلى اثنين ونصب الأول وجاءت بعده جملة استفهامية أو مقرونة بلام الابتداء أو بحرف نفي كانت الجملة معلقا عنها الفعل وكانت في موضع نصب كما لو وقعت في موضع المفعولين، وفيها ما يعلق الفعل عن العمل. وفي الكشاف هنا لا يسمى تعليقا إنما التعليق أن يوقع بعد الفعل الذي يعلق ما يسد مسد المفعولين جميعا كقولك: علمت أيهما زيد وعلمت أزيد منطلق، وأما إذا ذكر بعده أحد المفعولين نحو علمت القوم أيهم أفضل فلا يكون تعليقا. والآية من هذا القبيل واعترضه صاحب التقريب بأن العلم مضمر وهو المعلق كما قال الفراء والزجاج ولا يلزم ذكر المفعول معه بل التقدير ليبلوكم فيعلم أيكم أحسن. وأيضا لا تقع الجملة الاستفهامية مفعولا ثانيا لعلمت وإنما تقع موقع المفعولين في علمت أيهم خرج لأن المعنى علمت جواب هذا الاستفهام ولا معنى لتقدير مثله في علمته أيهم خرج وأجيب بأن التضمين يغني عن الإضمار وكون الجملة الاستفهامية لا تقع مفعولا ثانيا ضعيف لأنها إذا وقعت مفعولا أولا في نحو لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ [مريم: 69] على معنى لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد كما قال

(15/6)


الخليل، فلم يمتنع وقوعها مفعولا ثانيا بتأويل ليعلمكم الذين يقال في حقهم أَيُّهُمْ أَحْسَنُ وإليه ذهب الطيبي ثم قال: وقد أنصف صاحب الانتصاف حيث قال: التعليق عن أحد المفعولين فيه خلاف والأصح هو الذي اختاره الزمخشري وهذا النحو عشه فيه يدرج ويدري كيف يدخل ويخرج انتهى. والذي ذكره في سورة هود أن في الآية تعليقا لما في الاختبار من معنى العلم لأنه طريق إليه ومثله بقوله انظر أيهم أحسن وجها فجعلوا بين كلاميه تنافيا وفي الكشف أن كلامه هناك صريح بأن التعليق فيه بمعنى تعليق فعل القلب على ما فيه استفهام وهو بهذا المعنى خاص بفعل القلب من غير تخصيص بالسبعة المتعدية إلى مفعولين. وفي الاستفهام خاصة دون ما فيه لام الابتداء ونحوها صرح به الشيخ ابن الحاجب نصا فلا ينافي ما ذكر في هذه السورة من أنه ليس بتعليق، فإنما نفي التعليق بالمعنى المشهور. وأما الحمل عن الإضمار في آية هود والتضمين في آية الملك للتفنن فلا وجه له بعد تصريحه بأنه استعارة انتهى. وكذا على هذا لا وجه لكون ما هناك اختيارا لمذهب الفراء والزجاج وما هنا اختيار لمذهب آخر فتدبر وتذكر فإنه كثيرا ما يسأل عن ذلك قديما وحديثا والله تعالى الموفق.
وَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب الذي لا يعجزه عقاب من أساء الْغَفُورُ لمن شاء منهم أو لمن تاب على ما اختاره بعضهم لأنه أنسب بالمقام الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ قيل هو نعت للعزيز الغفور أو بيان أو بدل.
واختار شيخ الإسلام أنه نصب أو رفع على المدح متعلق بالموصولين السابقين معنى وإن كان منقطعا عنهما إعرابا منتظم معهما في سلك الشهادة بتعاليمه سبحانه وتعالى ومع الموصول الثاني في كونه مدارا للبلاء كما نطق به قوله تعالى وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7] وقوله تعالى طِباقاً صفة لسبع وكون الوصف للمضاف إليه العدد ليس بلازم بل أكثري وهو مصدر طابقت النعل بالنعل إذا خصفتها، وصف به للمبالغة أو على حذف مضاف أي ذات طباق أو بتأويل اسم المفعول أي مطابقة، وجوز أن يكون مفعولا مطلقا مؤكدا لمحذوف أي طوبقت طباقا، والجملة في موضع الصفة. وأن يكون جمع طبق كجمل وجمال أو جمع طبقة كرحبة بفتح الحاء ورحاب والكلام بتقدير مضاف لأنه اسم جامد لا يوصف به أي ذات طباق وقيل يجوز كونه حالا من سَبْعَ سَماواتٍ لقربه من المعرفة بشموله الكل وعدم فرد وراء ذلك، وتعقب بأن قصارى ذلك بعد القيل والقال أن يكون نحو شمس مما انحصر في فرد وهو لا تجيء الحال المتأخرة منه فلا يقال طلعت علينا شمس مشرقة. وأيّا ما كان فالمراد كما أخرج عبد بن حميد بعضها فوق بعض، ولا دليل في ذلك على تلاصقها كما زعمه متقدمو الفلاسفة ومن وافقهم من الإسلاميين مخالفين لما نطقت به الأحاديث الصحيحة وإن لم يكفر منكر ذلك فيما أرى. واختلف في موادها فقيل: الأولى من موج مكفوف، والثانية من درة بيضاء، والثالثة من حديد، والرابعة من نحاس، والخامسة من فضة، والسادسة من ذهب، والسابعة من زمردة بيضاء. وقيل غير ذلك ولا أظنك تجد خبرا يعول عليه فيما قيل ولو طرت إلى السماء، وأظنك لو وجدت لأولت مع اعتقاد أن الله عز وجل على كل شيء قدير. وقوله تعالى ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ صفة أخرى على ما في الكشاف لسبع سماوات وضع فيها خَلْقِ الرَّحْمنِ موضع الضمير الرابط للتعظيم والإشعار بعلة الحكم بحيث يمكن أن يترتب قياس من الشكل الأول ينتج نفي رؤية تفاوت فيها، وبأنه عز وجل خلقها بقدرته القاهرة رحمة وتفضلا، وبأن في إبداعها نعما جليلة. وما ذكره ابن هشام في الباب الرابع من المغني من أن الجملة الموصوف بها لا يربطها إلا

(15/7)


الضمير إما مذكورا وإما مقدرا ليس بحجة على جار الله، والتوفيق بأن ذلك إذا لم يقصد التعظيم ليس بشيء لأنه لا بد له من نكتة سواء كانت التعظيم أو غيره. واستظهر أبو حيان أنه استئناف وإن خلق الرحمن عام للسماوات وغيرها والخطاب لكل أحد ممن يصلح للخطاب. وجوز أن يكون لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم ولعل الأول أولى ومن لتأكيد النفي أي ما ترى شيئا مِنْ تَفاوُتٍ أي اختلاف وعدم تناسب كما قال قتادة وغيره من الفوت فإن كلا من المتفاوتين يفوت منه بعض ما في الآخر، وفسر بعضهم التفاوت بتجاوز الشيء الحد الذي يجب له زيادة أو نقصا وهو المعنى بالاختلاف وعلى ذلك قول بعض الأدباء:
تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى ... بهن اختلافا بل أتين على قدر
وقال السدي: أي من عيب وإليه يرجع قول من قال أي من تفاوت يورث نقصا وقال عطاء بن يسار: أي من عدم استواء، وقيل أي من اضطراب، وقيل أي من اعوجاج، وقيل أي من تناقض. ومآل الكل ما ذكرنا ومن الغريب ما قاله شيخ الطائفة الكشفية في زماننا من أن بين الأشياء جميعها ربطا وهو نوع من التجاذب لا يفوت يسببه بعضها عن بعض، وحمل الآية على ذلك وإلى نحو هذا ذهب الفلاسفة اليوم فزعموا أن بين الأجرام علويها وسفليها تجاذبا على مقادير مخصوصة به حفظت أوضاعها وارتبط بعضها ببعض، لكن ذهب بعضهم إلى أن ما به التجاذب والارتباط يضعف قليلا قليلا على وجه لا يظهر له أثر إلا في مدد طويلة جدا.
واستشعروا من ذلك إلى أنه لا بد من خروج هذا العالم المشاهد عن هذا النظام المحسوس فيحصل التصادم ونحوه بين الأجرام وقالوا إن كان قيامة فهو ذاك ولا يخفى حال ما قاله وما قالوه وإن الآية على ما سمعت بمعزل عن ذلك. وقرأ عبد الله وعلقمة والأسود وابن جبير وطلحة والأعمش «من تفوّت» بشد الواو مصدر تفوت، وحكى أبو زيد عن العرب «في تفاوت» فتح الواو وضمها وكسرها والفتح والكسر شاذان كما في البحر. وقوله تعالى فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ متعلق بما قبله على معنى التسبب أي عن الإخبار بذلك فإنه سبب للأمر بالرجوع دفعا لما يتوهم من الشبهة، فهو في المعنى جواب شرط مقدر أي إن كنت في ريب من ذلك فأرجع البصر حتى يتضح الحال ولا يبقى لك ريب وشبهة في تحقق ما تضمنه ذلك المقال من تناسب خلق الرحمن واستجماعه ما ينبغي له. والفطور قال مجاهد: الشقوق جمع فطر وهو الشق، يقال: فطره فانفطر. والظاهر أن المراد الشق مطلقا لا الشق طولا على ما هو أصله كما قال الراغب. وفي معناه قول أبي عبيدة: الصدوع، وأنشدوا قول عبيد الله بن عقبة بن مسعود:
شققت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليط فالتأم الفطور
وقول السدي: الخروق، وأريد بكل ذلك على ما يفهم من كلام بعض الأجلة الخلل وبه فسره قتادة وفسره ابن عباس بالوهن وجملة هَلْ تَرى إلخ قال أبو حيان: في موضع نصب بفعل معلق محذوف أي فانظر هل ترى أو ضمن فَارْجِعِ الْبَصَرَ معنى فانظر ببصرك ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي رجعتين أخريين في ارتياد الخلل والمراد بالتثنية التكرير والتكثير كما قالوا في لبيك وسعديك أي رجعة بعد رجعة أي رجعات كثيرة بعضها في أثر بعض، وهذا كما أريد بأصل المثنى التكثير في قوله:
لوعد قبر وقبر كان أكرمهم ... بيتا وأبعدهم عن منزل الذام
فإنه يريد لو عدت قبور كثيرة وقيل هو على ظاهره وأمر برجع البصر إلى السماء مرتين إذ يمكن غلط في الأولى فيستدرك بالثانية أو الأولى ليرى حسنها واستواءها والثانية ليبصر كواكبها في سيرها وانتهائها وليس

(15/8)


بشيء. ويؤيد الأول قوله تعالى: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً فإنه جواب الأمر والجوابية تقتضي الملازمة وما تضمنه لا يلزم من المرتين غالبا، والمعنى يعد إليك البصر محروما من إصابة ما التمسه من إصابة العيب والخلل كأنه طرد عنه طردا بالصغار بناء على ما قيل إنه مأخوذ من خسأ الكلب المتعدي أي طرده على أنه استعارة، لكن في الصحاح يقال: خسا بصره خسا وخسوأ أي سدر والسدر تحير النظر فكان تفسير خاسِئاً بمتحيرا أخذا له من ذلك أقرب، وكأنهم اختاروا ما تقدم لأن فيه مبالغة وبلاغة ظاهرة مع كونه أبعد عن التكرار مآلا مع قوله تعالى وَهُوَ حَسِيرٌ أي كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة. يقال: حسر بعيره يحسر حسورا أي كلّ وانقطع فهو حسير ومحسور. وقال الراغب: الحسر كشف الملبس عما عليه، يقال: حسرت عن الذراع أي كشفت، والحاسر من لا درع عليه ولا مغفر. وناقة حسير انحسر عنها اللحم والقوة، ونوق حسرى، والحاسر أيضا المعنى لانكشاف قواه ويقال له أيضا محسور أما الحاسر فتصور أنه قد حسر بنفسه قواه، وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره وحسير في الآية يصح أن يكون بمعنى حاسر وأن يكون بمعنى محسور، والجملة في موضع الحال كالوصف السابق من البصر ويحتمل أن تكون حالا من الضمير فيه. وقرأ الخوارزمي عن الكسائي «ينقلب» بالرفع، وخرج على أن الجملة في موضع حال مقدرة. وقوله تعالى وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ إلخ كلام مسوق للحث على النظر قدرة وامتنانا. وفي الإرشاد بيان لكون خلق السماوات في غاية الحسن والبهاء إثر بيان خلوّها عن شائبة العيب والقصور وتصدير الجملة بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها أي وبالله لقد زينا السماء الدُّنْيا منكم أي التي هي أتم دنوا منكم من غيرها فدنوها بالنسبة إلى ما تحت وأما بالنسبة إلى من حول العرش فبالعكس بِمَصابِيحَ جمع مصباح وهو السراج، وتجوز به عن الكوكب ثم جمع أو تجوز بالمصابيح ابتداء عن الكواكب، وفسره بعض اللغويين بمقر السراج فيكون حينئذ تجوزا على تجوز ولا حاجة إليه مع تصريحهم بأن المصباح نفس السراج أيضا وتنكيرها للتعظيم أي بمصابيح عظيمة ليست كمصابيحكم التي تعرفونها. وقيل للتنويع والأول أولى. والظاهر أن المراد الكواكب المضيئة بالليل إضاءة السراج من السيارات والثوابت بناء على أنها كلها في أفلاك ومجار متفاوتة قربا وبعدا في ثخن السماء الدنيا، وكون السماء هي الفلك خلاف المعروف عن السلف وإنما هو قول قاله من أراد الجمع بين كلام الفلاسفة الأولى وكلام الشريعة فشاع فيما بين الإسلام واعتقده من اعتقده. وعن عطاء أن الكواكب في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور في أيدي ملائكة وعليه ف زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ كقول القائل:
زينت السقف بالقناديل وهو ظاهر لكن الخبر لا يكاد يصح. ومن اعتقد أن السماء الدنيا فلك القمر والست الباقية أفلاك السيارات الباقية على الترتيب المشهور وأن للثوابت فلكا مخصوصا يسمى بلسان الشرع بالكرسي، أو جوز أن تكون هذه في فلك زحل وهو السماء السابعة، أو يكون بعضها في فلك وبعضها الآخر في آخر فوقه، أو كل منها في فلك وسماء غير السبع. والاقتصار على العدد القليل لا ينفي الكثير قال: إن تخصيص السماء بالتزيين بها لأنها إنما ترى عليها ولا ترى جرم ما فوقها أو رعاية لمقتضى إفهام العامة لتعذر التمييز بين سماء وسماء عليهم، فهم يرون الكواكب كجواهر متلألئة على بساط الفلك الأزرق الأقرب، ومن اعتبر ما عليه أهل الهيئة اليوم من أن الكواكب فلك عجائب القدرة مواخر في بحر جو الفضاء على وجه مخصوص تقتضيه الحكمة

(15/9)


ومجاريها فيه هي أفلاكها وقد تحركت إذ تحركت في خلاء أو ما يشبهه مع قوى بها تجاذبت وارتبطت ولها حركات على أنفسها وحركات غير ذلك وليست مركوزة كما اشتهر في أجرام صلبة شفافة لا ثقيلة ولا خفيفة تسمى أفلاكا أو سماء وهي متفاوتة قربا وبعدا تفاوتا كليا، وإن رؤيت كلها قريبة لسبب خفي إلى الآن عليهم حتى أن منها ما لا يصل شعاعه إلينا إلا في عدة سنين مع أن شعاع الشمس وبيننا وبينها أربعة وثلاثون مليونا من الفراسخ، والمليون ألف ألف يصل إلينا في ثمان دقائق وثلاث عشرة ثانية إلى آخر ما زعموا فيها. قال:
يجوز أن يراد بالسماء الدنيا طبقة مخصوصة في هذا الفضاء، وبالمصابيح كواكب فيها نفسها قد زينت تلك الطبقة بها تزيين فضاء دار بطيور يطرن وحائمات فيه مثلا، أو جميع ما يرى من الكواكب وإن كان فوقها وتزيينها بذلك بإظهاره فيها كما مر. وأنت تعلم أن من تصدى لتطبيق الآيات والأخبار على ما قاله الفلاسفة مطلقا فقد تصدى لأمر لا يكاد يتم له والله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم أحق بالاتباع. نعم تأويل النقلي إنما ينبغي إذا قام الدليل العقلي على خلاف ما دل عليه، وأكثر أدلة الفلاسفة قاعدة على العجز عن إثباتها إثباتا صحيحا ما يخالف أدلة أهل الشرع كما لا يخفى على من استضاء بمصابيحه.
وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ الضمير للمصابيح على ما هو الظاهر لا للسماء الدنيا على معنى (جعلنا منها) أي من جهتها كما قيل والرجوم جمع رجم بالفتح، وهو مصدر سمي به ما يرجم به أي يرمى فصار له حكم الأسماء الجامدة ولذا جمع وإن كان الأصل في المصادر أنها لا تجمع. وقيل إنه هنا مصدر بمعنى الرجم أيضا. والمراد بالشياطين مسترقو السمع، ورجمهم على ما اشتهر بانقضاض الشهب المسببة عن الكواكب وإليه ذهب غير واحد من المفسرين وهو مبني على ما قرره الفلاسفة المتقدمون من أن الكواكب نفسها غير منقضة وإنما المنقض شعل نارية تحدث من أجزاء متصاعدة لكرة النار لكنها بواسطة تسخين الكواكب للأرض، فالتجوز في إسناد الجعل إليها أو في لفظها وهو مجاز بوسائط. وقال الشهاب: لا مانع من جعل المنقض نفسه من جنس الكواكب وإن خالف اعتقاد الفلاسفة وأهل الهيئة، ولكن في النصوص الإلهية ما فيه رجوم للشياطين انتهى. وأقول لا يخفى أن ذلك المبنى لا يتم أيضا إلا بثبوت كرة النار الذي لا تراهم يستدلون عليه إلا بحدوث هذه الشهب وسلف الأمة لا يقولون بذلك وكذا أهل الفلسفة الجديدة وهؤلاء لم يحققوا إلى الآن أمر هذه الشهب لكن يميلون إلى أنها أجسام انفصلت عن الكواكب التي يزعمونها عوالم مشتملة على جبال ونحوها اشتمال الأرض على ذلك، وخرجت لبعض الحوادث عن حد القوى الجاذبة لها إلى ما انفصلت عنه ولم تصل إلى حد جذب قوة الأرض لها فبقيت تدور عند منتهى كرة الأرض وما يحيط بها من الهواء، فإذا عرض لها الدخول في هواء الأرض أثناء حركتها احترقت كلا أو بعضا كما تحترق بعض الأجسام المحفوظة عن الهواء إذا صادمها الهواء، وربما تصل في بعض حركاتها إلى حد جذب الأرض فتقع عليها. وبعضهم يزعم في الحجارة الساقطة من الجو التي تسمى عندهم بالأبروليت يعنون حجارة الهواء أنها من تلك الأجسام وكل ذلك حديث خرافة ورجم بظنون فاسدة، وقصارى ما يقال في هذه الشهب أنها تحتمل أن تكون ناشئة من أجرام من جنس الكواكب فيها قوة الإحراق سواء كان كل مضيء محرقا أم لا متكونة في جو هذا الفضاء المشاهد إلا أنها لغاية صغرها لا تشاهد ولو بالنظارات حتى إذا قربت بانقضاضها شوهدت وقد تصادف في انقضاضها أجساما متصاعدة من الأرض فتحرقها، وربما يتصل الحريق إلى ما يقرب من الأرض جدا وربما تكونت الحجارة من ذلك. ثم إن العقل يجوز أن يكون لها دوران على شكل من الأشكال فترجع بعد ما يشاهد

(15/10)


لها من الانقضاض، وأن تتلاشى بعد انقضاضها ويخلق الله تعالى غيرها من مادة لا يعلمها إلا هو عز وجل.
والضمير المنصوب في جَعَلْناها وإن عاد على المصابيح لكن لم يعد عليها إلا باعتبار الجنس دون خصوصية كونها مزينة بها السماء الدنيا نظير وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ [فاطر: 11] وعندي درهم ونصفه لما أن التزيين باعتبار الظهور ولا ظهور لهذه الأجرام قبل انقضاضها وإن اعتبر في كونها مصابيح أو كواكب أو نجوما ظهورها في نفسها ولمن يقرب منها دون خصوصية ظهورها لنا، وفي كونها زينة للسماء كونها زينة لها لها في الجملة فالأمر ظاهر جدا. ويحتمل أن تكون ناشئة من المصابيح المشاهدة المزين بها بأن ينفصل عنها وهي في محلها شعل هي الشهب وما ذاك إلّا كقبس يؤخذ من نار والنار ثابتة وإليه ذهب الجبائي وكثير وهو محتمل لأن يكون لكل منها قابلية أن ينفصل عنه ذلك، وأن يكون القابلية لبعضها دون بعض وهذا لعدم الاطلاع على حقائق الأجرام العلوية وأحوالها في أنفسها. والكلام نحو قولك أسكن الأمير قبيلة كذا في ثغر كذا وجعلها ترمي بالبنادق من يقرب منه فإنه لا يلزم أن يكون لكل واحد منها قابلية الرمي، ثم لا يلزم أن يكون كل ما يشاهد من الشهب قبسا من المصابيح بل يجوز أن يكون بعضه وهو الذي ترمي به الشياطين منها وبعضه من أمور تحدث في الجو من اصطكاك أو نحوه، وتفاوت الشهب قلة وكثرة يحتمل أن يكون لتفاوت حوادث الجو، وأن يكون لتفاوت الاستراق وليس في الآيات والأخبار ما هو نص في أن الشهب لا تكون إلّا لرمي الشياطين فيحتمل أن يكون أكثر الشهب من الحوادث الجوية وذوات الأذناب منها في رأي المتقدمين، وهي في أنفسها دون أذنابها نجوم كثيرة جدا تدور لا كما يدور غيرها من النجوم فتقرب تارة وتبعد أخرى فتخرج عن مدارات السيارات إلى حيث لا تشاهد أصلا عند فلاسفة العصر ولهم فيها كلام أطول من أذنابها. وقد أورد الإمام الرازي في هذا الفصل أسئلة وشبها أجاب عنها بما أجاب ونحن فعلنا نحو ذلك فيما تقدم على وجه أتم فليتذكر. وقد أطنبنا هناك الكلام فيما يتعلق بهذا المقام إلّا أن بعضا مما ذكرناه هناك فخذ من الموضعين ما صفا ودع ما كدر بعد أن تتأمل حق التأمل وتتدبر. وقيل: معنى الآية وجعلناها ظنونا ورجوما بالغيب لشياطين الإنس وهم المنجمون المعتقدون تأثير النجوم في السعادة والشقاوة ونحوهما وقد رددنا عليهم أي رد فيما تقدم فارجع إليه أن أردته فإنه نفيس جدا.
وَأَعْتَدْنا لَهُمْ وهيأنا للشياطين عَذابَ السَّعِيرِ عذاب النار المسعرة المشعلة في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب، ولا يمنع من ذلك أنهم خلقوا من نار لأنهم ليسوا نارا فقط بل هي أغلب عناصرهم فهي منهم كالتراب من بني آدم فيتأثرون من ذلك على أنه تكون نارا أقوى من نار. واستدل بالآية على أن النار مخلوقة الآن وعلى أن الشياطين مكلفون وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ من غير الشياطين أو منهم ومن غيرهم على أنه تعميم بعد التخصيص لدفع إيهام اختصاص العذاب بهم والجار والمجرور خبر مقدم وقوله تعالى عَذابُ جَهَنَّمَ مبتدأ مؤخر والحصر إضافي بقرينة النصوص الواردة في تعذيب العصاة فلا حجة فيه لمن قال من المرجئة: لا يعذب غير الكفرة. وقرأ الضحاك والأعرج وأسيد بن أسيد المزني وحسن في رواية هارون عنه «عذاب» بالنصب عطفا على عَذابَ السَّعِيرِ أي وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي جهنم إِذا أُلْقُوا فِيها أي وطرحوا فيها كما يطرح الحطب في النار العظيمة سَمِعُوا لَها أي لجهنم نفسها كما هو الظاهر ويؤيده ما بعد والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى شَهِيقاً لأنه في الأصل صفته فلما صارت حالا أي سَمِعُوا كائنا لَها شَهِيقاً أي صوتا كصوت الحمير وهو

(15/11)


حسيسها المنكر الفظيع، ففي ذلك استعارة تصريحية وجوز أن يكون الشهيق لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها ومن أنفسهم كقوله تعالى لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هود: 106] والكلام على حذف مضاف أو تجوز في النسبة. واعترض بأن ذلك إنما يكون لهم بعد القرار في النار وبعد ما يقال لهم اخْسَؤُا فِيها [المؤمنون:
108] . وهو بعد ستة آلاف سنة من دخولهم كما في بعض الآثار ورد بأن ذلك إنما يدل على انحصار حالهم حينئذ في الزفير والشهيق لا على عدم وقوعها منهم قبل تَكادُ تَمَيَّزُ أي والحال أنها تغلي بهم غليان المرجل بما فيه وَهِيَ تَفُورُ أي ينفصل بعضها من بعض مِنَ الْغَيْظِ من شدة الغضب عليهم قال الراغب الْغَيْظِ أشد الغضب وقال المرزوقي في الفصيح إنه الغضب أو أسوؤه، وقد شبه اشتعال النار بهم في قوة تأثيرها فيهم وإيصال الضرر إليهم باغتياظ المغتاظ على غيره المبالغ في إيصال الضرر إليه على سبيل الاستعارة التصريحية، ويجوز أن تكون هنا تخييلية تابعة للمكنية بأن تشبه جهنم في شدة غليانها وقوة تأثيرها في أهلها بإنسان شديد الغيظ على غيره مبالغ في إيصال الضرر إليه فتوهم لها صورة كصورة الحالة المحققة الوجدانية وهي الغضب الباعث على ذلك، واستعير لتلك الحالة المتوهمة للغيظ. وجوز أن يكون الإسناد في تَكادُ تَمَيَّزُ إلى جهنم مجازا وإنما الإسناد الحقيقي إلى الزبانية، وأن يكون الكلام على تقدير مضاف أي تميز زبانيتها من الغيظ وقيل إن الله تعالى يخلق فيها إدراكا فتغتاظ عليهم فلا مجاز بوجه من الوجوه وورد في بعض الأخبار ما يؤيد ذلك، وزعم بعضهم أنه لا حاجة لشيء مما ذكر لمكان تَكادُ كما في قوله تعالى يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ [النور: 35] وفيه ما فيه والجملة إما حال من فاعل تَفُورُ أو خبر آخر وقرأ طلحة «تتميّز» بتاءين وأبو عمرو «تكاد تميز» بإدغام الدال في التاء والضحاك «تمايز» على وزن تفاعل وأصله تتمايز بتاءين وزيد بن على وابن أبى عبلة «تميز» من ماز كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ استئناف مسوق لبيان حال أهلها بعد بيان نفسها، وقيل لبيان حال آخر من أحوال أهلها وجوز أن تكون الجملة حالا من ضميرها أي كلما ألقي فيها جماعة من الكفرة سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها وهم مالك وأعوانه عليهم السلام، والسائل يحتمل أن يكون واحدا وأن يكون متعددا وليس السؤال سؤال استعلام بل هو سؤال توبيخ وتقريع، وفيه عذاب روحاني لهم منضم إلى عذابهم الجسماني أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ يتلو عليكم آيات الله وينذركم لقاء يومكم هذا قالُوا اعترافا بأنه عزّ وجلّ قد أزاح عللهم بالكلية بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ وجمعوا بين حرف الجواب ونفس الجملة المجاب بها مبالغة في الاعتراف بمجيء النذير، وتحسرا على ما فاتهم من السعادة في تصديقهم، وتمهيدا لما وقع منهم من التفريط تندما واغتماما على ذلك، أي قال كل فوج من تلك الأفواج قد جاء لها نذير أي واحد حقيقة أو حكما كنذر بني إسرائيل فإنهم في حكم نذير واحد فأنذرنا وتلا علينا ما أنزل الله تعالى من آياته.
فَكَذَّبْنا ذلك النذير من جهته تعالى وَقُلْنا في حق ما تلاه من الآيات إفراطا في التكذيب وتماديا في النكير ما نَزَّلَ اللَّهُ على أحد مِنْ شَيْءٍ من الأشياء فضلا عن تنزيل الآيات على بشر مثلكم إِنْ أَنْتُمْ أي ما أنتم في ادعاء ما تدعونه إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ بعيد عن الحق والصواب. وجمع ضمير الخطاب مع أن مخاطب كل فوج نذيره لتغليبه على أمثاله ولو فرضا ليشمل أول فوج أنذرهم نذير. والأصل أنت وأمثالك ممن ادعى أو يدعي دعواك مبالغة في التكذيب وتماديا في التضليل كما ينبىء عنه تعميم المنزل مع ترك ذكر المنزل عليه فإنه ملوح بعمومه حتما، وأما إقامة تكذيب الواحد مقام تكذيب الكل فقيل أمر

(15/12)


تحقيقي يصار إليه لتهويل ما ارتكبوه من الجناية لكن لا مساغ لاعتباره من جهتهم ولا لإدراجه تحت عبارتهم. كيف لا وهو منوط بملاحظة اجتماع النذر على ما لا يختلف من الشرائع والأحكام باختلاف العصور والأعوام، وأين هم من ذلك وقد حال الجريض دون القريض؟ هذا إذا جعل ما ذكر حكاية عن كل واحد من الأفواج كما هو الظاهر. وأما إذا جعل حكاية عن الكل فالنذير إما بمعنى الجمع لأنه فعيل وهو يستوي فيه الواحد وغيره، أو مصدر مقدر بمضاف عام أي أهل نذير أو منعوت به للمبالغة فيتفق كلا طرفي الخطاب في الجمعية. ويستشعر من بعض العبارات جواز اعتبار الجمعية بأحد الأوجه المذكورة على الوجه الأول أيضا وفيه بحث. وجوز أن يكون الخطاب من كلام الخزنة للكفار على إرادة القول على أن مرادهم بالضلال ما كانوا عليه في الدنيا أو هلاكهم أو عقاب ضلالهم تسمية له باسم سببه وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى. وكذا ما قيل من جواز كونه من كلام النذير للكفرة حكوه للخزنة وفي الكشف هذا الوجه فيه تكلف بيّن فإما أن يكون مقول قول محذوف يستدعيه قد جاءنا نذير كأنه قيل بلى قد جاءنا نذير قال إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ فكذبنا وقلنا وقدم فكذبنا وقلنا تنبيها على أن التكذيب لم يكن مقصورا على قولهم هذا وإما أن يكون التكذيب واقعا على الجملة أعني إِنْ أَنْتُمْ وقوله سبحانه وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ عطف على (كذبنا) قدم على صلته ليجري مجرى الاعتراض مؤكدا لحكم التكذيب ودالا على عدم القصر أيضا والأول أولى انتهى.
واستدل بالآية على أنه لا تكليف قبل البعثة وحمل النذير على ما في العقول من الأدلة مما لا يقبله منصف ذوي العقول وَقالُوا أيضا معترفين بأنهم لم يكونوا ممن يسمع أو يعقل كان الخزنة قالوا لهم في تضاعيف التوبيخ ألم تسمعوا آيات ربكم ولم تعقلوا معانيها فأجابوهم بقولهم لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ كلاما أَوْ نَعْقِلُ شيئا ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ أي في عدادهم ومن جملتهم والمراد بهم قيل الشياطين لقوله تعالى: وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ وقيل الكفار مطلقا واختصاص اعداد السعير ممنوع لقوله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً [الإنسان: 4] . والآية لا تدل على الاختصاص وفيه دغدغة لعلك تعرفها مما يأتي إن شاء الله تعالى قريبا فلا تغفل. ونفيهم السماع والعقل لتنزيلهم ما عندهم منهما لعدم انتفاعهم به منزلة العدم، وفي ذلك مع اعتبار عموم المسموع والمعقول ما لا يخفى من المبالغة، واعتبرهما بعض الأجلة خاصين قال:
أي لو كنا نسمع كلام النذير فنقبله جملة من غير بحث وتفتيش اعتمادا على ما لاح من صدقه بالمعجز أو نعقل فنفكر في حكمه ومعانيه تفكر المستبصرين ما كنا إلخ. وفيه إشارة إلى أن السماع والعقل هنا بمعنى القبول والتفكر وأَوْ للترديد لأنه يكفي انتفاء كل منهما لخلاصهم من السعير أو للتنويع فلا ينافي الجمع.
وقيل: أشير فيه إلى قسمي الإيمان التقليدي والتحقيقي أو إلى الأحكام التعبدية وغيرها، واستدل بالآية كما قال ابن السمعاني في القواطع من قال بتحكيم العقل. وأنت تعلم أن قصارى ما تشعر به أن العقل يرشد إلى العقائد الصحيحة التي بها النجاة من العسير، وأما أنها تدل على أن العقل حاكم كما يقول المعتزلة فلا. واستدل بها أيضا كما نقل عن ابن المنير على أن السمع أفضل من البصر ومن العجيب استدلال بعضهم بها على أنه لا يقال للكافر عاقل فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ الذي هو كفرهم وتكذيبهم بآيات الله تعالى ونذره عزّ وجلّ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ أي فبعدا لهم من رحمته تعالى وهو دعاء عليهم. وقرأ أبو جعفر والكسائي «فسحقا» بضم الحاء والسحق مطلقا البعد وانتصابه على أنه مصدر مؤكد أي سحقهم الله تعالى سحقا قال الشاعر:
يجول بأطراف البلاد مغربا ... وتسحقه ريح الصبا كل مسحق

(15/13)


وقيل: هو مصدر إما فعل متعد من المزيد بحذف الزوائد كما في قوله:
وإن أهلك فذلك كان قدري أي تقديري والتقدير فأسحقهم الله سحقا أي إسحاقا، أو بفعل مرتب على ذلك الفعل أي فأسحقهم الله تعالى فسحقوا سحقا كما في قوله:
وعضة دهر يا ابن مروان لم تدع ... من المال إلا مسحت أو مجلف
أي لم تدع فلم يبق إلّا مسحت وإلى أول الوجهين ذهب أبو علي الفارسي والزجاج، وبعد ثبوت الفعل الثلاثي المتعدي كما في البيت وبه قال أبو حيان لا يحتاج إلى ما ذكر. واللام في لِأَصْحابِ للتبيين كما في هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23] وسقيا لك وفي الآية على ما قيل تغليب، ولعل وجهه عند القائل وهو أن السوق يقتضي أن يقال فسحقا لهم ولأصحاب السعير فإنه تعالى بيّن أولا أحوال الشياطين حيث قاله سبحانه وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ ثم بيّن أحوال الكفار حيث قال عزّ وجلّ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ والأوفق بقراءة النصب والأبعد من شبهة التكرار أن يراد بالموصول غير الشياطين ثم قال تعالى شأنه فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ فكان السوق يقتضي فسحقا لهم ولأصحاب السعير لكن لم يقل كذلك لأجل التغليب حيث أطلق أصحاب السعير على الشياطين والكفار جميعا. ولا يضر في هذا دلالة غير آية على عدم اختصاص أصحاب السعير بالشياطين بل يطلق على سائر الكفرة أيضا لأنه يكفي في التغليب الاختصاص المتبادر من السوق هنا ولا توقف له على عدم جواز إطلاق ذلك على غير الشياطين في شيء من المواضع على أنه يمكن أن يقال لا حاجة إلى التزام اختصاص أصحاب السعير بالشياطين أصلا ولو بحسب السوق، بلى يكفي لصحة التوجيه كونهم أصيلا في دخول السعير والكفار ملحقين بهم كما يشعر به قوله تعالى ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ بمعنى في عدادهم وجملتهم فحينئذ يكون الداخل في السعير قسمين. وكان مقتضى الظاهر ذكرهما معا في الدعاء عليهم بالسحق كما يشهد به سياق الآية، لكنه عدل وغلب أصحاب السعير الدال على الأصالة على غيره من التوابع وذكر أن في هذا التغلب إيجازا وهو ظاهر، ومبالغة أي في الإبعاد إذ لو أفرد كل من الفريقين بالذكر لأمكن أن يتوهم تفاوت الإبعادين بأن يكون إبعاد الكفرة دون إبعاد الشياطين على ما يشعر به جعلهم الشياطين أصيلا وأنفسهم ملحقة بهم، فلما ضموا إليهم في الحكم به دل على أن إبعادهم لم يقصر عن إبعاد أولئك وأيضا لما غلب سبحانه وتعالى أصحاب السعير وهم الشياطين على الكفار فقد جعل الكفار من قبيل الشياطين فكأنهم هم بأعيانهم، وفيه من المبالغة ما لا يخفى وتعليلا فإن ترقب الحكم على الوصف وكذا تعلقه به يشعر بعليته له فيشعر ذلك بأن الإبعاد حصل لهم لأجل كونهم أصحاب السعير. وقيل في توجيه التغليب وما فيه من الأمور الثلاثة غير هذا، وقد عدّ ذلك من المشكلات وغدا معتركا لعلماء الروم وغيرهم من العلماء الأعلام ولعل ما ذكرناه أقرب إلى الأفهام وأبعد عن النزاع والخصام فتأمل والله تعالى ولي الأفهام. إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي يخافون عذابه غائبا عنهم أو غائبين عنه أو عن أعين الناس غير مرائين أو بما خفي منهم وهو قلوبهم لَهُمْ مَغْفِرَةٌ عظيمة لذنوبهم وَأَجْرٌ كَبِيرٌ لا يقادر قدره وتقديم المغفرة على الأجر لأن درء المضار أهم من جلب المنافع والجملة المذكورة قيل استئناف بياني وقوله تعالى وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ خطاب عام للمكلفين كما في قوله أولا لِيَبْلُوَكُمْ عطف على مقدر قال في الكشف أصل الكلام وللذين كفروا منكم أيها المكلفون المبتلون وللذين يخشون منكم فقطع هذا الثاني

(15/14)


جوابا عن السؤال الذي يقطر من بيان حال الكافرين مع أن ذكرهم بالعرض وهو ماذا حال من أحسن عملا ومن خرج ممحصا عند الابتلاء فأجيب بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ إلخ فأثبت لهم كمال العلم إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] . وكمال التقوى لقوله تعالى بِالْغَيْبِ وفي هذا القطع ترشيح للمعنى المرموز إليه في قوله تعالى: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ المتقي تخصيصا لهم بأنهم المقصودون ولو عطف لدل على التساوي، ثم قيل فاتقوه في السر والعلن ودوموا أنتم أيها الخاشعون على خشيتكم وأنيبوا إلى الخشية والتقوى أيها المغترون، واعتقدوا استواء أسراركم وجهركم في علم ربكم فكونوا على حذر واخشوه حق الخشية فقوله تعالى ذلك عطف على هذا المضمر وجوز أن يجعل قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ إلخ استطراد عقيب ذكر الكفار وجزائهم وقوله سبحانه وَأَسِرُّوا أَوِ اجْهَرُوا على سبيل الالتفات إلى أصحاب السعير لبعد العهد وزيادة الاختصاص عطفا على قوله تعالى
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا كأنه قيل وللكافرين بربهم عذاب جهنم ثم قيل من صفتها كيت وكيت، وإسراركم بالقول وجهركم به أيها الكافرون سيان فلا تفوتوننا جهرتم بالكفر والبغضاء، أو أبطنتموهما فهو من تتمة الوعيد ثم قال والأول املأ بالقبول انتهى ويظهر لي بعد الأول ويؤيد الثاني ما روي عن ابن عباس أنه قال نزلت وَأَسِرُّوا إلخ في المشركين كانوا ينالون من النبي صلّى الله عليه وسلم فيوحى إليه عليه الصلاة والسلام فقال بعضهم لبعض أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ كيلا يسمع رب محمد فقيل لهم أسروا ذلك أو اجهروا به فإن الله تعالى يعلمه وتقديم السر على الجهر للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر، والمبالغة في شمول علمه عزّ وجلّ المحيط بجميع المعلومات كأن علمه تعالى بما يسرونه أقدم منه بما يجهرون به مع كونهما في الحقيقة على السوية، أو لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة الجهر إذ ما من شيء يجهر به إلّا وهو أو مبادئه مضمر في القلب غالبا فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية.
وقوله تعالى إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تعليل لما قبله وتقرير له وفي صيغة الفعيل وتحلية الصدور بلام الاستغراق ووصف الضمائر بصاحبتها من الجزالة ما لا يخفى كأنه قيل إنه عزّ وجلّ مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية المستكنة في صدورهم بحيث لا تكاد تفارقها أصلا فكيف لا يعلم ما تسرونه وتجهرون به، ويجوز أن يراد بذات الصدور القلوب التي في الصدور والمعنى أنه تعالى عَلِيمٌ بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها وقوله تعالى أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ إنكار ونفي لعدم إحاطة علمه جل شأنه ومن فاعل يَعْلَمُ أي ألا يعلم السر والجهر من أوجد بموجب حكمته جميع الأشياء التي هما من جملتها. وقوله تعالى وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ حال من فاعل يعلم مؤكدة للإنكار والنفي أي ألا يعلم ذلك والحال أنه تعالى المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن وقيل حال من فاعل خَلَقَ والأول أظهر وقدر مفعول يعلم بما سمعت ولم يجعل الفعل من باب يعطي ويمنع لمكان هذه الحال على ما قيل إذ لو قلت إلا يكون عالما من هو خالق وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ لم يكن معنى صحيحا لاعتماد ألا يعلم على الحال والشيء لا يوقت بنفسه فلا يقال: ألا يعلم وهو عالم، ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم كل شيء وأورد عليه أن اللطيف هو العالم بالخفيات فيكون المعنى ألا يكون عالما وهو عالم بالخفيات وهو مستقيم. وأجيب بأن لا يعلم من ذلك الباب وهو على ما قرره السكاكي مستغرق في المقام الخطابي واللَّطِيفُ الْخَبِيرُ من يوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن فهما سواء في الاستغراق والإطلاق. وتعقب بأن الاستغراق غير

(15/15)


هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)

لازم كما ذكره الزمخشري في قوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ [القصص: 23] . الآية ولو سلم فالوجه مختلف لأن العموم المستفاد من الثاني ليس العموم المستفاد من الأول، فإن اللطف للعلم بالخفايا خاصة ويلزم العلم بالجلايا من طريق الدلالة، ثم إن الغزالي اعتبر في مفهوم اللطيف مع العلم بخفايا الأمور سلوك سبيل الرفق في إيصال ما يصلحها فلا يتكرر مع الخبير بناء على أنه العالم بالخفايا أيضا والوجه في الحاجة إلى التقدير كما قال بعض الأئمة إن قوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ تذييل بعد التعليل بقوله سبحانه إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فربط المعنى أن يقال أَلا يَعْلَمُ هذا الخفي أعني قولكم المسر به أو ألا يعلم سركم وجهركم من يعلم دقائق الخفايا وجلائلها جملها وتفاصيلها، ولو قيل ألا يكون عالما بليغ العلم من هو كذا لم يرتبط ولكان فيه عي وقصور وجوز كون من مفعول خلق واستظهره أبو حيان أي ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله ورجح الأول بأن فيه إقامة الظاهر مقام الضمير الراجع إلى الرب وهو أدل على المحذوف أعني السر والجهر وتعميم المخلوق المتناول لهما تناولا أوليا ولهذا قدروا من خلق الأشياء دلالة على أن حذف المفعول للتعميم.
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا غير صعبة يسهل جدا عليكم السلوك فيها فهو فعول للمبالغة في الذل من ذل بالضم ويكسر ضد الصعوبة، ويستعمل المضموم فيما يقابل العز كما يقتضيه كلام القاموس. وقال ابن عطية: الذلول فعول بمعنى مفعول أي مذلولة كركوب وحلوب انتهى. وتعقب بأن فعله قاصر وإنما يعدى بالهمزة أو التضعيف فلا يكون بمعنى المفعول، واستظهر أن مذلولة خطأ وقال بعضهم: يقولون للدابة إذا كانت منقادة غير صعبة ذلول من الذل بالكسر وهو سهولة الانقياد وفي الكلام استعارة وقيل تشبيه بليغ وتقديم لكم على مفعولي الجعل مع أن حقه التأخر عنهما للاهتمام بما قدم والتشويق إلى ما أخر فإن ما حقه التقديم إذا

(15/16)


أخر لا سيما عند كون المقدم مما يدل على كون المؤخر من منافع المخاطبين تبقى النفس مترقبة لوروده فيتمكن لديها عند ذكره فضل تمكن. والفاء في قوله تعالى فَامْشُوا فِي مَناكِبِها لترتيب الأمر على الجعل المذكور وزعم بعضهم أنها فصيحة والمراد بمناكبها على ما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما: جبالها. وقال الحسن: طرقها وفجاجها. وأصل المنكب مجتمع ما بين العضد والكتف، واستعماله فيما ذكر على سبيل الاستعارة التصريحية التحقيقية وهي قرينة المكنية في الأرض حيث شبهت بالبعير كما ذكره الخفاجي، ثم قال: فإن قلت كيف تكون مكنية وقد ذكر طرفها الآخر في قوله تعالى ذَلُولًا قلت هو بتقدير أرضا ذلولا فالمذكور جنس الأرض المطلق، والمشبه هو الفرد الخارجي وهو غير مذكور فيجوز كون ذلولا استعارة، والمكنية حينئذ هي مدلول الضمير لا المصرح بها في النظم الكريم والمانع من الاستعارة ذكر المشبه بعينه لا بما يصدق عليه فتأمل ولا تغفل. وفي الكشاف: المشي في مناكبها مثل لفرط التذليل ومجاوزته الغاية لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وإنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه لم يترك بقية من التذليل، والمراد أنه ليس هنا أمر بالمشي حقيقة وإنما القصد به إلى جعله مثلا لفرط التذليل سواء كانت المناكب مفسرة بالجبال أو غيرها وسواء كان ما قبل استعارة أو تشبيها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ انتفعوا بما أنعم جل شأنه وكثيرا ما يعير عن وجوه الانتفاع بالأكل لأنه الأهم الأعم. وفي أنوار التنزيل أي التمسوا من نعم الله سبحانه وتعالى على أن الأكل مجاز عن الالتماس من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم، قيل: وهو المناسب لقوله تعالى (امشوا) وجوز بعض إبقاءه على ظاهره على أن ذلك من قبيل الاكتفاء وليس بذاك، واستدل بالآية على ندب التسبب والكسب
وفي الحديث «إن الله تعالى يحب العبد المؤمن المحترف»
وهذا لا ينافي التوكل. بل أخرج الحكيم الترمذي عن معاوية بن قرة قال مر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بقوم فقال:
من أنتم؟ فقالوا: المتوكلون. قال: أنتم المتاكلون، إنما المتوكل رجل ألقى حبه في بطن الأرض وتوكل على ربه عزّ وجلّ. وتمام الكلام في هذا الفصل في محله. والمشهور أن الأمر في الموضعين للإباحة وجوز كونه لمطلق الطلب لأن من المشي وما عطف عليه ما هو واجب كما لا يخفى.
وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أي المرجع بعد البعث لا إلى غيره عزّ وجلّ فبالغوا في شكر نعمه التي منها تذليل الأرض وتمكينكم منها وبث الرزق فيها، ومما يقضي منه العجب جواز عود ضمير رزقه على الأرض باعتبار أنها مبدأ أو عنصر من العناصر، أو ذلول وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث والإضافة لأدنى ملابسة أي من الرزق الذي خلق عليها، وكذا ضمير إليه أي وإلى الأرض نشوركم ورجوعكم فتخرجون من بيوتكم وقصوركم إلى قبوركم. وجملة إليه النشور قيل عطف على الصلة بعد ملاحظة ما ترتب عليها وقيل حال مقدرة من ضمير المخاطبين المرفوع فتدبر أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ وهو الله عزّ وجلّ كما ذهب إليه غير واحد فقيل على تأويل مَنْ فِي السَّماءِ أمره سبحانه وقضاؤه يعني أنه من التجوز في الإسناد أو أن فيه مضافا مقدرا وأصله من في السماء أمره، فلما حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ارتفع واستتر. وقيل: على تقدير خالق من في السماء وقيل: فِي بمعنى على ويراد العلو بالقهر والقدرة وقيل هو مبني على زعم العرب حيث كانوا يزعمون أنه سبحانه في السماء فكأنه قيل: أَأَمِنْتُمْ من تزعمون أنه فِي السَّماءِ وهو متعال عن المكان وهذا في غاية السخافة فكيف يناسب بناء الكلام في مثل هذا المقام على زعم بعض زعم الجهلة كما لا يخفى على المنصف، أو هو غيره عز شأنه وإليه ذهب بعضهم فقيل: أريد بالموصول الملائكة عليهم السلام

(15/17)


الموكلون بتدبير هذا العالم وقيل جبريل عليه السلام وهو الملك الموكل بالخسف، وأئمة السلف لم يذهبوا إلى غيره تعالى والآية عندهم من المتشابه.
وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «آمنوا بمتشابهه»
ولم يقل أولوه فهم مؤمنون بأنه عزّ وجلّ في السماء على المعنى الذي أراده سبحانه مع كمال التنزيه، وحديث الجارية من أقوى الأدلة لهم في هذا الباب وتأويله بما أول ابن الخلف خروج عن دائرة الإنصاف عند أولي الألباب. وفي فتح الباري للحافظ ابن حجر أسند اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال: اتفاق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير. وأسند البيهقي بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري عن سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل. وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية: اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الله عزّ وجلّ، والذي نرتضيه رأيا وندين الله تعالى به عقيدة اتباع سلف الأمة للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة، فلو كان تأويل هذه الظواهر حتما لا وشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، إذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع انتهى. كلام الإمام وقد تقدم النقل في ذلك عن أهل العصر الثالث وهم فقهاء الأمصار كالثوري والأوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم وكذا من أخذ عنهم من الأئمة، فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام؟ انتهى كلام الحافظ على وجه الاختصار. ونقل نصوص الأئمة في إجراء ذلك على الظاهر مع التنزيه من غير تأويل يفضي إلى مزيد بسط وتطويل وقد ألفت فيه كتب معتبرة مطولة ومختصرة. وفي تنبيه العقول لشيخ مشايخنا إبراهيم الكوراني أن إجماع القرون الثلاثة على إجراء المتشابهات على مواردها مع التنزيه ب لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] دليل على أن الشارع صلوات الله تعالى وسلامه عليه أراد بها ظواهرها والجزم بصدقه صلّى الله عليه وسلم دليل على عدم المعارض العقلي الدال على نقيض ما دل عليه الدليل النقلي في نفس الأمر وإن توهمه العاقل في طور النظر والفكر. فمعرفة الله تعالى بهذا النحو من الصفات طور وراء ذلك انتهى. وأنا أقول في التأويل اتباع الظن وقول في الله عزّ وجلّ بغير علم وإلا لاتحد ما يذكرونه من المعنى فيه مع أن الأمر ليس كذلك حيث يذكرون في تأويل شيء واحد وجوها من الاحتمالات وفيما عليه السلف سلامة من ذلك ويكفي هذا في كونه أحسن المسالك.
وما عليّ إذا ما قلت معتقدي ... دع الجهول يظن الجهل عدوانا
وقرأ نافع «أأمنتم» بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية وأدخل أبو عمرو وقالون بينهما ألفا. وقرأ قنبل بإبدال الأولى واوا لضم ما قبلها وهو راء النشور وعنه وعن ورش غير ذلك أيضا. وقوله تعالى أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ بدل اشتمال من مَنْ وجوز أن يكون على حذف الجار أي من أن يخسف ومحله حينئذ النصب أو الجر والباء للملابسة والأرض مفعول به ليخسف والخسف قد يتعدى قال الراغب يقال خسفه الله تعالى وخسف هو قال تعالى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ [القصص: 81] . أي أأمنتم من أن يذهب الأرض إلى سفل ملتبسة بكم وزعم بعضهم لزوم لزومه وأن الْأَرْضَ نصب بنزع الخافض أي أن يخسف بكم في الأرض وليس كذلك فَإِذا هِيَ حين الخسف تَمُورُ ترتج وتهتز اهتزازا شديدا، وأصل المور التردد في المجيء

(15/18)


والذهاب أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً إضراب عن الوعيد بما تقدم إلى الوعيد بوجه آخر أي بل أأمنتم من في السماء أن يرسل إلخ وقد تقدم الكلام في الحاصب والوعيد بالخسف أولا لمناسبة ذكر الأرض في قوله تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا وقد ذكر المنة في تسهيل المشي في مناكبها وذكر إرسال الحاصب ثانيا وهذا في مقابلة الامتنان بقوله تعالى وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ألا ترى إلى قوله تعالى وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ [الذاريات: 22] قاله في الكشف وفي غرة التنزيل للراغب في وجه تقديم الوعيد بالخسف على التوعد بالحاصب إنه لما كانت الأرض التي مهدها سبحانه وتعالى لهم لاستقرارهم يعبدون فيها خالقها فعبدوا الأصنام التي هي شجرها أو حجرها خوفوا بما هو أقرب إليهم، والتخويف بالحاصب من السماء التي هي مصاعد كلهم الطيبة ومعارج أعمالهم الصالحة لأجل أنهم بدلوهما بسيئات كفرهم وقبائح أعمالهم، ولعل ما أشير إليه أولا أولى فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ أي إنذاري فنذير مصدر مثله في قول حسان:
فأنذر مثلها نصحا قريشا ... من الرحمن إن قبلت نذيري
وهو مضاف إلى ياء الضمير والقراء مختلفون فيها فمنهم من حذفها وصلا وأثبتها وقفا ومنهم من حذفها في الحالين اكتفاء بالكسرة، والمعنى فستعلمون ما حال إنذاري وقدرتي على إيقاعه عند مشاهدتكم للمنذر به ولكن لا ينفعكم العلم حينئذ وقرىء شاذا «فسيعلمون» بالياء التحتانية وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل كفار مكة من كفار الأمم السالفة قوم نوح وعاد وأضرابهم والالتفات إلى الغيبة لإبرار الإعراض عنهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري عليهم بإنزال العذاب أي كان على غاية الهول والفظاعة، وهذا هو مورد التأكيد القسمي لا تكذيبهم فقط الكلام في نَكِيرِ كالكلام في نَذِيرِ وفي الكلام من المبالغة في تسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتشديد التهديد لقومه ما لا يخفى أَوَلَمْ يَرَوْا أغفلوا ولم ينظروا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها فإنهن إذا بسطنها صففن قوادمها أعني ما تقدم من ريشها صفا ونصب صافَّاتٍ على الحال من الطير أو من ضميرها في فَوْقَهُمْ وهو في موضع الحال فتكون الحال متداخلة وجوز أن يكون ظرفا لصافات أو ليروا ومفعول صافات على الاحتمالات محذوف كما أشرنا إليه، وناسب ذكر الاعتبار بالطير ذكر التوعد بالحاصب لا سيما إذا فسر بالحجارة إذ قد أهلك الله تعالى بذلك أصحاب الفيل حينما رمتهم به الطير، ففي ذلك إذكار قريش بتلك القصة وَيَقْبِضْنَ ويضممن أجنحتهن إذا ضربن بها جنوبهن والعطف على صافَّاتٍ لأن المعنى يصففن ويقبضن، أو صافات وقابضات وعطف الفعل على الاسم في مثله فصيح شائع وعكسه جائز حسن إلّا عند السهيلي فإنه عنده قبيح نحو قوله:
بات يعشيها بعضب باتر ... يقصد في أسوقها وجائر
فإنه أراد قاصد وجائر ولما كان أصل الطيران هو صف الأجنحة لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل فيها مد الأطراف وبسطها وكان القبض طارئا على البسط للاستظهار به على التحرك، جيء بما هو طار غير أصل بلفظ الفعل وبما هو أصل بلفظ الاسم على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة بعد تارة ويتجدد حينا إثر حين كما يكون من السابح ما يُمْسِكُهُنَّ في الجو عند الصف والقبض على خلاف مقتضى طبيعة الأجسام الثقيلة من النزول إلى الأرض والانجذاب إليها إِلَّا الرَّحْمنُ الواسع رحمته كل شيء حيث برأهن عز وجل على أشكال وخصائص وألهمهن حركات قد تأتي منها الجري في الهواء والجملة مستأنفة أو حال من الضمير في يَقْبِضْنَ وقرأ الزهري «ما يمسّكهن» بالتشديد إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ دقيق

(15/19)


العلم فيعلم سبحانه وتعالى كيفية إبداع المبدعات وتدبير المصنوعات ومن هذا خلقه عز وجل للطير على وجه تأتي به جريه في الجو مع قدرته تعالى أن يجريه فيه بدون ذلك إلا أن الحكمة اقتضت ربط المسببات بأسبابها، وليس فيما ذكرنا نزوع إلى ما يضر من أقوال أهل الطبيعة لأن كون طبيعة الأجسام الثقيلة ما سمعت أمر محسوس لا ينكره إلا من كابر حسه، ومثله كون الإمساك بالسبب السابق وكونه سببا من آثار رحمته تعالى الواسعة، وأبى ذلك أبو حيان توهما منه أنه نزوع إلى ما يضر من أقوال أهل الطبيعة وقال: نحن نقول إن أثقل الأشياء إذا أراد الله سبحانه إمساكه في الهواء واستعلاءه إلى العرش كان ذلك، وإذا أراد جل شأنه إنزال ما هو أخف سفلا إلى منتهى ما ينزل كان أيضا وليس ذلك لشكل أو ثقل أو خفة ونحن لا ننكر أن الله تعالى على كل شيء قدير وأنه سبحانه فعال لما يريد وأنه لا يتوقف فعله عز وجل على السبب عقلا بيد أنا نقول إنه تعالى اقتضت حكمته في هذا العالم ذلك الربط، وهو أمر عادي اختاره تعالى حكمة وتفضلا ولو شاء جل وعلا غيره لكان كما شاء وتقديم بِكُلِّ شَيْءٍ على بَصِيرٌ للفاصلة أو للحصر ردا على من يزعم عدم شمول علمه تعالى شأنه أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ متعلق عند كثير بقوله سبحانه أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فقال في الإرشاد هو تبكيت لهم بنفي أن يكون لهم ناصر غير الله تعالى كما يلوح به التعرض لعنوان الرحمانية ويعضده قوله تعالى ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ أو ناصر من عذابه تعالى كما هو الأنسب بقوله تعالى بعد أن أمسك رزقه كقوله تعالى أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا [الأنبياء: 43] في المعنيين معا خلا أن الاستفهام هناك متوجه إلى نفس المانع وتحققه وهنا متوجه إلى تعيين الناصر لتبكيتهم بإظهار عجزهم عن تعيينه و (أم) منقطعة مقدرة ببل للانتقال من توبيخهم على ترك التأمل فيما يشاهدونه من أحوال الطير المنبئة عن تعاجيب آثار قدرة الله عز وجل إلى التبكيت بما ذكر والالتفات للتشديد في ذلك، ولا سبيل إلى تقدير الهمزة معها لأن بعدها من الاستفهامية والاستفهام لا يدخل على الاستفهام في المعروف عندهم وهي مبتدأ وهذا خبره وفي الموصول هنا الاحتمالات المشهورة في مثله وجملة يَنْصُرُكُمْ صفة لجند باعتبار لفظه ومِنْ دُونِ الرَّحْمنِ على الوجه الأول أما حال من فاعل يَنْصُرُكُمْ أو نعت لمصدره وعلى الثاني متعلق بينصركم كما في قوله تعالى مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ [هود: 63] فالمعنى من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم ينصركم متجاوزا نصر الرحمن أو ينصركم نصرا كائنا من دون نصره تعالى أو ينصركم من عذاب كائن من عند الله عز وجل وقوله تعالى إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ اعتراض مقرر لما قبله ناع عليهم ما هم فيه من غاية الضلال أي ما هم في زعمهم أنهم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتهم لا بحفظه تعالى فقط، وأن آلهتهم تحفظهم من بأس الله تعالى إلا في غرور عظيم وضلال فاحش من جهة الشيطان ليس لهم في ذلك شيء يعتد به في الجملة والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء حالهم الإعراض عنهم وبيان قبائحهم للغير والإظهار في موضع الإضمار لذمهم بالكفر وتعليل غرورهم به والكلام في قوله تعالى:
أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ أي الله عز وجل رِزْقَهُ بإمساك المطر وسائر مبادئه كالذي مر وقوله تعالى بَلْ لَجُّوا إلخ منبىء عن مقدر يستدعيه المقام كأنه قيل أثر التبكيت والتعجيز لم يتأثروا بذلك ولم يذعنوا للحق بل لجوا وتمادوا فِي عُتُوٍّ في عناد واستكبار وطغيان وَنُفُورٍ شراد عن الحق لثقله عليهم وجعل ناصر الدين أم من هذا الذين هو إلخ عديلا لقوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا على معنى ألم ينظروا في

(15/20)


أمثال هذه الصنائع من القبض والبسط والإمساك وما شاكل ذلك مما يدل على كمال القدرة فلم يعلموا قدرتنا على تعذيبهم بنحو خسف وإرسال حاصب أم لكم جند ينصركم من دون الله أن أرسل عليكم عذابه. وقال إنه كقوله تعالى أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا إلّا أنه أخرج مخرج الاستفهام عن تعيين من ينصرهم اشعارا بأنهم اعتقدوا هذا القسم وجعل قوله تعالى أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إلخ على معنى أم من يشار إليه ويقال هذا الذي يرزقكم فقيل إنه عليه الرحمة جعل في الأولى (أم) متصلة و (من) استفهامية وجعل في الثانية (أم) منقطعة و (من) موصولة وهذَا الَّذِي مبتدأ وخبر واقع صلة على تقدير القول وقدر لاستهجان أن يقال الذي هذا الذي يرزقكم ويجعل هذا قائما مقام الضمير الراجع إلى الموصول الأول ومن قيل مبتدأ خبره محذوف أي رازق لكم، وكأنه أشار بذلك إلى صحة كل من الأمرين في الموضعين. وحديث لزوم اجتماع الاستفهامين في بعض الصور ودخول الاستفهام على الاستفهام قيل عليه إنه ليس بضائر إذ لا مانع من اجتماع الاستفهامين إذا قصد التأكيد وقد نقل ابن الشجري عن جميع البصريين أن أم المنقطعة أبدا بمعنى بل والهمزة أي ولو دخلت على استفهام نحو أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ [الرعد: 16] وأَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:
84] ومذهب غيرهم أنها قد تأتي بمعنى الاستفهام المجرد وروي ذلك عن أبي عبيدة وأنها قد تأتي للإضراب المجرد وقد تتضمنه والاستفهام الإنكاري أو الطلبي. والزمخشري قال في الموضعين: أم من يشار إليه ويقال هذا الذي وجوز في هذا أن يكون إشارة إلى مفروض وأن يكون إشارة إلى جميع الأوثان لاعتقادهم أنهم يحفظون من النوائب ويرزقون ببركة آلهتهم، فكأنهم الجند والناصر والرازق والآية على هذا ليست متعلقة بقوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا على ما حققه صاحب الكشف قال بعد أن أوضح كلامه: إذا تقرر ذلك فاعلم أن الذي يقتضيه النظم على هذا التفسير أن يكون قوله تعالى أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ متعلقا بحديث الخسف وقوله سبحانه أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ بحديث إرسال الحاصب على سبيل النشر كأنه لما قيل أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فتضطرب نافرة بعد ما كانت في غاية الذلة عقب بقول أم آمنكم الفوج الذي هو في زعمكم هو جند لكم يمنعكم من عذاب الله تعالى وبأسه على أن (أم) منقطعة والاستفهام تهكم، وكذلك لما قيل أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً بدل ما يرسل عليكم رحمته ذنب بقول أم آمنكم الذي تتوهمون أنه يرزقكم وأما قوله تعالى وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فاعتراض يشد من عضد التحذير وأن في الأمم الماضين المخسوف بهم والمرسل عليهم الحواصب إلى غير ذلك من أنواع عذابه عز وجل ما يسلبهم الطمأنينة والوقار لو اعتبروا، وكذلك قوله سبحانه أَوَلَمْ يَرَوْا تصوير لقدرته تعالى الباهرة وإن من قدر على ذلك كان الخسف وإرسال الحاصب عليه أهون شيء، وفيه كما أنه بعظيم قدرته وشمول رحمته أمسك الطير كذلك إمساكه العذاب وإلا فهؤلاء يستحقون كل نكال، وفي الإتيان بهذا من التحقير الدال على تسفيه رأيهم وتقدير القول الدال على الزعم والتأكيد بالموصولين الدال على تأكد اعتقادهم في ذلك الباطل إن كان إشارة إلى الأصنام أو كمال التهكم بهم كأنهم محققون معلومون إن كان إشارة إلى فوج مفروض لأن حالهم في الأمن يقتضي ذلك وهذا أبلغ ولذا قدمه الزمخشري ما يقضي منه العجب ويلوح الإعجاز التنزيلي كأنه رأي العين ثم قال: فهذا ما هديت إليه مع الاعتراف بأن الاعتراف من تيار كلام الله تعالى له رجال ما أبعد مثلي عنهم ولكن أتسلى بقول إمامنا الشافعي:
أحب الصالحين ولست منهم ... انتهى

(15/21)


ولعمري قد أبدع وتبوأ ما قاله من القبول عند ذوي العقول المحل الأرفع ويعجبني طرف تدر دموعه.
على فضله العالي فلله دره. وظاهره أن من في الموضعين فاعل لفعل محذوف دل عليه السياق أعني أمنكم لا مبتدأ خبره محذوف كما قيل فيما سبق وقد جوز في الآية غير ما تقدم من أوجه الإعراب وهو أن يكون من خبرا مقدما وهذا مبتدأ ورجح على ما مر من عكسه بأنه سالم عما فيه من الإخبار بالمعرفة عن النكرة فإنه غير جائز عند الجمهور وجوازه مذهب سيبويه إذا كان المبتدأ اسم استفهام أو أفعل تفضيل. وقرأ طلحة في الأولى «أمن» بتخفيف الميم وشدد في الثانية كالجماعة وقوله تعالى أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مثل ضرب للمشرك والموحد توضيحا لحاليهما في الدنيا وتحقيقا لشأن مذهبيهما والفاء لترتيب ذلك على ما ظهر من سوء حال الكفرة وخرورهم في مهاوي الغروز وركوبهم متن عشواء العتو والنفور، فإن تقدم الهمزة عليها صورة إنما هو لاقتضاء الصدارة، وأما بحسب المعنى فالمعنى بالعكس على ما هو المشهور حتى لو كان مكان الهمزة هل لقيل فهل من يمشي إلخ و (من) موصولة مبتدأ ويَمْشِي صلته ومُكِبًّا حال من الضمير المستتر فيه، وعلى وجهه ظرف لغو متعلق بمكبا أو مستقر حال والأول أولى وأَهْدى خبر (من) و (من) الثانية عطف على الأولى وهو من عطف المفرد على المفرد كما في قولك أزيد أفضل أم عمرو، وقيل: مبتدأ خبره محذوف لدلالة خبر الأولى عليه ولا حاجة إلى ذلك لما سمعت. والمكب الساقط على وجهه يقال: أكب خرّ على وجهه وهو من باب الأفعال، والمشهور أنه لازم وثلاثيه متعد فيقال: كبّه الله تعالى فأكب، وقد جاء ذلك على خلاف القياس وله نظائر يسيرة كأمرت الناقة درت ومر تيها وأشنق البعير رفع رأسه وشنقته، واقشع الغيم وقشعته الريح أي أزالته وكشفته، وأنزفت البئر ونزفتها أخرجت ماءها، وأنسل ريش الطائر ونسلته. وقال بعضهم: التحقيق أن الهمزة فيه للصيرورة فمعنى أكب صار ذا كب ودخل فيه كما في ألأم إذا صار لئيما وانفض إذا صار نافضا لما في مزودته وليست للمطاوعة، ومطاوع كب إنما هو انكب وقد ذهب إلى ذلك ابن سيده في المحكم تبعا للجوهري وغيره، وتبعه ابن الحاجب وأكثر شراح المفصل إلا أن كلام بعض الأجلة ظاهر في التسوية بين المطاوعة والصيرورة، وحكى ابن الأعرابي: كبه الله تعالى وأكبه بالتعدية وفي القاموس ما هو نص فيه وعليه لا مخالفة للقياس، والمعنى أفمن يمشي وهو يعثر في كل ساعة ويخرّ على وجهه في كل خطوة لتوعر طريقه واختلاف أجزائه بانخفاض بعض وارتفاع بعض آخر أهدى وأرشد إلى المقصد الذي يؤمه أم من يمشي قائما سالما من الخبط والعثار على طريق مستوي الأجزاء لا اعوجاج فيه ولا انحراف؟ ولم يصرح بطريق الكافر بل أشير إليه بما دل على توعره وعدم استقامته، أعني مكبا للإشعار بأن ما عليه لا يليق أن يسمى طريقا. وفسر بعضهم السوي بمستوي الجهة قليل الانحراف على أن المكب المتعسف الذي ينحرف هكذا وهكذا وهو غير مناسب هنا لأن قوله تعالى عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يصير كالمكرر وأفعل هنا مثله على ما في البحر في قولك: العسل أحلى من الخل. والآية على ما روي عن ابن عباس نزلت في أبي جهل عليه اللعنة وحمزة رضي الله تعالى عنه والمراد العموم كما روي عن ابن عباس أيضا ومجاهد والضحاك. وقال قتادة: نزلت مخبرة عن حال الكافر والمؤمن في الآخرة فالكفار يمشون فيها على وجوههم والمؤمنون يمشون على استقامة.
وروي أنه قيل للنبي صلّى الله عليه وسلم كيف يمشي الكافر على وجهه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «إن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر على أن يمشيه في الآخرة على وجهه» .
وعليه فلا تمثيل وقيل المراد بالمكب الأعمى وبالسوي البصير وذلك إما من باب الكناية أو من باب المجاز المرسل وهو لا يأبى جعله بعد تمثيلا لمن سمعت كما هو معلوم في محله.

(15/22)


قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي القلوب قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي تلك النعم كان تستعملون السمع في سماع الآيات التنزيلية على وجه الانتفاع بها والإبصار في النظر بها إلى الآيات التكوينية الشاهدة بشؤون الله عز وجل والأفئدة بالتفكر بها فيما تسمعونه وتشاهدونه ونصب قَلِيلًا على أنه صفة مصدر مقدر أي شكرا قليلا وما مزيدة لتأكيد التقليل والجملة حال مقدرة والقلة على ظاهرها أو بمعنى النفي إن كان الخطاب للكفرة وجوز في الجملة أن تكون مستأنفة والأول أولى قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي خلقكم وكثركم فيها لا غيره عز وجل وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ للجزاء لا إلى غيره سبحانه اشتراكا أو استقلالا فابنوا أمركم على ذلك وَيَقُولُونَ من فرط عتوهم ونفورهم مَتى هذَا الْوَعْدُ أي الحشر الموعود كما ينبىء عنه قوله تعالى وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يخاطبون به النبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين حيث كانوا مشاركين له عليه الصلاة والسلام في الوعد وتلاوة الآيات المتضمنة له وجواب الشرط محذوف أي إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تخبرونه من مجيء الساعة والحشر فبينوا وقته. قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ أي العلم بوقته عِنْدَ اللَّهِ عز وجل لا يطلع عليه غيره عز وجل كقوله تعالى قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي [الأعراف: 187] وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أنذركم وقوع الموعود لا محالة وأما العلم بوقت وقوعه فليس من وظائف الإنذار والفاء في قوله تعالى فَلَمَّا رَأَوْهُ فصيحة معربة عن تقدير جملتين وترتيب الشرطية عليهما كأنه قيل وقد أتاهم الموعود فرأوه فلما رأوه إلخ، وهذا نظير قوله تعالى فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ [النمل: 40] إلّا أن المقدر هناك أمر واقع مرتب على ما قبله بالفاء وهاهنا أمر منزل منزلة الواقع وارد على طريقة الاستئناف وقوله تعالى زُلْفَةً حال من مفعول رأوه إما بتقدير المضاف أي ذا زلفة وقرب أو على أنه مصدر بمعنى الفاعل أي مزدلفا أو على أنه مصدر نعت به مبالغة أو ظرف أي رأوه في مكان ذي زلفة، وفسر بعضهم الزلفة بالقريب والأمر عليه ظاهر وكذا على ما روي عن ابن زيد من تفسيره بالحاضر. وقال الراغب:
الزلفة المنزلة والحظوة وما في الآية قيل معناه زلفة المؤمنين، وقيل زلفة لهم. واستعمل الزلفة في منزلة العذاب كما استعملت البشارة ونحوها من الألفاظ انتهى. ولا زلفة في كلا القولين سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا سامتها رؤيته بأن غشيتها بسبها الكآبة ورهقها القتر والذلة ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بالكفر وتعليل الساءة به وأشم أبو جعفر والحسن وأبو رجاء وشيبة وابن وثاب وطلحة وابن عامر ونافع الكسائي كسر سين «سيئت» الضم وَقِيلَ توبيخا لهم وتشديد العذاب بهم هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ أي تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه إنكارا واستهزاء على أنه تفتعلون من الدعاء والباء صلة الفعل وقيل هو من الدعوى أي تدعون أن لا بعث ولا حشر فالباء سببية أو للملابسة باعتبار الذكر. وأيد التفسير الأول بقراءة أبي رجاء والضحاك والحسن وقتادة وابن يسار وعبد الله بن مسلم وسلام ويعقوب «تدعون» بسكون الدال وهي قراءة ابن أبي عبلة وأبي زيد وعصمة عن أبي بكر والأصمعي عن نافع وذكر الزمخشري في سورة المعارج أن يدعون مخففا من قولهم دعا بكذا إذا استدعاه وعن الفراء أنه من دعوت أدعو والمعنى هذا الذي كنتم به تستعجلون وتدعون الله تعالى بتعجيله يعني قولهم إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ [الأنفال: 32] إلخ وروي عن مجاهد أن الموعود عذاب يوم بدر وهو بعيد وأما ما قيل من أن الموعود الخسف والحاصب وقد وقعا لأن المراد بالخسف الذل كما في قوله:
ولا يقيم على خسف يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد

(15/23)


وبالحاصب الحصى وقد رمى صلّى الله عليه وسلم به في وجوههم كما في الخبر المشهور، أو لم يقعا بناء على ما عرف أولا من المراد بهما ولا يضر ذلك إذ تخلف الوعيد لا ضير فيه فليس بشيء كما لا يخفى وكان كفار مكة يدعون على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك فقال سبحانه له عليه الصلاة والسلام قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أروني كما هو المشهور وقد مر تحقيقه إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أي من المؤمنين أَوْ رَحِمَنا أي بالنصرة عليكم فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي فمن يجيركم من عذاب النار، وأقيم الظاهر مقام المضمر المخاطب دلالة على أن موجب البوار محقق فأنّى لهم الإجارة والظاهر أن جواب الشرط والمعطوف عليه شيء واحد وحاصل المعنى لا مجير لكم من عذاب النار لكفركم الموجب له انقلبنا إلى رحمة الله تعالى بالهلاك كما تمنون لأن فيه الفوز بنعيم الآخرة أو بالنصرة عليكم، والأدلة للإسلام كما نرجو لأن في ذلك الظفر بالبغيتين ويتضمن ذلك حثهم على طلب الخلاص بالإيمان وأن فيما هم فيه شغلا شاغلا عن تمني هلاك النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه من المؤمنين، وهذا أوجه أوجه ثلاثة ذكرها الزمخشري. ثانيها أن المعنى أن أهلكنا الله تعالى بالموت ونحن هداتكم والآخذون بحجزكم فمن يجيركم من النار وإن رحمنا بالغلبة عليكم وقتلكم عكس ما تمنون فمن يجيركم لأن المقتول على أيدينا هالك في الدنيا والآخرة، وعلى هذا الجواب متعدد لتعدد موجبه، ورجح الأول بأن فيه تسفيها لرأيهم لطلبهم ما هو سعادة أعدائهم ثم الحث على ما هو أحرى وهو الخلاص مما هم فيه من موجب الهلاك وهذا فيه الأول من حيث إنهم لم يتمنون هلاك من يجيرهم من عذاب بإرشاده والسياق ادعى للأول وثالثها أن المعنى إن أهلكنا الله تعالى في الآخرة بذنوبنا ونحن مسلمون فمن يجير الكافرين وهم أولى بالهلاك لكفرهم وإن رحمنا بالإيمان فمن يجير من لا إيمان له وعلى هذا الجواب متعدد أيضا، والهلاك فيه محمول على المجاز دون الحقيقة كما في سابقه، والغرض الجزم بأنهم لا مجير لهم وأن حالهم إذا ترددت بين الهلاك بالذنب والرحمة بالإيمان وهم مؤمنون فماذا يكون حال من لا إيمان له وهذا فيه بعد قُلْ أي لهم جوابا عن تمنيهم ما لا يجديهم بل يرديهم معرضا بسوء ما هم عليه هُوَ الرَّحْمنُ أي الله الرحمن آمَنَّا بِهِ أي فيجيرنا برحمته عز وجل من عذاب الآخرة ولم نكفر مثلكم حتى لا نجاز البتة ولما جعل الكفر سبب الإساءة في الآية الأولى جعل الإيمان سبب الإجارة في هذه ليتم التقابل ويقع التعريض موقعه ولم يقدم مفعول آمَنَّا لأنه لو قيل به آمنا كان ذهابا إلى التعريض بإيمانهم بالأصنام وكان خروجا عما سيق له الكلام وحسن التقديم في قوله تعالى وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا لاقتضاء التعريض بهم في أمر التوكل ذلك أي وعليه توكلنا ونعم الوكيل فنصرنا لا على العدد والعدد كما أنتم عليه والحاصل أنه لما ذكر فيما قبل الإهلاك والرحمة وفسر برحمة الدنيا والآخرة أكد هاهنا بحصولها لهم في الدارين لإيمانهم وتوكلهم عليه تعالى خاصة، وفي ذلك تحقيق عدم حصولها للكافرين لانتفاء الموجبين ثم في الآية خاتمة على منوال السابقة وتبيين أن أحسن العمل الإيمان والتوكل على الله تعالى وحده وهو حقيقة التقوى وقوله تعالى فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي في الدارين وعيد بعد تلخيص الموجب لكنه أخرج مخرج الكلام المنصف أي من هو منا ومنكم في إلخ وقرأ الكسائي «فسيعلمون» بياء الغيبة نظرا إلى قوله تعالى فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ وقوله سبحانه قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي غائرا ذاهبا في الأرض بالكلية وعن الكلبي لا تناله الدلاء وهو مصدر وصف به للمبالغة أو مؤول باسم الفاعل. وأيّا ما كان فليس المراد بالماء ماء معينا وإن كانت الآية كما روى ابن المنذر والفاكهي عن ابن الكلبي نازلة في بئر زمزم وبئر ميمون بن الحضرمي فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ أي جار أو ظاهر سهل المأخذ لوصول الأيدي

(15/24)


إليه وهو فعيل من معن أو مفعول من عين وعيد في الدنيا خاصة
وأردف الوعيد السابق به تنبيها بالأدنى على الأعلى، وأنكم إذا لم تعبدوه عز وجل للحياة الباقية فاعبدوه للفانية، وتليت هذه الآية عند بعض المستهزئين فلما سمع فَمَنْ يَأْتِيكُمْ
إلخ قال تجيء به الفؤوس والمعاول، فذهب ماء عينيه. نعوذ بالله تعالى من الجراءة على الله جل جلاله وآياته وتفسير الآيات على هذا الطرز هو ما اختاره بعض الأئمة وهو أبعد مغزى من غيره والله تعالى أعلم بأسرار كلامه.

(15/25)


ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22)

سورة القلم
هي من أوائل ما نزل من القرآن بمكة فقد نزلت على ما روي عن ابن عباس اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق:
1] ثم هذه ثم المزمل ثم المدثر. وفي البحر أنها مكية بلا خلاف فيها بين أهل التأويل وفي الإتقان استثني منها إِنَّا بَلَوْناهُمْ- إلى- يَعْلَمُونَ [القلم: 17- 33] ومن فَاصْبِرْ- إلى- الصَّالِحِينَ [القلم: 48- 50] فإنه مدني حكاه السخاوي وفي جمال القراء وآيها ثنتان وخمسون آية بالإجماع ومناسبتها لسورة الملك على ما قيل من جهة ختم تلك بالوعيد وافتتاح هذه به. وقال الجلال السيوطي في ذلك: إنه تعالى لما ذكر في آخر الملك التهديد بتغوير الماء استظهر عليه في هذه بإذهاب ثمر أصحاب البستان في ليلة بطائف طاف عليهم وهم نائمون فأصبحوا ولم يجدوا له أثرا حتى ظنوا أنهم ضلوا الطريق، وإذا كان هذا في الثمار وهي أجرام كثيفة فالماء الذي هو لطيف أقرب إلى الإذهاب ولهذا قال سبحانه هنا وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [القلم: 19، 20] وقال جل وعلا هنا إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً [الملك: 30] إشارة إلى أنه يسرى عليه في ليلة كما أسرى على الثمر في ليلة انتهى، ولا يخلو عن حسن. وقال أبو حيان فيه: إنه ذكر فيما قبل أشياء من أحوال السعداء والأشقياء وذكر قدرته الباهرة وعلمه تعالى الواسع، وأنه عز وجل لو شاء لخسف بهم الأرض أو لأرسل عليهم حاصبا وكان ما أخبر به سبحانه هو ما أوحى به إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم فتلاه عليه الصلاة والسلام وكان الكفار ينسبونه في ذلك مرة إلى الشعر ومرة إلى السحر ومرة إلى الجنون فبدأ جل شأنه هذه السورة الكريمة ببراءته صلّى الله عليه وسلم مما كانوا ينسبونه إليه من الجنون وتعظيم أجره على صبره على أذاهم، وبالثناء على خلقه فقال عز من قائل:

(15/26)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن بالسكون على الوقف وقرأ الأكثرون بسكون النون وإدغامها في واو وَالْقَلَمِ بغنة عند بعض وبدونها عند آخرين وقرىء بكسر النون. وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق وعيسى بخلاف عنه بفتحها وكل لالتقاء الساكنين، وجوز أن يكون الفتح بإضمار حرف القسم في موضع الجر كقولهم الله لأفعلن بالجر وأن يكون ذلك نصبا بإضمار اذكر ونحوه لا فتحا وامتناع الصرف للتعريف والتأنيث على أنه علم للسورة ثم إن جعل اسما للحرف مسرودا على نمط التعديد للتحدي على ما اشتهر وبين في موضعه، أو اسما للسورة منصوبا على الوجه المذكور أو مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف قالوا وفي قوله تعالى وَالْقَلَمِ للقسم وإن جعل مقسما به فهي للعطف عليه على الشائع واختار السلف أن ن من المتشابه وغير واحد من الخلف أنه هنا من أسماء الحروف. وقالوا: يؤيد ذلك أنه لو كان اسم جنس أو علما لأعرب منونا أو ممنوعا من الصرف ولكتب كما يتلفظ به، وكون كتابته كما ترى لنية الوقف وإجراء الوصل مجراه خلاف الأصل وكون خط المصحف لا يقاس مسلم إلا أن الأصل إجراؤه على القياس ما أمكن وقيل هو اسم لحوت عليه الأرض يقال له اليهموت بفتح الياء المثناة التحتية وسكون الهاء ففي حديث رواه الضياء في المختار والحاكم وصححه. وجمع عن ابن عباس خلق الله تعالى النون فبسطت الأرض عليه فاضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال ثم قرأ ن وَالْقَلَمِ إلخ. وروي ذلك عن مجاهد وروي عن ابن عباس أيضا والحسن وقتادة والضحاك أنه اسم للدواة وأنكر الزمخشري ورود النون بمعنى الدواة في اللغة أو في الاستعمال المعتد به، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون لغة لبعض العرب أو لفظه أعجمية عربية وأنشد قول الشاعر:
إذا ما الشوق برح بي إليهم ... ألقت النون بالدمع السجوم
والأولون منهم من فسر القلم بالذي خط في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة، ومنهم من فسره بقلم الملائكة الكرام الكاتبين، وأل فيه على التفسيرين للعهد والآخرون منهم من فسره بالجنس على أن التعريف فيه جنسي، ومنهم وهم قليل من فسره بما تقدم أيضا لكن الظاهر من كلامهم أن الدواة ليست عبارة عن الدواة المعروفة بل هي دواة خلقت يوم خلق ذلك القلم
وعن معاوية بن قرة يرفعه: «إن ن لوح من نور والقلم قلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة» .
وعن جعفر الصادق: إنه نهر من أنهار الجنة.
وفي البحر لعله لا يصح شيء من ذلك أي من جميع ما ذكر في ن ما عدا كونه اسما من أسماء الحروف وكأنه إن كان مطلعا على الروايات التي ذكرناها لم يعتبر تصحيح الحاكم فيما روي أولا عن ابن عباس، ولا كون أحد رواته الضياء في المختارة التي هي في الاعتبار قرينة من الصحاح ولا كثرة راوية عنه وهو الذي يغلب على الظن لكثرة الاختلاف فيما روي عنه في تعيين المراد به حتى أنه روي عنه أنه آخر حرف من حروف الرحمن، وأن هذا الاسم الجليل فرق في الر وحم ون ولا يخفى أنه إن أريد الحوت أو نهر في الجنة يصير الكلام من باب كم الخليفة وألف بادنجانة وأما إن أريد الدواة فالتنكير آب عن ذلك أشد الإباء على أنه كما سمعت عن الزمخشري لغة لم تثبت، والرد عليه إنما يتأتى بإثبات ذلك عن الثقات. وأنّى به، وذكر

(15/27)


صاحب القاموس لا ينتهض حجة على أنه معنى لغوي، وفي صحة الروايات كلام والبيت الذي أنشده ابن عطية لم يثبت عربيا وكونه بمعنى الحوت أطلق على الدواة مجازا بعلاقة المشابهة فإن بعض الحيتان يستخرج منه شيء أشد سوادا من النقس يكتب به لا يخفى ما فيه من السماجة فإن ذلك البعض لم يشتهر حتى يصح جعله مشبها به مع أنه لا دلالة للمنكر على ذلك الصنف بعينه، وكونه بمعنى الحرف مجازا عنها أدهى وأمر كذا قيل، وللبحث في البعض مجال وللقصاص هذا الفصل روايات لا يعول عليها ولا ينبغي الإصغاء إليها ثم إن استحقاق القلم للإعظام بالإقسام به إذا أريد به قلم اللوح الذي جاء في الأخبار أنه أول شيء خلقه الله تعالى أو قلم الكرام الكاتبين ظاهر، وأما استحقاق ما في أيدي الناس إذا أريد به الجنس لذلك فلكثرة منافعه ولو لم يكن له مزية سوى كونه آلة لتحرير كتب الله عز وجل لكفى به فضلا موجبا لتعظيمه. والضمير في قوله سبحانه وَما يَسْطُرُونَ أي يكتبون إما للقلم مرادا به قلم اللوح وعبر عنه بضمير الجمع تعظيما له أو له مرادا به جنس ما به الخط، فضمير الجمع لتعدده لكنه ليس بكاتب حقيقة بل هو آلة للكاتب فالإسناد إليه إسناد إلى الآلة مجازا، والتعبير عنه بضمير العقلاء لقيامه مقامهم وجعله فاعلا أو للكتبة أو الحفظة المفهومين من القلم أولهم باعتبار أنه أريد بالقلم أصحابه تجوزا أو بتقدير مضاف معه، ولا يخفى ما هو الأوجه من ذلك، وأما كونه لما وهي بمعنى من فتكلف بارد والظاهر فيها أنها إما موصولة أي والذي يسطرونه أو مصدرية أي وسطرهم ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ جواب القسم والباء الثانية مزيدة لتأكيد النفي، ومجنون خبر ما والباء الأولى للملابسة في موضع الحال والعامل مجنون وباؤه لا تمنع العمل لأنها مزيدة، وتعقبه ناصر الدين بأن فيه نظرا من حيث المعنى ووجه بأن محصله على هذا التقدير أنه انتفى عنك الجنون وقت التباسك بنعمة ربك، ولا يفهم منه انتفاء مطلق الجنون عنه صلّى الله عليه وسلم وهل المراد إلّا هذا وقيل عليه لا يخفى أنه وارد على ما اختاره هو أيضا أي وذلك لأن المعنى حينئذ انتفى عنك ملتبسا بنعمة ربك الجنون ولا يفهم منه انتفاؤه عنه عليه الصلاة والسلام في جميع الأوقات وهو المراد، وأجيب بأن تلك الحالة لازمة له صلّى الله عليه وسلم غير منفكة عنه فنفيه عنه فيها مستلزم لنفيه عنه دائما وسائر الحالات وتعقب بأن هذا متأت على كلا التقديرين لا اختصاص له بأحدهما دون الآخر، وأنت خبير بأنه فرق بينهما إذ يصير المعنى على تقدير كون العامل مجنون كما أشير إليه أنه انتفى عنك الجنون الواقع عليك حالة الالتباس المذكور، وهذا يدل على إمكان وقوعه في تلك الحالة بل على تحققه أيضا وهو معنى لاغ إذ كيف يتصور وجود الجنون ووقوعه وقت التباسه صلّى الله عليه وسلم بالنعمة، ومن جملتها الحصافة ولا يرد هذا على التقدير المختار إذ الانتفاء المفهوم حينئذ لا يكون واردا على الجنون المقيد بما ذكر وهو وإن كان مقيدا فيه أيضا لا ضير به لكون قيده لازما لذات المنفي عنه كما عرفت هذا، وقيل: إذا حمل الباء على السببية واعتبر الظرف لغوا يظهر عدم جواز تعلقه بما بعده من حيث المعنى:
ظهور نار القرى ليلا على علم ولهم في الجملة الحالية والحال إذا وقعت بعد النفي كلام ذكره الخفاجي وحقق أنه حينئذ إنما يلزم انتفاء مقارنة الحال لذي الحال لا نفيها نفسها فتدبر ولا تغفل. وجوز كون بِنِعْمَةِ رَبِّكَ قسما متوسطا في الكلام لتأكيده من غير تقدير جواب، أو يقدر له جواب يدل عليه الكلام المذكور، واستظهر هذا الوجه أبو حيان والتعرض لوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى معارج الكمال مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلّى الله عليه وسلم والإيذان بأنه تعالى يتم نعمته عليه ويبلغه في العلو إلى غاية لا غاية وراءها، والمراد تنزيهه

(15/28)


صلّى الله عليه وسلم عما كانوا ينسبونه إليه صلّى الله عليه وسلم من الجنون حسدا وعداوة ومكابرة، فحاصل الكلام أنت منزه عما يقولون وَإِنَّ لَكَ بمقابلة مقاساتك ألوان الشدائد من جهتهم وتحملك أعباء الرسالة لَأَجْراً لثوابا عظيما لا يقادر قدره غَيْرَ مَمْنُونٍ أي مقطوع مع عظمه أو غير ممنون عليك من جهة الناس فإنه عطاؤه تعالى بلا واسطة أو من جهته تعالى لأنك حبيب الله تعالى وهو عز وجل أكرم الأكرمين، ومن شيمة الأكارم أن لا تمنوا بإنعامهم لا سيما إذا كان على أحبابهم كما قال:
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ لا يدرك شأوه أحد من الخلق ولذلك تحتمل من جهتهم ما لا يحتمله أمثالك من أولي العزم.
وفي حديث مسلم وأبي داود والإمام أحمد والدارمي وابن ماجة والنسائي عن سعد بن هشام قال قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى قالت: فإن خلق نبي الله كان القرآن
وأرادت بذلك على ما قيل إن ما فيه من المكارم كله كان فيه صلّى الله عليه وسلم، وما فيه من الزجر عن سفساف الأخلاق كان منزجرا به عليه الصلاة والسلام لأنه المقصود بالخطاب بالقصد الأول كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الفرقان: 32] وربما يرجع إلى هذا قولها كما
في رواية ابن المنذر وغيره عن أبي الدرداء أنه سألها عن خلقه عليه الصلاة والسلام فقالت: كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه
وقال العارف بالله تعالى المرصفي أرادت بقولها: كان خلقه القرآن تخلقه بأخلاق الله تعالى لكنها لم تصرح به تأدبا منها. وفي الكشف أنه أدمج في هذه الجملة أنه صلّى الله عليه وسلم متخلق بأخلاق الله عز وجل بقوله سبحانه عَظِيمٍ وزعم بعضهم أن في الآية رمزا إلى أن الأخلاق الحسنة مما لا تجامع الجنون، وأن كلما كان الإنسان أحسن أخلاقا كان أبعد عن الجنون، ويلزم من ذلك أن سوء الأخلاق قريب من الجنون فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ أي المجنون كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن المنذر عن ابن جبير وعبد بن حميد عن مجاهد، وأطلق على المجنون لأنه فتن أي محن بالجنون، وقيل لأن العرب يزعمون أن الجنون من تخبيل الجن وهم الفتان للفتاك منهم والباء مزيدة في المبتدأ وجوز ذلك سيبويه أو الفتنة فالمفتون مصدر كالمعقول والمجلود أي الجنون كما أخرجه عبد بن حميد عن الحسن وأبي الجوزاء وهو بناء على أن المصدر يكون على وزن المفعول كما جوزه بعضهم والباء عليه للملابسة أو بأي الفريقين منكم الجنون أبفريق المؤمنين أم بفريق الكافرين أي في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم وهو تعريض بأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهما. والباء على هذا بمعنى في وقدر بأي الفريقين منكم دفعا لما قيل من أن الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وجماعة قريش ولا يصح أن يقال لجماعة وواحد في أيكم زيد، وأيد الاعتراض بأن قوله تعالى فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ خطاب له عليه الصلاة والسلام خاصة وجواب التأييد أن الخطاب بظاهره خص برسول الله صلّى الله عليه وسلم ليجري الكلام على نهج السوابق ولا يتنافر لكنه ليس كالسوابق في الاختصاص حقيقة لدخول الأمة فيه أيضا فيصح تقدير بأي الفريقين، وادعى صاحب الكشف أن هذا أوجه الأوجه لإفادته التعريض وسلامته عن استعمال النادر يعني زيادة الباء في المبتدأ، وكون المصدر على زنة المفعول وإليه ذهب الفراء، ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة في «أيكم» وأيّا ما كان فالظاهر أن بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ معمول لما قبله على سبيل التنازع، والمراد فستعلم ويعلمون ذلك يوم القيامة حين يتبين الحق من الباطل، وروي ذلك عن ابن عباس وقيل فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ في الدنيا بظهور عاقبة الأمر بغلبة الإسلام واستيلائك عليهم بالقتل والنهب وصيرورتك

(15/29)


مهيبا معظما في قلوب العالمين، وكونهم أذلة صاغرين ويشمل هذا ما كان يوم بدر. وعن مقاتل أن ذلك وعيد بعذاب يوم بدر وقال أبو عثمان المازني: إن الكلام قد تم عند قوله تعالى وَيُبْصِرُونَ ثم استأنف قوله سبحانه بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ على أنه استفهام يراد به الترداد بين أمرين معلوم نفي الحكم عن أحدهم وتعيين وجوده للآخر وهو كما ترى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ استئناف لبيان ما قبله وتأكيد لما تضمنه من الوعد والوعيد، أي هو سبحانه أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ المؤدي إلى سعادة الدارين وهام في تيه الضلال متوجها إلى ما يقتضيه من الشقاوة الأبدية ومزيد النكال، وهذا هو المجنون الذي لا يفرق بين النفع والضر بل يحسب الضرر نفعا فيؤثره والنفع ضررا فيهجره وَهُوَ عز وجل أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ إلى سبيله، الفائزين بكل مطلوب، الناجين عن كل محذور، وهم العقلاء المراجيح فيجزي كلا من الفريقين حسبما يستحقه من العقاب والثواب. وفي الكشاف إن ربك هو أعلم بالمجانين على الحقيقة وهم الذين ضلوا عن سبيله، وهو أعلم بالعقلاء وهم المهتدون أو يكون وعيدا ووعدا، وأنه سبحانه أعلم بجزاء الفريقين. قال في الكشف هو على الأول تذييل مؤكد لما رمز إليه في السابق من أن المفتون من قرفك به جار على أسلوب المؤكد في عدم التصريح ولكن على وجه أوضح فإن قوله تعالى بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ لا تعيين فيه بوجه وهذا بدل هُوَ أَعْلَمُ بالمجنون. وبالعاقل يدل على أن الجنون بهذا الاعتبار لا بما توهموه وثبت لهم صرف الضلال في عين هذا الزعم، وعلى الثاني هو تذييل أيضا ولكن على سبيل التصريح لأن بِمَنْ ضَلَّ أقيم مقام (بهم) وبِالْمُهْتَدِينَ أقيم مقام (بكم) ولعل ما اعتبرناه أملا بالفائدة، وكأن تقديم الوعيد ليتصل بما أشعر به أولا والتعبير في جانب الضلال بالفعل للإيماء بأنه خلاف ما تقتضيه
الفطرة وزيادة هو أعلم لزيادة التقرير مع الإيذان باختلاف الجزاء. والفاء في قوله تعالى فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ لترتيب النهي على ما ينبىء عنه ما قبله من اهتدائه صلّى الله عليه وسلم وضلالهم أو على جميع ما فضل من أول السورة، وهذا تهييج وإلهاب للتصميم على معاصاتهم أي دم على ما أنت عليه من عدم طاعتهم وتصلب في ذلك، وجوز أن يكون نهيا عن مداهنتهم ومداراتهم بإظهار خلاف ما في ضميره صلّى الله عليه وسلم استجلابا لقلوبهم لا عن طاعتهم حقيقة، وينبىء عنه قوله تعالى وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ لأنه تعليل للنهي أو للانتهاء، وإنما عبر عنه بالطاعة للمبالغة في التنفير أي أحبوا لو تلاينهم وتسامحهم في بعض الأمور فَيُدْهِنُونَ أي فهم يدهنون حينئذ أو فهم الآن يدهنون طعما في ادهانك، فالفاء للسببية داخلة على جملة مسببة عما قبلها، وقدر المبتدأ لمكان رفع بالفعل والفرق بين الوجهين أن المعنى على أنهم تمنوا لو تدهن فتترتب مداهنتهم على مداهنتك، ففيه ترتب إحدى المداهنتين على الأخرى في الخارج ولَوْ فيه غير مصدرية، وعلى الثاني هي مصدرية، والترتب ذهني على ودادتهم وتمنيهم، وجوز أن تكون الفاء لعطف يدهنون على تُدْهِنُ على أنه داخل معه في حيز لو متمنى مثله، والمعنى ودوا لو يدهنون عقيب ادهانك وما تقدم أبعد عن القيل والقال، وأيّا ما كان فالمعتبر في جانبهم حقيقة الادهان الذي هو لإظهار الملاينة وإضمار خلافها، وإما في جانبه عليه الصلاة والسلام فالمعتبر بالنسبة إلى ودادتهم هو إظهار الملاينة فقط، وأما إضمار خلافها فليس في حيز الاعتبار بل هم في غاية الكراهة له، وإنما اعتباره بالنسبة إليه عليه الصلاة والسلام وفي بعض المصاحف كما قال هارون «فيدهنوا» بدون نون الرفع، فقيل: هو منصوب في جواب التمني المفهوم من وَدُّوا وقيل إنه عطف على تُدْهِنُ بناء على أن لَوْ بمنزلة أن الناصبة فلا يكون لها جواب، وينسبك منها ومما بعدها مصدر يقع مفعولا لودوا كأنه قبل ودوا أن تدهن فيدهنوا، ولعل هذا مراد من قال إنه عطف على توهم أن، وجمهور النحاة على أن

(15/30)


لَوْ على حقيقتها وجوابها محذوف. وكذا مفعول وَدُّوا أي ودوا ادهانك لو تدهن فيدهنون لسروا بذلك وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ كثير الحلف في الحق والباطل وكفى بهذا مزجرة لمن اعتاد الحلف لأنه جعل فاتحة المثالب وأساس الباقي، وهو يدل على عدم استشعار عظمة الله عز وجل وهو أم كل شر عقدا وعملا، وذكر بعضهم أن كثرة الحلف مذمومة ولو في الحق لما فيها من الجرأة على اسمه جل شأنه، وهذا النهي للتهييج والإلهاب أيضا أي دم على ما أنت عليه من عدم طاعة كل حلاف مَهِينٍ حقير الرأي والتدبير. وقال الرماني: المهين الوضيع لإكثاره من القبيح من المهانة وهي القلة، وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن قتادة أنه قال: هو المكثار في الشر. وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنه الكذاب هَمَّازٍ عياب طعان قال أبو حيان: هو من الهمز وأصله في اللغة الضرب طعنا باليد أو بالعصا ونحوها، ثم استعير للذي ينال بلسانه قال منذر بن سعيد وبعينه وإشارته مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ نقّال للحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم، فإن النميم والنميمة مصدران بمعنى السعاية والإفساد. وقيل: النميم جمع نميمة يريدون به الجنس وأصل النميمة الهمس والحركة الخفيفة، ومنه اسكت الله تعالى نامته أي ما ينم عليه من حركته مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أي بخيل ممسك من منع معروفه عنه إذا أمسكه فاللام للتقوية والخير على ما قيل المال أو مناع الناس الخير وهو الإسلام من منعت زيدا من الكفر إذا حملته على الكف، فذكر الممنوع منه كأنه قيل مناع من الخير دون الممنوع وهو الناس عكس وجه الأول والتعميم هنالك وعدم ذكر الممنوع منه أوقع مُعْتَدٍ مجاوز في الظلم حده أَثِيمٍ كثير الآثام وهي الأفعال البطيئة عن الثواب والمراد بها المعاصي والذنوب عُتُلٍّ قال ابن عباس الشديد الفاتك، وقال الكلبي: الشديد الخصومة بالباطل. وقال معمر وقتادة: الفاحش اللئيم، وقيل: هو الذي يعتل الناس أي يجرهم إلى حبس أو عذاب بعنف وغلظة، ويقال عتنه بالنون كما يقال عتله باللام كما قال ابن السكيت وقرأ الحسن «عتلّ» بالرفع على
الذم بَعْدَ ذلِكَ أي المذكور من مثالبه وقبائحه وبَعْدَ هنا كثم الدالة على التفاوت الرتبي فتدل على أن ما بعد أعظم في القباحة وفي الكشف أشعر كلام الزمخشري أنه متعلق بعتل فلزم تباينه من الصفات السابقة وتباين ما بعده أيضا لأنه في سلكه زَنِيمٍ دعي ملحق بقوم ليس منهم كما قال ابن عباس، والمراد به ولد الزنا كما جاء بهذا اللفظ عنه رضي الله تعالى عنه وأنشد الحسان:
زنيم تداعته الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع
وكذا جاء عن عكرمة وأنشد:
زنيم ليس يعرف من أبوه ... بغيّ الأم ذو حسب لئيم
من الزنمة بفتحات وهي ما يتدلى من الجلد في حلق المعز والفلقة من أذنه تشق فتترك معلقة، وإنما كان هذا أشد المعايب لأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الناشئ منها ومن ثم
قال صلّى الله عليه وسلم: «فرخ الزنا أي ولده لا يدخل الجنة»
فهو محمول على الغالب فإنه في الغالب لخباثة نطفته يكون خبيثا لا خير فيه أصلا فلا يعمل عملا يدخل به الجنة. وقال بعض الأجلة: هذا خارج مخرج التهديد والتعريض بالزاني، وحمل على أنه لا يدخل الجنة مع السابقين
لحديث الدارمي عن عبد الله بن عمر مرفوعا: «لا يدخل الجنة عاق ولا ولد زنية ولا منان ولا مدمن خمر»
فإنه سلك في قرن العاق والمنان ومدمن الخمر ولا ارتياب أنهم عند أهل السنة ليسوا من زمرة من لا يدخل الجنة أبدا. وقيل المراد أنه لا يدخل الجنة بعمل أبويه إذا مات صغيرا بل يدخلها بمحض

(15/31)


فضل الله تعالى ورحمته سبحانه كأطفال الكفار عند الجمهور. وروى ابن جبير عن ابن عباس أن الزنيم هو الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بالزنمة. وفي رواية ابن أبي حاتم عنه هو الرجل يمر على القوم فيقولون رجل سوء والمال واحد وعنه أيضا أنه المعروف بالأبنة ولا يخفى أن المأبون معدن الشرور بل من لم يصل في ذلك الأمر الشنيع إلى تلك المرتبة كذلك في الأغلب ولا حاجة إلى كثرة الاستشهاد في هذا الباب. وفي قول الشاعر الاكتفاء وهو:
ولكم بذلت لك المودة ناصحا ... فغدرت تسلك في الطريق الأعوج

ولكم رجوتك للجميل وفعله ... يوما فناداني النهي لا ترتج
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أنه قال: نزل على النبيّ صلّى الله عليه وسلم وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ إلخ فلم يعرف حتى نزل عليه الصلاة والسلام بعد ذلك زَنِيمٍ فعرفناه له زنمة في عنقه كزنمة الشاة، واستشكل هذا بأن الزنيم عليه ليس صفة ذم فضلا عن كونه أعظم فيه من الصفات التي قبل ذلك على ما يفيده بعد ذلك، ولا يكاد يحسن تعليل النهي به على أن من المعلوم أن ليس المراد بالموصوف بهذه الصفات شخصا بعينه لمكان كُلَّ ويحمل ما جاء في الروايات من أنه الوليد بن المغيرة المخزومي وكان دعيا في قريش ليس من سنخهم ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده، أو الحكم طريد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أو الأخنس بن سريق وكان أصله من ثقيف وعداده في زهرة أو الأسود بن عبد يغوث، أو أبو جهل على بيان سبب النزول وقيل في ذلك أن المراد ذمه بقبح الخلق بعد ذمه بما تقدم وهو كما ترى فتأمل فلعلك تظفر بما يريح البال ويزيح الإشكال.
وقوله تعالى أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ بتقدير لام التعليل وهو متعلق بقوله سبحانه لا تُطِعْ أي لا تطع من هذه مثالبه لأن كان متمولا متقويا بالبنين وقوله سبحانه إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ استئناف جار مجرى التعليل للنهي وجوز أن يكون لأن متعلقا بنحو كذب، ويدل عليه الجملة الشرطية ويقدر مقدما دفعا لتوهم الحصر كأنه قيل كذب لأن كان إلخ والمراد أنه بطر نعمة الله تعالى ولم يعرف حقها ولم يجوز تعلقه بقال المذكور بعد لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، ولعل من يقول باطراد التوسع في الظرف يجوز ذلك وكذا من يجعل إذا هنا ظرفية. وقال أبو علي الفارسي: يجوز تعلقه بعتل وإن كان قد وصف، وتعقبه أبو حيان بأنه قول كوفي ولا يجوز ذلك عند البصريين، وقيل متعلق بزنيم ويحسن ذلك إذا فسر بقبيح الأفعال.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأبو جعفر وأبو بكر وحمزة وابن عامر «أأن كان» على الاستفهام وحقق الهمزتين حمزة وسهل الثانية باقيهم على ما في البحر. وقال بعض: قرأ أبو بكر وحمزة بهمزتين وابن عامر بهمزة ومدة والمعنى أكذب بها لأن كان ذا مال أو أطيعه لأن كان إلخ. وقرأ نافع في رواية اليزيدي عنه «إن كان» بالكسر على أن شرط الغنى في النهي عن الطاعة كالتعليل بالفقر في النهي عن قتل الأولاد بمعنى النهي في غير ذلك يعلم بالطريق الأولى فيثبت بدلالة النص والشرط والعلة في مثله مما لا مفهوم له، أو على أن الشرط للمخاطب. وحاصل المعنى لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ إلخ شارطا يساره لأن إطاعة الكافر لغناه بمنزلة اشتراط غناه في الطاعة. وفيه تنزيل المخاطب منزلة من شرط ذلك وحققه زيادة للإلهاب والثبات، وتعريضا بمن يحسب الغنى مكرمة. والظاهر أن الجملة الشرطية بعد استئناف وقيل: هذا مما اجتمع فيه شرطان وليسا من الشروط المترتبة الوقوع فالمتأخر لفظا هو المتقدم، والمتقدم لفظا هو شرط في الثاني فهو كقوله:
فإن عثرت بعدها إن وألت ... نفسي من هاتا فقولا لا لعا

(15/32)


وقرأ الحسن «أئذا» على الاستفهام وهو استفهام تقريع وتوبيخ على قوله أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ سَنَسِمُهُ سنجعل له سمة وعلامة عَلَى الْخُرْطُومِ أي على الأنف وهو من باب إطلاق مشفر على شفة غليظة لإنسان كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى، وعبر بذلك عن غاية الإذلال لأن السمة على الوجه شين حتى أنه صلّى الله عليه وسلم نهى عنه في الحيوانات ولعن فاعله فكيف على أكرم موضع منه وهو الأنف لتقدمه، وقد قيل الجمال في الأنف وعليه قول بعض الأدباء:
وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطل ... فكيف إذا ما الخال كان له حليا
وجعلوه مكان العزة والحمية واشتقوا منه الأنفة وقالوا: الأنف في الأنف وحمى أنفه وفلان شامخ العرنين.
وقالوا في الذليل: جدع أنفه ورغم أنفه ومنه قول جرير:
لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
وفي لفظ الْخُرْطُومِ استهانة لأنه لا يستعمل إلّا في الفيل والخنزير، ففي التعبير عن الأنف بهذا الاسم ترشيح لما دل عليه الوسم على العضو المخصوص من الإذلال والمراد سنهينه في الدنيا ونذله غاية الإذلال، وكون الوعيد المذكور في الدنيا هو المروي عن قتادة وذهب إليه جمع إلّا أنهم قالوا: المعنى سنفعل به في الدنيا من الذم والمقت والاشتهار بالشر ما يبقى فيه ولا يخفى، فيكون ذلك كالوسم على الأنف ثابتا بيّنا كما تقول: سأطوقك طوق الحمامة أي أثبت لك الأمر بيّنا فيك، وزاد ذلك حسنا ذكر الْخُرْطُومِ انتهى. وبينه وبين ما تقدم فرق لا يخفى وقال بعض: هو في الآخرة، ومن القائلين بأن هذا وعيد بأمر يكون فيها من قال هو تعذيب بنار على أنفه في جهنم وحكي ذلك عن المبرد وقال آخرون منهم يوسم يوم القيامة على أنفه بسمة يعرف بها كفره وانحطاط قدره. وقال أبو العالية ومقاتل واختاره الفراء المراد يسود وجهه يوم القيامة قبل دخول النار، وذكر الْخُرْطُومِ والمراد الوجه مجازا ومن القائلين بأنه يكون في الدنيا من قال هو وعيد بما أصابه يوم بدر فإنه خطم فيه بالسيف فبقيت سمة على خرطومه، وروي هذا عن ابن عباس، والمعروف في كتب السير والأحاديث أن أبا جهل قتل يوم بدر والباقين ما عدا الحكم ماتوا قبله فلم يسم أحد منهم بذلك الوسم، وكذا الحكم لم يعلم أنه وسم بذلك وإن كان لم يمت قبل. وعن النضر بن شميل أن الخرطوم الخمر وأنشد:
تظل يومك في لهو وفي لعب ... وأنت بالليل شراب الخراطيم
وإن المعنى سنحده على شربها وتعقب بأنه تنفيه الرواية بأنه أولئك الكفرة هلكوا قبل تحريم الخمر ما عدا الحكم وهو لم يثبت أنه حد على أنهم لم يكونوا ملتزمي الأحكام والدراية أيضا لتعقيد اللفظ وفوات فخامة المعنى إِنَّا بَلَوْناهُمْ أي أصبنا أهل مكة ببلية وهي القحط بدعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم
وقوله: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف»
كَما بَلَوْنا أي مثل ما بلونا، فالكاف في محل نصب صفة مصدر مقدر و (ما) مصدرية وقيل بمعنى الذي أي كالبلاء الذي بلوناه أَصْحابَ الْجَنَّةِ المعروف خيرها عندهم كانت بأرض اليمن بالقرب منهم قريبا من صنعاء لرجل كان يؤدي حق الله تعالى منها فمات فصارت إلى ولده فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله تعالى منها، فكان ما ذكره الله تعالى وكانت على ما أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جرير بأرض في اليمن يقال لها صوران بينها وبين صنعاء ستة أميال. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس هم ناس من الحبشة كانت لأبيهم جنة وكان يطعم منها المساكين فمات فقال

(15/33)


بنوه: إن كان أبونا لأحمق حين يطعم المساكين فأقسموا على أن لا يطعموا منها مسكينا. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال: كانت لشيخ من بني إسرائيل وكان يمسك قوت سنته ويتصدق بالفضل، وكان بنوه ينهونه عن الصدقة فلما مات أقسموا على منع المساكين. وفي رواية أنها كانت لرجل صالح على فرسخين من صنعاء وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل وما في أسفل الأكداس وما أخطأه القطاف من العنب وما بقي على البساط تحت النخلة إذا صرمت فكان يجتمع لهم شيء كثير فلما مات قال بنوه: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال فحلفوا ليصرمنها وقت الصباح خفية عن المساكين كما قال عز وجل إِذْ أَقْسَمُوا معمول لبلونا لَيَصْرِمُنَّها ليقطعن من ثمارها بعد استوائها مُصْبِحِينَ داخلين في الصباح وهذا حكاية لقسمهم لا على منطوقهم وإلا لقيل لنصرمنها بنون المتكلمين وكلا الأمرين جائز في مثله وَلا يَسْتَثْنُونَ قيل أي ولا يقولون إن شاء الله وتسميته استثناء مع أنه شرط من حيث إن مؤداه مؤدى الاستثناء، فإن قولك لأخرجن إن شاء الله تعالى ولا أخرج إلا أن يشاء الله تعالى بمعنى واحد. وقال الإمام أصل الاستثناء من الثني وهو الكف والرد وفي التقييد بالشرط رد لانعقاد ذلك اليمين فإطلاقه عليه حقيقة وقيل أي ولا ينثنون عما هموا به من منع المساكين والظاهر على القولين عطفه على أَقْسَمُوا فمقتضى الظاهر وما استثنوا وكأنه إنما عدل عنه إليه استحضار للصورة لما فيها من نوع غرابة لأن اللائق في الحلف على ما يلزم منه ترك طاعة الاستثناء، وفي الكشف هو حال أي غير مستثنين وفي العدول إلى المضارع نوع تعبير وتنبيه على مكان خطئهم، وفيه رمز إلى ما ذكرنا وقيل: المعنى ولا يستثنون حصة المساكين كما كان يخرج أبوهم وعليه هو معطوف على قوله تعالى لَيَصْرِمُنَّها ومقسم عليه أو على قوله سبحانه مُصْبِحِينَ الحال وهو معنى لا غبار عليه فَطافَ عَلَيْها أي أحاط نازلا على الجنة طائِفٌ أي بلاء محيط فهو صفة لمحذوف، وقول قتادة طائِفٌ أي عذاب بيان لحاصل المعنى ونحوه قول ابن عباس أي أمر وعن الفراء تخصيص الطائف بالأمر الذي يأتي بالليل وكان ذلك على ما قال ابن جريج عنقا من نار خرج من وادي جنتهم وقيل: الطائف هو جبريل عليه السلام اقتلعها وطاف بها حول البلد ثم وضعها قرب مكة حيث مدينة الطائف اليوم ولذلك سميت بالطائف وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الماء والشجر والأعناب غيرها ولا يصح هذا عندي كالقول بأن الطائف المدينة المذكورة كانت بالشام فنقلها الله تعالى إلى الحجاز بدعوة إبراهيم عليه السلام وكذا القول بأنها طافت على الماء في الطوفان ولو قيل كل ذلك على ظاهره حديث خرافة لا يعد حديث خرافة وقرأ النخعي «طيف» مِنْ رَبِّكَ مبتدىء من جهته عز وجل وَهُمْ نائِمُونَ في موضع الحال والمراد أتاها ليلا كما روي عن قتادة. وقيل المراد وهم غافلون غفلة تامة عما جرت به المقادير والأول أظهر من جهة السباق واللحاق فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ كالبستان الذي صرمت ثماره بحيث لم يبق فيها شيء ففعيل بمعنى مفعول وقال ابن عباس: كالرماد الأسود وهو بهذا المعنى لغة خزيمة، وعنه أيضا الصريم رملة باليمن معروفة لا تنبت شيئا. وقال مؤرج كالرملة انصرمت من معظم الرمل وهي لا تنبت شيئا ينفع وقال منذر والفراء وجماعة: الصريم الليل، والمراد أصبحت محترقة تشبه الليل في السواد وقال الثوري:
كالصبح من حيث ابيضت كالزرع المحصود وقال بعضهم يسمى كل من الليل والنهار صريما لانصرام كل عن صاحبه وانقطاعه عنه فَتَنادَوْا نادى بعضهم بعضا مُصْبِحِينَ لقسمهم السابق أَنِ اغْدُوا أي اخرجوا على أن أَنِ تفسيرية واغْدُوا بمعنى اخرجوا، أو بأن اغدوا على أن أَنِ مصدرية وقبلهما حرف جر مقدر وهي يجوز أن توصل بالأمر على الأصح عَلى حَرْثِكُمْ أي بستانكم إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ أي

(15/34)


فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)

قاصدين للصرم وقطع الثمار فاغدوا، وقيل يحتمل أن يكون المراد إن كنتم أهل عزم وإقدام على رأيكم من قولهم سيف صارم وليس بذاك. وظاهر كلام جار الله أن غدا بمعنى بكر يتعدى بإلى وعدي هاهنا بعلى لتضمين الغد، ومعنى الإقبال كما في قولهم يغدى عليه بالجفنة ويراح أي فأقبلوا على حرثكم باكرين ويجوز أن يكون من غدا عليه إذا غار بأن يكون قد شبه غدوهم لقطع الثمار بغدو الجيش على شيء لأن معنى الاستعلاء والاستيلاء موجود فيه وهو الصرم والقطع، ويكون هناك استعارة تبعية وجوز أن تعتبر الاستعارة تمثيلية وقال أبو حيان الذي في حفظي أن غدا يتعدى بعلى كما في قوله:
وقد نغدو على ثبة كرام ... نشاوى واجدين لما نشاء
وكذا بكر مرادفه كما في قوله:
بكرت عليه غدوة فرأيته ... قعودا لديه بالصريم عواذله

فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أي يتشاورون فيما بينهم بطريق المخافتة، وخفى بفتح الفاء وخفت وخفد ثلاثتها في معنى الكتم ومنه الخفدود للخفاش والخفود للناقة التي تلقي ولدها قبل أن يستبين خلقه أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ أي الجنة عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ أن مفسرة لما في التخافت من معنى القول أو مصدرية، والتقدير بأن ويؤيد الأول قراءة عبد الله وابن أبي عبلة بإسقاطها، وعليه قيل هو بتقدير القول وقيل العامل فيه يَتَخافَتُونَ لتضمنه معنى القول وهو المذهب الكوفي فيه وفي أمثاله، وأيّا ما كان فالمراد بنهي المسكين عن الدخول المبالغة في النهي عن تمكينه منه كقولهم لا أرينك هاهنا وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ أي منع كما قال

(15/35)


أبو عبيد وغيره من قولهم حاردت الإبل إذا قّلت ألبانها وحاردت السنة قل مطرها وخيرها والجار متعلق بقوله تعالى قادِرِينَ قدم للحصر ورعاية الفواصل أي وغدوا قادرين على منع لا غير والمعنى أنهم عزموا على منع المساكين وطلبوا حرمانهم ونكدهم وهم قادرون على نفعهم فغدوا بحال لا يقدرون فيها إلّا على المنع والحرمان، وذلك أنهم طلبوا حرمان المساكين فتعجلوا الحرمان أو غدوا على محاردة جنتهم وذهاب خيرها بدل كونهم قادرين على إصابة خيرها ومنافعها أي غدوا حاصلين على حرمان أنفسهم مكان كونهم قادرين على الانتفاع، والحصر على الأول حقيقي وعلى هذا إضافي بالنسبة إلى انتفاعهم من جنتهم والحرمان عليه خاص بهم، وجوز أن يكون عَلى حَرْدٍ متعلقا بغدوا، والمراد بالحرد حرد الجنة جيء به مشاكلة للحرث كأنه لما قالوا اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ وقد خبثت نيتهم عاقبهم الله تعالى بأن حاردت جنتهم وحرموا خيرها فلم يغدوا على حرث وإنما غدوا على حرد وقادِرِينَ من عكس الكلام للتهكم أي قادرين على ما عزموا عليه من الصرام وحرمان المساكين. وقيل الحرد الحرد بفتح الراء وقد قرىء به وهو بمعنى الغيظ والغضب كما قال أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي وأنشد:
إذا جياد الخيل جاءت تردي ... مملوءة من غضب وحرد
أي لم يقدروا إلّا على إغضاب بعضهم لبعض كقوله تعالى فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ [القلم: 30] وروي هذا عن سفيان والسدي والحصر حقيقي ادعائي أو إضافي. وقيل بمعنى القصد والسرعة وأنشد:
أقبل سيل جاء من أمر الله ... يحرد حرد الجنة المغلة
أي غدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين عند أنفسهم على صرامها وروي هذا عن ابن عباس ف عَلى حَرْدٍ ظرف مستقر حال من ضمير غَدَوْا وقادِرِينَ حال أيضا إلّا أنها حال مقدرة على ما قيل وقيل حال حقيقية بناء على القيد بعند أنفسهم وإنما قيد به لأن ثمار جنتهم هالكة فلا قدرة لهم على صرامها وقد فنيت: وقال الأزهري حَرْدٍ اسم قريتهم وفي رواية عن السدي اسم جنتهم ولا أظن ذلك مرادا وقيل الحرد الانفراد يقال: حرد عن قومه إذا تنحى عنهم ونزل منفردا وكوكب حرود معتزل عن الكواكب والمعنى وغدوا إلى جنتهم منفردين عن المساكين ليس أحد منهم معهم قادرين على صرامها وهو من باب التهكم، وقيل قادرين على هذا القول من التقدير بمعنى التضييق أي مضيقين على المساكين إذ حرموهم ما كان أبوهم ينيلهم منها وهو حال مقدرة فَلَمَّا رَأَوْها أول ما وقع نظرهم عليها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ طريق جنتنا وما هي بها قاله قتادة: وقيل لَضَالُّونَ عن الصواب في غدونا على نية منع المساكين وليس بذاك بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قالوه بعد ما تأملوا ووقفوا على حقيقة الأمر مضربين عن قولهم الأول أي لسنا ضالين بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ حرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا قالَ أَوْسَطُهُمْ أي أحسنهم وأرجحهم عقلا ورأيا أو أوسطهم سنا أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ أي لولا تذكرون الله تعالى وتتوبون إليه من خبث نيتكم وقد كان قال لهم حين عزموا على ذلك اذكروا الله تعالى وتوبوا إليه عن هذه النية الخبيثة من فوركم وسارعوا إلى حسم شرها قبل حلول النقمة فعصوه فعيرهم ويدل على هذا المعنى قوله تعالى قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ لأن التسبيح ذكر الله تعالى وإِنَّا كُنَّا إلخ ندامة واعتراف بالذنب فهو توبة، والظاهر أنهم إنما تكلموا بما كان يدعوهم إلى التكلم به على أثر مقارفة الخطيئة ولكن بعد خراب البصرة، وقيل المراد بالتسبيح الاستثناء

(15/36)


لالتقائهما في معنى التعظيم لله عز وجل لأن الاستثناء تفويض إليه سبحانه والتسبيح تنزيه له تعالى وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم فكأنه قيل ألم أقل لكم لولا تستثنون أي تقولون إن شاء الله تعالى. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي وابن المنذر عن ابن جريج وحكاه في البحر عن مجاهد وأبي صالح أنهما قالا كان استثناؤهم في ذلك الزمان التسبيح كما نقول نحن إن شاء الله تعالى وجعله بعض الحنفية استثناء اليوم فعنده لو قال لزوجته أنت طالق سبحان الله لا تطلق، ونسب إلى الإمام ابن الهمام وادعى أنه قاله في فتاويه، ووجه بأن المراد بسبحان الله فيما ذكر أنزه الله عز وجل من أن يخلق البغيض إليه وهو الطلاق فإنه قد ورد أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق وأنكر بعض المتأخرين نسبته إلى ذلك الإمام المتقدم ونفى أن يكون له فتاوى.
واعترض التوجيه المذكور بما اعترض وهو لعمري أدنى من أن يعترض عليه. وأنا أقول أولى منه قول النحاس في توجيه جعل التسبيح موضع الاستثناء أن المعنى تنزيه الله تعالى أن يكون شيء إلا بمشيئته وقد يقال: لعل من قال ذلك بنى الأمر على صحة ما روي وإن شرع من قبلنا شرع لنا إذا قصه الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم علينا من غير نكير وهذا على علاته أحسن مما قيل في توجيهه كما لا يخفى. وقيل: المعنى لولا تستغفرون ووجه التجوز يعلم مما تقدم فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ يلوم بعضهم بعضا فإن منهم على ما قيل من أشار بذلك ومنهم من استصوبه ومنهم من سكت راضيا به ومنهم من أنكره ولا يأبى ذلك إسناد الأفعال فيما سبق إلى جميعهم لما علم في غير موضع قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ متجاوزين حدود الله تعالى عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا أي يعطينا بدلا منها ببركة التوبة والاعتراف بالخطيئة خَيْراً مِنْها أي من تلك الجنة إِنَّا إِلى رَبِّنا لا إلى غيره سبحانه راغِبُونَ راجون العفو طالبون الخير وإِلى لانتهاء الرغبة أو لتضمنها معنى الرجوع وعن مجاهد أنهم تابوا فأبدلوا خيرا منها وروي أنهم تعاقدوا وقالوا إن أبدلنا الله تعالى خير منها لنصنعن كما صنع أبونا فدعوا الله عز وجل وتضرعوا إليه سبحانه فأبدلهم الله تعالى من ليلتهم ما هو خير منها وقال ابن مسعود: بلغني أن القوم دعوا الله تعالى وأخلصوا وعلم الله تعالى منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل على البغل منها عنقود وقال أبو خالد اليماني رأيت تلك الجنة وكل عنقود منها كالرجل الأسود القائم واستظهر أبو حيان أنهم كانوا مؤمنين أصابوا معصية وتابوا، وحكي عن بعض أنهم كانوا من أهل الكتاب وعن التستري أن المعظم يقولون إنهم تابوا وأخلصوا وتوقف الحسن في إيمانهم فقال: لا أدري أكان قولهم إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ إيمانا أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة. وسئل قتادة عنهم أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال للسائل: لقد كلفتني تعنتا وقرأ نافع وأبو عمرو «يبدلنا» مشددا كَذلِكَ الْعَذابُ جملة من مبتدأ وخبر مقدم لإفادة القصر وال للعهد أي مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة من الجدب الشديد وأصحاب الجنة مما قص عذاب الدنيا، والكلام قيل وارد تحذيرا لهم كأنه لما نهاه سبحانه عن طاعة الكفار وخاصة رؤسائهم ذكر عز وجل أن تمردهم لما أتوه من المال والبنين وعقب جل وعلا بأنهما إذا لم يشكرا المنعم عليهما يؤول حال صاحبهما إلى حال أصحاب الجنة مدمجا فيه أن خبث النية والزوي عن المساكين إذا أفضى بهم إلى ما ذكر فمعاندة الحق تعالى بعناد من هو على خلقه وأشرف الموجودات وقطع رحمه أولى بأن يفضي بأهل مكة إلى البوار وقوله تعالى وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ أي أعظم وأشد تحذير عن العناد بوجه أبلغ وقوله سبحانه لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ نعى عليهم بالغفلة أي لو كانوا من أهل العلم لعلموا أنه أكبر ولأخذوا منه حذرهم إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ أي من الكفر كما في البحر أو منه ومن المعاصي كما في الإرشاد عِنْدَ رَبِّهِمْ أي في الآخرة فإنها مختصة به عز وجل إذ لا يتصرف فيها غيره جل

(15/37)


جلاله أو في جوار قدسه جَنَّاتِ النَّعِيمِ جنات ليس فيها إلا النعيم الخالص عن شائبة ما ينغصه من الكدورات وخوف الزوال وأخذ الحصر من الإضافة إلى النَّعِيمِ لإفادتها التميز من جنات الدنيا لغالب عليها النغص:
طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفوا من الأقذار والأكدار
وقوله تعالى أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ تقرير لما قبله من فوز المتقين ورد لما يقوله الكفرة عند سماعهم بحديث الآخرة وما وعد الله تعالى إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد صلّى الله عليه وسلم ومن معه لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا وإلّا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا، وأقصى أمرهم أن يساوونا والهمزة للإنكار والفاء للعطف والعطف على مقدر يقتضيه المقال أي فيحيف في الحكم الحكم فيجعل المسلمين كالكافرين ثم قيل لهم بطريق الالتفات لتأكيد الرد وتشديده ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ تعجبا من حكمهم واستبعادا له وإيذانا بأنه لا يصدر من عاقل إذ معنى ما لَكُمْ أي شيء حصل لكم من خلل الفكر وفساد الرأي أَمْ لَكُمْ كِتابٌ نازل من السماء فِيهِ أي في الكتاب والجار متعلق بقوله تعالى تَدْرُسُونَ أي تقرءون فيه والجملة صفة كتاب وجوز أن يكون فيه متعلقا بمتعلق الخبر أو هو الصفة والضمير للحكم أو الأمر وتَدْرُسُونَ مستأنف أو حال من ضمير الخطاب وقوله تعالى إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ أي للذي تختارونه وتشتهونه يقال: تخير الشيء واختاره أخذ خيره وشاع في أخذ ما يريده مطلقا مفعول تَدْرُسُونَ إذ هو المدروس فهو واقع موقع المفرد وأصله أن لكم فيه ما تخيرون بفتح همزة «أن» وترك اللام في خبرها فلما جيء باللام كسرت الهمزة وعلق الفعل عن العمل ومن هنا قيل إنه لا بد من تضمين تَدْرُسُونَ معنى العلم ليجري فيه العمل في الجمل والتعليق وجوز أن يكون هذا حكاية للمدروس كما هو عليه فيكون بعينه لفظ الكتاب من غير تحويل من الفتح للكسر وضمير فِيهِ على الأول للكتاب وأعيد للتأكيد وعلى هذا يعود لأمرهم أو للحكم فيكون محصل ما خط في الكتاب أو الحكم أو الأمر مفوض لهم فسقط قول صاحب التقريب أن لفظ فِيهِ لا يساعده للاستغناء بفيه أولا من غير حاجة إلى جعل ضمير فِيهِ ليوم القيامة بقرينة المقام أو للمكان المدلول عليه بقوله تعالى عِنْدَ رَبِّهِمْ وعلى الاستئناف هو للحكم أيضا وجوز الوقف على تَدْرُسُونَ على أن قوله تعالى إِنَّ لَكُمْ إلخ استئناف على معنى إن كان لكم كتاب فلكم فيه ما تتخيرون وهو كما ترى. والظاهر أن أَمْ لَكُمْ إلخ مقابل لما قبله نظرا لحاصل المعنى إذ محصله أفسد عقلكم حتى حكمتكم بهذا أم جاءكم كتاب فيه تخييركم وتفويض الأمر إليكم وقرأ طلحة والضحاك «أن لكم» بفتح الهمزة واللام في لَما زائدة كقراءة من قرأ «الا انهم ليأكلون الطعام» (1) بفتح همزة أنهم وقرأ الأعرج «أن لكم» بالاستفهام على الاستئناف أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا أي إقسام، وفسرت بالعهود وإطلاق الإيمان عليها من إطلاق الجزء على الكل أو اللازم على الملزوم بالِغَةٌ أي أقصى ما يمكن، والمراد متناهية في التوكيد. وقرأ الحسن وزيد بن علي «بالغة» بالنصب على الحال من الضمير المستتر في عَلَيْنا أو لَكُمْ وقال ابن عطية من إيمان لتخصيصها بالوصف وفيه بعد إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ متعلق بالمقدر في لَكُمْ أي ثابتة لكم إلى يوم القيامة لا نخرج عن عهدتها إلا يومئذ إذا حكمناكم وأعطيناكم ما تحكمون أو
__________
(1) سورة الفرقان، الآية: 20.

(15/38)


متعلق ببالغة أي إيمان تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه وافرة لم يبطل منها يمين فإلى على الأول لغاية الثبوت المقدر في الظرف فهو كأجل الدين وعلى الثاني لغاية البلوغ فهي قيد اليمين أي يمينا مؤكدا لا ينحل إلى ذلك اليوم وليس من تأجيل المقسم عليه في شيء إذ لا مدخل لبالغة في المقسم عليه فتأمل وقوله تعالى إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ جواب القسم لأن معنى أم لكم إيمان علينا أم أقسمنا لكم وهو جار على تفسير الإيمان بمعنى العهود لأن العهد كاليمين من غير فرق فيجاب بما يجاب به القسم وقرأ الأعرج «آن لكم» بالاستفهام أيضا سَلْهُمْ تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بإسقاطهم عن رتبة الخطاب أي سلهم مبكتا لهم أَيُّهُمْ بِذلِكَ الحكم الخارجي عن دائرة العقول زَعِيمٌ قائم يتصدى لتصحيحه، والجملة الاستفهامية في موضع المعمول الثاني لسل والفعل عند أبي حيان وجماعة معلق عنها لمكان الاستفهام، وكون السؤال منزلا منزلة العلم لكونه سببا لحصوله أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهم فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ في دعواهم إذ لا أقل من التقليد، وقد نبه سبحانه وتعالى في هذه الآيات على نفي جميع ما يمكن أن يتعلقوا به في تحقيق دعواهم حيث نبه جل شأنه على نفي الدليل العقلي بقوله تعالى ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وعلى نفي الدليل النقلي بقوله سبحانه أَمْ لَكُمْ كِتابٌ إلخ وعلى نفي أن يكون الله تعالى وعدهم بذلك ووعد الكريم دين بقوله سبحانه أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا إلخ وعلى نفي التقليد الذي هو أوهن من حبال القمر بقوله عز وجل أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ وقيل المعنى أم لهم آلهة عدوها شركاء في الألوهية تجعلهم كالمسلمين في الآخرة. وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة «فليأتوا بشركهم» والمراد به ما أريد بشركائهم يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ متعلق بقوله تعالى فَلْيَأْتُوا على الوجهين ويجوز تعلقه بمقدر كاذكر أو يكون كيت وكيت وقيل بخاشعة وقيل بترهقهم وأيّا ما كان فالمراد بذلك اليوم عند الجمهور يوم القيامة، والساق ما فوق القدم وكشفها والتشمير عنها مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب حتى أنه يستعمل بحيث لا يتصور ساق بوجه كما في قول حاتم:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وقول الراجز:
عجبت من نفسي ومن إشفاقها ... ومن طواء الخيل عن أرزاقها

في سنة كشفت عن ساقها ... حمراء تبري اللحم عن عراقها
وأصله تشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب فإنهن لا يفعلن ذلك إلّا إذا عظم الخطب واشتد الأمر فيذهلن عن الستر بذيل الصيانة، وإلى نحو هذا ذهب مجاهد وإبراهيم النخعي وعكرمة وجماعة وقد روي أيضا عن ابن عباس أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عنه أنه سئل عن ذلك فقال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب أما سمعتم قول الشاعر:
صبرا عناق إنه شر باق ... قد سن لي قومك ضرب الأعناق

وقامت الحرب بنا على ساق

والروايات عنه رضي الله تعالى عنه بهذا المعنى كثيرة وقيل: ساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر وساق الإنسان والمراد يوم يكشف عن أصل الأمر فتظهر حقائق الأمور وأصولها بحيث تصير عيانا وإليه يشير كلام الربيع بن أنس فقد أخرج عبد بن حميد عنه أنه قال في ذلك يوم يكشف الغطاء وكذا ما أخرجه

(15/39)


البيهقي عن ابن عباس أيضا قال حين يكشف الأمر وتبدو الأعمال وفي الساق على هذا المعنى استعارة تصريحية وفي الكشف تجوز آخر أو هو ترشيح للاستعارة باق على حقيقته وتنكير ساقٍ قيل للتهويل على الأول وللتعظيم على الثاني. وقيل لا ينظر إلى شيء منهما على الأول لأن الكلام عليه تمثيل وهو لا ينظر فيه للمفردات أصلا وذهب بعضهم إلى أن المراد بالساق ساقه سبحانه وتعالى وأن الآية من المتشابه. واستدل على ذلك بما
أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا»
وأنكر ذلك سعيد بن جبير أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أنه سئل عن الآية فغضب غضبا شديدا وقال: «إن أقواما يزعمون أن الله سبحانه يكشف عن ساقه وإنما يكشف عن الأمر الشديد» وعليه يحمل ما في الحديث على الأمر الشديد أيضا وإضافته إليه عز وجل لتهويل أمره وأنه أمر لا يقدر عليه سواه عز وجل وأرباب الباطن من الصوفية يقولون بالظاهر ويدعون أن ذلك عند التجلي الصوري وعليه حملوا أيضا ما
أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده والطبراني والدارقطني في الرؤية والحاكم وصححه وابن مردويه وغيرهم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجمع الله الناس يوم القيامة وينزل الله في ظلل من الغمام فينادي مناد يا أيها الناس ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم وصوركم ورزقكم أن يولي كل إنسان منكم ما كان يعبد في الدنيا ويتولى أليس ذلك عدلا من ربكم قالوا: بلى قال: «فلينطلق كل إنسان منكم إلى ما كان يتولى في الدنيا ويتمثل لهم ما كانوا يعبدون في الدنيا ويمثل لمن كان يعبد عيسى عليه السلام شيطان عيسى وكذا يمثل لمن كان يعبد عزيرا حتى تمثل لهم الشجرة والعود والحجر ويبقى أهل الإسلام جثوما فيتمثل لهم الرب عز وجل فيقال لهم ما لكم لم تنطلقوا كما انطلق الناس فيقولون: إن لنا ربا ما رأيناه بعد فيقول فبم تعرفون ربكم إن رأيتموه؟ قالوا: بيننا وبينه علامة إن رأيناه عرفناه، قال: وما هي؟ قالوا يكشف عن ساق فيكشف عند ذلك» . الحديث
وهو ونظائره من المتشابه عند السلف. وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة يكشف بفتح الياء مبينا للفاعل وهي رواية عن ابن عباس وقرأ ابن هرمز «نكشف» بالنون وقرىء «يكشف» بالياء التحتية مضمونة وكسر الشين من أكشف إذا دخل في الكشف ومنه اكشف الرجل فهو مكشف انقلبت شفته العليا. وقرىء «تكشف» بالتاء الفوقية والبناء للفاعل وهو ضمير الساعة المعلومة من ذكر يوم القيامة أو الحال المعلومة من دلالة الحال وبها والبناء للمفعول وجعل الضمير للساعة أو الحال أيضا وتعقب بأنه يكون الأصل حينئذ يكشف الله الساعة عن ساقها مثلا ولو قيل ذلك لم يستقم لاستدعائه إبداء الساق وإذهاب الساعة كما تقول: كشفت عن وجهها القناع والساعة ليست سترا على الساق حتى تكشف، وأجيب أنها جعلت سترا مبالغة لأن المخدرة تبالغ في الستر جهدها فكأنها نفس الستر فقيل تكشف الساعة وهذا كما تقول كشفت زيدا عن جهله إذا بالغت في إظهار جهله لأنه كان سترا على جهله يستر معايبه فأبنته وأظهرته إظهارا لم يخف على أحد. وقيل عليه إن الإذهاب حينئذ ادعائي ولا يخفى ما فيه من التكلف ولا عبرة بما ذكر من المثال المصنوع وأقل تكلفا منه جعل عَنْ ساقٍ بدل اشتمال من الضمير المستتر في الفعل بعد نزع الخافض منه.
والأصل يكشف عنها أي عن الساعة أو الحال فنزع الخافض واستتر الضمير وتعقب بأن إبدال الجار والمجرور من الضمير المرفوع لا يصح بحسب قواعد العربية فهو ضغث على إبالة وتكلف على تكلف وقيل إن عَنْ ساقٍ نائب الفاعل وتعقب بأن حق الفعل التذكير كصرف عن هند ومر بدعد وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ توبيخا وتعنيفا على تركهم إياه في الدنيا وتحسيرا لهم على تفريطهم في ذلك فَلا يَسْتَطِيعُونَ لزوال القدرة

(15/40)


عليه وفيه دلالة على أنهم يقصدونه فلا يتأتى منهم، وعن ابن مسعود تعقم أصلابهم أي ترد عظاما بلا مفاصل لا تنثني عند الرفع والخفض وتقدم في حديث البخاري ومن معه ما سمعت وفي حديث تصير أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظما واحدا. والظاهر أن الداعي الله تعالى أو الملك وقيل هو ما يرونه من سجود المؤمنين واستدل أبو مسلم بهذه الآية على أن يوم الكشف في الدنيا قال لأنه تعالى قال ويدعون إلى السجود ويوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف فيراد منه إما آخر أيام الشخص في دنياه حين يرى الملائكة وإما وقت المرض والهرم والمعجزة ويدفع بما أشرنا إليه خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ حال من مرفوع يُدْعَوْنَ على أن أبصارهم مرتفع شديدة وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ في الدنيا والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير، أو لأن المراد به الصلوات المكتوبة كما قال النخعي والشعبي أو جميع الطاعات كما قيل. والدعوة دعوة التكليف وقال ابن عباس وابن جبير: كانوا يسمعون الأذان والنداء للصلاة فلا يجيبون وَهُمْ سالِمُونَ متمكنون منه أقوى تمكن أي فلا يجيبون إليه ويأبونه وترك ذكر هذا ثقة بظهوره فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ أي إذا كان حالهم ما سمعت فكل من يكذب بالقرآن إليّ واستكفنيه فإن في ما يفرغ بالك ويخلي همك وهو من بليغ الكلام يفيد أن المتكلم واثق بأنه يتمكن من الوفاء بأقصى ما يدور حول أمنية المخاطب وبما يزيد عليه، وقد حققه جار الله بما حاصله أن من استكفى أحدا ترك الأمر إليه وإلا كان استعانة لا استكفاء فأقيم الرادف أعني التخلية وإن يذره وإياه مقام الاستكفاء مبالغة وإنباء عن الكفاية البالغة كيف وهذا الكافي طلب الاستكفاء وقيل: قوله (ذرني) وأبرز ترك الاستكفاء في صورة المنع مبالغة على مبالغة فلو لم يكن شديد الوثوق بتمكنه من الوفاء أقصى التمكن وفوق ما يحوم حول خاطر المستكفي لما كان للطلب على هذا الوجه إلّا بلغ وجه ومَنْ في موضع نصب إما عطفا على المنصوب في (ذرني) أو على أنه مفعول معه وقوله تعالى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ استئناف مسوق لبيان كيفية التعذيب المستفاد من الكلام السابق إجمالا والضمير لمن والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في يُكَذِّبُ باعتبار لفظها أي سنستنزلهم إلى العذاب درجة فدرجة بالإمهال وإدامة الصحة وازدياد النعمة مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ أنه استدراج بل يزعمون أن ذلك إيثار لهم وتفضل على المؤمنين مع أنه سبب لهلاكهم وَأُمْلِي لَهُمْ وأمهلهم ليزدادوا إثما وهم يزعمون أن ذلك لإرادة الخير بهم إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ لا يدفع بشيء وتسمية ذلك كيدا وهو ضرب من الاحتيال لكونه في صورته حيث إنه سبحانه يفعل معهم ما هو نفع لهم ظاهرا ومراده عز وجل به الضرر لما علم من خبث جبلتهم وتماديهم في الكفر والكفران أَمْ تَسْأَلُهُمْ على الإبلاغ والإرشاد أَجْراً دنيويا فَهُمْ لأجل ذلك مِنْ مَغْرَمٍ أي غرامة مالية مُثْقَلُونَ مكلفون حملا ثقيلا فيعرضون عنك وهذه الجملة على ما قاله ابن الشيخ معطوفة على قوله تعالى أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أي المغيبات أو للوح وأطلق الْغَيْبُ عليه مجازا لأنه محل لكتابة المغيبات أو لظهور صورها بناء على الخلاف المعروف فيه والقرينة فَهُمْ يَكْتُبُونَ ما يحكمون به ويستعنون بذلك عن علمك فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم. روي أنه صلّى الله عليه وسلم أراد أن يدعو على ثقيف لما آذوه حين عرض عليه الصلاة والسلام نفسه على القبائل بمكة فنزلت وقيل أراد عليه الصلاة والسلام أن يدعو على الذين انهزموا بأحد حين اشتد بالمسلمين الأمر فنزلت وعليه تكون الآية مدنية وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ هو يونس عليه السلام كما أنه المراد من ذي النون إلّا أنه فرق بين ذي
وصاحب بأن «ذي» أبلغ من صاحب قال ابن حجر لاقتضائها تعظيم المضاف إليها والموصوف بها بخلافه ومن ثم قال سبحانه في معرض مدح يونس عليه السلام وَذَا النُّونِ [الأنبياء: 87]

(15/41)


والنهي عن اتباعه وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ ذا النون لكونه جعل فاتحة سورة أفخم وأشرف من لفظ الحوت ونقل مثل ذلك السرميني عن العلامة السهيلي وفرق بعضهم بغير ذلك مما هو مذكور في حواشينا على رسالة ابن عصام في علم البيان إِذْ نادى في بطن الحوت وَهُوَ مَكْظُومٌ أي مملوء غيظا على قومه إذ لم يؤمنوا لما دعاهم إلى الإيمان وهو من كظم السقاء إذا ملأه ومن استعماله بهذا المعنى قول ذي الرمة:
وأنت من حب ميّ مضمر حزنا ... عاني الفؤاد قريح القلب مكظوم
والجملة حال من ضمير نادى وعليها يدور النهي لا على النداء فإنه آمر مستحسن ولذا لم يذكر المنادى وإِذْ منصوب بمضاف محذوف أي لا يكن حالك كحاله وقت ندائه أي لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة فتبتلي بنحو بلائه عليه السلام لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ وهو توفيقه للتوبة وقبولها منه وقرىء «رحمة» وتذكير الفعل على القراءتين لأن الفاعل مؤنث مجازي مع الفصل بالضمير. وقرأ عبد الله وابن عباس «تداركته» بتاء التأنيث وقرأ ابن هرمز والحسن والأعمش «تدّاركه» بتشديد الدال وأصله تتداركه فأبدل التاء دالا وأدغمت الدال في الدال والمراد حكاية الحال الماضية على معنى لولا أن كان يقال فيه تتداركه لَنُبِذَ بِالْعَراءِ بالأرض الخالية من الأشجار أي في الدنيا، وقيل بعراء القيامة لقوله تعالى فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات: 143، 144] ولا يخفى بعده وَهُوَ مَذْمُومٌ في موضع الحال من مرفوع نبذ وعليها يعتمد جواب لَوْلا لأن المقصود امتناع نبذه مذموما وإلا فقد حصل النبذ فدل على أن حاله كانت على خلاف الذم والغرض أن حالة النبذ والانتهاء كانت مخالفة لحالة الإلامة والابتداء لقوله سبحانه فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات: 142] وفي الإرشاد أن الجملة الشرطية استئناف وارد لبيان كون المنهي عنه أمرا محذورا مستتبعا للغائلة وقوله سبحانه فَاجْتَباهُ رَبُّهُ عطف على مقدر أي فتداركته نعمة من ربه فَاجْتَباهُ أي اصطفاه بأن رد عز وجل إليه الوحي وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون وقيل استنبأه إن صح أنه لم يكن نبيا قبل هذه الواقعة وإنما كان رسولا لبعض المرسلين في أرض الشام فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ من الكاملين في الصلاح بأن عصمه سبحانه من أن يفعل فعلا يكون تركه أولى وظاهر كلام بعضهم أن الجعل من الصالحين تفسير للاجتباء قيل وفسر الصالحين بالأنبياء وهو مبني على أنه لم يكن قبل الواقعة نبيا، واستدل بالآية على خلق الأفعال لأن جعله صالحا بجعل صلاحه وخلقه فيه وهو من جملة الأفعال ولا قائل بالفرق والمعتزلة يؤولون ذلك تارة بالإخبار بصلاحه وأخرى باللطف به حتى صلح على أنه يحتمل أن يراد بالصالحين الأنبياء كما قيل فلا تفيد الآية أكثر من كون النبوة مجعولة وهو مما اتفق عليه الفريقان فتدبر وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ إن هي المخففة واللام دليلها لأنها لا تدخل بعد النافية ولذا تسمى الفارقة على عرف عند النحاة والمعنى أنهم لشدة عداوتهم ينظرون إليك شزرا بحيث يكادون يزلون قدمك فيرمونك من قولهم نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني أو يكاد يأكلني أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله وجعل مبالغة في عداوتهم حتى كأنها سرت من القلب والجوارح إلى النظر فعاد يعمل الجوارح وأنشدوا قول الشاعر:
يتقارضون إذا التقوا في موطن ... نظرا يزل مواطىء الأقدام
أو أنهم يكادون يصيبونك بالعين إذ روي أنه كان في بني أسد عيانون فأراد بعضهم أن يعين رسول الله صلّى الله عليه وسلم فنزلت. وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل ثم يرفع جانب خبائه فيقول لم

(15/42)


أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه فتسقط طائفة منها وتهلك، فاقترح الكفار منه أن يصيب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأجابهم وأنشد:
قد كان قومك يحسبونك سيدا ... وأخال أنك سيد معيون
فعصم الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم وأنزل عليه هذه الآية، وقد قيل إن قراءتها تدفع ضرر العين وروي ذلك عن الحسن وفي كتاب الأحكام أنها أصل في أن العين حق والأولى الاستدلال على ذلك بما ورد وصح من عدة طرق أن العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر وبما
أخرجه أحمد بسند رجاله كما قال الهيثمي ثقات عن أبي ذر مرفوعا «إن العين لتولع بالرجل بإذن الله تعالى حتى يصعد حالقا ثم يتردى منه»
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة وذلك من خصائص بعض النفوس ولله تعالى أن يخص ما شاء منها بما شاء وإضافته إلى العين باعتبار أن النفس تؤثر بواسطتها غالبا وقد يكون التأثير بلا واسطتها بأن يوصف للعائن شيء فتتوجه إليه نفسه فتفسده ومن قال إن الله تعالى أجرى العادة بخلق ما شاء عند مقابلة عين العائن من غير تأثير أصلا فقد سد على نفسه باب العلل والتأثيرات والأسباب والمسببات وخالف جميع العقلاء قاله ابن القيم. وقال بعض أصحاب الطبائع إنه ينبعث من العين قوة سمية تؤثر فيما نظره كما فصل في شرح مسلم وهذا لا يتم عندي فيما لم يره ولا في نحو ما تضمنه حديث أبي ذر المتقدم آنفا ولا في إصابة الإنسان عين نفسه كما حكاه المناوي فإنه لا يقتل الصل سمه. ومن ذلك ما حكاه الغساني قال نظر سليمان بن عبد الملك في المرآة فأعجبته نفسه فقال:
كان محمد صلّى الله عليه وسلم نبيا، وكان أبو بكر صديقا، وكان عمر فاروقا، وعثمان حييا، ومعاوية حليما، ويزيد صبورا، وعبد الملك سائسا، والوليد جبارا، وأنا الملك الشاب، وأنا الملك الشاب فما دار عليه الشهر حتى مات ومثل ذلك ما قيل إنه من باب التأثير في القوة المعروفة اليوم بالقوة الكهربائية عند الطباعيين المحدثين، فقد صح أن بعض الناس يكرر النظر إلى بعض الأشخاص من فوقه إلى قدمه فيصرعه كالمغشي عليه، وربما يقف وراءه جاعلا أصابعه حذاء نقرة رأسه ويوجه نفسه إليه حتى تضعف قواه فيغشاه نحو النوم ويتكلم إذ ذاك بما لا يتكلم به في وقت آخر، وأنا لا أزيد على القول بأنه من تأثيرات النفوس ولا أكيف ذلك فالنفس الإنسانية من أعجب مخلوقات الله عز وجل وكم طوي فيه أسرار وعجائب تتحير فيها العقول ولا ينكرها إلّا مجنون أو جهول، ولا يسعني أن أنكر العين لكثرة الأحاديث الواردة فيها ومشاهدة آثارها على اختلاف الأعصار ولا أخص ذلك بالنفوس الخبيثة كما قيل فقد يكون من النفوس الزكية والمشهور أن الإصابة لا تكون مع كراهة الشيء وبغضه وإنما تكون مع استحسانه وإلى ذلك ذهب القشيري وكأنه يشير بذلك إلى الطعن في صحة الرواية هاهنا لأن الكفار كانوا يبغضونه عليه الصلاة والسلام فلا تتأتي لهم إصابته بالعين وفيه نظر. وحكم العائن على ما قال القاضي عياض أن يجتنب وينبغي للإمام حبسه ومنعه عن مخالطة الناس كفّا لضرره ما أمكن ويرزقه حينئذ من بيت المال. هذا وقرأ نافع «ليزلقونك» بفتح الياء من زلقه بمعنى أزلقه وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش وعيسى «ليزهقونك» بالهاء بدل اللام أي ليهلكونك لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ أي وقت سماعهم القرآن وذلك لاشتداد بغضهم وحسدهم عند سماعه. ولَمَّا كما أشرنا إليه ظرفية متعلقة بيزلقونك ومن قال إنها حرف وجوب لوجوب ذهب إلى أن جوابها محذوف لدلالة ما قبل عليه أي لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك وَيَقُولُونَ لغاية حيرتهم في أمره عليه الصلاة والسلام ونهاية جهلهم بما في تضاعيف القرآن من عجائب الحكم وبدائع العلوم ولتنفير الناس عنه إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وحيث كان مدار حكمهم الباطل ما سمعوا منه صلّى الله عليه وسلم

(15/43)


رد ذلك ببيان علو شأنه وسطوع برهانه فقيل وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ على أنه حال من فاعل يقولون والرابط الواو فقط أو مع عموم العالمين كما قيل مفيد لغاية بطلان قولهم وتعجيب للسامعين من جراءتهم على التفوه بتلك العظيمة أي يقولون ذلك والحال أنه ذكر للعالمين أي تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمور دينهم فأين من أنزل عليه ذلك وهو مطلع على أسراره طرّا ومحيط بجميع حقائقه خيرا مما قالوه وقيل معناه شرف وفضل لقوله تعالى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] وعموم العالمين لما فيه من الاعتناء بما ينفعهم وقيل الضمير لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وكونه مذكرا وشرفا للعالمين لا ريب فيه ورجح بأن الجملة عليه تكون صريحة في رد دعواهم الباطلة وأنت تعلم أن الأول أولى والله تعالى أعلم.

(15/44)