روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني الْحَاقَّةُ (1) مَا
الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا
ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ
فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا
عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا
فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ
نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ
بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ
أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ
حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ
تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ
فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ
وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ
وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ
يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا
وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ
(17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ
(18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ
هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي
مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا
وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ
الْخَالِيَةِ (24)
سورة الحاقّة
مكية وآيها إحدى وخمسون آية بلا خلاف فيهما ويدل للأول ما أخرج
الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: خرجت
أتعرض لرسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل أن أسلم فوجدته قد
سبقني إلى المسجد فوقفت خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب
من تأليف القرآن هذا والله شاعر فقال وَما هُوَ بِقَوْلِ
شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ [الحاقة: 41] قلت كاهن فقال لا
وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ
[الحاقة: 42، 43] إلى آخر السورة فوقع الإسلام في قلبي كل موقع
ولما وقع في نون ذكر يوم القيامة مجملا شرح سبحانه في هذه
السورة الكريمة نبأ ذلك اليوم وشأنه العظيم وضمنه عز وجل ذكر
أحوال أمم كذبوا الرسل عليهم السلام وما جرى عليهم ليزدجر
المكذبون المعاصرون له عليه الصلاة والسلام فقال عز من قائل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ أي الساعة
أو الحاقة التي يحق ويجب وقوعها أو التي تحقق
(15/45)
وتثبت فيها الأمور الحقة من الحساب والثواب
والعقاب أو التي تحق فيها الأمور أي تعرف على الحقيقة من حقه
يحقه إذا عرف حقيقته وروي هذا عن ابن عباس وغيره وإسناد الفعل
لها على الوجهين الأخيرين مجاز وهو حقيقة لما فيها من الأمور
أو لمن فيها من أولي العلم وفي الكشف كون الإسناد مجازيا إنما
هو على الوجه الأخير وأما على الوجه الثاني فيحتمل الإسناد
المجازي أيضا لأن الثبوت والوجوب لما فيها ويحتمل أن يراد ذو
الحاقة من باب تسمية الشيء باسم ما يلابسه وهذا أرجح لأن
الساعة وما فيها سواء في وجوب الثبوت فيضعف قرينة الإسناد
المجازي والتجوز فيه تصوير ومبالغة انتهى. وبحث فيه الجلبي بما
فيه بحث فارجع إليه وتدبر وقال الأزهري الْحَاقَّةُ القيامة من
حاققته فحققته أي غالبته فغلبته فهي حاقة لأنها تحق كل محاق
دين الله تعالى بالباطل أي كل مخاصم فتغلبه وظاهر كلامهم أنها
على جميع ذلك وصف حذف موصوفة للإيذان بكمال ظهور اتصافه بهذه
الصفة وجريانه مجرى الاسم. وقيل إنها على ما روي عن ابن عباس
من كونها من أسماء يوم القيامة اسم جامد لا يعتبر موصوف محذوف
وقيل هي مصدر كالعاقبة والعافية وأيّا ما كان فهي مبتدأ خبرها
جملة مَا الْحَاقَّةُ على أن مبتدأ والْحَاقَّةُ خبر أو بالعكس
ورجح معنى والأول هو المشهور والرابط إعادة المبتدأ بلفظه
والأصل ما هي أي أي شيء هي في حالها وصفتها فإن ما قد يطلب بها
الصفة والحال فوضع الظاهر موضع المضمر تعظيما لشأنها وتهويلا
لأمرها. وقوله تعالى وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ أي أي شيء
أعلمك ما هي تأكيد لهولها وفظاعتها ببيان خروجها عن دائرة علوم
المخلوقات على معنى أن أعظم شأنها ومدى هولها وشدتها بحيث لا
يكاد تبلغه دراية أحد ولا وهمه، وكيفما قدرت حالها فهي وراء
ذلك وأعظم وأعظم فلا يتسنى الإعلام ومنه يعلم أن الاستفهام كني
به عن لازمه من أنها لا تعلم ولا يصل إليها دراية دار ولا
تبلغها الأوهام والأفكار وما في موضع الرفع على الابتداء
وإدراك خبره ولا مساغ هاهنا للعكس ومَا الْحَاقَّةُ جملة محلها
النصب على إسقاط الخافض لا إن أدري يتعدى إلى المفعول الثاني
بالباء كما في قوله تعالى وَلا أَدْراكُمْ بِهِ [يونس: 16]
فلما وقعت جملة الاستفهام معلقة له كانت في موضع المفعول
الثاني، وتعليق هذا الفعل على ما قيل لما فيه من معنى العلم
والجملة أعني ما أدراك إلخ معطوفة على ما قبلها من الجملة
الصغرى كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ بالقيامة التي
تقرع الناس بالإفزاع والأهوال والسماء بالانشقاق والانفطار
والأرض والجبال بالدك والنسف والنجوم بالطمس والانكدار ووضعها
موضع ضمير الْحَاقَّةُ للدلالة على معنى القرع وهو ضرب شيء
بشيء فيها تشديدا لهولها. والجملة استئناف مسوق لبيان بعض
أحوال الحاقة له عليه الصلاة والسلام أثر تقريراته ما أدراه
صلّى الله عليه وسلم بها أحد والمبين كونها بحيث يحق إهلاك من
يكذب بها كأنه قيل وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ كذبت بها
ثمود وعاد فأهلكوا فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا أي أهلكهم
الله تعالى. وقرأ زيد بن علي «فهلكوا» بالبناء للفاعل
بِالطَّاغِيَةِ أي الواقعة المجاوزة للحد وهي الصيحة لقوله
تعالى في [هود: 67] وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ
وبها فسرت الصاعقة في حم السجدة أو الرجفة لقوله سبحانه في
[الأعراف: 78، 91] فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وهي الزلزلة
المسببة عن الصيحة فلا تعارض بين الآيات لأن الإسناد في بعض
إلى السبب القريب وفي بعض آخر إلى البعيد والأول مروي عن قتادة
قال: أي بالصيحة التي خرجت عن حد كل صيحة، وقال ابن عباس وأبو
عبيدة وابن زيد ما معناه الطاغية مصدر فكأنه قيل بطغيانهم وأيد
بقوله تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها [الشمس: 11] والمعول
عليه الأول لمكان قوله تعالى وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا
بِرِيحٍ صَرْصَرٍ وإيضاح ذلك أن الآية فيها جمع وتفريق، فلو
قيل أهلك هؤلاء بالطغيان على أن ذلك سبب جالب وهؤلاء بالريح
على أنه سبب آلي لم يكن طباق إذ جاز أن يكون
(15/46)
هؤلاء أيضا هلكوا بسبب الطغيان وهذا معنى
قول الزمخشري في تضعيف الثاني لعدم الطباق بينها
وبين بِرِيحٍ لا أن ذلك لأن أحدهما عين والآخر حدث وما ذكر من
التأييد لا يخفى حاله. وكذا يرجح الأول على قول مجاهد وابن زيد
أيضا أي بسبب الفعلة الطاغية التي فعلوها وهي عقر الناقة وعلى
ما قيل الطاغية عاقر الناقة والهاء فيها للمبالغة كما في رجل
راوية وأهلكوا كلهم بسببه لرضاهم بفعله وما قيل أيضا بسبب
الفئة الطاغية ووجه الرجحان يعلم مما ذكر ومر الكلام في الصرصر
فتذكر وهو صفة ريح وكذا قوله تعالى عاتِيَةٍ أي شديدة العصف أو
عتت على عاد فما قدروا على ردها والخلاص منها بحيلة من استتار
ببناء أو لياذ بجبل أو اختفاء في حفرة فإنها كانت تنزعهم من
مكانهم وتهلكهم والعتو عليهما استعارة وأصله تجاوز الحد وهو قد
يكون بالنسبة إلى الغير وقد لا يكون، ومنه يعلم الفرق بين
الوجهين
وأخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه أنه
قال: لم تنزل قطرة إلّا بمكيال على يدي ملك إلّا يوم نوح فإنه
أذن للماء دون الخزان فطغى الماء على الخزان فخرج فذلك قوله
تعالى إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ [الحاقة: 11] ولم ينزل شيء
من الريح إلّا بمكيال على يدي ملك إلّا يوم عاد فإنه أذن لها
دون الخزان فخرجت فذلك قوله تعالى بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ
عتت على الخزان.
وفي صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما ما يوافقه فهو تفسير مأثور.
وقد حكي ذلك في الكشاف ثم قال: ولعلها عبارة عن الشدة والإفراط
فيها، وخرج ذلك في الكشف على الاستعارة التمثيلية ثم قال: إن
المثل إذا صار بحيث يفهم منه المقصود من دون نظر إلى أصل القصة
جاز أن يقال إنه كناية عنه كما فيما نحن فيه. وجوز أن يكون
هناك تشبيه بليغ من العتو وهو الخروج عن الطاعة وقوله تعالى
سَخَّرَها عَلَيْهِمْ إلخ استئناف جيء به بيانا لكيفية إهلاكهم
بالريح وجوز أن يكون صفة أخرى وأنه جيء به لنفي ما يتوهم من
أنها كانت من اقترانات بعض الكواكب ببعض ونزولها في بعض
المنازل إذ لو وجدت الاقترانات المقتضية لبعض الحوادث كان ذلك
بتقديره تعالى وتسببه عز وجل لا من ذاتها استقلالا والسبب الذي
يذكره الطبائعيون للريح تكاثف الهواء في الجهة التي يتوجه
إليها وتراكم بعضه على بعض بانخفاض درجة حرارته فيقل تمدده
ويتكاثف ويترك أكثر المحل الذي كان مشغولا به خاليا أو بتجمع
فجائي يحصل في الأبخرة المنتشرة في الهواء فتخلو محالها. وعلى
التقديرين يجري إلى ذلك المحل الهواء المجاور بقوة ليشغله
فيحدث ويستمر حتى يمتلىء ذلك الفضاء ويتعادل فيه الهواء فيسكن
عند ذلك ويتفاوت سيرها سرعة وبطأ فتقطع الريح المعتدلة على ما
قيل في الساعة الواحدة نحو فرسخ والمتوسط فيها نحو أربعة فراسخ
والقوية نحو ثمانية فراسخ وما هي أقوى منها نحو ستة عشر فرسخا
وما هي أقوى وتسمى المؤتفكة نحو تسعة وعشرين فرسخا وقد تقطع في
ساعة نحو ستة وثلاثين فرسخا وهذا أكثر ما قيل في سرعة الريح.
وقد عملوا آلة يزعمون أنها مقياس يستعلم بها قوة هبوب الريح
وضعفه وهذا غير بعيد من النوع الإنساني ويقال فيما ذكروه من
السبب نحو ما سمعت آنفا ومعنى سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سلطها عز
وجل بقدرته عليهم سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ
حُسُوماً أي متتابعات كما قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة
وأبو عبيدة جمع حاسم كشهود جمع شاهد من حسمت الدابة إذا تابعت
كيها على الداء كرة بعد أخرى حتى ينحسم فهي مجاز مرسل من
استعمال المقيد وهو الحسم الذي هو تتابع الكي في مطلق التتابع
وفي الكشف هو مستعار من الحسم بمعنى الكي شبه الأيام بالحاسم
والريح لملابستها بها وهبوبها فيها واستمرار وصفها بوصفها في
قولهم يوم بارد وحار إلى غير ذلك بفعل الأيام كل هبة منها كية
وتتابعها بتتابع الكيات حتى يحصل الانحسام أي استئصال الداء
الذي هو المقصود. والمعنى بعد التلخيص متتابعة هبوب الرياح حتى
أتت عليهم واستأصلتهم أو نحسات مشؤومات كما
(15/47)
قال الخليل قيل والمعنى قاطعات الخير
بنحوستها وشؤمها فمعمول حُسُوماً محذوف أو قاطعات قطعت دابرهم
وأهلكتهم عن آخرهم كما قال ابن زيد. وقال الراغب الحسم إزالة
أثر الشيء يقال: قطعه فحسمه أي أزال مادته وبه سمي السيف حساما
وحسم الداء إزالة أثره بالكي وقيل للشؤم المزيل لأثر ما ناله
حسوم وحُسُوماً في الآية قيل حاسما أثرهم وقيل حاسما خبرهم
وقيل قاطعا لعمرهم وكل ذلك داخل في عمومه فلا تغفل. وجوز أن
يكون حسوما مصدرا لا جمع حاسم وانتصابه إما بفعله المقدر حالا
أي بحسمهم حسوما بمعنى تستأصلهم استئصالا أو على العلة أي
سخرها عليهم لأجل الاستئصال أو على أنه صفة أي ذات حسوم.
وأيدت المصدرية بقراءة السدي «حسوما» بفتح الحاء على أنه حال
من الريح أي سخرها مستأصلة لتعين كونه مفردا على ذلك وهي كانت
أيام العجوز من صبح الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب
الأربعاء الآخر، وإنما سميت أيام العجوز، لأن عجوزا من عاد
توارت في سرب فانتزعتها الريح في اليوم الثامن وأهلكتها، أو
لأنها عجز الشتاء فالعجوز بمعنى العجز وأسماؤها الصن والصنبر
والوبر والآمر والمؤتمر والمعلل ومطفىء الجمر ومطفىء الظعن ولم
يذكر هذا الثامن من قال إنها سبعة لا ثمانية كما هو المختار
فَتَرَى الْقَوْمَ أي إن كنت حاضرا حينئذ فالخطاب فيه فرضي
فِيها أي في الأيام والليالي وقيل في مهاب الريح وقيل في
ديارهم والأول أظهر صَرْعى أي هلكى جمع صريع كَأَنَّهُمْ
أَعْجازُ نَخْلٍ أي أصول نخيل وقرأ أبو نهيك:
«أعجز» على وزن أفعل كضبع وأضبع وحكى الأخفش أنه قرىء «نخيل»
بالياء خاوِيَةٍ خلت أجوافها بلى وفسادا وقال ابن شجرة كانت
تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم
فصاروا كأعجاز النخل الخاوية. وقال يحيى بن سلام خلت أبدانهم
من أرواحهم فكانوا كذلك. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال:
كانوا في سبعة أيام في عذاب ثم في الثامن ماتوا وألقتهم الريح
في البحر فذلك قوله تعالى فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ أي
بقية على أن الباقية اسم كالبقية لا وصف والتاء للنقل إلى
الاسمية أو نفس باقية على أن الموصوف مقدر والتاء للتأنيث وقال
ابن الأنباري أي باق والهاء للمبالغة وجوز أن يكون مصدرا
كالطاغية والكاذبة أي بقاء والتاء للوحدة وَجاءَ فِرْعَوْنُ
وَمَنْ قَبْلَهُ ومن تقدمه من الأمم الكافرة كقوم نوح عليه
السلام وفيه تعميم بعد التخصيص فإن منهم عادا وثمودا وقرأ أبو
رجاء وطلحة والجحدري والحسن بخلاف عنه وعاصم في رواية أبان
والنحويان وأبان «ومن قبله» بكسر القاف وفتح الباء أي ومن في
جهته وجانبه والمراد ومن عنده من أتباعه وأهل طاعته ويؤيده
قراءة أبي وابن مسعود ومن معه وَالْمُؤْتَفِكاتُ أي قرى قوم
لوط عليه السلام والمراد أهلها مجازا بإطلاق المحل على الحال
أو بتقدير مضاف وعلى الإسناد المجازي والقرينة العطف على من
يتصف بالمجيء وقرى الحسن هنا «والمؤتفكة» على الإفراد
بِالْخاطِئَةِ أي بالخطأ على أنه مصدر على زنة فاعلة أو
بالفعلة أو الأفعال ذات الخطأ العظيم على أن الإسناد مجازي وهو
حقيقة لأصحابها واعتبار العظم لأنه لا يجعل الفعل خاطئا إلّا
إذا كان صاحبه بليغ الخطأ ويجوز أن تكون الصيغة للنسبة
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ أي فعصى كل أمة رسولها حين نهاها
عما كانت تتعاطاه من القبائح، فإفراد الرسول على ظاهره وجوز أن
يكون جمعا أو مما يستوي فيه الواحد وغيره لأنه مصدر في الأصل
وأريد منه التكثير لاقتضاء السياق له فهو من مقابلة الجمع
المقتضي لانقسام الآحاد أو أطلق الفرد عليهم لاتحادهم معنى
فيما أرسلوا به والظاهر أن هذا بيان لمجيئهم بالخاطئة
فَأَخَذَهُمْ أي الله عز وجل أَخْذَةً رابِيَةً أي زائدة في
الشدة كما زادت قبائحهم في القبح من ربا الشيء إذا زاد إِنَّا
لَمَّا طَغَى الْماءُ جاوز حده المعتاد حتى أنه علا على أعلى
جبل خمس عشرة ذراعا أو طغى على خزانه على ما سمعت قبيل هذا
وذلك بسبب
(15/48)
إصرار قوم نوح عليه السلام على فنون الكفر
والمعاصي ومبالغتهم في تكذيبه عليه السلام فيما أوحى إليه من
الأحكام التي من جملتها أحوال القيامة حَمَلْناكُمْ أي في
أصلاب آبائكم أو حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم على أنه بتقدير
مضاف وقيل على التجوز في المخاطبين بإرادة آبائهم المحمولين
بعلاقة الحلول وهو بعيد فِي الْجارِيَةِ في سفينة نوح عليه
السلام والمراد بحملهم فيها رفعهم فوق الماء إلى انقضاء أيام
الطوفان لا مجرد رفعهم إلى السفينة كما يعرب عنه كلمة فِي
فإنها ليست بصلة للحمل بل متعلقة بمحذوف هو حال من مفعوله أي
رفعناكم فوق الماء وحفظناكم حال كونكم في السفينة الجارية
بأمرنا وحفظنا وفيه تنبيه على أن مدار نجاتهم محض عصمته عز وجل
وإنما السفينة سبب صوري وكثر استعمال الجارية في السفينة
وعليه:
تسعون جارية في بطن جارية لِنَجْعَلَها
أي الفعلة التي هي عبارة عن إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين
لَكُمْ تَذْكِرَةً
عبرة ودلالة على كمال قدرة الصانع وحكمته وقوة قهره وسعة رحمته
وَتَعِيَها
أي تحفظها والوعي أن تحفظ الشيء في نفسك، والإيعاء أن تحفظه في
غير نفسك من وعاء أُذُنٌ واعِيَةٌ
أي من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه بتذكره وإشاعته والتفكر فيه
ولا تضيعه بترك العمل به. وعن قتادة الواعية هي التي عقلت عن
الله تعالى وانتفعت بما سمعت من كتاب الله تعالى
وفي الخبر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لعلي كرم الله
تعالى وجهه: «إني دعوت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي» قال
علي كرم الله تعالى وجهه فما سمعت شيئا فنسيته وما كان لي أن
أنسى
. وفي جعل الأذن واعية وكذا جعلها حافظة ومتذكرة ونحو ذلك تجوز
والفاعل لذلك إنما هو صاحبها ولا ينسب لها حقيقة إلّا السمع
والتنكير للدلالة على قلتها وان من هذا شأنه مع قتله بنسيب
لنحاة الجم الغفير وإدامة نسلهم وقيل ضمير نجعلها للجارية
وجعلها تذكرة لما أنه على ما قال قتادة أدركها أوائل هذه الأمة
أي أدركوا ألواحها على الجودي كما قال ابن جريج. بل قيل إن بعض
الناس وجد شيئا من أجزائها بعد الإسلام بكثير والله تعالى أعلم
بصحته ولا يخفى أن المعول عليه ما قدمناه. وقرأ ابن مصرف وأبو
عمرو في رواية هارون وخارجة عنه وقيل بخلاف عنه «وتعيها»
بإسكان العين على التشبيه بكتف وكبد كما قيل وقرأ حمزة بإخفاء
الكسرة وروي عن عاصم أنه قرأ بتشديد الياء قال في البحر قيل هو
خطأ وينبغي أن يتأول على أنه أريد به شد بيان الياء احترازا
ممن سكنها لا إدغام حرف في حرف ولا ينبغي أن يجعل ذلك من
التضعيف في الوقف ثم أجري الوصل مجرى الوقف وإن كان قد ذهب
إليه بعضهم وروي عن حمزة وموسى بن عبد الله العبسي «وتعيها»
بإسكان الياء فاحتمل الاستئناف وهو الظاهر واحتمل أن يكون مثل
قراءة من أوسط ما تطعمون أهاليكم بسكون الياء وقرأ نافع «أذن»
بإسكان الذال للتخفيف فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ
واحِدَةٌ شروع بيان نفس الحاقة وكيفية وقوعها إثر بيان عظم
شأنها بإهلاك مكذبيها. والمراد بالنفخة الواحدة النفخة الأولى
التي عندها خراب العالم كما قال ابن عباس. وقال ابن المسيب
ومقاتل هي النفخة الآخرة والأول أولى لأنه المناسب لما بعد وإن
كانت الواو لا تدل على الترتيب لكن مخالفة الظاهر من غير داع
مما لا حاجة إليه والنفخة قال جار الله في حواشي كشافه: المرة
ودلالتها على النفخ اتفاقية غير مقصودة وحدوث الأمر العظيم بها
وعلى عقبها إنما استعظم من حيث وقوع النفخ مرة واحدة لا من حيث
إنه نفخ فنبه على ذلك بقوله سبحانه واحِدَةٌ وعن ابن الحاجب أن
نَفْخَةٌ لم يوضع للدلالة على الوحدة على حيالها وإنما وضع
للدلالة على النفخ والدلالة
(15/49)
على الوحدة اتفاقية غير مقصودة، وتعقب بأن
هذا بعد التسليم لا يضر لأن الكلام في مقتضى المقام لا أصل
الوضع. وقد تقرر أن الذي سيق له الكلام يجعل معتمدا حتى كان
غيره مطروح فالمرة هي المعتمدة نظرا للمقام دون النفخ نفسه وإن
كان النظر إلى ظاهر اللفظ يقتضي العكس فافهم. وأيّا ما كان
فإسناد الفعل إلى نَفْخَةٌ ليس من إسناد الفعل إلى المصدر
المؤكد كضرب ضرب وإن لم يلاحظ ما بعده من قوله سبحانه واحِدَةٌ
وحسن تذكير الفعل للفصل وكون المرفوع غير حقيقي التأنيث وكونه
مصدرا فقد ذكر الجار بردي في شرح الشافية إن تأنيثه غير معتبر
لتأويله بأن والفعل والمشهور أن واحِدَةٌ صفة مؤكدة وأطلق
عليها بعضهم التوكيد وبعضهم البيان وذكر الطيبي أن التوابع
كالبدل وعطف البيان والصفة بيان من وجه للمتبوع عند أرباب
المعاني وتمام الكلام في ذلك في المطول. وقرأ أبو السمال «نفخة
واحدة» بنصبهما على إقامة الجار والمجرور مقام الفاعل
وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ رفعتا من أحيازهما بمجرد
القدرة الإلهية من غير واسطة مخلوق أو بتوسط نحو ريح أو ملك
قيل أو بتوسط الزلزلة أي بأن يكون لها مدخل في الرفع لا أنها
رافعة لهما حاملة إياهما ليقال إنها ليس فيها حمل، وإنما هي
اضطراب. وقيل: يجوز أن يخلق الله تعالى من الأجرام العلوية ما
فيه قوة جذب الجبال ورفعها عن أماكنها أو أن يكون في الأجرام
الموجودة اليوم ما فيه قوة ذلك إلّا أن في البين مانعا من
الجذب والرفع وأنه يزول بعد فيحصل الرفع، وكذا يجوز أن يعتبر
مثل ذلك بالنسبة إلى الأرض وأن تكون قوتا الجاذبين مختلفتين
فإذا حصل رفع كل إلى غاية يريدها الله تعالى حدث في ذلك الجاذب
ما لم يبق معه ذلك الجذب من زوال مسامته ونحوه وحصل بين الجبال
والأرض ما يوجب التصادم.
ويجوز أيضا أن يحدث في الأرض من القوى ما يوجب قذفها للجبال
ويحدث للأرض نفسها ما يوجب رفعها عن حيزها وكون القوى منها ما
هو متنافر ومنها ما هو متحاب مما لا لا يكاد ينكر، وقيل يمكن
أن يكون رفعهما بمصادمة بعض الأجرام كذوات الأذناب على ما قيل
فيها جديدا للأرض فتنفصل الجبال وترتفع من شدة المصادمة. ورفع
الأرض من حيزها ولا يخفى أن كل هذا على ما فيه لا يحتاج إليه
ويكفينا القول بأن الرفع بالقدرة الإلهية التي لا يتعاصاها شيء
وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم والأعمش وابن عامر في رواية يحيى
«وحملت» بتشديد الميم وحمل على التكثير وجوز أن يكون تضعيفا
للنقل فيكون الأرض والجبال المفعول الأول أقيم مقام الفاعل
والمفعول الثاني محذوف أي قدرة أو ريحا أو ملائكة أو يكون
المفعول الثاني أقيم مقام الفاعل والأول محذوف وهو أحد
المذكورات فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فضربت الجملتان أثر
رفعهما بعضها ببعض ضربة واحدة حتى تفتت وترجع كما قال سبحانه
كَثِيباً مَهِيلًا [المزمل: 14] وقيل تتفرق اجزاؤها كما قال
سبحانه هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة: 6] وفرقوا بين الدك والدق
بأن في الأول تفرق الأجزاء وفي الثاني اختلافها. وقال بعض
الأجلة: أصل الدك الضرب على ما ارتفع لينخفض ويلزمه التسوية
غالبا فلذا شاع فيها حتى صار حقيقة ومنه أرض دكاء للمتسعة
المستوية وبعير أدك وناقة دكاء إذا ضعفا فلم يرتفع سناما هما
واستوت خدجتهما مع ظهريهما فالمرادها هنا فبسطتا بسطة واحدة
وسويتا فصارتا أرضا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ولعل التفتت
مقدمة للتسوية أيضا وقال الراغب الدك الأرض اللينة السهلة
وقوله تعالى فَدُكَّتا أي جعلتا بمنزلة الأرض اللينة وهذا أيضا
يرجع إلى التسوية كما لا يخفى. وحكي في مجمع البيان أنهما إذا
دكتا تتفتت الجبال وتنسفها الريح وتبقى الأرض مستوية وثني
الضمير لإرادة الجملتين كما أشرنا إليه فَيَوْمَئِذٍ أي فحينئذ
على أن المراد باليوم مطلق الوقت وهو هاهنا متسع يقع فيه ما
يقع والتنوين عوض عن المضاف إليه أي فيوم إذ نفخ في الصور وكان
كيت وكيت وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي قامت القيامة وتفسير الواقعة
بصخرة بيت المقدس
(15/50)
واقع عن درجة القبول وَانْشَقَّتِ
السَّماءُ تفطرت وتميز بعضها عن بعض. ولعله إشارة إلى ما تضمنه
قوله تعالى: يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ
الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: 25] وأخرج ابن المنذر عن
ابن جريج أنه قال ذلك قوله تعالى: وَفُتِحَتِ السَّماءُ
فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ: 19] ولا منافاة بينهما وكذا لا
منافاة بين كون الانشقاق لنزول الملائكة وكونه لهول يوم
القيامة لأن الأمر قد يكون له علل شتى مثل هذه العلل، والمراد
بالسماء جنسها وقيل السماوات السبع وأيما كان فلا يشترط لصحة
الانشقاق كونها أجساما صلبة إذ يتصف بنحو ذلك ما ليس بصلب أيضا
فقد وصف البحر بالانفلاق فَهِيَ أي السماء يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ
ضعيفة من وهى الشيء ضعف وتداعى للسقوط وقال ابن شجرة من قولهم
وهي السقاء إذا انخرق ومن أمثالهم قول الراجز:
خل سبيل من وهى سقاؤه ... ومن هريق بالفلاة ماؤه
وَالْمَلَكُ أي الجنس المتعارف بالملك وهو أعم من الملائكة عند
الزمخشري وجماعة وقد ذكره الجوهري أيضا وقال أبو حيان: الملك
اسم جنس يراد به الملائكة ولا يظهر أنه أعم من الملائكة وتحقيق
هذا المقام بما لا مزيد عليه في شرح التلخيص للعلامة الثاني
وحواشيه فارجع إن أردت إليه عَلى أَرْجائِها أي جوانبها جمع
رجى بالقصر وهو من ذوات الواو، ولذا برزت في التثنية قال
الشاعر:
كأن لم تري قبلي أسيرا مقيدا ... ولا رجلا يرمي به الرجوان
والضمير للسماء والمراد بجوانبها أطرافها التي لم تنشق أخرج
ابن المنذر عن ابن جبير والضحاك قال إنهما قالا وَالْمَلَكُ
عَلى أَرْجائِها أي على ما لم ينشق منها، ولعل ذلك التجاء منهم
للأطراف مما داخلهم من ملاحظة عظمة الله عزّ وجلّ أو اجتماع
هناك للنزول. وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن الربيع بن أنس
قال وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها أي الملائكة على شقها ينظرون
إلى شق الأرض وما أتاهم من الفزع والأول أظهر ولعل هذا
الانشقاق بعد موت الملائكة عند النفخة الأولى وإحيائهم وهو
يحيون قبل الناس كما تقتضيه الأخبار ويجوز أن يكون ذلك بعد
النفخة الثانية والناس في المحشر ففي بعض الآثار ما يشعر
بانشقاق كل سماء يومئذ ونزول ملائكتها واليوم متسع كما أشرنا
إليه. وقال الإمام يحتمل أنهم يقفون على الأرجاء لحظة ثم
يموتون. ويحتمل أن يكون المراد بهم الذين استثناهم الله تعالى
في قوله سبحانه إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [النمل:
87، الزمر: 68] . وعلى الوجهين ينحل ما يقال الملائكة يموتون
في الصعقة الأولى لقوله تعالى فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الزمر: 68] فكيف يقال إنهم يقفون على
أرجاء السماء وفي أنوار التنزيل لعل قوله تعالى وَانْشَقَّتِ
السَّماءُ إلخ تمثيل لخراب العالم بخراب المبنيات وانضواء
أهلها إلى أطرافها وإن كان على ظاهره فلعل موت الملائكة إثر
ذلك انتهى وأنا لا أقول باحتمال التمثيل وفي البحر عن ابن جبير
والضحاك إن ضمير أَرْجائِها للأرض وإن بعد ذكرها قالا إنهم
ينزلون إليها يحفظون أطرافها كما روي أن الله تعالى يأمر
ملائكة السماء الدنيا فيقفون صفا على حافات الأرض ثم ملائكة
الثانية فيصفون حولهم ثم ملائكة كل سماء فكلما ند أحد من الجن
والإنس وجد الأرض أحيط بها ولعل ما نقلناه عنهما أولى
بالاعتماد وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ أي فوق
الملائكة الذين على الأرجاء المدلول عليهم بالملك وقيل فوق
العالم كلهم وقيل الضمير يعود على الملائكة الحاملين أي يحمل
عرش ربك فوق ظهورهم أو رؤوسهم يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ والمرجع
وإن تأخر لفظا لكنه متقدم رتبة وفائدة فوقهم الدلالة على أنه
ليس محمولا بأيديهم كالمعلق مثلا وأيد هذا واعتبار الظهور بما
أخرج الترمذي وأبو داود وابن ماجة عن العباس بن عبد المطلب في
حديث
(15/51)
وفوق ذلك ثمانية أو عال بين أظلافهن ووركهن
ما بين سماء إلى سماء ثم فوق ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه
مثل ما بين السماء إلى السماء والمراد بالأوعال فيه ملائكة على
صورة الأوعال كما قال ابن الأثير وغيره وهي جمع وعل بكسر العين
تيس الجبل واستدل به على أن المراد ثمانية أشخاص والأخبار
الدالة على ذلك كثيرة إلا أن فيها تدافعا من حيث دلالة بعضها
على أن بعضهم على صورة الإنسان وبعضهم على صورة الأسد وبعضهم
على صورة الثور وبعضهم على صورة النسر ودلالة بعض آخر على أن
كل واحد منهم أربعة أوجه وجه ثور ووجه نسر ووجه أسد ووجه إنسان
وفيه لكل واحد منهم أربعة أجنحة أما جناحان فعلى وجهه مخافة من
أن ينظر إلى العرش فيصعق، وأما جناحان فيطير بهما وأبو حيان لم
يقل بصحة شيء من ذلك حيث قال ذكروا في صفات هؤلاء الثمانية
أشكالا متكاذبة ضربنا عن ذكرها صفحا.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن زيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم
أنه قال: «يحمله اليوم أربعة ويوم القيامة ثمانية»
. وأخرج عنه ابن أبي حاتم أنه لم يسم من حملة العرش إلّا
إسرافيل عليه السلام قال وميكائيل عليه السلام ليس من حملة
العرش وعليه فمن زعم أنهما وجبرائيل وعزرائيل عليه السلام من
جملة حملته يلزمه إثبات ذلك بخبر يعول عليه.
وعن شهر بن حوشب أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك
الحمد على عفوك بعد قدرتك، وأربعة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك
لك الحمد على حلمك بعد علمك
.
وفي خبر عن وهب بن منبه ليس لهم كلام إلّا قولهم قدسوا الله
القوي الذي ملأت عظمته السماوات
. وأكثر الأخبار في هذا الباب لا يعول عليه
وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك أنه قال يقال ثمانية صفوف لا يعلم
عدتهم إلا الله عزّ وجلّ. وأخرج هذا القول ابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس
وقال الحسن: الله تعالى أعلم كم هم أثمانية أصناف أم ثمانية
أشخاص وأنت تعلم أن الظاهر المؤيد ببعض الأخبار المصححة أنهم
ثمانية أشخاص وأيّا كان فالظاهر أن هناك حملا على الحقيقة
وإليه ذهب محيي الدين قدس سره قال: إن لله تعالى ملائكة يحملون
العرش الذي هو السرير على كواهلهم هم اليوم أربعة وغدا يكونون
ثمانية لأجل الحمل إلى أرض المحشر. وله قدس سره في الباب
الثالث عشر من فتوحاته كلام واسع في حملة العرش لا سيما على
تفسيره بالملك فليرجع إليه من اتسع كرسي ذهنه لفهم كلامه وجوز
أن يكون ذلك تمثيلا لعظمته عزّ وجلّ بما يشاهد من أحوال
السلاطين يوم خروجهم على الناس للقضاء العام فالمراد تجليه عزّ
وجلّ بصفة العظمة وجعل العرض في قوله تعالى يَوْمَئِذٍ
تُعْرَضُونَ مجازا عن الحساب والمراد يومئذ تحاسبون لكنه شبه
ذلك بعرض السلطان العسكر ليعرف أحوالهم فعبر عنه به.
وأخرج الإمام أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجه وابن أبي
حاتم وابن مردويه عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله
عليه وسلم: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان
فجدال ومعاذير وأما الثالث فعند ذلك تطاير الصحف في الأيدي
فآخذ بيمينه وآخذ بشماله»
والجملة المعوض عنها التنوين على ما يدل عليه كلامهم نُفِخَ
فِي الصُّورِ وجعل يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ بدلا من
فَيَوْمَئِذٍ إلخ وقد سمعت أن الزمان متسع لجميع ما ذكر وغيره
وقوله تعالى لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ حال من مرفوع
تُعْرَضُونَ أي تعرضون غير خاف عليه عزّ وجلّ سر من أسراركم
قبل ذلك أيضا وإنما العرض لإفشاء الحال وإقامة الحجة والمبالغة
في العدل أو غير خاف يومئذ على الناس كقوله تعالى: يَوْمَ
تُبْلَى السَّرائِرُ [الطارق: 9] وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب
وطلحة والأعمش وابن مقسم عن عاصم وغيرهم «لا يخفى» بالياء
التحتانية فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ تفصيل
لأحكام العرض والمراد بكتابه ما كتب الملائكة فيه ما فعله في
الدنيا. وقد ذكروا أن أعمال كل يوم وليلة تكتب في صحيفة فتتعدد
صحف العبد الواحد فقيل توصل له فيؤتاها موصولة. وقيل ينسخ ما
في
(15/52)
جميعها في صحيفة واحدة وهذا ما جزم به
الغزالي عليه الرحمة وعلى القولين يصدق على ما يؤتاه العبد
كتاب وقيل إن العبد يكتب في قبره أعماله في كتاب وهو الذي
يؤتاه يوم القيامة وهذا قول ضعيف لا يعول عليه.
وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان كيف يؤتى العبد ذلك فَيَقُولُ
تبجحا وافتخارا هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ قال الرضي (ها) اسم
لخذ وفيه ثمان لغات الأولى بالألف مفردة ساكنة للواحد والاثنين
والجمع مذكرا كان أو مؤنثا. الثانية أن تلحق هذه الألف المفردة
كاف الخطاب الحرفية كما في ذلك وتصرفها نحو هاك ها كما ها كم
ها كن. الثالثة أن تلحق الألف همزة مكان الكاف وتصريفها تصريف
الكاف نحوها هاؤها هاؤم هاء هاؤما هاؤن. الرابعة أن تلحق الألف
همزة مفتوحة قبل كاف الخطاب وتصرف الكاف الخامسة هاء بهمزة
ساكنة بعد الهاء للكل السادسة أن تصرف هذه الجملة تصريف دع
السابعة أن تصرفها تصريف خف. ومن ذلك ما حكى الكسائي من قول من
قيل له هاء بالفتح الام إهاء وإهاء بفتح همزة المتكلم وكسرها
الثامنة أن تلحق الألف همزة وتصرفها تصريف ناد والثلاثة
الأخيرة أفعال غير متصرفة لا ماضي لها ولا مضارع وليست بأسماء
أفعال قال الجوهري: هاء بكسرة الهمزة بمعنى هات وبفتحها بمعنى
خذ وإذا قيل لك هاء بالفتح قلت ما أهاء أي ما آخذ وما أهاء على
ما لم يسم فاعله أي ما أعطى وهذا الذي قال مبني على السابعة
نحو ما أخاف وما أخاف انتهى. وقال أبو القاسم: فيها لغات
أجودها ما حكاه سيبويه في كتابه فقال: العرب تقول: هاء يا رجل
بفتح الهمزة وهاء يا امرأة بكسرها، وهاؤما يا رجلان أو
امرأتان، وهاؤم يا رجال، وهاؤن يا نسوة فالميم في هاؤم كالميم
في أنتم وضمها كضمها في بعض الأحيان وفسر هاهنا بخذوا وهو متعد
بنفسه إلى المفعول تعديته والمفعول محذوف دل عليه المذكور أعني
كِتابِيَهْ وهو مفعول اقْرَؤُا واختير هذا دون العكس لأنه لو
كان مفعول هاؤُمُ لقيل اقرؤوه إذ الأولى إضمار الضمير إذ أمكن
كما هنا، وإنما لم يظهر في الأول لئلا يعود على متأخر لفظا
ورتبة وهو منصوب مع أن العامل على اللغة الجيدة اسم فعل فلا
يتصل به الضمير. وقيل هاؤُمُ بمعنى تعالوا فيتعدى بإلى. وزعم
القتبي أن الهمزة بدل من الكاف قيل وهو ضعيف إلّا إن كان قد
عنى أنها تحل محلها في لغة كما سمعت فيمكن لا أنه بدل صناعي
لأن الكاف لا تبدل من الهمزة ولا الهمزة منها. وقيل: هاؤُمُ
كلمة وضعت لإجابة الداعي عند الفرح والنشاط. وفي الحديث أنه
عليه الصلاة والسلام ناداه أعرابي بصوت عال فجاوبه صلّى الله
عليه وسلم هاؤم بصولة صوته. وجوز إرادة هذا المعنى هنا فإنه
يحتمل أن ينادي ذلك المؤتى كتابه بيمينه أقرباؤه وأصحابه مثلا
ليقرؤوا كتابه فيجيبهم لمزيد فرحه ونشاطه بقوله هاؤُمُ وزعم
قوم أنها مركبة في الأصل ها أموا أي اقصدوا ثم نقله التخفيف
والاستعمال إلى ما ذكر. وزعم آخرون أن الميم ضمير جماعة الذكور
والهاء في كِتابِيَهْ وكذا في حِسابِيَهْ ومالِيَهْ [الحاقة:
28] وسُلْطانِيَهْ [الحاقة: 29] وكذا ما هِيَهْ في [القارعة:
10] للسكت لا ضمير غيبة فحقها أن تحذف وصلا وتثبت وقفا لتصان
حركة الموقوف عليه، فإذا وصل استغنى عنها ومنهم من أثبتها في
الوصل لإجرائه مجرى الوقف أو لأنه وصل بنية الوقف والقراءات
مختلفة فقرأ الجمهور بإثباتها وصلا ووقفا. قال الزمخشري اتباعا
للمصحف الإمام وتعقبه ابن المنير فقال: تقليل القراءة باتباع
المصحف عجيب مع أن المعتقد الحق أن القراءات بتفاصيلها منقولة
عن النبي صلّى الله عليه وسلم وأطال في التشنيع عليه وهو كما
قال وقرأ ابن محيصن بحذفها وصلا ووقفا وإسكان الياء فيما ذكر
ولم ينقل ذلك في ما هِيَهْ فيما وقفت عليه وابن أبي إسحاق
والأعمش بطرح الهاء فيهن في الوصل لا في الوقف وطرحها حمزة في
مالي وسلطاني وما هي في الوصل لا في الوقف وفتح الياء فيهن وما
قاله الزهراوي من أن إثبات الهاء في الوصل لحن لا يجوز عند أحد
علمته ليس بشيء فإن ذلك
(15/53)
متواتر فوجب قبوله إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي
مُلاقٍ حِسابِيَهْ أي عملت ذلك كما قاله الأكثرون بناء على أن
الظاهر من حال المؤمن تيقن أمور الآخرة كالحساب، فالمنقول عنه
ينبغي أن يكون كذلك لكن الأمور النظرية لكون تفاصيلها لا تخلو
عن تردد ما في بعضها مما لا يفوت اليقين فيه كسهولة الحساب
وشدته مثلا عبر عن العلم بالظن مجازا للإشعار بذلك. وقيل لما
كان
الاعتقاد بأمور الآخرة مطلقا مما لا ينفك عن الهواجس والخطرات
النفسية كسائر العلوم النظرية نزل منزلة الظن فعبر عنه به
لذلك، وفيه إشارة إلى أن ذلك غير قادح في الإيمان وجوز أن يكون
الظن على حقيقته على أن يكون المراد من حسابه ما حصل له من
الحساب اليسير فإن ذلك مما لا يقين له به وإنما ظنه ورجحه
لمزيد وثوقه برحمة الله تعالى عزّ وجلّ ولعل ذلك عند الموت فقد
دلت الأخبار على أن اللائق بحال المؤمن حينئذ غلبة الرجاء وحسن
الظن. وأما قبله فاستواء الرجاء والخوف وعليه يظهر جدا وقوع
هذه الجملة موقع التعليل لما تشعر له الجملة الأولى من حسن
الحال فكأنه قيل إني على ما يحسن من الأحوال أو إني فرح مسرور
لأني ظننت بربي سبحانه أنه يحاسبني حسابا يسيرا وقد حاسبني
كذلك فالله تعالى عند ظن عبده به، وهذا أولى مما قيل يجوز أن
يكون المراد إني ظننت أني ملاق حسابي على الشدة والمناقشة لما
سلف مني من الهفوات والآن أزال الله تعالى عني ذلك وفرج همي.
وقيل: يطلق الظن على العلم حقيقة وهو ظاهر كلام الرضي في أفعال
القلوب وفيه نظر. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ قال أبو عبيدة
والفراء أي مرضية وقال غير واحد أي ذات رضى على أنه من باب
النسبة بالصيغة كلابن وتامر، ومعنى ذات رضى ملتبسة بالرضا
فيكون بمعنى مرضية أيضا وأورد عليه أن ما أريد به النسبة لا
يؤنث كما صرح به الرضي وغيره وهو هنا مؤنث فلا يصح هذا التأويل
إلّا أن يقال التاء فيه للمبالغة وفيه بحث. وقال بعض المحققين
الحق أن مرادهم أن ما قصد به النسبة لا يلزم تأنيثه وإن جاء
فيه على خلاف الأصل الغالب أحيانا. والمشهور حمل ما ذكر على
أنه مجاز في الإسناد والأصل في عيشة راض صاحبها فأسند الرضا
إليها لجعلها لخلوصها دائما عن الشوائب كأنها نفسها راضية.
وجوز أن يكون فيه استعارة مكنية وتخييلية كما فصل في مطول كتب
المعاني فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ مرتفعة المكان لأنها في السماء
فنسبة العلو إليها حقيقة ويجوز أن تكون مجازا وهي حقيقة
لدرجاتها وما فيها من بناء ونحوه أو يكون هناك مضاف محذوف أي
عالية درجاتها أو بناؤها أو أشجارها وفي البحر عالية مكانا
وقدرا ولا يخفى ما في استعمال العلو فيهما من الكلام قُطُوفُها
جمع قطف بكسر القاف وهو ما يجتنى من الثمر زاد بعضهم بسرعة
وكأن ذلك لأنها من شأن القطف بفتح القاف وهو مصدر قطف ولم
يجعلوا قطوفها جمعا له لأن المصدر لا يطرد جمعه ولقوله تعالى
دانِيَةٌ أي قريبة يتناول الرجل منها وهو قائم كما قال البراء
بن عازب رضي الله تعالى عنه. وقال بعضهم: يدركها القائم
والقاعد والمضطجع بفيه من شجرتها وعليه يجوز أن يكون مراد
البراء التمثيل وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال:
دنت فلا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك وفسر الدنو عليه بسهولة
التناول كُلُوا وَاشْرَبُوا بإضمار القول أي يقال فيها ذلك
وجمع الضمير رعاية للمعنى هَنِيئاً صفة لمحذوف وقع مفعولا به
والأصل أكلا وشربا هنيئا أي غير منغصين فحذف المفعول به وأقيمت
صفته مقامه وصح جعله صفة لذلك مع تعدده لأن فعيلا يستوي فيه
الواحد فما فوقه وجعل بعضهم المحذوف مصدرا وكذا صفته أعني
هَنِيئاً ووجه عدم تثنيته بأن المصدر يتناول المثنى أيضا فلا
تغفل. وجوز أن يكون نصبا على المصدرية لفعل من لفظه وفعيل من
صيغ المصادر كما أنه من صيغ الصفات أي هنئتم هنيئا والجملة في
موضع الحال والكلام في مثلها مشهور بِما أَسْلَفْتُمْ بمقابلة
ما قدمتم من الأعمال الصالحة فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ أي
الماضية وهي أيام الدنيا. وقيل أي
(15/54)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ
كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ
كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا
لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي
مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ
فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي
سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)
إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا
يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ
الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ
غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ
(39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ
بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا
بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ
مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا
بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ
(45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ
مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ
لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ
مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ
(50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
الخالية من اللذائذ أي الحقيقية وهي أيام
الدنيا أيضا، وقيل أي التي أخليتموها من الشهوات النفسانية
وحمل عليه ما روي عن مجاهد وابن جبير ووكيع من تفسير هذه
الأيام بأيام الصيام.
وأخرج ابن المنذر عن يعقوب الحنفي قال: بلغني أنه إذا كان يوم
القيامة يقول الله تعالى: «يا أوليائي طالما نظرت إليكم في
الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة وغارت أعينكم وخمصت بطونكم
فكونوا اليوم في نعيمكم وكُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما
أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ»
والظاهر أن ما على تفسير الأيام الخالية بأيام الصيام غير
محمولة على العموم والعموم في الآية هو الظاهر.
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا
لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ
لما يرى من قبح العمل وانجلاء الحساب عما يسوءه يا لَيْتَها أي
الموتة التي متّها في الدنيا كانَتِ الْقاضِيَةَ أي القاطعة
لأمري ولم أبعث بعدها ولم أخلق ما ألقى فالضمير للموتة الدال
عليها المقام وإن لم يسبق لها ذكر، ويجوز أن يكون لما شاهده من
الحالة أي ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت علي لما أنه
وجدها أمر من الموت فتمناه عندها وقد قيل أشد من الموت ما
يتمنى الموت عنده. وقد جوز أن يكون للحياة الدنيا المفهومة من
السياق أيضا والمراد بالقاضية الموتة فقد اشتهرت في ذلك أي يا
ليت الحياة الدنيا كانت الموتة ولم أخلق حيا وبتفسير
الْقاضِيَةَ بما ذكر اندفع ما قيل أنها تقتضي تجدد أمر ولا
تجدد في الاستمرار على العدم نعم هذا الوجه لا يخلو عن بعد ما
أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ أي ما أغنى عني شيئا الذي كان لي في
الدنيا من المال ونحوه كالاتباع على أن ما في ما أَغْنى نافية.
وما في ماليه موصولة فاعل أَغْنى ومفعوله محذوف و (ليه) جار
ومجرور في موضع الصلة ويجوز أن يجعل مالِيَهْ عبارة عن مال
مضاف إلى ياء المتكلم والأول أظهر شمولا للإتباع ونحوها إذ لا
يتأتى اعتبار ذلك على الثاني إلا باعتبار اللزوم ويجوز أن تكون
ما في ما أَغْنى استفهامية للإنكار ومالِيَهْ على احتمالية أي
أي شيء أغنى عني مالي هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ أي بطلت حجتي
التي كنت أحتج بها في الدنيا وبه فسره ابن عباس ومجاهد والضحاك
وعكرمة والسدي وأكثر السلف أو ملكي وتسلطي على الناس وبقيت
فقيرا ذليلا أو تسلطي على القوى والآلات التي خلقت لي فعجزت عن
استعمالها في الطاعات. يقول ذلك تحسرا وتأسفا وإلى هذا ذهب
(15/55)
قتادة مشيرا إلى وجه اختياره دون الثاني
أخرج عبد بن حميد عنه أنه قال: أما والله ما كل من دخل النار
كان أمير قرية ولكن الله تعالى خلقهم وسلطهم على أبدانهم
وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته وبما أشار إليه رجح الأول على
الثاني أيضا لكن قيل ما بعد أشد مناسبة له وستطلع إن شاء الله
تعالى على ذلك. وعن ابن عباس أنها نزلت في الأسود بن عبد الأشد
ويحكى عن فناخسرو الملقب بعضد الدولة ابن بويه أنه لما أنشد
قوله:
ليس شرب الكأس إلا في المطر ... وغناء من جوار في سحر
غانيات سالبات للنهى ... ناعمات في تضاعيف الوتر
مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقبات الراح من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر
لم يفلح بعده وجن وكان لا ينطلق لسانه إلا بهذه الآية وفي
يتيمة الثعالبي أنه لما احتضر لم ينطلق لسانه إلا بتلاوة ما
أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ نسأل الله
تعالى العفو والعافية. وروي عن أبي عمرو أنه أدغم هاء السكت من
مالِيَهْ في هاء هَلَكَ وهو ضعيف قياسا لأن هاء السكت لا تدغم
لكون الوقف عليها محققا أو مقدرا كما في شرح التوضيح وفيه
رواية الإدغام فيما ذكر عن ورش وتعقب بأن المروي عنه إنما هو
النقل في كِتابِيَهْ إني والله تعالى أعلم خُذُوهُ بتقدير
القول أي فيقول الله تعالى للزبانية خذوه فَغُلُّوهُ أي شدوه
بالأغلال ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ أي لا تصلوه إلا الجحيم
وهي النار العظيمة الشديدة التأجج لعظم ما أوتي به من المعصية
وهي الكفر بالله تعالى العظيم. وقيل حيث كان يتعظم على الناس
وهو مبني على اختصاص ما قبل بالسلاطين بقرينة تعظيم أمره
وتنصيعن الله تعالى على تعذيبه وأجيب عما يخدشه مما يفهم من
كلام قتادة بأنه لا ضير في كونه بيانا لحال بعض من أوتي كتابه
بشماله ومثله ما يأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه وَلا
يَحُضُّ إلخ فكم من أهل الشمال من لا يكون كذلك وأيضا قد ذكروا
أن الجحيم اسم لطبقة من النار فتأمل ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ
ذَرْعُها أي قياسها ومقدار طولها سَبْعُونَ ذِراعاً يجوز أن
يراد ظاهره من العدد المعروف والله تعالى أعلم بحكمة كونها على
هذا العدد.
ويجوز أن يراد به التكثير فقد كثر السبعة والسبعون في التكثير
والمبالغة ورجح بأنه أبلغ من إبقائه على ظاهره والذراع مؤنث
قال ابن الشحنة وقد ذكره بعض عكل فيقال الثوب خمس أذرع وخمسة
أذرع والمراد بها المعروفة عند العرب وهي ذراع اليد لأن الله
سبحانه إنما خاطبهم بما يعرفون وقال ابن عباس وابن جريج ومحمد
بن المنكدر ذراع الملك وأخرج ابن المبارك وجماعة عن نوف
البكالي أنه قال وهو يومئذ بالكوفة الذراع سبعون باعا والباع
ما بينك وبين مكة ويحتاج إلى نقل صحيح وقال الحسن الله تعالى
أعلم بأي ذراع هي والسلسلة حلق تدخل في حلق على سبيل الطول
كأنها من تسلسل الشيء اضطرب وتنوينها للتفخيم وروي عن ابن عباس
أنه قال لو وضع منها حلقة على جبل لذاب كالرصاص فَاسْلُكُوهُ
أي فادخلوه كما في قوله تعالى فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي
الْأَرْضِ [الزمر: 21] وإدخاله فيها بأن تلف على جسده وتلوى
عليه من جميع جهاته فيبقى مرهقا فيما بينها لا يستطيع حراكا ما
وعن ابن عباس أن أهل النار يكونون فيها كالتعلب في الجبة
والتعلب طرف خشبة الرمح والجبة الزج. وأخرج ابن المنذر وابن
أبي حاتم عن ابن جريح قال قال ابن عباس إن السلسلة تدخل في
استه ثم تخرج من فيه ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود
ثم يشوى.
وفي رواية أخرج عنهم أنها تسلك في دبره حتى تخرج من منخريه ومن
هنا قيل إن في الآية قلبا والأصل
(15/56)
فاسلكوها فيه والجمهور على الظاهر والفاء
جزائية كما في قوله تعالى وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 3]
والتقدير مهما يكن من شيء فاسلكوه في سلسلة إلخ فقدم الظرف وما
معه عوضا عن المحذوف ولتتوسط الفاء كما هو حقها وليدل على
التخصيص كأنه قيل لا تسلكوه إلّا في هذه السلسلة كأنها أفظع من
سائر مواضع الإرهاق من الجحيم ويجوز أن يكون التقدير هكذا ثم
مهما يكن من شيء ففي سلسلة ذرعها سبعون ذراعا اسلكوه ففيه
تقديمان تقديم الظرف على الفعل للدلالة على التخصيص وتقديمه
على الفاء بعد حذف حرف الشرط للتعويض وتوسيط الفاء وثُمَّ في
الموضعين لتفاوت ما بين أنواع ما يعذبون به من الغل والتصلية
والسلك على ما اختاره جمع، وجوز بعضهم كونها على ظاهرها من
الدلالة على المهلة ورجح الأول بأنه أنسب بمقام التهديد، وزعم
بعض أن ثُمَّ الثانية لعطف قول مضمر على ما أضمر قبل خُذُوهُ
إشعارا بتفاوت ما بين الأمرين وفاء فَاسْلُكُوهُ لعطف المقول
على المقول لئلا يتوارد حرفا عطف على معطوف واحد ويلزمه أن
يكون تقديم السلسلة على الفاء بعد حذف القول لئلا يلزم التوارد
المذكور ومبنى هذا التكلف البادر الغفلة عما ذكرناه فلا تغفل
ويعلم منه وهن ما قيل إنه ليس في الآية ما يفيد التخصيص لأن
فِي سِلْسِلَةٍ ليس معمولا لاسلكوه لئلا يلزم الجمع بين حرفي
عطف بل هو معمول لمحذوف فيقدر مقدما على الأصل على أن تقديم
الجحيم كالقرينة على كون فِي سِلْسِلَةٍ مقدما على عامله
إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ تعليل على
طريقة الاستئناف للمبالغة كأنه قيل لم استحق هذا قيل لم استحق
هذا فقيل لأنه كان في الدنيا مستمرا على الكفر بالله تعالى
العظيم وقيل أي كان في علم الله تعالى المتعلق بالأشياء على ما
هي عليه في نفس الأمر أنه لا يتصف بالإيمان به عزّ وجلّ والأول
هو الظاهر، وذكر الْعَظِيمِ للإشارة إلى وجه عظم عذابه، وقيل
للإشعار بأنه عزّ وجلّ المستحق للعظمة فحسب فمن نسبها إلى نفسه
استحق أعظم العقوبات وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي
ولا يحث على بذل طعامه الذي يستحقه في مال الموسر ففيه مضاف
مقدر لأن الحث إنما يكون على الفعل، والطعام ليس به ويجوز أن
يكون الطعام بمعنى الإطعام بوضع الاسم موضع المصدر كالعطاء
بمعنى الإعطاء أي ولا يحث على إطعام المسكين فضلا عن أن يبذل
ما له فليس هناك مضاف محذوف. وقيل ذكر الحض للإشعار بأن تارك
الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل.
وما أحسن قول زينب الطثرية ترثي أخاها يزيد:
إذا نزل الأضياف كان عذورا ... على الحي تستقل مراجله
تريد حضهم على القرى واستعجلهم وتشاكس عليهم وفيه أوجه من
المدح. وكان أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه يحض امرأته على
تكثير المرق لأجل المساكين ويقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان
أفلا نخلع نصفها اقتبس ذلك من الآية فإنه جعل استحقاق السلسلة
معللا بعدم الإيمان وعدم الحض وتخصيص الأمرين بالذكر قيل لما
أن أقبح العقائد الكفر وأشنع الرذائل البخل وقسوة القلب وفي
الآية دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفروع كالهول وإلّا لم
يعاقبوا على ترك الحض على طعام المسكين فَلَيْسَ لَهُ
الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ قريب مشفق يحميه ويدفع عنه لأن
أولياءه يتحامونه ويفرون منه وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ
غِسْلِينٍ قال اللغويون هو ما يجري من الجراح إذا غسلت فعلين
من الغسل وقال ابن عباس في رواية ابن أبي حاتم وابن المنذر من
طريق عكرمة عنه أنه الدم والماء الذي يسيل من لحوم أهل النار
وفي معناه قوله في روايتهما من طريق علي بن أبي طلحة عنه هو
صديد أهل النار. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عنه أنه قال: ما
أدري ما الغسلين ولكني أظنه الزقوم والأكثرون على الأول.
وأخرج الحاكم وصححه عن أبي
(15/57)
سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلم
لو أن دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا
وجعله بعضهم متحدا مع الضريع. وقال بعضهم: هما متباينان وسيأتي
الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى ولَهُ خبر (ليس) قال المهدوي
ولا يصح أن يكون هاهنا ولم يبين ما المانع من ذلك وتبعه
القرطبي في ذلك. وقال لأن المعنى يصير ليس هاهنا طعام إِلَّا
مِنْ غِسْلِينٍ ولا يصح ذلك لأن ثم طعاما غيره وهاهُنا متعلق
بما في لَهُ من معنى الفعل انتهى.
وتعقب ذلك أبو حيان فقال: إذا كان ثم غيره من الطعام وكان
الأكل أكلا آخر صح الحصر بالنسبة إلى اختلاف الأكلين. وأما إن
كان الضريع هو الغسلين كما قال بعضهم فلا تناقض بين هذا الحصر
والحصر في قوله تعالى لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ
ضَرِيعٍ [الغاشية: 6] إذ المحصور في الآيتين هو من شيء واحد
وإنما يمتنع ذلك من وجه غير ما ذكره وهو إنه إذا جعلنا هاهُنا
الخبر كان لَهُ والْيَوْمَ متعلقين بما تعلق به الخبر وهو
العامل في هاهُنا وهو عامل معنوي فلا يتقدم معموله عليه فلو
كان العامل لفظيا جاز كقوله تعالى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً
أَحَدٌ [الإخلاص:
4] فله متعلق بكفوا وهو خبر ليكن اهـ. وفي إطلاق العامل
المعنوي على متعلق الجار والمجرور المحذوف بحث لا يَأْكُلُهُ
إِلَّا الْخاطِؤُنَ أصحاب الخطايا من خطىء الرجل إذا تعمد
الذنب لا من الخطأ المقابل للصواب دون المقابل للعمد والمراد
بهم على ما روي عن ابن عباس المشركون. وقرأ الحسن والزهري
والعتكي وطلحة في رواية «الخاطيون» بياء مضمومة بدلا من الهمزة
وقرأ أبو جعفر وشيبة وطلحة في رواية أخرى ونافع بخلاف عنه
«الخاطون» بطرح الهمزة بعد إبدالها تخفيفا على أنه من خطىء
كقراءة من همز وعن ابن عباس ما يشعر بإنكار ذلك أخرج الحاكم
وصححه من طريق أبي الأسود الدؤلي ويحيى بن يعمر عنه أنه قال:
ما الخاطون إنما هو الخاطئون ما الصابئون إنما هو الصائبون وفي
رواية ما الخاطون كلنا نخطو كأنه يريد أن التخفيف هكذا ليس
قياسا وهو ملبس مع ذلك فلا يرتكب وقيل هو من خطا يخطو فالمراد
بهم الذين يتخطون من الطاعة إلى العصيان ومن الحق إلى الباطل
ويتعدون حدود الله عزّ وجلّ فيكون كناية عن المذنبين أيضا هذا
وظواهر هذه الآيات أن المؤمن الطائع يؤتى كتابه بيمينه والكافر
يؤتى كتابه بشماله ولم يعلم منها حال الفاسق الذي مات على فسقه
من غير توبة بل قيل ليس في القرآن بيان حاله صريحا وقد اختلف
في أمره فجزم الماوردي بأن المشهور أنه يؤتى كتابه بيمينه ثم
حكى قولا بالوقف وقال لا قائل بأنه يؤتاه بشماله وقال يوسف بن
عمر اختلف في عصاة المؤمنين فقيل يأخذون كتبهم بأيمانهم وقيل
بشمالهم، واختلف الأولون فقيل: يأخذونها قبل الدخول في النار
ويكون ذلك علامة على عدم خلودهم فيها. وقيل يأخذونها بعد
الخروج منها ومن أهل العلم من توقف لتعارض النصوص ومن حفظ حجة
على من لم يحفظ والمثبت مقدم على النافي ثم إنه ليس في هذه
الآيات تصريح بقراءة العبد كتابه والوارد في ذلك مختلف والذي
يجمع الآيات والأحاديث على ما قال اللقاني أن من الآخذين من لم
يقرأ كتابه لاشتماله على المخازي والقبائح والجرائم والفضائح
فيأخذه بسبب ذلك الدهش والرعب حتى لا يميز شيئا كالكافر ومنهم
من يقرؤه بنفسه ومنهم من يدعو أهل حاضره لقراءته إعجابا بما
فيه وظواهر النصوص أن القراءة حقيقية وقيل مجازية عبر بها عن
العلم وليس بشيء. ولفظ الحسن يقرأ كل إنسان كتابه أميا كان أو
غير أمي وظواهر الآثار أن الحسنات تكتب متميزة من السيئات فقيل
إن سيئات المؤمن أول كتابه وآخره هذه ذنوبك قد سترتها وغفرتها
وإن حسنات الكافر أول كتابه وآخره هذه حسناتك قد رددتها عليك
وما قبلتها. وقيل يقرأ المؤمن سيئات نفسه ويقرأ الناس حسناته
حتى يقولوا ما لهذا العبد سيئة ويقول ما لي حسنة.
وقيل كل يقرأ حسناته وسيئاته وأول سطر من كتاب المؤمن أبيض
فإذا قرأه ابيض وجهه والكافر على ضد ذلك وظواهر الآيات
والأحاديث عدم اختصاص إيتاء الكتب بهذه الأمة وإن تردد فيه بعض
العلماء لما في بعضها مما يشعر بالاختصاص
ففي حديث رواه أحمد عن أبي الدرداء أنه عليه الصلاة والسلام
قال وقد قال له رجل: كيف تعرف أمّتك
(15/58)
من بين الأمم فيما بين نوح عليه السلام إلى
أمتك يا رسول الله: «هم غر محجلون من أثر الوضوء ليس أحد كذلك
غيرهم وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم» الحديث
. وقد تقدم فتذكر والحق أن الجن في هذه الأمور حكمهم حكم الإنس
على ما بحثه القرطبي وصرح به غيره نعم الأنبياء والملائكة
عليهم الصلاة والسلام لا يأخذون كتابا بل إن السبعين ألفا
الذين يدخلون الجنة بغير حساب ومنهم أو بكر رضي الله تعالى عنه
لا يأخذون أيضا كتابا وأول من يؤتي كتابه بيمينه فله شعاع
كشعاع الشمس عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كما في الحديث
وبعده أو سلمة بن عبد الأشد وأول من يأخذ كتابه بشماله أخوه
الأسود بن عبد الأشد الذي مر ذكره غير بعيد والآثار في كيفية
وصول الكتب إلى أيدي أصحابها مختلفة
فقد ورد أن الريح تطيرها من خزانة تحت العرش فلا تخطىء صحيفة
عنق صاحبها
وورد أن كل أحد يدعي فيعطى كتابه وجمع بأخذ الملائكة عليهم
السلام إياها من أعناقهم ووضعهم لها في أيديهم
والله تعالى أعلم وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ قد تقدم
الكلام في فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الواقعة: 75]
وما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ المشاهدات والمغيبات
وإليه يرجع قول قتادة هو عام في جميع مخلوقاته عزّ وجلّ. وقال
عطاء ما تُبْصِرُونَ من آثار القدرة وَما لا تُبْصِرُونَ من
أسرار القدرة. وقيل الأجسام والأرواح وقيل الدنيا والآخرة وقيل
الإنس والجن والملائكة وقيل الخلق والخالق وقيل النعم الظاهرة
والباطنة والأول شامل لجميع ما ذكر وسبب النزول على ما قال
مقاتل إن الوليد قال: إن محمدا صلّى الله عليه وسلم ساحر وقال
أبو جهل شاعر وقال عتبة كاهن فرد الله تعالى عليهم بقوله
سبحانه فَلا أُقْسِمُ إلخ إِنَّهُ أي القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ
يبلغه عن الله تعالى فإن الرسول لا يقول عن نفسه كَرِيمٍ على
الله عزّ وجلّ وهو النبي صلّى الله عليه وسلم في قول الأكثرين.
وقال ابن السائب ومقاتل وابن قتيبة هو جبريل عليه السلام وقوله
تعالى وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ إلخ قيل دليل لما قاله
الأكثرون لأن المعنى على إثبات أنه عليه الصلاة والسلام رسول
لا شاعر ولا كاهن كما يشعر بذلك سبب النزول وتوضيح ذلك أنهم ما
كانوا يقولون في جبريل عليه السلام أنه كذا وكذا وإنما كانوا
يقولونه في النبي صلّى الله عليه وسلم فلو أريد برسول كريم
جبريل عليه السلام لفات التقابل ولم يحسن العطف كما تقول إنه
لقول عالم وما هو بقول جاهل ولو قلت وما هو بقول شجاع نسبت إلى
ما تكره وتعقبه بعض الأئمة بأن هذا صحيح إن سلم أن المعنى على
إثبات رسول لا شاعر ويكون قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ
رَسُولٍ لا قول شاعر إثباتا للرسالة على طريق الكناية أما إذا
جعل المقصود من السياق إثبات حقية المنزل وأنه من الله عزّ
وجلّ فإنه تذكرة لهؤلاء وحسرة لمقابليهم وهو في نفسه صدق ويقين
لا يحوم حوله شك كما يدل عليه ما بعد. فللقول الثاني أيضا موقع
حسن وكأنه قيل إن هذا القرآن لقول جبريل الرسول الكريم وما هو
من تلقاء محمد صلّى الله عليه وسلم كما تزعمون وتدعون أنه شاعر
وكاهن ويكون قد نفى عنه صلّى الله عليه وسلم الشعر والكهانة
على سبيل الإدماج انتهى وهو تحقق حسن قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ
أي تصدقون تصديقا قليلا على أن قَلِيلًا صفة للمفعول المطلق
لتؤمنون وما مزيدة للتأكيد والقلة بمعناها الظاهر لأنهم لظهور
صدقه صلّى الله عليه وسلم لزم تصديقهم له عليه الصلاة والسلام
في الجملة وإن أظهروا خلافه عنادا وأبوه تمردا بألسنتهم وحمل
الزمخشري القلة على العدم والنفي أي لا تؤمنون البتة ولا كلام
فيه سوى أنه دون الأول في الظهور. وقال أبو حيان: لا يراد
بقليلا هنا النفي المحض كما زعم فذلك لا يكون إلّا في أقل نحو
أقل رجل يقول كذا إلّا زيد وفي قل نحو قل رجل يقول كذا إلّا
زيد وقد يكون في قليل وقليلة إذا كانا مرفوعين نحو ما جوزوا في
قوله:
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة ... قليل بها الأصوات إلّا بغامها
أما إذا كان منصوبا نحو قليلا ضربت أو قليلا ما ضربت على أن
تكون ما مصدرية فإن ذلك لا يجوز
(15/59)
لأنه في قليلا ضربت منصوب بضربت ولم تستعمل
العرب قليلا إذا انتصب بالفعل نفيا بل مقابلا للكثير وأما في
قليلا ما ضربت على أن تكون ما مصدرية فيحتاج إلى رفع قليل لأن
ما المصدرية في موضع رفع على الابتداء اهـ. وأنت تعلم أن مثل
ذلك لا يسمع على مثل الزمخشري بغير دليل فإن الظاهر أنه ما قال
ما قال إلّا عن وقوف وهو فارس ميدان العربية وجوز كونه صفة
لزمان محذوف أي زمانا قليلا تؤمنون وذلك على ما قيل إذا سئلوا
من خلقهم أو من خلق السماوات والأرض فإنهم يقولون حينئذ الله
تعالى. وقال ابن عطية نصب قَلِيلًا بفعل مضمر يدل عليه
تُؤْمِنُونَ ويحتمل أن تكون ما نافية فينتفي إيمانهم البتة،
ويحتمل أن تكون مصدرية وما يتصف بالقلة هو الإيمان اللغوي وقد
صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئا ككون الصلة والعفاف
اللذين كانا يأمر بهما عليه الصلاة والسلام حقا وصوابا اهـ.
وتعقب بأنه لا يصح نصب قَلِيلًا بفعل مضمر دال عليه
تُؤْمِنُونَ لأنه إما أن تكون ما المقدرة معه نافية فالفعل
المنفي بما لا يجوز حذفه وكذا حذف ما فلا يجوز زيدا ما أضربه
على تقدير ما أضرب زيدا ما أضربه وإن كانت مصدرية كانت إما في
موضع رفع على الفاعلية بقليلا أي قليلا إيمانكم ويرد عليه لزوم
عمله من غير تقدم ما يعتمد عليه ونصبه لا ناصب له وإما في موضع
رفع على الابتداء ويرد عليه لزوم كونه مبتدأ بلا خبر لأن ما
قبله منصوب لا مرفوع فتأمل. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو
بخلاف عنهما والحسن والجحدري «يؤمنون» بالياء التحتية على
الالتفات وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ كما تدعون مرة أخرى قَلِيلًا ما
تَذَكَّرُونَ أي تذكرون تذكرا قليلا فلذلك يلتبس الأمر عليكم
وتمام الكلام فيه إعرابا كالكلام فيما قبله وكذا القراءة وذكر
الإيمان مع نفي الشاعرية والتذكر مع نفي الكاهنية قيل لما أن
عدم مشابهة القرآن الشعر أمر بيّن لا ينكره إلّا معاند فلا عذر
لمدعيها في ترك الإيمان وهو أكفر من حمار بخلاف مباينته
للكهانة فإنها تتوقف على تذكر أحواله صلّى الله عليه وسلم
ومعاني القرآن المنافية لطريق الكهانة ومعاني أقوالهم وتعقب
بأن ذلك أيضا مما يتوقف على تأمل قطعا وأجيب بأنه يكفي في
الغرض الفرق بينهما أن توقف الأول دون توقف الثاني تَنْزِيلٌ
أي هو تنزيل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ نزله سبحانه على لسان
جبريل عليه السلام. وقرأ أبو السمال «تنزيلا» بالنصب بتقدير
نزله تنزيلا وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ
التقول الافتراء وسمي تقولا لأنه قول متكلف والأقاويل الأقوال
المفتراة وهي جمع قول على غير القياس أو جمع أقوال فهو جمع
الجمع كأناعيم جمع أنعام، وأبابيت جمع أبيات. وفي الكشاف سمي
الأقوال المتقولة أقاويل تصغيرا لها وتحقيرا كقولك الأعاجيب
والأضاحيك كأنها جمع أفعولة من القول. وتعقبه ابن المنبر بأن
أفعولة من القول غريب عن القياس التصريفي وأجيب بأنه غير وارد
لأن مراده أنه جمع لمفرد غير مستعمل لأنه لا وجه لاختصاصة
بالافتراء غير ما ذكر والأحسن أن يقال بمنع اختصاصه وضعا وأنه
جمع على ما سمعت والتحقير جاء من السياق والمراد لو ادعى علينا
شيئا لم نقله لَأَخَذْنا مِنْهُ أي لأمسكناه وقوله تعالى
بِالْيَمِينِ أي بيان بيمينه بعد الإبهام كما في قوله سبحانه
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] ثُمَّ لَقَطَعْنا
مِنْهُ الْوَتِينَ أي وتينه وهو كما قال ابن عباس نياط القلب
الذي إذا انقطع مات صاحبه وعن مجاهد أنه الحبل الذي في الظهر
وهو النخاع. وقال الكلبي هو عرق بين العلباء وهي عصب العنق
والحلقوم وقيل عرق غليظ تصادفه شفرة الناحر ومنه قول الشماخ بن
ضرار:
إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين
وهذا تصوير للإهلاك بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه وهو
أن يأخذ القتال بيمينه ويكفحه
(15/60)
بالسيف ويضرب عنقه. وعن الحسن أن المعنى
لقطعنا يمينه ثم لقطعنا وتينه عبرة ونكالا والباء عليه زائدة
وعن عباس أن اليمين بمعنى القوة والمراد أخذ بعنف وشدة وضعف
بأن فيه ارتكاب مجاز من غير فائدة وأنه يفوت فيه التصوير
والتفصيل والإجمال ويصير منه زائدا لا فائدة فيه. وقرأ ذكوان
وابنه محمد «ولو يقول» مضارع قال وقرىء «ولو تقوّل» مبنيا
للمفعول فنائب الفاعل بَعْضَ إن كان قد قرىء مرفوعا وإن كان قد
قرىء منصوبا فهو عَلَيْنا فَما مِنْكُمْ أيها الناس مِنْ
أَحَدٍ عَنْهُ أي عن هذا الفعل وهو القتل حاجِزِينَ أي مانعين
يعني فما يمنع أحد عن قتله واستظهر عود ضمير عَنْهُ لمن عاد
عليه ضمير تَقَوَّلَ والمعنى فما يحول أحد بيننا وبينه والظاهر
في حاجِزِينَ أن يكون خبرا لما على لغة الحجازيين لأنه هو محط
الفائدة ومِنْ زائدة وأَحَدٍ اسمها ومِنْكُمْ قيل في موضع
الحال منه لأنه لو تأخر لكان صفة له فلما تقدم أعرب حالا كما
هو الشائع في نعت النكرة إذا تقدم عليها ونظر في ذلك وقيل
للبيان أو متعلق بحاجزين كما تقول ما فيك زيد راغبا. ولا يمنع
هذا الفصل من انتصاب خبر (ما) وقال الحوفي وغيره إن حاجِزِينَ
نعت لأحد وجمع على المعنى لأنه في معنى الجماعة يقع في النفي
العام للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ومنه لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ
[البقرة: 285] ولَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الأحزاب:
32] فأحد مبتدأ والخبر مِنْكُمْ وضعف هذا القول بأن النفي
يتسلط على الخبر وهو كينونته منكم فلا يتسلط على الحجز مع أنه
الحقيق بتسلطه عليه وَإِنَّهُ أي القرآن لَتَذْكِرَةٌ
لِلْمُتَّقِينَ لأنهم المنتفعون به وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ
مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ فنجازيهم على تكذييهم وقيل الخطاب
للمسلمين والمعنى أن منهم ناسا سيكفرون بالقرآن وَإِنَّهُ أي
القرآن لَحَسْرَةٌ عظيمة عَلَى الْكافِرِينَ عند مشاهدتهم
لثواب المؤمنين وقال مقاتل وإن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم
فأعادا الضمير للمصدر المفهوم من قوله تعالى مُكَذِّبِينَ
والأول أظهر وَإِنَّهُ أي القرآن لَحَقُّ الْيَقِينِ أي لليقين
حق اليقين والمعنى لعين اليقين فهو على نحو عين الشيء ونفسه
والإضافة بمعنى اللام على ما صرح به في الكشف وجوز أن تكون
الإضافة فيه على معنى من أي الحق الثابت من اليقين وقد تقدم في
الواقعة ما ينفعك هنا فتذكره وذكر بعض الصوفية قدست أسرارهم أن
أعلى مراتب العلم حق اليقين ودونه عين اليقين ودونه علم اليقين
فالأول كعلم العاقل بالموت إذا ذاقه والثاني كعلمه به عند
معاينة ملائكته عليهم السلام. والثالث كعلمه به في سائر أوقاته
وتمام الكلام في ذلك يطلب من كتبهم فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الْعَظِيمِ أي فسبح الله تعالى بذكر اسمه العظيم تنزيها له عن
الرضا بالتقول عليه وشكرا على ما أوحى إليك من هذا القرآن
الجليل الشأن وقد مر نحو هذا في الواقعة أيضا فارجع إليه إن
أردت والله تعالى الموفق.
(15/61)
سَأَلَ سَائِلٌ
بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)
مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ
وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ
أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ
يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ
تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ
كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ
عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ
(12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا
لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ
وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
سورة المعارج
وتسمى سورة المواقع وسورة سأل وهي مكية بالاتفاق على ما قال
القرطبي وفي مجمع البيان عند الحسن إلا قوله تعالى وَالَّذِينَ
فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج: 24] وآيها ثلاث
وأربعون في الشامي واثنتان وأربعون في غيره وهي كالتتمة لسورة
الحاقة في بقية وصف القيامة والنار وقد قال ابن عباس إنها نزلت
عقيب سورة الحاقة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ
واقِعٍ أي دعا داع به فالسؤال بمعنى الدعاء ولذا عدي بالباء
تعديته بها في قوله تعالى: يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ
[الدخان: 55] والمراد استدعاء العذاب وطلبه وليس من التضمين في
شيء. وقيل الفعل مضمن معنى الاهتمام والاعتناء أو هو مجاز عن
ذلك فلذا عدي بالباء. وقيل إن الباء زائدة وقيل إنها بمعنى عن
كما في قوله تعالى فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً [الفرقان: 59]
والسائل هو النضر بن الحارث كما روى النسائي وجماعة وصححه
الحاكم عن ابن عباس. وروي ذلك عن ابن جريج والسدي والجمهور حيث
قال إنكارا واستهزاء اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ
مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ
أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32] وقيل هو أبو جهل
حيث قال فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [الشعراء:
187]
وقيل هو الحارث بن النعمان الفهري وذلك أنه لما بلغه قول رسول
الله صلّى الله عليه وسلم في علي كرم الله تعالى وجهه: «من كنت
مولاه فعلي مولاه» قال: اللهم إن كان ما يقول محمد صلّى الله
عليه وسلم حقا فأمطر علينا حجارة من السماء فما لبث حتى رماه
الله تعالى بحجر فوقع على دماغه فخرج من أسفله فهلك من ساعته.
(15/62)
وأنت تعلم أن ذلك القول منه عليه الصلاة
والسلام في أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه كان في غدير خم
وذلك في أواخر سني الهجرة فلا يكون ما نزل مكيا على المشهور في
تفسيره. وقد سمعت ما قيل في مكية هذه السورة وقيل هو الرسول
صلّى الله عليه وسلم استعجل عذابهم وقيل هو نوح عليه السلام
سأل عذاب قومه. وقرأ نافع وابن عامر «سال» بألف كقال سايل بياء
بعد الألف فقيل يجوز أن يكون قد أبدلت همزة الفعل ألفا وهو بدل
على غير قياس وإنما قياس هذا بين بين ويجوز أن يكون على لغة من
قال سلت أسال حكاها سيبويه وفي الكشاف هو من السؤال وهو لغة
قريش يقولون سلت تسال وهما يتسايلان وأراد أنه من السؤال
المهموز معنى لا اشتقاقا بدليل وهما يتسايلان وفيه دلالة على
أنه أجوف يأتي وليس من تخفيف الهمزة في شيء. وقيل السؤال
بالواو الصريحة مع ضم السين وكسرها وقوله يتسايلان صوابه
يتساولان فتكون ألفه منقلبة عن واو كما في قال وخاف وهو الذي
ذهب إليه أبو علي في الحجة وذكر فيها أن أبا عثمان حكى عن أبي
زيد أنه سمع من العرب من يقول هما يتساولان ثم إن في دعوى كون
سلت تسال لغة قريش ترددا والظاهر خلاف ذلك وأنشدوا لورود سال
قول حسان يهجو هذيلا لما سألوا النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن
يبيح لهم الزنا:
سالت هذيل رسول الله فاحشة ... ضلت هذيل بما قالت ولم تصب
وقول آخر:
سالتاني الطلاق أن رأتاني ... قل مالي قد جئتماني بنكر
وجوز أن يكون سال من السيلان وأيد بقراءة ابن عباس «سال سيل»
فقد قال ابن جني السيل هاهنا الماء السائل وأصله المصدر من
قولك سال الماء سيلا إلّا أنه أوقع على الفاعل كما في قوله
تعالى إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً [الملك: 30] أي غائرا
وقد تسومح في التعبير عن ذلك بالوادي فقيل: المعنى اندفع واد
بعذاب واقع والتعبير بالماضي قيل للدلالة على تحقيق وقوع
العذاب إما في الدنيا وهو عذاب يوم بدر وقد قتل يومئذ النضر
وأبو جهل. وإما في الآخرة وهو عذاب النار وعن زيد بن ثابت أن
سائلا اسم واد في جهنم وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن ابن
عباس ما يحتمله لِلْكافِرينَ صفة أخرى لعذاب أي كائن
لِلْكافِرينَ أو صلة لواقع واللام للتعليل أو بمعنى على ويؤيده
قراءة أبيّ «على الكافرين» وإن صح ما روي عن الحسن وقتادة أن
أهل مكة لما خوفهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم بعذاب سألوا عنه
على ما ينزل وبمن يقع فنزلت كان هذا ابتداء كلام جوابا للسائل
أي هو للكافرين وقوله تعالى لَيْسَ لَهُ دافِعٌ صفة أخرى لعذاب
أو حال منه لتخصيصه بالصفة أو بالعمل أو من الضمير في
لِلْكافِرينَ على تقدير كونه صفة لعذاب على ما قيل أو استئناف
أو جملة مؤكدة لهو لِلْكافِرينَ على ما سمعت آنفا فلا تغفل
وقوله سبحانه مِنَ اللَّهِ متعلق بدافع ومِنَ ابتدائية أي ليس
له دافع يرده من جهته عزّ وجلّ لتعلق إرادته سبحانه به وقيل
متعلق بواقع فقيل إنما يصح على غير قول الحسن وقتادة وعليه
يلزم الفصل بالأجنبي لأن لِلْكافِرينَ على ذلك جواب سؤال ثم إن
التعلق ب واقِعٍ على ما عدا قولهما إن جعل للكافرين من صلته
أيضا كان أظهر وإلا لزم الفصل بين المعمول وعامله بما ليس من
تتمته لكن ليس أجنبيا من كل وجه ذِي الْمَعارِجِ هي لغة
الدرجات والمراد بها على ما روي عن ابن عباس السماوات تعرج
فيها الملائكة من سماء إلى سماء ولم يعينها بعضهم فقال أي ذي
المصاعد التي تصعد فيها الملائكة بالأوامر والنواهي وقيل هي
مقامات معنوية تكون فيها الأعمال والاذكار أو مراتب في السلوك
كذلك يترقى فيها المؤمنون السالكون أو مراتب الملائكة عليهم
السلام. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة
(15/63)
تفسيرها بالفضائل والنعم وروى نحوه ابن
المنذر وابن أبي عباس وقيل هي الغرف التي جعلها الله تعالى
لأوليائه في الجنة والأنسب بما يقتضيه المقام من التهويل ما هو
أدل على عزه عزّ وجلّ وعظم ملكوته تعالى شأنه تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ أي جبريل عليه السلام كما ذهب إليه
الجمهور أفرد بالذكر لتميزة وفضله بناء على المشهور من أنه
عليه السلام أفضل الملائكة. وقيل لمجرد التشريف وإن لم يكن
عليه السلام أفضلهم بناء على ما قيل من أن إسرافيل عليه السلام
أفضل منه. وقال مجاهد الرُّوحُ ملائكة حفظة للملائكة الحافظين
لبني آدم لا تراهم الحفظة كما لا نرى نحن حفظتنا. وقيل خلق هم
حفظة الملائكة مطلقا كما أن الملائكة حفظة الناس وقيل ملك عظيم
الحلقة يقوم وحدة يوم القيامة صفا ويقوم الملائكة كلهم صفا
وقال أبو صالح خلق كهيئة الناس وليسوا بالناس. وقال قبيصة بن
ذؤيب: روح الميت حين تقبض ولعله أراد الميت المؤمن وقرأ عبد
الله والكسائي وابن مقسم وزائدة عن الأعمش «يعرج» بالياء
التحتية إِلَيْهِ قيل أي إلى عرشه تعالى وحيث يهبط منه أو أمره
سبحانه وقيل هو من قبيل قول إبراهيم عليه السلام إِنِّي ذاهِبٌ
إِلى رَبِّي [الصافات: 99] أي إلى حيث أمرني عزّ وجلّ به. وقيل
المراد إلى محل بره وكرامته جل وعلا على أن الكلام على حذف
مضاف وقيل إلى المكان المنتهى إليه الدال عليه السياق وفسر
بمحل الملائكة عليهم السلام من السماء ومعظم السلف يعدون ذلك
من المتشابه مع تنزيهه عزّ وجلّ عن المكان والجسمية واللوازم
التي لا تليق بشأن الالوهية وقوله تعالى فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ أي من سنينكم الظاهر تعلقه
بتعرج، واليوم بمعنى الوقت والمراد به مقدار ما يقوم الناس فيه
لرب العالمين إلى أن يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في
النار من اليوم الآخر والذي لا نهاية له.
ويشير إلى هذا ما
أخرج الإمام أحمد وابن حبان وأبو يعلى وابن جرير والبيهقي في
البعث عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: سئل رسول
الله صلّى الله عليه وسلم عن يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما
أطول هذا اليوم فقال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده
إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من الصلاة مكتوبة
يصليها في الدنيا» .
واختلف في المراد بهذا التقدير على هذا الوجه فقيل الإشارة إلى
استطالة ذلك اليوم لشدته لا أنه بهذا المقدار من العدد حقيقة
وروي هذا عن ابن عباس والعرب تصف أوقات الشدة والحزن بالطول
وأوقات الرخاء والفرح بالقصر ومن ذلك قول الشاعر:
من قصر الليل إذا زرتني ... أشكو وتشكين من الطول
وقوله:
ليلي وليلى نفى نومي اختلافهما ... بالطول والطول يا طوبى لو
اعتدلا
يجود بالطول ليلي كلما بخلت ... بالطول ليلى وإن جادت به بخلا
وقوله:
ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطفاق المزاهر
إلى ما لا يكاد يحصى
وفي قوله عليه الصلاة والسلام في الخبر السابق «إنه ليخفف على
المؤمن حتى يكون أهون عليه من صلاة مكتوبة»
إشارة إلى هذا وكذا ما
روي عن عبد الله بن عمر من قوله: «يوضع للمؤمنين يومئذ كراسي
من ذهب ويظلل عليهم الغمام ويقصر عليهم ذلك اليوم ويهون حتى
يكون كيوم من أيامكم هذه»
ولينظر على هذا القول ما حكمة التنصيص على العدد المذكور وقيل
هو على ظاهره وحقيقته وإن
(15/64)
في ذلك اليوم خمسين موطنا كل موطن ألف سنة
من سني الدنيا أي حقيقة. وقيل الخمسون على حقيقتها إلّا أن
المعنى مقدار ما يقضي فيه من الحساب قدر ما يقضي بالعدل في
خمسين ألف سنة من أيام الدنيا وهو مروي عن عكرمة. وأشار بعضهم
إلى أن المقدار المذكور عليه مجاز عما يلزمه من كثرة ما يقع
فيه من المحاسبات أو كناية فكأنه قيل في يوم يكثر فيه الحساب
ويطول بحيث لو وقع من غير أسرع الحاسبين وفي الدنيا طال إلى
خمسين ألف سنة وتخصيص عروج الملائكة والروح بذلك اليوم مع أن
عروجهم متحقق في غيره أيضا للإشارة إلى عظم هوله وانقطاع الخلق
فيه إلى الله عز وجل وانتظارهم أمره سبحانه فيهم أو للإشارة
إلى عظم الهول على وجه آخر وأيّا ما كان فالجملة استئناف مؤكد
لما سيق له الكلام. وقيل هو متعلق بواقع وقيل بدافع وقيل بسال
إذا جعل من السيلان لا به من السؤال لأنه لم يقع فيه. والمراد
باليوم على هذه الأقوال ما أريد به فيما سبق وتَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إليه مستطرد عند وصفه عز وجل بذي
المعارج وقيل هو متعلق بتعرج كما هو الظاهر إلا أن العروج في
الدنيا والمعنى تعرج الملائكة والروح إلى عرشه تعالى ويقطعون
في يوم من أيامكم ما يقطعه الإنسان في خمسين ألف سنة لو فرض
سيره فيه. وروي عن ابن إسحاق ومنذر بن سعيد ومجاهد وجماعة وهو
رواية عن ابن عباس أيضا واختلف في تحديد المسافة فقيل هي من
وجه الأرض إلى منتهى العرش. وقيل من قعر الأرض السابعة السفلى
إلى العرش وفصل بأن ثخن كل أرض خمسمائة عام وبين كل أرضين
خمسمائة عام وبين الأرض العليا والسماء الدنيا خمسمائة عام
وثخن كل سماء كذلك وما بين كل سماءين كذلك وما بين السماء
العليا ومقعر الكرسي كذلك، ومجموع ذلك أربعة عشر ألف عام ومن
مقعر الكرسي إلى العرش مسيرة ست وثلاثين ألف عام فالمجموع
خمسون ألف سنة. وفي خبر أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه
ولعله لا يصح وإن لم تبعد هذه السرعة من الملائكة عليهم السلام
عند من وقف على سرعة حركة الأضواء وعلم أن الله عز وجل على كل
شيء قدير. ومن الناس من اعتبر هذه المدة من الأرض إلى العرش
عروجا وهبوطا واعتبرها كذلك من الأرض إلى مقعر السماء الدنيا
في قوله سبحانه يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى
الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ
أَلْفَ سَنَةٍ [السجدة: 5] ومن يعتبر أحد الأمرين يعتبر هنا
محدب السماء الدنيا والأرض وسيأتي إن شاء الله تعالى ما
للمتصوفة في ذلك. وقيل الكلام بيان لغاية ارتفاع تلك المعارج
وبعد مداها على سبيل التمثيل والتخييل. والمراد أنها في غاية
البعد والارتفاع المعنوي على بعض الأوجه في المعارج أو الحسي
كما في بعض آخر. وليس المراد التحديد وعن عكرمة أن تلك المدة
هي مدة الدنيا منذ خلقت إلى أن تقوم الساعة إلى أنه لا يدري
أحد ما مضى منها وما بقي أي تعرج الملائكة إليه في مدة الدنيا
وبقاء هذه البنية وهذا يحتاج إلى نقل صحيح. والظاهر أنه أراد
بالدنيا ما يقابل الأخرى ويشمل العرش ونحوه ويرد عليه أن ما
ورد عن علي كرم الله تعالى وجهه جوابا لمن سأله متى خلق الله
تعالى العرش يكذبه فإنه يدل على أن ما مضى من أول زمن خلقه إلى
اليوم يزيد على خمسين ألف سنة بألوف ألوف سنين لا يحصيها إلا
الله عز وجل ولعله أولى بالقبول مما قاله عكرمة. والحق أنه لا
يعلم مبدأ الخلق ولا مدة بقاء هذه البنية إلا الله عز وجل بيد
أنّا نعلم بتوفيق الله تعالى أن هذا العالم حادث حدوثا زمانيا
وأنه ستبدل الأرض غير الأرض والسماوات وتبرز الخلائق لله تعالى
الواحد القهار فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا متفرع على قوله
تعالى سَأَلَ سائِلٌ ومتعلق به تعلقا معنويا لأن السؤال كان عن
استهزاء وتعنت وتكذيب بناء على أن السائل النضر وأضرابه وذلك
مما يضجره عليه الصلاة والسلام، أو كان عن تضجر
واستبطاء للنصر بناء على أنه صلّى الله عليه وسلم هو السائل
فكأنه قيل: فاصبر ولا تستعجل فإن الموعود كائن لا محالة.
والمعنى على هذا أيضا
(15/65)
على قراءة من قرأ «سال سائل» من السيلان
كقراءة «سال سيل» ولا يظهر تفرعه على سأل من السؤال إن كان
السائل نوحا عليه السلام والصبر الجميل على ما أخرجه الحكيم
الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس ما لا شكوى فيه إلى أحد
غير الله تعالى. وأخرج عن عبد الأعلى بن الحجاج أنه ما يكون
معه صاحب المصيبة في القوم بحيث لا يدري من هو إِنَّهُمْ
يَرَوْنَهُ أي العذاب الواقع أو اليوم المذكور في قوله تعالى
فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ إلخ بناء على أن المراد به يوم
الحساب متعلقا بتعرج على ما سمعت أولا أو بدافع أو بواقع أو
بسال من السيلان أو يوم القيامة المدلول عليه بواقع على وجه
فما يدل عليه كلام الكشاف من تخصيص عود الضمير إلى يوم القيامة
بما إذا كان فِي يَوْمٍ متعلقا بواقع فيه بحث ومعنى يَرَوْنَهُ
يعتقدونه بَعِيداً أي من الإمكان والمراد أنهم يعتقدون أنه
محال أو من الوقوع والمراد أنهم يعتقدون أنه لا يقع أصلا وإن
كان ممكنا ذاتا وكلام كفار أهل مكة بالنسبة إلى يوم القيامة
والحساب محتمل للأمرين بل ربما تسمعهم يتكلمون بما يكاد يشعر
بوقوعه حيث يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم فهم متلونون في أمره
تلون الحرباء والعذاب إن أريد به عذاب يوم القيامة فهو كيوم
القيامة عندهم أو أنه لا يقع بالنسبة إليهم مطلقا لزعمهم دفع
آلهتهم إياه عنهم وإن أريد به عذاب الدنيا فالظاهر أنهم لا
ينفون إمكانه وإنما ينفون وقوعه ولا تكاد تتم دعوى أنهم ينفون
إمكانه الذاتي وَنَراهُ قَرِيباً أي من الإمكان والتعبير به
للمشاكلة كما قيل بها في نَراهُ إذ هو ممكن ولا معنى لوصف
الممكن بالقرب من الإمكان لدخوله في حيزه والمراد وصفه
بالإمكان أي ونراه ممكنا وهذا على التقدير الأول في يَرَوْنَهُ
بَعِيداً أو نَراهُ قَرِيباً من الوقوع وهذا على التقدير
الثاني فيه وقد يقال كذلك على الأول أيضا على معنى أنهم
يَرَوْنَهُ بَعِيداً من الإمكان ونحن نراه قريبا من الوقوع
فضلا عن الإمكان ولعله أولى من تقدير الإمكان في الجملتين
وجملة إِنَّهُمْ إلخ تعليل للأمر بالصبر وقيل إن كان المستعجل
هو النضر وأضرابه فهي مستأنفة بيانا لشبهة استهزائهم وجوابا
عنه وإن كان النبي صلّى الله عليه وسلم فهي تعليل لما ضمن
الأمر بالصبر من ترك الاستعجال بأن رؤيتنا ذلك قريبا توجب
الوثوق وترك الاستعجال وقوله سبحانه يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ
كَالْمُهْلِ قيل متعلق بقريبا أو بمضمر يدل عليه واقِعٍ وهو
يقع أو بدل عن فِي يَوْمٍ إن علل به دون تَعْرُجُ والنصب
باعتبار أن محل الجار والمجرور ذلك إذ ليس بدلا عن المجرور
وحده فاشتراط أبي حيان لمراعاة المحل كون الجار زائدا أو شبهه
كرب غير صحيح ولا يحتاج تصحيح البدلية إلى التزام كون حركة يوم
بنائية بناء على مذهب الكوفيين المجوزين لذلك وإن أضيف لمعرب
وذكر أنه على هذه التقادير الثلاث المراد بالعذاب عذاب القيامة
وأما إذا أريد عذاب الدنيا فيتعين أن يكون التقدير يوم تكون
السماء يكون كيت وكيت وكأنهم لما استعجلوا العذاب أجيبوا بأزف
الوقوع ثم قيل ليهن ذلك في جنب ما أعد لكم يَوْمَ تَكُونُ
السَّماءُ كَالْمُهْلِ فحينئذ يكون العذاب الذي هو العذاب ثم
لا يخفى أن البداية ممكنة على تقدير تعلق فِي يَوْمٍ بتعرج
أيضا بناء على أن المراد به يوم القيامة أيضا كما قدمنا وأن
الأولى عند تعلقه بقريبا أن لا يراد من القرب من الإمكان
الإمكان الذاتي لما في تقييده باليوم نوع إيهام. وأن ضميري
يَرَوْنَهُ ونَراهُ إذا كانا ليوم القيامة يلزم وقوع الزمان في
الزمان في قولنا يقع يوم القيامة يوم تكون كالمهل ويجاب بما لا
يخفى. وجوز في البحر كونه بدلا من ضمير نَراهُ إذا كان عائدا
على يوم القيامة وفي الإرشاد كونه متعلقا بليس له دافع وبعضهم
كونه مفعولا به لا ذكر محذوفا وتعلقه بنراه كما قاله مكي لا
نراه وكذا تعلقه بيبصرونهم كما حكاه ومثله ما عسى أن يقال
متعلقه بيود الآتي بعد فتأمل والمهل أخرج أحمد والضياء في
المختارة وغيرهما عن ابن عباس أنه دردي الزيت وهو ما يكون في
قعره. وقال غير واحد: المهل ما
أذيب على
(15/66)
مهل من الفلزات والمراد يوم تكون السماء
واهية وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية أن السماء الآن
خضراء وأنها تحول يوم القيامة لونا آخر إلى الحمرة وَتَكُونُ
الْجِبالُ كَالْعِهْنِ كالصوف دون تقييد أو الأحمر أو المصبوغ
ألوانا أقوال واختار جمع الأخير وذلك لاختلاف ألوان الجبال
فمنها جدد بيض وحمر وغرابيب سود فإذا بست وطيرت في الجو أشبهت
العهن أي المنفوش كما في القارعة إذا طيرته الريح وعن الحسن
تسير الجبال مع الرياح ثم ينهد ثم تصير كالعهن ثم تنسف فتصير
هباء وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً أي لا يسأل قريب مشفق
قريبا مشفقا عن حاله ولا يكلمه لابتلاء كل منهم بما يشغله عن
ذلك أخرجه ابن المنذر وعبد بن حميد عن قتادة وفي رواية أخرى
عنه لا يسأله عن حاله لأنها ظاهرة وقيل لا يسأله أن يحمل عنه
أوزاره شيئا ليأسه عن ذلك وقيل لا يسأله شفاعة وفي البحر لا
يسأله نصره ولا منفعته لعلمه أنه لا يجد ذلك عنده. ولعل الأول
أبلغ في التهويل وأيّا ما كان فمفعول يَسْئَلُ الثاني محذوف
وقيل حَمِيماً منصوب بنزع الخافض أي لا يسأل حميم عن حميم وقرأ
أبو حيوة وشيبة وأبو جعفر والبزي بخلاف عن ثلاثتهم «ولا يسأل»
مبنيا للمفعول أي لا يطلب من حميم حميم ولا يكلف إحضاره أو لا
يسأل منه حاله وقيل لا يسأل ذنوب حميمه ليؤخذ بها
يُبَصَّرُونَهُمْ أي يبصر الأحماء الأحماء فلا يخفون عليهم وما
يمنعهم من التساؤل إلا اشتغالهم بحال أنفسهم وقيل ما يغني عنه
من مشاهدة الحال كبياض الوجه وسواده ولا يخفى حاله ويبصرونهم
قيل من بصرته بالشيء إذا أوضحته له حتى يبصره ثم ضمن معنى
التعريف أو حذف الصلة إيصالا وجمع الضميرين لعموم الحميم
والجملة استئناف كأنه لما قيل لا يَسْئَلُ إلخ قيل لعله لا
يبصره فقيل يُبَصَّرُونَهُمْ وجوز أن تكون صفة أي حَمِيماً
مبصرين معرفين إياهم وأن تكون حالا إما من الفاعل أو من
المفعول أو من كليهما ولا يضر التنكير لمكان العموم وهو مسوغ
للحالية ورجحت على الوصفية بأن التقييد بالوصف في مقام الإطلاق
والتعميم غير مناسب وليس فيها ذلك فلا تغفل. وقرأ قتادة
«يبصرونهم» مخففا مع كسر الصاد أي يشاهدونهم يَوَدُّ
الْمُجْرِمُ أي يتمنى الكافر وقيل كل مذنب وقوله تعالى لَوْ
يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ أي العذاب الذي ابتلي به
يومئذ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ حكاية لودادتهم ولَوْ
في معنى التمني وقيل هي بمنزلة أن الناصبة فلا يكون لها جواب،
وينسبك منها ومما بعدها مصدر يقع مفعولا ليود والتقدير يَوَدُّ
افتداءه ببنيه إلخ والجملة استئناف لبيان أن اشتغال كل مجرم
بنفسه بلغ إلى حيث يتمنى أن يفتدى بأقرب الناس إليه وأعلقهم
بقلبه فضلا أن يهتم بحاله ويسأل عنها وجوز أن تكون حالا من
ضمير الفاعل على فرض أن يكون هو السائل فإن فرض أن السائل
المفعول فهي حال من ضميره وقيل الظاهر جعلها حالا من ضمير
الفاعل لأنه المتمني وأيّا ما كان فالمراد يَوَدُّ الْمُجْرِمُ
منهم وقرأ نافع والكسائي كما في أنوار التنزيل والأعرج «يومئذ»
بالفتح على البناء للإضافة إلى غير متمكن وقرأ أبو حيوة كذلك
وبتنوين «عذاب» فيومئذ حينئذ منصوب بعذاب لأنه في معنى تعذيب
وَفَصِيلَتِهِ أي عشيرته الأقربين الذين فصل عنهم كما ذكره غير
واحد ولعله أولى من قول الراغب عشيرته المنفصلة عنه وقال ثعلب
فَصِيلَتِهِ آباؤه الأدنون وفسر أبو عبيدة الفصيلة بالفخذ
الَّتِي تُؤْوِيهِ أي تضمنه انتماء إليها لياذا بها في النوائب
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من الثقلين الإنس والجن أو
الخلائق الشاملة لهم ولغيرهم ومن للتغليب ثُمَّ يُنْجِيهِ عطف
على يَفْتَدِي والضمير المرفوع للمصدر الذي في ضمن الفعل أي
يود لو يفتدي ثم لو ينجيه الافتداء، وجوز أبو حيان عود الضمير
إلى المذكور والزمخشري عوده إلى مَنْ فِي الْأَرْضِ وثم
الاستبعاد الإنجاء يعني يتمنى لو كان هؤلاء جميعا تحت يده
وبذلهم في فداء نفسه ثم ينجيه ذلك وهيهات وقرأ الزهري «تؤويه»
و «ينجيه»
(15/67)
بضم الهاءين كَلَّا ردع للمجرم عن الودادة
وتصريح بامتناع الإنجاء وضمير إِنَّها للنار المدلول عليها
بذكر العذاب وقوله تعالى لَظى خبر إن وهي علم لجهنم أو للدركة
الثانية من دركاتها منقول
من اللظى بمعنى اللهب الخالص ومنع الصرف للعلمية والتأنيث وجوز
أن يراد اللهب على المبالغة كأن كلها لهب خالص وحذف التنوين
إما لإجراء الوصل مجرى الوقف أو لأنه علم جنس معدول عما فيه
اللام كسحر إذا أردت سحرا بعينه وقوله تعالى نَزَّاعَةً
لِلشَّوى أي الأطراف كاليد والرجل كما أخرجه ابن المنذر وابن
حميد عن مجاهد وأبي صالح وقاله الراغب وغيره وقيل الأعضاء التي
ليست بمقتل ولذا يقال رمى فأشوى إذا لم يقتل أو جمع شواة وهي
جلدة الرأس وأنشدوا قول الأعشى:
قالت قتيلة ما له ... قد جللت شيبا شواته
وروي هذا عن ابن عباس وقتادة وقرة بن خالد وابن جبير وأخرجه
ابن أبي شيبة عن مجاهد وأخرج هو عن أبي صالح والسدي تفسيرها
بلحم الساقين وعن ابن جبير العصب والعقب وعن أبي العالية محاسن
الوجه وفسر نزعها لذلك بأكلها له فتأكله ثم يعود وهكذا نصب
بتقدير أعني أو أخص وهو مراد من قال نصب على الاختصاص للتهويل
وجوز أن يكون حالا والعامل فيها لَظى وإن كان علما لما فيه من
معنى التلظي كما عمل العلم في الظرف في قوله:
أنا أبو المنهال بعض الأحيان أي المشهور بعض الأحيان قاله أبو
حيان وإليه يشير كلام الكشف وقال الخفاجي لَظى بمعنى متلظية
والحال من الضمير المستتر فيها لا منها بالمعنى السابق لأنها
نكرة أو خبر. وفي مجيء الحال من مثله ما فيه وقيل هو حال مؤكدة
كما في قوله:
أنا ابن دارة معروفا بها نسبي ... وهل بدارة يا للناس من عار
والعامل أحقه أو الخبر لتأويله بمسمى أو المبتدأ لتضمنه معنى
التنبيه أو معنى الجملة وارتضاء الرضى وقيل حال من ضمير تدعو
قدم عليه وجوز الزمخشري أن يكون ضمير إنها مبهما ترجم عنه
الخبر أعني لَظى وبحث فيه بما رده المحققون وقرأ الأكثرون
«نزّاعة» بالرفع على أنه خبر ثان لأن أو صفة للظى وهو ظاهر على
اعتبار كونها نكرة وكذا على كونها علم جلس لأنه كالمعرف بلام
الجنس في إجرائه مجرى النكرة أو هو الخبر ولَظى بدل من الضمير
وإن اعتبرت نكرة بناء على أن إبدال النكرة غير منعوتة من
المعرفة قد أجازه أبو علي وغيره من النحاة إذا تضمن فائدة كما
هنا. وجوز على هذه القراءة أن يكون ضمير إِنَّها للقصة ولَظى
مبتدأ بناء على أنه معرفة ونَزَّاعَةً خبره وقوله تعالى
تَدْعُوا خبر مبتدأ مقدر أو حال متداخلة أو مترادفة أو مفردة
أو خبر بعد خبر على قراءة الرفع فلا تغفل والدعاء على حقيقته
وذلك كما روي عن ابن عباس وغيره يخلق الله تعالى فيها القدرة
على الكلام كما يخلقه في جلودهم وأيديهم وأرجلهم فتناديهم
بأسمائهم وأسماء آبائهم وروي أنها تقول لهم إليّ إليّ يا كافر
يا منافق. وجوز أن يراد به الجذب والإحضار كما في قول ذي الرمة
يصف الثور الوحشي:
أمسى بوهبين مجتازا لمرتعه ... من ذي الفوارس تدعو أنفه الربب
ونحوه قوله أيضا:
ليالي اللهو يطبيني فأتبعه ... كأنني ضارب في غمرة لعب
(15/68)
إِنَّ الْإِنْسَانَ
خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20)
وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ
(22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ
بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ
رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ
مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
(29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ
ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)
أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ
كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ
الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ
أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا
خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ
الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى
أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ
(41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا
يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ
الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ
(43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ
الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
ولا يبعد أن يقال شبه لياقتها لهم أو
استحقاقهم لها على ما قيل بدعائها لهم فعبر عن ذلك بالدعاء على
سبيل الاستعارة. وقال ثعلب تدعو تهلك من قول العرب دعاك الله
تعالى أي أهلكك وحكاه الخليل عنهم.
وفي الأساس دعاه الله تعالى بما يكره أنزله به وأصابتهم دواعي
الدهر صروفه ومن ذلك قوله:
دعاك الله من رجل بأفعى ... إذا نام العيون سرت عليكا
واستظهر أنه معنى حقيقي للدعاء لكنه غير مشهور وفيه تردد وجوز
أن يكون الدعاء لزبانيتها وأسند إليها مجازا أو الكلام على
تقدير مضاف أي تدعو زبانينها مَنْ أَدْبَرَ في الدنيا عن الحق
وَتَوَلَّى أعرض عن الطاعة وَجَمَعَ فَأَوْعى أي جمع المال
فجعله في وعاء وكنزه ولم يؤد حقوقه وتشاغل به عن الدين زها
باقتنائه حرصا وتأميلا وهذا إشارة إلى كفار أغنياء وما أخوف
عبد الله بن عكيم فقد أخرج ابن سعيد عن الحكم أنه قال كان عبد
الله بن عكيم لا يربط كيسه ويقول سمعت الله تعالى يقول
وَجَمَعَ فَأَوْعى.
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً الهلع سرعة الجزع عند مس
المكروه وسرعة المنع عند مس الخير من قولهم ناقة هلوع سريعة
السير وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وغيرهما عن عكرمة قال سئل
ابن عباس عن الهلوع فقال هو كما قال الله تعالى إِذا مَسَّهُ
الشَّرُّ إلخ وأخرج ابن المنذر عن الحسن أنه سئل عن ذلك أيضا
فقرأ الآية وحكي نحوه عن ثعلب قال قال لي محمد بن عبد الله بن
طاهر: ما الهلع؟ فقلت: قد فسره الله تعالى ولا يكون تفسير أبين
من تفسيره سبحانه يعني قوله تعالى إِذا مَسَّهُ الآية ونظير
ذلك قوله:
الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا
والجملة المؤكدة في موضع التعليل لما قبلها والْإِنْسانَ الجنس
أو الكافر قولان أيد ثانيهما بما روى الطستي عن ابن عباس أن
الآية في أبي جهل بن هشام ولا يأبى ذاك إرادة الجنس والشر
الفقر والمرض ونحوهما وأل للجنس أي إذا مسه جنس الشر جَزُوعاً
أي مبالغا في الجزع مكثرا منه. والجزع قال الراغب أبلغ من
الحزن فإن الحزن عام والجزع حزن يصرف الإنسان عما هو بصدده
ويقطعه عنه. وأصله قطع الحبل من نصفه يقال: جزعه فانجزع ولتصور
الانقطاع فيه قيل جزع الوادي لمنقطعه والانقطاع اللون بتغيره
قيل للخرز المتلون جزع وعنه استعير قولهم لحم مجزع إذ كان ذا
لونين وقيل للبسرة إذا بلغ الإرطاب نصفها
(15/69)
مجزعة وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ المال
والغنى أو الصحة مَنُوعاً مبالغا في المنع والإمساك وإِذا
الأولى ظرف لجزوعا والثانية ظرف لمنوعا والوصفان على ما اختاره
بعض الأجلة صفتان كاشفتان لهلوعا الواقع حالا كما هو الأنسب
بما سمعت عن ابن عباس وغيره. وقال غير واحد الأوصاف الثلاثة
أحوال فقيل مقدرة إن أريد اتصاف الإنسان بذلك بالفعل فإنه في
حال الخلق لم يكن كذلك وإنما حصل له ذلك بعد تمام عقله ودخوله
تحت التكليف، ومحققة إن أريد اتصافه بمبدأ هذه الأمور من
الأمور الجبلية والطبائع الكلية المندرجة فيها تلك الصفات
بالقوة ولا مانع عند أهل الحق من خلقه تعالى الإنسان وطبعه
سبحانه إياه على ذلك وفي زوالها بعد خلاف فقيل إنها تزول
بالمعالجة ولولاه لم يكن للمنع منها والنهي عنها فائدة وهي
ليست من لوازم الماهية فالله تعالى كما خلقها يزيلها وقيل:
إنها لا تزول وإنما تستر ويمنع المرء عن آثارها الظاهرة كما
قيل:
والطبع في الإنسان لا يتغير وهذا الخلاف جار في جميع الأمور
الطبيعية وقال بعضهم: الأمور التابعة منها لأصل المزاج لا
تتغير والتابعة لعرضه قد تتغير. وذهب الزمخشري إلى أن في
الكلام استعارة فقال: المعنى أن الإنسان لإيثاره الجزع والمنع
وتمكنهما منه ورسوخهما فيه كأنه مجبول عليهما مطبوع وكأنه أمر
خلقي وضروري غير اختياري كقوله تعالى خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ
عَجَلٍ [الأنبياء: 37] لأنه في البطن والمهد لم يكن به هلع
ولأنه ذم والله تعالى لا يذم فعله سبحانه والدليل عليه استثناء
المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم وحملوها على المكاره وطلقوها من
الشهوات حتى لم يكونوا جازعين ولا مانعين. وتعقب بأنه في المهد
أهلع وأهلع فيسرع إلى الثدي ويحرص على الرضاع وإن مسه ألم جزع
وبكى وإن تمسك بشيء فزوحم عليه منع بما في قدرته من اضطراب
وبكاء وفي البطن لا يعلم حاله وأيضا الاسم يقع عليه بعد الوضع
فما بعده هو المعتبر وإن الذم من حيث القيام بالعبد كما حقق في
موضعه وإن الاستثناء إما منقطع لأنه لما وصف سبحانه من أدبر
وتولى معللا بهلعه وجزعه قال تعالى لكن المصلين في مقابلتهم
أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ [المعارج: 35] ثم كر على السابق وقال
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا [المعارج: 36] بالفاء تخصيصا بعد
تعميم ورجعا إلى بدء لأنهم من المستهزئين الذين افتتح السورة
بذكر سؤالهم أو متصل على أنهم لم يستمر خلقهم على الهلع فإن
الأول لما كان تعليلا كان معناه خلقا مستمرا على الهلع والجزع
إِلَّا الْمُصَلِّينَ فإنهم لم يستمر خلقهم على ذلك فلا يرد أن
الهلع الذي في المهد لو كان مرادا لما صح استثناء المصلين
لأنهم كغيرهم في حال الطفولية انتهى وهذا الاستثناء هو ما
تضمنه قوله تعالى إِلَّا الْمُصَلِّينَ إلخ وقد وصفهم سبحانه
بما ينبىء عن كمال تنزههم عن الهلع من الاستغراق في طاعة الحق
عز وجل والإشفاق على الخلق والإيمان بالجزاء والخوف من العقوبة
وكسر الشهوة وإيثار الآجل على العاجل فقال عز من قائل
الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ أي مواظبون على
أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل وفيه
إشارة إلى فضل المداومة على العبادة
وقد أخرج ابن حبان عن أبي سلمة قال حدثتني عائشة قالت: قال
رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «خذوا من العمل ما تطيقون فإن
الله تعالى لا يمل حتى تملوا»
قالت فكان أحب الأعمال إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما
دام عليه وإن قل، وكان إذا صلى صلاة دام عليها وقرأ أبو سلمة
الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وأخرج أحمد في مسنده
عنها أنها قالت: كان عمله صلّى الله عليه وسلم ديمة قال جار
الله أي ما فعل من أفعال الخير إلّا وقد اعتاد ذلك ويفعله كلما
جاء وقته ووجه بأن الفعلة للحال التي يستمر عليها الشخص ثم في
جعله نفس الحالة ما لا يخفى من المبالغة والدلالة على أنه
(15/70)
كان ملكة له عليه الصلاة والسلام وقيل
دائِمُونَ أي لا يلتفتون فيها ومنه الماء الدائم وروي ذلك عن
عمران بن حصين وكذا عن عقبة بن عامر أخرج ابن المنذر عن أبي
الخير أن عقبة قال لهم: من الذين هم على صلاتهم دائمون؟ قال:
قلنا الذين لا يزالون يصلون، فقال: لا ولكن الذين إذا صلوا لم
يلتفتوا عن يمين ولا شمال وإليه ذهب الزجاج فتشعر الآية بذم
الالتفات في الصلاة وقد نطقت الأخبار بذلك واستدل بعضهم بها
على أنه كبيرة وتحقيقه في الزواجر. وعن ابن مسعود ومسروق أن
دوامها أداؤها في مواقيتها وهو كما ترى ولعل ترك الالتفات
والأداء في الوقت يتضمنه ما يأتي من المحافظة إن شاء الله
تعالى والمراد بالصلاة على ما أخرج عبد بن حميد عن إبراهيم
التيمي الصلاة المكتوبة
وعن الإمام أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن المراد بها النافلة
وقيل ما أمروا به مطلقا منها وقرأ الحسن «صلواتهم» بالجمع
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ أي نصيب معين
يستوجبونه على أنفسهم تقربا إلى الله تعالى وإشفاقا على الناس
وهو على ما
روي عن الإمام أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ما يوظفه الرجل
على نفسه يؤديه في كل جمعة أو كل شهر مثلا
وقيل هو الزكاة لأنها مقدرة معلومة وتعقب بأن السورة مكية
والزكاة إنما فرضت وعيّن مقدارها في المدينة وقبل ذلك كانت
مفروضة من غير تعيين لِلسَّائِلِ الذي يسأل وَالْمَحْرُومِ
الذي لا يسأل فيظن أنه غني فيحرم واستعماله في ذلك على سبيل
الكناية ولا يصح أن تراد به من يحرمونه بأنفسهم للزوم التناقض
كما لا يخفى وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ
المراد التصديق به بالأعمال حيث يتعبون أنفسهم في الطاعات
البدنية طمعا في المثوبة الأخروية لأن التصديق القلبي عام
لجميع المسلمين لا امتياز فيه لأحد منهم وفي التعبير بالمضارع
دلالة على أن التصديق والأعمال تتجدد منهم آنا فآنا
وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ خائفون
على أنفسهم مع ما لهم من الأعمال الفاضلة استقصارا لها
واستعظاما لجنابه عز وجل كقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ
ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ
راجِعُونَ [المؤمنون: 60] وقوله سبحانه إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ
غَيْرُ مَأْمُونٍ اعتراض مؤذن بأنه لا ينبغي لأحد أن يأمن
عذابه عز وجل وإن بالغ في الطاعة كهؤلاء ولذا كان السلف الصالح
وهم هم خائفين وجلين حتى قال بعضهم يا ليتني كنت شجرة تعضد
وآخر ليت أمي لم تلدني إلى غير ذلك وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ
ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ سبق تفسيره في
سورة المؤمنين على وجه مستوفى فتذكره وَالَّذِينَ هُمْ
لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ لا يخلّون بشيء من حقوقها
وكأنه لكثرة الأمانة جمعت ولم يجمع العهد قبل إيذانا بأنه ليس
كالأمانة كثرة وقيل لأنه مصدر ويدل على كثرة الأمانة ما روى
الكلبي: كل أحد مؤتمن على ما افترض عليه من العقائد والأقوال
والأحوال والأفعال ومن الحقوق في الأموال وحقوق الأهل والعيال
وسائر الأقارب والمملوكين والجار وسائر المسلمين. وقال السدي
إن حقوق الشرع كلها أمانات قد قبلها المؤمن وضمن أداءها بقبول
الإيمان وقيل كل ما أعطاه الله تعالى للعبد من الأعضاء وغيرها
أمانة عنده فمن استعمل ذلك في غير ما أعطاه لأجله وأذن سبحانه
له به فقد خان الأمانة والخيانة فيها وكذا الغدر بالعهد من
الكبائر على ما نص غير واحد.
وقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر مرفوعا: «أربع من كن
فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من
النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد
غدر، وإذا خاصم فجر» .
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أنس قال: ما خطبنا رسول الله
صلّى الله عليه وسلم إلّا قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا
دين لمن لا عهد له»
. وقرأ ابن كثير «لأمانتهم» بالإفراد على إرادة الجنس
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ مقيمون لها بالعدل
غير منكرين لها أو لشيء منها ولا مخفين إحياء لحقوق الناس فيما
(15/71)
يتعلق بها وتعظيما لأمر الله عز وجل فيما
يتعلق بحقوقه سبحانه، وخص بعضهم الشهادة بما يتعلق بحقوق
العباد وذكر أنها مندرجة في الأمانات إلّا أنها خصت بالذكر
لإبانة فضلها وجمعها لاختلاف الأنواع ولو لم يعتبر ذلك أفرد
على ما قيل لأنها مصدر شامل للقليل والكثير. وقرأ الجمهور
بالإفراد على ما سمعت آنفا وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ
يُحافِظُونَ أي يراعون شرائطها ويكملون فرائضها وسننها
ومستحباتها باستعارة الحفظ من الضياع للإتمام والتكميل وهذا
غير الدوام فإنه يرجع إلى أنفس الصلوات وهذا يرجع إلى أحوالها
فلا يتكرر مع ما سبق من قوله تعالى الَّذِينَ هُمْ عَلى
صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وكأنه لما كان ما يراعى في إتمام الصلاة
وتكميلها مما يتفاوت بحسب الأوقات جيء بالمضارع الدال على
التجدد كذا قيل. وقيل إن الإتيان به مع تقديم هم لمزيد
الاعتناء بهذا الحكم لما أن أمر التقوى في مثل ذلك أقوى منه في
مثل هم محافظون واعتبر هذا هنا دون ما في الصدر لأن المراعاة
المذكورة كثيرا ما يفغل عنها. وفي افتتاح الأوصاف بما يتعلق
بالصلاة واختتامها به دلالة على شرفها وعلو قدرها لأنها معراج
المؤمنين ومناجاة رب العالمين ولذا جعلت قرة عين سيد المرسلين
صلّى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين وتكرير الموصولات
لتنزيل اختلاف الصفات منزلة اختلاف الذوات إيذانا بأن كان واحد
من الأوصاف المذكورة نعت جليل على حياله له شأن خطير مستتبع
لأحكام جمة حقيق بأن يفرد له موصوف مستقل ولا يجعل شيء منها
تتمة للآخر أُولئِكَ إشارة إلى الموصوفين بما ذكر من الصفات
وما فيه من معنى البعد لبعد المشار إليهم إما في الفضل أو في
الذكر باعتبار مبدأ الأوصاف المذكورة وهو مبتدأ خبره فِي
جَنَّاتٍ أي مستقرون في جنات لا يقادر قدرها ولا يدرك كنهها
وقوله تعالى مُكْرَمُونَ خبر آخر أو هو الخبر وفِي جَنَّاتٍ
متعلق به قدم عليه للاهتمام مع مراعاة الفواصل أو بمضمر هو حال
من الضمير في الخبر أي مكرمون كائنين في جنات فَمالِ الَّذِينَ
كَفَرُوا قِبَلَكَ أي في الجهة التي تليك مُهْطِعِينَ مسرعين
نحوك مادّي أعناقهم إليك مقبلين بأبصارهم عليك ليظفروا بما
يجعلونه هزؤا عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ جماعات
في تفرقة كما قال أبو عبيدة وأنشدوا قول عبيد بن الأبرص:
فجاؤوا يهرعون إليه حتى ... يكونوا حول منبره عزينا
وخص بعضهم كل جماعة بنحو ثلاثة أشخاص أو أربعة جمع عزة وأصلها
عزوة من العز ولأن كل فرقة تعتزي وتنتسب إلى غير من تعتزي إليه
الأخرى فلامها واو وقيل لامها هاء والأصل عزهة وجمعت بالواو
والنون كما جمعت سنة وأخواتها وتكسر العين في الجمع وتضم.
وقالوا: عزى على فعل ولم يقولوا عزات ونصب عزين على أنه حال من
الَّذِينَ كَفَرُوا أو من الضمير في مُهْطِعِينَ على التداخل
وعَنِ الْيَمِينِ إما متعلق به لأنه بمعنى متفرقين أو بمهطعين
أي مسرعين عن الجهتين أو هو حال أي كائنين عن اليمين
روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي عند الكعبة ويقرأ القرآن
فكان المشركين يجتمعون حوله حلقا حلقا وفرقا يستمعون ويستهزئون
بكلامه عليه الصلاة والسلام ويقولون إن دخل هؤلاء الجنة كما
يقول محمد صلّى الله عليه وسلم فلندخلها قبلهم فنزلت
وفي بعض الآثار ما يشعر بأن الأولى أن لا يجلس المؤمنون عزين
لأنه من عادة الجاهلية أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ
يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ أي بلا إيمان وهو إنكار لقولهم إن
دخل هؤلاء الجنة إلخ وقرأ ابن يعمر والحسن وأبو رجاء وزيد بن
علي وطلحة والمفضل عن عاصم «يدخل» بالبناء للفاعل كَلَّا ردع
لهم عن ذلك الطمع الفارغ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا
يَعْلَمُونَ
قيل هو تعليل للردع والمعنى إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون وهو
تكميل النفس بالإيمان والطاعة فمن لم يستكملها بذلك فهو بمعزل
من أن يتبوأ متبوأ الكاملين فمن أين لهم أن يطمعوا في دخول
الجنة وهم مكبون على الكفر والفسوق وإنكار البعث وكون ذلك
(15/72)
معلوما لهم باعتبار سماعهم إياه من النبي
صلّى الله عليه وسلم وقيل من ابتدائية والمعنى أنهم مخلوقون من
نطفة قذرة لا تناسب عالم القدس فمتى لم تستكمل بالإيمان
والطاعة ولم تتخلق بأخلاق الملائكة عليهم السلام لم تستعد
لدخولها وكلا القولين كما ترى وقال مفتي الديار الرومية إن
الأقرب كونه كلاما مستأنفا قد سيق تمهيدا لما بعده من بيان
قدرته عز وجل على أن يهلكهم لكفرهم بالبعث والجزاء واستهزائهم
برسول الله صلّى الله عليه وسلم وبما نزل عليه عليه الصلاة
والسلام من الوحي وادعائهم دخول الجنة بطريق السخرية وينشىء
بدلهم قوما آخرين فإن قدرته سبحانه على ما يعلمون من النشأة
الأولى حجة بينة على قدرته عز وجل على ذلك كما يفصح عنه الفاء
الفصيحة في قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ
وَالْمَغارِبِ أي إذا كان الأمر كما ذكرنا من أن خلقهم مما
يعلمون وهو النطفة القذرة فلا أقسم برب المشارق والمغارب
إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ أي
نهلكهم بالمرة حسبما تقتضيه جناياتهم ونأتي بدلهم بخلق آخرين
ليسوا على صفتهم وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي بمغلوبين إن
أردنا ذلك لكن مشيئتنا المبينة على الحكم البالغة اقتضت تأخير
عقوباتهم وفيه نوع بعد ولعل الأقرب كونه في معنى التعليل لكن
على وجه قرر به صاحب الكشف كلام الكشاف فقال أراد أنه ردع عن
الطمع معلل بإنكارهم البعث من حيث إن ذكر دليله إنما يكون مع
المنكر فأقيم علة العلة مقام العلة مبالغة لما حكي عنهم طمع
دخول الجنة. ومن البديهي أنه ينافي حال من لا يثبتها فكأنه قيل
إنه ينكر البعث فأنّى يتجه طمعه واحتج عليهم بخلقهم أولا
وبقدرته سبحانه على خلق مثلهم ثانيا وفيه تهكم بهم وتنبيه على
مكان مناقضتهم فإن الاستهزاء بالساعة والطمع في دخول الجنة مما
يتنافيان ووجه أقربيته قوة الارتباط كبما سبق عليه وهو في
الحقيقة أبعد مغزى ومنه يعلم أن ما قيل في قوله سبحانه إِنَّا
لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ إلخ أن معناه إِنَّا
لَقادِرُونَ على أن نعطي محمدا صلّى الله عليه وسلم من هو خير
منهم وهم الأنصار ليس بذاك وفي التعبير عن مادة خلقهم بما
يعلمون مما يكسر سورة المتكبرين ما لا يخفى والمراد بالمشارق
والمغارب مشارق الشمس المائة والثمانون ومغاربها كذلك أو مشارق
ومغارب الشمس والقمر على ما روي عن عكرمة أو مشارق الكواكب
ومغاربها مطلقا كما قيل وذهب بعضهم إلى أن المراد رب المخلوقات
بأسرها والكلام في فَلا أُقْسِمُ قد تقدم وقرأ قوم «فلا قسم»
بلاء دون ألف وعبد الله بن مسلم وابن محيصن والجحدري «المشرق
والمغرب» مفردين فَذَرْهُمْ فخلّهم غير مكترث بهم يَخُوضُوا في
باطلهم الذي من جملته ما حكي عنهم وَيَلْعَبُوا في دنياهم
حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ هو يوم البعث
عند النفخة الثانية لقوله سبحانه يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ
الْأَجْداثِ أي القبور فإنه بدل من يَوْمَهُمُ وهو مفعول به
ليلاقوا، وتفسيره بيوم موتهم أو يوم بدر أو يوم النفخة الأولى
وجعل يَوْمَ مفعولا به لمحذوف كاذكر أو متعلقا ب تَرْهَقُهُمْ
ذِلَّةٌ مما لا ينبغي أن يذهب إليه وما في الآية من معنى
المهادنة منسوخ بآية السيف. وقرأ أبو جعفر وابن محيصن «يلقوا»
مضارع لقي وروى أبو بكر عن عاصم أنه قرأ «يخرجون» على البناء
للمفعول من الإخراج سِراعاً أي مسرعين وهو حال من مرفوع
يَخْرُجُونَ وهو جمع سريع كظريف وظراف كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ
وهو ما نصب فعبد من دون الله عز وجل وعده غير واحد مفردا وأنشد
قول الأعشى:
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ... لعاقبة والله ربك فاعبدا
وقال بعضهم: هو جمع نصاب ككتاب وكتب وقال الأخفش جمع نصب كرهن
ورهن والأنصاب جمع الجمع. وقرأ الجمهور «نصب» بفتح النون وسكون
الصاد وهو اسم مفرد فقيل الصنم المنصوب للعبادة أو العلم
المنصوب على الطريق ليهتدي به السالك. وقال أبو عمرو: هو شبكة
يقع فيها الصيد فيسارع إليها
(15/73)
صاحبها مخافة أن يتفلت الصيد. وقيل: ما
ينصب علامة لنزول الملك وسيره. وقرأ أبو عمران الحوفي ومجاهد
«نصب» بفتح النون والصاد فعل بمعنى مفعول وقرأ الحسن وقتادة
«نصب» بضم النون وسكون الصاد على أنه تخفيف «نصب» بضمتين أو
جمع نصب بفتحتين كولد وولد يُوفِضُونَ أي يسرعون وأصل الإيفاض
كما قال الراغب أن يعدو من عليه الوفضة وهي الكنانة فتخشخش
عليه ثم استعمل في الإسراع وقيل هو مطلق الانطلاق. وروي عن
الضحاك والأكثرون على الأول والمراد أنهم يخرجون مسارعين إلى
الداعي يسبق بعضهم بعضا. والإسراع في السير إلى المعبودات
الباطلة كان عادة للمشركين وقد رأينا كثيرا من إخوانهم الذين
يعبدون توابيت الأئمة ونحوهم رضي الله تعالى عنهم كذلك وكذا
عادة من ضل الطريق أن يسرع إلى أعلامها وعادة الجند أن يسرعوا
نحو منزل الملك خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ لعظم ما تحققوه ووصفت
أبصارهم بالخشوع مع أنه وصف الكل لغاية ظهور آثاره فيها
تَرْهَقُهُمْ تغشاهم ذِلَّةٌ شديدة ذلِكَ الذي ذكر ما سيقع فيه
من الأحوال الهائلة الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ أي في
الدنيا. واسم الإشارة مبتدأ والْيَوْمُ خبر والموصول صفته
والجملة بعده صلته والعائد محذوف أي يوعدونه وقرأ عبد الرحمن
بن خلاذ عن داود بن سالم عن يعقوب والحسن بن عبد الرحمن عن
التمار «ذلّة» بغير تنوين مضافا إلى ذلِكَ الْيَوْمُ بالجر هذا
واعلم أن بعض المتصوفة في هذا الزمان ذكر في شأن هذا اليوم
الذي أخبر الله تعالى أن مقداره خمسون ألف سنة أن المراتب
أربع: الملك والملكوت والجبروت واللاهوت وكل مرتبة عليا محيطة
بالسفلى وأعلى منها بعشر درجات لأنها تمام المرتبة لأن الله
خلق الأشياء من عشر قبضات يعني من سر عشر مراتب الأفلاك التسعة
والعناصر في كل عالم بحسبه ولذا ترتبت مراتب الأعداد على
الأربع والألف منتهى المراتب وأقصى الغايات ولما كانت النسبة
إلى الرب أي إلى وجهة الحق هي الغاية القصوى بالنسبة إلى ما
عداها أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم: 42] كان اليوم
الواحد المنسوب إليه ألفا ولذا كان اليوم الربوبي ألف سنة كما
قال سبحانه وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ
مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج: 47] فإذا ترقى الكون واقتضت الحكمة
ظهور النشأة الأخرى وبروز آثار الاسم الأعظم في مقام الألوهية
في رتبة الجامع ظهر الكون والأكوان والمكونات في محشر واحد على
مراتبها في الأعيان فظهر سر النون من كلمة كُنْ [البقرة: 117
وغيرها] لظهور فيكون فظهر الخمسون في العود كما نزل في البدء
وهو قوله سبحانه كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف: 29]
فكان اليوم الواحد عند ظهور الاسم الأعظم في الجهة الجامعة
خمسين ألف سنة، فالألف لترقي الواحد ولما كانت المراتب خمسين
كان خمسين ألفا والخمسون تفاصيل ظهور اسم الرب عند ظهور اسم
الله في عالم الأمر الذي هو أول مراتب التفصيل في قوله تعالى
كُنْ وكان أول ظهور التفصيل خمسين لأن التوحيد الظاهر في
النقطة والألف والحروف والكلمة التامة والدلالة التي هي تمام
الخمسة إنما كانت في عشرة عوالم المراتب التعينات أو لأن
الطبائع الأربع مع حصول المزاج بظهور طبيعة خامسة وبها تمام
الخمسة إنما كانت في عشرة عوالم يحسبها فكان المجموع خمسين
والعوالم العشرة هي عالم الإمكان وعالم الفؤاد وعالم القلب
وعالم العقل وعالم الروح وعالم النفس وعالم الطبيعة وعالم
المادة وعالم المثال وعالم الأجسام. والخمسون في وجه الرب
ووجهة الحق في العالم الأول الذي هو الآخر تكون خمسين ألف سنة
انتهى فإن فهمت منه معنى صحيحا تقبله ذوو العقول ولا يأباه
المنقول فذاك وإلّا فاحمد الله تعالى على العافية واسأله عز
وجل التوفيق للوصول إلى معالم التحقيق وللشيخ الأكبر قدس سره
أيضا كلام في هذا المقام فمن أراده فليتتبع كتبه وليسأل الله
تعالى الفتوحات وهو سبحانه ولي الهبات.
(15/74)
إِنَّا أَرْسَلْنَا
نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ
إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ
وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ
أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا
وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا
(6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ
جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا
ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي
أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا
(10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ
جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا
تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا
(14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ
الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)
سورة نوح
مكية بالاتفاق وهي ثمان وعشرون آية في الكوفي وتسع في البصري
والشامي وثلاثون فيما عدا ذلك ووجه اتصالها بما قبلها على ما
قال الجلال السيوطي وأشار إليه غيره أنه سبحانه لما قال في
سورة المعارج إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً
مِنْهُمْ [المعارج: 4، 41] عقبه تعالى بقصة قوم نوح عليه
السلام المشتملة على إغراقهم عن آخرهم بحيث لم يبق منهم في
الأرض ديار وبدل خيرا منهم فوقعت موقع الاستدلال والاستظهار
لتلك الدعوى كما وقعت قصة أصحاب الجنة في سورة ن موقع
الاستظهار لما ختم به تبارك هذا مع تواخي مطلع السورتين في ذلك
العذاب الموعد به الكافرون ووجه الاتصال على قول من زعم أن
السائل هو نوح عليه السلام ظاهر وفي بعض الآثار ما يدل على أن
النبي صلّى الله عليه وسلم يقرؤها على قوم نوح عليه السلام يوم
القيامة
أخرج الحاكم عن ابن عباس مرفوعا قال: «إن الله تعالى يدعو نوحا
وقومه يوم القيامة أول الناس فيقول:
ماذا أجبتم نوحا؟ فيقولون: ما دعانا وما بلّغنا ولا نصحنا ولا
أمرنا ولا نهانا، فيقول نوح عليه السلام: دعوتهم يا رب دعاء
فاشيا في الأولين والآخرين أمة بعد أمة حتى انتهى إلى خاتم
النبيين أحمد صلّى الله عليه وسلم فانتسخه وقرأه وآمن به وصدقه
فيقول الله عز وجل للملائكة عليهم السلام: ادعوا أحمد وأمته
فيدعونهم فيأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأمته يسعى
نورهم بين أيديهم فيقول نوح عليه السلام لمحمد صلّى الله عليه
وسلم وأمته: هل تعلمون أني بلغت قومي الرسالة واجتهدت لهم
بالنصيحة وجهدت أن أستنقذهم من النار سرا وجهارا فلم يزدهم
دعائي إلّا فرارا؟ فيقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأمته:
فإنّا نشهد بما أنشدتنا أنك في جميع ما قلت من الصادقين. فيقول
قوم نوح عليه السلام: وأنى علمت هذا أنت وأمتك ونحن أول الأمم
وأنت آخر الأمم، فيقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: بسم
الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ
[نوح: 1] حتى يختم السورة، فإذا ختمها قالت أمته نشهد إن هذا
لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز
الحكيم. فيقول الله عز وجل عند ذلك: امتازوا اليوم أيها
المجرمون» .
(15/75)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً هو اسم أعجمي زاد الجواليقي معرب
والكرماني معناه بالسريانية الساكن وصرف لعدم زيادته على
الثلاثة مع سكون وسطه وليس بعربي أصلا. وقول الحاكم في
المستدرك إنما سمي نوحا لكثرة نوحه وبكائه على نفسه، واسمه عبد
الغفار لا أظنه يصح وكذا ما ينقل في سبب بكائه من أنه عليه
السلام رأى كلبا أجرب قذرا فبصق عليه فأنطقه الله تعالى فقال
أتعيبني أم تعيب خالقي فندم وناح لذلك. والمشهور أنه عليه
السلام ابن لمك بفتح اللام وسكون الميم بعدها كاف ابن مثوشلخ
بفتح الميم وتشديد المثناة المضمومة بعدها واو ساكنة وفتح
الشين المعجمة واللام والخاء المعجمة ابن خنوخ بفتح الخاء
المعجمة وضم النون الخفيفة وبعدها واو ساكنة ثم خاء معجمة وشاع
أخنوخ بهمزة أوله وهو إدريس عليه السلام بن يرد بمثناة من تحت
مفتوحة ثم راء ساكنة مهملة ابن مهلاييل بن قينان بن أنوش
بالنون والشين المعجمة ابن شيث بن آدم عليه السلام وهذا يدل
على أنه عليه السلام بعد إدريس عليه السلام.
وفي المستدرك أن أكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم على أنه قبل
إدريس وفيه عن ابن عباس كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة
قرون وفيه أيضا مرفوعا بعث الله تعالى نوحا لأربعين سنة فلبث
في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما يدعوهم وعاش بعد الطوفان ستين
سنة حتى كثر الناس وفشوا. وذكر ابن جرير أن مولده كان بعد وفاة
آدم عليه السلام بمائة وستة وعشرين عاما وفي التهذيب للنوي
رحمه الله تعالى أنه أطول الأنبياء عليهم السلام عمرا وقيل إنه
أطول الناس مطلقا عمرا فقد عاش على ما قال شداد ألفا وأربعمائة
وثمانين سنة ولم يسمع عن أحد أنه عاش كذلك يعني بالاتفاق لئلا
يرد الخضر عليه السلام وقد يجاب بغير ذلك وهو على ما قيل أول
من شرعت له الشرائع وسنت له السنن وأول رسول أنذر على الشرك
وأهلكت أمته، والحق أن آدم عليه السلام كان رسولا قبله أرسل
إلى زوجته حواء ثم إلى بنيه وكان في شريعته وما نسخ بشريعة نوح
في قول وفي آخر لم يكن في شريعته إلّا الدعوة إلى الإيمان
ويقال لنوح عليه السلام شيخ المرسلين وآدم الثاني وكان دقيق
الوجه في رأسه طول عظيم العينين غليظ العضدين كثير لحم الفخذين
ضخم السرة طويل اللحية والقامة جسيما. واختلف في مكان قبره
فقيل بمسجد الكوفة وقيل بالجبل الأحمر وقيل بذيل جبل لبنان
بمدينة الكرك. وفي إسناد الفعل إلى الضمير العظمة مع تأكيد
الجملة ما لا يخفى من الاعتناء بأمر إرساله عليه السلام إِلى
قَوْمِهِ قيل هم سكان جزيرة العرب ومن قرب منهم لا أهل الأرض
كافة لاختصاص نبينا صلّى الله عليه وسلم بعموم البعثة من بين
المرسلين عليهم السلام، وما كان لنوح بعد قصة الغرق على القول
بعمومه أمر اتفاقي واشتهر أنه عليه الصلاة والسلام كان يسكن
أرض الكوفة وهناك أرسل أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ أي أي أَنْذِرْ
(15/76)
قَوْمَكَ
على أن أَنْ تفسيرية لما في الإرسال من معنى القول دون حروفه
فلا محل للجملة من الإعراب أو بأن أنذرهم أي بإنذارهم أو
لإنذارهم على أن أَنْ مصدرية وقبلها حرف جر مقدر هو الباء أو
اللام وفي المحل بعد الحذف من الجر والنصب قولان مشهوران. ونص
أبو حيان على جواز هذا الوجه في بحره هنا ومنعه في موضع آخر.
وحكى المنع عنه ابن هشام في المغني وقال: زعم أبو حيان أنها لا
توصل بالأمر وإن كل شيء سمع من ذلك فأن فيه تفسيرية واستدل
بدليلين أحدهما أنهما إذا قدرا بالمصدر فات معنى الأمر الثاني
أنهما لم يقعا فاعلا ولا مفعولا لا يصح أعجبني أن قم ولا كرهت
أن قم كما يصح ذلك مع الماضي والمضارع، والجواب عن الأول أن
فوات معنى الأمرية عند التقدير بالمصدر كفوات معنى المضي
والاستقبال في الموصولة بالمضارع والماضي عند التقدير المذكور
ثم إنه يسلم مصدرية المخففة مع لزوم نحو ذلك فيها في نحو قوله
تعالى وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها [النور: 9]
إذ لا يفهم الدعاء من المصدر إلّا إذا كان مفعولا مطلقا نحو
سقيا ورعيا. وعن الثاني أنه إنما منع ما ذكره لأنه لا معنى
لتعليق الإعجاب والكراهية بالإنشاء لا لما ذكره ثم ينبغي له أن
لا يسلم مصدرية كي لأنها لا تقع فاعلا ولا مفعولا وإنما تقع
مخفوضة بلام التعليل، ثم مما يقطع به على قوله بالبطلان حكاية
سيبويه كتبت إليه بأن قم واحتمال زيادة الباء كما يقول وهم
فاحش لأن حروف الجر مطلقا لا تدخل إلّا على الاسم أو ما في
تأويله انتهى. وأجاب بعضهم عن الأول أيضا بأنه عند التقدير
يقدر الأمر فيقال فيما نحن فيه مثلا إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً
إِلى قَوْمِهِ بالأمر بإنذارهم وتعقب بأنه ليس هناك فعل يكون
الأمر مصدره كأمرنا أو نأمر ثم إنه يكون المعنى في نحو أمرته
بأن قم أمرته بالأمر بالقيام. وأشار الزمخشري إلى جواب ذلك هو
أنه إذا لم يسبق لفظ الأمر أو ما في معناه من نحو رسمت فلا بد
من تقدير القول لئلا يبطل الطلب فيقال هنا: أرسلناه بأن قلنا
له أنذر أي بالأمر بالإنذار وإذا سبقه ذلك لا يحتاج إلى تقديره
لأن مآل العبارات أعني أمرته بالقيام وأمرته بأنه قم وأن قم
بدون الباء على أنها مفسرة إلى واحد وفي الكشف لو
قيل إن التقدير وأرسلناه بالأمر بالإنذار من دون إضمار القول
لأن الأمرية ليست مدلول جوهر الكلمة بل من متعلق الأداة فيقدر
بالمصدر تبعا وفي أمر المخاطب اكتفى بالصيغة تحقيقا لكان حسنا
وهذا كما أن التقدير في أن لا يزني خير له عدم الزنا فيقدر
النفي بالمصدر على سبيل التبعية، وأما إذا صرح بالأمر فلا
يحتاج إلى تقدير مصدر للطلب أيضا هذا ولو قدر أمرته بالأمر
بالقيام أي بأن يأمر نفسه به مبالغة في الطلب لم يبعد عن
الصواب ولما فهم منه ما فهم من الأول وأبلغ استعمل استعماله من
غير ملاحظة الأصل وأوعى بعضهم أن تقدير القول هنا ليس لئلا
يفوت معنى الطلب بل لأن الباء المحذوفة للملابسة وإرسال نوح
عليه السلام لم يكن ملتبسا بإنذاره لتأخره عنه وإنما هو ملتبس
بقول الله تعالى له عليه السلام أَنْذِرْ ولما كان هذا القول
منه تعالى لطلب الإنذار قيل: المعنى أرسلناه بالأمر بالإنذار،
وكان هذا القائل لا يبالي بفوات معنى الطلب كما يقتضيه كلام
ابن هشام المتقدم آنفا. وبحث الخفاجي فيما ذكروه من الفوات
فقال: كيف يفوت معنى الطلب وهو مذكور صريحا في أَنْذِرْ ونحوه
وتأويله بالمصدر المسبوك تأويل لا ينافيه لأنه مفهوم أخذوه من
موارد استعماله فكيف يبطل صريح منطوقه فما ذكروه مما لا وجه له
وإن اتفقوا عليه فاعرفه انتهى. وأقول: لعلهم أرادوا بفوات معنى
الطلب فواته عند ذكر المصدر الحاصل من التأويل بالفعل على معنى
أنه إذا ذكر بالفعل لا يتحقق معنى الطلب ولا يتحد الكلامان ولم
يريدوا أنه يفوت مطلقا كيف وتحققه في المنطوق الصريح كنار على
علم، ويؤيد هذا منعهم بطلان اللازم المشار إليه بقول ابن هشام
أن فوات معنى الأمرية عند التقدير بالمصدر كفوات المضي
والاستقبال إلخ فكأنه قيل لا نسلم أن هذا الفوات
(15/77)
باطل لم لا يجوز أن يكون كفوات معنى المضي
والاستقبال وفوات معنى الدعاء في نحو أَنَّ غَضَبَ [النور: 9]
وقد أجمعوا أن ذلك ليس بباطل لأنه فوات عند الذكر بالفعل وليس
بلازم، وليس بفوات مطلقا لظهور أن المنطوق الصريح متكفل به
فتدبر. وقرأ ابن مسعود «أنذر» بغير أَنْ على إرادة القول أي
قائلين أنذر مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
عاجل وهو ما حل بهم من الطوفان كما قال الكلبي أو آجل وهو عذاب
النار كما قال ابن عباس. والمراد أنذرهم من قبل ذلك لئلا يبقى
لهم عذر ما أصلا قالَ استئناف بياني كأنه قيل فما فعل عليه
الصلاة والسلام بعد هذا الإرسال فقيل قال لهم يا قَوْمِ إِنِّي
لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ منذر موضح لحقيقة الأمر واللام في
لَكُمْ للتقوية أو للتعليل أي لأجل نفعكم من غير أن أسألكم
أجرا وقوله تعالى أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ
وَأَطِيعُونِ متعلق بنذير على مصديرية أَنِ وتفسيريتها ومر
نظيره في الشعراء وقوله سبحانه يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ مجزوم في جواب الأمر واختلف في مِنْ فقيل ابتدائية
وإن لم تصلح هنا لمقارنة إلى وابتداء الفعل من جانبه تعالى على
معنى أنه سبحانه يبتدئهم بعد إيمانهم بمغفرة ذنوبهم إحسانا منه
عز وجل وتفضلا، وجوز أن يكون من جانبهم على معنى أول ما يحصل
لهم بسبب إيمانهم مغفرة ذنوبهم وليس بذاك وقيل بيانية ورجوعها
إلى معنى الابتدائية استبعده الرضي ويقدر قبلها مبهم يفسر
بمدخولها أي يغفر لكم أفعالكم التي هي الذنوب، وقيل: زائدة على
رأي الأخفش المجوز لزيادتها مطلقا وجزم بذلك هنا وقيل تبعيضية
أي يغفر لكم بعض ذنوبكم واختاره بعض. واختلف في البعض المغفور
فذهب قوم إلى أنه حقوق الله تعالى فقط السابقة على الإيمان
وآخرون إلى أنه ما اقترفوه قبل الإيمان مطلقا الظاهر ما ورد من
أن الإيمان يجب ما قبله واستشكل ذلك العز بن عبد السلام في
الفوائد المنتشرة وأجاب عنه فقال: كيف يصح هذا على رأي سيبويه
الذي لا يرى كالأخفش زيادتها في الموجب بل يقول إنها للتبعيض
مع أن الإسلام يجب ما قبله بحيث لا يبقى منه شيء والجواب أن
إضافة الذنوب إليهم إنما تصدق حقيقة فيما وقع إذا ما لم يقع لا
يكون ذنبا لهم وإضافة ما لم يقع على طريق التجوز كما في
وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ [المائدة: 89] إذا المراد بها
الأيمان المستقبلة وإذا كانت الإضافة تارة تكون حقيقة وتارة
تكون مجازا، فسيبويه يجمع بين الحقيقة والمجاز فيها وهو جائز
يعني عند أصحابه الشافعية، ويكون المراد من بعض ذنوبكم البعض
الذي وقع انتهى ولا يحتاج إلى حديث الجمع من خص الذنوب
المغفورة بحقوق الله عز وجل وهاهنا بحث وهو أن الحمل على
التبعيض يأباه يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وإِنَّ
اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: 53] وقد نص
البعلي في شرح الجمل على أن ذلك هو الذي دعا الأخفش للجزم
بالزيادة هنا وجعله ابن الحاجب حجة له ورده بعض الأجلة بأن
الموجبة الجزئية من لوازم الموجبة الكلية ولا تناقض بين اللازم
والملزوم ومبناه الغفلة عن كون مدلول من التبعيضية هي البعضية
المجردة عن الكلية المنافية لها لا الشاملة لما في ضمنها
المجتمعة معها وإلّا لما تحقق الفرق بينها وبين من البيانية من
جهة الحكم ولما تيسر تمشية الخلاف بين الإمام أبي حنيفة
وصاحبيه فيما إذا قال:
طلقي نفسك من ثلاث ما شئت بناء على أن من للتبعيض عنده وللبيان
عندهما قال في الهداية وإن قال لها طلقي نفسك من ثلاث ما شئت
فلها أن تطلق نفسها واحدة وثنتين ولا تطلق ثلاثا عند أبي حنيفة
وقالا تطلق ثلاثا إن شاءت لأن كلمة ما محكمة في التعميم وكلمة
من قد تستعمل للتمييز فتحمل على تمييز الجنس ولأبي حنيفة أن
كلمة من حقيقة في التبعيض وما للتعميم فيعمل بهما انتهى. ولا
خفاء في أن بناء الجواب المذكور على كون من للتبعيض إنما يصح
إذا كان مدلولها حينئذ البعضية المجردة المنافية للكلية ومن
هنا تعجب من صاحب التوضيح في تقرير الخلاف المذكور حيث استدل
على أولوية التبعيض بتيقنه ولم يدر أن
(15/78)
البعض المراد قطعا على تقدير البيان البعض
العام الشامل لما في ضمن الكل لا البعض المجرد المراد هاهنا.
فبالتعليل على الوجه المذكور لا يتم التقريب بل لا انطباق بين
التعليل والمعلل على ما قيل. وصوب العلامة التفتازاني حيث قال:
علقه على التلويح مستدلا على أن البعضية التي تدل عليها من
التبعيضية هي البعضية المجردة المنافية للكلية لا البعضية التي
هي أعم من أن تكون في ضمن الكل أو بدونه لاتفاق النحاة على ذلك
حيث احتاجوا إلى التوفيق بين قوله تعالى يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ وقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعاً فقالوا لا يبعد أن يغفر سبحانه الذنوب لقوم وبعضها
لآخرين أو خطاب البعض لقوم نوح عليه السلام وخطاب الكل لهذه
الأمة، ولم يذهب أحد إلى أن التبعيض لا ينافي الكلية ولم يصوب
الشريف في رده عليه قائلا وفيه بحث إذ الرضي صرح بعدم المنافاة
بينهما حيث قال: ولو كان أيضا خطابا لأمة واحدة فغفران بعض
الذنوب لا يناقض غفران كلها بل عدم غفران بعضها يناقض غفران
كلها لأن قول الرضي غير مرتضى لما عرفت من أن مدلول التبعيضية
البعضية المجردة. واعترض قول النحاة أو خطاب البعض لقوم نوح
عليه السلام وخطاب الكل لهذه الأمة بأن الإخبار عن مغفرة البعض
ورد في مواضع منها قوله تعالى في سورة [إبراهيم: 10]
يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ومنها في سورة
[الأحقاف: 31] يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا
بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ومنها ما هنا وهو الذي
ورد في قوم نوح عليه السلام، وأما ما ذكر في الأحقاف فقد ورد
في الجن، وما ورد في إبراهيم فقد ورد في قوم نوح وعاد وثمود
على ما أفصح به السياق فكيف يصح ما ذكروه. وقيل جيء بمن في
خطاب الكفرة دون المؤمنين في جميع القرآن تفرقة بين الخطابين
ووجه بأن المغفرة حيث جاءت في خطاب الكفار مرتبة على الإيمان
وحيث جاءت في خطاب المؤمنين مشفوعة بالطاعة والتجنب عن المعاصي
ونحو ذلك، فيتناول الخروج عن المظالم واعترض بأن التفرقة
المذكورة إنما تتم لو لم يجىء الخطاب للكفرة على العموم وقد
جاء كذلك كما في سورة [الأنفال: 38] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وقد أسلفنا ما
يتعلق بهذا المقام أيضا فتذكر وتأمل وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى
أَجَلٍ مُسَمًّى هو الأمد الأقصى الذي قدره الله تعالى بشرط
الإيمان والطاعة وراء ما قدره عز وجل لهم على تقدير بقائهم على
الكفر والعصيان فإن وصف الأجل بالمسمى وتعليق تأخيرهم إليه
بالإيمان والطاعة صريح في أن لهم أجلا آخر لا يجاوزونه إن لم
يؤمنوا وهو المراد بقوله تعالى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ أي ما
قدره عز وجل لكم على تقدير بقائكم على ما أنتم عليه إِذا جاءَ
وأنتم على ما أنتم لا يُؤَخَّرُ فبادروا إلى الإيمان والطاعة
قبل مجيئه حتى لا يتحقق شرطه الذي هو بقاؤكم على الكفر
والعصيان فلا يجيء ويتحقق شرط التأخير إلى الأجل المسمى
فتؤخروا إليه، وجوز أن يراد به وقت إتيان العذاب المذكور في
قوله سبحانه مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
فإنه أجل مؤقت له حتما وأيّا ما كان لا تناقض بين
يُؤَخِّرْكُمْ وإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ
كما يتوهم وقال الزمخشري في ذلك ما حاصله أن الأجل أجلان وأجل
الله حكمه حكم المعهود والمراد منه الأجل المسمى الذي هو آخر
الآجال، والجملة عنده تعليل لما فهم من تعليقه سبحانه التأخير
بالأجل المسمى وهو عدم تجاوز التأخير عنه، والأول هو المعول
عليه فإن الظاهر أن الجملة تعليل للأمر بالعبادة المستتبعة
للمغفرة والتأخير إلى الأجل المسمى فلا بد أن يكون المنفي عند
مجيء الأجل هو التأخير الموعود فكيف يتصور أن يكون ما فرض
مجيئه هو الأجل المسمى الذي هو آخر الآجال لَوْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ أي لو كنتم من أهل العلم لسارعتم لما آمركم به
لكنكم لستم من أهله في شيء فلذا لم تسارعوا فجواب لَوْ مما
يتعلق بأول الكلام ويجوز أن يكون مما يتعلق بآخره أي لو كنتم
من أهل العلم لعلمتم ذلك أي عدم تأخير الأجل إذا
(15/79)
جاء وقته المقدر له، والفعل في الوجهين
منزل منزلة اللازم ويجوز أن يكون محذوفا لقصد التعميم أي لو
كنتم تعلمون شيئا. ورجح الأول بعدم احتياجه للتقدير والجمع بين
صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على استمرار النفي المفهوم من
لَوْ وجعل العلم المنفي هو العلم النظري لا الضروري ولا ما
يعمه فإنه مما لا ينفي اللهم إلّا على
سبيل المبالغة قالَ أي نوح عليه السلام مناجيا ربه عز وجل
وحاكيا له سبحانه بقصد الشكوى وهو سبحانه أعلم بحاله ما جرى
بينه وبين قومه من القيل والقال في تلك المدد الأطوال بعد ما
بذل في الدعوة غاية المجهود وجاز في الإنذار كل حد معهود وضاقت
عليه الحيل وعيت به العلل رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي إلى
الإيمان والطاعة لَيْلًا وَنَهاراً أي دائما من غير فتور ولا
توان فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً مما دعوتهم
إليه وإسناد الزيادة إلى الدعاء من باب الإسناد إلى السبب على
حد الإسناد في سرتني رؤيتك وفِراراً قيل تمييز وقيل مفعول ثان
بناء على تعدي الزيادة والنقص إلى مفعولين وقد قيل إنه لم يثبت
وإن ذكره بعضهم وفي الآية مبالغات بليغة وكان الأصل فلم
يجيبوني ونحوه فعبر عن ذلك بزيادة الفرار المسندة للدعاء
وأوقعت عليهم مع الإتيان بالنفي والإثبات وَإِنِّي كُلَّما
دَعَوْتُهُمْ أي إلى الإيمان فمتعلق الفعل محذوف وجوز جعله
منزلا منزلة اللازم والجملة عطف على ما قبلها وليس ذلك من عطف
المفصل على المجمل كما توهم حتى يقال إن الواو من الحكاية لا
من المحكي لِتَغْفِرَ لَهُمْ أي بسبب الإيمان جَعَلُوا
أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ أي سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة
فهو كناية عما ذكر ولا منع من الحمل على الحقيقة وفي نسبة
الجعل إلى الأصابع وهو منسوب إلى بعضها وإيثار الجعل على
الإدخال ما لا يخفى وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ أي بالغوا في
التغطي بها كأنهم طلبوا من ثيابهم أن تغشاهم لئلا يروه كراهة
النظر إليه من فرط كراهة الدعوة ففي التعبير بصيغة الاستفعال
ما لا يخفى من المبالغة وكذا في تعميم آلة الإبصار وغيرها من
البدن بالستر مبالغة في إظهار الكراهة، ففي الآية مبالغة بحسب
الكيف والكم. وقيل: بالغوا في ذلك لئلا يعرفهم عليه السلام
فيدعوهم وفيه ضعف فإنه قيل عليه إنه يأباه ترتبه على قوله
كُلَّما دَعَوْتُهُمْ اللهم إلّا أن يجعل مجازا عن إرادة
الدعوة وهو تعكيس للأمر وتخريب للنظم وَأَصَرُّوا أي أكبوا على
الكفر والمعاصي وانهمكوا وجدوا فيها مستعار من أصر الحمار على
العانة إذا صر أذنيه أي رفعهما ونصبهما مستويين وأقبل عليها
يكدمها ويطردها وفي ذلك غاية الذم لهم. وعن جار الله لو لم يكن
في ارتكاب المعاصي إلا التشبيه بالحمار لكفى به مجزرة كيف
والتشبيه في أسوأ أحواله وهو حال الكدم والسفاد وما ذكر من
الاستعارة قيل في أصل اللغة وقد صار الإصرار حقيقة عرفية في
اللازمة والانهماك في الأمر. وقال الراغب: الإصرار التعقد في
الذنب والتشديد فيه والامتناع من الإقلاع عنه وأصله من الصر أي
الشد ولعله لا يأبى ما تقدم بناء على أن الأصل الأول الشد
والأصل الثاني ما سمعت أولا وَاسْتَكْبَرُوا من اتباعي وطاعتي
اسْتِكْباراً عظيما وقيل نوعا من الاستكبار غير معهود
والاستكبار طلب الكبر من غير استحقاق له ثُمَّ إِنِّي
دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ
وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً أي دعوتهم مرة بعد مرة وكرة غب
كرة على وجوه متخالفة وأساليب متفاوتة وهو تعميم لوجوه الدعوة
بعد تعميم الأوقات وقوله ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً
يشعر بمسبوقية الجهر بالسر وهو الأليق بمن همه الإجابة لأنه
أقرب إليها لما فيه من اللطف بالمدعو فتم لتفاوت الوجوه وإن
الجهار أشد من الإسرار والجمع بينهما أغلظ من الإفراد وقال بعض
الأجلة ليس في النظم الجليل ما يقتضي أن الدعوة الأولى كانت
سرا فقط فكأنه أخذ ذلك من المقابلة ومن تقديم قوله لَيْلًا
وذكرهم بعنوان قومه وقوله فِراراً فإن القرب ملائم له. وجوز
كون ثُمَّ على معناها الحقيقي وهو التراخي الزماني لكنه
باعتبار مبدأ
(15/80)
كل من الإسرار والجهار ومنتهاه، وباعتبار
منتهى الجمع بينهما لئلا ينافي عموم الأوقات السابق، ويحسن
اعتبار ذلك وإن اعتبر عمومها عرفيا كما في لا يضع العصا عن
عاتقه وجِهاراً منصوب بدعوتهم على المصدرية لأنه أحد نوعي
الدعاء كما نصب القرفصاء في قعدت القرفصاء عليها لأنها أحد
أنواع القعود أو أريد بدعوتهم جاهرتهم أو صفة لمصدر محذوف أي
دعوتهم دعاء جهارا أي مجاهرا بفتح الهاء به أو مصدر في موقع
الحال أي مجاهرا بزنة اسم الفاعل فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ بالتوبة عن الكفر والمعاصي فإنه سبحانه لا يَغْفِرُ
أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء
: 48، 116] وقال ربكم تحريكا لداعي الاستغفار إِنَّهُ كانَ
غَفَّاراً دائم المغفرة كثيرها للتائبين كأنهم تعللوا وقالوا
إن كنا على الحق فكيف نتركه وإن كنا على الباطل فكيف يقبلنا،
ويلطف بنا جل وعلا بعد ما عكفنا عليه دهرا طويلا فأمرهم بما
يمحق ما سلف منهم من المعاصي ويجلب إليهم المنافع ولذلك وعدهم
على الاستغفار بأمور هي أحب إليهم وأوقع في قلوبهم من الأمور
الأخروية أعني ما تضمنه يُرْسِلِ السَّماءَ إلخ وأجبتهم لذلك
لما جبلوا عليه من محبة الأمور الدنيوية.
والنفس مولعة بحب العاجل قال قتادة: كانوا أهل حب للدنيا
فاستدعاهم إلى الآخرة من الطريق التي يحبونها وقيل لما كذبوه
عليه الصلاة والسلام بعد تكرير الدعوة حبس الله تعالى عنهم
القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة وقيل سبعين سنة فوعدهم
أنهم إن آمنوا يرزقهم الله تعالى الخصب ويدفع عنهم ما هم فيه
وهو قوله يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً أي كثير
الدر ورأى السيلان والسماء السحاب أو المطر ومن إطلاقها على
المطر وكذا على النبات أيضا قوله:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
وجوز أن يراد بها المظلة على ما سمعت غيره مرة وهي تذكر وتؤنث
ولا يأبى تأنيثها وصفها بمدرار إلا أن صيغ المبالغة كلها كما
صرح به سيبويه يشترك فيها المذكر والمؤنث. وفي البحر أن مفعالا
لا تلحقه التاء إلا نادرا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ
وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ أي بساتين وَيَجْعَلْ لَكُمْ فيها
أو مطلقا أَنْهاراً جارية وأعاد فعل الجعل دون أن يقول يجعل
لكم جنات وأنهارا لتغايرهما فإن الأول مما لفعلهم مدخل بخلاف
الثاني ولذا قال يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ولم يعد
العامل كذا قيل وهو كما ترى. ولعل الأولى أن يقال إن الإعادة
للاعتناء بأمر الأنهار لما أن لها مدخلا عاديا أكثريا في وجود
الجنات وفي بقائها مع منافع أخر لا تخفى، ورعاية لمدخليتها في
بقائها الذي هو أهم من أصل وجودها مع قوة هذه المدخلية أخرت
عنها وإن ترك إعادة العامل مع البنين لأنه الأصل أو لأنه لما
كان الإمداد أكثر ما جاء في المحبوب ولا تكمل محبوبية كل من
الأموال والبنين بدون الآخر ترك إعادة العامل بينهما للإشارة
إلى أن التفضيل بكل غير منغص بفقد الآخر. وتأخير البنين قيل
لأن بقاء الأموال غالبا بهم لا سيما عند أهل البادية مع رمز
إلى أن الأموال تصل إليهم آخر الأمر وهو مما يسر المتمول كما
لا يخفى فتأمل. وقال البقاعي: المراد بالجنات والأنهار ما في
الآخرة والجمهور على الأول وروي عن الربيع بن صبيح أن رجلا أتى
الحسن وشكا إليه الجدب فقال له:
استغفر الله تعالى وأتاه آخر فشكا إليه الفقر فقال له استغفر
الله تعالى، وأتاه آخر فقال: ادع الله سبحانه أن يرزقني ابنا
فقال له استغفر الله تعالى، وأتاه آخر فشكا إليه جفاف بساتينه
فقال له: استغفر الله تعالى فقلنا أتاك رجال يشكون ألوانا
ويسألون أنواعا فأمرتهم كلهم بالاستغفار فقال: ما قلت من نفسي
شيئا إنما اعتبرت قول الله
(15/81)
عزّ وجلّ حكاية عن نبيه نوح عليه الصلاة
والسلام إنه قال لقومه اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ الآية ما
لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً إنكار لأن يكون لهم سبب
ما في عدم رجائهم لله تعالى وَقاراً على أن الرجاء بمعنى الخوف
كما أخرجه الطستي عن ابن عباس مجيبا به سؤال نافع بن الأزرق
منشدا قوله أبي ذؤيب:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وحالفها في بيت نوب عواسل
أو على أنه بمعنى الاعتقاد كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وأبو
الشيخ وجماعة، وعبر به بالرجاء التابع لأدنى الظن مبالغة ولا
تَرْجُونَ حال من ضمير المخاطبين، والعامل فيها معنى الاستقرار
في لَكُمْ على أن الإنكار متوجه إلى السبب فقط مع تحقق مضمون
الجملة الحالية لا إليهما معا ولِلَّهِ متعلق بمضمر وقع حالا
من وَقاراً ولو تأخر لكان صفة له، والوقار كما رواه جماعة عن
الحبر بمعنى العظمة لأنه على ما نقل الخفاجي عن الانتصاف ورد
في صفاته تعالى بهذا المعنى ابتداء أو لأنه بمعنى التؤدة لكنها
غير مناسبة له سبحانه فأطلقت باعتبار غايتها وما يتسبب عنها من
العظمة في نفس الأمر أو في نفوس الناس أي أي سبب حصل لكم حال
كونكم غير خائفين أو غير معتقدين لله تعالى عظمة موجبة لتعظيمه
سبحانه بالإيمان به جل شأنه والطاعة له تعالى وَقَدْ
خَلَقَكُمْ أَطْواراً أي والحال أنكم على حال منافية لما أنتم
عليه بالكلية وهو أنكم تعلمون أنه عزّ وجلّ خلقكم مدرجا لكم في
حالات عناصر ثم أغذية ثم أخلاطا ثم نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم
عظاما ولحوما ثم خلقا آخر فإن التقصير في توقير من هذا شأنه في
القدرة القاهرة والإحسان التام مع العلم بذلك مما لا يكاد يصدر
عن العاقل فالجملة حال من فاعل لا تَرْجُونَ مقررة للإنكار
والأطوار الأحوال المختلفة. وأنشدوا قوله:
فإن أفاق فقد طارت عمايته ... والمرء يخلق طورا بعد أطوار
وحملها على ما سمعت من الأحوال مما ذهب إليه جمع وعن ابن عباس
ومجاهد ما يقتضيه وإن اقتصر على ذكر النطفة والعلقة والمضغة
وقيل: المراد بها الأحوال المختلفة بعد الولادة إلى الموت من
الصبا والشباب والكهولة والشيوخة والقوة والضعف وقيل من
الألوان والهيئات والأخلاق والملل المختلفة. وقيل من الصحة
والسقم وكمال الأعضاء ونقصانها والغنى والفقر ونحوها هذا وقيل:
الرجاء بمعنى الأمل كما هو الأصل المعروف فيه والوقار بمعنى
التوقير كالسلام بمعنى التسليم وأريد به التعظيم ولله بيان
للموقر المعظم فهو خبر مبتدأ محذوف أي إرادتي لله أو متعلق
بمحذوف يفسره المذكور أي وقارا لله ولم يعلق بالمذكور بناء على
ما صحح على ما فيه من أن معمول المصدر مطلقا لا يتقدم عليه ولو
تأخر لكان صلة له على ما في الكشاف.
وفيه أن المعنى ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم
الله تعالى إياكم في دار الثواب وحاصله ما لكم لا ترجون أن
توقروا وتعظموا على البناء للمفعول فكأنه قيل لمن التوقير أي
من الذي يعظمنا ويختص به إعظامه إيانا فقيل لله وفسره بقوله
على حال إلخ إشارة إلى أنه ينبغي عليهم اغترارهم كأنه قيل ما
لكم مغترين غير راجين. وجعل الحث على الرجاء كناية عن الحث على
الإيمان والعمل الصالح لاقتضائه انعقاد الأسباب بخلاف الغرور
وهي كناية إيمائية إذ لا واسطة ولو جعلت رمزية لخفاء الفرق بين
الرجاء والغرور على الأكثر لكان وجها قاله في الكشف. وتعقب ذلك
مفتي الديار الرومية عليه الرحمة بأن عدم رجاء الكفرة لتعظيم
الله تعالى إياهم في دار الثواب ليس في حيز الاستبعاد والإنكار
مع أن في جعل الوقار بمعنى التوقير من التعسف وفي جعل لله
بيانا للموقر ودعوى أنه لو تأخر لكان صلة للوقار من التناقض ما
لا يخفى فإن كونه بيانا للموقر
(15/82)
يقتضي أن يكون التوقير صادرا عنه تعالى
والوقار وصفا للمخاطبين، وكونه صلة للوقار يوجب كون التوقير
صادرا عنهم والوقار وصفا له عزّ وجلّ انتهى. وأجيب عن أمر
التناقض بأنك إذا قلت ضرب لزيد جاز أن يكون زيد فاعلا وأن يكون
مفعولا وكفى شاهدا صحة الإضافتين فعند التأخر يحتمل أن يكون
الوقار بمعنى التوقير صادرا منه تعالى فيكون الوقار وصفا
للمخاطبين، ويحتمل أن يكون متعلقا به فيكون التوقير صادرا عنهم
والوقار وصفا له تعالى. غاية ما في الباب أنه لما قدم لله
وامتنع تعلقه بالمصدر المتأخر صار بيانا وعينت القرينة إرادة
صدور التوقير عنه عزّ وجلّ وأين هذا من التناقض نعم يبقى
الكلام في القرينة ولعلها السياق بناء على أن القوم استبعدوا
أن يقبلوا ويلطف الله تعالى بهم إن هم تركوا باطلهم فيكون هذا
من تتمة إزالة الشبهة فيما سمعت من قولهم كيف يقبلنا ويلطف بنا
إلخ. ويعلم من هذا الجواب عن قوله إن عدم رجاء الكفرة لتعظيم
الله تعالى ليس في حيز الاستبعاد كما لا يخفى وعليه وقيل يكون
قوله تعالى وَقَدْ خَلَقَكُمْ إلى قوله سبحانه- فِجاجاً
للدلالة على أنه جل شأنه لا يزال ينعم عليكم مع كفركم فكيف لا
يلطف بكم ويوقركم إذا آمنتم. وتفسر الأطوار بما يعتري الإنسان
في أسنانه من الأمور المختلفة كالصبا والشباب والكهولة وغيرها
مما يكون بعضه في حال الكفر ويصلح لأن يمتن به ويلتزم كون
الإعادة في الأرض من النعم عندهم بناء على أن فيها ستر فظاعة
الأبدان على أسهل وجه بعد حلول الموت الضروري في هذه النشأة
والإنصاف بعد هذا كله ثم أم لم يتم أن الوجه المذكور متكلف
بعيد عن الظاهر بمراحل وقيل: المعنى ما لكم لا تخافوا الله
تعالى حلما وترك معاجلة بالعقاب فتؤمنوا فالرجاء بمعنى الخوف
والوقار بمعنى الحلم حقيقة كما هو ظاهر كلام الراغب أو استعارة
له لاشتراكهما في الثاني أو مجازا إذ لا يتخلف الحلم عن الوقار
عادة وفي رواية عن ابن عباس تفسيره بالعاقبة حيث قال أي لا
تخافون لله عاقبة وهو من الكناية حينئذ أخذا من الوقار بمعنى
الثبات وعن مجاهد والضحاك أن المعنى ما لكم لا تبالون لله
تعالى عظمة. قال قطرب: هذه لغة أهل الحجاز وهذيل وخزاعة ومضر
يقولون لم أرج أي لم أبال وأظهر المعاني ما ذكرناه أولا ولما
ذكر من آيات الأنفس ما ذكر اتبعه بشيء من آيات الآفاق ولبعد
أحد الأمرين عن الآخر رتبة لم يأت بالعطف بل قطع فقال أَلَمْ
تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً أي
متطابقة بعضها فوق بعض وتفسير التطابق بالتوافق في الحسن
والاشتمال على الحكم وجودة الصنع ما تَرى فِي خَلْقِ
الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك: 3] عدول عن الظاهر الذي
تطابقت عليه الأخبار من غير داع إليه وَجَعَلَ الْقَمَرَ
فِيهِنَّ نُوراً منور الوجه الأرض في ظلمة الليل وجعله فيهن مع
أنه في إحداهن وهي السماء الدنيا كما يقال زيد في بغداد وهو في
بقعة منها، والمرجح له الإيجاز والملابسة بالكلية والجزئية
وكونها طباقا شفافة وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً يزيل ظلمة
الليل ويبصر أهل الدنيا في ضوئها وجه الأرض ويشاهدون الآفاق
كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره
وتنوينه للتعظيم. وفي الكلام
تشبيه بليغ ولكون السراج أعرف وأقرب جعل مشبها به ولاعتبار
التعدي إلى الغير في مفهومه بخلاف النور كان أبلغ منه ولعل في
تشبيهها بالسراج القائم ضياءه لا بطريق الانعكاس رمزا إلى أن
ضياءها ليس منعكسا إليها من كوكب آخر كما أن نور القمر منعكس
عليه من الشمس لاختلاف تشكلاته بالقرب والبعد منها مع خسوفه
بحيلولة الأرض بينه وبينها، وجزم أهل الهيئة القديمة بذلك وفي
رواية أظنها تصح أن ضياء الشمس مفاض عليها من العرش، وأظن أن
من يقول إنها تدور على كوكب آخر من أهل الهيئة الجديدة يقول
باستفادتها النور من غيرها. ثم الظاهر أن المراد وجعل الشمس
فيهن فقيل هي في السماء الدنيا في فلك في ثخنها، وقيل في
السماء الرابعة وهو المشهور عند متقدمي أهل الهيئة واستدلوا
عليه بما هو
(15/83)
وَاللَّهُ
أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ
فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا
فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي
وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا
خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا
لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا
سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ
أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا
ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا
نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا
(25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ
الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ
يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا
(27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ
بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا
تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
مذكور في كتبهم وفي البحر حكاية قول إنها
في الخامسة ولا يكاد يصح ومما يضحك الصبيان فضلا عن فحول ذوي
العرفان ما حكي فيه أيضا أنها في الشتاء في الرابعة وفي الصيف
في السابعة وذهب متأخرو أهل الهيئة إلى أنها مركز للسيارات
وعدوا الأرض منها ولم يعدوا القمر لدورانه على الأرض وهو بينها
وبين الشمس عندهم وسنعمل إن شاء الله تعالى رسالة في تحقيق
الحق والحق عند ذويه أظهر من الشمس.
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً أي أنشاكم منها
فاستعير الإنبات للإنشاء لكونه أدل على الحدوث والتكون من
الأرض لكونه محسوسا وقد تكرر إحساسه وهم وإن لم ينكروا الحدوث
جعلوا بإنكار البعث كمن أنكره ففي الكلام استعارة مصرحة تبعية،
ومِنَ ابتدائية داخلة على المبدأ البعيد ونَباتاً قال أبو حيان
وجماعة مصدر مؤكد لأنبتكم بحذف الزوائد والأصل إنباتا أو نصب
بإضمار فعل أن فنبتم نباتا وفي الكشف أن الإنبات والنبات من
الفعل والانفعال وهما واحد في الحقيقة والاختلاف بالنسبة إلى
القيام بالفاعل والقابل فلا حاجة إلى تضمين فعل آخر ولا تقديره
ثم إن الإنبات إن حمل على معناه الوضعي فلا احتياج إلى التقدير
إذ هو في نفسه متضمن للنبات كما أشرنا إليه فيكون نباتا نصبا
بالتكتم لهذا التضمن وإن حمل على المتعارف من إطلاقه على مقدمة
الإنبات من إخفاء الحب في الأرض مثلا فالوجه الحمل على أن
المراد أَنْبَتَكُمْ فنبتّم نَباتاً ليكون فيه إشعار بنحو
النكتة التي جرت في قوله تعالى فَانْبَجَسَتْ [الأعراف: 160]
من الدلالة على القدرة وسرعة نفاذ حكمها. وجوز أن يكون الأصل
أنبتكم من الأرض إنباتا فنبتم نباتا فحذف من الجملة الأولى
المصدر ومن الثانية الفعل اكتفاء بما ذكر في الأخرى على أنه من
الاحتباك. وقال القاضي:
اختصر اكتفاء بالدلالة الالتزامية وفيه على ما قال الخفاجي
الاشعار المذكورة فتأمل ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها أي في الأرض
بالدفن عند موتكم وَيُخْرِجُكُمْ منها عند البعث والحشر
إِخْراجاً محققا لا ريب فيه وعطف يُعِيدُكُمْ بثم لما بين
الإنشاء والإعادة من الزمان المتراخي الواقع فيه التكليف الذي
به استحقوا الجزاء بعد الإعادة، وعطف يُخْرِجُكُمْ بالواو دون
ثم مع أن الإخراج كذلك لأن أحوال البرزخ والآخرة في حكم شيء
واحد فكأنه قضية واحدة ولا يجوز أن يكون بعضها محقق الوقوع دون
بعض بل لا بد أن تقع الجملة لا محالة وإن تأخرت عن الإبداء
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً تتقلبون عليها
كالبساط وليس فيه دلالة على أن الأرض مبسوطة غير كرية كما في
البحر وغيره لأن الكرة العظيمة يرى كل من عليها ما يليه مسطحا،
ثم
(15/84)
إن اعتقاد الكرية أو عدمها ليس بأمر لازم
في الشريعة لكن كريتها كالأمر اليقيني وإن لم تكن حقيقة ووجه
توسيط لَكُمُ بين الجعل ومفعوله الصريح يعلم مما مر غير مرة
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا طرقا فِجاجاً واسعات جمع فج فهو
صفة مشبهة نعت لسبلا. وقال غير واحد: هو اسم للطريق الواسعة
وقيل: اسم للمسلك بين الجبلين فيكون بدلا أو عطف بيان و (من)
متعلقة بما قبلها لتضمنه معنى الاتخاذ وإلّا فهو يتعدى بفي أو
بمضمر هو حال من سُبُلًا أي سبلا كائنة من الأرض ولو تأخر لكان
صفة لها قالَ نُوحٌ أعيد لفظ الحكاية لطول العهد بحكاية
مناجاته لربه عزّ وجلّ أي قال عليه السلام مناجيا له تعالى
شاكيا إليه عزّ وجلّ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي أي داموا على
عصياني فيما أمرتهم به مع ما بالغت في إرشادهم بالعظة والتذكير
وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا
خَساراً أي واستمروا على اتباع رؤسائهم الذين أبطرتهم أموالهم
وغرتهم أولادهم وصار ذلك سببا لزيادة خسارهم في الآخرة فصاروا
أسوة لهم في الخسار والظاهر أن اتباع عامتهم وسفلتهم لأولئك
الرؤساء وفي وصفهم بذلك إشعار بأنهم اتبعوهم لوجاهتهم الحاصلة
لهم بسبب الأموال والأولاد لا لما شاهدوا فيهم من شبهة مصححة
للاتباع في الجملة. وقرأ ابن الزبير والحسن والنخعي والأعرج
ومجاهد والأخوان وابن كثير أبو عمرو ونافع في رواية خارجة عنه
«وولده» بضم الواو وسكون اللام فقيل هو مفرد لغة في ولد
بفتحهما كالحزن والحزن وقيل جمع له كالأسد والأسد وفي القاموس
الولد محركة وبالضم والكسر والفتح واحد وجمع وقد يجمع على
أولاد وولدة والدة بكسرها وولد بالضم انتهى. وقرأ بالكسر
والسكون الحسن أيضا والجحدري وقتادة وذر وطلحة وابن أبي إسحاق
وأبو عمرو في رواية وَمَكَرُوا عطف على صلة مَنْ والجمع
باعتبار معناها كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار لفظها
وكان فيه إشارة إلى اجتماعهم في المكر ليكون أشد وأعظم. وقيل
عطف على عَصَوْنِي والأول أنسب لدلالته على أن المتبوعين ضموا
إلى الضلال الإضلال وهو الأوفق بالسياق فإن المتبادر أن ما
بعده من صفة الرؤساء أيضا واعتبار ذلك العطف على أن المعنى مكر
بعضهم ببعض وقال بعضهم لبعض خلاف المتبادر مَكْراً كُبَّاراً
أي كبيرا في الغاية فهو من صيغ المبالغة قال عيسى بن عمر: هي
لغة يمانية وعليها قول الشاعر:
بيضاء تصطاد القلوب وتستبي ... بالحسن قلب المسلم القراء
وقوله:
والمرء يلحقه بفتيان الندى ... خلق الكريم وليس بالوضاء
وقد سمع بعض الأعراب الجفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم
يقرأ هذه الآية فقال: ما أفصح ربك يا محمد وإذا اعتبر التنوين
في مكرا للتفخيم زاد أمر المبالغة في مكرهم أي كبيرا في الغاية
وذلك احتيالهم في الدين وصدهم للناس عنه وإغراءهم وتحريضهم على
أذية نوح عليه السلام. وقرأ عيسى وابن محيصن وأبو السمال
«كبارا» بتخفيف الباء وهو بناء مبالغة أيضا إلّا أنها دون
المبالغة في المشدد ومثل كبار في ذلك حسان وطوال وعجاب وجمال
إلى ألفاظ كثيرة وقرأ زيد بن علي وابن محيصن فيما روى عنه وهب
بن واضح «كبارا» بكسر الكاف وفتح الباء قال ابن الأنباري هو
جمع كبير كأنه جعل مَكْراً مكان ذنوب أو أفاعيل يعني فلذلك وصف
بالجمع وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ أي لا تتركوا
عبادتها على الإطلاق إلى عبادة رب نوح عليه السلام وَلا
تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ
وَنَسْراً أي ولا تتركوا عبادة هؤلاء خصوها بالذكر مع اندراجها
فيما سبق لأنها كانت أكبر أصنامهم ومعبوداتهم الباطلة وأعظمها
عندهم وإن كانت متفاوتة في العظم
(15/85)
فيما بينها بزعمهم كما يومىء إليه إعادة لا
مع بعض وتركها مع آخر، وقيل أفرد يعوق ونسر عن النفي لكثرة
تكرار لا وعدم اللبس. وقد انتقلت هذه الأصنام إلى العرب. أخرج
البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: صارت
الأوثان التي كانت في قوم نوح عليه السلام في العرب بعد أما ود
فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث
فكانت لمراد ثم لبني غطيف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان،
وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، وكانت هذه الأسماء أسماء
رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إليهم أن
انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها انصابا وسموها
بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ودرس العلم عبدت
وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: كان
لآدم عليه السلام خمسة بنين ود وسواع إلخ فكانوا عبادا فمات
رجل منهم فحزنوا عليه حزنا شديدا فجاءهم الشيطان فقال: حزنتم
على صاحبكم هذا؟ قالوا: نعم، قال: هل لكم أن أصور لكم مثله في
قبلتكم إذا نظرتم إليه ذكرتموه؟ قالوا: نكره أن تجعل لنا في
قبلتنا شيئا نصلي عليه قال: فأجعله في مؤخر المسجد، قالوا: نعم
فصوره لهم حتى مات خمستهم فصور صورهم في مؤخر المسجد فنقصت
الأشياء حتى تركوا عبادة الله تعالى وعبدوا هؤلاء فبعث الله
تعالى نوحا عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده وترك
عبادتها فقالوا ما قالوا. وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة بن
الزبير أن ودا كان أكبرهم وأبرهم وكانوا كلهم أبناء آدم عليه
السلام، وروي أن ودا أول معبود من دون الله سبحانه وتعالى.
أخرج عبد بن حميد عن أبي مطهر قال: ذكروا عند أبي جعفر رضي
الله تعالى عنه يزيد بن المهلب فقال: أما إنه قتل في أول أرض
عبد فيها غير الله تعالى ثم ذكر ودا وقال: كان رجلا مسلما وكان
محببا في قومه، فلما مات عسكروا حول قبره في أرض بابل وجزعوا
عليه فلما رأى إبليس جزعهم تشبه في صورة إنسان ثم قال: أرى
جزعكم على هذا فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم
فتذكرونه به؟ قالوا: نعم، فصور لهم مثله فوضعوه في ناديهم
فجعلوا يذكرونه به فلما رأى ما بهم من ذكره قال: هل لكم أن
أجعل لكم في منزل كل رجل منكم تمثالا مثله فيكون في بيته فيذكر
به؟ فقالوا: نعم، ففعل فأقبلوا يذكرونه به وأدرك أبناؤهم
فجعلوا يرون ما يصنعون به وتناسلوا ودرس أمر ذكرهم إياه حتى
اتخذوه إلها يعبدون من دون الله تعالى فكان أول من عبد غير
الله تعالى في الأرض ودا وأخرج ابن المنذر وغيره عن أبي عثمان
النهدي أنه قال: رأيت يغوث وكان من رصاص يحمل على جمل أجرد
ويسيرون معه لا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك فإذا نزلوا
وقالوا قد رضي لكم المنزل فينزلون حوله ويضربون عليه بناء (1)
وقيل يبعد بقاء أعيان تلك الأصنام وانتقالها إلى العرب فالظاهر
أنه لم يبق إلا الأسماء فاتخذت العرب أصناما وسموها بها وقالوا
أيضا
عبد ود وعبد يغوث يعنون أصنامهم. وما رآه أبو عثمان منها مسمى
باسم ما سلف ويحكى أن ودا كان على صورة رجل وسواعا كان على
صورة امرأة ويغوث كان على صورة أسد ويعوق كان على صورة فرس
ونسرا كان على صورة نسر وهو مناف لما تقدم أنهم كانوا على صور
أناس صالحين وهو الأصح. وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة بخلاف عنهم
«ودّا» بضم الواو وقرأ الأشهب العقيلي «ولا يغوثا ويعوقا»
بتنوينهما قال صاحب اللوامح جعلهما فعولا فلذلك صرفهما وهما في
قراءة الجمهور صفتان من الغوث والعوق يفعل منهما وهما معرفتان
فلذلك منعا الصرف لاجتماع الثقلين اللذين هما التعريف ومشابهة
__________
(1) (قوله وقيل يبعد إلخ) قد أخرج الإفرنج في حدود الألف
والمائتين والستين أصناما وتماثيل من أرض الموصل كانت منذ نحو
من ثلاثة آلاف سنة فلا تغفل اهـ منه.
(15/86)
الفعل المستقبل وتعقبه أبو حيان فقال هذا
تخبيط أما أولا فلا يمكن أن يكونا فعولا لأن مادة يغث مفقودة
وكذلك يعق وأما ثانيا فليسا بصفتين لأن يفعلا لم يجىء اسما ولا
صفة وإنما امتنعا من الصرف للعلمية ووزن الفعل إن كانا عربيين
وللعلمية والعجمة إن كانا عجميين. وقال ابن عطية: قرأ الأعمش
«ولا يغوثا ويعوقا» بالصرف وهو وهم لأن التعريف لازم وكذا وزن
الفعل وأنت تعلم أن الأعمش لم ينفرد بذلك وليس بوهم فقد خرجوه
على أحد وجهين أحدهما أن الصرف للتناسب كما قالوا في سلاسلا
وأغلالا وهو نوع من المشاكلة ومعدود من المحسنات وثانيهما أنه
جاء على لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف عند عامة العرب وذلك لغة
حكاها الكسائي وغيره لكن يرد على هذا أنها لغة غير فصيحة لا
ينبغي التخريج عليها وَقَدْ أَضَلُّوا أي الرؤساء كَثِيراً
خلقا كثيرا أي قبل هؤلاء الموصين بأن يتمسكوا بعبادة الأصنام
فهم ليسوا بأول من أضلوهم ويشعر بذلك المضي والاقتران بقد حيث
أشعر ذلك بأن الإضلال استمر منهم إلى زمن الإخبار بإضلال
الطائفة الأخيرة، وجوز أن يراد بالكثير هؤلاء الموصين، وكان
الظاهر وقد أضل الرؤساء إياهم أي الموصين المخاطبين بقوله لا
تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ فوضع كثيرا موضع ذلك على سبيل التجريد
وقال الحسن وقد أضلوا أي الأصنام فهو كقوله تعالى رَبِّ
إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إبراهيم: 36]
وضمير العقلاء لتنزيلها منزلتهم عندهم وعلى زعمهم ويحسنه على
ما في البحر عود الضمير على أقرب مذكور ولا يخفى أن عوده على
الرؤساء أظهر إذ هم المحدث عنهم والمعنى فيهم أمكن والجملة قيل
حالية أو معطوفة على ما قبلها وقوله تعالى وَلا تَزِدِ
الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا قيل عطف على رَبِّ إِنَّهُمْ
عَصَوْنِي على حكاية كلام نوح عليه السلام بعد قالَ والواو
النائبة عنه ومعناه قال رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وقال لا
تَزِدِ إلخ أي قال هذين القولين على أن الواو من كلام الله
تعالى لأنها داخلة في الحكاية وما بعدها هو المحكي وإليه ذهب
الزمخشري وإنما ارتكب ذلك فرارا من عطف الإنشاء على الخبر.
وقيل عطف عليه والواو من المحكي والتناسب إنشائية وخبرية غير
لازم في العطف كما قاله أبو حيان وغيره وفيه خلاف وفي الكشف لك
أن تجعله من باب وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم: 46] أي فاخذلهم
ولا تزدهم وفي العدول إلى الظَّالِمِينَ إشعار باستحقاقهم
الدعاء عليهم وإبداء لعذره عليه السلام وتحذير ولطف لغيرهم،
وفيه أنه بعض ما يتسبب من مساوئهم وهو معنى حسن فعنده العطف
على محذوف إنشائي ولعل الأولى أن يقال إن العطف على رَبِّ
إِنَّهُمْ عَصَوْنِي والواو من المحكي والتناسب حاصل. وقال
الخفاجي: الظاهر أن الغرض من قوله رَبِّ إِنَّهُمْ إلخ الشكاية
وإبداء العجز واليأس منهم. فهو طلب للنصرة عليهم كقوله رَبِّ
انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ [الدخان: 22] ولو لم يقصد ذلك تكرر
مع ما مر منه عليه السلام فحينئذ يكون كناية عن قوله اخذلهم أو
انصرني أو أظهر دينك أو نحوه فهو من عطف الإنشاء على الإنشاء
من غير تقدير ويشهد له أن الله تعالى سمى مثله دعاء حيث قال
سبحانه فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ
[الدخان: 22] فتدبر وهو حسن خال عن التكلف وارتكاب المختلف فيه
إلّا أن في الشهادة دغدغة والمراد بالضلال المدعو بزيادته إما
الضلال في ترويج مكرهم ومصالح دنياهم فيكون ذلك دعاء عليهم
بعدم تيسير أمورهم وإما الضلال بمعنى الهلاك كما في قوله تعالى
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ [القمر: 47] وهو
مأخوذ من الضلال في الطريق لأن من ضل فيها هلك فيكون المعنى
أهلكهم. وفسره ابن بحر بالعذاب وهو قريب مما ذكر وقيل هو على
ظاهره أعني الضلال في الدين والدعاء بزيادته إنما كان بعد ما
أوحى إليه عليه السلام أنه لن يؤمن من قومك إلّا من قد آمن
ومآله الدعاء عليهم بزيادة عذابهم ويحتاج إلى دليل وبما سمعت
ينحل ما يقال إن طلب الضلال ونحوه إما غير جائز مطلقا أو إذا
دعي به على وجه الاستحسان وبدونه وإن
(15/87)
كان جائزا لكنه غير ممدوح ولا مرضي فكيف
دعا بذلك نوح عليه السلام عليهم مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أي من
أجل خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا بالطوفان لا من أجل أمر آخر فمن
تعليلية وما زائدة بين الجار والمجرور لتعظيم الخطايا في كونها
من كبائر ما ينهى عنه ومن لم ير زيادتها جعلها نكرة وجعل
خَطِيئاتِهِمْ بدلا منها. وزعم ابن عطية أن (من) لابتداء
الغاية وهو كما ترى. وقرأ أبو رجاء «خطياتهم» بإبدال الهمزة
ياء وإدغامها في الياء. وقرأ الجحدري وعبيد عن أبي عمرو
«خطيئتهم» على الإفراد مهموزا وقرأ الحسن وعيسى والأعرج بخلاف
عنهم وأبو عمرو «خطاياهم» جمع تكسير وقرأ عبد الله «من
خطيئاتهم ما أغرقوا» بزيادة «ما» بين خَطِيئاتِهِمْ
وأُغْرِقُوا وخرج على أنها مصدرية أي بسبب خطيئاتهم إغراقهم
وقرأ زيد بن علي «غرّقوا» بالتشديد بدل الهمزة وكلاهما للنقل
فَأُدْخِلُوا ناراً هي نار البرزخ والمراد عذاب القبر ومن مات
في ماء أو نار أو أكلته السباع أو الطير مثلا أصابه ما يصيب
المقبور من العذاب وقال الضحاك: كانوا يغرقون من جانب ويحرقون
بالنار من جانب وأنشد ابن الأنباري:
الخلق مجتمع طورا ومفترق ... والحادثان فنون ذات أطوار
لا تعجبن لأضداد إذا اجتمعت ... فالله يجمع بين الماء والنار
ويجوز أن يراد بها نار الآخرة والتعقيب على الأول ظاهر وهو على
هذا لعدم الاعتداد بما بين الإغراق والإدخال فكأنه شبه تخلل ما
لا يعتد به بعدم تخلل شيء أصلا، وجوز أن تكون فاء التعقيب
مستعارة للسببية لأن المسبب كالمتعقب للسبب وإن تراخى عنه لفقد
شرط أو وجود مانع وتنكير النار إما لتعظيمها وتهويلها أو لأنه
عزّ وجلّ أعدّ لهم على حسب خطيئاتهم نوعا من النار ولا يخفى ما
في أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً من الحسن الذي لا يجارى ولله
تعالى در التنزيل فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَنْصاراً أي فلم يجد أحدهم واحدا من الأنصار وفيه تعريض
لاتخاذهم آلهة من دونه سبحانه وتعالى وبأنها غير قادرة على
نصرهم وتهكم بهم وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ
مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً عطف على نظيره السابق وقوله تعالى
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ إلخ اعتراض وسط بين دعائه عليه السلام
للإيذان من أول الأمر بأن ما أصابهم من الإغراق والإحراق لم
يصبهم إلّا لأجل خطيئاتهم التي عدها نوح عليه السلام وأشار إلى
استحقاقهم للهلاك لأجلها لا أنه حكاية لنفس الإغراق والإحراق
على طريقة حكاية ما جرى بينه عليه السلام وبينهم من الأحوال
والأقوال وإلّا لأخر عن حكاية دعائه هذا قاله مفتي الديار
الرومية عليه الرحمة. وما قيل إنه عطف على لم يجدوا أو على
جملة مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ إلخ وليس المراد حقيقة الدعاء بل
التشفي وإظهار الرضا بما كان من هلاكهم بعيد غاية البعد
والمعروف أن هذا الدعاء كان قبل هلاكهم والديار من الأسماء
التي لا تستعمل إلّا في النفي العام يقال: ما بالدار ديار أو
ديور كقيام وقيوم أي ما بها أحد وهو فيعال من الدار أو من
الدور كأنه قيل لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ
من يسكن دارا أو لا تذر عليها منهم من يدور ويتحرك وأصله ديوار
اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء
وأدغمت الياء في الياء وليس بفعال وإلّا لكان دوارا إذ لا داعي
للقلب حينئذ ومِنَ الْكافِرِينَ حال منه ولو أخر كان صفة له
والمراد بالكافرين قومه الذين دعاهم إلى الإيمان والطاعة فلم
يجيبوا فإن كان الناس منتشرين في مشارق الأرض ومغاربها نحو
انتشارهم اليوم وكانت بعثته لبعض منهم كسكان جزيرة العرب ومن
يقرب منهم فذاك وإن كانوا غير منتشرين كذلك بل كانوا في
الجزيرة وقريبا منها فإن كانت البعثة لبعضهم أيضا فكذلك وإن
كانت لكلهم فقد استشكل بأنه يلزم عموم البعثة وقد قالوا بأنه
مخصوص بنبينا صلّى الله عليه وسلم وأجيب بأن ذلك العموم ليس
كعموم بعثته صلّى الله عليه وسلم بل لانحصار أهل الأرض في قطعة
منها فهو انحصار ضروري وليس عموما من
(15/88)
كل وجه، وهذا نحو ما يقال في بعثة آدم عليه
السلام إلى زوجته وأولاده فإنهم حينئذ ليسوا إلّا كأهل بيت
واحد على أنه قيل لا إشكال ولو قلنا بانتشار الناس إذ ذاك
كانتشارهم اليوم وإرساله إليهم جميعا لأن العموم المخصوص
بنبينا عليه الصلاة والسلام هو العموم المندرج فيه الإنس والجن
إلى يوم القيامة بل الملائكة عليهم السلام بل وبل والمشهور أنه
عليه السلام كان مبعوثا لجميع أهل الأرض وأنه ما آمن منهم إلا
قليل واستدل عليه بهذا الدعاء وعموم الطوفان وتعقب بأن الأرض
كثيرا ما تطلق على قطعة منها فيحتمل أن تكون هنا كذلك سلمنا
إرادة الجميع لكن الدعاء على الكافرين وهم من بعث إليهم فدعاهم
ولم يجيبوه وكونهم من عدا أهل السفينة أول المسألة والطوفان لا
نسلم عمومه وإن سلم لا يقتضي أن يكون كل من غرق به مكلفا
بالإيمان به عليه السلام عاصيا بتركه، فالبلاء قد يعم الصالح
والطالح لكن يصدرون مصادر شتى كما ورد في حديث خسف البيداء
ويرشد إلى هذا أن أولادهم قد أغرقوا على ما قيل معهم. وقد سئل
الحسن عن ذلك فقال: علم الله تعالى براءتهم فأهلكهم بغير عذاب.
نعم الحكمة في إهلاك هؤلاء زيادة عذاب في آبائهم وأمهاتهم إذا
ابصروا أطفالهم يغرقون وزعم بعضهم أن الله تعالى أعقم أرحام
نسائهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل الطوفان بأربعين أو سبعين سنة
فلم يكن معهم صبي حين أغرقوا ويحتاج إلى نقل صحيح وحكم الله
عزّ وجلّ لا تحصى فافهم إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ أي على الأرض
كلا أو بعضا يُضِلُّوا عِبادَكَ عن طريق الحق ولعل المراد بهم
من آمن به عليه السلام وبإضلالهم إياهم ردهم إلى الكفر بنوع من
المكر أو المراد بهم من ولد منهم ولم يبلغ زمن التكليف أو من
يولد من أولئك المؤمنين ويدعى إلى الإيمان، وبإضلالهم إياهم
صدهم عن الإيمان وفي بعض الأخبار أن الرجل منهم كان يأتي بابنه
إليه عليه السلام ويقول: احذر هذا فإنه كذاب وإن أبي أوصاني
بمثل هذه الوصية فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك قيل ومن
هنا قال عليه السلام وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً
أي من سيفجر ويكفر فوصفهم بما يصيرون إليه لاستحكام علمه بذلك
بما حصل له من التجربة ألف سنة إلّا خمسين عاما ومثله قوله
عليه السلام إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وقيل أراد من
جبل على الفجور والكفر وقد علم كل ذلك بوحي كقوله سبحانه لَنْ
يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: 36] وعن
قتادة ومحمد بن كعب والربيع وابن زيد أنه عليه السلام ما دعا
عليهم إلا بعد أن أخرج الله تعالى كل مؤمن من الأصلاب وأعقم
أرحام نسائهم وأيّا ما كان فقوله إِنَّكَ إلخ اعتذار مما عسى
أن يقال من أن الدعاء بالاستئصال مع احتمال أن يكون من أخلافهم
من يؤمن مما لا يليق بشأن الأنبياء عليهم السلام رَبِّ اغْفِرْ
لِي وَلِوالِدَيَّ أراد أباه لمك بن متوشلخ (1) وقد تقدم ضبط
ذلك وأمه شمخي بالشين والخاء المعجمتين بوزن سكرى بنت أنوش
بالإعجام بوزن أصول وكانا مؤمنين ولولا ذلك لم يجز الدعاء لهما
بالمغفرة وقيل أراد بهما آدم وحواء وقرأ ابن جبير والجحدري
«ولوالدي» بكسر الدال وإسكان الياء فإما أن يكون قد خص أباه
الأقرب أو أراد جميع من ولدوه إلى آدم عليه السلام ولم يكفر
كما قال ابن عباس لنوح أب ما بينه وبين أدم عليه السلام وقرأ
الحسين بن عليّ كرم الله وجههما ورضي عنهما وزيد بن عليّ بن
الحسين رضي الله تعالى عنهم ويحيى بن يعمر والنخعي والزهري
«ولولديّ» تثنية ولد يعني ساما وحاما على ما قيل وفي رواية أن
ساما كان نبيا وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ قيل أراد منزله وقيل
سفينته وقال الجمهور وابن عباس: أراد مسجده وفي رواية عن الحبر
أنه أراد شريعته استعار لها اسم البيت كما قالوا قبة الإسلام
وفسطاط الدين والمتبادر
__________
(1) قوله وقد تقدم ضبط ذلك لكن قيل في لمك أنه بفتحتين ويقال
فيه لا مك كهاجر ومتوشلخ على ما في جامع الأصول بضم الميم وفتح
الفوقية وفتح الواو وبسكون الشين المعجمة وكسر اللام وبالخاء
المعجمة اهـ منه.
(15/89)
المنزل وتخرج امرأته وابنه كنعان بقوله
مُؤْمِناً وقيل يمكن أنه لم يجزم بخروج كنعان إلا بعد ما قيل
له أنه ليس من أهلك وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي من
كل أمة إلى يوم القيامة وهو تعميم بعد التخصيص واستغفر ربه عزّ
وجلّ إظهارا لمزيد الافتقار إليه سبحانه وحبا للمستغفر لهم من
والديه والمؤمنين وقيل إنه استغفر لما دعا على الكافرين لأنه
انتقام منهم ولا يخفى أن السياق يأباه وكذا قوله وَلا تَزِدِ
الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً أي هلاكا وقال مجاهد خسارا
والأول أظهر وقد دعا عليه السلام دعوتين دعوة على الكافرين
ودعوة للمؤمنين وحيث استجيبت له الأولى فلا يبعد أن تستجاب له
الثانية والله تعالى أكرم الأكرمين ومعظم آيات هذه السورة
الكريمة وغيرها نص في أن القوم كفرة هالكون يوم القيامة فالحكم
بنجاتهم كما يقتضيه كلام الشيخ الأكبر قدس سره في فصوصه مما
يبرأ إلى الله تعالى منه كزعم أن نوحا عليه السلام لم يدعهم
على وجه يقتضي إيمانهم مع قوله سبحانه اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ
يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام:
124] وقصارى ما أقول رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا
وللمؤمنين والمؤمنات.
(15/90)
|