روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)

سورة الجنّ
بسم الله الرحمن الرحيم وتسمى قل أوحى إليّ وهي مكية بالاتفاق وآيها بلا خلاف ثمان وعشرون آية ووجه اتصالها قال الجلال السيوطي فكرت فيه مدة فلم يظهر لي سوى أنه سبحانه قال في سورة [نوح: 10، 11] اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وقال عز وجل في هذه السورة لكفار مكة وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً [الجن: 16] وهذا وجه بين في الارتباط انتهى وفي قوله لكفار مكة شيء ستعلمه إن شاء الله تعالى ويجوز أن يضم إلى ذلك اشتمال هذه السورة على شيء مما يتعلق بالسماء كالسورة السابقة وذكر العذاب لمن يعصي الله عز وجل في قوله سبحانه وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً [الجن: 23] فإنه يناسب قوله تعالى أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً [نوح: 25] على وجه وقال أبو حيان في ذلك أنه تعالى لما حكى تمادي قوم نوح في الكفر والعكوف على عبادة الأصنام وكان أول رسول إلى أهل الأرض كما أن محمدا صلّى الله عليه وسلم آخر رسول إلى أهل الأرض والعرب الذين هو منهم صلّى الله عليه وسلم كانوا عباد أصنام كقوم نوح حتى أنهم عبدوا أصناما مثل أصنام أولئك في الأسماء أي أو عينها وكان ما جاء به عليه الصلاة والسلام هاديا إلى الرشد وقد سمعته العرب وتوقف عن الإيمان به أكثرهم أنزل الله تعالى سورة الجن وجعلها إثر سورة نوح تبكيتا لقريش والعرب في كونهم تباطؤوا عن الإيمان وكانت الجن خيرا منهم إذ أقبل للإيمان من أقبل منهم وهم من غير جنس الرسول عليه الصلاة والسلام حتى كادوا يكونون عليه لبدا ومع ذلك التباطي فهم مكذبون له ولما جاء به حسدا وبغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فقال عز من قائل:

(15/91)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ وقرأ ابن أبي عبلة والعتكي عن أبي عمرو وجؤبة بن عائذ الأسدي «وحّي» بلا همزة وهو بمعنى أوحي بالهمز ومنه قول العجاج:
وحي لها القرار فاستقرت وقرأ زيد بن علي وجؤبة فيما روى عنه الكسائي وابن أبي عبلة في رواية «أحي» بإبدال واو وحي همزة كما قالوا في وعد أعد قال الزمخشري وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا كإشاح وإعاء وإسادة وهذا أحد قولين للمازني والقول الآخر قصر ذلك على السماع وما ذكره من إطلاق الجواز في المضمومة تعقب بأن المضمومة قد تكون أولا وحشوا وآخرا ولكل منها أحكام وفي بعضها خلاف وتفصيل مذكور في كتب النحو فليراجع وزاد بعض الأجلة قلب الواو والمضموم ما قبلها فقال إنه أيضا مقيس مطرد وإنه قد يرد ذلك في المفتوحة كأحد وعلى جميع القراءات الجار متعلق بما عنده ونائب الفاعل أَنَّهُ إلخ على أنه في تأويل المصدر والضمير للشأن اسْتَمَعَ أي القرآن كما ذكر في الأحقاق وقد حذف لدلالة ما بعده عليه نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ النفر في المشهور ما بين الثلاثة والعشرة. وقال الحريري في درته: إن النفر إنما يقع على الثلاثة من الرجال إلى العشرة وقد وهم في ذلك فقد يطلق على ما فوق العشرة في الفصيح وقد ذكره غير واحد من أهل اللغة وفي كلام الشعبي حدثني بضعة عشر نفرا ولا يختص بالرجال بل ولا بالناس لإطلاقه على الجن هنا وفي المجمل الرهط والنفر يستعمل إلى الأربعين والفرق بينهما أن الرهط يرجعون إلى أب واحد بخلاف النفر وقد يطلق على القوم ومنه قوله تعالى وَأَعَزُّ نَفَراً [الكهف: 34] وقول امرئ القيس:
فهو لا تنمى (1) رميته ... ما له لا عد من نفره
وقال الإمام الكرماني للنفر معنى آخر في العرف وهو الرجل وأراد بالعرف عرف اللغة لأنه فسر به الحديث الصحيح فليحفظ والْجِنِّ واحده جني كروم ورومي وهم أجسام عاقلة تغلب عليها النارية كما يشهد له قوله تعالى وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرحمن: 15] وقيل الهوائية قابلة جميعها أو صنف منها للتشكل بالأشكال المختلفة من شأنها الخفاء، وقد ترى بصور غير صورها الأصلية بل وبصورها الأصلية التي خلقت عليها كالملائكة عليهم السلام وهذا للأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ومن شاء الله تعالى
__________
(1) قوله تنمى إلخ يقال أنمى إذا توارى اهـ منه.

(15/92)


من خواص عباده عز وجل، ولها قوة على الأعمال الشاقة ولا مانع عقلا من أن تكون بعض الأجسام اللطيفة النارية مخالفة لسائر أنواع الجسم اللطيف في الماهية ولها قبول لإفاضة الحياة والقدرة على أفعال عجيب مثلا.
وقد قال أهل الحكمة الجديدة بأجسام لطيفة أثبتوا لها من الخواص ما يبهر العقول فلتكن أجسام الجن على ذلك النحو من الأجسام وعالم الطبيعة أوسع من أن تحيط بحصر ما أودع فيه الأفهام وأكثر الفلاسفة على إنكار الجن. وفي رسالة الحدود لابن سينا الجني حيوان هوائي متشكل بأشكال مختلفة وهذا شرح الاسم وظاهره نفي أن يكون لهذه الحقيقة وجود في الخارج ونفي ذلك كفر صريح كما لا يخفى، واعترف جمع عظيم من قدماء الفلاسفة وأصحاب الروحانيات بوجودهم ويسمونهم بالأرواح السفلية والمشهور أنهم زعموا أنها جواهر قائمة بأنفسها ليست أجساما ولا جسمانية وهي أنواع مختلفة بالماهية كاختلاف ماهيات الأعراض فبعضها خيرة وبعضها شريرة ولا يعرف عدد أنواعها وأصنافها إلّا الله عز وجل ولا يبعد على هذا أن يكون في أنواعها ما يقدر على أفعال شاقة عظيمة يعجز عنها البشر بل لا يبعد أيضا على ما قيل أن يكون لكل نوع منها تعلق بنوع مخصوص من أجسام هذا العالم ومن الناس من زعم أن الأرواح البشرية والنفوس الناطقة إذا فارقت أبدانها ازدادت قوة وكمالا بسبب ما في ذلك العالم الروحاني من انكشاف الأسرار الروحانية فإذا اتفق حدوث بدن آخر مشابه لما كان لتلك النفس المفارقة من البدن تعلقت تلك النفس به تعلقا ما وتصير كالمعاونة لنفس ذلك البدن في أفعالها وتدبيرها لذلك البدن فإن اتفقت هذه الحالة في النفوس الخيرة سمي ذلك المعين ملكا وتلك الإعانة إلهاما وإن اتفقت في النفوس الشريرة سمي ذلك المعين شيطانا وتلك الإعانة وسوسة والكل مخالف لأقوال السلف. وظاهر الآيات والأحاديث وجمهور أرباب الملل معترفون بوجودهم كالمسلمين وإن اختلفوا في حقيقتهم وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من آكام المرجان. وفي التفسير الكبير طرف مما يتعلق بذلك فارجع إليه إن أردته. واختلف في عدد المستمعين فقيل سبعة فعن زر ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيبين قرية باليمن غير القرية التي بالعراق، وعن عكرمة أنهم كانوا اثني عشر ألفا من جزيرة الموصل وأين سبعة أو تسعة من اثني عشر ألفا ولعل النفر عليه القوم وفي الكشاف كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وعامة جنود إبليس منهم، والآية ظاهرة في أنه صلّى الله عليه وسلم علم استماعهم له بالوحي لا بالمشاهدة وقد وقع في الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام رآهم وجمع ذلك بتعدد القصة قال في آكام المرجان ما محصله في الصحيحين في حديث ابن عباس ما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم وإنما انطلق بطائفة من الصحابة لسوق عكاظ قد حيل بين الجن والسماء بالشهب فقالوا: ما ذاك إلا لشيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فمر من ذهب لتهامة منهم به عليه الصلاة والسلام وهو يصلي الفجر بأصحابه بنخلة فلما استمعوا له قالوا: هذا الذي حال بيننا وبين السماء ورجعوا إلى قومهم وقالوا: يا قومنا إلخ فأنزل الله تعالى عليه قُلْ أُوحِيَ إلخ ثم قال ونفى ابن عباس إنما هو في هذه القصة واستماعهم تلاوته صلّى الله عليه وسلم في الفجر في هذه القصة لا مطلقا ويدل عليه قوله تعالى وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ [الأحقاف: 29] إلخ فإنها تدل على أنه عليه الصلاة والسلام كلمهم ودعاهم وجعلهم رسلا لمن عداهم كما قاله البيهقي وروى أبو داود عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أتاني داعي الجن فذهبت معه وقرأت عليهم القرآن قال وانطلق بنا وأرانا آثارهم وآثار نيرانهم»
إلخ وقد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات. وقال ابن تيمية إن ابن عباس علم ما دل عليه القرآن ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وأبو هريرة من إتيان الجن له صلّى الله عليه وسلم ومكالمتهم إياه عليه الصلاة والسلام وقصة الجن كانت قبل الهجرة بثلاث سنين. وقال الواقدي كانت سنة إحدى عشرة من

(15/93)


النبوة وابن عباس ناهز الحلم في حجة الوداع فقد علمت أن قصة الجن وقعت ست مرات.
وفي شرح البيهقي من طرق شتى عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلّى العشاء ثم انصرف فأخذ بيدي حتى أتينا مكان كذا فأجلسني وخط عليّ خطا ثم قال: «لا تبرحن خطك» فبينما أنا جالس إذ أتاني رجال منهم كأنهم الزط فذكر حديثا طويلا وأنه صلّى الله عليه وسلم ما جاء إلى السحر قال وجعلت أسمع الأصوات ثم جاء عليه الصلاة والسلام فقلت:
أين كنت يا رسول الله؟ فقال: «أرسلت إليّ الجن» فقلت: ما هذه الأصوات التي سمعت؟ قال: «هي أصواتهم حين ودعوني وسلموا علي»
وقد يجمع الاختلاف في القلة والكثرة بأن ذلك لتعدد القصة أيضا والله تعالى أعلم. واختلف فيما استمعوه فقال عكرمة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] وقيل سورة الرحمن فَقالُوا أي لقومهم عند رجوعهم إليهم إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً أي كتابا مقروءا على ما فسره به بعض الأجلة وفسر بذلك للإشارة إلى أن ما ذكروه في وصفه مما يأتي وصف له كله دون المقروء منه فقط، والمراد أنه من الكتب السماوية والتنوين للتفخيم أي قرآنا جليل الشأن عَجَباً بديعا مباينا لكلام الناس في حسن النظم ودقة المعنى وهو مصدر وصف به للمبالغة يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ إلى الحق والصواب وقيل إلى التوحيد والإيمان وقرأ عيسى «الرشد» بضمتين وعنه أيضا فتحهما فَآمَنَّا بِهِ أي بذلك القرآن من غير ريث وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً حسبما نطق به ما فيه من دلائل التوحيد أو حسبما نطق به الدلائل العقلية على التوحيد ولم تعطف هذه الجملة بالفاء قال الخفاجي لأن نفيهم للإشراك إما لما قام عندهم من الدليل العقلي فحينئذ لا يترتب على الإيمان بالقرآن وإما لما سمعوه من القرآن فحينئذ يكفي في ترتبها عليه عطف الأول بالفاء خصوصا والباء في به تحتمل السببية فيعم الإيمان به الإيمان بما فيه فإنك إذا قلت ضربته فتأدب وانقاد لي فهم ترتب الانقياد على الضرب ولو قلت فانقاد لم يترتب على الأول بل على ما قبله. وقيل: عطفت بالواو ولتفويض الترتب إلى ذهن السامع وقد يقال إن مجموع فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ مسبب عن مجموع إِنَّا سَمِعْنا إلخ فكونه قرآنا معجزا يوجب الإيمان به وكونه يهدي إلى الرشد يوجب قلع الشرك من أصله والأول أولى وجوز أن يكون ضمير به لله عز وجل لأن قوله سبحانه بِرَبِّنا يفسره فلا تغفل وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا اختلفوا قراءة في أن هذه وما بعدها إلى وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وتلك اثنتا عشرة فقرأها ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف وحفص بفتح الهمزة فيهن ووافقهم أبو جعفر في ثلاثة ما هنا وأنه كان يقول وإنه كان رجال وقرأ الباقون بكسرها في الجميع واتفقوا على الفتح في أَنَّهُ اسْتَمَعَ وأَنَّ الْمَساجِدَ [الحج: 18] لأن ذلك لا يصح أن يكون من قول الجن بل هو مما أوحى بخلاف الباقي فإنه يصح أن يكون من قولهم ومما أوحى واختلفوا في أنه لما قام فقرأ نافع وأبو بكر بكسر الهمزة والباقون بفتحها كذا فصله بعض الأجلة وهو المعول عليه ووجه الكسر في أن هذه وما بعدها إلى وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ ظاهر كالكسر في إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً لظهور عطف الجمل على المحكي بعد القول ووضوح اندراجها تحته، وأما وجه الفتح ففيه خفاء ولذا اختلف فيه فقال الفراء والزجاج والزمخشري هو العطف على محل الجار والمجرور في فَآمَنَّا بِهِ كأنه قيل صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا وأنه كان يقول سفيهنا وكذلك البواقي ويكفي في إظهاره المحل إظهار مع المرادف وليس من العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار الممنوع عند البصريين في شيء وإن قيل به هنا بناء على مذهب الكوفيين المجوزين له ولو قيل إنه بتقدير الجار لاطراد حذفه قبل أن وإن لكان سديدا كما في الكشف وضعف مكي العطف على ما في حيز (آمنا) فقال فيه بعد في المعنى لأنهم لم يخبروا أنهم آمنوا بأنهم لما سمعوا الهدى آمنوا به ولا أنهم آمنوا بأنه كان رجال إنما حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا ذلك مخبرين عن

(15/94)


أنفسهم لأصحابهم وأجيب عن الذاهبين إليه بأن الإيمان والتصديق يحسن في بعض تلك المعطوفات بلا شبهة فيمضي في البواقي ويحمل على المعنى على حد قوله:
وزججن الحواجب والعيونا فيخرج على ما خرج عليه أمثاله فيؤول صدقنا بما يشمل الجميع أو يقدر مع كل ما يناسبه وقال أبو حاتم هو العطف على نائب فاعل أوحى أعني أنه استمع كما في أن المساجد على أن الموحى عين عبارة الجن بطريق الحكاية كأنه قيل قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ كيت وكيت وهذه العبارات وتعقب بأن حكاية عباراتهم تقتضي أن تكون أن في كلامهم مفتوحة الهمزة ولا يظهر ذلك إلا أن يكون في كلامهم ما يقتضي الفتح كاسمعوا أو اعلموا أو نخبركم لكنه أسقط وقت الحكاية ولا يظهر لإسقاطه وجه وعلى تقدير الظهور فالفتح ليس لأجل العطف فإن النائب عن الفاعل عليه مجموع كل جملة على إرادة اللفظ دون المنسبك من أن وما بعدها وإلّا لما صح أن يقال الموحى كيت وكيت وهذه العبارات فإن كانت أن في كلامهم مكسورة الهمزة وصحت دعوى أن الحكاية اقتضت فتحها مع صحة إرادة هذه العبارات معه فذاك وإلّا فالأمر كما ترى فافهم وتأمل والجد العظمة والجلال يقال جد في عيني أي عظم وجل أي وصدقنا أن الشأن ارتفع عظمة وجلال ربنا أي عظمت عظمته عز وجل وفيه من المبالغة ما لا يخفى وقال أبو عبيدة والأخفش الملك والسلطان وقيل الغني وهو مروي عن أنس والحسن في الآية والأول مروي عن الجمهور والجد على جميع هذه الأوجه مستعار من الجد الذي هو البخت وقوله عز وجل مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً عليها تفسير للجملة وبيان لحكمها ولذا لم يعطف عليها فالمراد وصفه عز وجل بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته أو لسلطانه أو لغناه سبحانه وتعالى وكأنهم سمعوا من القرآن ما نبههم على خطأ ما اعتقده كفرة الجن من تشبيهه سبحانه بخلقه في اتخاذ الصاحبة والولد فاستعظموه ونزّهوه تعالى عنه. وقرأ حميد بن قيس «جد» بضم الجيم قال في البحر ومعناه العظيم حكاه سيبويه وإضافته إلى رَبِّنا من إضافة الصفة إلى الموصوف والمعنى تعالى ربنا العظيم وقرأ عكرمة «جد» منونا مرفوعا «ربّنا» بالرفع وخرج على أن الجد بمعنى العظيم أيضا و «ربنا» خبر مبتدأ محذوف أي هو ربنا أو بدل من «جد» وقرأ أيضا «جدا» منونا منصوبا على أنه تميز محول عن الفاعل وقرأ هو أيضا وقتادة «جدا» بكسر الجيم والتنوين والنصب «ربّنا» بالرفع قال ابن عطية نصب «جدا» على الحال والمعنى تعالى ربنا حقيقة ومتمكنا وقال غيره هو صفة لمصدر محذوف أي تعاليا جدا وقرأ ابن السميفع «جدا ربنا» أي جدواه ونفعه سبحانه وكان المراد بذلك الغنى فلا تغفل وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا هو إبليس عند الجمهور وقيل مردة الجن والإضافة للجنس والمراد سفهاؤنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً أي قولا ذا شطط أي بعد عن القصد ومجاوزة الحد أو هو في نفسه شطط لفرط بعده عن الحق وهو نسبة الصاحبة والولد إليه عز وجل وتعلق الإيمان والتصديق بهذا القول بناء على ما يقتضيه العطف على ما في حيز فَآمَنَّا ليس باعتبار نفسه فإنهم كانوا عالمين بقول سفيههم من قبل بل باعتبار كونه شططا كأنه قيل وصدقنا أن ما كان يقول سفيهنا في حقه سبحانه كان شططا وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً اعتذار منهم عن تقليدهم لسفيههم أي كنا نظن أن لن يكذب على الله تعالى أحد فينسب إليه سبحانه الصاحبة والولد ولذلك اعتقدنا صحة قول السفيه ولعل الإيمان متعلق بما يشعر به كلامهم هذا وينساق إليه من خطئهم في ظنهم كأنه قيل وصدقنا بخطئنا في ظننا الذي لأجله اعتقدنا ما اعتقدنا وكَذِباً مصدر مؤكد لتقول لأنه نوع من القول كما

(15/95)


في قعدت القرفصاء أو وصف لمصدر محذوف أي قولا كذبا أي مكذوبا فيه لأنه لا يتصور صدور الكذب منه وإن اشتهر توصيفه به كالقائل وجوز أن يكون من الوصف بالمصدر مبالغة وهي راجعة للنفي دون المنفي.
وقرأ الحسن والجحدري وعبد الرحمن بن أبي بكرة ويعقوب وابن مقسم «تقول» مضارع تقول وأصله تتقول بتاءين فحذفت إحداهما فكذبا مصدر مؤكد لأن الكذب هو التقول وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ كان الرجل من العرب إذا أمسى في واد قفر وخاف على نفسه نادى بأعلى صوته يا عزيز هذا الوادي أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك يريد الجن وكبيرهم فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا سدنا الجن والإنس وذلك قوله تعالى فَزادُوهُمْ أي زاد الرجال العائذون الجن رَهَقاً أي تكبرا وعتوا فالضمير المرفوع لرجال الإنس إذ هم المحدث عنهم والمنصوب لرجال الجن وهو قول مجاهد والنخعي وعبيد بن عمير وجماعة إلّا أن منهم من فسر الرهق بالإثم وأنشد الطبري لذلك قول الأعشى:
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها ... لا يشتكي وامق ما لم يصب رهقا
فإنه أراد ما لم يغش محرما فالمعنى هنا فزادت الإنس والجن مأثما لأنهم عظموهم فزادوهم استحلالا لمحارم الله تعالى أو فزاد الجن العائذين غيّا بأن أضلوهم حتى استعاذوا بهم فالضميران على عكس ما تقدم وهو قول قتادة وأبي العالية والربيع وابن زيد والفاء على الأول للتعقيب وعلى هذا قيل للترتيب الإخباري.
وذهب الفراء إلى أن ما بعد الفاء قد يتقدم إذا دل عليه الدليل كقوله تعالى وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا [الأعراف: 4] وجمهور النحاة على خلافه وقيل في الكلام حذف أي فاتبعوهم فزادوهم. والآية ظاهرة في أن لفظ الرجال يطلق على ذكور الجن كما يطلق على ذكور الإنس. وقيل لا يطلق على ذكور الجن ومِنَ الْجِنِّ في الآية متعلق ب يَعُوذُونَ ومعناها أنه كان رجال من الإنس يعوذون من شر الجن برجال من الإنس وكان الرجل يقول مثلا أعوذ بحذيفة بن بدر من جن هذا الوادي وهو قول غريب مخالف لما عليه الجمهور المؤيد بالآثار، ولعل تعلق الإيمان بهذا باعتبار ما يشعر به من كون ذلك ضلالا موجبا لزيادة الرهق.
وقد جاء في بعض الأخبار ما يقال بدل هذه الاستعاذة
ففي حديث طويل أخرجه أبو نصر السجزي في الإبانة من طريق مجاهد عن ابن عباس وقال غريب جدا أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا أصاب أحدا منكم وحشة أو نزل بأرض مجنة فليقل أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر من شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل السماء وما يعرج فيها ومن فتن النهار ومن طوارق الليل إلّا طارقا يطرق بخير»
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا أي الإنس كَما ظَنَنْتُمْ أيها الجن على أنه كلام بعضهم لبعض أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً أي من الرسل أحد من العباد وقيل إنه لن يبعث سبحانه أحدا بعد الموت وأيّا ما كان فالمراد وقد أخطؤوا وأخطأتم ولعله متعلق الإيمان وقيل المعنى أن الجن ظنوا كما ظننتم أيها الكفرة أن لن إلخ فتكون هذه الآية من جملة الكلام الموحى به معطوفة على قوله تعالى أَنَّهُ اسْتَمَعَ وعلى قراءة الكسر تكون استئنافا من كلامه تعالى وكذا ما قبلها على ما قيل وفي الكشاف قيل الآيتان يعني هذه وقوله تعالى وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ إلخ من جملة الموحى وتعقب ذلك في الكشف بأن فيه ضعفا لأن قوله سبحانه وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ إلخ من كلام الجن أو مما صدقوه على القراءتين لأن من الموحى إليه فتخلل ما تخلل ما تخلل وليس اعتراضا غير جائز إلّا أن يؤول بأنه يجري مجراه لكونه يؤكد ما حدث عنهم في تماديهم في الكفر أولا ولا يخفى ما فيه من التكلف انتهى. وأبو السعود اختار في جميع الجمل المصدرة بأنا العطف على أَنَّهُ اسْتَمَعَ على نحو ما سمعت عن أبي حاتم وقد سمعت ما فيه آنفا وأن مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشأن والجملة بعدها خبر وجملة أن لن يبعث إلخ

(15/96)


قيل سادة مسد مفعولي ظنوا وجوز أن تكون سادة مسد مفعولي ظننتم ويكون الساد مسد مفعولي الأول محذوفا كما هو المختار في أمثال ذلك ورجح الأول في الآية بأن ظَنُّوا هو المقصود فيها فجعل المعمول المذكور له أحسن وأما كَما ظَنَنْتُمْ فمذكور بالتبع ومنه يعلم أن كون المختار أعمال الثاني في باب التنازع ليس على إطلاقه وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ أي طلبنا بلوغها لاستماع كلام أهلها أو طلبنا خبرها. واللمس قيل مستعار من المس للطلب كالجس يقول لمسه والتمسه وتلمسه كطلبه وأطلبه وتطلبه. والظاهر أن الاستعارة هنا لغوية لأنه مجاز مرسل لاستعماله في لازم معناه والسماع على ظاهرها فَوَجَدْناها أي صادفناها وأصبناها فوجد متعد لواحد وقوله تعالى مُلِئَتْ في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه وإن كانت وجد من أفعال القلوب فهذه الجملة في موضع المفعول الثاني وقرأ الأعرج «مليت» بالياء دون همز حَرَساً أي حرسا اسم جمع كخدم كما ذهب إليه جمع لأنه على وزن يغلب في المفردات كبصر وقمر ولذا نسب إليه فقيل حرسي وذهب بعض إلى أنه جمع والصحيح الأول ولذا وصف بالمفرد فقيل شَدِيداً أي قويا ونحوه قوله:
ننيته بعصبة من ماليا ... أخشى رجيلا وركيبا عاديا
ولو روعي معناه جمع بأن يقال شدادا إلّا أن ينظر لظاهر وزن فعيل فإنه يستوي فيه الواحد والجمع والمراد بالحرس الملائكة عليهم السلام الذين يمنعونهم عن قرب السماء وَشُهُباً جمع شهاب وقد مر الكلام فيه وجوز بعضهم أن يكون المراد بالحرس الشهب والعطف مثله في قوله:
وهند أتى من دونها النأي والبعد وهو خلاف الظاهر ودخول أَنَّا لَمَسْنَا إلخ في حيز الإيمان وكذا أكثر الجمل الآتية في غاية الخفاء والظاهر تقدير نحو نخبركم فيما لا يظهر دخوله في ذلك أو تأويل (آمنا) من أول الأمر بما ينسحب على الجميع وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ قبل هذا مِنْها أي من السماء مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ أي مقاعد كائنة للسمع خالية عن الحرس والشهب أو صالحة للترصد والاستماع ولِلسَّمْعِ متعلق بنقعد أي لأجل السمع أو بمضمر هو صفة لمقاعد وكيفية قعودهم على ما قيل ركوب بعضهم فوق بعض وروي في ذلك خبر مرفوع وقيل لا مانع من أن يكون بعروج من شاء منهم بنفسه إلى حيث يسمع منه الكلام فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ قال في شرح التسهيل الْآنَ معناه هنا القرب مجازا فيصح مع الماضي والمستقبل وفي البحر أنه ظرف زمان للحال ويَسْتَمِعِ مستقبل فاتسع في الظرف واستعمل للاستقبال كما قال:
سأسعى الآن إذ بلغت أناها فالمعنى فمن يقع منه استماع في الزمان الآتي يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً أي يجد شهابا راصدا له ولأجله يصده عن الاستماع بالرجم فرصد صفة شِهاباً فإن كان مفردا فالأمر ظاهر وإن كان اسم جمع للراصد كحرس فوصف المفرد به لأن الشهاب لشدة منعه وإحراقه جعل كأنه شهب ونظير ذلك وصف المعا وهو واحد الأمعاء بجياع في قول القتامي:
كأن قيود رجلي حين ضمت ... حوالب غرزاو معا جياعا
وجوز كونه مفعولا له أي لأجل الرصد وقيل يجوز أن يكون اسم جمع صفة لما قبله بتقدير ذوي شهاب فكأنه قيل يجد له ذوي شهاب راصدين بالرجم وهم الملائكة عليهم السلام الذي يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع وفيه بعد. وفي الآية رد على من زعم أن الرجم حدث بعد مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو

(15/97)


إحدى آياته عليه الصلاة والسلام حيث قيل فيها ملئت وهو كما قال الجاحظ ظاهر في أن الحادث هو الملء والكثرة وكذا قوله سبحانه نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ على ما في الكشاف فكأنه قيل كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب والآن ملئت المقاعد كلها فَمَنْ يَسْتَمِعِ إلخ ويدل على وجود الشهب قبل ذكرها في شعر الجاهلية قال بشر بن أبي خازم:
والعير يرهقها الغبار وجحشها ... ينقض خلفهما انقضاض الكوكب
وقال أوس بن حجر:
وانقض كالدري يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا
وقال عوف بن الخرع يصف فرسا:
يرد علينا العير من دون إلفه ... أو الثور كالدري يتبعه الدم
فإن هؤلاء الشعراء كلهم كما قال التبريزي جاهلون ليس فيهم مخضرم. وما
رواه الزهري عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما عن ابن عباس بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمى بنجم فاستنار فقال: «ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية» ؟ قالوا: كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم
. وروي عن معمر قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم، قلت: أرأيت قوله تعالى وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ فقال غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلّى الله عليه وسلم وكأنه أخذ ذلك من الآية أيضا. وقال بعضهم: إن الرمي لم يكن أولا ثم حدث للمنع عن بعض السماوات ثم كثير ومنع به الشياطين عن جميعها يوم تنبأ النبي عليه الصلاة والسلام وجوز أن تكون الشهب من قبل لحوادث كونية لا لمنع الشياطين أصلا والحادث بعد البعثة رمي الشياطين بها على معنى أنهم إذا عرجوا للاستماع رموا بها فلا يلزم أيضا أن يكون كل ما يحدث من الشهب اليوم للرمي بل يجوز أن يكون لأمور أخر بأسباب يعلمها الله تعالى ويجاب بهذا عن حدوث الشهب في شهر رمضان مع ما جاء من أنه تصفد مردة الشياطين فيه ولمن يقول إن الشهب لا تكون إلّا للرمي جواب آخر مذكور في موضعه وذكروا وجدانهم المقاعد مملوءة من الحراس ومنع الاستراق بالكلية قيل بيان لما حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم واستمعوا قراءته عليه الصلاة والسلام وقولهم وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ بحراسة السماء أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً أي خيرا كالتتمة لذلك فالحامل في الحقيقة تغير الحال عما كانوا ألفوه والاستشعار أنه لأمر خطير والتشوق إلى الإحاطة به خبرا ولا يخفى ما في قولهم أَشَرٌّ أُرِيدَ إلخ من الأدب حيث لم يصرحوا بنسبة الشر إلى الله عز وجل كما صرحوا به في الخير وإن كان فاعل الكل هو الله تعالى ولقد جمعوا بين الأدب وحسن الاعتقاد وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ أي الموصوفون بصلاح الحال في شأن أنفسهم وفي معاملتهم مع غيرهم المائلون إلى الخير والصلاح حسبما تقتضيه الفطرة السليمة لا إلى الشر والفساد كما هو مقتضى النفوس الشريرة وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أي قوم دون ذلك المذكور ويطرد حذف الموصوف إذا كان بعض اسم مجرور بمن مقدم عليه والصفة ظرف كما هنا أو جملة كما في قوله منا أقام ومنا ظعن وأرادوا بهؤلاء القوم المقتصدين في صلاح الحال على الوجه السابق لا في الإيمان والتقوى كما قيل فإن هذا بيان لحالهم قبل استماع القرآن كما يعرب عنه قوله تعالى كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً وأما حالهم بعد استماعه فستحكى بقوله تعالى وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى إلى قوله تعالى وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ إلخ وجوز بعضهم كون دُونَ بمعنى غير فيكون دون ذلك شاملا للشرير المحض وأيّا ما

(15/98)


كان فجملة كنا إلخ تفسير للقسمة المتقدمة لكن قيل الأنسب عليه كون دون بمعنى غير والكلام على حذف مضاف أي كنا ذوي طرائق أي مذاهب أو مثل طرائق في اختلاف الأحوال أو كانت بطرائقنا طرائق قددا وكون هذا من تلقي الركبان لا يلتفت إليه وعدم اعتبار التشبيه البليغ ليستغني عن تقدير مثل قيل لأن المحل ليس محل المبالغة وجوز الزمخشري كون طَرائِقَ منصوبا على الظرفية بتقدير في أي كنا في طَرائِقَ وتعقب بأن الطريق اسم خاص لموضع يستطرق فيه فلا يقال للبيت أو المسجد طريق على الإطلاق وإنما يقال جعلت المسجد طريقا فلا ينتصب مثله على الظرفية إلا في الضرورة وقد نص سيبويه على أن قوله:
كما عسل الطريق الثعلب شاذ فلا يخرج القرآن الكريم على ذلك. وقال بعض النحاة: هو ظرف عام لأن كل موضع يستطرق طريق والقدد المتفرقة المختلفة قال الشاعر:
القابض الباسط الهادي بطاعته ... في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد
جمع قدة من قد إذا قطع كأن كل طريق لامتيازها مقطوعة من غيرها وَأَنَّا ظَنَنَّا أي علمنا الآن أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ أي إن الشأن لن نعجز الله تعالى كائنين فِي الْأَرْضِ أي أينما كنا من أقطارها وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً أي هاربين منها إلى السماء فالأرض محمولة على الجملة ولما كان وَلَنْ إلخ في مقابلة ما قبل لزم أن يكون الهرب إلى السماء وفيه ترقّ ومبالغة كأنه قيل لن نعجزه سبحانه في الأرض ولا في السماء. وجوز أن لا ينظر إلى عموم ولا خصوص كما في أرسلها العراك ويجعل الفوت على قسمين أخذا من لفظ الهرب والمعنى لن نعجزه سبحانه في الأرض إن أراد بنا أمرا، ولن نعجزه عز وجل هربا إن طلبنا وحاصله إن طلبنا لم نفته وإن هربنا لم نخلص منه سبحانه وفائدة ذكر الأرض تصوير أنها مع هذه البسطة والعراضة ليس فيها منجا منه تعالى ولا مهرب لشدة قدرته سبحانه وزيادة تمكنه جل وعلا ونحوه قول القائل:
وإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقيل فائدة ذكر الْأَرْضِ تصوير تمكنهم عليها وغاية بعدها عن محل استوائه سبحانه وتعالى وليس بذاك وكون فِي الْأَرْضِ وهَرَباً حالين كما أشرنا إليه هو الذي عليه الجمهور وجوز في هَرَباً كونه تمييزا محولا عن الفاعل أي لن يعجزه سبحانه هربنا وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى أي القرآن الذي هو الهدى بعينه آمَنَّا بِهِ من غير تلعثم وتردد فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ وبما أنزله عز وجل فَلا يَخافُ جواب الشرط ومثله من المنفي بلا يصح فيه دخول الفاء وتركها كما صرح به في شرح التسهيل إلّا أن الأحسن تركها ولذا قدر هاهنا مبتدأ لتكون الجملة اسمية ولزم اقترانها بالفاء إذا وقعت جوابا إلا فيما شذ من نحو:
من يفعل الحسنات الله يشكرها معلوم وبعضهم أوجب التقدير لزعمه عدم صحة دخول الفاء في ذلك أي فهو لا يخاف بَخْساً أي نقصا في الجزاء. وقال الراغب: البخس نقص الشيء على سبيل الظلم وَلا رَهَقاً أي غشيان ذلة من قوله تعالى وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [يونس: 27] وأصله مطلق الغشيان وقال الراغب: رهقه الأمر أي غشيه بقهر وفي الأساس رهقه دنا منه وصبي مراهق مدان للحلم وفي النهاية يقال رجل فيه رهق إذا كان يخف إلى الشر ويغشاه. وحاصل المعنى فلا يخاف أن يبخس حقه ولا أن ترهقه ذلة فالمصدر أعني بَخْساً مقدر باعتبار المفعول وليس المعنى على أن غير المؤمن يبخس حقه بل النظر إلى تأكيد ما ثبت له من الجزاء وتوفيره كملا

(15/99)


وأما غيره فلا نصيب له فضلا عن الكمال وفيه أن ما يجزي به غير المؤمن مبخوس في نفسه وبالنسبة إلى هذا الحق فيه كل البخس وإن لم يكن هناك بخس حق كذا في الكشف أو فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً لأنه لم يبخس أحدا حقا ولا رهقه ظلما فلا يخاف جزاءهما وليس من إضمار مضاف، أعني الجزاء بل ذلك بيان لحاصل المعنى وأن ما ذكر في نفسه مخوف فإنه يصح أن يقال خفت الذنب وخفت جزاءه لأن ما يتولد منه المحذور محذور. وفيه دلالة على أن المؤمن لاجتنابه البخس والرهق لا يخافهما فإن عدم الخوف من المحذور إنما يكون لانتفاء المحذور وجاز أن يحمل على الإضمار وأصل الكلام فمن لا يبخس أحدا ولا يرهق ظلمه فلا يخاف جزاءهما فوضع ما في النظم الجليل موضعه تنبيها بالسبب على المسبب والأول كما قيل أظهر وأقرب مأخذا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: لا يخاف نقصا من حسناته ولا زيادة في سيئاته. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال: فلا يخاف بخسا ظلما بأن يظلم من حسناته فينتقص منها شيء ولا رهقا ولا أن يحمل عليه ذنب غيره وأخرج نحوه عن الحسن ولعل المعنى الأول أنسب بالترغيب بالإيمان وبلفظ الرهق أيضا نظرا إلى ما سمعت من قوله تعالى وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وقرأ ابن وثاب والأعمش «فلا يخف» بالجزم على أن لا ناهية لا نافية لأن الجواب المقترن بالفاء لا يصح جزمه وقيل الفاء زائدة ولا للنفي وليس بشيء وأيا ما كان فالقراءة الأولى أدل على تحقق أن المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص بذلك دون غيره وذلك لتقدير هو عليها وبناء الفعل عليه نحو هو عرف ويجتمع فيه التقوى والاختصاص إذا اقتضاهما المقام. وقرأ ابن وثاب «بخسا» بفتح الخاء المعجمة وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ الجائرون على طريق الحق الذي هو الإيمان والطاعة يقال: قسط الرجل إذا جار وأنشدوا:
قوم هم قتلوا ابن هند عنوة ... عمرا وهم قسطوا على النعمان
فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ الإشارة إلى من أسلم والجمع باعتبار المعنى تَحَرَّوْا توخوا وقصدوا رَشَداً عظيما بلغهم إلى الدار للثواب وقرأ الأعرج «رشدا» بضم الراء وسكون الشين أَمَّا الْقاسِطُونَ
الجائرون عن سنن الإسلام كانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
توقد بهم كما توقد بكفرة الإنس واستظهر أن فَمَنْ أَسْلَمَ إلخ من كلام الجن وقال ابن عطية الوجه أن يكون مخاطبة من الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم ويؤيده ما بعد الآيات وفي الكشاف زعم من لا يرى للجن ثوابا أن الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم وكفى به وعدا أن قال سبحانه فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً فذكر سبب الثواب والله عزّ وجلّ أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد وهو ظاهر في أنه من كلامه عزّ وجلّ وقوله تعالى وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا إلخ معطوف قطعا على قوله سبحانه أَنَّهُ اسْتَمَعَ ولا يضر تقدم المعطوف على غيره على القول به لظهور الحال وعدم الالتباس وأَنْ مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن. وقرأ الأعمش وابن وثاب بضم واو لَوِ والمعنى وأوحى إلى أن الشأن لو استقام الإنس والجن أو كلاهما عَلَى الطَّرِيقَةِ التي هي ملة الإسلام لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً أي كثيرا وقرأ عاصم في رواية الأعمش بكسر الدال والمراد لوسعنا عليهم الرزق وتخصيص الماء الغدق بالذكر لأنه أصل المعاش وكثرته أصل السعة فقد قيل المال حيث الماء ولعزة وجوده بين العرب لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي لنختبرهم كيف يشكرونه أي لنعاملهم معاملة المختبر وقيل لو استقام الجن على الطريقة المثلى أي لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله تعالى وطاعته سبحانه ولم يتكبر عن السجود لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم ووسعنا رزقهم لنختبرهم ويجوز على هذا رجوع الضمير

(15/100)


وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)

إلى (القاسطين) وهو المروي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وابن جبير واعتبار المثلى قيل لأن التعريف للعهد والمعهود طريقة الجن المفضلة على غيرها وقيل لأن جعلها طريقة وما عداها ليس بطريقة يفهم منه كونه مفضلة. وقيل المعنى أنه لو استقام الجن على طريقتهم وهي الكفر ولم يسلموا باستماع القرآن لوسعنا عليهم الرزق استدراجا لنوقعهم في الفتنة ونعذبهم في كفران النعمة وروي نحو هذا عن الضحاك والربيع بن أنس وزيد بن أسلم وأبي مجلز بيد أنهم أعادوا الضمير على من أسلم وقالوا أي لو كفر من أسلم من الناس لَأَسْقَيْناهُمْ إلخ وهو مخالف للظاهر لاستعمال الاستقامة على الطريقة في الاستقامة على الكفر وكون النعمة المذكورة استدراجا من غير قرينة عليه مع أن قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا [الأعراف: 96] إلخ يؤيد الأول وزعم الطيبي أن التذييل بقوله عزّ وجلّ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ إلخ ينصر ما قيل قال لأنه توكيد لمضمون السابق من الوعيد أي لنستدرجهم فيتبعوا الشهوات التي هي موجبة للبطر والإعراض عن ذكر الله تعالى وفيه نظر والذكر مصدر مضاف لمفعوله تجوز به عن العبادة أو هو بمعنى التذكير مضاف لفاعله ويفسر بالموعظة وقال بعضهم المراد بالذكر الوحي أن وَمَنْ يُعْرِضْ عن عبادة ربه تعالى أو عن موعظته سبحانه أو عن وحيه عزّ وجلّ يَسْلُكْهُ مضمن معنى ندخله ولذا تعدى إلى المفعول الثاني أعني قوله تعالى عَذاباً صَعَداً بنفسه دون فى أو هو من باب الحذف والإيصال والصعد مصدر وصف به مبالغة أو تأويلا أي ندخله عذابا يعلو المعذب ويغلبه وفسر بشاق يقال فلان في صعد من أمره أي في مشقة ومنه قول عمر رضي الله تعالى عنه ما تصعدني شيء كما تصعدني خطبة النكاح أي ما شق عليّ وكأنه أخذ إنما قال ذلك لأنه كان من عادتهم أن يذكروا جميع ما كان في الخاطب من الأوصاف الموروثة والمكتسبة فكان يشق عليه ارتجالا، أو كان يشق أن يقول الصدق في وجه الخاطب وعشيرته وقيل إنما شق من الوجوه ونظر بعضهم إلى بعض وقال أبو سعيد الخدري وابن عباس: صعد جبل في النار قال الخدري كلما وضعوا أيديهم عليه ذابت وقال عكرمة هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها فإذا انتهى إلى أعلاها جدر إلى جهنم فعلى هذا قال أبو حيان: يجوز
أن يكون بدلا من عذاب على حذف مضاف أي عذاب صعد ويجوز أن يكون مفعول نَسْلُكُهُ وعَذاباً مفعول من أجله وقرأ الكوفيون يَسْلُكْهُ بالياء وباقي السبعة بالنون وابن جندب بالنون من أسلك وبعض التابعين بالياء كذلك وهما لغتان سلك وأسلك قال الشاعر يصف جيشا مهزومين:
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة (1) ... شلا كما تطرد الجمالة الشردا
__________
(1) قتائدة ثنية معروفة اهـ منه. [.....]

(15/101)


وقرأ قوم «صعدا» بضمتين وابن عباس والحسن بضم الصاد وفتح العين قال الحسن معناه لا راحة فيه وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ عطف على أَنَّهُ اسْتَمَعَ فهو من جملة الموحى والظاهر أن المراد بالمساجد المواضع المعدة للصلاة والعبادة أي وأوحي إليّ أن المساجد مختصة بالله تعالى شأنه فَلا تَدْعُوا أي فلا تعبدوا فيها مَعَ اللَّهِ أَحَداً غيره سبحانه. وقال الحسن المراد كل موضع سجد فيه من الأرض سواء أعد لذلك أم لا إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة وكأنه ذلك مما
في الحديث الصحيح: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»
واشتهر أن هذا من خصائص نبينا صلّى الله عليه وسلم أي شريعته فيكون له ولأمته عليه الصلاة والسلام وكان من قبل إنما تباح لهم الصلاة في البيع والكنائس واستشكل بأن عيسى عليه السلام كان يكثر السياحة وغيره من الأنبياء عليهم السلام يسافرون فإذا لم تجز لهم الصلاة في غير ما ذكر لزم ترك الصلاة في كثير من الأوقات وهو بعيد لا سيما في الخضر عليه السلام ولذا قيل المخصوص كونها مسجدا وطهورا أي المجموع ويكفي في اختصاصه اختصاص التيمم وأجيب بأن المراد الاختصاص بالنسبة إلى الأمم السالفة دون أنبيائها عليهم السلام والخضر إن كان حيّا اليوم فهو من هذه الأمة سواء كان نبيا أم لا لخبر لو كان موسى حيا ما وسعه إلّا اتباعي وحكمه قبله نبيا ظاهر والأمر فيه غير نبي سهل وقيل المراد بها المسجد الحرام أي الكعبة نفسها أو الحرم كله على ما قيل والجمع لأن كل ناحية منه مسجد له قبلة مخصوصة أو لأنه لما كان قبلة المساجد فإن كل قبلة متوجهة نحوه جعل كأنه جميع المساجد مجازا وقيل: المراد هو وبيت المقدس فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس لم يكن يوم نزلت وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ إلخ في الأرض مسجدا لا المسجد الحرام ومسجد إيليا بيت المقدس وأمر الجمع عليه أظهر منه على الأول لا أنه كالأول خلاف الظاهر وما ذكر لا يتم دليلا له. وقال ابن عطاء وابن جبير والزجاج والفراء المراد بها الأعضاء السبعة التي يسجد عليها واحدها مسجد بفتح الجيم وهي القدمان والركبتان والكفان والوجه أي الجبهة والأنف. وروي أن المعتصم سأل أبا جعفر محمد بن عليّ بن موسى الكاظم رضي الله تعالى عنهم عن ذلك فأجاب بما ذكر. وقيل السجدات على أن المسجد بفتح الجيم مصدر ميمي ونقل عن الخليل بن أحمد أن قوله تعالى وَأَنَّ الْمَساجِدَ بتقدير لام التعليل وهو متعلق بما بعد والْمَساجِدَ بمعناها المعروف أي لأن الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ولما لم تكن الفاء في جواب شرط محقق كانت في الحقيقة زائدة فلا يمتنع تقديم معمول ما بعدها عليها نعم قال غير واحد جيء بها لتضمن الكلام معنى الشرط، والمعنى أن الله تعالى يحب أن يوحد ولا يشرك به أحد فإن لم يوحدوه في سائر المواضع فلا تدعوا معه أحدا في المساجد لأن المساجد له سبحانه مختصة به عزّ وجلّ فالإشراك فيها أقبح وأقبح ونظير هذا قوله تعالى لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا [قريش: 1- 3] على وجه ولا يعد ذلك من الشرط المحقق ويندفع بما ذكر لزوم جعل الفاء لغوا لأنها للسببية ومعناها مستفاد من اللام المقدرة وقيل في دفعه أيضا أنها تأكيد للام أو زائدة جيء بها للإشعار بمعناها وأنها مقدرة والخطاب في تَدْعُوا قيل للجن وأيد بما
روي عن ابن جبير قال: إن الجن قالوا يا رسول الله كيف نشهد الصلاة معك على نأينا عنك فنزلت الآية
ليخاطبهم على معنى أن عبادتكم حيث كانت مقبولة إذا لم تشركوا فيها. وقيل هو خطاب عام وعن قتادة كان اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله

(15/102)


عزّ وجلّ فأمرنا أن نخلص لله تعالى الدعوة إذا دخلنا المساجد يعني بهذه الآية وعن ابن جريج بدل (فأمرنا) إلخ «فأمرهم أن يوحدوه» وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك أيضا وقرأ كما في البحر ابن هرمز وطلحة «وإن المساجد» بكسر همزة «إن» وحمل ذلك على الاستئناف وَأَنَّهُ بفتح الهمزة عند الجمهور على أنه عطف على أَنَّهُ اسْتَمَعَ كالذي قبله فهو من كلامه تعالى أي وأوحى إليّ أن الشان لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ أي النبي صلّى الله عليه وسلم وقوله تعالى يَدْعُوهُ حال من عَبْدُ أي لما قام عابدا له عزّ وجلّ وذلك قيامه عليه الصلاة والسلام لصلاة الفجر بنخلة كما مر كادُوا أي الجن كما قال ابن عباس والضحاك يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً متراكمين من ازدحامهم عليه تعجبا مما شاهدوا من عبادته وسمعوا من قراءته واقتداء أصحابه به قياما وركوعا وسجودا لأنهم رأوا ما لم يروا مثله وسمعوا ما لم يسمعوا نظيره وهذا كالظاهر في أنهم كانوا كثيرين لا تسعة ونحوها وإيراده عليه الصلاة والسلام بلفظ العبد دون لفظ النبي أو الرسول أو الضمير إما لأنه مقول على لسانه صلّى الله عليه وسلم لأنه أمر أن يقول أوحي كذا فجيء به على ما يقتضيه مقام العبودية والتواضع، أو لأنه تعالى عدل عن ذلك تنبيها على أن العبادة من العبد لا تستبعد، ونقل عليه الصلاة والسلام كلامه سبحانه كما هو رفعا لنفسه عن البين فلا وجود للأثر بعد العين وحيث كان هذا العدول منه جل وعلا إما لكذا أو لكذا لا أنه تصرف من رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يمتنع كما قال بعض الأجلة الجمع بين الحسنيين. وقال الحسن وقتادة ضمير كادُوا لكفار قريش والعرب فيراد بالقيام القيام بالرسالة وبالتلبد التلبد للعداوة والمعنى وأنه لما قام عبد الله بالرسالة يدعو لله تعالى وحده ويذر ما كانوا يدعون من دونه كادوا لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه متراكمين وجوز أن يكون الضمير على هذا للجن والإنس. وعن قتادة أيضا ما يقتضيه قال: تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه فأبى الله تعالى إلا أن ينصره على من ناوأه وفي البحر أبعد من قال عبد الله هنا نوح عليه السلام كاد قومه يقتلونه حتى استنقذه الله تعالى منهم قاله الحسن وأبعد منه قول من قال إنه عبد الله بن سلام اهـ ولعمري إنه لا ينبغي القول بذلك ولا أظن له صحة بوجه من الوجوه. وقرأ نافع وأبو بكر كما قدمنا وابن هرمز وطلحة كما في الحبر «وإنه» بكسر الهمزة وحمل على أن الجملة استئنافية من كلامه عزّ وجلّ وجوز أن تكون من كلام الجن معطوفة على جملة إِنَّا سَمِعْنا حكوا فيها لقومهم لما رجعوا إليهم ما رأوا من صلاته صلّى الله عليه وسلم وازدحام أصحابه عليه في ائتمامهم به وحكي ذلك عن ابن جبير وجوز نحو هذا على قراءة الفتح بناء على ما سمعت عن أبي حاتم أو بتقدير ونخبركم بأنه أو نحوه هذا. وفي الكشف الوجه على تقدير أن يكون وَأَنَّ الْمَساجِدَ من جملة الموحي أن يكون فَلا تَدْعُوا خطابا للجن محكيا إن جعل قوله تعالى «وإنه لما قام» على قراءة الكسر من مقول الجن لئلا ينفك النظم لو جعل ابتداء قصة ووحيا آخر منقطعا عن حكاية الجن وكذلك لو جعل ضمير كادُوا للجن على قراءة الفتح أيضا والأصل أن المساجد لله فلا تدعوا أيها الجن مع الله أحدا فقيل قل يا محمد لمشركي مكة أُوحِيَ إِلَيَّ كذا وإذا كان كذلك فيجيء في ضمن الحكاية إثبات هذا الحكم بالنسبة إلى المخاطبين أيضا لاتحاد العلة، وأما لو جعل خطابا عاما فالوجه أن يكون ضمير كادُوا راجعا إلى المشركين أو إلى الجن والإنس وأن يكون على قراءة الكسر جملة استئنافية ابتداء قصة منه جل شأنه في الإخبار عن حال رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو تمهيد لما يأتي من بعد وتوكيد لما ذكر من قبل فكأنه قيل: قل لمشركي مكة ما كان من حديث
الجن وإيمان بعضهم وكفر آخرين منهم ليكون حكاية ذلك لطفا لهم في الانتهاء عما كانوا فيه وحثا على الإيمان ثم قيل وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ويوحده كاد الفريقان من كفرة الجن والإنس يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً دلالة على عدم ارتداعهم مع هذه الدلائل الباهرة والآيات النيرة،

(15/103)


وما أحسن التقابل بين قوله تعالى وَأَنَّ الْمَساجِدَ وبين هذا القول كأنهم نهوا كلهم عن الإشراك ودعوا إلى التوحيد فقابلوا ذلك بعداوة من يوحد الله سبحانه ويدعوه ولم يرضوا بالاباء وحده وهذا من خواص الكتاب الكريم وبديع أسلوبه إذا أخذ في قصة غب قصه جعلهما متناصفتين فيما سيق له الكلام وزاد عليه التآخي بينهما. في تناسب خاتمة الأولى وفاتحة الثانية، ولعل هذا الوجه من الوجاهة بمكان وأما لو فسر بما حكي عن الخليل ولأن المساجد لله فلا تدعوا إلخ فالوجه أن يكون استطرادا ذكر عقيب وعيد المعرض والحمل على هذا على الأعضاء السبعة أظهر لأن فيه تذكيرا لكونه تعالى المنع بها عليهم وتنبها على أن الحكمة في خلقها خدمة المعبود من حيث العدول عن لفظ الأعضاء وأسمائها الخاصة إلى المساجد ودلالة على أن ذلك ينافي الإشراك وحينئذ لا يبقى إشكال في ارتباط ما بعده بما قبله على القراءتين والأوجه والله تعالى أعلم اهـ فتأمل. واللبد بكسر اللام وفتح الباء كما قرأ الجمهور جمع لبدة بالكسر نحو كسرة وكسر وهي الجماعات شبهت بالشيء المتلبد بعضه فوق بعض ويقال للجراد ومنه كما قال الجبائي قول عبد مناف بن ربع الهذلي:
صافوا بستة أبيات وأربعة ... حتى كأن عليهم جابيا لبدا
وقرأ مجاهد وابن محيصن وابن عامر بخلاف عنه «لبدا» بضم اللام جمع لبدة كزبرة وزبر وعن ابن محيصن أيضا تسكين الباء وضم اللام وقرأ الحسن والجحدري وأبو حيوة وجماعة عن أبي عمرو بضمتين جمع لبد كرهن ورهن أو جمع لبود كصبور وصبر وقرأ الحسن والجحدري أيضا بخلاف عنهما «لبّدا» بضم اللام وتشديد الباء جمع لا بد وأبو رجاء بكسرها وشد الباء المفتوحة قُلْ إِنَّما أَدْعُوا أعبد رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ في العبادة أَحَداً فليس ذلك ببدع ولا مستنكر يوجب التعجب أو الاطباق على عداوتي وقرأ الأكثرون «قال» على أنه حكاية منه تعالى لقوله صلّى الله عليه وسلم للمتراكمين عليه أو حكاية من الجن له عند رجوعهم إلى قومهم فلا تغفل وقراءة الأمر وهي قراءة عاصم وحمزة وأبي عمرو بخلاف عنه أظهر وأوقف لقوله سبحانه قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً أي ولا نفعا تعبيرا باسم السبب عن المسبب، والمعنى لا أستطيع أن أضركم ولا أنفعكم إنما الضار والنافع هو الله عزّ وجلّ أو لا أملك لكم غيّا ولا رشدا على أن الضر مراد به الغي تعبير باسم السبب عن السبب ويدل عليه قراءة أبي «غيّا» بدل ضَرًّا والمعنى لا أستطيع أن أقسركم على الغي والرشد إنما القادر على ذلك هو الله سبحانه وتعالى وجوز أن يكون في الآية الاحتباك والأصل لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ولا غيا ولا رشدا فترك من كلا المتقابلين ما ذكر في الآخر. وقرأ الأعرج «رشدا» بضمتين قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ إن أرادني سبحانه بسوء وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي معدلا ومنحرفا وقال الكلبي مدخلا في الأرض وقال السدي حرزا وأصله المدخل من اللحد والمراد ملجأ يركن إليه وأنشدوا:
يا لهف نفسي ونفسي غير مجدية ... عني وما من قضاء الله ملتحد
وجوز فيه الراغب كونه اسم مكان وكونه مصدرا وهذا على ما قيل بيان لعجزه عليه الصلاة والسلام عن شؤون نفسه بعد بيان عجزه صلّى الله عليه وسلم عن شؤون غيره وقيل في الكلام حذف وهو قالوا اترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك فقيل له قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي إلخ وقيل هو جواب لقول ورد أن سيد الجن وقد ازدحموا عليه أنا أرحلهم عنك فقال إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي إلخ ذكره الماوردي والقولان ليسا بشيء وقوله تعالى إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ استثناء من مفعول لا أَمْلِكُ كما يشير إليه كلام قتادة وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة فلا اعتراض بكثرة الفصل المبعدة لذلك فإن كان المعنى لا أملك أن أضركم ولا أنفعكم كان استثناء متصلا كأنه

(15/104)


قيل لا أملك شيئا إلّا بلاغا وإن كان المعنى لا أملك أن أقسركم على الغي والرشد كان منقطعا أو من باب:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم كما في الكشف وظاهر كلام بعض الأجلة أنه إما استثناء متصل من رَشَداً فإن الإبلاغ إرشاد ونفع والاستثناء من المعطوف دون المعطوف عليه جائز، وأما استثناء منقطع من مُلْتَحَداً قال الرازي لأن البلاغ من الله تعالى لا يكون داخلا تحت قوله سبحانه مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً لأنه لا يكون من دون الله سبحانه بل منه جل وعلا وبإعانته وتوفيقه. وفي البحر قال الحسن هو استثناء منقطع أي لَنْ يُجِيرَنِي أحد لكن إن بلغت رحمتي بذلك والإجارة مستعارة للبلاغ إذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته سبحانه وقيل هو على هذا المعنى استثناء متصل.
والمعنى لن أجد شيئا أميل إليه وأعتصم به إلّا أن أبلغ وأطيع فيجيرني فيجوز نصبه على الاستثناء من مُلْتَحَداً أو على البدل وهو الوجه لأن قبله نفيا وعلى البدل خرجه الزجاج انتهى. والأظهر ما تقدم وقيل إن إلّا مركبة من أن الشرطية ولا النافية والمعنى أن لا أبلغ بلاغا وما قبله دليل الجواب فهو كقولك إلّا قياما فقعودا وظاهره أن المصدر سد مسد الشرط كمعمول كان ولهم في حذف جملة الشرط مع بقاء الأداة كلام والظاهر إن إطراد حذفه مشروط ببقاء لا كما في قوله:
فطلقها فلست لها بكفء ... وإلّا يعل مفرقك الحسام
ما لم يسد مسده شيء من معمول أو مفسر ك إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ [التوبة: 6] والناس مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخير وهذا الوجه خلاف المتبادر كما لا يخفى وقوله تعالى وَرِسالاتِهِ عطف على بَلاغاً ومِنَ اللَّهِ متعلق بمحذوف وقع صفة له أي بلاغا كائنا من الله وليس بصلة له لأنه يستعمل بعن كما في
قوله صلّى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية»
والمعنى على ما علمت أولا في الاستثناء لا أملك لكم إلّا تبليغا كائنا منه تعالى ورسالاته التي أرسلني عز وجل بها. وفي الكشف في الكلام إضمار أي بلاغ رسالته وأصل الكلام إلّا بلاغ رسالات الله فعدل إلى المنزل ليدل على التبليغين مبالغة وإن كلا من المعنيين أعني كونه من الله تعالى وكونه بلاغ رسالاته يقتضي التشمر لذلك انتهى. وفي عبارة الكشاف رمز ما إليه لكن قيل عليه لا ينبغي تقدير المضاف فيه أعني بلاغ فإنه يكون العطف حينئذ من عطف الشيء على نفسه إلّا أن يوجه بأن البلاغ من الله تعالى فيما أخذه عنه سبحانه بغير واسطة والبلاغ للرسالات فيما هو بها وهو بعيد غاية البعد فافهم. واستظهر أبو حيان عطفه على الاسم الجليل فقال الظاهر عطف رِسالاتِهِ على اللَّهِ أي إلّا أن أبلغ عن الله وعن رسالاته وظاهره جعل مِنَ بمعنى عن وقد تقدم منه أنها لابتداء الغاية. وقرىء «قال لا أملك» أي قال عبد الله للمشركين أو للجن وجوز أن يكون من حكاية الجن لقومهم. هذا ووجه ارتباط الآية بما قبلها قيل بناء على أن التلبد للعداوة أنهم لما تلبدوا عليه صلّى الله عليه وسلم متظاهرين للعداوة قيل له عليه الصلاة والسلام قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً أي ما أردت إلّا نفعكم وقابلتموني بالإساءة وليس في استطاعتي النفع الذي أردت ولا الضر الذي أكافئكم به إنما ذان إلى الله تعالى وفيه تهديد عظيم وتوكيل إلى الله جل وعلا وأنه سبحانه هو الذي يجزيه بحسن صنيعه وسوء صنيعهم، ثم فيه مبالغة من حيث إنه لا يدع التبليغ لتظاهرهم هذا فإن الذي يستطيعه عليه الصلاة والسلام هو التبليغ ولا يدع المستطاع ولهذا قال إِلَّا بَلاغاً وجعله بدلا من مُلْتَحَداً شديد الطباق على هذا والشرط قريب منه، وأما إن كان الخطاب للجن والتلبد للتعجب

(15/105)


فالوجه أنهم لما تلبدوا لذلك قيل له عليه الصلاة والسلام قل لهم ما لكم ازدحمتم علي متعجبين مني ومن تطامن أصحابي على العبادة أني ليس إليّ النفع والضر إنما أنا مبلغ عن الضار النافع فأقبلوا أنتم مثلنا على العبادة ولا تقبلوا على التعجب فإن العجب ممن يعرض عن المنعم المنتقم الضار النافع ولعل اعتبار قوة الارتباط يقتضي أولوية كون التلبد كان للعداوة ومعصية الرسول عليه الصلاة والسلام وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في الأمر بالتوحيد إذ الكلام فيه فلا يصح استدلال المعتزلة ونحوهم بالآية على تخليد العصاة في النار وجوز أن يراد بالرسول رسول الملائكة عليهم السلام دون رسول البشر فالمراد بعصيانه أن لا يبلغ المرسل إليه ما وصل إليه كما وصل وهو خلاف الظاهر فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أي في النار أو في جهنم وجمع خالِدِينَ باعتبار معنى مِنَ كما أن الإفراد قبل باعتبار لفظها ولو روعي هنا أيضا لقيل خالدا أَبَداً بلا نهاية. وقرأ طلحة «فأن» بفتح الهمزة على أن التقدير كما قال ابن الأنباري وغيره فجزاءه أن له إلخ وقد نص النحاة على أن أن بعد فاء الشرط يجوز فيها الفتح والكسر فقول ابن مجاهد ما قرأ به أحد وهو لحن لأنه بعد فاء الشرط ناشىء من قلة تتبعه وضعفه في النحو وقوله تعالى حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً جملة شرطية مقرونة بحتى الابتدائية وهي وإن لم تكن جارة فيها معنى الغاية فمدخولها غاية لمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار لأنصاره عليه الصلاة والسلام واستقلالهم لعدده كأنه قيل: لا يزالون يستضعفون ويستهزئون حتى إذا رأوا ما يوعدون من فنون العذاب في الآخرة تبين لهم أن المستضعف من هو ويدل على ذلك أيضا جواب الشرط وكذا ما قيل على ما قيل لأن قوله سبحانه قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي تعريض بالمشركين كيفما قدر بل السورة الكريمة من مفتتحها مسوقة للتعريض بحال مشركي مكة وتسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وتسرية عنه عليه الصلاة والسلام وتعبير لهم بقصور نظرهم عن الجن مع ادعائهم الفطانة وقلة إنصافهم ومبادهتهم بالتكذيب والاستهزاء بدل مبادهة الجن بالتصديق والاستهداء، ويجوز جعل ذلك غاية لقوله تعالى يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً إن فسر بالتلبد على العداوة ولا مانع من تخلل أمور غير أجنبية بين الغاية والمغيا
فقول أبي حيان أنه بعيد جدا لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة ليس بشيء كجعله إياه غاية لما تضمنته الجملة قبل يعني فإن له نار جهنم من الحكم بكينونة النار له ومثل ذلك ما قيل من أنه غاية لمحذوف والتقدير دعهم حتى إذا رأوا إلخ والظاهر أن مَنْ استفهامية كما أشرنا إليه وهي مبتدأ وأَضْعَفُ خبر والجملة في موضع نصب بما قبلها وقد علق عن العمل لمكان الاستفهام وجوز كونها موصولة في موضع نصب ب (يعلمون) وأَضْعَفُ خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة لمن والتقدير فسيعرفون الذي هو أضعف وحسن حذف صدر الصلة طولها بالتمييز وجوز تفسير ما يُوعَدُونَ بيوم بدر ورجح الأول بأن الظاهر أن قوله سبحانه قُلْ إِنْ أَدْرِي أي ما أدري أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً رد لما قاله المشركون عند سماعهم ذلك، ومقتضى حالهم أنهم قالوا إنكارا واستهزاء متى يكون ذلك الموعود بل روي عن مقاتل أن النضر بن الحارث قال ذلك فقيل قل إنه كائن لا محالة وأما وقته فما أدري متى يكون والأحرى بسؤالهم وهذا الجواب إرادة ما في يوم القيامة المنكرين له أشد الإنكار والخفي وقته عن الخلائق غاية الخفاء والمراد بالأمد الزمان البعيد بقرينة المقابلة بالقريب وإلّا فهو وضعا شامل لهما ولذا وصف ببعيدا في قوله تعالى تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران: 30] وقيل إن معنى القرب ينبىء عن مشارفة النهاية فكأنه قيل لا أدري أهو حال متوقع في كل ساعة أم هو مؤجل ضرب له غاية والأول أولى وأقرب عالِمُ الْغَيْبِ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو سبحانه عالم الغيب وجوز أبو حيان كونه

(15/106)


بدلا من رَبِّي وغيره أيضا كونه بيانا له ويأبى الوجهين الفاء في قوله تعالى فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إذ يكون النظم حينئذ أَمْ يَجْعَلُ له عالم الغيب أَمَداً فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً وفيه من الإخلال ما لا يخفى، وإضافة عالِمُ إلى الْغَيْبِ محصنة لقصد الثبات فيه فيفد تعريف الطرفين التخصيص وتعريف الغيب للاستغراق وفي الرضي أن اسم الجنس أعني الذي يقع على القليل والكثير بلفظ الواحد إذا استعمل ولم تقم قرينة تخصصه ببعض ما يصدق عليه فهو في الظاهر لاستغراق الجنس أخذا من استقراء كلامهم فمعنى التراب يابس والماء بارد كل ما فيه هاتان الماهيتان حاله كذا فلو قلت في قولهم النوم ينقض الطهارة النوم مع الجلوس لا ينقضها لكان مناقضا لذلك اللفظ انتهى. وهو يؤيد إرادة ذلك هنا لأن الغيب كالماء يقع على القليل والكثير بلفظ واحد ولا يضر في ذلك جمعه على غيوب كما لا يضر فيه جمع الماء على المياه وكذا المراد بغيبه جميع غيبه وقد نص عليه عزمي زاده معللا له بكون اسم الجنس المضاف بمنزلة المعرف باللام سيما إذا كان في الأصل مصدرا وعزى إلى شرح المقاصد ما يقتضيه وربما يقال يفهم ذلك أيضا من اعتبار كون الإضافة للعهد وأن المعهود هو الغيب المستغرق أو من اعتبارها للاختصاص وأن الغيب المختص به تعالى بمعنى المختص علمه سبحانه به هو كل غيب واعتناء بشأن الاختصاص جيء بالمظهر موضع المضمر والجملة استئناف لدفع توهم نقص من نفى الدارية والفاء لترتيب عدم الإظهار على تفرده تعالى بعلم الغيب والمراد بالإظهار المنفي الاطلاع الكامل الذي تنكشف به جلية الحال على أتم وجه كما يرشد إليه حرف الاستعلاء فكأنه قيل ما عليّ إذا قلت ما أدري قرب ذلك الموعد الغيب ولا بعده فالله سبحانه وتعالى عالم كل غيب وحده فلا يطلع على ذلك المختص علمه به تعالى اطلاعا كاملا أحدا من خلقه ليكون أليق بالتفرد وأبعد عن توهم مساواة علم خلقه لعلمه سبحانه وإنما يطلع جل وعلا إذا اطلع من شاء على بعضه مما تقتضيه الحكمة التي هي مدار سائر أفعاله عز وجل وما نفيت عني العلم به مما لم يطلعني الله تعالى عليه لما أن الاطلاع عليه مما لا تقتضيه الحكمة التشريعية التي يدور عليها فلك الرسالة بل هو مخل بها وإن شئت فاعتبر الجملة واقعة موقع التعليل لنفي الدراية السابقة ولما كان مساق الكلام مما قد يتوهمون منه أنه عليه الصلاة والسلام لم يطلع على شيء من الغيب عقّب عز وجل الكلام بالاستثناء المنقطع كما روي في البحر عن ابن عباس الذي هو بمعنى الاستدراك
لدفع ذلك على أبلغ وجه حيث عمم الأمر في الرسل المرتضين وأقام كيفية الإظهار مقام الإظهار مع الإشارة إلى البعض الذي اطلعوا عليه المناسب لمقام الدعوة فقال عز من قائل إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً أي لكن الرسول المرتضى يظهره جل وعلا على بعض الغيوب المتعلقة برسالته كما يعرب عنه بيان من ارتضى بالرسول تعلقا ما إما لكونه من مبادئها بأن يكون معجزة وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية وكيفيات الأعمال وأجزيتها ونحو ذلك من الأمور الغيبية التي بيانها من وظائف الرسالة بأن يسلك من جميع جوانبه عند اطلاعه على ذلك حرسا من الملائكة عليهم السلام يحرسونه من تعرض الشياطين لما أريد اطلاعه عليه اختطافا أو تخليطا لِيَعْلَمَ متعلق ب يَسْلُكُ وعلة له والضمير لمن أي لأجل أن يعلم ذلك المرتضى الرسول ويصدق تصديقا جازما ثابتا مطابقا للواقع أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا أي الشأن قد أبلغ إليه الرصد وهو من قبيل: بنو تميم قتلوا زيدا فإن المبلغ في الحقيقة واحد معهم وهو جبريل عليه السلام كما هو المشهور من أنه المبلغ من بين الملائكة عليهم السلام إلى الأنبياء رِسالاتِ رَبِّهِمْ وهي الغيوب المظهر عليها كما هي من غير اختطاف ولا تخليط، وعلى هذا فليكن من مبتدأ وجملة إنه يَسْلُكُ خبره وجيء بالفاء لكونه اسم موصول وقوله تعالى

(15/107)


وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ أي بما عند الرصد وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ أي مما كان ومما سيكون عَدَداً أي فردا فردا حال من فاعل يَسْلُكُ بتقدير قد أو بدونه جيء به لمزيد الاعتناء بأمر علمه تعالى بجميع الأشياء وتفرده سبحانه بذلك على أتم وجه بحيث لا يشاركه سبحانه في ذلك الملائكة الذين هم وسائط العلم فكأنه قيل لكن المرتضى الرسول يعلمه الله تعالى بواسطة الملائكة بعض الغيوب مما له تعلق ما برسالته والحال أنه تعالى قد أحاط علما بجميع أحوال أولئك الوسائط وعلم جل وعلا جميع الأشياء بوجه جزئي تفصيلي فأين الوسائط منه تعالى أو حال من فاعل أبلغوا جيء به للإشارة إلى أن الرصد أنفسهم لم يزيدوا ولم ينقصوا فيما بلغوا كأنه قيل ليعلم الرسول أن قد أبلغ الرصد إليه رسالات ربه في حال أن الله تعالى قد علم جميع أحوالهم وعلم كل شيء فلو أنهم زادوا أو نقصوا عند الإبلاغ لعلمه سبحانه فما كان يختارهم للرصدية والحفظ هذا ما سنح لذهني القاصر في تفسير هذه الآيات الكريمة ولست على يقين من أمره بيد أن الاستدلال بقوله سبحانه فَلا يُظْهِرُ إلخ على نفي كرامة الأولياء بالاطلاع على بعض الغيوب لا يتم عليه لأن قوله تعالى فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً في قوة قضية سالبة جزئية لدخول ما يفيد العموم في حيز السلب وأكثر استعمالاته لسلب العموم وصرح به فيما هنا في شرح المقاصد لا لعموم السلب وهو سلب جزئي فلا ينافي الإيجاب الجزئي كأن يظهر بعض الغيب على ولي على نحو ما قال بعض أهل السنة في قوله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] ولا يرد أن الاستثناء يقتضي أن يكون المرتضى الرسول مظهرا على جميع غيبه تعالى بناء على أن الاستثناء من النفي يقتضي إيجاب نقيضه للمستثنى ونقيض السالبة الجزئية الموجبة الكلية مع أنه سبحانه لا يظهر أحدا كائنا من كان على جميع ما يعلمه عز وجل من الغيب وذلك لانقطاع الاستثناء المصرّح به ابن عباس وكذا لا يرد أن الله تعالى نفى إظهار شيء من غيبه على أحد إلّا على الرسول فيلزم أن لا يظهر سبحانه أحدا من الملائكة على شيء منه لأن الرسول هنا ظاهر في الرسول البشري لقوله تعالى فَإِنَّهُ يَسْلُكُ إلخ وذلك ليس إلّا فيه كما لا يخفى على من علم حكمة ذلك ويلزم أن لا يظهر أيضا أحدا من الأنبياء الذين ليسوا برسل بناء على إرادة المعنى الخاص من الرسول هنا وذلك لما ذكرنا أولا وكذا لا يرد أنه يلزم أن لا يظهر المرتضى الرسول على شيء من الغيوب التي لا تتعلق برسالته ولا يخل الإظهار عليها بالحكمة التشريعية إذ لا حصر للبعض المظهر فيما يتعلق بالرسالة وإنما أشير إلى المتعلق بها لاقتضاء المقام لذلك وكون كل غيب يظهر عليه الرسول لا يكون إلا متعلقا برسالته محل توقف وللمفسرين هاهنا كلام لا بأس بذكره بما له وما عليه حسب الإمكان ثم الأمر بعد ذلك إليك فنقول لما كان مذهب أكثر أهل السنة القول
بكرامة الولي بالاطلاع على الغيب وكان ظاهر قوله تعالى عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ إلخ دالا على نفيها ولذا قال الزمخشري إن في هذا إبطال الكرامات أي في الجملة وهي ما كان من الإظهار على الغيب لأن الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خص الله تعالى الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط انتهى. أنجدوا وأتهموا وأيمنوا وأشأموا في تفسير الآية على وجه لا ينافي مذهبهم ولا يتم عليه استدلال المعتزلي على مذهبه فقال الإمام ليس في قوله تعالى عَلى غَيْبِهِ صيغة عموم فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه فنحمله على وقت وقوع القيامة فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر هذا الغيب لأحد فلا يبقى في الآية دلالة على أنه سبحانه لا يظهر شيئا من الغيوب لأحد ويؤكد ذلك وقوع الآية بعد قوله تعالى قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ والمراد به وقوع يوم القيامة ثم قال فإن قيل إذا حملتم ذلك على القيامة فكيف

(15/108)


قال سبحانه إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ مع أنه لا يظهر هذا الغيب لأحد من رسله قلنا بل يظهره عند القرب من إقامة القيامة وكيف لا وقد قال تعالى يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: 25] ولا شك أن الملائكة يعلمون في ذلك الوقت وأيضا يحتمل أن يكون هذا الاستثناء منقطعا كأنه قيل عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ المخصوص وهو قيام القيامة أَحَداً ثم قيل إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ حفظة يحفظونه من شر مردة الإنس والجن انتهى. وتعقب بأن في غيبه ما يدل على العموم كما سمعت أولا والسياق لا يأباه اللهم إلا أن يطعن في ذلك. وأيضا ظاهر جوابه الأول عن القيل كون المراد بالرسول في الآية الرسول الملكي ويأباه ما بعد من قوله تعالى فَإِنَّهُ يَسْلُكُ إلخ على أن علم الملائكة بوقت الساعة يوم تشقق السماء ليس من الإظهار على الغيب بل هو من إظهار الغيب وإبرازه للشهادة كإظهار المطر عند نزوله وما في الأرحام عند وضعه إلى غير ذلك، وأيضا الانقطاع على الوجه الذي ذكره بعيد جدا إذ فيه قطع المناسبة بين السابق واللاحق بالكلية اللهم إلّا أن يقال مثله لا يضر في المنقطع وقيل إن الإظهار على الغيب بمعنى الاطلاع عليه على أتم وجه بحيث يحصل به أعلى مراتب العلم والمراد عموم السلب ولا يضر في ذلك دخول ما يفيد العموم في حيز النفي لأن القاعدة أكثرية لا مطردة لقوله تعالى وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [الحديد: 23] وقوله سبحانه وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:
276] وقد نص على ذلك العلامة التفتازاني فيكون المعنى فَلا يُظْهِرُ عَلى شيء من غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فإنه سبحانه يظهره على شيء من غيبه بأن يسلك إلخ ولا يرد كرامة الولي إذ ليست من الإظهار المذكور إذ لا يحصل له أعلى مراتب العلم بالغيب الذي يخبر به وإنما يحصل له ظنون صادقة أو نحوها وكذا شأن غيره من أرباب الرياضات من الكفرة وغيرهم وتعقب بأن من الصوفية من قال كالشيخ محيي الدين قدس سره بنزول الملك على الولي وإخباره إياه ببعض المغيبات أحيانا ويرشد إلى نزوله عليه قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: 30، الأحقاف: 13] الآية وكون ما يحصل له إذ ذاك ظن أو نحوه لا علم كالعلم الحاصل للرسول بواسطة الملك لا يخلو عن بحث بل قد يحصل له بواسطة الإلهام والنفث في الروع نحو ما يحصل للرسول وأيضا يلزم أن لا يظهر الملك على الغيب إذ الرسول المستثنى رسول البشر على ما هو الظاهر والتزام أنه لا يظهر بالمعنى السابق ويظهر بواسطته مما لا وجه له أصلا وأيضا يلزم أن ما يحصل للنبي غير الرسول بالمعنى الأخص المتبادر هنا ليس بعلم بالمعنى المذكور وهو كما ترى وقيل المراد بالغيب في الموضعين الجنس والإظهار عليه على ما سمعت وكذا عدم ورود الكرامة والبحث فيه كالبحث في سابقه وزيادة وقال صاحب الكشف في الرد على الزمخشري الغيب إن كان مفسرا بما فسره في قوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3] فالآية حجة عليه لأنه جوز هنالك أن يعلم بإعلامه تعالى أو بنصبه الدليل. وهذا الثاني أعني القسم العقلي تنفيه الآية وترشد إلى أن تهذيب طرق الأدلة أيضا بواسطة الأنبياء عليهم السلام والعقل غير مستقل وأهل السنة عن آخرهم على أن الغيب بذلك المعنى لا يطلع عليه إلّا رسول أو آخذ منهم وليس فيه نفي الكرامة أصلا وإن أراد الغائب عن الحس في الحال مطلقا فلا بد من التخصيص بالاتفاق فليس فيه ما ينفيها أيضا وإن فسر بالمعدوم كما ذكره في قوله تعالى عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [الأنعام: 73 وغيرها] فلا بد أيضا من التخصيص وكذلك لو فسر بما غاب عن العباد أو بالسر على أن ظاهر الآية أنه تعالى عالم كل غيب وحده لا يظهر على غيبه المختص به وهو يتعلق بذاته تعالى وصفاته عز وجل بدلالة الإضافة إلا رسولا وهو كذلك فإن غيبه تعالى لا يطلع عليه إلّا بالإعلام من رسول ملكي أو بشري ولا

(15/109)


كل غيبه تعالى الخاص مطلع عليه بل بعضه وأقل القليل منه فدل المفهوم على أن غير هذا النوع الخاص من الغيب لا منع من إطلاع الله تعالى غير الرسول عليه فهذا ظاهر الآية دون تعسف ثم لو سلم فالثاني إما مستغرق وإذا قال سبحانه لا يطلع على جميعه أحدا إلا من ارتضى من رسول لم يدل على أنه لا يجوز اطلاع غير الرسول على البعض وإما مطلق ينزل على الكامل منه فيرجع إلى ما اخترناه وتعاضد دلالتا تشريف الإضافة والإطلاق فلا وجه لتعليقه بهذه الآية ومنه يظهر أن الاستدلال من الآية على إبطال الكهانة والتنجيم غير ناهض وإن كان إبطالهما حقا لأنكره فضلا عن تكفير من قال بدلالته على حياة أو موت لأنه كفر بهذه الآية كما نقله شيخنا الطيبي عن الواحدي والزجاج وصاحب المطلع انتهى. وبحث فيه بأن حمل غيبه على الغيب الخاص بمعنى ما يتعلق بذاته تعالى وصفاته عز وجل مما لا يناسب السياق وبأن ظاهر ما قرره على احتمال الاستغراق يقتضي على تقدير اتصال الاستثناء وإيجاب ضد ما نفى للمستثنى أن يظهر الرسول على جميع غيبه تعالى إلى ما يظهر بالتأمل وذكر العلامة البيضاوي أولا ما يفهم منه على ما قيل حمل غيبه على العموم مع الاختصاص أي عموم الغيب المخصوص به علمه تعالى وحمل فلا يظهر على سلب العموم وحمل الرسول على الرسول البشري واعتبار الاستثناء منقطعا على أن المعنى فَلا يُظْهِرُ على جميع غَيْبِهِ المختص به علمه تعالى أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فيظهره على بعض غيبه حتى يكون اخباره به معجزة فلا يتم الاستدلال بالآية على نفي الكرامة. وفسر الاختصاص بأنه لا يعلمه بالذات ولكنه علما حقيقيا يقينيا بغير سبب كاطلاع الغير إلا هو سبحانه وأما علم غيره سبحانه لبعضه فليس علما للغيب إلّا بحسب الظاهر
وبالنسبة لبعض البشر وقيل أراد بالغيب المخصوص به تعالى ما لم ينصب عليه دليل ولا يقدح في الاختصاص علم الغير به بإعلامه تعالى إذ هو إضافي بالنسبة إلى من لم يعلم. وقال ثانيا في الجواب عن الاستدلال ولعله أراد الجواب عند القوم ما نصه وجوابه تخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير توسط وكرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون تلقيا من الملائكة أي بالنفث في الروع ونحوه وحاصله أن الاستدلال إنما يتم أن لو تحقق كون المراد بالرسول رسول البشر والملك جميعا أو رسول البشر فقط وبالإظهار الإظهار بواسطة أولا والكل ممنوع إذ يجوز أن يخص الرسول برسول الملك وأن يراد بالإظهار الإظهار بلا واسطة ويكون المعنى فلا يظهر بلا واسطة على غيبه إلّا رسل الملائكة ولا ينافي ذلك إظهار الأولياء على غيبه لأنه لا يكون إلّا بالواسطة وهو جواب بمنع المقدمتين وإن كان يكفي فيه منع أحدهما كما فعل الإمام والتفتازاني في شرح المقاصد وتعقب بأن رسل البشر قد يطلعون بغير واسطة أيضا وفي قصة المعراج وتكليم موسى عليه السلام ما يكفي في ذلك على أنه قد قيل عليه بعد ما قيل وأغرب ما قيل في هذا المقام كون إِلَّا في قوله تعالى إِلَّا مَنِ ارْتَضى للعطف والمعنى فلا يظهر على غيبه أحد ولا من ارتضى من رسول وحاله لا يخفى ثم إن تفسير قوله تعالى فَإِنَّهُ يَسْلُكُ إلخ بما سمعت هو الذي عليه جمهور المفسرين وكانت الحفظة الذين ينزلون مع جبريل عليه السلام على نبينا صلّى الله عليه وسلم على ما أخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن جبير أربعة وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: ما أنزل الله تعالى على نبيه صلّى الله عليه وسلم آية من القرآن إلّا ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها حتى يؤدونها إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم ثم قرأ عالِمُ الْغَيْبِ الآية وقد يكون مع الوحي أكثر من ذلك ففي بعض الأخبار أنه نزل مع سورة الأنعام سبعون ألف ملك ملك وجاء في شأن آية الكرسي ما جاء وقال ابن كمال لاحت دقيقة بخاطري الفاتر قلما يوجد مثلها في بطون الدفاتر وهي أن المراد مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ في الآية القوى الظاهرة وَمِنْ خَلْفِهِ القوى الباطنة ولذلك قال سبحانه يَسْلُكُ إلخ أي يدخل حفظة من الملائكة يحفظون قواه الظاهرة

(15/110)


والباطنة من الشياطين ويعصمونه من وساوسهم من تينك الجهتين ولو كان المراد حفظة من الجوانب كي لا يقربه الشياطين عند إنزال الوحي فتلقى غير الوحي أو تسمعه فتلقيه إلى الكهنة فتخبر به قبل إخبار الرسول كما ذهب إليه صاحب التيسير وغيره لما كان نظم الكلام على الوجه المذكور فإن عبارة يَسْلُكُ وتخصيص الجهتين المذكورتين إنما يناسب ما ذكرناه لا ما ذكروه انتهى ولا يخفى أنه نحو من الإشارة ولعل التعبير بيسلك على تفسير الجمهور لتصوير الجهات التي تأتي منها الشياطين بالثغور الضيقة والمسالك الدقيقة وفي ذلك من الحسن ما فيه وذهب كثير إلى أن ضمير لِيَعْلَمَ لله تعالى وضمير أَبْلَغُوا إما للرصد أو لمن ارتضى والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الضميرين قبل باعتبار لفظها والمعنى أنه تعالى يسلكهم ليعلم أن الشأن قد أبلغوا رسالات ربهم علما مستتبعا للجزاء وهو أن يعلمه تعالى موجودا حاصلا بالفعل كما في قوله تعالى حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ [محمد: 31] فالغاية في الحقيقة هو الإبلاغ والجهاد وإيراد علمه تعالى لإبراز اعتنائه تعالى بأمرهما والإشعار بترتب الجزاء عليهما والمبالغة في الحث عليهما والتحذير عن التفريط فيهما وقوله تعالى وَأَحاطَ إلخ إما عطف على لا يظهر أو حال من فاعل يَسْلُكُ جيء به لدفع التوهم وتحقيق استغنائه تعالى في العلم بالإبلاغ عما ذكر من سلك الرصد على الوجه المذكور أو عطف كما زعم بعض على مضمر لأن لِيَعْلَمَ متضمن معنى علم فصار المعنى قد علم ذلك وأحاط إلخ وجوز أن يكون ضمير يعلم للرسول الموحى إليه وضمير أَبْلَغُوا للرصد النازلين إليه بالوحي. وروي عن ابن جبير ما يؤيده أو للرسل سواه وَأَحاطَ إلخ عطف على أَبْلَغُوا أو على لا يُظْهِرُ وعن مجاهد ليعلم من كذب وأشرك أن الرسل قد أبلغوا وفيه من البعد ما فيه وعليه لا يقع هذا العلم على ما في البحر إلّا في الآخرة وقيل ليعلم إبليس
أن الرسل قد أبلغوا وقيل ليعلم الجن أن الرسل قد أبلغوا ما أنزل إليهم ولم يكونوا هم المتلقين باستراق السمع وكلا القولين كما ترى ونصب عَدَداً عند جمع على أنه تمييز محول عن المفعول به والأصل أحصى عدد كل شيء إلّا أنه قال أبو حيان في كونه ثابتا من لسان العرب خلاف وأنت تعلم أن التحويل في مثله تقديري وجوز أن يكون حالا أي معدودا محصورا ولا يضر تنكير صاحبها للعموم وأن يكون نصبا على المصدر بمعنى إحصاء فتأمل جميع ذلك والله تعالى الموفق لسلوك أحسن المسالك وقرىء «عالم» بالنصب على المدح «وعلم» فعلا ماضيا «الغيب» بالنصب وقرأ ابن عباس وزيد بن علي «ليعلم» بالبناء للمفعول والزهري وابن أبي عبلة «ليعلم» بضم الياء وكسر اللام من الإعلام أي ليعلم الله تعالى من شاء أن يعلمه أن قد أبلغوا إلخ وقرأ أبو حيوة «رسالة» بالإفراد وقرأ ابن أبي عبلة و «أحيط» و «أحصي» كل بالبناء للمفعول في الفعلين. ورفع «كلّ» على النيابة والفاعل هو الله عز وجل فهو سبحانه المحيط بالأحوال علما والمحصي لكل شيء عددا.

(15/111)


يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)

سورة المزّمّل
مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر وقال ابن عباس وقتادة كما ذكر الماوردي الآيتين منها وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ [المزمل: 10] والتي تليها وحكي في البحر عن الجمهور أنها مكية إلا قوله تعالى:
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ [المزمل: 20] إلى آخرها وتعقبه الجلال السيوطي بعد أن نقل الاستثناء عن حكاية ابن الفرس بقوله ويرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة أن ذلك نزل بعد نزول صدر السورة بسنة وذلك حين فرض قيام الليل في أول الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك وآيها ثماني عشرة آية في المدني الأخير وتسع عشرة في البصري وعشرون فيما عداهما ولما ختم سبحانه سورة الجن بذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام افتتح عزّ وجلّ هذه بما يتعلق بخاتمهم عليه وعليهم الصلاة والسلام وهو وجه في المناسبة وفي تناسق الدرر لا يخفى اتصال أولها قُمِ اللَّيْلَ [المزمل: 2] إلخ بقوله تعالى في آخر تلك وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن: 19] وبقوله سبحانه وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ [الجن: 18] الآية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وقال الأخفش: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ أي المتزمل من تزمل بثيابه إذا تلفف

(15/112)


بها فأدغم التاء في الزاي وقد قرأ أبيّ على الأصل وعكرمة «المزمل» بتخفيف الزاي وكسر الميم أي المزمل جسمه أو نفسه وبعض السلف «المزمل» بالتخفيف وفتح الميم اسم مفعول ولا تدافع بين القراءات فإنه عليه الصلاة والسلام هو زمل نفسه الكريمة من غير شبهة لكن إذا نظر إلى أن كل أفعاله من الله تعالى فقد زمله غيره ولا حاجة إلى أن يقال إنه صلّى الله عليه وسلم زمل نفسه أولا ثم نام فزمله غيره أو أنه زمله غيره أولا ثم سقط عنه ما زمل به فزمل هو نفسه، والجمهور على
أنه صلّى الله عليه وسلم لما جاءه الملك في غار حراء وحاوره بما حاوره رجع إلى خديجة رضي الله تعالى عنها فقال: «زملوني زملوني» فنزلت يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ

وعلى أثرها نزلت يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ
وأخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: لما اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل اسما تصدر الناس عنه فقالوا كاهن قالوا ليس بكاهن قالوا مجنون قالوا ليس بمجنون قالوا ساحر قالوا ليس بساحر قالوا يفرق بين الحبيب وحبيبه فتفرق المشركون على ذلك فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلم فتزمل في ثيابه وتدثر فيها فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا أيها المزمل يا أيها المدثر
ونداؤه عليه الصلاة والسلام بذلك تأنيس له وملاطفة على عادة العرب في اشتقاق اسم للمخاطب من صفته التي هو عليها
كقوله صلّى الله عليه وسلم لعلي كرم الله تعالى وجهه حين غاضب فاطمة رضي الله عنها فأتاه وهو نائم لصق بجنبه التراب «قم أبا تراب»
قصدا لرفع الحجاب وطي بساط العتاب وتنشيطا له ليتلقى ما يرد عليه بلا كسل:
وكل ما يفعل المحبوب محبوب وزعم الزمخشري أنه عليه الصلاة والسلام نودي بذلك تهجينا للحالة التي عليها من التزمل في قطيفة واستعداده للاستثقال في النوم كما يفعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن إلى آخر ما قال مما ينادي عليه كما قال الأكثرون بسوء الأدب ووافقه في بعضه من وافقه وقال صاحب الكشف أراد أنه عليه الصلاة والسلام وصف بما هو ملتبس به يذكره تقاعده فهو من لطيف العتاب الممزوج بمحض الرأفة ولينشطه ويجعله مستعدا لما وعده تعالى بقوله سبحانه إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: 5] ولا يربأ برسول الله صلّى الله عليه وسلم عن مثل هذا النداء فقد خوطب بما هو أشد في قوله تعالى عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس: 1] ومثل هذا من خطاب الإدلال والترؤف لا يتقاعد ما في ضمنه من البر والتقريب عما في ضمن يا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال: 64] وغيرها. يا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة: 41، 67] من التعظيم والترحيب انتهى ولا يخفى أنه لا يندفع به سوء أدب الزمخشري في تعبيره فإنه تعالى وإن كان له أن يخاطب حبيبه بما شاء لكنا نحن لا نجري على ما عامله سبحانه به بل يلزمنا الأدب والتعظيم لجنابه الكريم ولو خاطب بعض الرعايا الوزير بما خاطبه به السلطان طرده الحجاب وربما كان العقاب هو الجواب وقيل كان صلّى الله عليه وسلم متزملا بمرط لعائشة رضي الله تعالى عنها يصلي فنودي بذلك ثناء عليه وتحسينا لحاله التي كان عليها ولا يأباه الأمر بالقيام بعد إما لأنه أمر بالمداومة على ذلك والمواظبة عليه أو تعليم له عليه الصلاة والسلام وبيان لمقدار ما يقوم على ما قيل نعم أورد عليه أن السورة من أوائل ما نزل بمكة ورسول الله صلّى الله عليه وسلم إنما بني على عائشة رضي الله عنها بالمدينة مع أن الأخبار الصحيحة متضافرة بأن النداء المذكور كان وهو عليه الصلاة والسلام في بيت خديجة رضي الله تعالى عنها ويعلم منه حال ما روي عن عائشة أنها سئلت ما كان تزميله صلّى الله عليه وسلم قالت كان مرطا طوله أربع عشرة ذراعا نصفه عليّ وأنا نائمة ونصفه عليه وهو يصلي وكان سداه شعرا ولحمته وبرا وتكلف صاحب الكشف فقال الجواب أنه عليه الصلاة والسلام

(15/113)


عقد في مكة فلعل المرط بعد العقد صار إليه صلّى الله عليه وسلم نعم دل أنه بعد وفاة خديجة إنما إشكال في قول عائشة نصفه عليّ إلخ وجوابه أنه يمكن أن يكون قد بات صلّى الله عليه وسلم في بيت الصديق رضي الله تعالى عنه ذات ليلة وكان المرط على عائشة وهي طفلة والباقي لطوله على النبيّ عليه الصلاة والسلام فحكت ذلك أم المؤمنين إذ لا دلالة على أنها حكاية ما بعد البناء فهذا ما يتكلف لصحة هذا القول انتهى وأنت تعلم أن هذا الحديث لم يقع في الكتب الصحيحة كما قاله ابن حجر بل هو مخالف لها ومثل الاحتمالات لا يكتفى بها بل قال أبو حيان إنه كذب صريح وعن قتادة كان صلّى الله عليه وسلم قد تزمل في ثيابه للصلاة واستعد لها فنودي بيا أيها المزمل على معنى يا أيها المستعد للعبادة. وقال عكرمة: المعنى يا أيها المزمل للنبوة وأعبائها والزمل كالحمل لفظا ومعنى ويقال ازدمله أي احتمله وفيه تشبيه إجراء مراسم النبوة بتحمل الحمل الثقيل لما فيهما من المشقة وجوز أن يكون كناية عن المتثاقل لعدم التمرن وأورد عليه نحو ما أورد على وجه الزمخشري ومع صحة المعنى الحقيقي واعتضاده بالأحاديث الصحيحة لا حاجة إلى غيره كما قيل قُمِ اللَّيْلَ أي قم إلى الصلاة وقيل داوم عليها وأيّا ما كان فمعمول قُمِ مقدر واللَّيْلَ منصوب على الظرفية وجوز أن يكون منصوبا على التوسع والإسناد المجازي ونسب هذا إلى الكوفيين وما قيل إلى البصريين، وقيل القيام مستعار للصلاة ومعنى قُمِ صل فلا تقدير وقرأ أبو السمال بضم الميم اتباعا لحركة القاف وقرىء بفتحها طلبا للتخفيف والكسر في قراءة الجمهور على أصل التقاء الساكنين إِلَّا قَلِيلًا استثناء من اللَّيْلَ وقوله تعالى نِصْفَهُ بدل من قَلِيلًا بدل الكل والضمير لليل وفي هذا الإبدال رفع الإبهام وفي الإتيان بقليل ما يدل على أن النصف المغمور بذكر الله تعالى بمنزلة
الكل والنصف الفارغ وإن ساواه في الكمية لا يساويه في التحقيق أَوِ انْقُصْ مِنْهُ عطف على الأمر السابق والضمير المجرور لليل أيضا مقيدا بالاستثناء لأنه الذي سيق له الكلام وقيل للنصف لقربه قَلِيلًا أي نقصا قليلا أو مقدارا قليلا بحيث لا ينحط عن نصف النصف أَوْ زِدْ عَلَيْهِ عطف كما سبق وكذا الكلام في الضمير ولا يختلف المعنى على القولين فيه وهو تخييره صلّى الله عليه وسلم بين أن يقوم نصف الليل أو أقل من النصف أو أكثر بيد أنه رجح الأول بأن فيه جعل معيار النقص والزيادة النصف المقارن للقيام وهو أولى من جعله للنصف العاري منه بالكلية وإن تساويا كمية وجهل بعضهم الإبدال من الليل الباقي بعد الثنيا والضميرين له وقال في الإبدال من قليل ليس بسديد لهذا ولأن الحقيقي بالاعتناء الذي ينبىء عنه الإبدال هو الجزء الباقي بعد الثنيا المقارن للقيام لا للجزء المخرج العاري عنه ولا يخفى أنه على طرف التمام وكذا اعترض أبو حيان ذلك الإبدال بقوله: إن ضمير نِصْفَهُ حينئذ إما أن يعود على المبدل منه أو على المستثنى منه وهو اللَّيْلَ لا جائز أن يعود على المبدل منه لأنه يكون استثناء مجهول إذ التقدير إلّا قليلا نصف القليل، وهذا لا يصح له معنى البتة ولا جائز أن يعود على المستثنى منه لأنه يلغو فيه الاستثناء إذ لو قيل قم الليل نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه أفاد معناه على وجه أخصر وأوضح وأبعد عن الإلباس وفيه أنا نختار الثاني وما زعمه من اللغوية قد أشرنا إلى دفعه وأوضحه بعض الأجلة بقوله: إن فيه تنبيها على تخفيف القيام وتسهيله لأن قلة أحد النصفين تلازم قلة الآخر وتنبيها على تفاوت ما شعل بالطاعة وما خلا منها الإشعار بأن البعض المشغول بمنزلة الكل مع ما في ذلك من البيان بعد الإبهام الداعي للتمكن في الذهب وزيادة التشويق وتعقب السمين الشق الأول أيضا بأن قوله استثناء مجهول من مجهول غير صحيح لأن اللَّيْلَ معلوم وكذا بعضه من النصف وما دونه وما فوقه ولا ضير في استثناء المجهول من المعلوم نحو فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا [البقرة: 249] بل لا ضمير في إبدال مجهول من مجهول كجاءني جماعة بعضهم مشاة ومع هذا

(15/114)


المعول عليه ما سلف وجوز أن يكون نِصْفَهُ بدلا من اللَّيْلَ بدل بعض من كل والاستثناء منه والكلام على نية التقديم والتأخير والأصل ثم نصف الليل إلا قليلا وضمير منه وعليه للأقل من النصف المفهوم من مجموع المستثنى منه فكأنه قيل قم أقل من نصف الليل بأن تقوم ثلث الليل أو أنقص من ذلك الأقل قليلا بأن تقوم ربع الليل أو زد على ذلك الأقل بأن تقوم النصف فالتخيير على هذا بين الأقل من النصف والأقل من الأقل وإلّا زيد منه وهو النصف بعينه وماله إلى التخيير بين النصف والثلث والربع، فالفرق بين هذا الوجه وما ذكر قيل مثل الصبح ظاهر وفي الكشاف ما يفهم منه على ما قيل إن التخيير فيما وراء النصف أي فيما يقل عن النصف ويزيد على الثلث فلا يبلغ بالزيادة النصف ولا بالنقصان الثلث. قال في الكشف وإنما جعل الزيادة دون النصف والنقصان فوق الثلث لأنهما لو بلغا إلى الكسر الصحيح لكان الأشبه أن يذكر بصريح اسميهما وأيضا إيثار القلة ثانيا دليل على التقريب من ذلك الأقل وما انتهى إلى كسر صحيح فليس بناقص قليل في ذوق هذا المقام وذا القول في جانب الزيادة كيف وقد بنى الأمر على كونه أقل من النصف انتهى وهو وجه متكلف ونحوه فيما أرى ما سمعت قبيله وظاهر كلام بعضهم أن ذكر الثلث والربع والنصف فيه على سبيل التمثيل لا أن الأقل والأنقص والأزيد محصورات فيما ذكر. وجوز أيضا كون الكلام على نية التقديم والتأخير كما مر آنفا لكن مع جعل الضميرين للنصف لا للأقل منه كما في ذلك والمعنى التخيير بين أمرين بين أن يقوم عليه الصلاة والسلام أقل من نصف الليل على البت وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف والزيادة عليه فكأنه قيل قم أقل من نصف الليل على البت أو أنقص من النصف أو زد عليه تخييرا قيل وللاعتناء بشأن الأقل لأنه الأصل الواجب كرر على
نحو أكرم إما زيدا وإما زيدا أو عمرا وتعقب بأن فيه تكلفا لأن تقديم الاستثناء على البدل ظاهر في أن البدل من الحاصل بعد الاستثناء لأن في تقدير تأخير الاستثناء عدولا عن الأصل من غير دليل ولأن الظاهر على هذا رجوع الضميرين إلى النصف بعد الاستثناء لأنه السابق لا النصف المطلق وأيضا الظاهر أن النقصان رخصة لأن الزيادة نفل والاعتناء بشأن العزيمة أولى ثم فيه أنه لا يجوز قيام النصف ويرده القراءة الثابتة في السبعة إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ [المزمل: 20] بالجر فإن استدل من جواز الأقل على جوازه لمفهوم الموافقة لزم أن يلغوا التعرض للزيادة على النصف لذلك أيضا ولا يخفى أن بعض هذا يرد على الوجه المار آنفا واعترض قوله الظاهر أن النقصان رخصة بأنه محل نظر إذ الظاهر أنه من قبيل فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ [القصص: 27] فالتخيير ليس على حقيقته وفيه بحث. وجوز أيضا كون الإبدال من قَلِيلًا الثاني بمعنى نصف النصف وهو الربع وضمير عليه لهذا القليل وجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع نصف الربع كأنه قيل قم نصف الليل أو أنقص من النصف قليلا نصفه أو زد على هذا القليل قليلا نصفه ومآله قم نصف الليل أو نصف أو زد على نصف النصف نصف نصف النصف فيكون التخيير فيما إذا كان الليل ست عشرة ساعة مثلا بين قيام ثماني ساعات وأربع وست ولا يخفى أن الإطلاق في أو زد عليه ظاهر الإشعار بأنه غير مقيد بقليلا إذ لو كان للاستغناء لاكتفى في أو انقص إلخ بالأول أيضا ومن هنا قيل يجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة للثلث فيكون التخيير بين النصف والثلث والربع وفيه أن جعلها تتمة الثلث لا دليل عليه سوى موافقة القراءة بالجر في نصفه وثلثه بعد. وجوز الإمام أن يراد بقليلا في قوله تعالى إِلَّا قَلِيلًا الثلث وقال إن نِصْفَهُ على حذف حرف العطف فكأنه قيل ثلثي الليل أو قم نصفه أو أنقص من النصف أو زد عليه وأطال في بيان ذلك والذب عنه ومع ذلك لا يخفى حاله وذكر أيضا وجها ثانيا لا يخفى أمره على من أحاط بما تقدم خبرا نعم تفسيره

(15/115)


القليل بالثلث مروي عن الكلبي ومقاتل وعن وهب بن منبه تفسيره بما دون المعشار والسدس وهو على ما قدمنا نصف واستدل به من قال بجواز استثناء النصف وما فوقه على ما فصل في الأصول وقال التبريزي الأمر بالقيام والتخيير في الزيادة والنقصان وقع على الثلثين من آخر الليل لأن الثلث الأول وقت العتمة والاستثناء وارد على المأمور به فكأنه قيل قم ثلثي الليل إلّا قليلا ثم جعل نصفه بدلا من قليلا فصار القليل مفسرا بالنصف من الثلثين وهو قليل على ما تقدم أو أنقص منه أي من المأمور به وهو قيام الثلثين قليلا أي ما دون نصفه أو زد عليه فكان التخيير في الزيادة والنقصان واقعا على الثلثين انتهى. وهو كما ترى وقيل الاستثناء من اعداد الليل لا من أجزائه فإن تعريفه للاستغراق إذ لا عهد فيه والضمير راجع إليه باعتبار الأجزاء على أن هناك استخداما أو شبهه والتخيير بين قيام النصف والناقص عنه والزائد عليه وهو بمكان من البعد وبالجملة قد أكثر المفسرون الكلام في هذه الآية حتى ذكروا ما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى العزيز عليه وأظهر الوجوه عندي وأبعدها عن التكلف وأليقها بجزالة التنزيل هو ما ذكرناه أولا والله تعالى أعلم بما في كتابه الجليل الجزيل وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بالأمر في قوله سبحانه قُمِ اللَّيْلَ إلخ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ أي في أثناء ما ذكر من القيام أي اقرأه على تؤدة وتمهل وتبيين حروف تَرْتِيلًا بليغا بحيث يتمكن السامع من عدها من قولهم ثغر رتل بسكون التاء ورتل بكسرها إذا كان مفلجا لم تتصل أسنانه بعضها ببعض
وأخرج العسكري في المواعظ عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال: «بينه تبيينا ولا تنثره نثر الدقل ولا تهذه هذا الشعر قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة»
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ أي سنوحي إليك وإيثار الإلقاء عليه لقوله تعالى قَوْلًا ثَقِيلًا وهو القرآن العظيم فإنه لما فيه من التكاليف الشاقة ثقيل على المكلفين سيما على الرسول صلّى الله عليه وسلم فإنه عليه الصلاة والسلام مأمور بتحملها وتحميلها للأمة وهذه الجملة المؤكدة معترضة بين الأمر بالقيام وتعليله الآتي لتسهيل ما كلفه عليه الصلاة والسلام من القيام كأنه قيل إنه سيرد عليك في الوحي المنزل تكاليف شاقة هذا بالنسبة إليها سهل فلا تبال بهذه المشقة وتمرن بها لما بعدها وادخل بعضهم في الاعتراض جملة وَرَتِّلِ إلخ وتعقب بأنه لا وجه له وقيل معنى كونه ثَقِيلًا أنه رصين لإحكام مبانيه ومتانة معانيه والمراد أنه راجح على ما عداه لفظا ومعنى لكن تجوز بالثقيل عن الراجح لأن الراجح من شأنه أن يكون كذلك وفي معناه ما قيل المراد كلام له وزن ورجحان ليس بالسفساف وقيل معناه أنه ثقيل على المتأمل فيه لافتقاره إلى مزيد تصفيه للسر وتجريد للنظر، فالثقيل مجاز عن الشاق وقيل ثقيل في الميزان والثقل إما حقيقة أو مجاز عن كثرة ثواب قارئه وقال أبو العلية والقرطبي ثقله على الكفار والمنافقين بإعجازه ووعيده وقيل ثقيل تلقّيه يعني يثقل عليه صلّى الله عليه وسلم والوحي به بواسطة الملك فإنه كان يوحي إليه عليه الصلاة والسلام على أنحاء منها أن لا يتمثل له الملك ويخاطبه بل يعرض له عليه الصلاة والسلام كالغشي لشدة انجذاب روحه الشريفة للملأ إلّا على بحيث يسمع ما يوحي به إليه ويشاهده ويحسه هو عليه الصلاة والسلام دون من معه وفي هذه الحالة كان يحس في بدنه ثقلا حتى كادت فخذه صلّى الله عليه وسلم أن ترض فخذ زيد بن ثابت وقد كانت عليها وهو يوحى إليه
وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن نصر والحاكم وصححه عن عائشة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها فما تستطيع أن تتحرك حتى يسري عنه وتلت إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا

وروى الشيخان ومالك والترمذي والنسائي عنها أنها قالت ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا
وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون ثَقِيلًا صفة لمصدر حذف فأقيم مقامه وانتصب انتصابه أي

(15/116)


إلقاء ثقيلا وليس صفة قَوْلًا وقيل ذلك عن بقائه على وجه الدهر لأن الثقيل من شأنه أن يبقى في مكانه.
وقيل ثقله باعتبار ثقل حروفه حقيقة في اللوح المحفوظ فعن بعضهم أن كل حرف من القرآن في اللوح أعظم من جبل قاف، وأن الملائكة لو اجتمعت على الحرف أن يقلوه ما أطاقوه حتى يأتي إسرافيل عليه السلام وهو ملك اللوح فيرفعه ويقله بإذن الله تعالى لا بقوته ولكن الله عزّ وجلّ طوقه ذلك وهذا مما يحتاج إلى نقل صحيح عن الصادق عليه الصلاة والسلام ولا أظن وجوده. والجملة قيل على معظم هذه الأوجه مستأنفة للتعليل فإن التهجد يعد النفس لأن تعالج ثقله فتأمل. واستدل بالآية على أنه لا ينبغي أن يقال سورة خفيفة لما أن الله تعالى سمى فيها القرآن كله قَوْلًا ثَقِيلًا وهذا من باب الاحتياط كما لا يخفى إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ أي إن النفس التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة أي تنهض من نشأ من مكانه ونشر إذ نهض وأنشد قوله:
نشأنا إلى خوص برى فيها السرى ... وأشرف منها مشرفات القماحد
وظاهر كلام اللغويين أن نشأ بهذا المعنى لغة عربية وقال الكرماني في شرح البخاري هي لغة حبشية عربوها وأخرج جماعة نحوه عن ابن عباس وابن مسعود وحكاه أبو حيان عن ابن جبير وابن زيد وجعل ناشِئَةَ جمع ناشىء فكأنه أراد النفوس الناشئة أي القائمة ووجه الإفراد ظاهر والإضافة إما بمعنى في أو على نحو سيد غضي وهذا أبلغ أو أن قيام الليل على أن الناشئة مصدر نشأ بمعنى قام كالعاقبة وإسنادها إلى الليل مجاز كما يقال: قام ليله وصام نهاره، وخص مجاهد هذا القيام بالقيام من النوم وكذا عائشة ومنعت أن يراد مطلق القيام وكان ذلك بسبب أن الإضافة إلى الليل في قولهم قيام الليل تفهم القيام من النوم فيه أو القيام وقت النوم لمن قال الليل كله أو أن العبادة التي تنشأ أي تحدث بالليل على أن الإضافة اختصاصية أو بمعنى في أو على نحو مَكْرُ اللَّيْلِ [سبأ: 33] وقال ابن جبير وابن زيد وجماعة ناشِئَةَ اللَّيْلِ ساعاته لأنها تنشأ أي تحدث واحدة بعد واحدة أي متعاقبة والإضافة عليه اختصاصية أو ساعاته الأول من نشأ إذا ابتدأ وقال الكسائي ناشئة أوله وقريب منه ما
روي عن ابن عمر وأنس بن مالك وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم هي ما بين المغرب والعشاء
هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً أي هي خاصة دون ناشئة النهار أشد مواطأة يواطىء قلبها لسانها إن أريد بالناشئة النفس المتهجدة أو يواطىء فيها قلب القائم لسانه إن أريد بها القيام أو العبادة أو الساعات والإسناد على الأول حقيقي وعلى هذا مجازي واعتبار الاستعارة المكنية ليس بذاك أو أشد موافقة لما يراد من الإخلاص فلا مجاز على جميع المعاني. وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد والعربيان وطاء بكسر الواو وفتح الطاء ممدودا على أنه مصدر واطأ وطاء كقاتل قتالا وقرأ قتادة وشبل عن أهل مكة بكسر الواو وسكون الطاء والهمز مقصورا وقرأ ابن محصن بفتح الواو ممدودا وَأَقْوَمُ قِيلًا أي وأسوأ مقالا أو أثبت قراءة لحضور القلب وهدو الأصوات وقِيلًا عليهما مصدر لكنه على الأول عام للأذكار والأدعية وعلى الثاني مخصوص بالقراءة ونصبه ونصب وطأ على التمييز وأخرج ابن جرير وغيره عن أنس بن مالك أنه قرأ «وأصوب قليلا» فقال له رجل إنا نقرؤها «وأقوم قليلا» فقال إن أصوب وأقوم وأهيأ وأشباه هذا واحد إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا أي تقلبا وتصرفا في مهماتك واشتغالا بشواغلك فلا تستطيع أن تتفرغ للعبادة فعليك بها في الليل وأصل السبح المر السريع في الماء فاستعير للذهاب مطلقا كما قاله الراغب وأنشدوا قول الشاعر:
أباحوا لكم شرق البلاد وغربها ... ففيها لكم يا صاح سبح من السبح
وهذا بيان للداعي الخارجي إلى قيام الليل بعد بيان ما في نفسه من الداعي وقيل أي إن لك في النهار

(15/117)


فراغا وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك وقيل إن فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه فالسبح لفراغ وهو مستعمل في ذلك لغة أيضا لكن الأول أوفق لمعنى قولهم سبح في الماء وأنسب للمقام ثم إن الكلام على هذا إما تتميم للعلة يهون عليه أن النهار يصلح للاستراحة فليغتنم الليل للعبادة وليشكر إن لم يكلف استيعابهما بالعبادة أو تأكيد للاحتفاظ به بأنه إن فات لا بد من تداركه بالنهار ففيه متسع لذلك وفيه تلويح إلى معنى جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً [الفرقان: 62] وقرأ ابن يعمر وعكرمة وابن أبي عبلة «سبخا» بالخاء المعجمة أي تفرق قلب بالشواغل مستعار من سبخ الصوف وهو نقشه ونشر أجزائه وقال غير واحد خفة من التكاليف قال الأصمعي يقال: سبخ الله تعالى عنك الحمى خففها
وفي الحديث «لا تسبخي بدعائك»
أي لا تخففي ومنه قوله:
فسبخ عليك الهم واعلم بأنه ... إذا قدر الرحمن شيئا فكائن
وقيل السبخ المد يقال سبخي قطنك أي مديه، ويقال لقطع القطن سبائخ الواحدة سبخة ومنه قول الأخطل يصف قناصا وكلابا:
فأرسلوهن يذرين التراب كما ... يذري سبائخ قطن ندف أوتار
وقال صاحب اللوامح إن ابن يعمر وعكرمة فسرا «سبخا» بالمعجمة بعد أن قرآ به فقالا معناه نوما أي ينام بالنهار ليستعين به على قيام الليل وقد يحتمل هذه القراءة غير هذا المعنى لكنهما فسراها فلا نتجاوز عنه اهـ ولعل ذلك تفسير باللازم وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أي ودم على ذكره تعالى ليلا ونهارا على أي وجه كان من تسبيح وتهليل وتحميد وصلاة وقراءة قرآن وغير ذلك وفسر الأمر بالدوام لأنه عليه الصلاة والسلام لم ينسه تعالى حتى يؤمر بذكره سبحانه والمراد الدوام العرفي لا الحقيقي لعدم إمكانه ولأن مقتضى السياق أن هذا تعميم بعد التخصيص كان المعنى على ما سمعت من اعتبار ليلا ونهارا وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ أي وانقطع إليه تعالى بالعبادة وجرد نفسك عما سواه عزّ وجلّ واستغرق في مراقبته سبحانه وكان هذا أمر بما يتعلق بالباطن بعد الأمر بما يتعلق بالظاهر ولتأكيد ذلك قال سبحانه تَبْتِيلًا ونصبه بتبتل لتضمنه معنى بتل على ما قيل وقد تقدم الكلام في تحقيق ذلك عند قوله تعالى وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] فتذكر فما في العهد من قدم وكيفما كان الأمر ففيه مراعاة الفواصل رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مرفوع على المدح وقيل على الابتداء خبره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وقرأ زيد بن عليّ رضي الله تعالى عنهما «ربّ» بالنصب على الاختصاص والمدح وهو يؤيد الأول وقرأ الإخوان وابن عامر وأبو بكر ويعقوب «ربّ» بالجر على أنه بدل من رَبِّكَ وقيل على إضمار حرف القسم وجوابه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وفيه حذف حرف القسم من غير ما يسد مسده وإبقاء عمله وهو ضعيف جدا كما بين في العربية وقد نقل هذا عن ابن عباس وتعقبه أبو حيان بقوله لعله لا يصح عنه إذ فيه إضمار الجار في القسم ولا يجوز عند البصريين إلّا في لفظة الجلالة الكريمة نحو الله لأفعلن كذا ولا قياس عليه ولأن الجملة المنفية في جواب القسم إذا كانت اسمية تنفى بما لا غير ولا تنفى بلا إلا الجملة المصدرة بمضارع كثيرا وبماض في معناه قليلا انتهى وظاهر كلام ابن مالك في التسهيل إطلاق وقوع الجملة المنفية جوابا للقسم وقال في شرح الكافية إن الجملة الاسمية تقع جوابا للقسم مصدرة بلا النافية لكن يجب تكرارها إذا تقدم خبرها أو كان المبتدأ معرفة نحو والله لا في الدار رجل ولا امرأة وو الله لا زيد في الدار ولا عمرو ومنه يعلم أن المسألة خلافية بين هذين الإمامين وقرأ ابن عباس وعبد الله وأصحابه «رب المشارق

(15/118)


والمغارب» وبجمعهما وقد تقدم الكلام في وجه الإفراد والجمع. والفاء في قوله تعالى فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا لترتيب الأمر وموجبه على اختصاص الألوهية والربوبية به عزّ وجلّ وجل ووكيل فعيل بمعنى مفعول أي موكول إليه والمراد من اتخاذه سبحانه وكيلا أن يعتمد عليه سبحانه ويفوض كل أمر إليه عزّ وجلّ وذكر أن مقام التوكل فوق مقام التبتل لما فيه من رفع الاختيار وفيه دلالة على غاية الحب له تعالى وأنشدوا:
هواي له فرض تعطف أم جفا ... ومنهله عذب تكدر أم صفا

وكلت إلى المعشوق أمري كله ... فإن شاء أحياني وإن شاء أتلفا
ومن كلام بعض السادة: من رضي بالله تعالى وكيلا وجد إلى كل خير سبيلا وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ مما يؤلمك من الخرافات كقولهم يفرق بين الحبيب وحبيبه على ما سمعت في بعض روايات أسباب النزول وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا بأن تجانبهم وتداريهم ولا تكافئهم وتكل أمورهم إلى ربهم كما يعرب عنه قوله تعالى وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أي خل بيني وبينهم وكل أمرهم إليّ فإن في ما يفرغ بالك ويجلي همك ومر في أن تمام الكلام في ذلك وجوز في المكذبين هنا أن يكونوا هم القائلين ففيه وضع الظاهر موضع المضمر وسما لهم بميسم الذم مع الإشارة إلى علة الوعيد وجوز أن يكونوا بعض القائلين فهو على معنى ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ منهم والآية قيل نزلت في صناديد قريش المستهزئين وقيل في المطعمين يوم بدر أُولِي النَّعْمَةِ أرباب التنعم وغضارة العيش وكثرة المال والولد فالنعمة بالفتح التنعم وأما بالكسر فهي الإنعام وما ينعم به وأما بالضم فهي المسرة وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا أي زمانا قليلا وهو مدة الحياة الدنيا وقيل المدة الباقية إلى يوم بدر وأيّا ما كان فقليلا نصب على الظرفية وجوز أن يكون نصبا على المصدرية أي إمهالا قليلا والتفعيل لتكثير المفعول إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا جمع نكل بكسر النون وفتحها وهو القيد الثقيل وقيل الشديد وقال الكلبي الأنكال الأغلال الأول أعرف في اللغة وعن الشعبي لم تجعل الأنكال في أرجلهم خوفا من هربهم ولكن إذا أرادوا أن يرتفعوا استفلت بهم والجملة تعليل لقوله تعالى ذَرْنِي وما عطف عليه فكأنه قيل كل أمرهم إلي ومهلهم قليلا لأن عندي ما أنتقم به منهم أشد الانتقام أنكالا وَجَحِيماً نارا شديدة الإيقاد وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ ينشب في الحلوق ولا يكاد يساغ كالضريع والزقوم. وعن ابن عباس شوك من نار يعترض في حلوقهم لا يخرج ولا ينزل وَعَذاباً أَلِيماً يَوْمَ ونوعا آخر من العذاب مؤلما لا يقادر قدره ولا يعرف كنهه إلّا الله عزّ وجلّ كما يشعر بذلك المقابلة والتنكير وما أعظم هذه الآية
فقد أخرج الإمام أحمد في الزهد وابن أبي داود في الشريعة وابن عدي في الكامل والبيهقي في الشعب من طريق حمران بن أعين عن أبي حرب بن الأسود أن النبي صلّى الله عليه وسلم سمع رجلا يقرأ إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا إلخ فصعق
وفي رواية أنه عليه الصلاة والسلام نفسه قرأ إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا فلما بلغ أَلِيماً صعق
وقال خالد بن حسان: أمسى عندنا الحسن وهو صائم فأتيته بطعام فعرضت له هذه الآية إِنَّ لَدَيْنا إلخ فقال أرفعه فلما كانت الليلة الثانية أتيته بطعام فعرضت له أيضا فقال ارفعه وكذلك الليلة الثالثة فانطلق ابنه إلى ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء فحدثهم بحديثه فجاؤوا معه فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق. وفي الحديث السابق إذا صح ما يقيم العذر للصوفية ونحوهم الذين يصعقون عند سماع بعض الآيات ويقعد إنكار عائشة رضي الله عنها ومن وافقها عليهم اللهم إلّا أن يقال إن الإنكار ليس إلّا على من يصدر منه ذلك اختيارا وهو أهل لأن ينكر عليه كما لا يخفى أو يقال صعق من الصعق بسكون العين وقد يحرك غشي عليه لا من الصعق بالتحريك شدة الصوت وذلك مما لم

(15/119)


تنكره عائشة رضي الله تعالى عنها ولا غيرها وللإمام في الآية كلام على نحو كلام الصوفية قال اعلم أنه يمكن حمل هذه المراتب الأربعة على العقوبة الروحانية اما الأنكال فهي عبارة عن بقاء النفس في قيد التعلقات الجسمانية واللذات البدنية فإنها في الدنيا لما اكتسبت ملكة تلك المحبة والرغبة فبعد البدن يشتد الحنين مع أن آلات الكسب قد بطلت فصارت تلك كالأنكال والقيود المانعة له من التخلص إلى عالم الروح والصفاء ثم يتولد من تلك القيود الروحانية نيران روحانية فإن شدة ميلها إلى الأحوال البدنية وعدم تمكنها من الوصول إليها توجب حرقة شديدة روحانية كمن تشتد رغبته في وجدان شيء ثم إنه لا يجده فإنه يحترق قلبه عليه فذاك هو الجحيم ثم إنه يتجرع غصة الحرمان وألم الفراق فذاك هو المراد من قوله سبحانه وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ ثم إنه بسبب هذه الأحوال بقي محروما عن تجلي نور الله تعالى والانخراط في سلك القدسيين وذلك هو المراد بقوله عزّ وجلّ وَعَذاباً أَلِيماً وتنكير عَذاباً يدل على أنه أشد مما تقدم وأكمل وأعلم أني لا أقول المراد بالآية ما ذكرته فقط بل أقول إنها تفيد حصول المراتب الأربعة الجسمانية وحصول المراتب الأربعة الروحانية ولا يمتنع الحمل عليهما وإن كان اللفظ بالنسبة إلى المراتب الجسمانية حقيقة وبالنسبة إلى المراتب الروحانية مجازا لكنه مجاز متعارف مشهور انتهى وتعقب بأنه بالحمل عليهما يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز أو عموم المجاز من غير قرينة وليس في الكلام ما يدل عليه بوجه من الوجوه وأنت تعلم أن أكثر باب الإشارة عند الصوفية من هذا القبيل وقوله تعالى تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ قيل متعلق بذرني وقيل صفة عَذاباً وقيل متعلق بأليما واختار جمع أنه متعلق بالاستقرار الذي تعلق به لَدَيْنا أي استقر ذلك العذاب لدينا وظهر يوم تضطرب الأرض والجبال وتتزلزل وقرأ زيد بن علي «ترجف» مبنيا للمفعول وَكانَتِ الْجِبالُ مع صلابتها وارتفاعها كَثِيباً رملا مجتمعا من كثب الشيء إذا جمعه فكأنه في الأصل فعيل بمعنى مفعول ثم غلب حتى صار له حكم الجوامد والكلام على التشبيه البليغ وقيل لا مانع من أن تكون رملا حقيقة مَهِيلًا قيل أي رخوا لينا إذا وطئته القدم زل من تحتها وقيل منثورا من هيل هيلا إذا نثر وأسيل وكونه كثيبا باعتبار ما كان عليه قبل النثر فلا تنافي بين كونه مجتمعا ومنثورا وليس المراد أنه في قوة ذلك وصدده كما قيل إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ خطاب للمكذبين أولي النعمة سواء جعلوا القائلين أو بعضهم ففيه التفات من الغيبة وهو التفات جليل الموقع أي إنا أرسلنا إليكم أيها المكذبون من أهل مكة رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ يشهد يوم القيامة بما صدر منكم من الكفر والعصيان كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا هو موسى عليه السلام وعدم تعيينه لعدم دخله في التشبيه أو لأنه معلوم غني عن البيان فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ المذكور الذي أرسلناه إليه فالتعريف للعهد الذكري والكاف في محل النصب على أنها صفة لمصدر محذوف على تقدير اسميتها أي إرسالا مثل إرسالنا أو الجار والمجرور في موضع الصفة على تقدير حرفيتها أي إرسالا كائنا كما والمعنى أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم فعصيتموه كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصاه وفي إعادة فرعون والرسول مظهرين تفظيع لشأن عصيانه وإن ذلك لكونه عصيان الرسول لا لكونه عصيان موسى وفيه إن عصيان المخاطبين أفظع وأدخل في الدم إذ زاد جل وعلا لهذا الرسول وصفا آخر أعني شاهِداً عَلَيْكُمْ وأدمج
فيه أنه لو آمنوا كانت الشهادة لهم وقوله تعالى فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا أي ثقيلا رديء العقبى من قولهم كلأ وبيل وحم لا يستمرأ لثقله والوبيل أيضا العصا الضخمة ومنه الوابل للمطل العظيم قطره خارج عن التشبيه جيء به لإيذان المخاطبين بأنهم مأخوذون بمثل ذلك وأشد وأشد وقوله تعالى فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً مراتب على الإرسال فالعصيان ويَوْماً مفعول به لتتقون ما بتقدير مضاف

(15/120)


أي عذاب أو هول يوم أو بدونه إلّا أن المعنى عليه وضمير يَجْعَلُ لليوم والجملة صفته والإسناد مجازي وقال بعض الضمير لله تعالى والإسناد حقيقي والجملة صفة محذوفة الرابط أي يجعل فيه كما في قوله تعالى وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ [البقرة: 48] وكان ظاهر الترتيب أن يقدم على قوله تعالى كَما أَرْسَلْنا إلا انه أخر إلى هنا زيادة على زيادة في التهويل فكأنه قيل هبوا أنكم لا تؤخذون في الدنيا أخذة فرعون وأضرابه فكيف تقون أنفسكم هول القيامة وما أعد لكم من الأنكال إن دمتم على ما أنتم عليه ومتم في الكفر وفي قوله سبحانه إِنْ كَفَرْتُمْ وتقديره تقدير مشكوك في وجوده ما ينبه على أنه لا ينبغي أن يبقى مع إرسال هذا الرسول لأحد شبهة تبقيه في الكفر فهو النور المبين وجوز أن يكون يوما ظرفا لتتقون على معنى فكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا والكلام حينئذ للحث على الإقلاع من الكفر والتحذير عن مثل عاقبة آل فرعون قبل أن لا ينفع الندم وجوز أيضا أن ينتصب بكفرتم على تأويل جحدتم والمعنى فكيف يرجى إقلاعكم عن الكفر واتقاء الله تعالى وخشيته وأنتم جاحدون يوم الجزاء كأنه لما قيل يوم ترجف عقب بقوله تعالى فَكَيْفَ تَتَّقُونَ الله إِنْ كَفَرْتُمْ به فأعيد ذكر اليوم بصفة أخرى زيادة في التهويل والوجه الأول أولى قاله في الكشف وقال العلامة الطيبي في الوجه الأخير أعني انتصاب يَوْماً بكفرتم أنه أوفق للتأليف يعني خوفناكم بالإنكال والجحيم وأرسلنا إليكم رسولا شاهدا يوم القيامة بكفركم وتكذيبكم وأنذرناكم بما فعلنا بفرعون من العذاب الوبيل والأخذ الثقيل فما نجع فيكم ذلك كله ولا اتقيتم الله تعالى فكيف تتقونه وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء وفيه أن ملاك التقوى والخشية الإيمان بيوم القيامة انتهى. ولا يخفى أن جزالة المعنى ترجح الأول وذهب جمع إلى أن الخطاب في إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ عام للأسود والأحمر فالظاهر أنه ليس من الالتفات في شيء وأيّا ما كان فجعل الولدان شيبا أي شيوخا جمع أشيب قيل حقيقة فتشيب الصبيان وتبيض شعورهم من شدة يوم القيامة وذلك على ما أخرج ابن المنذر عن ابن مسعود حين يقول الله تعالى لآدم عليه السلام قم فأخرج من ذريتك بعث النار فيقول يا رب لا علم لي إلّا ما علمتني فيقول الله عزّ وجلّ أخرج بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فيخرجون ويساقون إلى النار سوقا مقرنين زرقا كالحين قال ابن مسعود فإذا خرج بعث النار شاب كل وليد وفي حديث الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس نحن ذلك وقيل مثل في شدة الهول من غير أن يكون هناك شيب بالفعل فإنهم يقولون في اليوم الشديد يوم يشيب نواصي الأطفال والأصل في ذلك أن الهموم إذا تفاقمت على المرء أضعفت قواه وأسرعت فيه الشيب ومن هنا قيل الشيب نوار الهموم وحديث البعث لا يأبى هذا وجوز الزمخشري أن يكون ذلك وصفا لليوم بالطول وأن الأطفال يبلغون فيه أو أن الشيخوخة والشيب وليس المراد به التقدير الحقيقي بل وصف بالطول فقط على ما تعارفوه وإلّا فهو أطول من ذاك وأطول فلا اعتراض لكنه مع هذا ليس بذلك والظاهر عموم الولدان وقال السدي هم هنا أولاد الزنا وقيل هم أولاد المشركين وقرأ زيد بن علي «يوم» بغير تنوين «نجعل» بالنون فالظرف مضاف إلى جملة نجعل إلخ السَّماءُ مُنْفَطِرٌ أي منشق وقرىء «متفرط» أي متشقق بِهِ أي بذلك اليوم والباء للآلة مثلها في قولك فطرت العود بالقدوم فانفطر به يعني أن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر بشدة ذلك اليوم وهوله كما ينفطر الشيء بما يفطر به فما ظنك بغيرها من الخلائق وجوز أن يراد السماء مثقلة به الآن أثقالا يؤدي إلى انفطارها لعظمه عليها
وخشيتها من وقوعه كقوله تعالى ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ [الأعراف:
187] فالكلام من باب التخييل والانفطار كناية عن المبالغة في ثقل ذلك اليوم والمراد إفادة أنه الآن على هذا الوصف والأول أظهر وأوفق لأكثر الآيات وكان الظاهر السماء منفطرة بتأنيث الخبر لأن المشهور أن السماء

(15/121)


إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

مؤنثة لكن اعتبر إجراء ذلك على موصوف مذكر فذكر أي شيء منفطر به والنكتة فيه التنبيه على أنه تبدلت حقيقتها وزال عنها اسمها ورسمها ولم يبق منها إلّا ما يعبر عنه بالشيء. وقال أبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة والكسائي وتبعهم منذر بن سعيد التذكير لتأويل السماء بالسقف وكان النكتة فيه تذكير معنى السقفية والإضلال ليكون أمر الانفطار أدهش وأهول وقال أبو عليّ الفارسي التقدير ذات انفطار كقولهم امرأة مرضع أي ذات رضاع فجرى على طريق النسب وحكي عنه أيضا أن هذا من باب الجراد المنتشر والشجر الأخضر وأعجاز نخل منقعر يعني أن السماء من باب اسم الجنس الذي بينه وبين مفرده تاء التأنيث وأن مفرده سماءة واسم الجنس يجوز فيه التذكير والتأنيث فجاء منفطر على التذكير وقال الفراء السماء يعني المظلة تذكر وتؤنث فجاء مُنْفَطِرٌ على التذكير ومنه قوله الشاعر:
فلو رفع السماء إليه قوما ... لحقنا بالسماء وبالسحاب
وعليه لا حاجة إلى التأويل وإنما تطلب نكتة اعتبار التذكير مع أن الأكثر في الاستعمال اعتبار التأنيث ولعلها ظاهرة لمن له أدنى فهم وحمل الباء في بِهِ على الآلة هو الأوفق لتهويل أمر ذلك اليوم وجوز حملها على الظرفية أي السماء منفطر فيه وعود الضمير المجرور على اليوم هو الظاهر الذي عليه الجمهور وقال مجاهد يعود على الله تعالى أي بأمره سبحانه وسلطانه عزّ وجلّ فهو عنده كالضمير في قوله تعالى كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا فإنه له تعالى لعلمه من السباق والمصدر مضاف إلى فاعله ويجوز أن يكون لليوم كضمير به عند الجمهور والمصدر مضاف إلى مفعوله إِنَّ هذِهِ إشارة إلى الآيات المنطوية على القوارع المذكورة تَذْكِرَةٌ أي موعظة فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا بالتقرب إليه تعالى بالإيمان والطاعة فإنه المنهاج الموصل إلى مرضاته عزّ وجلّ ومفعول شاءَ محذوف والمعروف في مثله أن يقدر من جنس الجواب أي فمن شاء اتخاذ سبيل إلى ربه تعالى اتخذ إلخ وبعض قدره الاتعاظ لمناسبة ما قبل أي فمن شاء الاتعاظ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا والمراد من نوى أن يحصل له الاتعاظ تقرب إليه تعالى لكن ذكر السبب وأريد مسببه فهو الجزاء في الحقيقة واختار في البحر ما هو المعروف وقال إن الكلام على معنى الوعد والوعيد.
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ أي زمانا أقل منهما استعمل فيه الأدنى وهو اسم تفضيل من دنا إذا قرب لما أن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز فهو فيه مجاز مرسل لأن القرب يقتضي قلة الاحياز بين الشيئين فاستعمل في لازمه أو في مطلق القلة وجوز اعتبار التشبيه بين القرب والقلة ليكون هناك استعارة والإرسال أقرب وقرأ الحسن وشيبة وأبو حيوه وابن السميفع وهشام وابن مجاهد عن قنبل فيما ذكر صاحب الكامل «ثلثي» بإسكان اللام وجاء ذلك عن نافع وابن عامر فيما ذكر صاحب اللوامح وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بالنصب عطفا على أَدْنى كأنه قيل يعلم أنك تقوم من الليل أقل من ثلثيه وتقوم نصفه وتقوم ثلثه وقرأ العربيان ونافع ونصفه وثلثه بالجر عطفا على ثُلُثَيِ اللَّيْلِ أي تقوم أقل من الثلثين وأقل من

(15/122)


النصف وأقل من الثلث والأول مطابق لكون التخيير فيما مر بين قيام النصف بتمامه وبين قيام الناقص منه وهو الثلث وبين قيام الزائد عليه وهو الأدنى من الثلثين والثاني مطابق لكون التخيير بين النصف وهو أدنى من الثلثين وبين الثلث وهو أدنى من النصف وبين الربع وهو أدنى من الثلث كذا قال غير واحد فلا تغفل واستشكل الأمر بأن التفاوت بين القراءتين ظاهر فكيف وجه صحة علم الله تعالى لمدلولها وهما لا يجتمعان وأجيب بأن ذلك بحسب الأوقات فوقع كل في وقت فكانا معلومين له تعالى واستشكل أيضا هذا المقام على تقدير كون الأمر واردا بالأكثر بأنه يلزم إما مخالفة النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما أمر به أو اجتهاده والخطأ في موافقة الأمر وكلاهما غير صحيح أنا الأول فظاهر لا سيما على كون الأمر للوجوب وأما الثاني فلأن من جوز اجتهاده عليه الصلاة والسلام والخطأ فيه يقول إنه لا يقر عليه الصلاة والسلام على الخطأ وأجيب بالتزام أن الأمر وارد بالأقل لكنهم زادوا حذرا من الوقوع في المخالفة وكان يشق عليهم وعلم الله سبحانه أنهم لو لم يأخذوا بالأشق وقعوا في المخالفة فنسخ سبحانه الأمر كذا قيل فتأمل فالمقام بعد محتاج إليه وقرأ ابن كثير في رواية شبل «وثلثه» بإسكان اللام وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ عطف على الضمير المستتر في تَقُومُ وحسنه الفصل بينهما أي وتقوم معك طائفة من أصحابك وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يعلم مقادير ساعاتهما كما هي إلّا الله تعالى فإن تقديم اسمه تعالى مبتدأ مبينا عليه يقدر دال على الاختصاص على ما ذهب إليه جار الله ويؤيده قوله تعالى عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فإن الضمير لمصدر يقدر لا للقيام المفهوم من الكلام والمعنى علم أن الشأن لن تقدروا على تقدير الأوقات ولن تستطيعوا ضبط الساعات ولا يتأتى لكم حسابها بالتعديل والتسوية إلّا أن تأخذوا بالأوسع للاحتياط وذلك شاق عليكم بالغ منكم فَتابَ عَلَيْكُمْ أي بالترخيص في ترك القيام المقدر ورفع التبعة عنكم في تركه فالكلام على الاستعارة حيث شبه الترخيص بقبول التوبة في رفع التبعة واستعمل اللفظ الشائع في المشبه به في المشبه كما في قوله تعالى فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة:
187] وزعم بعضهم أنه على ما يتبادر منه فقال فيه دليل على أنه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به وليس بشيء فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل عبر عن الصلاة بالقراءة كما عبر عنها بسائر أركانها. وقيل الكلام على حقيقته من طلب قراءة القرآن بعينها وفيه بعد عن مقتضى السياق ومن ذهب أي الأول قال إن الله تعالى افترض قيام مقدار معين من الليل في قوله سبحانه قُمِ اللَّيْلَ إلخ ثم نسخ بقيام مقدار ما منه في قوله سبحانه فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا الآية فالأمر في الموضعين للوجوب إلّا أن الواجب أولا كان معينا من معينات وثانيا كان بعضا مطلقا ثم نسخ وجوب القيام على الأمة مطلقا بالصلوات الخمس ومن ذهب إلى الثاني قال: إن الله تعالى رخص لهم في ترك جميع القيام وأمر بقراءة شيء من القرآن ليلا فكأنه قيل فتاب عليكم ورخص في الترك فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ إن شق عليكم القيام فإن هذا لا يشق وتنالون بهذه القراءة ثواب القيام وصرح جمع أن فَاقْرَؤُا على هذا أمر ندب بخلافه على الأول هذا واعلم أنهم اختلفوا في أمر التهجد فعن مقاتل وابن كيسان أنه كان فرضا بمكة قبل أن تفرض الصلوات الخمس ثم نسخ بهن إلّا ما تطوعوا به ورواه البخاري ومسلم في حديث جابر،
وروى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والدارمي وابن ماجة والنسائي عن سعد بن هشام قال قلت لعائشة: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى قالت: فإن خلق نبي الله تعالى القرآن قال: فهممت أن أقوم ولا أسأل أحدا عن شيء حتى أموت ثم بدا لي فقلت أنبئيني عن قيام رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: ألست تقرأ يا أيها المزمل؟ قلت: بلى، قالت: فإن الله تعالى افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام نبي الله وأصحابه حولا

(15/123)


وأمسك الله تعالى خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء حتى أنزل الله تعالى في آخر السورة التخفيف وصار قيام الليل تطوعا
. وفي رواية عنها أنه دام ذلك ثمانية أشهر وعن قتادة دام عاما أو عامين وعن بعضهم أنه كان واجبا وإنما وقع التخيير في المقدار ثم نسخ بعد عشر سنين وكان الرجل كما قال الكلبي يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ ما بين النصف والثلث والثلثين وقيل كان نفلا بدليل التخيير في المقدار وقوله تعالى وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الإسراء: 79] حكاه غير واحد وبحثوا فيه لكن قال الإمام صاحب الكشف لم يرد هذا القائل إن التخيير ينافي الوجوب بل استدل بالاستقراء وإن الفرائض لها أوقات محدودة متسعة كانت أو ضيقة لم يفوض التحديد إلى رأي الفاعل وهو دليل حسن. وأما القائل بالفرضية فقد نظر إلى اللفظ دون الدليل الخارجي ولكل وجه وأما قوله ولقوله تعالى وَمِنَ اللَّيْلِ إلخ فالاستدلال بأنه فسر نافِلَةً لَكَ أن معناه زائدة على الفرائض لك خاصة دون غيرك لأنها تطوع لهم وهذا القائل لا يمنع الوجوب في حقه عليه الصلاة والسلام وإنما يمنعه في حق غيره صلّى الله عليه وسلم والآية تدل عليه فلا نظر فيه ثم إنه لما ذكر سبحانه في تلك السورة وَمِنَ اللَّيْلِ أي خص بعض الليل دون توقيت وهاهنا وقت جل وعلا ودل على مشاركة الأمة له عليه الصلاة والسلام قوله تعالى وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ نزل ما ثم على الوجوب عليه صلّى الله عليه وسلم خاصة وهاهنا على التنفل في حقه وحق الأمة وهذا قول سديد إلّا أن قوله تعالى عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ يؤيد الأول انتهى وعنى بالأول القول بالفرضية عليه عليه الصلاة والسلام وعلى الأمة وظواهر الآثار الكثيرة تشهد له لكن في البحر أن قوله تعالى وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ دليل على أنه لم يكن فرضا على الجميع إذ لو كان فرضا عليهم لكان التركيب (والَّذِينَ مَعَكَ) إلّا أن أعتقد أنه كان منهم من يقوم في بيته ومنهم من يقوم معه فيمكن إذ ذاك الفرضية في حق الجميع انتهى وأنت تعلم أنه لا يتعين كون مِنْ تبعيضية بل تحتمل أن تكون بيانية ومن يقول بالفرضية على الكل صدر الإسلام بحملها على ذلك دون البعضية باعتبار المعية فإنها ليست بذاك والله تعالى أعلم. وأفادت الآية على القول الأخير في قوله سبحانه فَاقْرَؤُا إلخ ندب قراءة شيء من القرآن ليلا وفي بعض الآثار من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن وفي بعضها من قرأ مائة آية كتب من القانتين وفي بعض خمسين آية والمعول عليه من القولين فيه القول الأول وقد سمعت أن الأمر عليه للإيجاب وأنه كان يجب قيام شيء من الليل ثم نسخ وجوبه عن الأمة بوجوب الصلوات الخمس فهو اليوم في حق الأمة سنة وفي البحر بعد تفسير فَاقْرَؤُا يصلوا وحكاية ما قيل من النسخ وهذا الأمر عند الجمهور أمر إباحة وقال الحسن وابن سيرين قيام الليل فرض ولو قدر حلب شاة وقال ابن جبير وجماعة هو فرض لا بد منه ولو بمقدار خمسين آية انتهى. وظاهر سياقه أن هؤلاء قائلون بوجوبه اليوم وأنه لم ينسخ الوجوب مطلقا وإنما نسخ وجوب معين وهذا خلاف المعروف فعن ابن عباس سقط قيام الليل عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصار تطوعا وبقي ذلك فرضا على رسول الله عليه الصلاة والسلام وأظن الأمر غنيا عن الاستدلال فلنطو بساط القيل والقال نعم كان السلف الصالح يثابرون على القيام مثابرتهم على فرائض الإسلام لما في ذلك من الخلوة بالحبيب والأنس به وهو القريب من غير رقيب نسأل الله تعالى أن يوفقنا كما وفقهم ويمن علينا كما منّ عليهم بقي هنا بحث وهو أن الإمام أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه استدل بقوله تعالى فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ على أن الفرض في الصلاة مطلق القراءة لا الفاتحة بخصوصها وهو ظاهر على القول بأنه عبر فيه عن الصلاة بركنها وهو القراءة كما عبر عنها بالسجود والقيام والركوع في مواضع وقدر ما تيسر بآية على ما حكاه عنه الماوردي وبثلث على ما حكاه عنه ابن العربي والمسألة مقررة في الفروع وخص الشافعي ومالك ما تيسر

(15/124)


بالفاتحة واحتجوا على وجوب قراءتها في الصلاة بحجج كثيرة
منها ما
نقل أبو حامد الأسفرايني عن ابن المنذر بإسناده عن أبي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام «لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب»
ومنها ما
روي أيضا عن أبي هريرة عنه صلّى الله عليه وسلم: «كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج فهي خداج»
أي نقصان للمبالغة أو ذو نقصان واعترض بأن النقصان لا يدل على عدم الجواز وأجيب بأنه يدل لأن التكليف بالصلاة قائم والأصل في الثابت البقاء خالفناه عند الإتيان بها على صفة الكمال فعند النقصان وجب أن يبقى على الأصل ولا يخرج عن العهدة وأكد بقول أبي حنيفة بعدم جواز صوم يوم العيد قضاء عن رمضان مع صحة الصوم فيه عنده مستدلا عليه بأن الواجب عليه الصوم الكامل والصوم في هذا اليوم ناقص فلا يفيد الخروج عن العهدة ومنها
قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»
وهو ظاهر في المقصود إذ التقدير لا صلاة صحيحة إلّا بها واعترض بجواز أن يكون التقدير لا صلاة كاملة فإنه لما امتنع نفي مسمى الصلاة لثبوته دون الفاتحة لم يكن بد من صرفه إلى حكم من أحكامها وليس الصرف إلى الصحة أولى من الصرف إلى الكمال وأجيب بأنّا لا نسلم امتناع دخول النفي على مسماها لأن الفاتحة إذا كانت جزءا من ماهية الصلاة تنفي الماهية عند عدم قراءتها فيصح دخوله على مسماها وإنما يمتنع لو ثبت أنها ليست جزءا منها وهو أول المسألة سلمناه لكن لا نسلم أن صرفه إلى الصحة ليس أولى من صرفه إلى الكمال بل هو أولى لأن الحمل على المجاز الأقرب عند تعذر الحمل على الحقيقة أولى بل واجب بالإجماع ولا شك أن الموجود الذي لا يكون صحيحا أقرب إلى المعدوم من الموجود الذي يكون كاملا ولأن الأصل بقاء ما كان وهو التكليف على ما كان ولأن جانب الحرمة أرجح لأنه أحوط ومنها أن الصلاة بدون الفاتحة توجب فوات الفضيلة الزائدة من غير ضرورة للإجماع على أن الصلاة معها أفضل فلا يجوز المصير إليه لأنه قبيح عرفا فيكون قبيحا شرعا
لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن. وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح»
ومنها أن قراءتها توجب الخروج عن العهدة بيقين فتكون أحوط فوجب القول بوجوبها
لنص: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»
وللمعقول وهو دفع ضرر الخوف عن النفس فإنه واجب. وكون اعتقاد الوجوب يورث الخوف لجواز كوننا مخطئين معارض باعتقاد عدمه فيتقابلان وأما في العمل فالقراءة لا توجب الخوف وتركها يوجبه فالأحوط القراءة إلى غير ذلك وأجاب ساداتنا الحنفية بما أجابوا واستدلوا على أن الواجب ما تيسر من القرآن لا الفاتحة بخصوصها بأمور منها ما
روى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة أنه قال: أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أخرج وأنادي لا صلاة إلّا بقراءة ولو بفاتحة الكتاب
ودفع بأنه معارض بما
نقل عن أبي هريرة أنه قال: أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أخرج وأنادي لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب
وبأنه يجوز أن يكون المراد من قوله ولو بفاتحة الكتاب هو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى ويجب الحمل عليه جمعا بين الأدلة وفيه تعسف ولعل الأول في الجواب جواز كون المراد ولو بفاتحة الكتاب ما هو السابق إلى الفهم من قول القائل لا حياة إلّا بقوت ولو الخبز كل يوم أوقية وهو أن هذا القدر لا بد منه وعليه يصير الحديث من أدلة الوجوب ومنها أنه لو وجبت الفاتحة لصدق قولنا كلما وجبت القراءة وجبت الفاتحة ومعناه مقدمة صادقة وهي أنه لو لم تجب الفاتحة لوجبت القراءة لوجوب مطلق القراءة بالإجماع فتنتج المقدمتان لو لم تجب الفاتحة لوجبت الفاتحة وهو باطل وأجيب بمنع الصغرى أي لا نسلم صدق قولنا لو لم تجب الفاتحة لوجبت القراءة لأن عدم وجوب الفاتحة محال والمحال جاز أن يستلزم المحال وهو رفع وجوب مطلق القراءة الثابت بالإجماع سلمناها لكن لا نسلم استحالة قولنا لو لم تجب الفاتحة لوجبت الفاتحة لما ذكر آنفا وجعل بعض القياس حجة على الحنفية لأن كل ما استلزم عدمه

(15/125)


وجوده ثبت وجوده ضرورة ورد بأن هذا إنما يلزم لو كانت الملازمة وهي قولنا لو لم تجب الفاتحة لوجبت ثابتة في نفس الأمر وليس كذلك بل هي ثابتة على تقدير وجوب قراءة الفاتحة فلهذا لا يصير حجة عليهم وتمام الكلام على ذلك في موضعه وأنت تعلم أنه على القول الثاني في الآية لا يظهر الاستدلال بها على فرضية مطلق القراءة في الصلاة إذ ليس فيها عليه أكثر من الأمر بقراءة شيء من القرآن قل أو أكثر بدل ما افترض عليهم من صلاة الليل فليتنبه وقوله تعالى عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى استئناف مبين لحكمة أخرى غير ما تقدم من عسرة إحصاء تقدير الأوقات مقتضية للترخيص والتخفيف أي علم أن الشأن سيكون منكم مرضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يسافرون فيها للتجارة يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وهو الربح وقد عمم ابتغاء الفضل لتحصيل العلم والجملة في موضع الحال وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني المجاهدين وفي قرن المسافرين لابتغاء فضل الله تعالى بهم إشارة إلى أنهم نحوهم في الأجر أخرج سعيد بن منصور والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل الله أحب إليّ من أن يأتيني وأنا بين شعبتي جبل ألتمس من فضل الله تعالى وتلا هذه الآية وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ إلخ
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما من جالب يجلب طعاما إلى بلد من بلدان المسلمين فيبيعه لسعر يومه إلّا كانت منزلته عند الله» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم «وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»
والمراد أنه عزّ وجلّ علم أن سيكون من المؤمنين من يشق عليه القيام كما علم سبحانه عسر إحصاء تقدير الأوقات وإذا كان الأمر كما ذكر وتعاضدت مقتضيات الترخيص فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ أي من القرآن من غير تحمل المشاق وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي المفروضة وَآتُوا الزَّكاةَ كذلك وعلى هذا أكثر المفسرين والظاهر أنهم عنوا بالصلاة المفروضة الصلوات الخمس وبالزكاة المفروضة أختها المعروفة واستشكل بأن السورة من أوائل ما نزل بمكة ولم تفرض الصلوات الخمس إلا بعد الإسراء والزكاة إنما فرضت بالمدينة وأجيب بأن الذاهب إلى ذلك يجعل هذه الآيات مدنية وقيل إن الزكاة فرضت بمكة من غير تعيين للأنصباء والذي فرض بالمدينة تعيين الأنصباء فيمكن أن يراد بالزكاة الزكاة المفروضة في الجملة فلا مانع عن كون الآيات مكية لكن يلتزم لكونها نزلت بعد الإسراء وحكمها على صلاة الليل السابقة حيث كانت مفروضة تنافي الترخيص وقيل يجوز أن تكون الآية مما تأخر حكمه عن نزوله وليس بذاك وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أريد به الانفاقات في سبيل الخيرات أو أداء الزكاة على أحسن الوجوه وأنفعها للفقراء وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ أي خير كان مما ذكر ومما لم يذكر تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً أي من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت وخَيْراً ثاني مفعولي تَجِدُوهُ وهو تأكيد لضمير تَجِدُوهُ وإن كان بصورة المرفوع والمؤكد منصوب لأن هو يستعار لتأكيد المجرور والمنصوب كما ذكره الرضي أو ضمير فصل وإن لم يقع بين معرفتين فإن أفعل من حكم المعرفة ولذا يمتنع من حرف التعريف كالعلم وجوز أبو البقاء البدلية من ضمير تَجِدُوهُ ووهمه أبو حيان بأن الواجب عليها إياه وقرأ أبو السمال باللام العدوي وأبو السماك بالكاف الغنوي وأبو السميفع هو «خير وأعظم» برفعهما على الابتداء والخبر وجعل الجملة في موضع المفعول الثاني قال أبو زيد هي لغة بني تميم يرفعون ما بعد الفاصلة يقولون كان زيد هو الفاعل بالرفع وعليه قول قيس بن ذريح:
تحن إلى لبنى وأنت تركتها ... وكنت عليها بالملا أنت أقدر

(15/126)


فقد قال أبو عمرو الجرمي أنشده سيبويه شاهدا للرفع والقوافي مرفوع ويروى أقدرا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ في كافة أحوالكم فإن الإنسان قلما يخلو مما يعد تفريطا بالنسبة إليه وعد من ذلك الصوفية رؤية العابد عبادته قيل ولهذا الإشارة أمر بالاستغفار بعد الأوامر السابقة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقراض الحسن إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر سبحانه ذنب من استغفره ويرحمه عزّ وجلّ وفي حذف المعمول دلالة على العموم وتفصيل الكلام فيه معلوم نسأل الله تعالى عظيم مغفرته ورحمته لنا ولوالدينا ولكافة مؤمني بريته بحرمة سيد خليقته وسند أهل صفوته صلّى الله عليه وسلم وصحبه وشيعته.

(15/127)


سورة المدّثر
مكية قال ابن عطية بإجماع وفي التحرير قال مقاتل إلّا آية وهي وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً [المدثر:
31] إلخ وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يشعر بأن قوله تعالى عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 30] مدني بما فيه وآيها ست وخمسون في العراقي والمدني الأول وخمس وخمسون في الشامي والمدني الأخير على ما فصل في محله، وهي متواخية مع السورة قبلها في الافتتاح بنداء النبيّ صلّى الله عليه وسلم وصدر كليهما نازل على المشهور في قصة واحدة وبدئت تلك بالأمر بقيام الليل وهو عبادة خاصة وهذه بالأمر بالإنذار وفيه من تكميل الغير ما فيه. وروى أمية الأزدي عن جابر بن زيد وهو من علماء التابعين بالقرآن أن المدثر نزلت عقب المزمل وأخرج ابن الضريس عن ابن عباس وجعلوا ذلك من أسباب وضعها بعدها والظاهر ضعف هذا القول
فقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وجماعة عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن فقال:
يا أيها المدثر، قلت: يقولون اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: 1] فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل ما قلت فقال جابر: لا أحدثك إلّا ما حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئثت منه رعبا فرجعت فقلت دثروني فدثروني فنزلت يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ

[المدثر: 1- 3]
وفي رواية «فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني زملوني فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ- إلى قوله- فَاهْجُرْ

فإن القصة واحدة ولو كانت يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ هي النازلة قبل فيها لذكرت نعم ظاهر هذا الخبر يقتضي أن يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ نزل قبل اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ والمروي في الصحيحين وغيرهما عن عائشة أن ذاك أول ما نزل من قرآن وهو الذي ذهب إليه أكثر الأمة حتى قال بعضهم هو الصحيح، ولصحة الخبرين احتاجوا للجواب فنقل في الإتقان خمسة أجوبة الأول أن السؤال في حديث جابر كان عن نزول سورة كاملة فبين أن سورة المدثر نزلت بكمالها قبل تمام سورة اقْرَأْ فإن أول ما نزل منها صدرها الثاني أن مراد جابر بالأولية أولية مخصوصة بما بعد فترة الوحي لا أولية مطلقة الثالث أن المراد أولية مخصوصة بالأمر بالإنذار، وعبر بعضهم عن هذا بقوله أول ما نزل للنبوة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وأول ما نزل للرسالة يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ الرابع أن المراد أول ما نزل بسبب متقدم وهو ما وقع من التدثر الناشئ عن الرعب وأما اقرأ فنزلت ابتداء بغير سبب متقدم الخامس أن جابر استخرج ذلك باجتهاده وليس هو من روايته فيقدم عليه ما روت عائشة رضي الله تعالى عنها ثم قال: وأحسن هذه الأجوبة الأول والأخير انتهى وفيه نظر فتأمل ولا تغفل.

(15/128)


يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ أصله المتدثر فأدغم وهو على الأصل في حرف أبيّ من تدثر لبس الدثار بكسر الدال وهو ما فوق القميص الذي يلي البدن ويسمى شعارا لاتصاله بالبشرة والشعر. ومنه
قوله عليه الصلاة والسلام: «الأنصار شعار والناس دثار»
والتركيب على ما قيل دائر مع معنى الستر على سبيل الشمول كان الدثار ستر بالغ مكشوف نودي صلّى الله عليه وسلم باسم مشتق من صفته التي كان عليها تأنيسا له وملاطفة كما سمعت في يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ وتدثره عليه الصلاة والسلام لما سمعت آنفا.
وأخرج الطبراني وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما فلما أكلوا قال: ما تقولون في هذا الرجل؟
فاختلفوا ثم اجتمع رأيهم على أنه سحر يؤثر فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلم فحزن وقنع رأسه وتدثر أي كما يفعل المغموم فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ- إلى قوله تعالى- وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ

. وقيل المراد بالمدثر المتدثر بالنبوة والكمالات النفسانية على معنى المتحلي بها والمتزين بآثارها، وقيل أطلق الْمُدَّثِّرُ وأريد به الغائب عن النظر على الاستعارة والتشبيه فهو نداء له بما كان عليه في غار حراء. وقيل: الظاهر أن يراد بالمدثر وكذا بالمزمل الكناية عن المستريح الفارغ لأنه في أول البعثة فكأنه قيل له عليه الصلاة والسلام قد مضى زمن الراحة وجاءتك المتاعب من التكاليف وهداية الناس وأنت تعلم أنه لا ينافي إرادة الحقيقة وأمر التلطيف على حاله.
وقال بعض السادة أي يا أيها الساتر للحقيقة المحمدية بدثار الصورة الآدمية أو يا أيها الغائب عن أنظار الخليقة فلا يعرفك سوى الله تعالى على الحقيقة إلى غير ذلك من العبارات، والكل إشارة إلى ما قالوا في الحقيقة المحمدية من أنها حقيقة الحقائق التي لا يقف على كنهها أحد من الخلائق وعلى لسانها قال من قال:
وإني وإن كنت ابن آدم صورة ... فلي فيه معنى شاهد بأبوتي
وأنها التعين الأول وخازن السر المقفل وأنها وأنها إلى أمور هيهات أن يكون للعقل إليها منتهى.

(15/129)


أعيا الورى فهم معناه فليس يرى ... في القرب والبعد منه غير منفحم

كالشمس تظهر للعينين من بعد ... صغيرة وتكل الطرف من أمم

وكيف يدرك في الدنيا حقيقته ... قوم نيام تسلوا عنه بالحلم

فمبلغ العلم فيه أنه بشر ... وأنه خير خلق الله كلهم
وقرأ عكرمة «المدثّر» بتخفيف الدال وتشديد الثاء المكسورة على زنة الفاعل وعنه أيضا «المدثّر» بالتخفيف والتشديد على زنة المفعول من دثره وقال دثرت هذا الأمر وعصب بك أي شد والمعنى أنه المعول عليه فالعظائم به منوطة وأمور حلها وعقدها به مربوطة فكأنه قيل يا من توقف أمور الناس عليه لأنه وسيلتهم عند الله عز وجل قُمْ من مضجعك أو قم قيام عزم وتصميم، وجعله أبو حيان على هذا المعنى من أفعال الشروع كقولهم: قام زيد يفعل كذا وقوله:
علام قام يشتمني لئيم وقام بهذا المعنى من أخوات كاد وتعقب بأنه لا يخفى بعده هنا لأنه استعمال غير مألوف وورود الأمر منه غير معروف مع احتياجه إلى تقدير الخبر فيه وكله تعسف فَأَنْذِرْ أي فافعل الإنذار أو أحدثه فلا يقصد منذر مخصوص، وقيل يقدر المفعول خاصا أي فأنذر عشيرتك الأقربين لمناسبته لابتداء الدعوة في الواقع، وقيل يقدر عاما أي فأنذر جميع الناس لقوله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ: 28] ولم يقل هنا وبشر لأنه كان في ابتداء النبوة والإنذار هو الغالب إذ ذاك أو هو اكتفاء لأن الإنذار يلزمه التبشير وفي هذا الأمر بعد ذلك النداء إشارة عند بعض السادة إلى مقام الجلوة بعد الخلوة. قالوا: وإليهما الإشارة أيضا في
حديث: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف»
إلخ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ واخصص ربك بالتكبير وهو وصفه تعالى بالكبرياء والعظمة اعتقادا وقولا.
ويروى أنه لما نزل قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الله أكبر» فكبرت خديجة وفرحت وأيقنت أنه الوحي
وذلك لأن الشيطان لا يأمر بذلك والأمر بالنسبة إليه صلّى الله عليه وسلم غني عن الاستدلال وجوز أن يحمل على تكبير الصلاة
فقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قلنا يا رسول الله كيف نقول إذا دخلنا في الصلاة؟ فأنزل الله تعالى وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ فأمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نفتح الصلاة بالتكبير
. وأنت تعلم أن نزول هذه الآية كان حيث لا صلاة أصلا فهذا الخبر إن صح مؤول والفاء هنا وفيما بعد لإفادة معنى الشرط فكأنه قيل: وما كان أي أي شيء حدث فلا تدع تكبيره عز وجل، فالفاء جزائية وهي لكونها على ما قيل مزحلقة لا يضر عمل ما بعدها فيما قبلها وقيل إنها دخلت في كلامهم على توهم شرط فلما لم تكن في جواب شرط محقق كانت في الحقيقة زائدة فلم يمتنع تقديم معمول ما بعدها عليها لذلك ثم إن في ذكر هذه الجملة بعد الأمر السابق مقدمة على سائر الجمل إشارة إلى مزيد الاهتمام بأمر التكبر وإيماء على ما قيل إلى أن المقصود الأول من الأمر بالقيام أن يكبر ربه عز وجل وينزهه من الشرك، فإن أول ما يجب معرفة الله تعالى ثم تنزيهه عما لا يليق بجنابه والكلام عليه من باب: إياك أعني واسمعي يا جارة وقد يقال: لعل ذكر هذه الجملة كذلك مسارعة لتشجيعه عليه الصلاة والسلام على الإنذار وعدم مبالاته بما سواه عز وجل حيث تضمنت الإشارة إلى أن نواصي الخلائق بيده تعالى وكل ما سواه مقهور تحت كبريائه تعالى وعظمته، فلا ينبغي أن يرهب إلّا منه ولا يرغب إلّا فيه فكأنه قيل قم فأنذر واخصص ربك بالتكبير فلا يصدنك شيء عن الإنذار فتدبر وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ تطهير الثياب كناية عن تطهير النفس عما تذم به من الأفعال وتهذيبها عما يستهجن من الأحوال لأن

(15/130)


من لا يرضى بنجاسة ما يماسه كيف يرضى بنجاسة نفسه يقال: فلان طاهر الثياب نقي الذيل والأردان إذا وصف بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق، ويقال: فلان دنس الثياب وكذا دسم الثياب للغادر ولمن قبح فعله ومن الأول قول الشاعر:
ويحيى ما يلام بسوء خلق ... ويحيى طاهر الأثواب حر
ومن الثاني قوله:
قوله لا هم إن عامر بن جهم ... أو ذم حجا في ثياب دسم
وكلمات جمهور السلف دائرة على نحو هذا المعنى في الآية الكريمة. أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال فيها يقول طهرها من المعاصي وهي كلمة عربية كانت العرب إذا نكث الرجل ولم يف بعهد قالوا إن فلانا لدنس الثياب وإذا وفى وأصلح قالوا: إن فلانا لطاهر الثياب، وأخرج ابن المنذر عن أبي مالك أنه قال فيها عنى نفسه، وأخرج هو وجماعة عن مجاهد أنه قال: أي وعملك فأصلح ونحوه عن أبي رزين والسدي. وأخرج هو أيضا وجماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أي من الإثم. وفي رواية من الغدر أي لا تكن غدارا وفي رواية جماعة عن عكرمة أن ابن عباس سئل عن قوله تعالى وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ فقال لا تلبسها على غدرة ولا فجرة ثم قال ألا تسمعون قول غيلان بن سلمة:
فإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع
ونحوه عن الضحاك وابن جبير وعن الحسن والقرطبي أي وخلقك فحسن، وأنشدوا للكناية عن النفس بالثياب قول عنترة:
فشككت بالرمح الطويل ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
وفي رواية عن الحبر وابن جبير أنه كنى بالثياب عن القلب كما في قول امرئ القيس:
فإن تك قد ساءتك مني خليقة ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
وقيل كنى بها عن الجسم كما في قول ليلى وقد ذكرت إبلا ركبها قوم وذهبوا بها:
رموها بأثواب خفاف فلا نرى ... لها شبها إلّا النعام المنفرا
وطهارة الجسم قد يراد بها أيضا نحو ما تقدم. ومناسبة هذه المعاني لمقام الدعوة مما لا غبار عليه وقيل على كون تطهير الثياب كناية عما مر يكون ذلك أمرا باستكمال القوة العلمية بعد الأمر باستكمال القوة النظرية والدعاء إليه، وقيل: إنه أمر له صلّى الله عليه وسلم بالتخلق بالأخلاق الحسنة الموجبة لقبول الإنذار بعد أمره عليه الصلاة والسلام بتخصيصه ربه عز وجل بالتكبير الذي ربما يوهم إباءه خفض الجناح لما سواه عز وجل واقتضاءه عدم المبالاة والاكتراث بمن كان فضلا عن أعداء الله جل وعلا فكان ذكره لدفع ذلك التوهم، وقيل على تفسير المدثر بالتدثر بالنبوة والكمالات النفسانية المعنى طهر دثارات النبوة وآثارها وأنوارها الساطعة من مشكاة ذاتك عما يدنسها من الحقد والضجر وقلة الصبر، وقيل الثياب كناية عن النساء كما قال تعالى هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ [البقرة: 187] وتطهيرهن من الخطايا والمعايب بالوعظ والتأديب كما قال سبحانه قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم: 6] وقيل تطهيرهن اختيار المؤمنات العفائف منهن وقيل وطؤوهن في القبل لا في الدبر وفي الطهر لا في الحيض حكاه ابن بحر وأصل القول فيما أرى بعيد عن السياق ثم رأيت الفخر صرح

(15/131)


بذلك وذهب جمع إلى أن الثياب على حقيقتها فقال محمد بن سيرين: أي اغسلها بالماء إن كانت متنجسة وروي نحوه عن ابن زيد وهو قول الشافعي رضي الله تعالى عنه، ومن هنا ذهب غير واحد إلى وجوب غسل النجاسة من ثياب المصلي وأمر صلّى الله عليه وسلم بذلك على ما روي عن ابن زيد مخالفة للمشركين لأنهم ما كانوا يصونون ثيابهم عن النجاسات. وقيل ألقي عليه صلّى الله عليه وسلم سلا شاة فشق عليه فرجع إلى بيته حزينا فتدثر فقيل له يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ولا تمنعنك تلك السفاهة عن الإنذار وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ عن أن لا ينتقم منهم وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ عن تلك النجاسات والقاذورات وإرادة التطهير من النجاسة للصلاة بدون ملاحظة قصة قيل خلاف الظاهر ولا تناسب الجملة عليها ما قبلها إلّا على تقدير أن يراد بالتكبير التكبير للصلاة وبعض من فسر الثياب بالجسم جوز إبقاء التطهير على حقيقته. وقال أمر عليه الصلاة والسلام بالتنظيف وقت الاستنجاء لأن العرب ما كانوا ينظفون أجسامهم أيضا عن النجاسة وكان كثير منهم يبول على عقبه وقال بعض الأمر لمطلق الطلب فإن تطهير ما ليس بطاهر من الثياب واجب في الصلاة ومحبوب في غيرها، وقيل تطهيرها تقصيرها وهو أيضا أمر له عليه الصلاة والسلام برفض عادات العرب المذمومة فقد كانت عادتهم تطويل الثياب وجرهم الذيول على سبيل الفخر والتكبر قال الشاعر:
ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هداب الأزر
وفي الحديث: «أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين وما كان أسفل من ذلك ففي النار»
. واستعمال التطهير في التقصير مجاز للزومه له فكثيرا ما يفضي تطويلها إلى جر ذيولها على القاذورات، ومن الناس من جل التقصير بعد إرادته من التطهير كناية عن عدم التكبر والخيلاء ويكون ذلك أمرا له صلّى الله عليه وسلم بالتواضع والمداومة على ترك جر ذيول التكبر والخيلاء بعد أمره بتخصيص الكبرياء والعظمة به تعالى قولا واعتقادا فكأنه قيل وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وأنت لا تتكبر ليتسنى لك أمر الإنذار وبعض من يرى جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز حمل التطهير على حقيقته ومجازه أعني التقصير والتوصل إلى إرادة مثل ذلك عند من لا يرى جواز الجمع سهل، وجوز أن يراد بالتطهير إزالة ما يستقذر مطلقا سواء النجس أو غيره من المستقذر الطاهر ومنه الأوساخ فيكون ذلك أمرا صلّى الله عليه وسلم بتنظيف ثيابه وإزالة ما يكون فيها من وسخ وغيره من كل ما يستقذر فإنه منفر لا يليق بمقام البعثة، ويستلزم هذا بالأولى تنظيف البدن من ذلك ولذا صلّى الله عليه وسلم أنظف الناس ثوبا وبدنا وربما يقال باستلزام ذلك بالأولى أيضا الأمر بالتنزه عن المنفر القولي والفعلي كالفحش والفظاظة والغلظة إلى غير ذلك فلا تغفل وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ قال القتبي الرُّجْزَ العذاب وأصله الاضطراب وقد أقيم مقام سببه المؤدي إليه من المآثم فكأنه قيل اهجر المآثم والمعاصي المؤديان إلى العذاب أو الكلام بتقدير مضاف أي أسباب الرجز أو التجوز في النسبة على ما قيل ونحو هذا قول ابن عباس الرُّجْزَ السخط وفسر الحسن الرُّجْزَ بالمعصية والنخع بالإثم وهو بيان للمراد. ولما كان المطالب بهذا الأمر هو النبيّ صلّى الله عليه وسلم وهو البريء عن ذلك كان من باب: إياك أعني واسمعي. أو المراد الدور والثياب على هجر ذلك وقيل الرجز اسم لصنمين إساف ونائلة وقيل للأصنام عموما وروي ذلك عن مجاهد وعكرمة والزهري والكلام على ما سمعت آنفا. وقيل الرُّجْزَ اسم للقبيح المستقذر والرجز فاهجر كلام جامع في مكارم الأخلاق كأنه قيل اهجر الجفاء والسفه وكل شيء يقبح ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين وعليه يحتمل أن يكون هذا أمرا بالثياب على تطهير الباطن بعد الأمر بالثياب على تطهير الظاهر بقوله سبحانه وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وقرأ الأكثرون «الرّجز» بكسر الراء

(15/132)


وهي لغة قريش ومعنى المكسور والمضموم واحد عند جمع، وعن مجاهد أن المضموم بمعنى الصنم والمكسور بمعنى العذاب. وقيل المكسور النقائص والفجور ذو المضموم اساف ونائل وفي كتاب الخليل «الرّجز» بضم الراء عبادة الأوثان وبكسرها العذاب. ومن كلام السادة أي الدنيا فاترك وهو مبني على أنه أريد بالرجز الصنم والدنيا من أعظم الأصنام التي حبها بين العبد وبين مولاه وعبدتها أكثر من عبدتها فإنها تعبد في البيع والكنائس والصوامع والمساجد وغير ذلك أو أريد بالرجز القبيح المستقذر والدنيا عند العارف في غاية القبح والقذارة
فعن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال: الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليها كلب في يد مجذوم
وقال الشافعي:
وما هي إلّا جيفة مستحيلة ... عليها كلاب همهن اجتذابها

فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها ... وإن تجتذبها نازعتك كلابها

ويقال كل ما ألهى عن الله عز وجل فهو رجز يجب على طالب الله تعالى هجره إذ بهذا الهجر ينال الوصال وبذلك القطع يحصل الاتصال ومن أعظم لاه عن الله تعالى النفس، ومن هنا قيل أي نفسك فخالفها والكلام في كل ذلك من باب: إياك أعني. أو القصد فيه إلى الدوام والثياب كما تقدّم وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أي ولا تعط مستكثرا أي طالبا للكثير ممن تعطيه قاله ابن عباس، فهو نهي عن الاستغزار وهو أن يهب شيئا وهو يطمع أن يتعوض من الموهوب له أكثر من الموهوب وهذا جائز. ومنه الحديث الذي رواه ابن أبي شيبة موقوفا على شريح المستغزر يثاب من هبته وإلّا صح عند الشافعية أن النهي للتحريم وأنه من خواصه عليه الصلاة والسلام لأن الله تعالى اختار له عليه الصلاة والسلام أكمل الصفات وأشرف الأخلاق فامتنع عليه أن يهب لعوض أكثر وقيل هو نهي تنزيه للكل أو ولا تعط مستكثرا أي رائيا لما تعطيه كثيرا فالسين للوجدان لا للطلب كما في الوجه الأول الظاهر والنهي عن ذلك لأنه نوع إعجاب وفيه بخل خفي. وعن الحسن والربيع:
لا تَمْنُنْ بحسناتك على الله تعالى مستكثرا لها أي رائيا إياها كثيرة فتنقص عند الله عز وجل وعد من استكثار الحسنات بعض السادة رؤية أنها حسنات وعدم خشية الرد والغفلة عن كونها منه تعالى حقيقة. وعن ابن زيد لا تمنن بما أعطاك الله تعالى من النبوة والقرآن مستكثرا به أي طالبا كثير الأجر من الناس وعن مجاهد لا تضعف عن عملك مستكثرا لطاعتك فتمنن من قولهم حبل منين أي ضعيف، ويتضمن هذا المعنى ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: أي لا تقل قد دعوتهم فلم يقبل مني عد فادعهم. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة «تستكثر» بسكون الراء وخرج على أنه جزم والفعل بدل من تَمْنُنْ المجزوم بلا الناهية كأنه قيل ولا تمنن لا تستكثر لأن من شأن المانّ بما يعطي أن يستكثره أي يراه كثيرا ويعتد به وهو بدل اشتمال، وقيل بدل كل من كل على دعاء الاتحاد. وفي الكشف الأبدال من تَمْنُنْ على أن المن هو الاعتداد بما أعطى لا الإعطاء نفسه فيه لطيفة لأن الاستكثار مقدمة المن فكأنه قيل: لا تستكثر فضلا عن المن. وجوز أن يكون سكون وقف حقيقة أو بإجراء الوصل مجراه أو سكون تخفيف على أن شبه ثرو بعضد فسكن الراء الواقعة بين الثاء وواو وَلِرَبِّكَ كما سكنت الضاد وليس بذاك والجملة عليه في موضع الحال وقرأ الحسن أيضا والأعمش «تستكثر» بالنصب على إضمار أن كقولهم مره يحفرها أي أن يحفرها وقوله:
ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
في رواية نصب أحضر وقرأ ابن مسعود «أن تستكثر» بإظهار أن فالمن بمعنى الإعطاء والكلام على إرادة

(15/133)


التعليل أي ولا تعط لأجل أن تستكثر أي تطلب الكثير ممن تعطيه وأيد به إرادة المعنى الأول في قراءة الرفع، وجوز الزمخشري في تلك القراءة أن يكون الرفع لحذف أن وإبطال عملها كما روي أحضر الوغى بالرفع فالجملة حينئذ ليست حالية، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز حمل القرآن على ذلك إذ لا يجوز ما ذكر إلّا في الشعر ولنا مندوحة عنه مع صحة معنى الحال، ورد بأن المخالف للقياس بقاء عملها بعد حذفها، وأما الحذف والرفع فلا محذور فيه وقد أجازه النحاة ومنه: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ قيل على أذى المشركين وقيل على أداء الفرائض. وقال ابن زيد: على حرب الأحمر والأسود وفيه بعد إذ لم يكن جهاد يوم نزولها. وعن النخعي على عطيتك كأنه وصله بما قبله وجعله صبرا على العطاء من غير استكثار والوجه كما قال جار الله أن يكون أمرا بنفس الفعل والمعنى لقصد جهته تعالى وجانبه عز وجل فاستعمل الصبر فيتناول لعدم تقدير المتعلق المفيد للعموم كل مصبور عليه ومصبور عنه ويراد الصبر على أذى المشركين لأنه فرد من أفراد العام لا لأنه وحده هو المراد. وعن ابن عباس الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه صبر على أداء الفرائض وله ثلاثمائة درجة، وصبر عن محارم الله تعالى وله ستمائة درجة، وصبر على المصائب عند الصدمة الأولى وله تسعمائة درجة وذلك لشدته على النفس وعدم التمكن منه إلّا بمزيد اليقين ولذلك
قال صلّى الله عليه وسلم: «أسألك من اليقين ما تهون به عليّ مصائب الدنيا»
وذكروا أن للصبر باعتبار حكمه أربعة أقسام فرض كالصبر عن المحظورات وعلى أداء الواجبات ونفل كالصبر عن المكروهات والصبر على المسنونات ومكروه كالصبر عن أداء المسنونات والصبر على فعل المكروهات وحرام كالصبر على من يقصد حريمه بمحرم وترك التعرض له مع القدرة إلى غير ذلك وتمام الكلام عليه في محله وفضائل الصبر الشرعي المحمود مما لا تحصى. ويكفي في ذلك قوله تعالى إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: 10]
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانا أو أنشر له ديوانا» .
فَإِذا نُقِرَ أي نفخ فِي النَّاقُورِ في الصور وهو فاعول من النقر بمعنى التصويت وأصله القرع الذي هو سببه ومنه منقار الطائر لأنه يقرع به ولهذه السببية تجوز به عنه وشاع ذلك وأريد به النفخ لأنه نوع منه، والفاء للسببية كأنه قيل اصبر على أذاهم فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى عاقبة صبرك عليه والعامل في «إذا» ما دل عليه قوله تعالى فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ فالمعنى إذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين والفاء في هذا للجزاء وذلك إشارة إلى وقت النقر المفهوم من فَإِذا نُقِرَ وما فيه من المعنى البعد مع قرب العهد لفظا بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلته في الهول والفظاعة ومحله الرفع على الابتداء ويَوْمَئِذٍ قيل بدل منه مبني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن والخبر يَوْمٌ عَسِيرٌ فكأنه قيل فيوم النقر يوم عسير وجوز أن يكون يَوْمَئِذٍ ظرفا مستقرا ل يَوْمٌ عَسِيرٌ أي صفة له، فلما تقدم عليه صار حالا منه والذي أجاز ذلك على ما في الكشاف أن المعنى فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير لأن يوم القيامة يأتي ويقع حين ينقر في الناقور فهو على منوال زمن الربيع العيد فيه أي وقوع العيد فيه وماله فذلك الوقوع وقوع يوم إلخ، ومما ذكر يعلم اندفاع ما يتوهم من تقديم معمول المصدر أو معمول ما في صلته على المصدر إن جعل ظرف الوقوع المقدر أو ظرف عسير والتصريح بلفظ وقوع إبراز للمعنى وتفص عن جعل الزمان مظروف الزمان برجوعه إلى الحدث فتدبر وظاهر صنيع الكشاف اختيار هذا الوجه وكذا كلام صاحب الكشف إذ قررة على أتم وجه وادعى فيما سبق تعسفا نعم جوز عليه الرحمة أن يكون يَوْمَئِذٍ معمول ما دل عليه الجزاء أيضا كأنه قيل فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على

(15/134)


الكافرين يومئذ وأيّا ما كان ف عَلَى الْكافِرِينَ متعلق ب عَسِيرٌ وقيل بمحذوف وهو صفة لعسير أو حال من المستكن فيه وأجاز أبو البقاء تعلقه ب يَسِيرٍ في قوله تعالى غَيْرُ يَسِيرٍ وهو الذي يقتضيه كلام قتادة وتعقبه أبو حيان بأنه ينبغي أن لا يجوز لأن فيه تقديم معمول المضاف إليه على المضاف وهو ممنوع على الصحيح وقد أجازه بعضهم في غير حملا لها على لا فيقول أنا بزيد غير راض وزعم الحوفي أن إذا متعلقة بإنذار والفاء زائدة، وأراد أنها مفعول به لأنذر كأنه قيل قم فأنذرهم وقت النقر في الناقور. وقوله تعالى فَذلِكَ إلخ جملة مستأنفة في موضع التعليل وهو كما ترى. وجوز أبو البقاء تخريج الآية على قول الأخفش بأن تكون «إذا» مبتدأ والخبر فَذلِكَ والفاء زائدة وجعل يَوْمَئِذٍ ظرفا لذلك ولا أظنك في مرية من أنه كلام أخفش. وقال بعض الأجلة إن ذلك مبتدأ وهو إشارة إلى المصدر أي فذلك النقر وهو العامل في يَوْمَئِذٍ ويَوْمٌ عَسِيرٌ خبر المبتدأ والمضاف مقدر أي فذلك النقر في ذلك اليوم نقر يوم وفيه تكلف وعدول عن الظاهر مع أن عسر اليوم غير مقصود بالإفادة عليه، وظاهر السياق قصده بالإفادة وجعل العلامة الطيبي هذه الآية من قبيل ما اتحد فيه الشرط والجزاء نحو: «من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» إذ جعل الإشارة إلى وقت النقر وقال: إن في ذلك مع ضم التكرير دلالة على التنبيه على الخطب الجليل والأمر العظيم وفيه نظر وفائدة قوله سبحانه غَيْرُ يَسِيرٍ أي سهل بعد قوله تعالى عَسِيرٌ تأكيد عسره على الكافرين فهو يمنع أن يكون عسيرا عليهم من وجه دون وجه يشعر بتيسره على المؤمنين كأنه قيل:
عسير على الكافرين غير يسير عليهم كما هو يسير على أضدادهم المؤمنين، ففيه جمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم وبشارة المؤمنين وتسليتهم ولا يتوقف هذا على تعلق على الكافرين بيسير، نعم الأمر عليه أظهر كما لا يخفى ثم مع هذا لا يخلو قلب المؤمن من الخوف. أخرج ابن سعيد والحاكم عن بهز بن حكيم قال:
أمّنا زارة بن أوفى فقرأ المدثر فلما بلغ فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ خر ميتا فكنت فيمن حمله.
وأخرج ابن أبي شيبة والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وحنى جبهته يستمع متى يؤمر» . قالوا كيف نقول يا رسول الله؟ قال: «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل وعلى الله توكلنا»
واختلف في أن المراد بذلك الوقت يوم النفخة الأولى أو يوم النفخة الثانية، ورجع أنه يوم الثانية لأنه الذي يختص عسره بالكافرين، وأما وقت النفخة الأولى فحكمه الذي هو الإصعاق يعم البر والفاجر وهو على المشهور مختص بمن كان حيا عند وقوع النفخة ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم، بل قيل كونها فيه متفق عليه وهو يقتضي أن هذه السورة لم تنزل جملة إذ لم يكن أمر الوليد وما اقتضى نزول الآية فيه في بدء البعثة فلا تغفل ووَحِيداً حال إما من الياء في ذَرْنِي وهو المروي عن مجاهد أي ذرني وحدي معه فأنا أغنيك في الانتقام عن كل منتقم أو من التاء في خَلَقْتُ أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد فأنا أهلكه لا أحتاج إلى ناصر في إهلاكه أو من الضمير المحذوف العائد على مَنْ على ما استظهره أبو حيان أي ومن خلقته وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد، وجوز أن يكون منصوبا بأذم ونحوه فقد كان الوليد يلقب في قومه بالوحيد فتهكم الله تعالى به وبلقبه أو صرفه عن الغرض الذي كانوا يؤمونه من مدحه والثناء عليه إلى جهة ذمه وعيبه فأراد سبحانه وحيدا في الخبث والشرارة أو وحيدا عن أبيه لأنه كان دعيا لم يعرف نسبه للمغيرة حقيقة كما مر في سورة نون وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً مبسوطا كثيرا أو ممدودا بالنساء من مد النهر ومده نهر آخر وقيل كان له الضرع والزرع والتجارة. وعن ابن عباس هو ما كان له بين

(15/135)


مكة والطائف من الإبل والنعم والجنان والعبيد وقيل كان له بستان بالطائف لا تنقطع ثماره صيفا وشتاء. وقال النعمان بن بشير المال الممدود هو الأرض لأنها مدت. وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه المستغل الذي يجبي شهرا بعد شهر فهو ممدود لا ينقطع. وعن ابن عباس ومجاهد وابن جبير كان له ألف دينار. وعن قتادة ستة آلاف دينار وقيل تسعة آلاف دينار. وعن سفيان الثوري روايتان أربعة آلاف دينار وألف ألف دينار وهذه الأقوال إن صحت ليس المراد بها تعيين المال الممدود وأنه متى أطلق يراد به ذلك بل بيان أنه كان بالنسبة إلى المحدث عنه كذا وَبَنِينَ شُهُوداً حضورا معه بمكة يتمتع بمشاهدتهم لا يفارقونه للتصرف في عمل أو تجارة لكونهم مكفيين لوفور نعمهم وكثرة خدمهم أو حضورا في الأندية والمحافل لوجاهتهم واعتبارهم أو تسمع شهاداتهم فيما يتحاكم فيه واختلف في عددهم فعن مجاهد أنهم عشرة وقيل ثلاثة عشر وقيل سبعة كلهم رجال الوليد بن الوليد وخالد وهشام وقد أسلم هؤلاء الثلاثة والعاص وقيس وعبد شمس وعمارة واختلف الرواية فيه أنه قتل يوم بدر أو قتله النجاشي لجناية نسبت إليه في حرم الملك والروايتان متفقتان على أنه قتل كافرا ورواية الثعلبي عن مقاتل إسلامه لا تصح ونص ابن حجر على أن ذلك غلط وقد وقع في هذا الغلط صاحب الكشاف وتبعه فيه من تبعه، والعجب أيضا أنهم لن يذكروا الوليد بن الوليد فيمن أسلم مع أن المحدثين عن آخرهم أطبقوا على إسلامه وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً بسطت له الرياسة والجاه العريض فأتممت عليه نعمتي الجاه والمال واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا، وأصل التمهيد التسوية والتهيئة وتجوز به عن بسطة المال والجاه وكان لكثرة غناه ونضارة حاله الرائقة في الأعين منظرا ومخبرا يلقب ريحانة قريش. وكذا كانوا يلقبونه بالتوحيد بمعنى المنفرد باستحقاق الرياسة. وعن ابن عباس وسعت له ما بين اليمن إلى الشام. وعن مجاهد مهدت له المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ على ما أديته وهو استبعاد واستنكار لطمعه وحرصه إما لأنه في غنى تام لا مزيد على ما أوتي سعة وكثرة أو لأنه مناف لما هو عليه من كفران النعم ومعاندة المنعم. وعن الحسن وغيره أنه كان يقول إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلّا لي واستعمال ثُمَّ للاستبعاد كثير قيل وهو غير التفاوت الرتبي بل عد الشيء بعيدا غير مناسب لما عطف عليه كما تقول تسيء إليّ ثم ترجو إحساني
. وكان ذلك لتنزيل البعد المعنوي منزلة البعد الزماني كَلَّا ردع وزجر له عن طمعه الفارغ وقطع لرجائه الخائب وقوله سبحانه إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً جملة مستأنفة استئنافا بيانا لتعليل ما قبل كأنه قيل لم زجر عن طلب المزيد وما وجه عدم لياقته فقيل إنه كان معاندا لآيات المنعم وهي دلائل توحيده أو الآيات القرآنية حيث قال فيها ما قال والمعاندة تناسب الإزالة وتمنع من الزيادة قال مقاتل: ما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقص من ماله وولده حتى هلك سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً سأغشيه عقبة شاقة المصعد وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق شبه ما يسوقه الله تعالى له من المصائب وأنواع المشاق بتكليف الصعود في الجبال الوعرة الشاقة وأطلق لفظه عليه على سبيل الاستعارة التمثيلية
وروى أحمد والترمذي والحاكم وصححه وجماعة عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: «الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي فيه كذلك أبدا»
وعنه صلّى الله عليه وسلم: «يكلف أن يصعد عقبة في النار كلما وضع عليها يده ذابت وإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت فإذا رفعها عادت»
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ تعليل للوعيد واستحقاقه له أو بيان لعناده لآياته عز وجل فيكون جملة مفسرة لذلك لا محل لها من الإعراب وما بينهما اعتراض وقيل الجملة عليه بدل من قوله تعالى إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً أي إنه فكر ماذا يقول في شأن القرآن وقدر في نفسه ما يقول فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تعجيب من تقديره وإصابته فيه

(15/136)


المحذور رميه الغرض الذي كان ينتجه قريش فهو نظير قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة: 30، المنافقون: 4] أو ثناء عليه تهكما على نحو قاتله الله ما أشجعه أو حكاية لما كرروه على سبيل الدعاء عند سماع كلمته الحمقاء فالعرب تقول قتله الله ما أشجعه وأخزاه الله ما أشعره يريدون أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك وما له على ما قيل إلى الأول وإن اختلف الوجه روي أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا فيعطوكه فإنك أتيت محمدا لتصيب مما عنده قال قد علمت قريش أني من أكثرها مالا قال فقيل فيه قولا يبلغ قومك إنك منكر له وأنك كاره له قال وماذا أقول فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا وو الله إن لقوله الذي يقوله حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسلفه وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه ليحطم ما تحته قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال: دعني حتى أفكر فلما فكر قال ما هو إلّا سحر يؤثر فعجّوا (1) بذلك وقال محيي السنة لما نزل على النبيّ صلّى الله عليه وسلم حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ- إلى قوله تعالى- الْمَصِيرُ [غافر: 1- 3] قام النبي صلّى الله عليه وسلم في المسجد والوليد قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبيّ عليه الصلاة والسلام لاستماعه أعاد القراءة فانطلق الوليد إلى مجلس قومه بني مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق. وإنه ليعلو وما يعلى. فقالت قريش: صبأ والله الوليد والله لتصبأن قريش كلهم فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه فقعد إليه حزينا وكلمه بما أحماه فقام فأتاهم فقال: تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يخنق، وتقولون إنه كاهن فهل رأيتموه قط يتكهن، وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعرا، وتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟ فقالوا في كل ذلك اللهم لا، ثم قالوا فما هو؟ ففكر فقال: ما هو إلّا ساحر أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه وما الذي يقوله إلّا سحر يأثره عن مسيلمة وعن أهل بابل فارتج النادي فرحا وتفرقوا معجبين بقوله متعجبين منه ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تكرير للمبالغة كما هو معتاد من أعجب غاية الإعجاب والعطف ب ثُمَّ للدلالة على تفاوت الرتبة وإن الثانية أبلغ من الأولى فكأنه قيل قتل بنوع ما من القتل لا بل قتل بأشده وأشده، ولذا ساغ العطف فيه مع أنه تأكيد ونحوه ما في قوله:
ومالي من ذنب إليهم علمته ... سوى أنني قد قلت يا سرحة اسلمي

ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثم اسلمي ... ثلاث تحيات وإن لم تكلمي
والإطراء في الإعجاب بتقديره يدل على غاية التهكم به وبمن فرح بمحصول تفكيره. وقال الراغب في غرة التنزيل: كان الوليد بن المغيرة لما سئل عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قدر ما أتى به من القرآن فقال: إن قلنا شاعر كذبتنا العرب إذا عرضت ما أتى به على الشعر وكان يقصد بهذا التقدير تكذيب الرسول صلّى الله عليه وسلم بضرب من الاحتيال فلذلك كان كل تقدير مستحقا لعقوبة من الله تعالى هي كالقتل إهلاكا له فالأول لتقديره على الشعر أي أهلك إهلاك المقتول كيف قدر وقوله تعالى ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ لتقديره الآخر فإنه قدر أيضا. وقال: فإن ادعينا أن ما أتى به من كلام الكهنة كذبتنا العرب إذا رأوا هذا الكلام مخالفا لكلام الكهان فهو في تقديره له على كلام الكهنة مستحق من العقوبة لما هو
__________
(1) فعجّوا: اي ضجّوا.

(15/137)


كالقتل إهلاكا له فجاء ذلك لهذا فلم يكن في الإعادة تكرار والأول هو ما ذهب إليه جار الله وجعل الدعاء اعتراضا وقال عليه الطيبي إنه ليس من الاعتراض المتعارف الذي ينحل لتزيين الكلام وتقريره لأن الفاء مانعة من ذلك بل هو من كلام الغير ووقع الفاء في تضاعيف كلامه فأدخل بين الكلامين المتصلين على سبيل الحكاية ثم قال: وهو متعسف وإنما سلكه لأنه جعل الدعاءين من كلام الغير وأما إذا جعلا من كلام الله تعالى استهزاء كما ذكر هو أو دعاء عليه كما ذهب إليه الراغب وعليه تفسير الواحدي على ما قال، ونقل عن صاحب النظم فَقُتِلَ كَيْفَ أي عذب ولعن كَيْفَ قَدَّرَ كما يقال لأضربنه كيف صنع أي على أي حال كانت منه لتكون الأفعال كلها متناسقة مرتبة على التفاوت في التعقيب والتراخي زمانا ورتبة كما يقتضيه المقام كان أحسن وجاء النظم على السنن المألوف من التنزيل إلى آخر ما قال وما تقدم أبعد مغزى والاعتراض من المتعارف وهو يؤكد ما سيق له الكلام أحسن تأكيد والفاء غير مانعة على ما نص عليه جار الله وغيره وجعل من الاعتراض المقرون بها فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [النحل: 43، الأنبياء:
7] ومنه قوله:
واعلم فعلم المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كل ما قدرا
وقد حقق أنه بالحقيقة نتيجة وقعت بين أجزاء الكلام اهتماما بشأنها فأفادت فائدة الاعتراض وعدت منه، والاعتراض بين قوله تعالى إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ وقوله سبحانه ثُمَّ نَظَرَ للعطف وثُمَّ فيه وفيما بعد على معناها الوضعي وهو التراخي الزماني مع مهلة أي ثم فكر في أمر القرآن مرة بعد أخرى ثُمَّ عَبَسَ قطب وجهه لما لم يجد فيه مطعنا وضاقت عليه الحيل ولم يدر ماذا يقول وقيل ثم نظر في وجوه القوم ثم قطب وجهه وقيل نظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم قطب في وجهه عليه الصلاة والسلام وَبَسَرَ أي أظهر العبوس قبل أو انه وفي غير وقته فالبسر الاستعجال بالشيء نحو بسر الرجل لحاجة طلبها في غير أوانها وبسر الفحل الناقة ضربها قبل أن تطلب وماء بسر متناول من غديره قبل سكونه وقيل للجبن الذي ينكأ قبل النضج بسر ومنه قيل لما لم يدرك من الثمر بسر، وبهذا فسره الراغب هنا وفسره بعضهم بأشد العبوس من بسر إذا قبض ما بين عينيه كراهة للشيء واسودّ وجهه منه، ويستعمل بمعنى العبوس ومنه قول توبة:
قد رابني منها صدود رأيته ... وإعراضها عن حاجتي وبسورها
وقول سعد لما أسلمت راغمتني أمي فكانت تلقاني مرة بالبشر ومرة بالبسر فحينئذ يكون ذكر بَسَرَ كالتأكيد ل عَبَسَ ولعله مراد من قال اتباع له وأهل اليمين يقولون بسر المركب وأبسر إذا وقف ولم أر من جز إرادة ذاك هنا ولو على بعد وفي النفس من ثبوت ذلك لغة صحيحة توقف ثُمَّ أَدْبَرَ عن الحق أو عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَاسْتَكْبَرَ عن اتباعه فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ أي يروى ويتعلم من سحرة بابل ونحوهم، وقيل أي يختار ويرجح على غيره من السحر وليس بمختار، والفاء للدلالة على أن هذه الكلمة الحمقاء لما خطرت بباله تفوه بها من غير تلعثم وتلبث فهي للتعقيب من غير مهلة ولا مخالفة فيه لما مر من الرواية كما لا يخفى. وقوله إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ كالتأكد للجملة الأولى لأن المقصود منهما نفي كونه قرآنا ومن كلام الله تعالى وإن اختلفا معنى ولاعتبار الاتحاد في المقصود لم يعطف عليها وأطلق بعضهم عليه التأكيد من غير تشبيه والأمر سهل وفي وصف إشكاله التي تشكل بها حتى استنبط هذا القول السخيف استهزاء به وإشارة إلى أنه عن الحق الأبلج بمعزل ثم إن الذي يظهر من تتبع أحوال الوليد أنه إنما قال ذلك عنادا وحمية جاهلية لا جهلا بحقيقة الحال وقوله تعالى سَأُصْلِيهِ سَقَرَ بدل من سَأُرْهِقُهُ إلخ بدل اشتمال

(15/138)


لاشتمال السقر على الشدائد وعلى الجبل من النار، والوصف الآتي لا ينافي الإبدال على إرادة الجبل بناء على أن المراد به نحو ما في الحديث وقال أبو حيان: يظهر أنهما جملتان اعتقبت كل واحدة منهما على سبيل توعد العصيان الذي قبل كل واحدة منهما فتوعد على كونه عنيدا لآيات الله تعالى بإرهاق صعود وعلى قوله إن القرآن سحر يؤثر بإصلاء سقر وفيه بحث لا يخفى على من أحاط خبرا بما تقدم وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ أي أي شيء أعلمك ما سقر على أن ما الأولى مبتدأ وأَدْراكَ خبره وما الثانية خبر لأنها مفيدة لما قصد إفادته من التهويل والتفظيع وسَقَرُ مبتدأ أي أي شيء هي في وصفها فإن ما قد يطلب بها الوصف وإن كان الغالب أن يطلب بها الاسم والحقيقة وقوله سبحانه لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ بيان لوصفها وحالها فالجملة مفسرة أو مستأنفة من غير حاجة إلى جعلها خبر مبتدأ محذوف وقيل حال من سَقَرُ والعامل فيها معنى التعظيم أي أعظم سقر وأهول أمرها حال كونها لا تُبْقِي إلخ وليس بذاك أي لا تبقي شيئا يلقى فيها إلا أهلكته وإذا هلك لم نذره هالكا حتى يعاد. وقال ابن عباس لا تُبْقِي إذا أخذت فيهم لم تبق منهم شيئا وإذا بدلوا خلقا جديدا لم تَذَرُ أن تعاودهم سبيل العذاب الأول وروي نحوه عن الضحاك بزيادة ولكل شيء فترة وملالة إلّا جهنم. وقيل لا تُبْقِي على شيء ولا تدعه من الهلاك بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة. وقال السدي: لا تبقي لهم لحما ولا تذر عظما وهو دون ما تقدم لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ قال ابن عباس ومجاهد وأبو رزين والجمهور أي مغيرة للبشرات مسودة للجلود، وفي بعض الروايات عن بعض بزيادة «محرقة» والمراد في الجملة ف لَوَّاحَةٌ من لوحته الشمس إذا سودت ظاهره وأطرافه قال:
تقول ما لاحك يا مسافر ... يا ابنة عمي لاحني الهواجر
والبشر جمع بشرة وهي ظاهر الجلد وفي بعض الآثار أنها تلفح الجلد لفحة فتدعه أشد سوادا من الليل. واعترض بأنه لا يصح وصفها بتسويدها الظاهر الجلود مع قوله سبحانه لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ الصريح في الإحراق وأجيب بأنها في أول الملاقاة تسوده ثم تحرقه وتهلكه أو الأول حالها مع من دخلها وهذا حالها مع من يقرب منها، وأنت تعلم أنه إذا قيل لا يحسن وصفها بتسويد ظاهر الجلود بعد وصفها بأنها لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لم يحسن هذا الجواب وقد يجاب حينئذ بأن المراد ذكر أوصافها المهولة الفظيعة من غير قصد إلى ترقّ من فظيع إلى أفظع وكونها لَوَّاحَةٌ وصف من أوصافها ولعله باعتبار أول الملاقاة وقيل الإهلاك وفي ذكره من التفظيع ما فيه لما أن في تسويد الجلود مع قطع النظر عما فيه من الإيلام تشويها للخلق ومثلة للشخص فهو من قبيل التتميم وفي استلزام الإهلاك تسويد الجلود تردد وإن قيل به فتدبر، وجوز على تفسير لَوَّاحَةٌ بما ذكر كون البشر اسم جنس بمعنى الناس، ويرجع المعنى إلى ما تقدم وقال الحسن وابن كيسان والأصم لَوَّاحَةٌ بناء مبالغة من لاح إذا ظهر والبشر بمعنى الناس أي تظهر للناس لعظمها وهولها كما قال تعالى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى وقد جاء أنها تظهر لهم من مسيرة خمسمائة عام. ورفع لَوَّاحَةٌ على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي لواحة. وقرأ عطية العوفي وزيد بن علي والحسن وابن أبي عبلة «لوّاحة» بالنصب على الاختصاص للتهويل أي أخص أو أعني وجوز أن يكون حالا مؤكدة من ضمير تُبْقِي أو تَذَرُ بناء على زعم الاستلزام وأن يكون حالا من سَقَرُ والعامل ما مر عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ الظاهر ملكا ألا ترى العرب وهم الفصحاء كيف فهموا منه ذلك فقد روي عن ابن عباس أنها لم نزلت عليها تسعة عشر قال أبو جهل لقريش ثكلتكم أمهاتكم أسمع أن ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة

(15/139)


النار تسعة عشر وأنتم الدهم أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم، فقال له أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين فأنزل الله تعالى وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أي ما جعلناهم رجالا من جنسكم يطاقون وأنزل سبحانه في أبي جهل أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى [القيامة: 34، 35] والظاهر أن المراد بأصحاب النار هم التسعة عشر ففيه وضع الظاهر موضع الضمير وكأن ذلك لما في هذا الظاهر من الإشارة إلى أنهم المدبرون لأمرها القائمون بتعذيب أهلها ما ليس في الضمير. وفي ذلك إيذان بأن المراد بسقر النار مطلقا لا طبقة خاصة منها والجمهور على أن المراد بهم النقباء فمعنى كونهم عَلَيْها أنهم يتولون أمرها وإليهم جماع زبانيتها وإلّا
فقد جاء: «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها»
. وذهب بعضهم إلى أن التمييز المحذوف صف وقيل صف والأصل عليها تِسْعَةَ عَشَرَ صنفا أو عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ صفا ويبعده ما تقدم في رواية الحبر وكذا قوله تعالى وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا فإن المتبادر أن افتتانهم باستقلالهم لهم واستبعادهم تولي تسعة عشر لتعذيب أكثر الثقلين واستهزائهم بذلك، ومع تقدير الصنف أو الصف لا يتسنى ذلك وقال غير واحد في تعليل جعلهم ملائكة ليخالفوا جنس المعذبين فلا يرقوا لهم ولا يستروحوا إليهم ولأنهم أقوى الخلق وأقومهم بحق الله تعالى وبالغضب له سبحانه وأشدهم بأسا.
وفي الحديث: «كأن أعينهم البرق وكأن أقوالهم الصياصي يجرون أشعارهم لهم مثل قوة الثقلين يقبل أحدهم بالأمة من الناس يسوقهم على رقبته جبل حتى يرمي بهم في النار فيرمي بالجبل عليهم»
ولا يبعد أن يكون في التنوين إشعار إلى عظم أمرهم ومعنى قوله تعالى وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إلى آخره على ما اختاره بعض الأجلة وما جعلنا عدد أصحاب النار إلّا العدد الذي اقتضى فتنة الذين كفروا بالاستقلال والاستهزاء وهو التسعة عشر فكأن الأصل وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إلّا تسعة عشر فعبر بالأثر وهو فتنة الذين كفروا عن المؤثر وهو خصوص التسعة عشر لأنه كما علم السبب في افتتانهم وقيل إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ تنبيها على أن الأثر هنا لعدم انفكاكه عن مؤثره لتلازمهما كانا كشيء واحد يعبر باسم أحدهما عن الآخر ومعنى جعل عدتهم المطلقة العدة المخصوصة أن يخبر عن عددهم بأنه كذا إذ الجعل لا يتعلق بالعدة إنما يتعلق بالمعدود، فالمعنى أخبرنا أن عدتهم تسعة عشر دون غيرها لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي ليكتسبوا اليقين بنبوته صلّى الله عليه وسلم وصدق القرآن لأجل موافقة المذكورين ذكرهم في القرآن بهذا العدد وفي الكتابين كذلك وهذا غير جعل الملائكة على العدد المخصوص لأنه إيجاد ولا يصح على ما قال بعض المحققين أن يجعل إيجادهم على الوصف علة للاستيقان المذكور لأنه ليس إلّا للموافقة وتكلف بعضهم لتصحيحه بأن الإيجاد سبب للإخبار والإخبار سبب للاستيقان فهو سبب بعيد له والشيء كما يسند لسببه البعيد يسند لسببه القريب لكنه كما قال لا يحسن ذلك وإنما احتيج إلى التأويل بالتعبير بالأثر عن المؤثر ولم يبق الكلام على ظاهره لأن الجعل من دواخل المبتدأ والخبر فما يترتب عليه يترتب باعتبار نسبة أحد المفعولين إلى الآخر كقولك جعلت الفضة خاتما لتزين به، وكذلك ما جعلت الفضة إلّا خاتما لكذا ولا معنى لترتب الاستيقان وما بعده على جعل عدتهم فتنة للكفار ولا مدخل لافتتانهم بالعدد المخصوص في ذلك، وإنما الذي له مدخل العدة بنفسها أي العدة باعتبار أنها العدة المخصوصة والإخبار بها كما سمعت وليس ذلك تحريفا لكتاب الله تعالى ولا مبنيا على رعاية مذهب باطل كما توهم. ومنهم من تكلف لأمر السببية على الظاهر بما تمجه الأسماع فلا نسود به الرقاع. وفي البحر لِيَسْتَيْقِنَ مفعول من أجله وهو

(15/140)


متعلق ب جَعَلْنا لا ب فِتْنَةً فليست الفتنة معلولة للاستيقان بل المعلول جعل العدة سبب الفتنة. وفي الانتصاف يجوز أن يرجع قوله تعالى لِيَسْتَيْقِنَ إلى ما قبل الاستثناء أي جعلنا عدتهم سببا لفتنة الكفار ويقين المؤمنين وذكر الإمام في ذلك وجهين الثاني ما قدمناه مما اختاره بعض الأجلة والأول أن التقدير وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً للكافرين وإلا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قال: وهذا كما يقال فعلت كذا لتعظيمك ولتحقير عدوك فالواو العاطفة قد تذكر في هذا الموضع تارة وقد تحذف أخرى. وقال بعض أنه متعلق بمحذوف أي فعلنا ذلك ليستيقن إلخ والكل كما ترى وحمل الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ على أهل الكتابين مما ذهب إليه جمع وقيل المراد بهم اليهود فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن البراء أن رهطا من اليهود سألوا رجلا من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم فقال الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم أعلم فجاء فأخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلم فنزل عليه ساعتئذ عليها تسعة عشر.
وأخرج الترمذي وابن مردويه عن جابر قال: قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم: هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟
فأخبروا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «هكذا وهكذا في مرة عشرة وفي مرة تسعة»
واستشعر من هذا أن الآية مدنية لأن اليهود إنما كانوا فيها وهو استشعار ضعيف لأن السؤال لصحابي فلعله كان مسافر فاجتمع بيهودي حيث كان وأيضا لا مانع إذ ذاك من إتيان بعض اليهود نحو مكة المكرمة ثم إن الخبرين لا يعينان حمل الموصول على اليهود كما يخفى فالأولى إبقاء التعريف على الجنس وشمول الموصول للفريقين أي لِيَسْتَيْقِنَ أهل الكتاب من اليهود والنصارى وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً أي يزداد إيمانهم كيفية بما رأوا من تسليم أهل الكتاب وتصديقهم أنه كذلك أو كمية بانضمام إيمانهم بذلك إلى إيمانهم بسائر ما أنزل وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ تأكيد لما قبله من الاستيقان وازدياد الإيمان ونفي لما قد يعتري المستيقن من شبهة ما للغفلة عن بعض المقدمات أو طريان ما توهم كونه معارضا في أول وهلة ولما فيه من هذه الزيادة جاز عطفه على المؤكد بالواو لتغايرهما في الجملة، وإنما لم ينظم المؤمنون في سلك أهل الكتاب في نفي الارتياب حيث لم يقل ولا يرتابوا للتنبيه على تباين النفيين حالا فإن انتفاء الارتياب من أهل الكتاب مقارن لما ينافيه من الجحود ومن المؤمنين مقارن لما يقتضيه من الإيمان وكم بينهما وقيل إنما لم يقل ولا يرتابوا بل قيل وَلا يَرْتابَ إلخ للتنصيص على تأكيد الأمرين لاحتمال عود الضمير في ذلك على المؤمنين فقط والتعبير عن المؤمنين باسم الفاعل بعد ذكرهم بالموصول والصلة الفعلية المنبئة عن الحدوث للإيذان بثباتهم على الإيمان بعد ازديادهم ورسوخهم في ذلك وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك أو نفاق فيكون بناء على أن السورة بتمامها مكية، والنفاق إنما حدث بالمدينة إخبارا عما سيحدث من المغيبات بعد الهجرة وَالْكافِرُونَ المصرون على التكذيب ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أي أي شيء أراد الله تعالى أو ما الذي أراد الله تعالى بهذا العدد المستغرب استغراب المثل وعلى الأول ماذا منزّلة منزلة اسم واحد للاستفهام في موضع نصب ب أَرادَ وعلى الثاني هي مؤلفة من كلمة ما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبره والجملة بعد صلة والعائد فيها محذوف ومَثَلًا نصب على التمييز أو على الحال كما في قوله تعالى هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ [الأعراف: 73، هود: 64] آية والظاهر أن ألفاظ هذه الجملة من المحكي وعنوا بالإشارة التحقير وغرضهم نفي أن يكون ذلك من عند الله عز وجل على أبلغ وجه لا الاستفهام حقيقة عن الحكمة ولا القدح في اشتماله عليها مع اعترافهم بصدور الأخبار بذلك عنه تعالى، وجوز أن يكون أراد الله من الحكاية وهم قالوا ماذا أريد ونحوه وقيل يجوز أن

(15/141)


يكون المثل بمعناه الآخر وهو ما شبه مضربه بمورده بأن يكونوا قد عدوه لاستغرابه مثلا مضروبا ونسبوه إليه عز وجل استهزاء وتهكما. وإفراد قوله بهذا التعليل مع كونه من باب فتنتهم قيل للإشعار باستقلاله في الشناعة وفي الحواشي الشهابية إنما أعيد اللام فيه للفرق بين العلتين إذ مرجع الأولى الهداية المقصودة بالذات ومرجع هذه الضلال المقصود بالعرض الناشئ من سوء صنيع الضالين وتعليل أفعاله تعالى بالحكم والمصالح جائز عند المحققين وجوز في هذه اللام وكذا الأولى كونها للعاقبة كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ ذلك إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهداية ومحل الكاف في الأصل النصب على أنها صفة لمصدر محذوف وأصل التقدير يضل الله من يشاء وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إضلالا وهداية كائنين مثل ما ذكر من الإضلال والهداية فحذف المصدر وأقيم وصفه مقام ثم قدم على الفعل لإفادة القصر فصار النظم مثل ذلك الإضلال وتلك الهداية يُضِلُّ اللَّهُ تعالى مَنْ يَشاءُ إضلاله لصرف اختياره حسب استعداده السيء إلى جانب الضلال عند مشاهدته لآيات الله تعالى الناطقة بالهدى وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته لصرف اختياره حسب استعداده الحسن عند مشاهدة تلك الآيات إلى جانب الهدى لا إضلالا وهداية أدنى منهما، ويجوز أن تكون الإشارة إلى ما بعد كما في قوله تعالى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] على ما حقق في موضعه وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ جمع جند اشتهر في العسكر اعتبارا بالغلظة من الجند أي الأرض الغليظة التي فيها حجارة. ويقال لكل جمع أي وما يعلم جموع خلقه تعالى التي من جملتها الملائكة المذكورون على ما هم عليه إِلَّا هُوَ عز وجل إذ لا سبيل لأحد إلى حصر الممكنات
والوقوف على حقائقها وصفاتها ولو إجمالا فضلا عن الاطلاع على تفاصيل أحوالها من كم وكيف ونسبة. وهُوَ رد لاستهزائهم يكون الخزنة تسعة عشر لجهلهم وجه الحكمة في ذلك. وقال مقاتل هو جواب لقول أبي جهل أما لرب محمد أعوان إلّا تسعة عشر وحاصله أنه لما قلل الأعوان أجيب بأنهم لا يحصون كثرة إنما الموكلون على النار هؤلاء المخصوصون لا أن المعنى ما يعلم بقوة بطش الملائكة إلّا هو خلافا للطيبي فإن اللفظ غير ظاهر الدلالة على هذا المعنى واختلف في أكثر جنود الله عز وجل فقيل الملائكة لخبر: «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلّا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد» . وفي بعض الأخبار أن مخلوقات البر عشر مخلوقات البحر والمجموع عشر مخلوقات الجو والمجموع عشر ملائكة السماء الدنيا والمجموع عشر ملائكة السماء الثانية وهكذا إلى السماء السابعة والمجموع عشر ملائكة الكرسي والمجموع عشر الملائكة الحافين بالعرش والمجموع أقل قليل بالنسبة إلى ما لا يعلمه إلّا الله، وقيل المجموع أقل قليل بالنسبة إلى الملائكة المهيمين الذين لا يعلم أحدهم أن الله تعالى خلق أحدا سواء والمجموع أقل قليل بالنسبة إلى ما يعلمه سبحانه من مخلوقاته.
وعن الأوزاعي قال: قال موسى عليه السلام: يا رب من معك في السماء؟ قال: ملائكتي، قال: كم عدتهم؟ قال: اثنا عشر سبطا، قال: كم عدة كل سبط؟ قال:
عدد التراب
. وفي صحة هذا نظر وإن صح فصدره من المتشابه وأنا لا أجزم بأكثرية صف فما يعلم جنود ربك إلّا هو ولم يصح عندي نص في ذلك بيد أنه يغلب على الظن أن الأكثر الملائكة عليهم السلام، وهذه الآية وأمثالها من الآيات والأخبار تشجع على القول باحتمال أن يكون في الأجرام العلوية جنود من جنود الله تعالى لا يعلم حقائقها وأحوالها إلّا هو عز وجل ودائرة ملك الله جل جلاله أعظم من أن يحيط بها نطاق الحصر أو يصل إلى مركزها طائر الفكر فأنّى وهيهات ولو استغرقت القوى والأوقات هذا واختلف في المخصص لهذا العدد أعني تسعة عشر فقيل إن اختلاف النفوس البشرية في النظر والعمل بسبب القوى

(15/142)


الحيوانية الاثنتي عشرة يعني الحواس الخمسة الباطنة والحواس الخمسة الظاهرة والقوة الباعثة كالغضبية والشهوية والقوة المحركة فهذه اثنتا عشرة والطبيعية السبع التي ثلاث منها مخدومة وهي القوة النامية والغادية والمولدة وأربع منها خادمة وهي الهاضمة والجاذبة والدافعة والماسكة وهذا مع ابتنائه على الفلسفة لا يكاد يتم كما لا يخفى على من وقف على كتبها. وقيل: إن لجهنم سبع دركات ست منها لأصناف الكفار وكل صنف يعذب بترك الاعتقاد والإقرار والعمل أنواعا من العذاب تناسبها فيضرب الست في الثلاثة يحصل ثمانية عشر وعلى كل نوع ملك أو صنف يتولاه وواحدة لعصاة الأمة يعذبون فيها بترك العمل نوعا يناسبه ويتولاه ملك أو صنف وبذلك تتم التسعة عشرة. وخصت ست منها بأصناف الكفار وواحدة بأصناف الأمة، ولم يجعل تعذيب الكفار في خمس منها فيبق للمؤمنين اثنتان إحداهما لأهل الكبائر والأخرى لأهل الصغائر أو إحداهما للعصاة منهم والأخرى للعاصيات لأنه حيث أعدت النار للكافرين أولا وبالذات ناسب أن يستغرقوها كلية ويوزعوا على جميع أماكنها بقدر ما يمكن لكن لما تعلقت إرادته سبحانه بتعذيب عصاة الأمة بها أفرزت واحدة منها لهم وقيل: إن الساعات أربع وعشرون خمسة منها مصروفة للصلاة فلم يخلق في مقابلتها زبانية لبركة الصلاة الشاملة لمن لم يصل فيبقى تسعة عشرة، وقيل إن لجهنم سبع دركات ست منها لأصناف الكفار وللاعتناء بأمر عذابهم واستمراره ناسب أن يقوم عليه ثلاثة واحد في الوسط واثنان في الطرفين فهذه ثمانية عشر وواحدة منها لعصاة المؤمنين ناسب أمر عذابهم أن يقوم عليه واحد وبه تتم التسعة عشر وقيل إن العدد على وجهين قليل وهو من الواحد إلى التسعة وكثير وهو من العشرة إلّا ما لا نهاية له فجمع بين نهاية القليل وبداية الكثير وقيل غير ذلك والذي مال إليه أكثر العلماء أن ذلك مما لا يعلم حكمته على التحقيق إلّا الله عز وجل وهو كالمتشابه يؤمن به ويفوض علمه إلى الله تعالى وكل ما ذكر مما لا يعول عليه كما لا يخفى على من وجه أدنى نظره إليه والله تعالى الهادي لصوب الصواب والمتفضل على من شاء يعلم لا شك معه ولا ارتياب. وقرأ أبو جعفر وطلحة بن سليمان «تسعة عشر» بإسكان العين وهو لغة فيه كراهة توالي الحركات فيما هو كاسم واحد. وقرأ أنس بن مالك وابن عباس وابن قطب وإبراهيم بن قتة «تسعة» بضم التاء وهي حركة بناء عدل إليها عن الفتح لتوالي خمس فتحات ولا يتوهم أنها حركة إعراب وإلّا أعرب عشر وقرأ أنس أيضا «تسعة» بالضم «أعشر» بالفتح قال صاحب اللوامح فيجوز أنه جمع العشرة على أعشر ثم أجراه مجرى تسعة عشر وعنه أيضا «تسعة» و «عشر» بالضم وقلب الهمزة واوا خالصة تخفيفا والتاء فيهما مضمومة ضمة بناء لما سمعت آنفا. وعن سليمان بن قتة وهو أخو إبراهيم أنه قرأ «تسعة أعشر» بضم التاء ضمة إعراب والإضافة إلى أعشر وجره منونا وهو على ما قال صاحب اللوامح جمع عشرة وقد صرح بأن الملائكة على القراءة بهذا الجمع معربا أو مبنيا تسعون ملكا. وقال الزمخشري جمع عشير مثل يمين وأيمن. وروي عنه أنه قال أي تسعة من الملائكة كل واحد منهم عشير فهم مع أشياعهم تسعون والعشير بمعنى العشر فدل على أن النقباء تسعة وتعقب بأن دلالته على هذا المعنى غير واضحة ولهذا قال ابن جني لا وجه لتلك القراءة إلّا أن يعني تسعة
أعشر جمع العشير وهم والأصدقاء فليراجع وَما هِيَ أي سقر كما يقتضيه كلام مجاهد إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ إلا تذكرة لهم والعطف قيل على قوله تعالى سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إلى هنا اعتراض ووجهه أنه لما قيل عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ زيادة في تهويل أمر جهنم عقب بما يؤكد قوتهم وتسلطهم وتباينهم بالشدة عن سائر المخلوقات ثمّ بما يؤكد الكمية وما أكد المؤكد فهو مؤكد أيضا. وقيل الضمير للآيات الناطقة بأحوال

(15/143)


كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

سقر، وقيل لعد خزنتها والتذكير والعظة فيها من جهة أن في خلقه تعالى ما هو في غاية العظمة حتى يكون لقليل منهم معذبا ومهلكا لما لا يحصى دلالة على أنه عز وجل لا يقدر حق قدره ولا توصف عظمته ولا تصل الأفكار إلى حرم جلاله. وقيل الضمير للجنود وقيل لنار الدنيا وهذا أضعف الأقوال وأقواها على ما قيل ما تقدم. وبين «البشر» هاهنا و «البشر» فيما سبق أعني قوله تعالى لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ على تفسير الجمهور تجنيس تام لفظي وخطي وقل من تذكر له.
كَلَّا ردع لمن أنكرها وقيل زجر عن قول أبي جهل وأصحابه إنهم يقدرون على مقاومة خزنة جهنم.
وقيل: ردع عن الاستهزاء بالعدة المخصوصة وقال الفراء: هي صلة للقسم وقدرها بعضهم بحقا وبعضهم بألا الاستفتاحية. وقال الزمخشري إنكار بعد أن جعلها سبحانه ذكرى أن يكون لهم ذكرى وتعقبه أبو حيان بأنه لا يسوغ في حقه تعالى أن يخبر أنها ذكرى للبشر ثم ينكر أن يكون لهم ذكرى وأجيب بأنه لا تناقض لأن معنى كونها ذكرى أن شأنها أن تكون مذكرة لكل أحد ومن لم يتذكر لغلبة الشقاء عليه لا يعد من البشر ولا يلتفت لعدم تذكره كما أن حلاوة العسل لا يضرها كونها مرة في فم منحرف المزاج المحتاج إلى العلاج وحال حسن الوقف على كلا وعدم حسنه هنا يعلم من النظر إلى المراد بها وصرح بعضهم بذلك فقال: إن كانت متعلقة بالكلام السابق يحسن الوقف عليها، وإن كانت متعلقة بالكلام اللاحق لا يحسن ذلك أي كما أنها كانت بمعنى ألا الاستفتاحية فالوقت حينئذ تام على للبشر ويستأنف كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ أي ولى وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وعطاء وابن يعمر وأبو جعفر وشيبة وأبو الزناد وقتادة وعمر بن عبد العزيز والحسن وطلحة والنحويان والابنان وأبو بكر «إذا» ظرف زمان مستقبل «دبر» بفتح الدال وهو بمعنى أدبر المزيد كقبل وأقبل والمعروف المزيد وحسن الثلاثي هنا مشاكلة أكثر الفواصل وقيل دبر من دبر الليل النهار إذا خلفه والتعبير بالماضي مع إذا التي للمستقبل للتحقيق ويجوز أن يقال إنها تقلبه مستقبلا. وقرأ أبو رزين وأبو رجاء والأعمش ومطر ويونس بن عبيد وهي رواية عن الحسن وابن يعمر والسلمي وطلحة «إذا» بالألف أَدْبَرَ بالهمز وكذا هو في مصحف عبد الله وأبيّ وهو أنسب بقوله تعالى وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ أي أضاء وانكشف على قراءة الجمهور وقرأ ابن السميفع وعيسى بن الفضل «سفر» ثلاثيا وفسر بطرح الظلمة عن وجهه إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ جواب للقسم وجوز أن يكون كَلَّا ردعا لمن ينكر أن تكون إحدى الكبرى لما علم من أن

(15/144)


أن واللام من الكلام الإنكاري في جواب منكر مصر وهذا تعليل ل كَلَّا والقسم معترض للتأكيد لا جواب له أو جوابه مقدر يدل عليه كَلَّا وفي التعليل نوع خفاء فتأمل. وضمير إِنَّها لسقر والْكُبَرِ جمع الكبرى جعلت ألف التأنيث كتائها فكما جمعت فعلة على فعل جمعت فعلى عليها ونظيرها السوافي في جمع السافياء والقواصع في جمع القاصعاء فإن فاعلة تجمع على فواعل باطراد لا فاعلاء لكن حمل فاعلاه على فاعلة لاشتراك الألف والتاء في الدلالة على التأنيث وضعا فجمع فيهما على فواعل وقول ابن عطية الْكُبَرِ جمع كبيرة وهم كما لا يخفى أي إن سقر لإحدى الدواهي الكبر على معنى أن البلايا الكبيرة كثيرة وسقر واحدة منها قيل فيكون في ذلك إشارة إلى أن بلاءهم غير محصور فيها بل تحل بهم بلايا غير متناهية أو أن البلايا الكبيرة كثيرة وسقر من بينهم واحدة في العظم لا نظير لها وهذا كما يقال فلان أحد الأحدين وهو واحد الفضلاء وهي إحدى النساء وعلى هذا اقتصر الزمخشري. ورجح الأول بأنه أنسب بالمقام ولعله لما تضمن من الإشارة وقيل المعنى إنها لإحدى دركات النار الكبر السبع لأنها جهنم ولظى والحطمة وسقر والسعير والجحيم والهاوية. ونقل عن صاحب التيسير وليس بذاك أيضا وقيل ضمير إِنَّها يحتمل أن يكون للنذارة وأمر الآخرة.
قال في البحر فهو للحال والقصة وقيل هو للساعة فيعود على غير مذكور. وقرأ نصر بن عاصم وابن محيصن ووهب بن جرير عن ابن كثير «لحدى الكبرى» بحذف همزة إحدى وهو حذف لا ينقاس وتخفيف مثل هذه الهمزة أن تجعل بين بين نَذِيراً لِلْبَشَرِ قيل تمييز لَإِحْدَى الْكُبَرِ على أن نَذِيراً مصدر بمعنى إنذارا كالنكير بمعنى الإنكار أي إنها لإحدى الكبر إنذارا والمعنى على ما سمعت عن الزمخشري أنها لأعظم الدواهي إنذارا وهو كما تقول هي إحدى النساء عفافا. وقال الفراء: هو مصدر نصب بإضمار فعل أي إنذار إنذارا وذهب غير واحد إلى أنه اسم فاعل بمعنى منذرة فقال الزجاج حال من الضمير في أنها وفيه مجيء الحال من اسم أن وقيل حال من الضمير في لَإِحْدَى واختار أبو البقاء كونه حالا مما دلت عليه الجملة والتقدير عظمت أو كبرت نذيرا وهو على ما قال أبو حيان قول لا بأس به وجوزت هذه الأوجه على مصدريته أيضا بتأويله بالوصف وقال النحاس: حذفت الهاء من نَذِيراً وإن كان للنار على معنى النسب يعني ذات إنذار وقد يقال في عدم إلحاق الهاء فيه غير ذلك مما قيل في عدم إلحاقها في قوله تعالى إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] وقال أبو رزين: المراد بالنذير هنا هو الله تعالى فهو منصوب بإضمار فعل أي ادع نذيرا أو نحوه. وقال ابن زيد: المراد به النبيّ صلّى الله عليه وسلم قيل فهو منصوب بإضمار فعل أي ادع نذيرا أو نحوه. وقال ابن زيد: المراد به النبي صلّى الله عليه وسلم قيل فهو منصوب بإضمار فعل أيضا أي ناد أو بلغ أو أعلن وهو كما ترى ولو جعل عليه حالا من الضمير المستتر في الفعل لكان أولى وكذا لو جعل منادى والكلام نظير قولك إن الأمر كذا يا فلان وقيل إنه على هذا حال من ضمير قُمْ أول السورة وفيه خرم النظم الجليل ولذا قيل هو من بدع التفاسير. وقرأ أبيّ وابن أبي وابن عبلة «نذير» بالرفع على أنه خبر بعد خبر لأن أو خبر لمبتدأ محذوف أي هي نذير على ما هو المعول عليه من أنه وصف النار وأما على القول بأنه وصف الله تعالى أو الرسول عليه الصلاة والسلام فهو خبر لمحذوف لا غير أي هو نذير لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور فيما سبق أعني «البشر» وضمير شاءَ للموصول أي نذيرا للمتمكنين منكم من السبق إلى الخير والتخلف عنه. وقال السدي أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها أو يتأخر عنها إلى الجنة وقال الزجاج:
أن يتقدم إلى المأمورات أو يتأخر عن المنهيات وفسر بعضهم التقدم بالإيمان والتأخر بالكفر وقيل: ضمير شاء الله تعالى أي نذيرا لمن شاء الله تعالى منكم تقدمه أو تأخره وجوز أن يكون لمن خبرا مقدما وأن يتقدم أو

(15/145)


يتأخر مبتدأ كقولك لمن توضأ أن يصلي ومعناه مطلق لمن شاء التقدم أي السبق إلى الخير أو التأخر أي التخلف عنه أن يتقدم ويتأخر فيكون كقوله تعالى فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29] ولا يخفى أن اللفظ يحتمله لكنه بعيد جدا كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ مرهونة عند الله تعالى بكسبها والرهينة مصدر بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم لا صفة وإلّا لقيل رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول لا يدخله التاء ويستوي فيه المذكر والمؤنث ومنه قول عبد الرحمن بن زيد وقد قتل أبوه وعرض عليه سبع ديات فأبى أن يأخذها:
أبعد الذي بالنعف نعف كويكب ... رهينة رمس ذي تراب وجندل

أذكر بالبقيا على من أصابني ... وبقياي أني جاهد غير مؤتل
واختير على رهين مع موازنته لليمين وعدم احتياجه للتأويل لأن المصدر هنا أبلغ فهو أنسب بالمقام فلا يلتفت للمناسبة اللفظية فيه، وقيل الهاء في رَهِينَةٌ للمبالغة واختار أبو حيان أنها مما غلب عليه الاسمية كالنطيحة وإن كانت الأصل فعيلا بمعنى مفعول وهو وجه أيضا وادعى أن التأنيث في البيت على معنى النفس إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ وهم المسلمون المخلصون كما قال الحسن وابن كيسان والضحاك ورواه ابن المنذر عن ابن عباس فإنهم فاكّون رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم كما يفك الراهن رهنه بأداء الدين.
وأخرج ابن المنذر وابن جرير وجماعة عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أنهم أطفال المسلمين
وأخرجوه أيضا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ونقل بعضهم عن ابن عباس أنهم الملائكة فإنهم غير مرهونين بديون التكاليف كالأطفال وتعقب بأن إطلاق النفس على الملك غير معروف وبأنهم لا يوصفون بالكسب أيضا على أن الظاهر سباقا وسياقا أن يراد بهم طائفة من البر المكلفين والكثير على تفسيرهم بما سمعت. وقيل هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى وقيل الذين كانوا عن يمين آدم عليه السلام يوم الميثاق وقيل الذين يعطون كتبهم بأيمانهم ولا تدافع بين هذه الأقوال كما لا يخفى والاستثناء على ما تقدم، وكذا هذه الأقوال متصل وأما على قول الأمير كرم الله تعالى وجهه وما نقل عن ابن عمه فقال أبو حيان: هو استثناء منقطع وقيل يجوز الاتصال والانقطاع بناء على أن الكسب مطلق العمل أو ما هو تكليف فلا تغفل فِي جَنَّاتٍ خبر مبتدأ محذوف والتنوين للتعظيم والجملة استئناف وقع جواب عن سؤال نشأ مما قبله من استثناء أصحاب اليمين كأنه قيل ما بالهم؟ فقيل: هم في جنات لا يكتنه كنههما ولا يدرك وصفها وجوز أن يكون الظرف في موضع الحال من أَصْحابَ الْيَمِينِ أو من ضميرهم في قوله تعالى يَتَساءَلُونَ قدم للاعتناء مع رعاية الفاصلة. وقيل ظرف للتساؤل وليست المراد بتساؤلهم أن يسأل بعضهم بعضا على أن يكون كل واحد منهم سائلا ومسؤولا معا بل وقوع السؤال منهم مجردا عن وقوعه عليهم فإن صيغة التفاعل وإن وضعت في الأصل للدلالة على صدور الفعل عن المتعدي ووقوعه عليه معا بحيث يصير كل واحد من ذلك فاعلا ومفعولا معا كما في قولك تشاتم القوم أي شتم كل واحد منهم الآخر لكنها قد تجرد عن المعنى الثاني ويقصد بها الدلالة على الأول فقط ويكون الواقع عليه شيئا آخر كما في قولك: تراه والهلال. قال جار الله: إذا كان المتكلم مفردا يقول: دعوته وإذا كان جماعة يقول: تداعيناه، ونظيره رميته وتراميناه ورأيت الهلال وتراءيناه ولا يكون هذا التفاعل من الجانبين وعلى هذا فالمسؤول محذوف أعني المجرمين والتقدير يَتَساءَلُونَ المجرمين عنهم أي يسألون المجرمين عن أحوالهم فغير إلى ما في النظم الجليل وقيل يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ والمعنى على ذلك وحذف المسئول لكونه غير المسئول عنه وقوله تعالى ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ بيان للتساؤل من غير حاجة إلى إضمار قول أو هو مقدر بقول وقع حالا من فاعل

(15/146)


يَتَساءَلُونَ أي يسألونهم قائلين أي شيء أدخلكم في سقر وقيل المسئول غير المجرمين كجماعة من الملائكة عليهم السلام وما سَلَكَكُمْ إلخ حكاية قول المسئولين عنهم أي لما سأل أصحاب اليمين الملائكة عن حال المجرمين قالوا لهم نحن سألنا المجرمين عن ذلك وقلنا لهم ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ إلى الآخر وكان يكفيهم أن يقولوا حالهم كيت وكيت لكن أتى بالجواب مفصلا حسب ما سألوه ليكون أثبت للصدق وأدل على حقيقة الأمر ففي الكلام حذف واختصار. وجوز أن تكون صيغة التفاعل على حقيقتها أي يسأل بعضهم بعضا عن المجرمين وما سَلَكَكُمْ حكاية قول المسئول عنهم أيضا ولا يخفى ما في اعتبار الحكاية من التكلف فليس ذاك بالوجه وإن كان الإيجاز نهج التنزيل والحذف كثيرا في كلامه تعالى الجليل، والظاهر أن السؤال سؤال توبيخ وتحسير وإلّا فهم عالمون ما الذي أدخلهم النار ولو كانوا الأطفال فيما أظن لانكشاف الأمر ذلك اليوم. وروى عبد الله بن أحمد وجماعة عن ابن الزبير أنه يقرأ «يتساءلون عن المجرمين يا فلان ما سلككم» ورويت عن عمر أيضا وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن ابن مسعود أنه قرأ «يا أيها الكفار ما سلككم في سقر» قالُوا أي المجرمون مجيبين للسائلين لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ للصلاة الواجبة وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ أي نعطيه ما يجب إعطاؤه والمعنى على استمرار النفي الاستمرار. واستدل بالآية على أن الكفار مخاطبون بفروع العبادات لأنهم جعلوا عذابهم لترك الصلاة فلو لم يخاطبوا بها لم يؤاخذوا وتفصيل المسألة في الأصول وتعقب هذا الاستدلال بأنه لا خلاف في المؤاخذة في الآخرة على ترك الاعتقاد فيجوز أن يكون المعنى من المعتقدين للصلاة ووجوبها فيكون العذاب على ترك الاعتقاد، وأيضا المضلين يجوز أن يكون كناية عن المؤمنين، وأيضا ذاك من كلام الكفرة فيجوز كذبهم أو خطؤهم فيه وأجيب بأن ذلك عدول عن الظاهر يأباه قوله تعالى وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ إلخ
والمقصود من حكاية السؤال والجواب التحذير فلو كان الجواب كذبا أو خطأ لم يكن في ذكره فائدة وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ أي نشرع في الباطل مع الشارعين فيه والخوض في الأصل ابتداء الدخول في الماء والمرور فيه واستعماله في الشروع في الباطل من المجاز المرسل أو الاستعارة على ما قرروه في المشفر ونحوه. وعن بعضهم أنه اسم غالب في الشر وأكثر ما استعمل في القرآن بما يذم الشروع فيه وأريد بالباطل ما لا ينبغي من القول والفعل وعد من ذلك حكاية ما يجري بين الزوجين في الخلوة مثلا وحكاية أحوال الفسقة بأقسامهم على وجه الالتذاذ والاستئناس بها ونقل الحروب التي جرت بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم لغير غرض شرعي بل لمجرد أن يتوصل به إلى طعن وتنقيص والتكلم بالكلمة يضحك بها الرجل جلساءه سواء كانت مباحة في نفسها أم لا نعم التكلم بالكلمة المحرمة لذلك باطل على باطل إلى غير ذلك مما لا يحصى وكان ذكر مَعَ الْخائِضِينَ إشارة إلى عدم اكتراثهم بالباطل ومبالاتهم به فكأنهم قالوا وكنا لا نبالي بباطل وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ أي بيوم الجزاء أضافوه إلى الجزاء مع أن فيه من الدواهي والأهوال ما لا غاية له لأنه أدهاها وأهولها وأنهم ملابسوه وقد مضت بقية الدواهي وتأخير جنايتهم هذه مع كونها أعظم من الكل لتفخيمها كأنهم قالوا وكنا بعد ذلك كله مكذبين بيوم القيامة ولبيان كون تكذيبهم به مقارنا لسائر جناياتهم المعدودة مستمرا إلى آخر عمرهم حسبما نطق به قولهم حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ أي الموت ومقدماته كما ذهب إليه جل المفسرين وقال ابن عطية الْيَقِينُ عندي صحة ما كانوا يكذبون به من الرجوع إلى الله تعالى والدار الآخرة وقول المفسرين هو الموت متعقب عندي لأن نفس الموت يقين عند الكافر وهو حي فلم يريدوا باليقين إلّا الشيء الذي كانوا يكذبون به وهم أحياء في الدنيا فتيقنوه بعد الموت انتهى وفيه نظر. ثم الظاهر أن مجموع ما ذكروه سبب لدخول مجموعهم النار فلا يضر في ذلك أن من أهل النار من لم يكن وجب عليه إطعام مسكين كفقراء الكفرة المعدمين. وفي الكشاف يحتمل الكلام أن يكون دخول كل منهم النار لمجموع الأربعة ويحتمل أن يكون دخول بعضهم لبعضها كان يكون

(15/147)


ذلك لمجرد ترك الصلاة أو ترك الإطعام وفيه دسيسة اعتزال وهو تخليد مرتكب الكبيرة من المؤمنين كتارك الصلاة في النار وأنت تعلم أن الآية في الكفار لا في أعم منهم فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ لو شفعوا لهم جميعا فالكلام على الفرض واشتهر أنه من باب:
ولا ترى الضب بها ينجحر وحمل التعريف على الاستغراق أبلغ وأنسب بالمقام والفاء في قوله فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ لترتيب إنكار إعراضهم عن القرآن بغير سبب على ما قبلها من موجبات الإقبال عليه والاتعاظ به من سوء حال المكذبين ومُعْرِضِينَ حال لازمة من الضمير في الجار الواقع خبرا لما الاستفهامية أعني لهم وهي المقصودة من الكلام وعَنِ متعلقة بها والتقديم للعناية مع رعاية الفاصلة أي فإذا كان حال المكذبين به على ما ذكر فأي شيء حصل لهم معرضين عن القرآن مع تعاضد موجبات الإقبال عليه وتأخذ الدواعي إلى الإيمان به وجوز أن يراد بالتذكرة ما يعم القرآن وما بعد يرجح الأول وهو مصدر بمعنى التذكير أصل على ما ذكر مبالغة وقوله تعالى كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ حال من المستكن في معرضين بطريق التداخل والحمر جمع حمار والمراد به كما قال ابن عباس حمار الوحش لأنه بينهم مثل بالنفار وشدة الفرار ومُسْتَنْفِرَةٌ من استنفر بمعنى نفر كعجب واستعجب كما قيل والأحسن أن استفعل للمبالغة كأن الحمر لشدة العدو تطلب النفار من نفسها والمعنى مشبهين بحمر نافرة جدا فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ أي أسد وهي فعولة من القسر وهو القهر والغلبة وأخرج ذلك ابن جرير وعبد بن حميد وغيرهما عن أبي هريرة، وأخرجه ابن المنذر عن ابن عباس أيضا بيد أنه قال هو بلسان العرب «الأسد» وبلسان الحبشة قَسْوَرَةٍ وفي رواية أخرى عنه إنها الرجال الرماة القنص وروي نحوه عن مجاهد وعكرمة وابن جبير وعطاء بن أبي رباح وفي رواية أخرى عنه أخرجها ابن عيينة في تفسيره أنه ركز الناس أي أصواتهم وعنه أيضا حبال الصيادين وعن قتادة النبل وقال ابن الأعرابي وثعلب القسورة أول الليل أي فرت من ظلمة الليل وجمهور اللغويين على أنه الأسد وأيّا ما كان فقد شبهوا في إعراضهم عن القرآن واستماع ما فيه من المواعظ وشرادهم عنه بحمر وحشية جدت في نفارها مما أفزعها وفي تشبيههم بالحمر مذمة ظاهرة وتهجين لحالهم بني كما في قوله سبحانه كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة: 5] أو شهادة عليهم بالبله وقلة العقل. وقرأ الأعمش «حمر» بإسكان الميم وقرأ نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم «مستنفرة» بفتح الفاء أي استنفرها فزعها من القسورة وفرت يناسب الكسر فعن محمد بن سلام قال سألت أبا سرار الغنوي وكان أعرابيا فصيحا فقلت: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ ماذا فقال مسنفرة طردها قسورة ففتح الفاء فقلت إنما هو فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال أفرت؟ قلت: نعم، قال فمستنفرة إذن فكسر الفاء وقوله تعالى بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً عطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل لا يكتفون بتلك التذكرة ولا يرضون بها بل يريد كل واحد منهم أن يؤتى قراطيس تنشر وتقرأ كالكتب التي يتكاتب بها وجوز أن يراد كتبا كتبت في السماء ونزلت بها الملائكة ساعة كتبت منشرة على أيديها غضة رطبة لم تطو بعد وفيه بعد وذلك على الوجهين أنهم قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إن سرك أن نتابعك فأت كل واحد منا بكتب من السماء عنوانها من رب العالمين إلى فلان بن فلان نؤمر فيها باتباعك فنزلت ونحوه قوله تعالى لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الإسراء: 93] وقال وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ [الأنعام: 7] الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي عن أبي صالح قال: قالوا إن كان محمد صادقا فليصبح تحت رأس كل رجل منا صحيفة فيه براءة وأمنة من النار وقيل كانوا يقولون بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوبا على رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك وهذا من الصحف المنشرة بمعزل إلّا أن يراد بالصحف

(15/148)


المنشرة الكتابات الظاهرة المكشوفة ونحوه ما روي عن أبي صالح فمآلهما إلى واحد لاشتراكهما في أن المنشر لم يبق على أصله وأن لكل صحيفة مخصوصة به إما لخلاصه من الذنب وإما لوجه خلاصة فالمعمول عليه ما تقدم وهو مروي عن الحسن وقتادة وابن زيد. وقرأ سعيد بن جبير «صحفا» بإسكان الحاء «منشرة» بالتخفيف على أن أنشر الصحف ونشرها واحد كأنزل ونزله وفي البحر المحفوظ في الصحيفة والثوب نشر مخففا ثلاثيا ويقال في الميت أنشره الله تعالى
ونشره ويقال: أنشره الله تعالى فنشر هو أي أحياه فحيي كَلَّا ردع عن إرادتهم تلك وزجر لهم عن اقتراح الآيات بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ فلذلك يعرضون عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف وحصول مقترحهم كما يزعمون وقرأ أبو حيوة «تخافون» بتاء الخطاب التفاتا كَلَّا ردع لهم عن إعراضهم إِنَّهُ أي القرآن أو التذكرة السابقة في قوله تعالى فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ وكذا الضمير الآتي وذكر لأنه بمعنى القرآن أو الذكر تَذْكِرَةٌ وأي تذكرة فَمَنْ شاءَ أن يذكره ذَكَرَهُ وحاز بسببه سعادة الدارين والوقف على كَلَّا على ما سمعت في الموضعين وعلى مُنَشَّرَةً والْآخِرَةَ إن جعلت كما في الحواشي بمعنى إلّا وَما يَذْكُرُونَ أي بمجرد مشيئتهم للذكر كما هو المفهوم من ظاهر قوله تعالى فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ إذ لا تأثير لمشيئة العبد وإرادته في أفعاله وهو قوله سبحانه إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ استثناء مفرغ من أعم العلل أو من أعم الأحوال أي وما يذكرون بعلة من العلل أو في حال من الأحوال إلّا بأن يشاء الله تعالى أو حال إن يشاء الله ذلك وهذا تصريح بأن أفعال العباد بمشيئة الله عز وجل بالذات أو بالواسطة فيه رد على المعتزلة وحملهم المشيئة على مشيئة القسر والإلجاء خروج عن الظاهر من غير قسر وإلجاء. وقرأ نافع وسلام ويعقوب «تذكرون» بتاء الخطاب التفاتا مع إسكان الذال وروي عن أبي حيوة «يذّكرون» بياء الغيبة وشد الذال وعن أبي جعفر «تذكرون» بالتاء الفوقية وإدغامها في الذال هُوَ أَهْلُ التَّقْوى حقيق بأن يتقى عذابه ويؤمن به ويطاع فالتقوى مصدر المبني للمفعول وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ حقيق بأن يغفر جل وعلا لمن آمن به وأطاعه فالمغفرة مصدر المبني للفاعل وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه والنسائي وابن ماجة وخلق آخرون
عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ فقال: «قد قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر فأنا أهل أن أغفر له» . وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن دينار عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس مرفوعا ما يقرب من ذلك.
وفي حديث أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن الحسن قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى إني لأجدني أستحي من عبدي يرفع يديه إليّ ثم يردهما من غير مغفرة، قالت الملائكة: إلهنا ليس لذلك بأهل قال الله تعالى لكني أهل التقوى وأهل المغفرة أشهدكم أني قد غفرت له»
وكأن الجملة لتحقيق الترهيب والترغيب اللذين أشعر بهما الكلام السابق كما لا يخفى على المتذكر
وعن بعضهم أنه لما سمع قوله تعالى هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ قال: «اللهم اجعلني من أهل التقوى وأهل المغفرة
على أن أول الثاني كثاني الأول مبنيا للفاعل وثاني الثاني كأول الأول مبنيا للمفعول وإلّا فلا يحسن الدعاء وإن تكلف لتصحيحه فافهم والله تعالى أعلم.

(15/149)