روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ
الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ
(2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3)
بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ
يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ
أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ
(7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
(9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)
كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ
الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا
قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ
بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا
تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ
عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ
(19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ
الْآخِرَةَ (21)
سورة القيمة
ويقال لها سورة لا أقسم وهي مكية من غير حكاية خلاف ولا
استثناء واختلف في عدد آيها ففي الكوفي أربعون وفي غيره تسع
وثلاثون والخلاف في لِتَعْجَلَ بِهِ
[القيامة: 16] ولما قال سبحانه وتعالى في آخر ال مدثر كَلَّا
بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ [المدثر: 53] بعد ذكر الجنة
والنار وكان عدم خوفهم إياها لإنكارهم البعث ذكر جلا وعلا في
هذه السورة الدليل عليه بأتم وجه ووصف يوم القيامة وأهواله
وأحواله ثم ذكر ما قبل ذلك من خروج الروح من البدن ثم ما قبل
من مبدأ الخلق على عكس الترتيب الواقعي فقال عز من قائل عظيم:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ
الْقِيامَةِ إدخال لا النافية صورة على فعل القسم مستفيض في
كلامهم وأشعارهم قال امرؤ القيس:
لا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم أني أفر
وقول غوية بن سلمى يرثي:
ألا نادت أمامة باحتمال ... لتحزنني فلا بك ما أبالي
وملخص ما ذهب إليه جار الله في ذلك أن لا هذه إذا وقعت في خلال
الكلام كقوله تعالى فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [النساء:
65] فهي صلة تزاد لتأكيد القسم مثلها في قوله تعالى لِئَلَّا
يَعْلَمَ [الحديد: 29] لتأكيد العلم وأنها إذا وقعت ابتداء كما
في هذه السورة وسورة البلد فهي للنفي لأن الصلة إنما تكون في
وسط
(15/150)
الكلام ووجهه أن إنشاء القسم يتضمن الإخبار
عن تعظيم المقسم به فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل
الكناية، والمراد أنه لا يعظم بالقسم لأنه في نفسه عظيم أقسم
به أولا ويترقى من هذا التعظيم إلى تأكيد المقسم عليه إذ
المبالغة في تعظيم المقسم به تتضمن المبالغة فيه فما يختلج في
بعض الخواطر من أنه يلزم أن يكون على هذا إخبارا لا إنشاء فلا
يستحق جوابا، وأن المعنى على تعظيم المقسم عليه لا المقسم به
مدفوع، ووراء ذلك أقوال فقيل إنها لنفي الإقسام لوضوح الأمر.
وقال الفراء: لنفي كلام معهود قبل القسم ورده فكأنهم هنا
أنكروا البعث فقيل لا أي الأمر كذلك ثم قيل أُقْسِمُ بِيَوْمِ
الْقِيامَةِ وقدح الإمام فيه بإعادة حرف النفي بعد وقيل إنها
ليس لا وإنما اللام أشبعت فتحتها فظهر من ذلك ألف والأصل
«لأقسم» كما قرأ به قنبل وروي عن البزي والحسن وهي لام
الابتداء عند بعض والأصل «لأنا أقسم» وحذف المبتدأ للعلم به
ولام التأكيد دخلت على الفعل المضارع كما في إِنَّ رَبَّكَ
لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [النحل: 124] والأصل إني لأقسم عند بعض،
ولام القسم ولم يصحبها نون التوكيد لعدم لزوم ذلك وإنما هو
أغلبي على ما حكي عن سيبويه مع الاعتماد على المعنى عند آخرين.
وقال الجمهور: إنها صلة واختاره جار الله في المفصل وما ذكر من
الاختصاص غير مسلم لأن الزيادة إذا ثبتت في القسم فلا فرق بين
أول الكلام وأوسطه لا أنه مسلم لكن القرآن في حكم سورة واحدة
متصل بعضه ببعض لأن كونه كذلك بالنسبة إلى التناقض ونحوه لا
بالنسبة إلى مثل هذا الحكم ثم فهم ما ذكره في توجيه النوفي من
اللفظ بعيد وحال سائر الأقوال غير خفي وقد مر بعض الكلام في
ذلك فتذكر والكلام في قوله تعالى وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ
اللَّوَّامَةِ على ذلك النمط بيد أنه قبل على قراءة لأقسم فيما
قبل أن المراد هنا النفي على معنى «أني لأقسم بيوم القيامة»
لشرفه وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ لخستها. وأخرج
عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة ما يقتضيه وحكاه في البحر عن
الحسن وقال قتادة في هذه النفس هي الفاجرة الجشعة اللوامة
لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا وأغراضها وجاء نحوه في
رواية عن ابن عباس والحق أنه تفسير لا يناسب هذا المقام ولذلك
قيل هي النفس المتقية التي تلوم النفوس يوم القيامة على
تقصيرهن في التقوى والمبالغة بكثرة المفعول. وقال مجاهد: هي
التي تلوم نفسها على ما فات وتندم على الشر لم فعلته وعلى
الخير لم لم تستكثر منه فهي لم تزل لائمة وإن اجتهدت في
الطاعات فالمبالغة في الكيف باعتبار الدوام وقيل المراد
«بالنفس اللوامة» جنس النفس الشاملة للتقية والفاجرة لما
روي أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «ليس من نفس برة ولا فاجرة
إلّا وتلوم نفسها يوم القيامة إن عملت خيرا قالت كيف لم أزد
منه، وإن عملت شرا قالت ليتني قصرت»
. وضمها إلى يوم القيامة لأن المقصود من إقامتها مجازاتها
وبعثها فيه، وضعف بأن هذا القدر من اللوم لا يكون مدارا
للإعظام بالإقسام وإن صدر عن النفس المؤمنة المسيئة فكيف من
الكافرة المندرجة تحت الجنس وأجيب بأن القسم بها حينئذ بقطع
النظر عن الصفة والنفس من حيث هي شريفة لأنها الروح التي هي من
عظيم أمر الله عز وجل، وفيه أنه لا يظهر لذكر الوصف حينئذ
فائدة والإمام أوقف الخبر على ابن عباس واعترضه بثلاثة أوجه،
وأجاب عنها بحمل اللوم على تمني الزيادة وتمني إن لم يكن ما
وقع من المعصية واقعا وما ذكر من توجيه الضم لا يخص هذا الوجه
كما لا يخفى وقيل المراد بها نفس آدم عليه السلام فإنها لم تزل
تلوم نفسها على فعلها الذي خرجت به من الجنة وأكثر الصوفية على
أن النفس اللوامة فوق الأمارة وتحت المطمئنة، وعرفوا الأمارة
بأنها هي التي تميل إلى الطبيعة البدنية وتأمر باللذات
والشهوات الحسية وتجذب القلب إلى الجهة السفلية، وقالوا هي
مأوى الشرور ومنبع الأخلاق الذميمة.
وعرفوا اللوامة بأنها هي التي تنورت بنور القلب قدر ما تنبهت
عن سنة الغفلة فكلما صدر عنها سيئة بحكم
(15/151)
جبلّتها الظلمانية أخذت تلوم نفسها ونفرت
عنها. وعرفوا المطمئنة بأنها التي تم تنورها بنور القلب حتى
انخلعت عن صفاتها الذميمة وتخلقت بالأخلاق الحميدة وسكنت عن
منازعة الطبيعة ومنهم من قال في اللَّوَّامَةِ هي المطمئنة
اللائمة للنفس الأمارة ومنهم من قال هي فوق المطمئنة وهي التي
ترشحت لتأديب غيرها إلى غير ذلك والمشهور عنهم تقسيم مراتب
النفس إلى سبع منها هذه الثلاثة وفي سير السلوك إلى ملك الملوك
كلام نفيس في ذلك فليراجعه من شاء وجواب القسم ما دل عليه قوله
تعالى أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ وهو
ليبعثن وقيل هو أَيَحْسَبُ إلخ وقيل بَلى قادِرِينَ وكلاهما
ليسا بشيء أصلا كزعم عدم الاحتياج إلى جواب لأن المراد نفي
الأقسام والمراد بالإنسان الجنس والهمزة لإنكار الواقع
واستقباحه والتوبيخ عليه و (إن) مخففة من الثقيلة واسمها ضمير
الشأن محذوف أي أيحسب أن الشأن لن نجمع بعد التفرق عظامه،
وحاصله لم يكون هذا الحسبان الفارغ عن الإمارة المنافي لحق
اليقين وصريحه والنسبة إلى الجنس لأن فيه من يحسب ذلك بل لعله
الأكثرون وجوز أن يكون التعريف للعهد والمراد بالإنسان عدي ابن
أبي ربيعة وختن الأخنس بن شريق وهما اللذان
كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقول فيهما: «اللهم اكفني جاريّ
السوء»
فقد روي أنه جاء إليه عليه الصلاة والسلام فقال: يا محمد حدثني
عن يوم القيامة متى يكون وكيف يكون أمره؟
فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: لو عاينت ذلك
اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أومن به أو يجمع الله تعالى هذه
العظام فنزلت
. وقيل أبو جهل فقد روي أنه كان يقول: أيزعم محمد أن يجمع الله
تعالى هذه العظام بعد بلائها وتفرقها فيعيدها خلقا جديدا فنزلت
وليس كإرادة الجنس وسبب النزول لا يعنيه وذكر العظام وأن
المعنى على إعادة الإنسان وجمع أجزائه المتفرقة لما أنها قالب
الخلق. وقرأ قتادة «تجمع بالتاء الفوقية مبينا للمفعول «عظامه»
بالرفع على النيابة بَلى أي نجمعها بعد تفرقها ورجوعها رميما
ورفاتا في بطون البحار وفسيحات القفار وحيثما كانت حال كوننا
قادِرِينَ فقادرين حال من فاعل الفعل المقدر بعد بَلى وهو قول
سيبويه وقيل منصوب على أنه خبر كان أي بلى كنا قادرين في البدء
أفلا نقدر في الإعادة وهو كما ترى. وقيل انتصب لأنه وقع في
موضع نقدر إذ التقدير بلى نقدر فلما وضع موضع الفعل نصب حكاه
مكي وقال إنه بعيد من الصواب يلزم عليه نصب قائم في قولك مررت
برجل قائم لأنه في موضع يقوم فتأمل. وقرأ ابن أبي عبلة وابن
السميفع «قادرون» أي نحن قادرون عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ
هي اسم جنس جمعي واحده بنانة وفسرها الراغب بالأصابع ثم قال
قيل سميت بذلك لأن بها صلاح الأحوال التي يمكن للإنسان أن يبين
بها ما يريد أي يقيم غيره بما صغر من عظام الأطراف كاليدين
والرجلين وفي القاموس البنان الأصابع أو أطرافها فالمعنى نجمع
العظام قادرين على تأليف جمعها وإعادتها إلى التركيب الأول
وإلى أن نسوي أصابعه التي هي أطرافه وآخر ما يتم به خلقه، أو
على أن نسوي ونضم سلامياته على صغرها ولطافتها بعضها إلى بعض
كما كانت أولا من غير نقصان ولا تفاوت بكيف بكبار العظام وما
ليس في الأطراف منها؟ وفي الحال المذكورة أعني قادِرِينَ عَلى
إلخ بعد الدلالة على التقييد تأكيد لمعنى الفعل لأن الجمع من
الأفعال التي لا بد فيه من القدرة فإذا قيد بالقدرة البالغة
فقد أكد والوجه الأول من المعنى يدل على تصوير الجمع وأنه لا
تفاوت بين الإعادة والبدء في الاشتمال على جميع الأجزاء التي
كان بها قوام البدن أو كماله، والثاني يدل على تحقيق الجمع
التام فإنه إذا قدر على جمع الألطف الأبعد عادة عن الإعادة
فعلى جمع غيره أقدر ولعله الأوفق بالمقام. ويعلم منهما نكتة
تخصيص البنان بالذكر وقيل المعنى بلى نجمعها ونحن قادرون على
أن نسوي أصابع يديه ورجليه أن نجعلها مستوية شيئا واحدا كخف
البعير وحافر الحمار ولا نفرق بينها فلا يمكنه أن يعمل بها
شيئا مما يعمل
(15/152)
بأصابعه المفرقة ذات المفاصل والأنامل من
فنون الأعمال والبسط والقبض والتأتي لما يريد من الحوائج وروي
هذا عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وعكرمة والضحاك ولعل المراد
نجمعها ونحن قادرون على التسوية وقت الجمع فالكلام يفيد
المبالغة السابقة لكن من وجه آخر وهو أنه سبحانه إذا قدر على
إعادته على وجه يتضمن تبديل بعض الأجزاء فعلى الاحتذاء بالمثال
الأول في جميعه أقدر وأبو حيان حكى هذا المعنى عن الجمهور لكن
قيد التسوية فيه بكونها في الدنيا وقال: إن في الكلام عليه
توعدا ثم تعقب ذلك بأنه خلاف الظاهر المقصود من سوق الكلام
والأمر كما قال لو كان كما فعل فلا تغفل. ولا يخفى أن في
الإتيان بلا أولا وحذف جواب القسم والإتيان بقوله سبحانه
أَيَحْسَبُ ورعاية أسلوب:
وثناياك إنها إغريض في القسم بيوم البعث والمبعوث فيه ثم إيثار
لفظ الحسبان والإتيان بهمزة الإنكار مسندا إلى الجنس وبحرف
الإيجاب والحال بعدها من المبالغات في تحقيق المطلوب وتفخيمه
وتهجين المعرض عن الاستعداد له ما تبهر عجائبه ثم الحسن كل
الحسن في ضمن حرف الإضراب في قوله سبحانه بَلْ يُرِيدُ
الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ وهو عطف على أَيَحْسَبُ جي
للإضراب عن إنكار الحسبان إلى الإخبار عن حال الإنسان الحاسب
بما هو أدخل في اللوم والتوبيخ من الأول كأنه قيل دع تعنيفه
فإنه أشط من ذلك وأنّى يرتدع وهو يريد ليدوم على فجوره فيما
بين يديه من الأوقات وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه، أو
هو عطف على يَحْسَبُ منسجما عليه الاستفهام أو على أَيَحْسَبُ
مقدرا فيه ذلك أي بل أريد جيء به زيادة إنكار في إرادته هذه
وتنبيها على أنها أفظع من الأول للدلالة على أن ذلك الحسبان
بمجرده إرادة الفجور كما نقول في تهديد جمع عاثوا في البلد
أيحسبون أن لا يدخل الأمير بل يريدون أن يتملكوا فيه لم تقل
هذه إلّا وأنت مترق في الإنكار منزل عبثهم منزلة إرادة التملك
وعدم العبء بمكان الأمير، وإلى هذين الوجهين أشار جار الله على
ما قرر في الكشف والوجه الأول أبلغ لأن هذا على الترقي والأول
إضراب عن الإنكار وإيهام أن الأمر أطم من ذلك وأطم، وفيهما
إيماء إلى أن ذلك الإنسان عالم بوقوع الحشر ولكنه متغاب واعتبر
الدوام في لِيَفْجُرَ لأنه خبر عن حال الفاجر بأنه يريد ليفجر
في المستقبل على أن حسبانه وإرادته هما عين الفجور، وقيل لأن
أَمامَهُ ظرف مكان استعير هنا للزمان المستقبل فيفيد الاستمرار
وفي إعادة المظهر ثانيا ما لا يخفى من التهديد والنعي على قبيح
ما ارتكبه وأن الإنسانية تأبى هذا الحسبان والإرادة وعود ضمير
أَمامَهُ على هذا المظهر هو الأظهر. وعن ابن عباس ما يقتضي
عوده على يوم القيامة والأول هو الذي يقتضيه كلام كثير من
السلف لكنه ظاهر في عموم الفجور قال مجاهد والحسن وعكرمة وابن
جبير والضحاك والسدي في الآية إن الإنسان إنما يريد شهواته
ومعاصيه ليمضي فيها أبدا قدما راكبا رأسه ومطيعا أمله ومسوفا
لتوبته وهو حسن لا يأبى ذلك الإضراب، وفيه إشارة إلى أن مفعول
يُرِيدُ محذوف دل عليه لِيَفْجُرَ وقال بعضهم وهو منزل منزلة
اللام ومصدره مقدر بلام الاستغراق أي يوقع جميع إرادته
لِيَفْجُرَ وعن الخليل وسيبويه ومن تبعهما في مثله أن الفعل
مقدر بمصدر مرفوع بالابتداء وليفعل خبر فالتقدير هنا بل إرادة
الإنسان كائنة ليفجر يَسْئَلُ سؤال استهزاء أَيَّانَ يَوْمُ
الْقِيامَةِ أي متى يكون، والجملة قيل حال وقيل تفسير
لِيَفْجُرَ وقيل بدل منه.
واختار المحققون أنه استئناف بياني جيء به تعليلا لإرادة
الدوام على الفجور إذ هو في معنى لأنه أنكر البعث واستهزأ به،
وفيه أن من أنكر البعث لا محالة يرتكب أشد الفجور وطرف من قوله
تعالى هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما
(15/153)
تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا
الدُّنْيا
[المؤمنون: 36] فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ تحير فزعا وأصله من
برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره ومنه قول ذي الرمة:
ولو أن لقمان الحكيم تعرضت ... لعينيه ميّ سافرا كاد يبرق
ونظيره قمر الرجل إذا نظر إلى القمر فدهش بصره، وكذلك ذهب وبقر
للدهش من النظر إلى الذهب والبقر فهو استعارة أو مجاز مرسل
لاستعماله في لازمه أو في المطلق. وقرأ نافع وزيد بن ثابت وزيد
بن علي وأبان عن عاصم وهارون ومحبوب كلاهما عن أبي عمرو وخلق
آخرون «برق» بفتح الراء فقيل هي لغة في «برق» بالكسر وقيل هو
من البريق بمعنى لمع من شدة شخوصه. وقرأ أبو السمال «بلق»
باللام عوض الراء أي انفتح وانفرج يقال بلق الباب أبلقته
وبلقته فتحته هذا قول أهل اللغة إلّا الفراء فإنه يقول بلقه
وأبلقه إذا أغلقه وخطأه ثعلب وزعم بعضهم أنه من الأضداد
والظاهر أن اللام فيه أصلية وجوز أن تكون بدلا من الراء فهما
يتعاقبان في بعض الكلم نحو نتر ونتل ووجر ووجل وَخَسَفَ
الْقَمَرُ ذهب ضوءه وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي
ويزيد بن قطيب «خسف القمر» على البناء للمفعول وَجُمِعَ
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ حيث يطلعهما الله تعالى من المغرب على
ما روي عن ابن مسعود ولا ينافيه الخسوف إذ ليس المراد به مصطلح
أهل الهيئة وهو ذهاب نور القمر لتقابل النيرين وحيلولة الأرض
بينهما بل ذهاب نوره لتجلّ خاص في ذلك اليوم أو لاجتماعه مع
الشمس وهو المحاق، وجوز أن يكون الخسوف بالمعنى الاصطلاحي
ويعتبر في وسط الشهر مثلا ويعتبر الجمع في آخره إذ لا دلالة
على اتحاد وقتيهما في النظم الجليل، وأنت تعلم أن هذا خسوف
يزري بحال أهل الهيئة ولا يكاد يخطر لهم ببال كالجمع المذكور.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عطاء بن يسار قال: يجمعان ثم
يقذفان في البحر فيكون نار الله الكبرى وتوسعة البحر أو
تصغيرهما مما لا يعجز الله عز وجل وأحوال يوم القيامة على خلاف
النمط الطبيعي وحوادثه أمور وراء الطبيعة فلا يقال أين البحر
من جرم القمر فضلا عن جرم الشمس الذي هو بالنسبة إليها
كالبعوضة بالنسبة إلى الفيل ولا كيف يجمعان ويقذفان، وقيل:
يجمعان أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران في النار وعن عليّ
كرم الله تعالى وجهه وابن عباس يجمعان ويجعلان في نور الحجب
وقيل يجمعان ويقربان من الناس فيلحقهم العرق لشدة الحر وقيل
جمعا في ذهاب الضوء وروي عن مجاهد وهو اختيار الفراء والزجاج
فالجمع مجاز عن التساوي صفة وفيه بعد إذ كان الظاهر عند إرادة
ذلك أن يقال من أول الأمر وخسف الشمس والقمر ولا غبار في نسبة
الخسوف إليهما لغة وكذا الكسوف ولم يلحق الفعل علامة التأنيث
لتقدمه وكون الشمس مؤنثا مجازيا وفي مثله يجوز الأمران وكان
اختيار ترك الإلحاق لرعاية حال القمر المعطوف. وقال الكسائي:
إن التذكير حمل على المعنى والتقدير جمع النوران أو الضياءان
وليس بذاك يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ يوم إذ تقع هذه
الأمور أَيْنَ الْمَفَرُّ أي الفرار يأسا منه وجوز إبقاؤه على
حقيقة الاستفهام لدهشته وتحيره وقرأ الحسن ريحانة رسول الله
صلّى الله عليه وسلم والحسن بن زيد وابن عباس ومجاهد وعكرمة
وجماعة كثيرة «المفرّ» بفتح الميم وكسر الفاء اسم مكان قياسي
من يفر بالكسر أي أين موضع الفرار وجوز أن يكون مصدرا أيضا
كالمرجع. وقرأ الحسن البصري بكسر الميم وفتح الفاء ونسبها ابن
عطية للزهري أي الجيد الفرار وأكثر ما يستعمل هذا الوزن في
الآلات وفي صفات الخيل ومنه قوله:
مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
(15/154)
واختلف في هذا اليوم فالأكثرون على أنه يوم
القيامة وهو المنصور، وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه
قال: فإذا برق البصر عند الموت والاحتضار وخسف القمر وجمع
الشمس والقمر أي كور يوم القيامة وجوز أن يكون الأخيران عند
الموت أيضا ويفسر الخسوف بذهاب ضوء البصر منه وجمع الشمس
والقمر باستتباع الروح حاسة البصر في الذهاب والتعبير بالشمس
عن الروح وبالقمر عن حاسة البصر على نهج الاستعارة فإن نور
البصر بسبب الروح كما أن نور القمر بسبب الشمس أو يفسر الخسوف
بما سمعت، وجمع الشمس والقمر بوصول الروح الإنسانية إلى من
كانت تقتبس منه نور العقل وهم الأرواح القدسية المنزهة عن
النقائص فالقمر مستعار للروح والشمس لسكان حظيرة القدس والملأ
الأعلى لأن الروح تقتبس منهم الأنوار اقتباس القمر من الشمس.
ووجه الاتصال بما قبل على جعل الكل عند الموت أنه إذ ذاك ينكشف
الأمر للإنسان فيعلم على أتم وجه حقيقة ما أخبر به وأنت تعلم
أن هذا على علاته أقرب إلى باب الإشارة على منزع الصوفية وإذا
فتح هذا الباب فلا حصر فيما ذكر من الاحتمال عند ذوي الألباب
كَلَّا ردع عن طلب المفر وتمنيه لا وَزَرَ لا ملجأ وأصله الجبل
المنيع وقد كان مفرا في الغالب لفرار العرب واشتقاقه من الوزر
وهو الثقل ثم شاع وصار حقيقة لكل ملجأ من جبل أو حصن أو سلاح
أو رجل أو غير ذلك ومنه قوله:
لعمرك ما للفتى من وزر ... من الموت يدركه والكبر
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
أي إليه جل وعلا وحده استقرار العباد أي لا ملجأ ولا منجى لهم
غيره عز وجل أو إلى حكمه تعالى استقرار أمرهم لا يحكم فيه غير
سبحانه أو إلى مشيئته تعالى موضع قرارهم من جنة أو نار فمن شاء
سبحانه أدخله الجنة ومن شاء أدخله النار. فتقديم الخير لإفادة
الاختصاص وإن اختلف وجهه حسب اختلاف المراد بمستقر وكَلَّا لا
وَزَرَ يحتمل أن يكون من كلامه تعالى يقال للقائل أين المفر
يوم يقوله أو هو مقول اليوم على معنى ليرتدع عن طلب الفرار
وتمنيه ذلك اليوم ويحتمل أن يكون من تمام قول الإنسان كأنه بعد
أن يقول أَيْنَ الْمَفَرُّ يعود على نفسه فيستدرك ويقول كَلَّا
لا وَزَرَ وأيّا ما كان فالظاهر أن قوله تعالى إِلى رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
استئناف كالتعليل للجملة قبله أو تحقيق وكشف لحقيقة الحال
والخطاب فيه لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم ولا يحسن أن
يكون من جملة ما يخاطب به القائل ذلك اليوم، ولا مما يقوله
لنفسه فيه لمكان يَوْمَئِذٍ
وفي البحر الظاهر أن قوله تعالى كَلَّا لا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ من تمام قول الإنسان وقيل هو من
كلام الله تعالى لا حكاية عن الإنسان انتهى وفيه بحث وجوز أن
تكون كَلَّا بمعنى ألا الاستفتاحية أو بمعنى حقا فتأمل ولا
تغفل يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ
أي يخبر يَوْمَئِذٍ
وذلك على ما عليه الأكثر عند وزن الأعمال بِما قَدَّمَ
أي بما عمل من عمل خيرا كان أو شرا فيثاب بالأول ويعاقب على
الثاني وَأَخَّرَ
أي ترك ولم يعمل خيرا كان أو شرا فيعاقب بالأول ويثاب بالثاني،
أو بما قدم من حسنة أو سيئة وبما أخر ما سنه من حسنة أو سيئة
يعمل بها بعده، أخرج ذلك ابن المنذر وعبد بن حميد وغيرهما عن
ابن مسعود وهو رواية عن ابن عباس. وقال زيد بن أسلم: بما قدم
من ماله لنفسه فتصدق به في حياته وبما أخر منه للوارث وزيد أو
وقفه أو أوصى به. وقال مجاهد والنخعي بأول عمله وآخره، وأخرج
ابن جرير عن ابن عباس بما قم من المعصية وأخر من الطاعة وأخرج
نحوه عن قتادة وعبد بن حميد نحوه أيضا عن عكرمة وعليه فالظاهر
أنه عنى بالإنسان الفاجر وفصل هذه الجملة عما قبلها لاستقلال
كل منها ومن قوله تعالى يَقُولُ إلخ في الكشف عن شدة الأمر أو
عن سوء حال الإنسان بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ
(15/155)
بَصِيرَةٌ
أي حجة بينة واضحة على نفسه شاهدة بما صدر عنه من الأعمال
السيئة كما يؤذن به كلمة عَلى
والجملة الحالية بعد ف الْإِنْسانُ
مبتدأ وعَلى نَفْسِهِ
متعلق ب بَصِيرَةٌ
بتقدير أعمال أو المعنى عليه من غير تقدير وبَصِيرَةٌ
بصير خيبر وهي مجاز عن الحجة البينة الواضحة أو بمعنى بينة وهي
صفة لحجة مقدرة هي الخبر، وجعل الحجة بصيرة لأن صاحبها بصير
بها فالإسناد مجازي أو هي بمعنى دالة مجازا وجوز أن يكون هناك
استعارة مكنية وتخييلية والتأنيث للمبالغة أو لتأنيث الموصوف
أعني حجة وقيل ذلك لإرادة الجوارح أي جوارحه على نفسه بصيرة أي
شاهدة ونسب إلى القتبي، وجوز أن يكون التقدير عين بصيرة وإليه
ذهب الفراء وأنشد:
كأن على ذي العقل عينا بصيرة ... بمجلسه أو منظر هو ناظره
يحاذر حتى يحسب الناس كلهم ... من الخوف لا يخفى عليهم سرائره
وعليه قيل الْإِنْسانُ
مبتدأ أول وبَصِيرَةٌ
بتقدير عين بصيرة مبتدأ ثان وعَلى نَفْسِهِ
خبر المبتدأ والثاني والجملة خبر المبتدأ الأول واختار أبو
حيان أن تكون بَصِيرَةٌ
فاعلا بالجار والمجرور وهو الخبر عن الإنسان وعمل بالفاعل
لاعتماده على ذلك وأمر التأنيث ظاهر وبَلِ
للترقي على الوجهين إرادة حجة بصيرة وإرادة عين بصيرة، والمعنى
عليهما يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ
بأعماله بل فيه ما يجزي عن الإنباء لأنه عالم بتفاصيل أحواله
شاهد على نفسه بما عملت لأن جوارحه تنطق بذلك يَوْمَ تَشْهَدُ
عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما
كانُوا يَعْمَلُونَ [النور: 24] وفي كلا الوجهين كما قيل شائبة
التجريد وهي في الثاني أظهر وقوله تعالى وَلَوْ أَلْقى
مَعاذِيرَهُ
أي ولو جاء بكل معذرة يمكن أن يعتذر بها عن نفسه حال من
المستكن في بَصِيرَةٌ
أو من مرفوع يُنَبَّؤُا
أي هو على نفسه حجة وهو شاهد عليها ولو أتى بكل عذر في الذب
عنها ففيه تنبيه على أن الذب لا رواج له أو ينبأ بأعماله
ويجازى ويعاقب لا محالة ولو أتى بكل عذر فهو تأكيد لما يفهم من
مجموع قوله تعالى يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ
إلخ والمعاذير جمع معذرة بمعنى العذر على خلاف القياس والقياس
معاذر بغير ياء وأطلق عليه الزمخشري اسم الجمع كعادته في إطلاق
ذلك على الجموع المخالفة للقياس وإلّا فهو ليس من أبنية اسم
الجمع. وقال صاحب الفرائد: يمكن أن يقال الأصل فيه معاذر فحصلت
الياء من إشباع الكسرة وهو كما ترى أو جمع معذار على القياس
وهو بمعنى العذر، وتعقب بأنه بهذا المعنى لم يسمع من الثقات
نعم قال السدي والضحاك: المعاذير الستور بلغة اليمن واحدها
معذار وحكي ذلك عن الزجاج أي ولو أرخى ستوره، والمعنى أن
احتجابه في الدنيا واستتاره لا يغني عنه شيئا لأن عليه من نفسه
بصيرة وفيه تلويح إلى معنى قوله تعالى وَما كُنْتُمْ
تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ [فصلت: 22] الآية وقيل
البصيرة عليه الكاتبان يكتبان ما يكون من خير أو شر، فالمعنى
بل الإنسان عليه كاتبان يكتبان أعماله ولو تستر بالستور ولا
يكون في الكلام على هذا شائبة تجريد كما تقدم، والإلقاء على
إرادة الستور ظاهر وأما على إرادة الأعذار فقيل شبه المجيء
بالعذر بإلقاء الدلو في البئر للاستقاء به فيكون فيه تشبيه ما
يراد بذلك بالماء المروي للعطش ويشير إلى هذا قول السدي في ذلك
ولو أدلى بحجة وعذر وقيل المعنى ولو رمى بأعذاره وطرحها
واستسلم وقيل ولو أحال بعضهم على بعض كما يقول بعضهم لبعض
لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سبأ:
31] ولَوْ
على جميع هذه الأقوال إما أن يكون معنى الشرطية منسلخا عنها
كما قيل فلا جواب لها، وإما أن يكون باقيا فيها فالجواب محذوف
يدل عليه ما قبل. واستظهر الخفاجي الأول وفي الآية على بعض
(15/156)
وجوهها دليل كما قال ابن العربي على قبول
إقرار المرء على نفسه وعدم قبول الرجوع عنه والله تعالى أعلم.
أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وعبد بن
حميد والطبراني وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل وجماعة عن
ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعالج من
التنزيل شدة فكان يحرك به لسانه وشفتيه مخافة أن ينفلت منه
يريد أن يحفظه فأنزل الله تعالى لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
إلخ فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه
جبريل عليه السلام أطرق وفي لفظ استمع فإذا ذهب قرأه كما وعد
الله عز وجل
فالخطاب في قوله تعالى لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
للنبيّ صلّى الله عليه وسلم والضمير للقرآن لدلالة سياق الآية
نحو إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] أي
لا تحرك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي من قبل أن يقضي إليك
وحيه لِتَعْجَلَ بِهِ
أي لتأخذه على عجلة مخافة أن ينفلت منك على ما يقتضيه كلام
الحبر. وقيل لمزيد حبك له وحرصك على أداء الرسالة روي عن
الشعبي ولا ينافي ما ذكر والباء عليهما للتعدية إِنَّ عَلَيْنا
جَمْعَهُ
في صدرك بحيث لا يذهب عليك شيء من معانيه وَقُرْآنَهُ
أي إثبات قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت فالقرآن هنا وكذا
فيما بعد مصدر كالرجحان بمعنى القراءة كما في قوله:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
مضاف إلى المفعول وثم مضاف مقدر وقيل قُرْآنَهُ
أي تأليفه والمعنى إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
أي حفظه في حياتك وتأليفه على لسانك. وقيل: قُرْآنَهُ
تأليفه وجمعه على أنه مصدر قرأت أي جمعت ومنه قولهم للمرأة
التي لم تلد ما قرأت سلى قط وقول عمرو بن كلثوم:
ذراعي بكرة أدماء بكر ... هجان اللون لم تقرأ جنينا
ويراد من جَمْعَهُ
الأول جمعه في نفسه ووجوده الخارجي ومن قُرْآنَهُ
بهذا المعنى جمعه في ذهنه صلّى الله عليه وسلم وكلا القولين لا
يخفى حالهما وإن نسب الأول إلى مجاهد فَإِذا قَرَأْناهُ
أي أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل عليه السلام المبلغ عنا
فالإسناد مجازي وفي ذلك مع اختيار نون العظمة مبالغة في إيجاب
التأتي فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
فكن مقفيا له لا مباريا، وقيل: أي فإذا قرأناه فاتبع بذهنك
وفكرك قرآنه أي فاستمع وأنصت وصح هذا من رواية الشيخين وغيرهما
عن ابن عباس وعنه أيضا وعن قتادة والضحاك أي فاتبع في الأوامر
والنواهي قرآنه وقيل اتبع قرآنه بالدرس على معنى كرره حتى يرسخ
في ذهنك ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أي بيان ما أشكل عليك
من معانيه وأحكامه على ما قيل واستدل به القاضي أبو الطيب ومن
تابعه على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب لمكان ثُمَّ وتعقب
بأنه يجوز أن يراد بالبيان الإظهار لا بيان المجمل وقد صح من
رواية الشيخين وجماعة عن الحبر أنه قال في ذلك ثم إن علينا أن
نبينه بلسانك وفي لفظ علينا أن تقرأه، ويؤيد ذلك أن المراد
بيان جميع القرآن والمجمل بعضه كَلَّا إرشاد لرسوله صلّى الله
عليه وسلم وأخذ به عن عادة العجلة وترغيب له عليه الصلاة
والسلام في الأناة وبالغ سبحانه في ذلك لمزيد حبه إياه باتباعه
قوله تعالى بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ
الْآخِرَةَ تعميم الخطاب للكل كأنه قيل بل أنتم يا بني آدم لما
خلقتم من عجل وجبلتم عليه تعجلون في كل شيء ولذا تحبون العاجلة
وتذرون الآخرة ويتضمن استعجالك لأن عادة بني آدم الاستعجال
ومحبة العاجلة، وفيه أيضا أن الإنسان وإن كان مجبولا على ذلك
إلّا أن مثله عليه الصلاة والسلام ممن هو في أعلى منصب النبوة
لا ينبغي أن يستفزه مقتضى الطباع البشرية وأنه إذا نهي صلّى
الله عليه وسلم عن العجلة في طلب العلم والهدى فهؤلاء ديدنهم
حب العاجلة وطلب الردى كأنهم نزلوا منزلة من لا ينجع فيهم
النهي فإنما
(15/157)
يعاتب الآدمي ذو البشرة ومنه يعلم أن هذا
متصل بقوله سبحانه بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ
أَمامَهُ فإنه ملوح إلى معنى بَلْ تُحِبُّونَ إلخ وقوله عز وجل
لا تُحَرِّكْ
إلخ متوسط بين حبي العاجلة: حبها الذي تضمنه بل يريد تلويحا
وحبها الذي آذن به بل تحبون تصريحا لحسن التخلص منه إلى
المفاجأة والتصريح. ففي ذلك تدرج ومبالغة في التقريع والتدرج
وإن كان يحصل لو لم يؤت بقوله سبحانه لا تُحَرِّكْ
إلخ في البين أيضا إلا أنه يلزم حينئذ فوات المبالغة في
التقريع وأنه إذا لم تجز العجلة في القرآن وهو شفاء ورحمة فكيف
فيما هو فجور وثبور ويزول ما أشير إليه من الفوائد فهو استطراد
يؤدي مؤدى الاعتراض وأبلغ وأطلق بعضهم عليه الاعتراض. وقرأ ابن
كثير وأبو عمرو ومجاهد والحسن وقتادة والجحدري «يحبون» و
«يذرون» بياء الغيبة فيهما وأمر الربط عليها كما تقدم وهي أبلغ
من حيث إن فيها التفاتا وإخراجا له عليه الصلاة والسلام من
صريح الخطاب بحب العاجلة مضمنا طرفا من التوبيخ على سبيل الرمز
لطفا منه تعالى شأنه في شأنه صلّى الله عليه وسلم. وأما
القراءة بالتاء ففيها تغليب المخاطب والالتفات وهو عكس الأول
هذا خلاصة ما رمز إليه جار الله على ما أفيد.
وقد اندفع به قول بعض الزنادقة وشرذمة من قدماء الرافضة أنه لا
وجه لوقوع لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
إلخ في أثناء أمور الآخرة ولا ربط في ذلك بوجه من الوجوه،
وجعلوا ذلك دليلا لما زعموه من أن القرآن قد غيّر وبدّل وزيد
فيه ونقص منه وللعلماء حماة المسلمين وشهب سماء الدين في دفع
كلام كثير منه ما تقدم وللإمام أوجه فيه منها الحسن ومنها ما
ليس كذلك بالمرة وقال الطيبي إن قوله تعالى كَلَّا بَلْ
تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ متصل بقوله تعالى وَلَوْ أَلْقى
مَعاذِيرَهُ
أي يقال للإنسان عند إلقاء معاذيره كلا إن أعذارك غير مسموعة
فإنك فجرت وفسقت وظننت أنك تدوم على فجورك وأن لا حشر ولا حساب
ولا عقاب وذلك من حبك العاجلة والإعراض عن الآخرة، وكان من
عادة الرسول صلّى الله عليه وسلم أنه إذا لقن القرآن أن ينازع
جبريل عليه السلام القراءة وقد أنفق عند التلقين للآيات
السابقة ما جرت به عادته من العجلة فلما وصل إلى قوله تعالى
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
أوحى إلى جبريل عليه السلام بأن يلقي إليه عليه الصلاة والسلام
ما يرشده إلى أخذ القرآن على أكمل وجه فألقى تلك الجمل على
سبيل الاستطراد ثم عاد إلى تمام ما كان فيه بقوله تعالى كَلَّا
بَلْ تُحِبُّونَ إلخ مثاله الشيخ إذا كان يلقن تلميذه درسا أو
يلقي إليه فصلا ورآه في أثناء ذلك يعجل ويضطرب يقول له لا تعجل
ولا تضطرب فإني إذ فرغت إن كان لك إشكال أزيله أو كنت تخاف
فوتا فأنا أحفظه ثم يأخذ الشيخ في كلامه ويتممه انتهى. فما في
البين مناسب لما وقع في الخارج دون المعنى الموحى به، وخصه
بعضهم لهذا بالاستطراد وأطلق آخر عليه الاعتراض بالمعنى اللغوي
وهذا عندي بعيد لم يتفق مثله في النظم الجليل ولا دليل لمن
يراه على وقوع العجلة في أثناء هذه الآيات سوى خفاء المناسبة.
وقال أبو حيان يظهر أن المناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنه
سبحانه لما ذكر منكر القيامة والبعث معرضا عن آيات الله تعالى
ومعجزاته وأنه قاصر شهواته على الفجور غير مكترث بما يصدر منه
ذكر حال من يثابر على تعلم آيات الله تعالى وحفظها وتلقنها
والنظر فيها وعرضها على من ينكرها رجاء قبوله إياها ليظهر بذلك
تباين من يرغب في تحصيل آيات الله تعالى ومن يرغب عنها:
وبضدها تتبين الأشياء انتهى وفيه أن هذا إنما يحسن بعد تمام ما
يتعلق بذلك المنكر والظاهر أن لا تُحَرِّكْ
إلخ وقع في البين وقال القفال قوله تعالى لا تُحَرِّكْ
إلخ خطاب للإنسان المذكور في قوله تعالى يُنَبَّؤُا
الْإِنْسانُ
وذلك
(15/158)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا
فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26)
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28)
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)
وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ
يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى
لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ
سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37)
ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ
بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
حال إنبائه بقبائح أفعاله يعرض عليه كتابه
فيقال له اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ
حَسِيباً [الإسراء: 14] فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه من
شدة الخوف وسرعة القراءة فقيل له لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
لِتَعْجَلَ بِهِ
فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك وأن
نقرأها عليك فإذا قرأناه عليك فاتبع قراءته بالإقرار بأنك فعلت
تلك الأفعال أو التأمل فيه ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أي
بيان أمره وشرح عقوبته، والحاصل على هذا أنه تعالى يوقف الكافر
على جميع أعماله على التفصيل وفيه أشد الوعيد في الدنيا
والتهويل في الآخرة انتهى. فضمير بِهِ
وكذا الضمائر بعد للكتاب المشعر به قوله تعالى يُنَبَّؤُا
الْإِنْسانُ
بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
وكذا قوله تعلى بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
على قول من فسّر البصيرة بالكتابين، ولعل الجملة على هذا الوجه
في موضع الحال من مفروع يُنَبَّأْ بتقدير القول كأنه قيل
يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ
عند أخذ كتابه بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
مقولا له لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
إلخ فالربط عليه ظاهر جدا ومن هنا اختاره البلخي ومن تبعه لكنه
مخالف للصحيح المأثور الذي عليه الجمهور من أن ذلك خطاب له
صلّى الله عليه وسلم. والظاهر أن التحريك قبل النهي إنما صدر
منه عليه الصلاة والسلام بحكم الإباحة الأصلية فلا يتم احتجاج
من جوز الذنب على الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية. وقال
الإمام: لعل ذلك الاستعجال إن كان مأذونا فيه عليه الصلاة
والسلام إلى وقت النهي وكأنه أراد بالإذن الإذن الصريح المخصوص
وفيه بعد ما
وعن الضحاك أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يخاف أن ينسى
القرآن فكان يدرسه حتى غلب ذلك وشق عليه فنزل لا تُحَرِّكْ
بِهِ
إلخ وليس بالثبت ولعل ظاهر الآية لا يساعده ثم إنه ربما يتخيل
في الآية وجه غير ما ذكر عن القفال الربط عليه ظاهر أيضا وهو
أنه يكون الخطاب في لا تُحَرِّكْ
إلخ لسيد المخاطبين حقيقة أو من باب إياك أعني واسمعي أو لكل
من يصلح له وضمير بِهِ
ونظائره ليوم القيامة والجملة اعتراض جيء به لتأكيد تهويله
وتفظيعه مع تقاضي السباق له فكأنه لما ذكر سبحانه مما يتعلق
بذلك اليوم الذي فتحت السورة بعظامه ما يتعلق قوي داعي السؤال
عن توقيته وأنه متى يكون وفي أي وقت يبين لا سيما وقد استشعر
أن السؤال عن ذلك إذا لم يكن استهزاء مما لا بأس به فقيل لا
تُحَرِّكْ بِهِ
أي بطلب توقيته لسانك وهو نهي عن السؤال على أتم وجه كما يقال
لا تفتح فمك في أمر فلان لتعجل به لتحصل علمه على عجلة إِنَّ
عَلَيْنا جَمْعَهُ
ما يكون فيه من الجمع وَقُرْآنَهُ
ما يتضمن شرح أحواله وأهواله من القرآن.
فَإِذا قَرَأْناهُ
ما يتعلق به فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا
بَيانَهُ إظهاره وقوعا بالنفخ في الصور وهو الطامة الكبرى
وحاصله لا تسأل عن توقيت ذلك اليوم العظيم مستعجلا
(15/159)
معرفة ذلك فإن الواجب علينا حكمة حشر الجمع
فيه وإنزال قرآن يتضمن بيان أحواله ليستعد له وإظهاره بالوقوع
الذي هو الداهية العظمى وما عدا ذلك من تعيين وقته فلا يجب
علينا حكمة بل هو مناف للحكمة فإذا سألت فقد سألت ما ينافيها
فلا تجاب انتهى. وفيه ما فيه وما كنت أذكره لولا هذا التنبيه
واللائق بجزالة التنزيل ولطيف إشاراته ما أشار إليه ذو اليد
الطولى جار الله تجاوز الله تعالى عن تقصيراته فتأمل فلا حجر
على فضل الله عز وجل. ولما ردع سبحانه عن حب العاجلة وترك
الآخرة عقب ذلك بما يتضمن تأكيد هذا الردع مما يشير إلى حسن
عاقبة حب الآخرة وسوء مغبة العاجلة فقال عز من قائل وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ أي وجوه كثيرة وهي وجوه المؤمنين المخلصين
يوم إذ تقوم القيامة بهية متهللة من عظيم المسرة يشاهد عليها
نضرة النعيم على أن وُجُوهٌ مبتدأ وناضِرَةٌ خبره ويَوْمَئِذٍ
منصوب ب ناضِرَةٌ وناظِرَةٌ في قوله تعالى إِلى رَبِّها
ناظِرَةٌ خبر ثان للمبتدأ أو نعت ل ناضِرَةٌ وإِلى رَبِّها
متعلق ب ناظِرَةٌ وصح وقوع النكرة مبتدأ لأن الموضع موضع تفصيل
كما في قوله:
فيوم لنا ويوم علينا ... ويوم نساء ويوم نسرّ
لا على أن النكرة تخصصت بيومئذ كما زعم ابن عطية لأن ظرف
الزمان لا يكون صفة للجثث ولا على أن ناضِرَةٌ صفة لها والخبر
ناظِرَةٌ كما قيل لما أن المشهور الغالب كون الصفة معلومة
الانتساب إلى الموصوف عند السامع وثبوت النظرة للوجوه ليس كذلك
فحقه أن يخبر به نعم ذكر هذا غير واحد احتمالا في الآية وقال
فيه أبو حيان هو قول سائغ. ومعنى كونها ناظرة إلى ربها أنها
تراه تعالى مستغرقة في مطالعة جماله بحيث تغفل عما سواه
وتشاهده تعالى على ما يليق بذاته سبحانه ولا حجر على الله عز
وجل وله جل وعلا لتنزه الذاتي التام في جميع تجلياته. واعترض
بأن تقديم المعمول يعني إِلى رَبِّها يفيد الاختصاص كما في
نظائره في هذه السورة وغيرها وهو لا يتأتى لو حمل ذلك على
النظر بالمعنى المذكور ضرورة أنهم ينظرون إلى غيره تعالى. وحيث
كان الاختصاص ثابتا كان الحمل على ذلك باطلا وفيه أن التقديم
لا يتمحض للاختصاص كيف والموجب من رعاية الفاصلة والاهتمام
قائم ثم لو سلم فهو باق بمعنى أن النظر إلى غيره تعالى في جنب
النظر إليه سبحانه لا يعد نظرا كما قيل في نحو ذلك الكتاب على
أن ذلك ليس في جميع الأحوال بل في بعضها وفي ذلك لالتفات إلى
ما سواه جل جلاله
فقد أخرج مسلم والترمذي عن صهيب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم
أنه قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى تريدون
شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا
من النار قال فيكشف الله تعالى الحجاب فما أعطوا شيئا أحب
إليهم من النظر إلى ربهم» .
وفي حديث جابر وقد رواه ابن ماجة: «فينظر إليهم وينظرون إليه
فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب
عنهم» .
ومن هنا قيل:
فينسون النعيم إذا رأوه ... فيا خسران أهل الاعتزال
وكثيرا ما يحصل نحو ذلك للعارفين في هذه النشأة فيستغرقون في
بحار الحب وتستولي على قلوبهم أنوار الكشف فلا يلتفتون إلى شيء
من جميع الكون:
فلما استبان الصبح أدرج ضوءه ... بإسفاره أنوار ضوء الكواكب
وقيل الكلام على حذف مضاف أي إلى ملك أو رحمة أو ثواب ربها
ناظرة والنظر على معناه المعروف أو على حذف مضاف والنظر بمعنى
الانتظار فقد جاء لغة بهذا المعنى أي إلى أنعام ربها منتظرة
وتعقب بأن
(15/160)
الحذف خلاف الظاهر وما زعموا من الداعي
مردود في محله وبأن النظر بمعنى الانتظار لا يتعدى بإلى بل
بنفسه وبأنه لا يسند إلى الوجه فلا يقال وجه زيد منتظر،
والمتبادر من الإسناد إسناد النظر إلى الوجوه الحقيقية وهو
يأني إرادة الذات من الوجه وتفصّى الشريف المرتضى في الدرر عن
بعض هذا بأن إِلى اسم بمعنى النعمة واحد الآلاء وهو مفعول به ل
ناظِرَةٌ بمعنى منتظرة فيكون الانتظار قد تعدى بنفسه وفيه من
البعد ما فيه والزمخشري إذا تحققت كلامه رأيته لم يدع أن النظر
بمعنى الانتظار ليتعقب عليه بما تعقب، بل أراد أن النظر
بالمعنى المتعارف كناية عن التوقع والرجاء، فالمعنى عنده أنهم
لا يتوقعون النعمة والكرامة إلّا من ربهم كما كانوا في الدنيا
لا يخشون ولا يرجون إلّا إياه سبحانه وتعالى. ويرد عليه أنه
يرجع إلى إدارة الانتظار لكن كناية والانتظار لا يساعده المقام
إذ لا نعمة فيه وفي مثله قيل الانتظار موت أحمر والذي يقطع
الشغب ويدق في فروة من أخس الطلب ما
أخرجه الإمام أحمد والترمذي والدارقطني وابن جرير وابن المنذر
والطبراني والبيهقي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وغيرهم عن ابن
عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلّى الله عليه
وسلم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه
ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر
إلى وجهه غدوة وعشية» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ»
فهو تفسير منه عليه الصلاة والسلام: ومن المعلوم أنه أعلم
الأولين والآخرين لا سيما بما أنزل عليه من كلام رب العالمين
ومثل هذا فيما ذكر ما
أخرجه الدارقطني والخطيب في تاريخه عن أنس أن النبي صلّى الله
عليه وسلم أقرأه وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها
ناظِرَةٌ فقال: «والله ما نسخها منذ أنزلها يزورون ربهم تبارك
وتعالى فيطعمون ويسقون ويطيبون ويحلون ويرفع الحجاب بينه
فينظرون إليه وينظر إليهم عز وجل»
وهذا الحجاب على ما قال السادة من قبلهم لا من قبله عز وجل
وأنشدوا:
وكنا حسبنا أن ليلى تبرقعت ... وأن حجابا دونها يمنع اللثما
فلاحت فلا والله ما ثم حاجب ... سوى أن طرفي كان عن حسنها أعمى
ثم إن أجهل الخلق عندهم المعتزلة وأشدهم عمى وأدناهم منزلة حيث
أنكروا صحة رؤية من لا ظاهر سواه بل لا موجود على الحقيقة إلّا
إياه وأدلة إنكارهم صحة رؤيته تعالى مذكورة مع ردودها في كتب
الكلام وكذا أدلة القدوم على الصحة وكأني بك بعد الإحاطة
وتدقيق النظر تميل إلى أنه سبحانه وتعالى يرى لكن لا من حيث
ذاته سبحانه البحت ولا من حيث كل تجل حتى تجليه بنوره
الشعشعاني الذي لا يطاق. وقرأ زيد بن عليّ «وجوه يومئذ نضرة»
بغير ألف وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ أي شديدة العبوس وباسل
أبلغ من باسر فيما ذكر لكنه غلب في الشجاع إذا اشتدت كلوحته
فعدل عنه لإيهامه غير المراد وعنى بهذه الوجوه وجوه الكفرة
تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ أي داهية عظيمة تقصم فقار
الظهر من فقره أصاب فقاره وقال أبو عبيدة فاقِرَةٌ من فقرت
البعير إذا وسمت أنفه بالنار وفاعل تَظُنُّ ضمير (الوجوه)
بتقدير مضاف أي تظن أربابها وجوز أن يكون الضمير راجعا إليها
على أن الوجه بمعنى الذات استخداما وفيه بعد. والظن قيل أريد
به اليقين واختاره الطيبي وأن المصدرية لا تقع بعد فعل التحقيق
الصرف دون فعل الظن أو ما يؤدي معنى العلم فتقع بعده كالمشددة
والمخففة على ما نص عليه الرضي وقيل هو على معناه الحقيقي
المشهور والمراد تتوقع ذلك واختاره من اختاره ولا دلالة فيه
بواسطة التقابل على أن يكون النظر ثم بالمعنى المذكور كما زعمه
من زعمه وتحقيق ذلك أن ما يفعل بهم في مقابلة النظر إلى الرب
سبحانه لكون ذلك غاية النعمة وهذا غاية النقمة وجيء
(15/161)
بفعل الظن هاهنا دلالة على أن ما هم فيه
وإن كان غاية الشر يتوقع بعده أشد منه وهكذا أبدا وذلك لأن
المراد بالفاقرة ما لا يكننه من العذاب فكل ما يفعل به من أشده
استدل منه على آخر وتوقع أشد منه وإذا كان ظانا كان أشد عليه
مما إذا كان عالما موطنا نفسه على الأمر على أن العلم بالكائن
واقع لا بما يتجدد آنا فآنا فهذا وجه الإتيان بفعل الظن ولم
يؤت في المقابل بفعل ظن أو علم لأنهم وصلوا إلى ما لا مطلوب
وراءه وذاقوه ثم بعد ذلك التفاوت في ذلك النظر قوة وضعفا
بالنسبة إلى الرائي على ما قرره فلعل هذا حجة على الزاعم لا له
أسبغ الله علينا برؤيته فضله كَلَّا ردع عن إيثار العاجلة على
الآخرة كأنه قيل ارتدعوا عن ذلك وتنبهوا لما بين أيديكم من
الموت الذي تنقطع عنده ما بينكم وبين العاجلة من العلاقة إِذا
بَلَغَتِ أي النفس أو الروح الدال على سياق الكلام كما في قول
حاتم:
أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها
الصدر
ونحو قول العرب أرسلت يريدون جاء المطر ولا تكاد تسمعهم يقولون
أرسلت السماء نعم قد يصرح فيما هنا بالفاعل فيقال بلغت النفس
التَّراقِيَ أي أعالي الصدر وهي العظام المكتنفة ثغرة النحر عن
يمين وشمال جمع ترقوة وأنشدوا لدريد بن الصمة:
ورب عظيمة رافعت عنهم ... وقد بلغت نفوسهم التراقي
وَقِيلَ مَنْ راقٍ
أي قال من حضر صاحبها من يرقيه وينجيه مما هو فيه من الرقية
وهي ما يستشفى به الملسوع والمريض من الكلام المعد لذلك ومنه
آيات الشفاء ولعلة أريد به مطلق الطبيب أعم من أن يطب بالقول
أو بالفعل وروي عن ابن عباس والضحاك وأبو قلابة وقتادة ما هو
ظاهر فيه والاستفهام عند بعض حقيقي وقيل هو استفهام استبعاد
وإنكار أي قد بلغ مبلغا لا أحد يرقيه كما يقال عند اليأس من ذا
الذي يقدر أن يرقى هذا المشرف على الموت وروي ذلك عن عكرمة
وابن زيد وقيل هو من كلام ملائكة الموت أي أيكم يرقى بروحه
أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب من الرقي وهو العروج وروي هذا
عن ابن عباس أيضا وسليمان التيمي والاستفهام عليه حقيقي وتعقب
بأن اعتبار ملائكة الرحمة يناسب قوله تعالى بعد فَلا صَدَّقَ
إلخ ودفع بأن الضمير للإنسان والمراد به الجنس والاقتصار بعد
ذلك على أحوال بعض الفريقين لا ينافي العموم فيما قبل ووقف حفص
رواية عن عاصم على من وابتدأ راقٍ
وأدغم الجمهور قال أبو علي: لا أدري ما وجه قراءته وكذلك قرأ
بَلْ رانَ [المطففين: 14] وقال بعضهم كأنه قصد أن لا يتوهم
أنها كلمة واحدة فسكت سكتة لطيفة ليشعر أنهما كلمتان وإلّا
فكان ينبغي أن يدعم في مَنْ راقٍ
فقد قال سيبويه إن النون تدغم في الراء وذلك نحو من راشد
والإدغام بغنة وبغير غنة ولم يذكر الإظهار ويمكن أن يقال لعل
الإظهار رأي كوفي فعاصم شيخ حفص يذكر أنه كان عالما بالنحو،
وأما بَلْ رانَ فقد ذكر سيبويه في ذلك أيضا أن إظهار اللام
وإدغامها مع الراء حسنان، فلعل حفصا لما أفرط في إظهار الإظهار
فيه صار كالوقف القليل واستدل بقوله تعالى إِذا بَلَغَتِ
التَّراقِيَ على أن النفس جسم لا جوهر مجرد إذ لا يتصف بالحركة
والتحيز وأجاب بعض بأن هذه النفس المسند إليها بلوغ التراقي هي
النفس الحيوانية لا الروح الأمرية وهي الجوهر المجرد دون
الحيوانية وآخر بأن المراد ببلوغها التراقي قرب انقطاع التعلق
وهو مما يتصف به المجرد إذ لا يستدعي حركة ولا تحيزا ولا
نحوهما مما يستحيل عليه. وزعم أنه لا يمكن إرادة الحقيقة ولو
كانت النفس جسما ضرورة أن بلوغها التراقي لا يتحقق إلّا بعد
مفارقتها القلب وحينئذ يحصل الموت ولا يقال مَنْ راقٍ
كما هو ظاهر
(15/162)
على الوجه الأول فيه ولا يتأنى أيضا ما
يذكر بعد على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى فيه والذي عليه
جمهور الأمة سلفا وخلفا أن النفس وهي الروح الأمرية جسم لطيف
جدا ألطف من الضوء عند القائل بجسميته والنفس الحيوانية مركب
لها وهي سارية في البدن نحو سريان ماء الورد في الورد والنار
في الفحم وسريان السيال الكهربائي عند القائل به في الأجسام
والأدلة على جسميتها كثيرة وقد استوفاها الشيخ ابن القيم في
كتاب الروح وأتى فيه بالعجب ثم الظاهر أن المراد ببلوغ التراقي
مشارفة الموت وقرب خروج الروح من البدن سلمت الضرورة التي في
كلام ذلك الزاعم أم لم تسلم لقوله تعالى وَقِيلَ مَنْ راقٍ
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ أي وظن الإنسان المحتضر أن ما نزل
به الفراق من حبيبته الدنيا ونعيمها وقيل فراق الروح الجسد،
والظن هنا عند أبي حيان على بابه وأكثر المفسرين على تفسيره
باليقين قال الإمام ولعله إنما سمي اليقين هاهنا بالظن لأن
الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه يطمع في الحياة لشدة حبه
لهذه الحياة العاجلة ولا ينقطع رجاؤه عنها فلا يحصل له يقين
الموت بل الظن الغالب مع رجاء الحياة أو لعله سماه بالظن على
سبيل التهكم وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أي التفّت ساقه
بساقه والتوت عليها عند هلع الموت وقلبه كما روي عن الشعبي
وقتادة وأبي مالك وقال الحسن وابن المسيب هما ساقا الميت عند
ما لفا في الكفن وقيل المراد بالتفافهما انتهاء أمرهما وما
يراد فيهما يعني موتهما وقيل يبسهما بالموت وعدم تحرك إحداهما
عن الأخرى حتى كأنهما ملتفتان فهما أول ما يخرج الروح منه
فتبردان قبل سائر الأعضاء وتيبسان فالساق بمعناها الحقيقي وأل
فيها عهدية أو عوض
عن المضاف إليه وقال ابن عباس والربيع بن أنس وإسماعيل بن أبي
خالد. وهو رواية عن الحسن أيضا الْتَفَّتِ شدة فراق الدنيا
لشدة إقبال الآخرة واختلطتا ونحوه قول عطاء: اجتمع عليه بشدة
مفارقة المألوف من الوطن والأهل والولد والصديق وشدة القوم على
ربه جل شأنه لا يدري بماذا يقدم عليه، فالساق عبارة عن الشدة
وهو مثل في ذلك والتعريف للعهد وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن
الضحاك الْتَفَّتِ أسوق حاضريه من الإنس والملائكة هؤلاء
يجهزون بدنه إلى القبر وهؤلاء يجهزون روحه إلى المساء فكأنهم
للاختلاف في الذهاب والإياب والتردد في الأعمال قد التفّت
أسوقهم وهذا الالتفاف على حد اشتباك الأسنة إِلى رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ أي إلى الله تعالى وحكمه سوقه لا إلى
غيره على أن المساق مصدر ميمي كالمقال وتقدم الخير للحصر
والكلام على تقدير مضاف هو حكم وقيل هو موعد والمراد به الجنة
والنار وقيل ليس هناك مضاف مقدر على أن الرب جل شأنه هو السائق
أي سوق هؤلاء مفوض إلى ربك لا إلى غيره والظاهر ما تقدم ثم إن
كان هذا في أن الفاجر أو فيما يعمه والبر يراد بالسوق السوق
المناسب للمسوق وهذه الآية لعمري بشارة لمن حسن ظنه بربه وعلم
أنه الرب الذي سبقت رحمته غضبه:
قالوا غدا نأتي ديار الحمى ... وينزل الركب بمغناهم
فقلت لي ذنب فما حيلتي ... بأي وجه أتلقاهم
قالوا أليس العفو من شأنهم ... لا سيما عمن ترجاهم
ثم إن جواب إِذا محذوف دل عليه ما ذكر أي كان ما كان أو انكشفت
للمرء حقيقة الأمر أو وجد الإنسان ما عمله من خير أو شر فَلا
صَدَّقَ أي ما يجب تصديقه من الله عز وجل والرسول صلّى الله
عليه وسلم والقرآن الذي أنزل عليه وَلا صَلَّى ما فرض عليه أي
لم يصدق ولم يصل فلا داخلة على الماضي كما في قوله:
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
والضمير في الفعلين للإنسان المذكور في قوله تعالى أَيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ والجملة عطف على قوله سبحانه
(15/163)
يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ على
ما ذهب إليه الزمخشري فالمعنى بناء على ما علمت من أن السؤال
سؤال استهزاء واستبعاد استبعد البعث وأنكره فلم يأت بأصل الدين
وهو التصديق بما يجب تصديقه به ولا بأهم فروعه وهو الصلاة ثم
أكد ذلك بذكر ما يضاده بقوله تعالى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى
نفيا لتوهم السكوت أو الشك أي ومع ذلك أظهر الجحود والتولي عن
الطاعة ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى يتبختر افتخارا
بذلك ومن صدر عنه مثل ذلك ينبغي أن يخاف من حلول غضب الله
تعالى به فيمشي خائفا متطامنا لا فرحا متبخترا فثم للاستبعاد
ويَتَمَطَّى من المط فإن المتبختر يمد خطاه فيكون أصله يتمطط
قلبت الطاء فيه حرف علة كراهة اجتماع الأمثال كما قالوا تظني
من الظن وأصله تظنن أو من المطا وهو الظهر فإن المتبختر يلوي
مطاه تبخترا فيكون معتلا بحسب الأصل
وفي الحديث «إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم فقد
جعل بأسهم بينهم وسلط شرارهم على خيارهم»
وجعل الطيبي عطف هذه الجملة للتعجب على معنى يَسْئَلُ أَيَّانَ
يَوْمُ الْقِيامَةِ وما استعد له إلّا ما يوجب دماره وهلاكه.
وقال إن قوله تعالى فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ إلخ جواب عن
السؤال أقحم بين المعطوف والمعطوف عليه لشدة الاهتمام وأن قوله
سبحانه لا تُحَرِّكْ
إلخ استطراد على ما سمعت وجعل صَدَّقَ من التصدق هو المروي عن
قتادة وقال قوم: هو من التصديق أي فلا صدّق ماله ولا زكاه. قال
أبو حيان: وهذا الذي يظهر نفي عنه الزكاة والصلاة وأثبت له
التكذيب كما في قوله تعالى قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ
الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا
نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ
الدِّينِ [المدثر: 43- 46] وحمله على نفي التصديق يقتضي أن
يكون ولكن كذب تكرارا ولزم أن يكون استدراكا بعد وَلا صَلَّى
لا بعد فَلا صَدَّقَ لأنهما متوافقان وفيه نظر يعلم مما قررناه
ثم إنه استبعد العطف على قوله تعالى يَسْئَلُ إلخ وذكر أن
الآية نزلت في أبي جهل وكادت تصرح به في قوله تعالى يَتَمَطَّى
فإنها كانت مشيته ومشية قومه بني مخزوم وكان يكثر منها ولم
يبين حال العطف على هذا وأنت تعلم أن العطف لا يأبي حديث
النزول في أبي جهل وقد قيل إن قوله تعالى أَيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ نازل فيه أيضا والحكم
على الجنس بأحكام لا يضر فيه تعين بعض أفراده في حكم منها نعم
لا شك في بعد هذا العطف لفظا لكن في بعده معنى مقال ولعل فيما
بعد ما يقوي جانب العطف على ذاك أَوْلى لَكَ فَأَوْلى من الولي
بمعنى القرب فهو للتفضيل في الأصل غلب في قرب الهلاك ودعاء
السوء كأنه قيل هلاكا أولى لك بمعنى أهلكك الله تعالى هلاكا
أقرب لك من كل شر، وهلاك وهذا كما غلب بعدا وسحقا في الهلاك
وفي الصحاح عن الأصمعي قاربه ما يهلكه أي نزل به وأنشد:
فعادى بين هاديتين منها ... وأولى أن نزيد على الثلاث
أي قارب ثم قال قال ثعلب: ولم يقل أحد في أَوْلى أحسن مما قاله
الأصمعي وعلى هذا أَوْلى فعل مستتر فيه ضمير الهلاك بقرينة
السياق واللام مزيدة على ما قيل وقيل هو فعل ماض دعائي من
الولي أيضا إلّا أن الفاعل ضميره تعالى واللام مزيدة أي أولاك
الله تعالى ما تكرهه أو غير مزيدة أي أدنى الله الهلاك لك وهو
قريب مما ذكر عن الأصمعي وعن أبي علي أن أَوْلى لَكَ علم للويل
مبني على زنة أفعل من لفظ الويل على القلب وأصله أويل وهو غير
منصرف للعلمية والوزن فهو مبتدأ ولَكَ خبره وفيه أن الويل غير
منصرف فيه ومثل يوم أيوم مع أنه غير منقاس لا يفرد عن الموصوف
البتة وأن القلب على خلاف الأصل لا يرتكب إلّا بدليل وإن علم
الجنس شيء خارج عن القياس مشكل التعقل خاصة فيما نحن فيه، وقيل
اسم فعل مبني ومعناه ويلك شر بعد شر. واختار جمع أنه أفعل
تفضيل بمعنى الأحسن والأحرى خبر لمبتدأ محذوف يقدر كما يليق
بمقامه فالتقدير هنا النار أولى لك أي أنت أحق بها وأهل لها
فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى تكرير للتأكيد وقد تقدم
الكلام في ذلك فتذكر. والظاهر أن الجملة
(15/164)
تذييل للدعاء لا محل لها من الإعراب، وجوز
أن تكون في موضع الحال بتقدير القول كأنه قيل ثُمَّ ذَهَبَ
إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى مقولا له أَوْلى لَكَ إلخ ويؤيده ما
أخرج النسائي والحاكم وصححه وعبد بن حميد وابن جرير ابن المنذر
وغيرهم عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أشيء قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلم
من نفسه أم أمره الله تعالى به؟ قال: بل قال من قبل نفسه ثم
أنزله الله تعالى واستدل بقوله سبحانه فَلا صَدَّقَ وَلا
صَلَّى إلخ. على أن الكفار مخاطبون بالفروع فلا تغفل
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أي مهملا فلا يكلف
ولا يجزى وقيل أن يترك في قبره فلا يبعث ويقال: إبل سدى أي
مهملة ترعى حيث شاءت بلا راع وأسديت الشيء أي أهملته وأسديت
حاجتي ضيعتها ولم أعتن بها. قال الشاعر:
فأقسم بالله جهد اليم ... ين ما خلق الله شيئا سدى
ونصب سُدىً على الحال من ضمير يُتْرَكَ وأَنْ يُتْرَكَ في موضع
المفعولين ليحسب والاستفهام إنكاري وكان تكريره بعد قوله تعالى
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ لتكرير
إنكار الحشر قيل مع تضمن الكلام الدلالة على وقوعه حيث إن
الحكمة تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن القبائح والرذائل
والتكليف لا يتحقق إلّا بمجازاة وهي قد لا تكون في الدنيا
فتكون في الآخرة وجعل بعضهم هذا استدلالا عقليا على وقوع الحشر
وفيه بحث لا يخفى وقوله تعالى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ
مَنِيٍّ يُمْنى إلخ استئناف وارد لإبطال الحسبان المذكور فإن
مداره لما كان استبعادهم للإعادة دفع ذلك ببدء الخلق. وقرأ
الحسن «ألم تك» بباء الخطاب على سبيل الالتفات وقرأ الأكثر
«تمنى» بالتاء الفوقية فالضمير للنطفة أي يمنيها الرجل ويصبها
في الرحم وعلى قراءة الياء وهي قراءة حفص وأبي عمرو بخلاف عنه
ويعقوب وسلام والجحدري وابن محيصن للمني ثُمَّ كانَ عَلَقَةً
أي بقدرة الله تعالى كما قال تعالى ثُمَّ خَلَقْنَا
النُّطْفَةَ عَلَقَةً [المؤمنون: 14] فَخَلَقَ أي فقدر الله عز
وجل بأن جعلها سبحانه مخلقة فَسَوَّى فعدل وكمل فَجَعَلَ
مِنْهُ أي من الإنسان وقيل من المني الزَّوْجَيْنِ أي الصنفين
الذَّكَرَ وَالْأُنْثى بدل من الزوجين والخنثى لا يعدوهما.
وقرأ زيد بن علي الزوجان بالألف على لغة بني الحارث بن كعب ومن
وافقهم من العرب من كون المثنى بالألف في جميع حالاته أَلَيْسَ
ذلِكَ العظيم الشأن الذي أنشأ هذا الإنشاء البديع بِقادِرٍ أي
قادرا وقرأ زيد «يقدر» مضارعا عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى
وهو أهون من البدء في قياس العقل. وقرأ طلحة بن سليمان والفيض
بن غزوان «على أن يحيي» بسكون الياء وأنت تعلم أن حركاتها حركة
إعراب لا تنحذف إلّا في الوقف وقد جاء في الشعر حذفها بدونه
وعن بعضهم «يحيي» بنقل حركة الياء إلى الحاء وإدغام الياء في
الياء قال ابن خالويه: لا يجيز أهل البصرة سيبويه وأصحابه
إدغام يحيي قالوا لسكون الياء الثانية ولا يعتدون بالفتحة فيها
لأنها حركة إعراب غير لازمة، والفراء أجاز ذلك واحتج بقوله
تمشي بشدة فتعي يريد فتعيا، وبالجملة القراءة شاذة
وجاء في عدة أخبار أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان إذا قرأ
هذه الآية قال: «سبحانك اللهم وبلى» وفي بعضها «سبحانك فبلى»
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن المنذر وابن مردويه
والبيهقي والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى
الله عليه وسلم: «من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى
آخرها أليس الله بأحكم الحاكمين فليقل بلى وأنا على ذلكم من
الشاهدين، ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة فانتهى إلى أليس ذلك
بقادر على أن يحيي الموتى فليقل بلى، ومن قرأ والمرسلات فبلغ
فبأي حديث بعده يؤمنون فليقل آمنا بالله» .
(15/165)
هَلْ أَتَى عَلَى
الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا
مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ
أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا
كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ
وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ
مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ
بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ
مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ
مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ
لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا
(9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا
قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ
وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا
صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى
الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا
(13)
سورة الإنسان
وتسمى سورة الدهر والأبرار والأمشاج وهل أتى وهي مكية عند
الجمهور على ما في البحر وقال مجاهد وقتادة مدنية كلها وقال
الحسن وعكرمة والكلبي مدنية إلا آية واحدة فمكية وهي ولا تطع
منهم آثما أو كفورا وقيل مدنية إلّا من قوله تعالى فَاصْبِرْ
لِحُكْمِ رَبِّكَ [الإنسان: 24] إلى آخرها فإنه مكي وعن ابن
عادل حكاية مدنيتها على الإطلاق عن الجمهور وعليه الشيعة وآيها
إحدى وثلاثون آية بلا خلاف والمناسبة بينها وبين ما قبلها في
غاية الوضوح.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتى عَلَى
الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً
مَذْكُوراً أصله على ما قيل أهل على أن الاستفهام للتقرير أي
الجمل على الإقرار بما دخلت عليه والمقرر به من ينكر البعث وقد
علم أنهم يقولون نعم قد مضى على الإنسان حين لم يكن كذلك فيقال
فالذي أوجده بعد إن لم يكن كيف يمتنع عليه إحياؤه بعد موته
وهَلْ بمعنى قد وهي للتقريب أي تقريب الماضي من الحال فلما سدت
هَلْ مسد الهمزة دلت على معناها ومعنى الهمزة معا ثم صارت
حقيقة في ذلك فهي للتقرير والتقريب واستدل على ذلك الأصل بقول
زيد الخيل:
(15/166)
سائل فوارس يربوع بشدتنا ... أهل رأونا
بسفح القاع ذي الأكم
وقيل هي للاستفهام ولا تقريب وجمعها مع الهمزة في البيت
للتأكيد كما في قوله:
ولا للملبهم أبدا دواء بل التأكيد هنا أقرب لعدم الاتحاد لفظا
على أن السيرافي قال: الرواية الصحيحة أم هل رأونا على أن أم
منقطعة بمعنى بل وقال السيوطي في شرح شواهد المغني الذي رأيته
في نسخة قديمة من ديوان زيد فهل رأونا بالفاء وعن ابن عباس
وقتادة هي هنا بمعنى قد وفسرها بها جماعة من النحاة كالكسائي
وسيبويه والمبرد والفراء وحملت على معنى التقريب، ومن الناس من
حملها على معنى التحقيق وقال أبو عبيدة: مجازها قد أتى على
الإنسان وليس باستفهام وكأنه أراد ليس باستفهام حقيقة وإنما هي
للاستفهام التقريري ويرجع بالآخرة إلى قد أتى ولعل مراد من
فسرها بذلك كابن عباس وغيره ما ذكر لا أنها بمعنى قد حقيقة وفي
المغني ما تفيدك مراجعته بصيرة فراجعه والمراد بالإنسان الجنس
على ما أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس، والحين طائفة محدودة من
الزمان شاملة للكثير والقليل والدَّهْرِ الزمان الممتد الغير
المحدود ويقع على مدة العالم جميعها وعلى كل زمان طويل غير
معين والزمان عام للكل والدهر وعاء الزمان كلام فلسفي وتوقف
الإمام أبو حنيفة في معنى الدهر منكر أي في المراد به عرفا في
الإيمان حتى يقال بماذا يحنث إذا قال: والله لا أكلمه دهرا
والمعرف عنده مدة حياة الحالف عند عدم النية وكذا عند صاحبيه
والمنكر عندهما كالحين وهو معرفا ومنكرا كالزمان ستة أشهر إن
لم تكن نية أيضا وبها ما نوي على الصحيح وما اشتهر من حكاية
اختلاف فتاوى الخلفاء الأربعة في ذلك على عهده عليه الصلاة
والسلام مستدلا كل بدليل.
وقوله صلّى الله عليه وسلم بعد الرفع إليه: «أصحابي كالنجوم
بأيهم اقتديتم اهتديتم»
إلّا أنه اختار فتوى الأمير كرم الله تعالى وجهه بأن الحين يوم
وليلة لما فيه من التيسير لا يصح كما لا يخفى على الناقد
البصير ولو صح لم يعدل عن فتوى الأمير معدن البسالة والفتوة
بعد أن اختارها مدينة العلم ومفخر الرسالة والنبوة والمعنى هنا
قد أتى أو هَلْ أَتى عَلَى جنس الْإِنْسانِ قبل زمان قريب
طائفة محدودة مقدرة كائنة من الزمان الممتد لَمْ يَكُنْ
شَيْئاً مَذْكُوراً بلى كان شيئا غير مذكور بالإنسانية أصلا أي
غير معروف بها على أن النفي راجع إلى القيد والمراد أنه معدوم
لم يوجد بنفسه بل كان الموجود أصله مما لا يسمى إنسانا ولا
يعرف بعنوان الإنسانية وهو مادته البعيدة أعني العناصر أو
المتوسطة وهي الأغذية أو القريبة وهي النطفة المتولدة من
الأغذية المخلوقة من العناصر وجملة لَمْ يَكُنْ إلخ حال من
الإنسان أي غير مذكور وجوز أن تكون صفة لحين بحذف العائد عليه
أي لم يكن فيه شيئا مذكورا كما في قوله تعالى وَاتَّقُوا
يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة: 123]
وإطلاق الْإِنْسانِ على مادته مجاز بجعل ما هو بالقوة منزلا
منزلة ما هو بالفعل أو هو من مجاز الأول وقيل المراد بالإنسان
آدم عليه السلام وأيد الأول بقوله تعالى إِنَّا خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فإن الإنسان فيه معرفة معادة فلا
يفترقان كيف وفي إقامة الظاهر مقام المضمر فضل التقرير
والتمكين في النفس فإذا اختلفا عموما وخصوصا فاتت الملايمة ولا
شك أن الحمل على آدم عليه السلام في هذا ولا وجه له ولا نقض به
على إرادة الجنس بناء على أنه لا عموم فيه ولا خصوص. نعم دل
قوله سبحانه مِنْ نُطْفَةٍ على أن المراد غيره أو هو تغليب
وقيل يجعل ما للأكثر للكل مجازا في الإسناد أو الطرف ورويت
إرادته عن قتادة والثوري وعكرمة والشعبي وابن عباس أيضا وقال
في رواية أبي صالح عنه مرت به أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه
الروح وهو ملقى بين مكة
(15/167)
والطائف. وفي رواية الضحاك عنه أنه خلق من
طين فأقام أربعين سنة ثم من حمأ مسنون فأقام أربعين سنة ثم من
صلصال فأقام أربعين سنة فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة ثم نفخ
فيه الروح. وحكى الماوردي عنه أن الحين المذكور هاهنا هو الزمن
الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره. وروي نحوه عن عكرمة فقد
أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أنه قال إن من الحين حينا لا
يدرك وتلا الآية فقال: والله ما يدري كم أتى عليه حتى خلقه
الله تعالى. ورأيت لبعض المتصوفة أن هل للاستفهام الإنكاري فهو
في معنى النفي أي ما أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا
مذكورا وظاهره القول بقدم الإنسان في الزمان على معنى أنه لم
يكن زمان إلّا وفيه إنسان وهو القدم النوعي كما قال به من قال
من الفلاسفة وهو كفر بالإجماع ووجه بأنهم عنوا شيئية الثبوت
لقدم الإنسان عندهم بذلك الاعتبار دون شيئية الوجود ضرورة أنه
بالنسبة إليها حادث زمانا ويرشد إلى هذا قول الشيخ محيي الدين
في الباب 358 من الفتوحات المكية لو لم يكن في العالم من هو
على صورة الحق ما حصل المقصود من العلم بالحق أعني العلم
الحادث في قوله سبحانه:
«كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرفت إليهم
فعرفوني»
فجعل نفسه كنزا والكنز لا يكون إلّا مكتنزا في شيء فلم يكن كنز
الحق نفسه إلّا في صورة الإنسان الكامل في شيئية ثبوته هناك
كان الحق مكنوزا فلما ألبس الحق الإنسان شيئية الوجود ظهر
الكنز بظهوره فعرفه الإنسان الكامل بوجوده وعلم أنه كان مكنوزا
فيه في شيئية ثبوته وهو لا يشعر به انتهى ولا يخفى أن الأشياء
كلها في شيئية الثبوت قديمة لا الإنسان وحده، ولعلهم يقولون
الإنسان هو كل شيء لأنه الإمام المبين وقد قال سبحانه وَكُلَّ
شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس: 12] والكلام في
هذا المقام طويل ولا يسعنا أن نطيل بيد أنّا نقول كون هَلْ هنا
للإنكار منكر وأن دعوى صحة ذلك لإحدى الكبر والذي فهمه أجلة من
الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الآية الإخبار الإيجابي. أخرج
عبد بن حميد وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه
سمع رجلا يقرأ «هل أتى على الإنسان شيء من الدهر لم يكن شيئا
مذكورا» فقال ليتها تمت. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه
سمع رجلا يتلو ذلك فقال يا ليتها تمت فعوقب في قوله هذا فأخذ
عمودا من الأرض فقال يا ليتني كنت مثل هذا أَمْشاجٍ جمع مشج
بفتحتين كسبب وأسباب، أو مشج بفتح فكسر ككتف وأكتاف، أو مشيج
كشهيد وأشهاد ونصير وأنصار أي أخلاط جمع خلط بمعنى مختلط
ممتزج، يقال: مشجت الشيء إذا خلطته ومزجته فهو مشيج وممشوج،
وهو صفة لنطفة ووصف بالجمع وهي مفردة لأن المراد بها مجموع ماء
الرجل والمرأة والجمع قد يقال على ما فوق الواحد أو باعتبار
الأجزاء المختلفة فيهما رقة وغلظا وصفرة وبياضا وطبيعة وقوة
وضعفا حتى اختص بعضها ببعض الأعضاء على ما أراده الله تعالى
بحكمته فخلقه بقدرته. وفي بعض الآثار أن ما كان من عصب وعظم
وقوة فمن ماء الرجل، وما كان من لحم ودم فمن ماء المرأة،
والحاصل أنه نزل الموصوف منزلة الجمع ووصف بصفة أجزائه وقيل هو
مفرد جاء على أفعال كأعشار وأكياش في قولهم برمة أعشار أي
متكسرة وبرد أكيش أي مغزول غزله مرتين. واختاره الزمخشري
والمشهور عن نص سيبويه وجمهور النحاة أن أفعالا لا يكون جمعا
وحكي عنه أنه ذهب إلى ذلك في العام ومعنى نطفة مختلطة عند
الأكثرين نطفة اختلط وامتزج فيها الماءان، وقيل: اختلط فيها
الدم والبلغم والصفراء والسوداء وقيل الأمشاج نفس الأخلاط التي
هي عبارة عن هذه الأربعة فكأنه قيل من نطفة هي عبارة عن أخلاط
أربعة. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه قال: أمشاج أي ألوان أي
ذات ألوان فإن ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اختلطا
ومكثا في قعر الرحم اخضرّا كما يخضر الماء بالمكث، وروي عن
الكلبي وأخرج عن زيد بن أسلم أنه قال: الأمشاج العروق التي في
النطفة، وروي
(15/168)
ذلك عن ابن مسعود أي ذات عروق، وروي عن
عكرمة وكذا ابن عباس أنه قال «أمشاج» أطوار أي ذات أطوار فإن
النطفة تصير علقة ثم مضغة وهكذا إلى تمام الخلقة ونفخ الروح
وقوله تعالى نَبْتَلِيهِ حال من فاعل خلقنا والمراد مريدين
ابتلاءه واختباره بالتكليف فيما بعد على أن الحال مقدرة أو
ناقلين له من حال إلى حال ومن طور إلى طور على طريقة الاستعارة
لأن المنقول يظهر في كل طهور ظهورا آخر كظهور نتيجة الابتلاء
والامتحان بعده. وروي نحوه عن ابن عباس وعلى الوجهين ينحل ما
قيل إن الابتلاء بالتكليف وهو يكون بعد جعله سَمِيعاً بَصِيراً
لا قبل فكيف يترتب عليه قوله سبحانه فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً
بَصِيراً وقيل الكلام على التقديم والتأخير والجملة استئناف
تعليلي أي فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه وحكي ذلك عن الفراء
وعسف لأن التقديم لا يقع في حاق موقعه لا لفظا لأجل الفاء ولا
معنى لأنه لا يتجه السؤال قبل الجعل والأوجه الأول، وهذا الجعل
كالمسبب عن الابتلاء لأن المقصود من جعله كذلك أن ينظر الآيات
الآفاقية والأنفسية ويسمع الأدلة السمعية فلذلك عطف على الخلق
المقيد به بالفاء ورتب عليه قوله تعالى إِنَّا هَدَيْناهُ
السَّبِيلَ لأنه جملة مستأنفة تعليلية في معنى لأنا هديناه أي
دللناه على ما يوصله من الدلائل السمعية كالآيات التنزيلية
والعقلية كالآيات الأفاقية والأنفسية وهو إنما
يكون بعد التكليف والابتلاء إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً
حالان من مفعول هدينا وإما للتفصيل باعتبار تعدد الأحوال مع
اتحاد الذات أي هديناه ودللناه على ما يوصل إلى البغية في
حالتيه جميعا من الشكر والكفر أو للتقسيم للمهدي باختلاف
الذوات والصفات أي هديناه السبيل مقسوما إليها بعضهم شاكر
بالاهتداء للحق وطريقه بالأخذ فيه وبعضهم كفور بالأعراض عنه
وحاصله دللناه على الهداية والإسلام فمنهم مهتد مسلم ومنهم ضال
كافر وقيل حالان من السبيل أي عرفناه السبيل إما سبيلا شاكرا
وإما سبيلا كفورا على وصف السبيل بوصف سالكه مجازا والمراد به
لا يخفى وعن السدي أن السبيل هنا سبيل الخروج من الرحم وليس
بشيء أصلا وقرأ أبو السمال وأبو العاج (1) أما بفتح الهمزة في
الموضعين وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب وهي التي عدها بعض
الناس على ما قال أبو حيان في حروف العطف وأنشدوا:
تلقحها إما شمال عرية ... وإما صبا جنح العشي هبوب
وجعلها الزمخشري أما التفصيلية المتضمنة معنى الشرط على معنى
إِمَّا شاكِراً فبتوفيقنا وَإِمَّا كَفُوراً فبسوء اختياره
وهذا التقدير إبراز منه للمذهب قيل ولا عليه أن يجعله من باب
يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [البقرة: 26]
كأنه قيل إِمَّا شاكِراً فبهدايتنا أي دعائنا أو أقدارنا على
ما فسر به الهداية وَإِمَّا كَفُوراً فبها أيضا لاختلاف وجه
الدعاء لأن الهداية هاهنا ليست في مقابلة الضلال وهذا جار على
المذهبين وسالم عن حذف ما لا دليل عليه، وجوز في الانتصاف أن
يكون التقدير إِمَّا شاكِراً فمثاب وَإِمَّا كَفُوراً فمعاقب
وإيراد الكفور بصيغة المبالغة لمراعاة الفواصل والإشعار بأن
الإنسان قلما يخلو من كفران ما، وإنما المؤاخذ عليه الكفر
المفرط إِنَّا أَعْتَدْنا هيأنا لِلْكافِرِينَ من أفراد
الإنسان الذي هديناه السبيل سَلاسِلَ بها يقادون وَأَغْلالًا
بها يقيدون وَسَعِيراً بها يحرقون وتقديم وعيدهم مع تأخرهم
للجمع بينهما في الذكر كما في قوله تعالى يَوْمَ تَبْيَضُّ
وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ
وُجُوهُهُمْ [آل عمران: 106] الآية ولأن الإنذار أنسب بالمقام
وحقيق بالاهتمام ولأن تصدير الكلام وختمه بذكر المؤمنين أحسن
على أن وصفهم تفصيلا ربما يخل تقديمه بتجارب أطراف النظم
الكريم. وقرأ نافع
__________
(1) قوله وأبو العاج وهو كثير بن عبد الله السلمي شامي ولي
البصرة لهشام بن عبد الملك.
(15/169)
والكسائي وأبو بكر والأعمش «سلاسلا»
بالتنوين وصلا وبالألف المبدلة منه وقفا وقال الزمخشري وفيه
وجهان أحدهما أن تكون هذه النون بدلا عن حرف الإطلاق ويجري
الوصل مجرى الوقف. والثاني أن يكون صاحب القراءة ممن ضرى
برواية الشعر ومرن لسانه على صرف غير المنصرف. وفي الأول أن
الإبدال من حروف الإطلاق في غير الشعر قليل كيف وضم إليه إجراء
للوصل مجرى الوقف. وفي الثاني تجويز القراءة بالتشهي دون سداد
وجهها في العربية والوجه أنه لقصد الازدواج والمشاكلة فقد
جوزوا لذلك صرف ما لا ينصرف لا سيما الجمع فإنه سبب ضعيف لشبهه
بالمفرد في جمعه كصواحبات يوسف ونواكسي الأبصار ولهذا جوز
بعضهم صرفه مطلقا كما قيل.
والصرف في الجمع أتى كثيرا ... حتى ادعى قوم به التخييرا
وحكى الأخفش عن قوم من العرب أن لغتهم صرف كل ما لا ينصرف إلّا
أفعل من وصرف «سلاسلا» ثابت في مصاحف المدينة ومكة والكوفة
والبصرة وفي مصحف أبيّ وعبد الله بن مسعود وروى هشام عن ابن
عامر «سلاسل» في الوصل وسلاسلا بألف دون تنوين في الوقف إِنَّ
الْأَبْرارَ شروع في بيان حسن حال الشاكرين إثر بيان حال سوء
الكافرين وإيرادهم بعنوان البر للإشعار بما استحقوا به ما
نالوه من الكرامة السنية مع تجديد صفة مدح لهم والأبرار جمع بر
كربّ وأرباب أو بار كشاهد وأشهاد بناء على أن فاعلا يجمع على
أفعال والبر المطيع المتوسع في فعل الخير وقيل من يؤدي حق الله
تعالى ويوفي بالنذر وعن الحسن هو الذي لا يؤذي الذر ولا يرضى
الشر يَشْرَبُونَ في الآخرة مِنْ كَأْسٍ هي كما قال الزجاج
الإناء إذا كان فيه الشراب فإذا لم يكن لم يسم كأسا وقال
الراغب: الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما
بانفراده كأسا والمشهور أنها تطلق حقيقة على الزجاجة إذا كانت
فيها خمر ومجازا على الخمر بعلاقة المجاورة والمراد بها هاهنا
قيل الخمر فمن تبعيضية أو بيانية وقيل الزجاجة التي فيها الخمر
ف مِنْ ابتدائية وقوله تعالى كانَ مِزاجُها كافُوراً أظهر
ملاءمة للأول والظاهر أن هذا على منوال كانَ اللَّهُ عَلِيماً
حَكِيماً [النساء: 17 وغيرها] والمجيء بالفعل للتحقيق الدوام،
وقيل كانَ تامة من قوله تعالى كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: 117
وغيرها] والمزاج ما يمزج به كالحزام لما يحزم به فهو اسم آلة،
وكافور على ما قال الكلبي علم عين في الجنة ماؤها في بياض
الكافور وعرفه وبرده وصرف لتوافق الآي والكلام على حذف مضاف أي
ماء كافور والجملة صفة كَأْسٍ وهذا القول خلاف الظاهر ولعله إن
لم يصح فيه خبر لا يقبل. وقرأ عبد الله «قافورا» بالقاف بدل
الكاف وهما كثيرا ما يتعاقبان في الكلمة كقولهم عربي قح وكح
وقوله تعالى عَيْناً بدل من كافور وقال قتادة يمزج لهم
بالكافور ويختم لهم بالمسك وذلك لبرودة الكافور وبياضه وطيب
رائحته، فالكافور بمعناه المعروف وقيل إن خمر الجنة قد أودعها
الله تعالى إذ خلقها أوصاف الكافور الممدوحة فكونه مزاجا مجاز
في الإنصاف بذلك فعينا على هذين القولين بدل من محل كَأْسٍ على
تقدير مضاف أي يشربون خمرا خمر عين أو نصب على الاختصاص بإضمار
أعني أو أخص كما قال المبرد وقيل على الحال من ضمير مِزاجُها
وقيل من كَأْسٍ وساغ لوصفه وأريد بذلك وصفها بالكثرة والصفاء
وقيل منصوب بفعل يفسره ما بعد أعني قوله تعالى يَشْرَبُ بِها
عِبادُ اللَّهِ على تقدير مضاف أيضا أي يشربون ماء عين يشرب
بها إلخ. وتعقب بأن الجملة صفة عَيْناً فلا يعمل فعلها بها وما
لا يعمل لا يفسر عاملا وأجيب بمنع كونها صفة على هذا الوجه
والتركيب عليه نحو رجلا ضربته نعم هي صفة عين على غير هذا
الوجه والباء للإلصاق، وليست للتعدية وهي متعلقة معنى بمحذوف
أي يشرب الخمر ممزوجة بها أي بالعين عِبادُ اللَّهِ
(15/170)
وهو كما تقول شربت الماء بالعسل هذا إذا
جعل كافور علم عين في الجنة وأما على القولين الآخرين فقيل وجه
الباء أن يجعل الكلام من باب:
يجرح في عراقيبها نصلي لإفادة المبالغة. وقيل: الباء للتعدية
وضمن يَشْرَبُ معنى يروى فعدي بها وقيل هي بمعنى من، وقيل: هي
زائدة والمعنى يشربها كما في قول الهزلي:
شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لحج خضر لهن نئيج
ويعضد هذا قراءة ابن أبي عبلة «يشربها» وقيل ضمير بِها للكأس،
والمعنى يشربون العين بتلك الكأس وعليه يجوز أن يكون عَيْناً
مفعولا ليشرب مهدما عليه وعِبادُ اللَّهِ المؤمنون أهل الجنة
يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً صفة أخرى لعينا أي يجرونها حيث
شاؤوا من منازلهم إجراء سهلا لا يمتنع عليهم على أن التنكير
للتنويع. أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن شوزب
أنه قال: معهم قضبان ذهب يفجرون بها فيتبع الماء قضبانهم. وفي
بعض الآثار أن هذه العين في دار رسول الله صلّى الله عليه وسلم
تفجر إلى دور الأنبياء عليهم السلام والمؤمنين يُوفُونَ
بِالنَّذْرِ استئناف مسوق لبيان ما لأجله يرزقون هذا النعيم
مشتمل على نوع تفصيل لما ينبىء عنه اسم الأبرار إجمالا كأنه
قيل: ماذا يفعلون حتى ينالوا تلك المرتبة العالية؟ فقيل: يوفون
إلخ، وأفيد أنه استئناف للبيان ومع ذلك عدل عن أوفوا إلى
المضارع للإستحضار والدلالة على الاستمرار والوفاء بالنذر
كناية عن أداء الواجبات كلها العلم ما عداه بالطريق الأولى
وإشارة النص فإن من أوفى بما أوجبه على نفسه كان إيفاء ما
أوجبه الله تعالى عليه أهم له وأحرى، وجعل ذلك كناية هو الذي
يقتضيه ما روي عن قتادة وعن عكرمة ومجاهد إبقاؤه على الظاهر
قالا: أي إذا نذروا طاعة فعلوها وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ
شَرُّهُ عذابه مُسْتَطِيراً فاشيا منتشرا في الأقطار غاية
الانتشار من استطار الحريق والفجر وهو أبلغ من طار لأن زيادة
المبنى تدل على زيادة المعنى، وللطلب أيضا دلالة على ذلك لأن
ما يطلب من شأنه أن يبالغ فيه. وفي وصفهم بذلك إشعار بحسن
عقيدتهم واجتنابهم عن المعاصي وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى
حُبِّهِ أي كائنين على حب الطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه
فهو من باب التتميم ويجاوبه من القرآن قوله تعالى لَنْ
تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل
عمران: 92] وروي عن ابن عباس ومجاهد أو على حب الإطعام بأن
يكون ذلك بطيب نفس وعدم تكلف، وإليه ذهب الحسن بن الفضل وهو
حسن أو كائنين على حب الله تعالى أو إطعاما كائنا على حبه
تعالى ولوجهه سبحانه وابتغاء مرضاته عز وجل وإليه ذهب الفضيل
بن عياض وأبو سليمان الداراني. ف عَلى حُبِّهِ من باب التكميل
وزيفه بعضهم وقال الأول هو الوجه ويجاوبه القرآن على أن في
قوله تعالى لوجه الله بعد غنية عن قوله سبحانه لوجه الله وفيه
نظر بل لعله الأنسب لذاك، وذكر الطعام مع أن الإطعام يغني عنه
لتعيين مرجع الضمير على الأول، ولأن الطعام كالعلم فيما فيه
قوام البدن واستقامة البنية وبقاء النفس ففي التصريح به تأكيد
لفخامة فعلهم على الأخيرين ويجوز أن يعتبر على الأول أيضا ثم
الظاهر أن المراد بإطعام الطعام حقيقته. وقيل هو كناية عن
الإحسان إلى المحتاجين والمواساة معهم بأي وجه كان وإن لم يكن
ذلك بالطعام بعينه فكأنه ينفعون بوجوه المنافع مِسْكِيناً
وَيَتِيماً وَأَسِيراً قيل أي أسير كان،
فعن الحسن أنه صلّى الله عليه وسلم كان يؤتى بالأسير فيدفعه
إلى بعض المسلمين فيقول: «أحسن إليه» فيكون عنده اليومين
والثلاثة فيؤثره على نفسه
وقال قتادة: كان أسيرهم يومئذ المشرك وأخوك المسلم أحق أن
تطعمه.
(15/171)
وأخرج ابن عساكر عن مجاهد أنه قال: لما صدر
النبيّ صلّى الله عليه وسلم بالأسارى من بدر أنفق سبعة من
المهاجرين أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبد الرحمن وسعد وأبو
عبيدة بن الجراح على أسارى مشركي بدر، فقالت الأنصار:
قتلناهم في الله وفي رسوله صلّى الله عليه وسلم وتعينونهم
بالنفقة؟ فأنزل الله تعالى فيهم تسعة عشرة آية إِنَّ
الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ- إلى قوله تعالى- عَيْناً فِيها
تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا
[الإنسان: 5- 18] ففيه دليل على أن إطعام الأسارى وإن كانوا من
أهل الشرك حسن ويرجى ثوابه، والخبر الأول قال ابن حجر لم يذكره
من يعتمد عليه من أهل الحديث.
وقال ابن العراقي: لم أقف عليه، والخبر الثاني لم أره لفرد غير
ابن عساكر ولا وثوق لي بصحته وهو يقتضي مدنية هذه الآيات وقد
علمت الخلاف في ذلك نعم عند عامة العلماء يجوز الإحسان إلى
الكفار في دار الإسلام ولا تصرف إليهم الواجبات. وقال ابن جبير
وعطاء: هو الأسير من أهل القبلة. قال الطيبي هذا إنما يستقيم
إذا اتفق الإطعام في دار الحرب من المسلم لأسير في أيديهم.
وقيل هو الأسير المسلم ترك في بلاد الكفار رهينة وخرج لطلب
الفداء. وروى محيي السنة عن مجاهد وابن جبير وعطاء أنهم قالوا:
هو المسجون من أهل القبلة وفيه دليل على أن إطعام أهل المحبوس
المسلمين حسن، وقد يقال: لا يحسن إطعام المحبوس لوفاء دين يقدر
على وفائه إنما امتنع عنه تعنتا ولغرض من الأغراض النفسانية.
وعن أبي سعيد الخدري هو المملوك والمسجون وتسمية المسجون أسيرا
مجاز لمنعه عن الخروج، وأما تسمية المملوك فمجاز أيضا لكن قيل
باعتبار ما كان وقيل باعتبار شبهه به في تقييده بأسار الأمر
وعدم تمكنه من فعل ما يهوى وعد الغريم أسيرا
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك»
وهو على التشبيه البليغ إلّا أنه قيل في هذا الخبر ما قيل في
الخبر الأول وقال أبو حمزة اليماني: هي الزوجة وضعّفه هاهنا
ظاهر إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ على إرادة قول هو
في موضع الحال من فاعل يُطْعِمُونَ أي قائلين ذلك بلسان الحال
لما يظهر عليهم من إمارات الإخلاص وعن مجاهد إما إنهم ما
تكلموا به ولكن علمه الله تعالى منهم فأثنى سبحانه به عليهم
ليرغب فيه راغب أو بلسان المقال إزاحة لتوهم المن المبطل
للصدقة وتوقع المكافأة المنقصة للأجر وعن الصديقة رضي الله
تعالى عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل الرسول
ما قالوا فإذا ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى لها ثواب الصدقة
خالصا عند الله عز وجل. وجوز أن يكون قولهم هذا لهم لطفا
وتفقيها وتنبيها على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص لله تعالى
وليس بذاك وقوله سبحانه لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً بالأفعال
وَلا شُكُوراً ولا شكرا وثناء بالأقوال تقرير وتأكيد لما قبله
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً أي عذاب يوم فهو على تقدير
مضاف أو أن خوفه كناية عن خوف ما فيه عَبُوساً تعبس فيه الوجوه
على أنه من الإسناد المجازي كما في نهاره صائم فقد روي عن ابن
عباس أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل
القطران أو يشبه الأسد العبوس على أنه من الاستعارة المكنية
التخييلية لكن لا يخفى أن العبوس ليس من لوازم الأسد وإنما
اشتهر وصفه به ففي التخييلية ضعف ما وقيل إنه من التشبيه
البليغ قَمْطَرِيراً شديد العبوس ويقال شديدا صعبا كأنه التف
شره ببعضه وقيل طويلا وهو رواية عن ابن عباس وجاء قماطر
وأنشدوا لأسد بن ناغصة:
واصطليت الحروب في كل يوم ... باسل الشر فمطرير الصباح
بني عمنا هل تذكرون بلاءنا ... عليكم إذا ما كان يوم قماطر
(15/172)
وقول آخر:
وإلى الأول ذهب الزجاج فقال: القمطرير الذي يعبس حتى يجتمع ما
بين عينيه، ويقال: اقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وزمت بأنفها
وجمعت قطريها أي جانبيها كأنها تفعل ذلك إذا لحقت كبرا. وقيل:
لتضع حملها فاشتقاقه عنده على ما قيل من قطر بالاشتقاق الكبير
والميم زائدة وهذا لا يلزم الزجاج فيجوز أن يكون مشتقا كذلك من
القمط، ويقال: قمطه إذا شده وجمع أطرافه وفي البحر يقال: اقمطر
فهو مقمطر وقمطرير وقماطر إذا صعب واشتد واختلف في هذا الوزن
وأكثر النحاة لا يثبتون افمعل في أوزان الأفعال وهذه الجملة
جوز أن تكون علة لإحسانهم وفعلهم المذكور كأنه قيل نفعل بكم ما
نفعل لأنّا نخاف يوما صفته كيت وكيت، فنحن نرجو بذلك أن يقينا
ربنا جل وعلا شره، وأن تكون علة لعدم إرادة الجزاء والشكور أي
إنّا لا تريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله تعالى على طلب
المكافأة بالصدفة وإلى الوجهين أشار في الكشاف وقال في الكشف:
الثاني أوجه ليبقى قوله لوجه الله خالصا غير مشوب بحظ النفس من
جلب نفع أو دفع ضر ولو جعل علة للإطعام المعلل على المعنى إنما
خصصنا الإحسان لوجهه تعالى لأنّا نخاف يوم جزائه ومن خافه لازم
الإخلاص لكان وجها فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ
بسبب خوفهم وتحفظهم عنه. وقرأ أبو جعفر «فوقّاهم» بشد القاف
وهو أوفق بقوله تعالى وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً أي
أعطاهم بدل عبوس الفجار وحزنهم نضرة في الوجوه وسرورا في
القلوب وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا بصبرهم على مشاق الطاعات
ومهاجرة هوى النفس في اجتناب المحرمات وإيثار الأموال مأكلا
وملبسا جَنَّةً بستانا عظيما يأكلون منه ما شاؤوا وَحَرِيراً
يلبسونه ويتزينون به
ومن رواية عطاء عن ابن عباس أن الحسن والحسين مرضا فعادهما
جدهما محمد صلّى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر رضي الله
تعالى عنهما وعادهما من عادهما من الصحابة فقالوا لعلي كرم
الله تعالى وجهه: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك فنذر علي
وفاطمة وفضة جارية لهما إن برآ مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام
شكرا فألبس الله تعالى الغلامين ثوب العافية. وليس عند آل محمد
قليل ولا كثير فانطلق علي كرم الله تعالى وجهه إلى شمعون
اليهودي الخيبري فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير فجاء بها
فقامت فاطمة رضي الله تعالى عنها إلى صاع فطحنته وخبزت منه
خمسة أقراص على عددهم وصلى علي كرم الله تعالى وجهه مع النبي
صلّى الله عليه وسلم المغرب ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين
يديه فوقف بالباب سائل فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد
صلّى الله عليه وسلم، أنا مسكين من مساكين المسلمين أطعموني
أطعمكم الله تعالى من موائد الجنة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا
شيئا إلّا الماء وأصبحوا صياما، ثم قامت فاطمة رضي الله تعالى
عنها إلى صاع آخر فطحنته وخبزته وصلى علي كرم الله تعالى وجهه
مع النبي صلّى الله عليه وسلم المغرب ثم أتى المنزل فوضع
الطعام بين يديه فوقف يتيم بالباب، وقال:
السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلّى الله عليه وسلم، يتيم من
أولاد المهاجرين أطعموني أطعمكم الله تعالى من موائد الجنة،
فآثروه ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئا إلّا الماء القراح
وأصبحوا صياما فلما كان يوم الثالث قامت فاطمة رضي الله تعالى
عنها إلى الصاع الثالث وطحنته وخبزته وصلى علي كرم الله تعالى
وجهه مع النبي صلّى الله عليه وسلم المغرب فأتى المنزل فوضع
الطعام بين يديه فوقف أسير بالباب فقال: السلام عليكم يا أهل
بيت محمد صلّى الله عليه وسلم، أنا أسير محمد عليه الصلاة
والسلام أطعموني أطعمكم الله، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلّا
الماء القراح. فلما أصبحوا أخذ علي كرم الله تعالى وجهه الحسن
والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورآهم
يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال: «يا أبا الحسن ما أشد ما
يسوءني ما أرى بكم» وقام فانطلق معهم إلى فاطمة رضي الله
(15/173)
تعالى عنها فرآها في محرابها قد التصق
بطنها بظهرها وغارت عيناها من شدة الجوع فرق لذلك صلّى الله
عليه وسلم وساءه ذلك فهبط جبريل عليه السلام فقال: خذها يا
محمد هنّاك الله تعالى في أهل بيتك قال: «وما آخذ يا جبريل»
فاقرأه هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ
السورة
وفي رواية ابن مهران فوثب النبي صلّى الله عليه وسلم حتى دخل
على فاطمة فأكب عليها يبكي فهبط جبريل عليه السلام بهذه الآية
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ
إلى آخره وفي رواية عن عطاء أن الشعير كان عن أجرة سقي نخل
وأنه جعل في كل يوم ثلث منه عصيدة فآثروا بها
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في قوله سبحانه
وَيُطْعِمُونَ إلخ نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه وفاطمة بنت
رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعليهم وسلم
ولم يذكر القصة والخبر مشهور بين الناس وذكره الواحدي في كتاب
البسيط وعليه قول بعض الشيعة:
إلا إلام وحتى متى ... أعاتب في حب هذا الفتى
وهل زوجت غيره فاطم ... وفي غيره هل أتى هل أتى
وتعقب بأنه خبر موضوع مفتعل كما ذكره الترمذي وابن الجوزي
وآثار الوضع ظاهرة عليه لفظا ومعنى، ثم إنه يقتضي أن تكون
السورة مدنية لأن بناء علي كرم الله تعالى وجهه على فاطمة رضي
الله تعالى عنها كان بالمدينة وهي عند ابن عباس المروي هو عنه
على ما أخرج النحاس مكية وكذا عند الجمهور في قول. وأقول أمر
مكيتها ومدنيتها مختلف فيه جدا كما سمعت فلا جزم فيه بشيء وابن
الجوزي نقل الخبر في تبصرته ولم يتعقبه على أنه ممن يتساهل في
أمر الوضع حتى قالوا إنه لا يعول عليه في هذا الباب فاحتمال
أصل النزول في الأمير كرم الله تعالى وجهه وفاطمة رضي الله
تعالى عنها قائم ولا جزم بنفي ولا إثبات لتعارض الأخبار ولا
يكاد يسلم المرجح عن قيل وقال، نعم لعله يترجح عدم وقوع
الكيفية التي تضمنتها الرواية الأولى، ثم إنه على القول
بنزولها فيهما لا يتخصص حكمها بهما بل يشمل كل من فعل مثل ذلك
كما ذكره الطبرسي من الشيعة في مجمع البيان راويا له عن عبد
الله بن ميمون عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه وعلى القول
بعدم النزول فيهما لا يتطامن مقامهما ولا ينقص قدرهما إذ
دخولهما في الأبرار أمر جلي بل هو دخول أولى فهما هما وماذا
عسى يقول امرؤ فيهما سوى أن عليا مولى المؤمنين ووصي النبي
وفاطمة البضعة الأحمدية والجزء المحمدي وأما الحسنان فالروح
والريحان وسيدا شباب الجنان وليس هذا من الرفض بشيء بل ما سواه
عندي هو الغيّ:
أنا عبد الحق لا عبد الهوى ... لعن الله الهوى فيمن لعن
ومن اللطائف على القول بنزولها فيهم أنه سبحانه لم يذكر فيها
الحور العين وإنما صرح عز وجل بولدان مخلدين رعاية لحرمة
البتول وقرة عين الرسول لئلا تثور غيرتها الطبيعية إذا أحست
بضرة وهي في أفواه تخيلات الطباع البشرية ولو في الجنة مرة.
ولا يخفى عليك أن هذا زهرة ربيع ولا تتحمل الفرك ثم التذكير
على ذلك أيضا من باب التغليب.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه «جازاهم»
على وزن فاعل مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ حال من
(هم) في جَزاهُمْ والعامل جزى وخص الجزاء بهذه الحالة لأنها
أتم حالات المتنعم ولا يضر في ذلك قوله تعالى بِما صَبَرُوا
لأن الصبر في الدنيا وما تسبب عليه في الآخرة وقيل صفة الجنة
ولم يبرز الضمير مع أن الصفة جارية على غير من هي عليه فلم يقل
متكئين هم فيها لعدم الإلباس كما في قوله:
قومي ذري المجد بانوها وقد علمت ... بكنه ذلك عدنان وقحطان
(15/174)
وَدَانِيَةً
عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)
وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ
كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا
تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا
زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا
رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا
رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا
أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا
طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ
سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا
تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ
رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ
لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ
يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا
ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ
وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ
سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ
يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ
عَذَابًا أَلِيمًا (31)
وأنت تعلم هذا رأي الكوفية ومذهب البصرية
وجوب إبراز الضمير في ذلك مطلقا وفي البيت كلام وقيل يجوز كونه
حالا مقدرة من ضمير صَبَرُوا وليس بذاك والْأَرائِكِ جمع أريكة
وهي السرير في الحجلة من دونه ستر ولا يسمى مفردا أريكة وقيل
هو كل ما اتكئ عليه من سرير أو فراش أو منصة وكان تسميته بذلك
لكونه مكانا للإقامة أخذا من قولهم أرك بالمكان أروكا أقام،
وأصل الأروك الإقامة على رعي الأراك الشجر المعروف ثم استعمل
في غيره من الإقامات وقوله تعالى لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً
وَلا زَمْهَرِيراً إما حال ثانية من الضمير أو حال من المستكن
في مُتَّكِئِينَ وجوز فيه كونه صفة لجنة أيضا والمراد من ذلك
أن هواءها معتدل لا حر شمس يحمي ولا شدة برد يؤذي. وفي الحديث:
«هواء الجنة سجسج لا حر ولا قر» فقصد بنفي الشمس نفيها ونفي
لازمها معا لقوله سبحانه وَلا زَمْهَرِيراً فكأنه قيل لا يرون
فيها حرا ولا قرا.
وقيل الزمهرير القمر وعن ثعلب أنه في لغة طيىء وأنشد:
وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزمهرير ما زهر
وليس هذا لأن طبيعته باردة كما قيل لأنه في حيز المنع بل قيل
إنه برهن على أن الأنوار كلها حارة فيحتمل أن ذلك للمعانه أخذا
له من ازمهر الكوكب لمع، والمعنى على هذا القول أن هواءها مضيء
بذاته لا يحتاج إلى شمس ولا قمر. وفي الحديث: إن الجنة لا خطر
بها هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد الحديث
ثم إنها مع هذا قد يظهر فيها نور أقوى من نورها كما تشهد به
الأخبار الصحيحة. وفي بعض الآثار عن ابن عباس بينا أهل الجنة
في الجنة إذ رأوا ضوءا كضوء الشمس وقد أشرقت الجنان به فيقول
أهل الجنة: يا رضوان ما هذا وقد قال ربنا لا يَرَوْنَ فِيها
شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً فيقول لهم رضوان: ليس هذا بشمس ولا
قمر ولكن علي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما ضحكا فأشرقت الجنان
من نور ثغريهما.
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها عطف على الجملة وحالها حالها
أو صفة لمحذوف معطوف على جنة فيما سبق أي وجنة أخرى دانية
عليهم ظلالها على أنهم وعدوا جنتين كما في قوله تعالى وَلِمَنْ
خافَ مَقامَ رَبِّهِ
(15/175)
جَنَّتانِ
[الرحمن: 46] وقرأ أبو حيوة «دانية» بالرفع وخرج على أن دانية
خبر مقدم لظلالها والجملة في حيز الحال على أن الواو عاطفة أو
حالية أو في حيز الصفة على أن الواو عاطفة أيضا أو للإلصاق على
ما يراه الزمخشري. وقال الأخفش «ظلالها» مرفوع بدانية على
الفاعلية واستدل بذلك على جواز عمل اسم الفاعل من غير اعتماد
نحو قائم الزيدون وقد علمت أنه لا يصلح للاستدلال لقيام ذلك
الاحتمال على أنه يجوز أن يكون خبر المبتدأ مقدر فيعتمد أي وهي
دانية عليهم ظلالها. وقرأ أبيّ «ودان» كقاض ولا يتم الاستدلال
به للأخفش أيضا وإن كان بينه وبين ما تقدم فرق ما. وقرأ الأعمش
«ودانيا عليهم» نحو خاشعا أبصارهم والمراد أن ظلال أشجار الجنة
قريبة من الأبرار مظلة عليهم زيادة في نعيمهم وَذُلِّلَتْ
قُطُوفُها تَذْلِيلًا أي سخرت ثمارها لمتناولها وسهل أخذها من
الذل وهو ضد الصعوبة. قال قتادة ومجاهد وسفيان: إن كان الإنسان
قائما تناول الثمر دون كلفة، وإن كان قاعدا أو مضطجعا فكذلك
فهذا تذليلها لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك، والجملة حال من
ضمير دانِيَةً أي تدنو ظلالها عليهم مذللة لهم قطوفها أو
معطوفة على ما قبلها وهي فعلية معطوفة على اسمية في قراءة
«دانية» بالرفع ونكتة التخالف أن استدامة الظل مطلوبة هنالك
والتجدد في تذليل القطوف على حسب الحاجة وَيُطافُ عَلَيْهِمْ
بِآنِيَةٍ جمع إناء ككساء وأكسية، وهو ما يوضع فيه الشيء
والأواني جمع الجمع مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ جمع كوب وهو قدح
لا عروة له كما قال الراغب وفي القاموس: كوز لا عروة له أو لا
خرطوم له، وقيل: الكوز العظيم الذي لا أذن له ولا عروة كانَتْ
أي تلك الأكواب قَوارِيرَا جمع قارورة وهي إناء رقيق من الزجاج
يوضع فيه الأشربة ونصبه على الحال فإن كان تامة وهو كما تقول
خلقت قوارير وقوله تعالى قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ بدل والكلام
على التشبيه البليغ فالمراد تكونت جامعة بين صفاء الزجاجة
وشفيفها ولين الفضة وبياضها. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور
والبيهقي عن ابن عباس قال: لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها
حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم ير الماء من ورائها ولكن قوارير
الجنة ببياض الفضة مع صفاء القوارير. وأخرج ابن أبي حاتم عنه
أنه قال: ليس في الجنة شيء إلّا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلّا
قوارير من فضة. وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر بتنوين «قوارير»
في الموضعين وصلا وإبداله ألفا وقفا وابن كثير يمنع صرف الثاني
ويصرف الأول لوقوعه في الفاصلة وآخر الآية، وقف عليه بألف
مشاكلة لغيره من كلمات الفواصل والتنوين عند الزمخشري في الأول
بدل من ألف الإطلاق كما في قوله:
يا صاح ما هاج العيون الذرفن وفي الثاني للاتباع فتذكر
والقراءة بمنع صرفهما لحفص وابن عامر وحمزة وأبي عمرو وقرأ
الأعمش الثاني «قوارير» بالرفع أي هي قوارير قَدَّرُوها
تَقْدِيراً أي قدروا تلك القوارير في أنفسهم فجاءت حسب ما
قدروا لا مزيد على ذلك ولا يمكن أن يقع زيادة عليه، وفي معناه
قول الطائي:
ولو صورت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع
فإنه ينبىء عن كون نفسه خلقت على أتمّ ما ينبغي من مكارم
الصفات بحيث لا مزيد على ذلك فضمير قَدَّرُوها للأبرار المطاف
عليهم أو قدروا شرابها على قدر الري وهو ألذ للشارب. قال ابن
عباس: أتوا بها على الحاجة لا يفضلون شيئا ولا يشتهون بعدها
شيئا وعن مجاهد تقديرها أنها ليست بالملأى التي تفيض ولا
بالناقصة التي تغيض، فالضمير على ما هو الظاهر للسقاة الطائفين
بها المدلول عليه بقوله تعالى يُطافُ عَلَيْهِمْ. وقد روى عبد
بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس أنه قال قدرتها السقاة وقيل:
المعنى قدروها
(15/176)
بأعمالهم الصالحة فجاءت على حسبها والضمير
على هذا قيل للملائكة وقيل للسقاة. وقرأ علي كرم الله تعالى
وجهه وابن عباس والسلمي والشعبي وقتادة وزيد بن علي والجحدري
والأصمعي عن أبي عمرو وابن عبد الخالق عن يعقوب وغيرهم
«قدروها» على البناء للمفعول واختلف في تخريجها فقال أبو علي:
كان اللفظ قدروا عليها، وفي المغني قلب لأن حقيقته أن يقال
قدرت عليهم فهو نحو قوله تعالى ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ
بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص: 76] وقول العرب إذا
طلعت الجوزاء ارتقى العود على الحرباء. وقال الزمخشري: وجه ذلك
أن يكون من قدرت الشيء بالتخفيف أي بينت مقداره فنقل إلى
التفعيل فتعدى لاثنين أحدهما الضمير النائب عن الفاعل، والثاني
ها والمعنى جعلوا قادرين لها كما شاؤوا وأطلق لهم أن يقدروا
على حسب ما اشتهوا وقال أبو حاتم: قدرت الأواني على قدر ريهّم
ففسر بعضهم هذا بأن في الكلام حذفا وهو أنه كان قدر على قدر
ريهم إياها فحذف على فصار قدر نائب الفاعل ثم حذف فصار ريهم
نائب الفاعل ثم حذف وصاروا والجمع نائب الفاعل واتصل المفعول
الثاني بقدر فصار قدرها وقال أبو حيان الأقرب أن يكون الأصل
قدر ريهم منها تقديرا فحذف المضاف وهو الري وأقيم الضمير مقامه
فصار قدروا منها ثم اتسع في الفعل فحذفت من ووصل الفعل إلى
الضمير بنفسه فصار قَدَّرُوها فلم يكن فيه إلّا حذف مضاف
واتساع في المجرور.
ولا يخفى أن القلب زيف وما قرره البعض تكلف جدا وفي كون ما
اختاره أبو حيان أقرب مما اختاره جار الله نظر ولعله أكثر
تكلفا منه. وقوله تعالى وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ
مِزاجُها زَنْجَبِيلًا عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا
يجري فيه معظم ما جرى في قوله تعالى يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ
كانَ مِزاجُها كافُوراً إلخ من الأوجه والزنجبيل قال الدينوري
نبت في أرض عمان وهو عروق تسري في الأرض وليس بشجرة ومنه ما
يحمل من بلاد الزنج والصين وهو الأجود وكانت العرب تحبه لأنه
يوجب لذعا في اللسان إذا مزج بالشراب فيلتذون ولذا يذكرونه في
وصف رضاب النساء قال الأعشى:
كأن القرنفل والزنجبيل ... باتا بفيها وأريا مسورا
وقال عمرو المسيب بن علس:
وكان طعم الزنجبيل به ... إذ ذقته وسلافة الخمر
وعده بعضهم في المعربات وكون الزنجبيل اسما لعين في الجنة مروي
عن قتادة وقال: يشرب منها المقربون صرفا وتمزج لسائر أهل
الجنة، والظاهر أنهم تارة يشربون من كأس مزاجها كافور وتارة
يسقون من كأس مزاجها زنجبيل، ولعل ذكر يُسْقَوْنَ هنا دون
يَشْرَبُونَ لأنه الأنسب بما تقدمه من قوله تعالى وَيُطافُ
عَلَيْهِمْ إلخ ويمكن أن يكون فيه رمز إلى أن هذه الكأس أعلى
شأنا من الكأس الأولى. وعن الكلبي يسقى بجامين الأول مزاجه
الكافور والثاني مزاجه الزنجبيل، والسلسبيل كالسلسل والسلسال
قال الزجاج: ما كان من الشراب غاية في السلاسة وسهولة الانحدار
في الحلق. وقال ابن الأعرابي: لم أسمع السلسبيل إلّا في القرآن
وكأن العين إنما سميت بذلك لسلاستها وسهولة مساغها قال عكرمة:
عين سلسل ماؤها، وقال مجاهد: حديدة الجري سلسلة سهلة المساغ،
وقال مقاتل: عين يتسلسل عليهم ماؤها في مجالسهم كيف شاؤوا وهي
على ما روي عن قتادة عين تنبع من تحت العرش من جنة عدن تتسلسل
إلى الجنان. وفي البحر الظاهر أن هذه العين تسمى سلسبيلا بمعنى
توصف بأنها سلسة الانسياغ سهلة في المذاق ولا يحمل سلسبيل على
أنه اسم حقيقة لأنه إذ ذاك كان ممنوع الصرف للتأنيث والعلمية
وقد روي عن طلحة
(15/177)
أنه قرأه بغير ألف جعله علما لها فإن كان
علما فوجه قراءة الجمهور بالتنوين المناسب للفواصل كما قيل في
«سلاسلا» «وقواريرا» وزعم الزمخشري أن الباء زيدت فيه حتى صارت
الكلمة خماسية، فإن عنى أنها زيدت حقيقة فليس بجيد لأن الباء
ليست من حروف الزيادة المعهودة وإن عنى أنها حرف جاء في سنح
الكلمة وليس في سلسل ولا في سلسال صح ويكون مما اتفق معناه
وكان مختلفا في المادة انتهى. وفي الكشف لا يريد الزيادة
المصطلحة ألا ترى إلى قوله حتى صارت خماسية وهو أيضا من
الاشتقاق الأكبر فلا تغفل. وقال بعض المعربين سَلْسَبِيلًا أمر
للنبي صلّى الله عليه وسلم ولأمته بسؤال السبيل إليها وعزوه
إلى علي كرم الله تعالى وجهه وهو غير مستقيم بظاهره إلّا أن
يراد أن جملة قول القائل سَلْسَبِيلًا جعلت اسما للعين كما قيل
تأبط شرا وذرى حبا، وسميت بذلك لأنه لا يشرب منها إلّا من سال
إليها سبيلا بالعمل الصالح وهو مع استقامته في العربية تكلف
وابتداع، وعزوه إلى مثل الأمير كرم الله تعالى وجهه أبدع ونص
بعضهم على أنه افتراء عليه كرم الله تعالى وجهه وفي شعر ابن
مطران الشاشي:
سلسبيلا فيها إلى راحة النفس ... براح كأنها سلسبيل
وفيه الجناس الملفق واستعمله غير واحد من المحدثين وَيَطُوفُ
عَلَيْهِمْ أي للخدمة وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي دائمون على ما
هم فيه من الطراوة والبهاء وقيل مقرطون بخلدة وهي ضرب من
القرطة
وجاء في حديث أخرجه ابن مردويه عن أنس مرفوعا: «إنهم ألف خادم»
وفي بعض الآثار أضعاف ذلك:
والجود أعظم والمواهب أوسع ويختلف ذلك قلة وكثرة باختلاف أعمال
المخدومين إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً
مَنْثُوراً لحسنهم وصفاء ألوانهم وإشراق وجوههم وانبثاثهم في
مجالسهم ومنازلهم وانعكاس أشعة بعضهم إلى بعض، وقيل شبهوا
باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء وعليه هو
من تشبيه المفرد لأن الانبثاث غير ملحوظ والخطاب في
رَأَيْتَهُمْ للنبي صلّى الله عليه وسلم أو لكل واقف عليه وكذا
في قوله تعالى وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ أي هناك يعني في الجنة
وهو في موضع النصب على الظرف، ورأيت منزل منزلة اللازم فيفيد
العموم في المقام الخطابي فالمعنى أن بصرك أينما وقع في الجنة
رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً عظيم القدر لا تحيط به
عبارة وهو يشمل المحسوس والمعقول. وقال عبد الله بن عمرو
الكلبي: عريضا واسعا يبصر أدناهم منزلة في الجنة في ملك مسيرة
ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه وذلك لما يعطي من حدة النظر
أو هو من خصائص الجنة.
وقال مجاهد: هو استئذان الملائكة عليهم السلام فلا يدخلون
عليهم إلّا بإذن. وقال الترمذي: وأظنه كما ظن أبو حيان الحكيم
لا أبا عيسى المحدث صاحب الجامع هو ملك التكوين والمشيئة إذا
أرادوا شيئا كان، وقيل هو النظر إلى الله عز وجل وقيل غير ذلك
وقيل الملك الدائم الذي لا زوال له. وزعم الفراء أن المعنى
وَإِذا رَأَيْتَ ما ثَمَّ رَأَيْتَ إلخ وخرج على أنه أراد أن
ثَمَّ ظرف لمحذوف وقع صلة لموصول محذوف هو مفعول رَأَيْتَ
والتقدير وَإِذا رَأَيْتَ ما ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً إلخ فحذف
ما كما حذف في قوله تعالى لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ
[الأنعام: 94] أي ما بينكم وتعقبه الزجاج ثم الزمخشري بأنه خطأ
لأنه لا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة وأنت تعلم أن الكوفيين
يجيزون ذلك ومنه قوله:
فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
(15/178)
أراد ومن يمدحه فحذف الموصول وأبقى صلته
وقد يقال إن ذلك إنما يرد لو أراد أن الموصول مقدر أما لو أراد
المعنى وأن الظرف يغني غناء المفعول به فهو كلام صحيح لأن
الظرف والمرئي كليهما الجنة. وقرأ حميد الأعرج «ثمّ» بضم الثاء
حرف عطف وجواب إِذا على هذا المحذوف يقدر بنحو تحيّر فكرك أو
بنحو رأيت عاملا في نَعِيماً عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ
وَإِسْتَبْرَقٌ قيل عالِيَهُمْ ظرف بمعنى فوقهم على أنه خبر
مقدم وثِيابُ مبتدأ مؤخر والجملة حال من الضمير المجرور في
عالِيَهُمْ فهي شرح لحال الأبرار المطوّف عليهم. وقال أبو
حيان: إن عالي نفسه حال من ذلك الضمير وهو اسم فاعل وثِيابُ
مرفوع على الفاعلية به ويحتاج في إثبات كونه ظرفا إلى أن يكون
منقولا من كلام العرب عاليك ثوب مثلا ومثله فيما ذكر عالية.
وقيل: حال من ضمير لقاهم أو من ضمير جزاهم وقيل من الضمير
المستتر في مُتَّكِئِينَ والكل بعيد وجوز كون الحال من مضاف
مقدر قبل نَعِيماً أو قبل مُلْكاً أي رأيت أهل نعيم أو أهل ملك
عاليهم إلخ وهو تكلف غير محتاج إليه. وقيل: صاحب الحال الضمير
المنصوب في حَسِبْتَهُمْ فهي شرح لحال الطائفين ولا يخفى بعده
لما فيه من لزوم التفكيك ضرورة أن ضمير سَقاهُمْ فيما بعد
كالمتعين عوده على الأبرار وكونه من التفكيك مع القرينة
المعينة وهو مما لا بأس به ممنوع.
واعترض أيضا بأن مضمون الجملة يصير داخلا تحت الحسبان وكيف
يكون ذلك وهم لابسون الثياب حقيقة بخلاف كونهم لؤلؤا فإنه على
طريق التشبيه المقتضي لقرب شبههم باللؤلؤ أن يحسبوا لؤلؤا.
وأجيب بأن الحسبان في حال من الأحوال لا يقتضي دخول الحال تحت
الحسبان ورفع خُضْرٌ على أنه صفة ثِيابُ وإِسْتَبْرَقٌ على أنه
عطف على ثِيابُ والمراد وثياب إستبرق. والسندس قال ثعلب: ما رق
من الديباج، وقيل: ما رق من ثياب الحرير والفرق أن الديباج ضرب
من الحرير المنسوج يتلون ألوانا. وقال الليث: هو ضرب من
البزيون يتخذ من المرعز وهو معرب بلا خلاف بين أهل اللغة على
ما في القاموس وغيره. وزعم بعض أنه مع كونه معربا أصله سندي
بياء النسبة لأنه يجلب من السند فأبدلت الياء سينا كما قال في
سادي سادس وهو كما ترى. والإستبرق قيل: ما غلظ من ثياب الحرير،
وقال أبو إسحاق: الديباج الصفيق الغليظ الحسن، وقال ابن دريد:
ثياب حرير نحو الديباج. وعن ابن عبادة هو بردة حمراء وقيل هو
المنسوج من الذهب وهو اسم أعجمي معرب عند جمع أصله بالفارسية
استبره، وفي القاموس معرب استروه وحكي ذلك عن ابن دريد وأنه
قال: إنه سرياني وقيل معرب استفره وما في صورة الفاء ليست فاء
خالصة وإنما هي بين الفاء والباء، وقيل: عربي وافقت لغة العرب
فيه لغة غيرهم واستصوبه الأزهري وكما اختلفوا فيه هل هو معرب
أو عربي اختلفوا هل هو نكرة أو علم جنس مبني أو معرب أو ممنوع
من الصرف وهمزته همزة قطع أو وصل، والصحيح على ما قال الخفاجي
أنه نكرة معرب مصروف مقطوع الهمزة كما يشهد به القراءة
المتواترة، وسيعلم إن شاء الله تعالى حال ما يخالفها وفي جامع
التعريب أن جمعه أبارق وتصغيره أبيرق حذفت السين والتاء في
التكسير لأنهما زيدتا معا فأجري مجرى الزيادة الواحدة وفي
المسألة خلاف أيضا مذكور في محله ولم يذكر لون هذا الإستبرق.
وأشار ناصر الدين إلى أنه الخضرة ف خُضْرٌ وإن توسط بين
المعطوف والمعطوف عليه فهو لهما وعلى كل حال هذه الثياب لباس
لهم وربما تشعر الآية بأن تحتها ثيابا أخرى وقيل على وجه
الحالية من ضمير مُتَّكِئِينَ أن المراد فوق حجالهم المضروبة
عليهم ثياب سندس إلخ. وحاصله أن حجالهم مكللة بالسندس
والإستبرق. وقرأ ابن عباس بخلاف عنه والأعرج وأبو جعفر وشيبة
وابن محيصن ونافع وحمزة «عاليهم» بسكون الياء وكسر الهاء وهي
رواية أبان عن عاصم فهو مرفوع بضمة مقدرة على الياء على
(15/179)
أنه مبتدأ «وثياب» خبره وعند الأخفش فاعل
سد مسد الخبر وقيل على أنه خبر مقدم «وثياب» مبتدأ مؤخر وأخبر
به عن النكرة لأنه نكرة وإضافته لفظية وهو في معنى الجماعة كما
في سامِراً تَهْجُرُونَ [المؤمنون:
67] على ما صرح به مكي ولا حاجة إلى التزامه على رأي الأخفش.
وقيل: هو باق على النصب والفتحة مقدرة على الياء وأنت تعلم أن
مثله شاذ أو ضرورة فلا ينبغي أن يخرج عليه القراءة المتواترة.
وقرأ ابن مسعود والأعمش وطلحة وزيد بن علي «عاليتهم» بالياء
والتاء مضمومة وعن الأعمش أيضا وأبان عن عاصم فتح التاء
الفوقية وتخريجهما كتخريج «عاليهم» بالسكون والنصب. وقرأ ابن
سيرين ومجاهد في رواية وقتادة وأبو حيوة وابن أبي عبلة
والزعفراني وأبان أيضا «عليهم» جارا ومجرورا فهو خبر مقدم
وثِيابُ مبتدأ مؤخر. وقرأت عائشة «علتهم» بتاء التأنيث فعلا
ماضيا «فثياب» فاعل. وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة «ثياب سندس»
بتنوين «ثياب» ورفع «سندس» على أنه وصف لها وهذا كما نقول ثوب
حرير تريد من هذا الجنس. وقرأ العربيان ونافع في رواية
«وإستبرق» بالجر عطفا على «سندس» . وقرأ ابن كثير وأبو بكر بجر
«خضر» صفة ل «سندس» وهو في معنى الجمع. وقد صرحوا بأن وصف اسم
الجنس الذي يفرق بينه وبين واحده بتاء التأنيث بالجمع جائز
فصيح وعليه يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ [الرعد: 12]
والنَّخْلَ باسِقاتٍ [ق: 10] وقد جاء «سندسة» في الواحدة كما
قاله غير واحد وجوز كونه صفة لثياب وجره للجوار وفيه توافق
القراءتين معنى إلّا أنه قليل. وقرأ الأعمش وطلحة والحسن وأبو
عمرو بخلاف عنهما وحمزة والكسائي «خضر وإستبرق» بجرهما وقرأ
ابن محيصن «وإستبرق» بوصل الألف وفتح القاف كما في عامة كتب
القراءات ويفهم من الكشاف أنه قرأ بالقطع والفتح وأن غيره قرأ
بما تقدم وهو خلاف المعروف، وخرج الفتح على المنع من الصرف
للعلمية والعجمة وغلظ بأنه نكرة يدخله حرف التعريف فيقال:
الإستبرق وقيل إن ذاك كذا والوصل مبني على أنه عربي مسمى
باستفعل من البريق يقال برق وإستبرق كعجب واستعجب فهو في الأصل
فعل ماض ثم جعل علما لهذا النوع من الثياب فمنع من الصرف
للعلمية ووزن الفعل دون العجمة وتعقب بأن كونه معربا مما لا
ينبغي أن ينكر.
وقيل هو مبني منقول من جملة فعل وضمير مستتر وحاله لا يخفى.
واختار أبو حيان أن «إستبرق» على قراءة ابن محيصن فعل ماض من
البريق كما سمعت وأنه باق على ذلك لم ينقل ولم يجعل علما للنوع
المعروف من الثياب وفيه ضمير عائد على السندس أو على الأخضر
الدال عليه خُضْرٌ كأنه لما وصف بالخضرة وهي مما يكون فيها
لشدتها دهمة وغيش أخبر أن في ذلك اللون بريقا وحسنا يزيل غبشه
فقيل وَإِسْتَبْرَقٌ أي برق ولمع لمعانا شديدا ثم قال معرضا
بمن غلطه كأبي حاتم والزمخشري وهذا التخريج أولي من تلحين قارئ
جليل مشهور بمعرفة العربية وتوهيم ضابط ثقة قد أخذ عن أكابر
العلماء انتهى. وقيل: الجملة عليه معترضة أو حال بتقدير قد أو
بدونه وَحُلُّوا أَساوِرَ جمع سوار وهو معروف وذكر الراغب أنه
معرب دستواره مِنْ فِضَّةٍ هي فضة لائقة بتلك الدار، والظاهر
أن هذا عطف على يَطُوفُ عَلَيْهِمْ واختلافهما بالمضي
والمضارعة لأن الحالية مقدمة على الطواف المتجدد ولا ينافي ما
هنا قوله تعالى أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ 21 [الكهف:
31، الحج: 23، فاطر: 33] لإمكان الجمع بتعدد الأساور لكل
والمعاقبة بلبس الذهب تارة الفضة أخرى، والتبعيض بأن يكون
أساور بعض ذهبا وبعض فضة لاختلاف الأعمال. وقيل: هو حال من
ضمير عالِيَهُمْ بإضمار قد أو بدونه فإن كان الضمير للطائفين
على أن يكون عالِيَهُمْ حالا من ضمير حسبتهم جاز أن يقال الفضة
للخدم والذهب للمخدومين. وجوز أن يكون المراد بالأساور الأنوار
الفائضة على أهل الجنة المتفاوتة لتفاوت الأعمال تفاوت الذهب
والفضة والتعبير عنها بأساور الأيدي لأنه جزاء ما عملته
أيديهم، ولا يخفى أن
(15/180)
هذا مما لا يليق بالتفسير. وحري أن يكون من
باب الإشارة ثم إن التحلية إن كانت للولدان فلا كلام ويكونون
على القول الثاني في مُخَلَّدُونَ مسورين (مقرطين) وهو من
الحسن بمكان وإن كانت لأهل الجنة المخدومين فقد استشكل بأنها
لا تليق بالرجال وإنما تليق بالنساء والوالدان، وأجيب بأن ذلك
مما يختلف باختلاف العادات والطبائع ونشأة الآخرة غير هذه
النشأة ومن المشاهد في الدنيا أن بعض ملوكها يتحلون بأعضادهم
وعلى تيجانهم وعلى صدورهم ببعض أنواع الحلي مما هو عند بعض
الطباع أولى بالنساء وللصبيان ولا يرون ذلك بدعا ولا نقصا كل
ذلك لمكان الإلف والعادة، فلا يبعد أن يكون من طباع أهل الجنة
في الجنة الميل إلى الحلي مطلقا لا سيما وهم جرد مرد أبناء
ثلاثين. وقيل إن الأساور إنما تكون لنساء أهل الجنة والصبيان
فقط لكن غلب في اللفظ جانب التذكير وهو خلاف الظاهر كما لا
يخفى وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً هو نوع آخر يفوق
النوعين السابقين، وهما ما مزج بالكافور وما مزج بالزنجبيل كما
يرشد إليه إسناد سقيه إلى رب العالمين ووصفه بالطهورية. قال
أبو قلابة: يؤتون بالطعام والشراب فإذا كان آخر ذلك أتوا
بالشراب الطهور فيطهر بذلك قلوبهم وبطونهم ويفيض عرقا من
جلودهم مثل ريح المسك. وعن مقاتل هو ماء عين على باب الجنة من
ساق شجرة من شرب منه نزع الله تعالى ما كان في قلبه من غش وغل
وحسد وما كان في جوفه من قذر وأذى أي إن كان فالطهور عليهما
بمعنى المطهر وقد تقدم في ذلك كلام فتذكر.
وقال غير واحد أريد أنه في غاية الطهارة لأنه ليس برجس كخمر
الدنيا التي هي في الشرع رجس لأن الدار ليست دار تكليف أو لأنه
لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة وتدوسه الأقدام الدنسة. ولم يجعل
في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها أو لأنه لا يؤول إلى
النجاسة لأنه يرشح عرقا من أبدانهم له ريح كريح المسك، وقيل:
أريد بذاك الشراب الروحاني لا المحسوس وهو عبارة عن التجلي
الرباني الذي يسكرهم عما سواه:
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا ... ونور ولا نار وروح ولا جسم
ولعل كل ما ذكره ابن الفارض في خمريته التي لم يفرغ مثلها في
كأس إشارة إلى هذا الشراب وإياه عنى بقوله:
سقوني وقالوا لا تغنّ ولو سقوا ... جبال حنين ما سقوني لغنت
ويحكى أنه سئل أبو يزيد عن هذه الآية فقال سقاهم شرابا طهرهم
به عن محبة غيره ثم قال: إن الله تعالى شرابا ادخره لأفاضل
عباده يتولى سقيهم إياه فإذا شربوا طاشوا وإذا طاشوا طاروا
وإذا طاروا وصلوا وإذا وصلوا اتصلوا فهم فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ
عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 55] وحمل بعضهم جميع
الأشربة على غير المتبادر منها، فقال: إن الأنوار الفائضة من
جواهر أكابر الملائكة وعظمائهم عليهم السلام على هذه الأرواح
مشبهة بالماء العذب الذي يزيل العطش ويقوي البدن، وكما أن
العيون متفاوتة في الصفاء والكثرة والقوة فكذا ينابيع الأنوار
العلوية مختلفة فبعضها كافورية على طبع البرد واليبس ويكون
صاحب ذلك في الدنيا في مقام الحزن والبكاء والانقباض، وبعضها
يكون زنجبيليا على طبع الحر واليبس ويكون صاحبه قليل الالتفات
إلى السوي قليل المبالاة بالأجسام والجسمانيات ثم لا يزال
الروح البشري منتقلا من ينبوع إلى ينبوع ومن نور إلى نور ولا
شك أن الأسباب والمسببات متناهية في ارتقائها إلى واجب الوجود
الذي هو النور المطلق جل جلاله، فإذا وصل إلى ذلك المقام وشرب
ذلك الشراب انهضمت تلك الأشربة المتقدمة بل فنيت لأن نور ما
سوى الله يضمحل في مقابلة نور جلال الله سبحانه وكبريائه وذلك
آخر سير الصديقين ومنتهى درجاتهم في الارتقاء
(15/181)
والكمال، ولهذا ختم الله تعالى ذكر ثواب
الأبرار بقوله جل وعلا وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً
إِنَّ هذا الذي ذكر من فنون الكرامات الجليلة الشأن كانَ
لَكُمْ جَزاءً بمقابلة أعمالكم الصالحة التي اقتضاها حسن
استعدادكم واختياركم، والظاهر أن المجيء بالفعل للتحقيق
والدوام وجوز أن يكون المراد كان في علمي وحكمي وكذا في قوله
تعالى وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً أي مرضيا مقبولا أو مجازى
عليه غير مضيع، والكلام على ما روي عن ابن عباس على إضمار
القول أي ويقال لهم بعد دخولهم الجنة ومشاهدتهم ما أعد لهم إن
هذا إلخ والغرض أن يزداد سرورهم فإنه يقال للمعاقب هذا بعملك
الرديء فيزداد غمه وللمثاب هذا بطاعتك وعملك الحسن فيزداد
سروره ويكون ذلك تهنئة له، وجوز أن يكون خطابا من الله تعالى
في الدنيا كأنه سبحانه بعد أن شرح ثواب أهل الجنة قال: إن هذا
كان في علمي وحكمي جزاء لكم يا معشر عبادي وكان سعيكم مشكورا،
وقيل: وهو لا يغني عن الإضمار ليرتبط بما قبله وقد ذكر سبحانه
من الجزاء ما تهش له الألباب وأعقبه جل وعلا بما يدل على الرضا
الذي هو أعلى وأغلى لدى الأحباب:
إذا كنت عني يا منى القلب راضيا ... أرى كل من في الكون لي
يتبسم
وروي من طرق أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ هذه السورة
وقد أنزلت عليه وعنده رجل من الحبشة أسود، فلما بلغ صفة الجنان
زفر زفرة خرجت نفسه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«أخرج نفس صاحبكم الشوق إلى الجنة» .
ولما ذكر سبحانه أولا حال الإنسان وقسمه إلى الطائع والعاصي
وأمعن جل شأنه فيما أعده للطائع مشيرا إلى عظم سعة الرحمة ذكر
ما شرف به نبيه صلّى الله عليه وسلم إزالة لوحشته وتقوية لقلبه
فقال عز قائلا إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
تَنْزِيلًا أي أنزلناه مفرقا منجما في نحو ثلاث وعشرين سنة
لحكم بالغة مقتضية له لا غيرنا كما يعرب عنه تكرير الضمير مع
أن سواء كان المنفصل تأكيدا أو فصلا أو مبتدأ فَاصْبِرْ
لِحُكْمِ رَبِّكَ بتأخير نصرك على الكفار فإن له عاقبة حميدة
وَلا تُطِعْ قلة صبر منك على أذاهم وضجرا من تأخر نصرك
مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً قيل إن أَوْ لأحد الشيئين في
جميع مواقعها، ويعرض لها معان أخر كالشك والإباحة وغيرهما
فيكون أصل المعنى هنا وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ أحد النوعين ولما
كان أحد الأغلب عليه في غير الإثبات العموم واحتمال غيره
احتمال مرجوح صار المعنى على النهي عن إطاعة هذا وهذا، ولم يؤت
بالواو لاحتمال الكلام عليه النهي عن المجموع ويحصل امتثاله
بالانتهاء عن واحد دون الآخر، فلا يرد أن لا تطلع أحد النوعين
يحصل الامتثال به بترك إطاعة واحد من إطاعة الآخر إذ يقال لمن
فعل ذلك إنه لم يطع أحدهما، ومن هنا قيل إن أَوْ في الإثبات
تفيد أحد الأمرين، وفي النفي تفيد نفي كلا الأمرين جميعا، ولعل
ما ذكر في معنى كلام ابن الحاجب حيث قال: إن وضع أَوْ لإثبات
الحكم لأحد الأمرين إلّا أنه إن حصلت قرينة يفهم معها أن أحد
الأمرين غير حاجز عن الآخر مثل قولك جالس الحسن أو ابن سيرين
سمي إباحة وإن حجر فهو لأحد الأمرين. واستشكل بعضهم وقوعها في
النهي ك لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً إذا لو انتهى
عن أحدهما لم يمتثل. ومن ثم حملها بعضهم يعني أبا عبيدة على
أنها بمعنى الواو والأول أن تبقى على بابها وإنما جاء التعميم
فيها من وراء ذلك وهو النهي الذي فيه معنى النفي لأن المعنى
قبل وجود النهي تطيع آثما أو كفورا أي واحدا منهما، فإذا جاء
النهي ورد على ما كان ثابتا في المعنى فيصير المعنى ولا تطع
واحدا منهما فيجيء التعميم فيهما من جهة النهي وهي على بابها
فيما ذكر لأنه لا يحصل الانتهاء عن أحدهما حتى ينتهي عنهما
بخلاف الإثبات فإنه قد يفعل أحدهما دون الآخر انتهى. وعليه ما
قيل إن إفادة العموم في النفي والنهي الذي
(15/182)
في معناه لما أن تقيض الإيجاب الجزئي السلب
الكلي. وقريب من ذلك قول الزجاج إن أَوْ هاهنا أوكد من الواو
لأنك إذا قلت لا تطع زيدا وعمرا فأطاع أحدهما كان غير عاص،
فإذا أبدلتها بأو فقد دللت على أن كل واحد منهما أهل لأن يعصي
ويعلم منه النهي عن إطاعتهما معا كما لا يخفى. وأفاد جار الله
أن أَوْ باقية على حقيقتها وأن النهي عن إطاعتهما جميعا إنما
جاء من دلالة النص وهي المسمى مفهوم الموافقة بقسميه الأولي
والمساوي فتأمل. والمراد بالآثم والكفور جنسهما وتعليق النهي
بذلك مشعر بعلية الوصفين له فلا بد أن يكون النهي عن الإطاعة
في الإثم والكفر لا فيما ليس بإثم ولا كفر، والمراد ولا تطع
مرتكب الإثم الداعي لك إليه أو مرتكب الكفر الداعي إليه أي لا
تتبع أحدا من الآثم إذا دعاك إلى الإثم، ومن الكفور إذا دعاك
إلى الكفر فإنه إذا قيل لا تطع الظالم فهم منه لا تتبعه في
الظلم إذا دعاك إليه ومنع هذا الفهم مكابرة فلا يتم الاستدلال
بالآية على عدم جواز الاقتداء بالفاسق إذا صلى إماما ثم إن
التقسيم باعتبار ما يدعوان إليه من الكفر والإثم المقابل له لا
باعتبار الذوات حتى يكون بعضهم آثما وبعضهم كفورا فيقال: كيف
ذلك وكلهم كفرة والمبالغة في «كفور» قيل لموافقة الواقع وهذا
كقوله تعالى لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل
عمران: 130] واعتبار رجوعها إلى النهي كاعتبار رجوعها إلى
النفي على ما قيل في قوله تعالى وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] كما ترى، وقيل الآثم المنافق والكفور
المشرك المجاهر. وقيل الآثم عتبة بن ربيعة، والكفور الوليد بن
المغيرة لأن عتبة كان ركابا للمآثم متعاطيا لأنواع الفسوق،
وكان الوليد غاليا في الكفر شديد الشكيمة في العتو وعن مقاتل
أنهما قالا له صلّى الله عليه وسلم: ارجع عن هذا الأمر ونحن
نرضيك بالمال والتزويج فنزلت.
وقيل الكفور أبو جهل والآية نزلت فيه والأولى ما تقدم. وفي
النهي مع العصمة إرشاد لغير المعصوم إلى التضرع إلى الله تعالى
والرغبة إليه سبحانه في الحفظ عن الوقوع فيما لا ينبغي
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وداوم على ذكره
سبحانه في جميع الأوقات أو دم على صلاة الفجر والظهر والعصر
فإن الأصيل قد يطلق على ما بعد الزوال إلى المغرب فينتظمهما
وَمِنَ اللَّيْلِ أي بعضه فَاسْجُدْ فصلّ لَهُ عز وجل على أن
السجود مجاز عن الصلاة بذكر الجزء وإرادة الكل وحمل ذلك على
صلاة المغرب والعشاء وتقديم الظرف للاعتناء والاهتمام لما في
صلاة الليل. من مزيد كلفة وخلوص وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا
وتهجد له تعالى قطعا من الليل طويلا فهو أمر بالتهجد على ما
اختار له بعضهم. وتنوين لَيْلًا للتبعيض وأصل التسبيح التنزيه
ويطلق على مطلق العبادة القولية والفعلية. وعن ابن زيد وغيره
أن ذلك كان فرضا ونسخ فلا فرض اليوم إلّا الخمس وقال قوم: هو
محكم في شأنه عليه الصلاة والسلام. وقال آخرون: هو كذلك مطلقا
على وجه الندب وفي تأخير الظرف قيل دلالة على أنه ليس بفرض
كالذي قبله وكذا في التعبير عنه بالتسبيح وفيه نظر وقال
الطيبي: الأقرب من حيث النظم أنه تعالى لما نهى حبيبه صلّى
الله عليه وسلم عن إطاعة الآثم والكفور وحثه على الصبر على
أذاهم وإفراطهم في العداوة، وأراد سبحانه أن يرشده إلى
متاركتهم عقب ذلك بالأمر باستغراق أوقاته بالعبادة ليلا ونهارا
بالصلوات كلها من غير اختصاص وبالتسبيح بما يطيق على منوال
قوله تعالى وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما
يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ
السَّاجِدِينَ [الحجر: 97، 98] انتهى. وهو حسن إِنَّ هؤُلاءِ
الكفرة يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وينهمكون في لذاتها الفانية
وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ أي أمامهم يَوْماً ثَقِيلًا هو يوم
القيامة وكونه أمامهم ظاهر أو يذرون وراء ظهورهم يوما ثقيلا لا
يعبئون به فالظرف قيل على الأول حال من يَوْماً وعلى هذا ظرف
يَذَرُونَ ولو جعل على وتيرة واحدة في التعلق صح أيضا ووصف
اليوم بالثقيل لتشبيه شدته وهو له بثقل شيء قادح باهظ لحامله
بطريق الاستعارة، والجملة كالتعليل لما أمر به ونهى
(15/183)
عنه كأنه قيل لا نطعمهم واشتغل بالأهم من
العبادة لأن هؤلاء تركوا الآخرة للدنيا فاترك أنت الدنيا
وأهلها للآخرة وقيل: إن هذا يفيد ترهيب محب العاجل وترغيب محب
الآجل والأول علة للنهي عن إطاعة الآثم والكفور والثاني علة
للأمر بالعبادة نَحْنُ خَلَقْناهُمْ لا غيرنا وَشَدَدْنا
أَسْرَهُمْ أي أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب والعروق والأسر في
الأصل الشد والربط وأطلق على ما يشد به ويربط كما هنا، وإرادة
الأعصاب والعروق لشبهها بالحبال المربوط بها ووجه الشبه ظاهر
ومن هنا قد يقول العارف من كان أسره من ذاته وسجنه دنياه في
حياته فليشك مدة عمره وليتأسف على وجوده بأسره والمراد شدة
الخلق وكونه موثقا حسنا.
ومنه فرس ما سور الخلق إذا كان موثقه حسنا. وعن مجاهد الأسر
الشرج وفسر بمجرى الفضلة وشد ذلك جعله بحيث إذا خرج الأذى
انقبض. ولا يخفى أن هذا داخل في شدة الخلق وكونه موثقا حسنا
وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ أي أهلكناهم وبدلنا
أمثالهم في شدة الخلق تَبْدِيلًا بديعا لا ريب فيه يعني البعث
والنشأة الأخرى فالتبديل في الصفات لأن المعاد هو المبتدأ
ولكون الأمر محققا كائنا جيء بإذا وذكر المشيئة لإبهام وقته
ومثله شائع كما يقول العظيم لمن يسأله الإنعام إذا شئت أحسن
إليك ويجوز أن يكون المعنى وإذا شئنا أهلكناهم وبدلنا غيرهم
ممن يطيع فالتبديل في الذوات وإذا التحقق قدرته تعالى عليه
وتحقق ما يقتضيه من كفرهم المقتضي لاستئصالهم فجعل ذلك المقدور
المهدد به كالمحقق وعبر عنه بما يعبر به عنه ولعله الذي أراده
الزمخشري بما نقل عنه من قوله إنما جاز ذلك لأنه وعيد جيء به
على سبيل المبالغة كان له وقتا معينا ولا يعترض عليه بقوله
تعالى وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ
[محمد: 38] لأن النكات لا يلزم اطرادها فافهم. والوجه الأول
أوفق بسياق النظم الجليل إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ إشارة إلى
السورة أو الآيات القرآنية فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ
سَبِيلًا أي فمن شاء أن يتخذ إليه تعالى سبيلا أي وسيلة توصله
إلى ثوابه اتخذه أي تقرب إليه بالطاعة فهو توصل أيضا السبيل
للمقاصد وَما تَشاؤُنَ أي شيئا أو اتخاذ السبيل إِلَّا أَنْ
يَشاءَ اللَّهُ أي إلّا وقت مشيئة الله تعالى لمشيئتكم. وقال
الزمخشري: أي وَما تَشاؤُنَ الطاعة إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ
تعالى قسركم عليها وهو تحريف للآية بلا دليل، ويلزمه على ما في
الانتصاف أن مشيئة العبد لا يوجد إلّا إذا انتفت وهو عن مذهب
الاعتزال بمعزل وأبعد منزل. والظاهر ما قررنا لأن المفعول
المحذوف هو المذكور أولا كما تقول: لو شئت لقتلت زيدا أي لو
شئت القتل لا لو شئت زيدا ولا يمكن للمعتزلة أن ينازعوا أهل
الحق- في ذلك لأن المشيئة ليست من الأفعال الاختيارية وإلّا
لتسلسلت بل الفعل المقرون بها منها فدعوى استقلال العبد مكابرة
وكذلك دعوى الجبر المطلق مهاترة والأمر بين الأمرين لإثبات
المشيئتين وحاصله على ما حققه الكوراني أن العبد مختار في
أفعاله وغير مختار في اختياره والثواب والعقاب لحسن الاستعداد
النفس الأمري وسوئه فكل يعمل على شاكلته وسبحان من أعطى كل شيء
خلقه ثم هدى. وفي التفسير الكبير هذه الآية من الآيات التي
تلاطمت فيها أمواج القدر والجبر فالقدري يتمسك بالجملة الأولى
ويقول إن مفادها كون مشيئة العبد مستلزمة للفعل وهو مذهبي
والجبري يتمسك بضم الجملة الثانية ويقول إن مفادها أن مشيئة
الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد فيتحصل من الجملتين أن مشيئة
الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد وأن مشيئة العبد مستلزمة لفعل
العبد كما تؤذن به الشرطية فإذن مشيئة الله تعالى مستلزمة لفعل
العبد لأن مستلزم المستلزم مستلزم وذلك هو الجبر وهو صريح
مذهبي وتعقب بأن هذا ليس بالجبر المحض المسلوب معه الاختيار
بالكلية بل يرجع أيضا إلى أمر بين أمرين وقدر بعض الأجلة مفعول
يَشاءَ الاتخاذ والتحصيل ردا للكلام على الصدر. فقال: إن قوله
سبحانه وَما تَشاؤُنَ إلخ تحقيق للحق ببيان أن مجرد مشيئتهم
غير كافية في
(15/184)
اتخاذ السبيل كما هو المفهوم من ظاهر
الشرطية أي وما تشاؤون اتخاذ السبيل ولا تقدرون على تحصيله في
وقت من الأوقات إلّا وقت مشيئته تعالى اتخاذه وتحصيله لكم إذ
لا دخل لمشيئة العبد إلّا من الكسب وإنما التأثير والخلق
لمشيئة الله عز وجل وفيه نوع مخالفة للظاهر كما لا يخفى. نعم
قيل إن ظاهر الشرطية أن مشيئة العبد مطلقا مستلزمة للفعل فيلزم
أنه متى شاء فعلا فعله مع أن الواقع خلافه فلا بد مما قاله هذا
البعض، وجعل الجملة الثانية تحقيقا للحق وأجيب بأنها للتحقيق
على وجه آخر وذلك أن الأولى أفهمت الاستلزام والثانية بينت أن
هذه المشيئة المستلزمة لا تتحقق إلّا وقت مشيئة الله تعالى
إياها فكأنه قيل: وما تشاؤون مشيئة تستلزم الفعل إلّا وقت أن
يشاء الله تعالى مشيئتكم تلك فتأمل. وأنت تعلم أن هذه المسألة
من محار الأفهام ومزال أقدام أقوام بعد أقوام وأقوى شبه
الجبرية أنه قد تقرر أن الشيء ما لم يجب لم يوجد فإن وجب صدور
الفعل فلا اختيار
وإلّا فلا صدور وبعبارة أخرى أن جميع ما يتوقف عليه الفعل إذا
تحقق فإما أن يلزم الفعل فيلزم الاضطرار أولا فيلزم جواز تخلف
المعلول عن علته التامة بل مع الصدور الترجح بلا مرجح فقد قيل
إنها نحو شبهة ابن كمونة في التوحيد يصعب التفصي عنها وللفقير
العاجز جبر الله تعالى فقره ويسّر أمره عزم على تأليف رسالة إن
شاء الله تعالى في ذلك سالكا فيها بتوفيقه سبحانه أحسن المسالك
وإن كان الكوراني قدس سره لم يدع فيها مقالا وأوشك أن يدع كل
من جاء بعد فيها بشيء عليه عيالا والله تعالى الموفق. وقرأ
العربيان وابن كثير «وما يشاؤون» بياء الغيبة وقرأ ابن مسعود
«إلّا ما يشاء الله» وما فيه مصدرية كأن في قراءة الجماعة وقد
أشرنا إلى أن المصدر في محل نصب على الظرفية بتقدير المضاف
الساد هو مسده وهو ما اختاره غير واحد وتعقبة أبو حيان بأنهم
نصوا على أنه لا يقوم مقام الظرف إلّا المصدر المصرح فلا يجوز
أجيئك أن يصيح الديك أو ما يصيح الديك وإنما يجوز أجيئك صياح
الديك وكأنه لهذا قيل إن أَنْ يَشاءَ بتقدير حرف الجر
والاستثناء من أعلم الأسباب أي وَما تَشاؤُنَ بسبب من الأسباب
إلا بأن يشاء الله تعالى إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً مبالغا
في العلم فيعلم مشيئات العباد المتعلقة بالأفعال التي سألوها
بألسنة استعداداتهم حَكِيماً مبالغا في الحكمة فيفيض على كما
هو الأوفق باستعداده وما هو عليه في نفس الأمر من المشيئة أو
أنه تعالى مبالغ في العلم والحكمة فيعلم ما يستأهله كل أحد من
الطاعة وخلافها فلا يشاء لهم إلّا ما يستدعيه علمه سبحانه
وتقتضيه حكمته عز وجل وقيل عَلِيماً أي يعلم ما يتعلق به مشيئة
العباد من الأعمال حَكِيماً لا يشاء إلّا على وفق حكمته وهو أن
يشاء العبد فيشاء الرب سبحانه وتعالى لا العكس ليتأتى التكليف
من غير انفراد لأحد المشيئتين عن الأخرى وفيه بحث وقوله تعالى
يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ إلخ بيان لما تضمنته
الجملة قيل أي يدخل سبحانه في رحمته من يشاء أن يدخله فيها وهو
الذي علم فيه الخير حيث يوفقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من
الإيمان والطاعة وَالظَّالِمِينَ أي لأنفسهم وهم الذين علم
فيهم الشر أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً متناهيا في الإيلام
ونصب الظَّالِمِينَ بإضمار فعل يفسره أعد إلخ وقدر يعذب وقد
يقدر أو عد أو كافأ أو شبه ذلك ولم يقدر أعد لأنه لا يتعدى
باللام. وقرأ ابن الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة
«والظالمون» على الابتداء وقراءة الجمهور أحسن. وإن أوجبت
تقديرا للطباق فيها وذهابه في هذه إذ الجملة عليها اسمية
والأولى فعلية. ولا يقال زيادة التأكيد في طرف الوعيد مطلوبة
لأنّا نقول الأمر بالعكس لو حقق لسبق الرحمة الغضب. وقرأ عبد
الله «وللظالمين» بلام الجر فقيل متعلق بما بعد على سبيل
التوكيد. وقيل هو بتقدير أعد للظالمين أَعَدَّ لَهُمْ والجمهور
على الأول ثم إن هذه السورة وإن تضمنت من سعة رحمة الله عز وجل
ما تضمنت إلّا أنها أشارت من عظيم جلاله سبحانه وتعالى إلى ما
أشارت
(15/185)
أخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة
والضياء في المختارة والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي ذر قال: قرأ
رسول الله صلّى الله عليه وسلم هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ
حتى ختمها ثم قال: «إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون،
أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك
واضع جبهته ساجدا لله تعالى والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم
قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى
الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل» .
وهذا كالظاهر فيما قلنا نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الأبرار
والمقربين الأخيار فيرزقنا جنة وحريرا ويجعل سعينا لديه مشكورا
بحرمة النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأهل بيته المطهرين من الرجس
تطهيرا.
(15/186)
وَالْمُرْسَلَاتِ
عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ
نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ
ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ
لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا
السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10)
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ
(12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ
الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ
الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ
مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ
(21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ
الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً
وَأَمْوَاتًا (26)
سورة المرسلات
وتسمى سورة العرف وهي مكية
فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن مردويه عن ابن مسعود
قال: بينما نحن مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم في غار بمنى إذ
نزلت عليه سورة وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فإنه ليتلوها وإني
لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ خرجت علينا حية فقال
النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «اقتلوها» فابتدرناها فسبقتنا،
فدخلت جحرها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «وقيت شركم
كما وقيتم شرها»
. وعن ابن عباس وقتادة ومقاتل إن فيها آية مدنية وهي وَإِذا
قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [المرسلات: 48] وظاهر
حديث ابن مسعود هذا عدم استثناء ذلك وأظهر منه ما
أخرجه الحاكم وصححه وابن مردويه عنه أيضا قال: كنا مع النبيّ
صلّى الله عليه وسلم في غار فنزلت عليه والمرسلات، فأخذتها من
فيه وإن فاه لرطب بها فلا أدري بأيهما ختم فَبِأَيِّ حَدِيثٍ
بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
[المرسلات: 50]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ وآيها خمسون آية
بلا خلاف ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه لما قال فيما قبل
يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ [الإنسان: 31] إلخ افتتح
هذه بالإقسام على ما يدل على تحقيقه وذكر وقته وأشراطه وقيل
إنه سبحانه أقسم على تحقيق جميع ما تضمنته السورة قبل من وعيد
الكافرين الفجار ووعد المؤمنين الأبرار فقال عز من قائل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً
فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفارِقاتِ
فَرْقاً
(15/187)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً
قيل أقسم سبحانه بمن اختاره من الملائكة عليهم السلام على ما
أخرجه عبد بن حميد عن مجاهد، فقيل المرسلات والعاصفات طوائف،
والناشرات والفارقات والملقيات طوائف أخرى فالأولى طوائف أرسلن
بأمره تعالى وأمرن بإنفاذه فعصفن في المضي وأسرعن كما تعصف
الريح تخففا في امتثال الأمر وإيقاع العذاب بالكفرة إنقاذا
للأنبياء عليهم السلام ونصرة لهم والثانية طوائف نشرن أجنحتهن
في الجو عنده انحطاطهن بالوحي ففرقن بين الحق والباطل فألقين
ذكرا إلى الأنبياء عليهم السلام، ولعل من يلقي الذكر لهم غير
مختص بجبريل عليه السلام بل هو رئيسهم ويرشد إلى هذا الحديث
الرصد
وفي بعض الآثار «نزل إليّ ملك بألوكة من ربي فوضع رجلا في
السماء وثنى الأخرى بين يدي»
فالمرسلات صفة لمحذوف، والمراد وكل طائفة مرسلة وكذا
النَّاشِراتِ ونصب عُرْفاً على الحال والمراد متتابعة، وكان
الأصل والمرسلات متتابعة كالعرف وهو عرف الدابة كالفرس والضبع
أعني الشعر المعروف على قفاها فحذف متتابعة لدلالة التشبيه
عليه، ثم حذف أداة التشبيه مبالغة ومن هذا قولهم جاؤوا عرفا
واحدا إذا جاؤوا يتبع بعضهم بعضا وهم عليه كعرف الضبع إذا
تألبوا عليه. ويؤخذ من كلام بعض أن العرف في الأصل ما ذكر ثم
كثر استعماله في المعنى التتابع فصار فيه حقيقة عرفية أو على
أنه مفعول له على أنه بمعنى العرف الذي هو نقيص النكر أي
وَالْمُرْسَلاتِ للإحسان والمعروف ولا يعكر على ذلك أن الإرسال
لعذاب الكفار لأن ذلك إن لم يكن معروفا لهم فإنه معروف
للأنبياء عليهم السلام والمؤمنين الذين انتقم الله تعالى لهم
منهم. وعطف النَّاشِراتِ على ما قبل بالواو ظاهر للتغاير
بالذات بينهما وعطف «العاصفات» على «المرسلات» و «الفارقات»
على «الناشرات» وكذا ما بعد بالفاء لتنزيل تغاير الصفات منزلة
تغاير الذات كما في قوله:
يا لهف زيادة للحارث الصابح فالغانم فالآيب وهي للدلالة على
ترتيب معاني الصفات في الوجود أي الذي صبح فغنم فآب، وترتيب
مضي الأمر على الإرسال به والأمر بإنقاذه ظاهر، وأما ترتيب
إلقاء الذكر إلى الأنبياء عليهم السلام على الفرق بين الحق
والباطل مع ظهور تأخر الفرق عن الإلقاء فقيل لتأويل الفرق
بإرادته فحينئذ يتقدم على الإلقاء، وقيل لتقدم الفرق على
الإلقاء من غير حاجة إلى أن يؤول بإرادته لأنه بنفس نزولهم
بالوحي الذي هو الحق المخالف للباطل الذي هو الهوى ومقتضى
الرأي الفاسد وإنما العلم به متأخر. ومن هذا يظهر ترتيب الفرق
على نشر الأجنحة إذ الحاصل عليه نشرن أجنحتهن للنزول فنزلن
فألقين وهو غير ظاهر على ما قبله لأن إرادة الفرق تجامع النشر
وكذا إرادته إذا أول أيضا بحسب الظاهر بل ربما يقال إن تلك
الإرادة قبل، وقيل: إن الفاء في ذلك للترتيب الرتبي ضرورة أن
إرادة الفرق أعلى رتبة من النشر، وقيل: إنها فيه وفيما بعده
لمجرد الإشعار بأن كلا من الأوصاف المذكورة أعني النشر والفرق
مستقل بالدلالة على استحقاق الطوائف الموصوفة بها للتفخيم
والإجلال بالإقسام بهن فإنه لو جيء بها على ترتيب الوقوع لربما
فهم أن مجموع الثلاثة المترتبة هو الموجب لما ذكر من
الاستحقاق.
واستعمال «العاصفات» بمعنى المسرعات سرعة الريح مجاز على سبيل
الاستعارة ولا يبعد أن يراد بالعاصفات المذهبات المهلكات
بالعذاب الذي أرسلن به من أرسلن إليه على سبيل الاستعارة أيضا
أو المجاز المرسل.
وعُذْراً ونُذْراً في قوله تعالى عُذْراً أَوْ نُذْراً جوز أن
يكونا مصدرين من عذر إذا أزال الإساءة، ومن أنذر إذا خوف جاءا
على فعل كالشكر والكفر والأول ظاهر لأن فعلا من مصادر الثلاثي،
وأما الثاني فعلى خلاف القياس مصدر أفعل الأفعال، وقيل هو اسم
المصدر كالطاقة أو مصدر نذر بمعنى أنذر
(15/188)
وتسومح فيما تقدم وإن يكونا جمع عذير بمعنى
المعذرة ونذير بمعنى الإنذار وانتصابهما على العلية والعامل
فيهما «الملقيات» أو ذِكْراً وهو بمعنى التذكير والعظة
بالترغيب والترهيب أي فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً لأجل العذر
للمحقين أو لأجل النذر للمبطلين أو على الحالية من «الملقيات»
أو الضمير المستتر فيها على التأويل أي عاذرين أو منذرين أو
على البدلية من ذِكْراً على أن المراد به الوحي فيكونان بدل
بعض أو التذكير والعظة فيكونان بدل كل وإن يكونا وصفين بمعنى
عاذرين ومنذرين فنصبهما على الحالية لا غير. وأَوْ في جميع ذلك
للتنويع لا للترديد ومن ثم قال الدينوري في مشكل القرآن إنها
بمعنى الواو، وقيل الثانية طوائف نشرن الشرائع في الأرض إلى
آخر ما تقدم، ووجه العطف بأن المراد أردن النشر فنزلن فألقين
واحتيج للتأويل لمكان الإلقاء إلى الأنبياء عليهم السلام وإلّا
فهو لا يحتاج إليه في النشر والفرق لظهور ترتب الفرق على النشر
كذا قيل فلا تغفل، وقيل طوائف نشرن النفوس الموتى بالكفر الجهل
بما أوحين ففرقن إلخ والنشر على هذا بمعنى الإحياء وفيما قبله
بمعنى الإشاعة. وقيل لا مغايرة بين الكل إلّا بالصفات وهم
جميعا من الملائكة على الأقوال السابقة بيد أنه لم يعتبر هذا
القائل تفسير النشر بنشر الأجنحة فقال: أقسم سبحانه بطوائف من
الملائكة أرسلهن عز وجل بأوامره متتابعة فعصفن عصف الرياح في
الامتثال ونشرن الشرائع في الأرض أو نشرن النفوس الموتى بالجهل
بما أوحين من العلم ففرقن بين الحق والباطل فألقين إلى
الأنبياء ذكرا، وظاهره أيضا أن الإرسال للأنبياء بالشرائع من
الأمر والنهي بناء على أن الأوامر جمع جمع مخصوص بالأمر مقابل
النهي، ففي كلامه الاكتفاء.
وخص الأمر بالذكر قيل لأنه أهم مع أنه لا يؤدي ما يراد من
النهي بصيغته كدع مثلا. وقيل في عطف النَّاشِراتِ بالواو دون
الفاء وعطف «الفارقات» به أن النشر عليه بمعنى الإشاعة للشرائع
وهو يكون بعد الوحي والدعوة والقبول، ويقتضي زمانا فلذا جيء
بالواو ولم يقرن بالفاء التعقيبية. وإذا حصل النشر ترتب عليه
الفرق من غير مهلة ولا يتوهم أنه كان حق النَّاشِراتِ حينئذ ثم
لأنه لا يتعلق القصد هاهنا بالتراخي ويبقى الكلام في وجه تقديم
نشر الشرائع أو نشر النفوس والفرق على الإلقاء مع أنهما بعده
في الواقع فقيل الإيذان بكونهما غاية للإلقاء حقيقة بالاعتناء
أو الإشعار بأن كلا من الأوصاف مستقل بالدلالة على استحقاق
التعظيم كما سمعت على أن باب التأويل واسع فتذكر. وقيل: أقسم
سبحانه بأفراد نوعين من الرياح فيقدر للمرسلات موصوف وللناشرات
موصوف آخر، ويراد بالمرسلات الرياح المرسلة للعذاب لأن الإرسال
شاع فيه، وبالناشرات رياح رحمة وحاصله أنه جل وعلا أقسم برياح
عذاب أرسلهن فعصفن ورياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقنه على
البقاع فألقين ذكرا إما عُذْراً للذين يعتذرون إلى الله تعالى
بتوبتهم واستغفارهم إذا شاهدوا آثار رحمته تعالى في الغيث.
وإما (إنذارا) للذين يكفرون ذلك وينسبونه إلى الأنواء ونحوها
وإسناد إلقاء الذكر إليهن لكونهن سببا في حصوله إذا شكرت
النعمة فيهن أو كفرت فالتجوز في الإسناد، والمراد ب عُرْفاً
متتابعة أو الناشرات رياح رحمة نشرن النبات وأبرزنه أي صرن
سببا لذلك بنشر السحاب وإدراره ففرقن كل صنف منه عن سائر
الأصناف بالشكل واللون وسائر الخواص فتسببن ذِكْراً إما
عُذْراً للشاكرين وإما نُذْراً للكافرين. وقيل أقسم سبحانه
أولا بالرياح وثانيا بسحائب نشرن الموات ففرقن بين من يشكر
وبين من يكفر كقوله تعالى لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [الجن: 16، 17] فتسببن ذِكْراً إما وإما
وقيل: أقسم جل وعلا بآيات القرآن المرسلة إلى رسول الله صلّى
الله عليه وسلم فضلا وإحسانا أو شيئا بعد شيء لأنها نزلت
منجّمة فعصفن وأذهبن سائر الكتب بالنسخ ونشرن آثار الهدى في
مشارق الأرض ومغاربها وفرقن بين الحق والباطل فألقين ذكر الحق
في أكتاف العالمين. وقيل: أقسم جل جلاله برسله من البشر أرسلوا
إحسانا وفضلا كما هو المذهب
(15/189)
الحق لا وجوبا كما زعم من زعم فاشتدوا وعظم
أمرهم ونشروا دينهم وما جاؤوا به ففرقوا بين الحق والباطل
والحلال والحرام فألقوا ذكرا بين المكلفين، ويجوز أن يراد على
هذا بعرفا متتابعة. وقيل: أقسم تبارك وتعالى بالنفوس الكاملة
أي المخلوقة على صفة الكمال والاستعداد لقبول ما كلفت به وخلقت
لأجله المرسلة إحسانا إلى الأبدان لاستكمالها فعصفن وأذهبن ما
سوى الحق بالنظر في الأدلة الحقة ففرقن بين الحق المتحقق بذاته
الذي لا مدخل للغير فيه وهو واجب الوجود سبحانه وبين الباطل
المعدوم في نفسه فرأين كل شيء هالكا إلّا وجهه فألقين في
القلوب والألسنة ومكن فيها ذكره تعالى فليس في قلوبها وألسنتها
إلّا ذكره عز وجل، أو طرحن ذكر غيره سبحانه عن القلوب والألسنة
فلا ذكر فيها لما عداه. وقيل: الثلاثة الأول الرياح والأخيرتان
الملائكة عليهم السلام وقيل بالعكس، والمناسبة باللطافة وسرعة
الحركة وقيل الأولتان الملائكة إلّا أن المرسلات ملائكة
الرحمة، والعاصفات ملائكة العذاب، والثلاثة الأخيرة آيات
القرآن النازلة بها الملائكة.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر من وجه عن أبي صالح أنه قال:
الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً الرسل ترسل بالمعروف، فَالْعاصِفاتِ
عَصْفاً الريح والنَّاشِراتِ نَشْراً المطر، فَالْفارِقاتِ
فَرْقاً الرسل ومن وجه آخر الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً الملائكة
فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً الرياح العواصف وَالنَّاشِراتِ نَشْراً
الملائكة ينشرون الكتب أي كتب الأعمال كما جاء مصرحا به في بعض
الروايات فَالْفارِقاتِ فَرْقاً الملائكة يفرقون بين الحق
والباطل فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً الملائكة أيضا يجيئون بالقرآن
والكتاب عُذْراً أَوْ نُذْراً منه تعالى إلى الناس وهم الرسل
يعذرون وينذرون. وعن أبي صالح روايات أخر في ذلك وكذا عن أجلة
الصحابة والتابعين، فعن ابن مسعود وأبي هريرة ومقاتل
الْمُرْسَلاتِ الملائكة أرسلت بالعرف ضد النكر وهو الوحي.
وفي أخرى عن ابن مسعود أنها الرياح وفسر العاصفات بالشديدات
الهبوب. وروي تفسير الْمُرْسَلاتِ بذلك عن ابن عباس ومجاهد
وقتادة. وفي أخرى عن ابن عباس أنها جماعة الأنبياء أرسلت
إفضالا من الله تعالى على عباده وعن أبي مسعود النَّاشِراتِ
الرياح تنشر رحمة الله تعالى ومطره. وروي عن مجاهد وقتادة وقال
الربيع: الملائكة تنشر الناس من قبورهم، قال الضحاك: الصحف
تنشر على الله تعالى بأعمال العباد وعليه تكون النَّاشِراتِ
على معنى النسب. وعن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والضحاك
«الفارقات» الملائكة تفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام.
وقال قتادة والحسن وابن كيسان: آيات القرآن فرّقت بين ما يحل
وما يحرم. وعن مجاهد أيضا الرياح تفرق بين السحاب فتبدده. وعن
ابن عباس وقتادة والجمهور «الملقيات» الملائكة تلقي ما حملت من
الوحي إلى الأنبياء. وعن الربيع آيات القرآن ومن الناس من فسر
«العاصفات» بالآيات المهلكة كالزلازل والصواعق وغيرها، ومنهم
من فسر «الفارقات» بالسحائب الماطرة على تشبيهها بالناقة
الفاروق وهي الحامل التي تجزع حين تضع، ومنهم من فسرها بالعقول
تفرق بين الحق والباطل والصحيح والفاسد إلى غير ذلك من
الروايات والأقوال التي لا تكاد تنضبط والذي أخاله أظهر كون
المقسم به شيئين «المرسلات العاصفات والناشرات الفارقات
الملقيات» لشدة ظهور العطف بالواو في ذلك وكون الكل من جنس
الريح لأنه أوفق بالمقام المتضمن لأمر الحشر والنشر لما أن
الآثار المشاهدة المترتبة على الرياح ترتبا قريبا وبعيدا تنادي
بأعلى صوت حتى يكاد يشبه صوت النفخ في الصور على إمكان ذلك
وصحته ودخوله في حيطة مشيئة الله تعالى وعظيم قدرته ومع هذا
الأقوال كثيرة لديك وأنت غير مجحود عليك فاختر لنفسك ما يحلو.
(15/190)
وقرأ عيسى «عرفا» بضمتين نحو نكر في نكر
وقرأ ابن عباس «فالملّقيات» بالتشديد من التلقية وقيل وهي
كالإلقاء إيصال الكلام إلى المخاطب، يقال: لقيته الذكر فتلقاه.
وذكر المهدوي أنه رضي الله عنه قرأ «فالملقّيات» بفتح اللام
وتشديد القاف اسم مفعول أي ملقية من الله عز وجل. وقرأ زيد بن
ثابت وابن خارجة وطلحة وأبو جعفر وأبو حيوة وعيسى والحسن بخلاف
والأعمش عن أبي بكر «عذرا أو نذرا» بضم الذالين. وقرأ الحرميان
وأبو عامر وأبو بكر وزيد بن علي وشيبة وأبو جعفر أيضا بسكون
الذال في «عذرا» وضمها في «نذرا» وقرأ إبراهيم التيمي «ونذرا»
بالواو. وقوله تعالى إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ جواب للقسم
وما موصولة وإن كتبت موصولة والعائد محذوف أي إن الذي توعدونه
من مجيء القيامة كائن لا محالة، وجوز أن يراد بالموصول جميع ما
تضمنته السورة السابقة وهو خلاف الظاهر جدا فَإِذَا النُّجُومُ
طُمِسَتْ أزيل أثرها بإزالة نورها أو بإعدام ذاتها وإذهابها
بالكلية وكل من الأمرين سيكون وليس من المحال في شيء وما زعمه
الفلاسفة المتقدمون في أمر تلك الأجرام واستحالة التحلل والعدم
عليها أوهن من بيت العنكبوت، وما زعمه المعاصرون منهم فيها وإن
كان غير ثابت عندنا إلّا أن إمكان الطمس عليه في غاية الظهور
وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ شقت كما قال سبحانه إِذَا
السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1] ويَوْمَ تَشَقَّقُ
السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان: 25] وقيل فتحت كما قال سبحانه
وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ: 19] وأنشد
سيبويه:
الفارجي باب الأمير المبهم ولا مانع من ذلك أيضا سواء كانت
السماء جسما صلبا أو جسما لطيفا، وأدلة استحالة الخرق
والالتئام فيها خروق لا تلتئم وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ جعلت
كالحب الذي ينسف بالمنسف ونحوه وبست الجبال بسا وكانت الجبال
كثيبا مهيلا قال في البحر: فرقتها الرياح وذلك بعد التسيير
وقيل ذلك جعلها هباء وقيل نسفت أخذت من مقارها بسرعة من انتسفت
الشيء إذا اختطفته، وقرأ عمرو بن ميمون «طمّست» و «فرّجت»
بتشديد الميم والراء وذكر في الكشاف أن الأفعال الثلاثة قرئت
بالتشديد. وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ أي بلغت ميقاتها الذي
كانت تنتظره وهو يوم القيامة وجوز أن يكون المعنى عيّن لها
الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على الأمم وذلك عند مجيئه وحصوله
والوجه هو الأول كما قال جار الله وتحقيقه كما في الكشف أن
توقيت الشيء تحديده وتعيين وقته فإيقاعه على الذوات بإضمار لأن
المؤقت هو الأحداث لا الجثث، ويجيء بمعنى جعل الشيء منتهيا إلى
وقته المحدود وعلى هذا يقع عليها دون إضمار إذا كان بينها وبين
ذلك الوقت ملابسة وإنما كان الوجه لأن القيامة ليست وقتا يتبين
فيه وقت الرسل الذي يحضرون فيه للشهادة بل هي نفس ذلك الوقت
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ يقتضي ذلك لأنك إذا قلت إذا
أكرمتني أكرمتك اقتضى أن يكون زمان إكرام المخاطب للمتكلم هو
ما دل عليه إِذَا سواء جعل الظرف معموله أو معمول الجزاء أي
فلا بد من التأويل، وقد أشير إليه في ضمن التفسير. وقرأ النخعي
والحسن وعيسى وخالد «أقتت» بالهمزة وتخفيف القاف وقرأ أبو
الأشهب وعمرو بن عبيد وأبو عمرو وعيسى أيضا «وقّتت» بالواو على
الأصل لأن الهمزة مبدلة من الواو المضمومة ضمة لازمة وهو أمر
مطرد كما بيّن في محله. وقال عيسى: وقتت لغة سفلى مضر. وقرأ
عبد الله بن الحسن وأبو جعفر «وقتت» بواو واحدة وتخفيف القاف.
وقرأ الحسن أيضا «ووقتت» بواوين على وزن فوعلت وإِذَا في جميع
ما تقدم شرطية. وقوله تعالى لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ قيل مقول
لقول مقدر هو جواب إِذَا أي يقال لِأَيِّ يَوْمٍ إلخ وجعل
التأجيل بمعنى التأخير من قولهم دين مؤجل في مقابل الحال
والضمير لما
(15/191)
يشعر به الكلام والاستفهام للتعظيم
والتعجيب من هول ذلك اليوم أي إذا كان كذا وكذا يقال: لأي يوم
أخرت الأمور المتعلقة بالرسل من تعذيب الكفرة وإهانتهم وتنعيم
المؤمنين ورعايتهم وظهور ما كانت الرسل عليهم السلام تذكره من
الآخرة وأحوالها وفظاعة أمورها وأهوالها. وجوز أن يكون الضمير
للأمور المشار إليها فيما قبل من طمس النجوم وفرج السماء ونسف
الجبال وتأقيت الرسل وأن يكون للرسل إلّا أن المعنى على نحو ما
تقدم. وقيل أن يكون القول المقدر في موضع الحال من مرفوع
أُقِّتَتْ أي مقولا فيها لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ وأن تكون
الجملة نفسها من غير تقدير قول في موضع المفعول الثاني لأقتت
على أنه بمعنى أعلمت كأنه قيل: وإذا الرسل أعلمت وقت تأجيلها
أي بمجيئه وحصوله. وجواب إِذَا على الوجهين قيل قوله تعالى
الآتي وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وجاء حذف الفاء في
مثله. وقيل محذوف لدلالة الكلام عليه أي وقع الفصل أو وقع ما
توعدون. واختار هذا أبو حيان ويجوز على احتمال كون الجواب
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أو تقدير المقدر مؤخرا كون
جملة لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ اعتراضا لتهويل شأن ذلك اليوم.
وقوله تعالى لِيَوْمِ الْفَصْلِ بدل من لِأَيِّ يَوْمٍ مبين
له، وقيل: متعلق بمقدر تقديره أجلت ليوم الفصل بين الخلائق
وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ أي أي شيء جعلك داريا ما هو
على أن ما الأولى مبتدأ وأَدْراكَ خبره، وما الثانية خبر مقدم
ويَوْمُ مبتدأ مؤخر لا بالعكس كما اختاره سيبويه لأن محط
الفائدة بيان كون يَوْمُ الْفَصْلِ أمرا بديعا لا يقادر قدره
ولا يكتنه كنهه كما يفيده خبرية ما لا بيان كون أمر بديع من
الأمور يوم الفصل كما يفيده عكسه. ووضع الظاهر موضع الضمير
لزيادة التفظيع والتهويل المقصودين من الكلام وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي في ذلك اليوم الهائل ووَيْلٌ
في الأصل مصدر بمعنى هلاك وكان حقه النصب بفعل من لفظه أو
معناه إلّا أنه رفع على الابتداء للدلالة على ثبات الهلاك
ودوامه للمدعو عليه ويَوْمَئِذٍ ظرفه أو
صفته فمسوغ الابتداء به ظاهر والمشهور أن مسوغ ذلك كونه للدعاء
كما في سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: 24] أَلَمْ نُهْلِكِ
الْأَوَّلِينَ كقوم نوح وعاد وثمود. وقرأ قتادة «نهلك» بفتح
النون على أنه من هلكه بمعنى أهلكه ومنه هالك بمعنى مهلك كما
هو الظاهر في قول العجاج:
ومهمه هالك من تعرجا ... هائلة أهواله من أدرجا
لئلا يلزم حذف الضمير مع حرف الجر أعني به أو فيه وليناسب ما
في الشطر الثاني ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ بالرفع على
الاستئناف وهو وعيد لأهل مكة وإخبار عما يقع بعد الهجرة كبدر
كأنه قيل: ثم نحن نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا
بالأولين ونسلك بهم سبيلهم لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم. ويقويه
قراءة عبد الله «ثم سنتبعهم» بسين الاستقبال وجوز العطف على
قوله تعالى أَلَمْ نُهْلِكِ إلى آخره. وقرأ الأعرج والعباس عن
أبي عمرو «نتبعهم» بإسكان العين فحمل على الجزم والعطف على
نُهْلِكِ فيكون المراد بالآخرين المتأخرين هلاكا من المذكورين
كقوم لوط وشعيب وموسى عليهم السلام دون كفار أهل مكة لأنهم بعد
ما كانوا قد أهلكوا والعطف على نُهْلِكِ يقتضيه. وجوز أن يكون
قد سكن تخفيفا كما في وَما يُشْعِرُكُمْ [الأنعام: 109] فهو
مرفوع كما في قراءة الجمهور إلّا أن الضمة مقدرة كَذلِكَ مثل
ذلك الفعل الفظيع نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي بكل من أجرم
والمراد أن سنتنا جارية على ذلك وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ
أهلكناهم لِلْمُكَذِّبِينَ بآيات الله تعالى وأنبيائه عليهم
السلام وليس فيه تكرير لما أن الويل الأول لعذاب الآخرة وهذا
لعذاب الدنيا. وقيل: لا تكرير لاختلاف متعلق المكذبين في
الموضعين بأن يكون متعلقة هنا ما
(15/192)
وَجَعَلْنَا فِيهَا
رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى
مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ
ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ
اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)
كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35)
وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ
وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ
(39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا
يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا
قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا
يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49)
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
سمعت وفيما تقدم يوم الفصل ونحوه وكذا يقال
فيما بعد. وجوز اعتبار الاتحاد والتأكيد أمر حسن لا ضير فيه
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ من نطفة قذرة مهينة
وليس فيه دليل على نجاسة المني فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ
مَكِينٍ هو الرحم إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ أي مقدار معلوم عند
الله تعالى من الوقت قدره سبحانه للولادة تسعة أشهر أو أقل
منها أو أكثر فَقَدَرْنا أي فقدرنا ذلك تقديرا فَنِعْمَ
الْقادِرُونَ أي فنعم المقدرون له نحن.
وجوز أن يكون المعنى فقدرنا على ذلك فنعم القادرون عليه نحن
والأول أولى لقراءة عليّ كرم الله تعالى وجهه ونافع والكسائي
«فقدّرنا» بالتشديد ولقوله تعالى مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ
فَقَدَّرَهُ [عبس: 19] ولقوله سبحانه إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ
فزاده تفخيما بأن جعلت الغاية مقصودة بنفسها، فقيل: فقدنا ذلك
تقديرا أي تقديرا دالا على كمال القدرة وكمال الرحمة على أن
حديث القدرة قد تم في قوله تعالى أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ وقول
الطيبي في ترجيح الثاني إثبات القدرة أولى لأن الكلام مع
المنكرين لا وجه له إذ لا أحد ينكر هذه القدرة ولو سلم فقد
قرروا بها بقوله تعالى أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ فتأمل. وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي بقدرتنا على ذلك أو الإعادة
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً الكفات اسم جنس أو اسم آلة
لما يكفت أي يضم ويجمع من كفت الشيء إذا ضمه وجمعه كالضمام
والجماع لما يضم ويجمع، وأنشدوا قول الصمصامة بن الطرماح:
فأنت اليوم فوق الأرض حي ... وأنت غدا تضمك في كفات
وعن أبي عبيدة تفسيره بالوعاء وقوله تعالى أَحْياءً
وَأَمْواتاً مفعول محذوف لا «لكفاتا» لأن اسم الجنس وكذا اسم
الآلة كما صرح به النحاة لا يعمل أي ألم نجعلها كفاتا تكفت
وتجمع أحياء كثيرة على ظهرها وأمواتا غير محصورة في بطنها.
وقيل: هو مصدر كالقتال نعت به للمبالغة فلا يحتاج إلى تقدير
فعل.
وقيل: جمع كافت كصيام وصائم فلا يحتاج إلى تقدير أيضا، أو جمع
كفت بكسر الكاف وسكون الفاء وهو الوعاء كقدح وقداح وأجرى على
الأرض مع جمعه وإفرادها باعتبار أقطارها. وجوز انتصاب الجمعين
على الحالية من مفعول كِفاتاً المحذوف والتقدير كفاتا إياهم أو
إياكم أو كفاتا الأنس أَحْياءً وَأَمْواتاً أو من مفعول حذف مع
فعله أي كِفاتاً تكفتهم أو تكفتكم أو تكفت الإنس أَحْياءً
وَأَمْواتاً وأن يكون انتصابهما على المفعولية لنجعل بتقدير
مضاف أي ذات أحياء وأموات أو على أن المراد بأمواتا الأرض
الموات على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد، وبأحياء ما
يقابلها. وانتصاب كِفاتاً على الحالية من الأرض وأنت تعلم أن
انتصابهما على المفعولية أظهر وبعده انتصابهما على الحالية من
محذوف وتنوينهما على ما سمعت أولا للتكثير وجوز أن يكون
للتبعيض بإرادة أحياء الإنس وأمواتهم وهم ليسوا بجميع الأحياء
والأموات ولا ينافي ذلك التفخيم نظرا إلى أنه بعض غير محصور
كثير في نفسه فلا تغفل. واستدل الكيا بالآية على وجوب مواراة
الميت ودفنه. وقال ابن عبد البر: احتج ابن القاسم بها على قطع
النباش لأنه تعالى جعل القبر للميت كالبيت للحيّ فيكون حرزا
ولا يخفى ضعف الاستدلالين.
(15/193)
وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت
شامِخاتٍ مرتفعات، ومنه شمخ بأنفه. ووصف جمع المذكر بجمع
المؤنث في غير العقلاء مطرد ك أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [البقرة:
197] وتنكيرها للتفخيم أو للإشعار بأن في الأرض جبالا لم تعرف
ولم يوقف عليها، فأرض الله تعالى واسعة وفيها ما لم يعلمه إلّا
الله عز وجل.
وقيل للإشعار بأن في الجبال ما لم يعرف وهو الجبال السماوية
وهو مما يوافق أهل الفلسفة الجديدة إذ قالوا بوجود جبال كثيرة
في القمر وظنوا وجودها في غيره وتعقب بأنه تفسير بما لم يعرف
وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً أي عذبا وذلك بأن خلقناه في
أصولها وأجريناه لكم منها في أنهار وأنبعناه في منابع تستمد
مما استودعناه فيها وقد يفسر بما هو أعم من ذلك والماء المنزل
من السماء وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بأمثال هذه
النعم العظيمة انْطَلِقُوا أي يقال لهم يومئذ للتوبيخ والتقريع
انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ في الدنيا من
العذاب انْطَلِقُوا أي خصوصا فليس تكرارا للأول وقيل هو تكرار
له وإن قيد بقوله تعالى إِلى ظِلٍّ هو ظل دخان جهنم كما قاله
جمهور المفسرين فهو كقوله تعالى وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ
[الواقعة: 43] وفيه استعارة تهكمية، وقرأ رويس عن يعقوب
«انطلقوا» بصيغة الماضي وهو استئناف بياني كأنه قيل فما كان
بعد الأمر فقيل انطلقوا إلى ظل ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ متشعب لعظمه
ثلاث شعب كما هو شأن الدخان العظيم تراه يتفرق تفرق الذوائب.
وفي بعض الآثار يخرج لسان من النار فيحيط بالكفار كالسرادق
ويتشعب من دخانها ثلاث شعب فتظلهم حتى يفرغ من حسابهم
والمؤمنون في ظل العرش. وخصوصية الثلاث قيل إما لأن حجاب النفس
عن أنوار القدس الحس والخيال والوهم أو لأن المؤدي إلى هذا
العذاب هو القوة الوهمية الشيطانية الحالّة في الدماغ والقوة
الغضبية السبعية التي عن يمين القلب والقوة الشهوية البهيمية
التي عن يساره، ولذلك قيل تقف شعبة فوق الكافر وشعبة عن يمينه
وشعبة عن يساره. وقيل لأن تكذيبهم بالعذاب يتضمن تكذيب الله
تعالى وتكذيب رسوله صلّى الله عليه وسلم فهناك ثلاثة تكذيبات.
واعتبر بعضهم التكذيب بالعذاب أصلا والشعب الثلاث التكذيبان
المذكوران وتكذيب العقل الصريح فتأمل. وعن ابن عباس يقال ذلك
لعبدة الصليب فالمؤمنون في ظل الله عز وجل وهم في ظل معبودهم
وهو الصليب له ثلاث شعب لا ظَلِيلٍ أي لا مظلل وهو صفة ثانية
لظل ونفى كونه مظللا عنه والظل لا يكون إلّا مظللا للدلالة على
أن جعله ظلا تهكم بهم ولأنه ربما يتوهم أن فيه راحة لهم فنفى
هذا الاحتمال بذلك وفيه تعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين وَلا
يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ وغير مفيد في وقت من الأوقات من حر
اللهب شيئا وعدّي يغني بمن لتضمنه معنى يبعد واشتهر أن هذه
الآية تشير إلى قاعدة هندسية وهي أن الشكل المثلث لا ظل له
فانظر هل تتعقل ذلك إِنَّها أي النار الدال عليها الكلام وقيل
الضمر للشعب تَرْمِي بِشَرَرٍ هو ما تطاير من النار سمّي بذلك
لاعتقاد الشر فيه وهو اسم جنس جمعي واحده شررة كَالْقَصْرِ
كالدار الكبيرة المشيدة والمراد كل شررة كذلك في العظم ويدل
على إرادة ذلك ما بعد ويؤيده قراءة ابن عباس وابن مقسم «بشرار»
بكسر الشين وألف بين الراءين فإن الظاهر أنه جمع شررة كرقبة
(15/194)
ورقاب فيدل على أن المشبه بالقصر الواحدة
وكذا قراءة عيسى «بشرار» بفتح الشين وألف بين الراءين أيضا فقد
قيل إنه جمع لشرارة لا مفرد وجوز على قراءة الكسر أن يكون جمع
شر غير أفعل التفضيل كخيار جمع خير وهو حينئذ صفة أقيمت مقام
موصوفها أي ترمي بقوم شرار وهو خلاف الظاهر. وقيل القصر الغليظ
من الشجر واحده قصرة نحو جمرة وجمر. وقيل قطع من الخشب قدر
الذراع وفوقه ودونه يستعد به للشتاء واحده كذلك فالتشبيه من
تشبيه الجمع بالجمع من غير احتياج للتأويل بما مر إلّا أن
التهويل على القول الأخير دونه على غيره. وقرأ ابن عباس ومجاهد
وابن جبير والحسن وابن مقسم «كالقصر» بفتح القاف والصاد وهي
أصول النخل وقيل أعناقها واحدها قصرة كشجرة وشجر وفي كتاب
النبات الحبة لها قشرتان التحتية تسمى قشرة والفوقية تسمى قصرة
ومنه قوله تعالى كَالْقَصْرِ وهو غريب. وقرأ ابن مسعود
«كالقصر» بضمتين جمع قصر كرهن ورهن وفي البحر كأنه مقصور من
القصور كالنجم من النجوم وهو مخالف للظاهر لأن مثله ضرورة أو
شاذ نادر. وقرأ ابن جبير والحسن أيضا «كالقصر» بكسر القاف وفتح
الصاد جمع قصرة بفتحتين كحلقة من الحديد وحلق وحاجة
وحوج وبعض القراء «كالقصر» بفتح القاف وكسر الصاد وهو بمعنى
القصر في قراءة الجمهور كَأَنَّهُ أي الشرر جِمالَتٌ بكسر
الجيم كما قرأ به حمزة والكسائي وحفص وأبو عمرو في رواية
الأصمعي وهارون عنه وهو جمع جمل والتاء لتأنيث الجمع كما في
البحر يقال جمل وجمال وجمالة أو اسم جمع له كما قيل في حجر
وحجارة والتنوين للتكثير صُفْرٌ فإن الشرار لما فيه من النارية
والهوائية يكون أصفر فالصفرة على معناها المعروف. وقيل سود
والتعبير بصفر لأن سواد الإبل يضرب إلى الصفرة شبه الشرر حين
ينفصل من النار في عظمه بالقصر وحين يأخذ فقيل الارتفاع
والانبساط لانشقاقه عن أعداد غير محصورة بالجمال لتصور
الانشقاق والكثرة والصفرة والحركة المخصوصة. وقد روعي الترتيب
في التشبيه رعاية لترتيب الوجود وأفيد أن القصور والجمال يشبه
بعضها ببعض ومنه قوله:
فوقفت فيها ناقتي وكأنها ... فدن (1) لأقضي حاجة المتلوم
فالتشبيه الثاني بيان للتشبيه الأول على معنى أن التشبيه
بالقصر كان المتبادر منه إلى الفهم العظم فحسب فلما قيل
كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ وهو قائم مقام التخصيص في القصر
تكثر وجه الشبه كأنه قيل كأنه قصر من شأنه كذا وكذا، والتشبيه
بالجمال في الكثرة والتتابع وسرعة الحركة أيضا والأول هو
التحقيق على ما في الكشف وعلى الوجهين ليس التشبيه الثاني من
البداء في شيء ولا حاجة في شيء منهما إلى اعتبار كون ضمير كأنه
للقصر وقد ألم بشيء من حسن ما وقع في الآية من التشبيه وأبو
العلاء المعري في قوله في مرثية واحد من الأشراف:
الموقدي نار القرى الآصال ... والإسحار بالإهضام والإشعاف
حمراء ساطعة الذوائب في الدجى ... ترمي بكل شرارة كطراف
وإن كان قد قصد بذلك المعارضة للآية يكون قد أعمى الله تعالى
بصيرته عما فيها من المزية كما أعمى سبحانه بصره. وقرأ الجمهور
ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه «جمالات» بكسر الجيم
وبالألف والتاء جمع جمال أو جمالة بكسر الجيم فيهما فيكون جمع
الجمع أو جمع اسم الجمع والمعنى
__________
(1) فدن كلبن القصر جمعه أفدان اهـ منه.
(15/195)
على ما سمعت. وقرأ ابن عباس وقتادة وابن
جبير والحسن وأبو رجاء بخلاف عنهم كذلك إلا أنهم ضموا الجيم
على أنه جمع جمالة على ما في الكشاف وقال في البحر هي حبال
السفن الواحد منها جملة لكونه جملة من الطاقات ثم جمع على جمل
وجمال ثم جمع جمال ثانيا جمع صحة فقالوا جمالات. وقيل هي قلوس
الجسور أي حبالها التي تشد بها وروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير
قالا إنها إذا اجتمعت مستديرة بعضها إلى بعض جاء منها أجرام
عظام. وعن ابن عباس أيضا هي قطع النحاس الكبار والظاهر أن
التشبيه على هذا باعتبار اللون وعلى ما سبق باعتبار الامتداد
والالتفاف وقرأ ابن عباس أيضا والسلمي والأعمش وأبو حيوة وأبو
بحرية وابن أبي عبلة ورويس «جمالة» كقراءة حفص ومن معه إلّا
أنهم ضموا الجيم وهي عند الزمخشري اسم مفرد بمعنى القلس وجمع
صُفْرٌ لإرادة الجنس وقرأ الحسن «صفر» بضم الفاء وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ
الإشارة إلى وقت دخولهم النار أي هذا يوم لا ينطقون فيه بشيء
لعظم الدهشة وفرط الحيرة، ولا ينافي هذا ما ورد في موضع آخر من
النطق لأن يوم القيامة طويل له مواطن ومواقيت ففي بعضها ينطقون
وفي بعضها لا ينطقون، وجوز أن يكون المراد هذا يوم لا ينطقون
بشيء ينفعهم وجعل نطقهم لعدم النفع كلا نطق. وقرأ الأعمش
والأعرج وزيد بن عليّ وعيسى وأبو حيوة وعاصم في رواية «هذا
يوم» بالفتح فقيل هو فتح إعراب على أن هذا إشارة إلى ما ذكر و
«يوم» منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف وقع خبرا لهذا أي هذا
الذي ذكر من الوعيد واقع في يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وقيل هو فتح
بناء ويَوْمُ في محل رفع على الخبرية وبني لإضافته للجملة ولما
حقه البناء وعن صاحب اللوامح قال عيسى بناء «يوم» على الفتح مع
لا لغة سفلى مضر لأنهم جعلوه معها كالاسم الواحد وأنت تعلم أن
الجملة المصدرة بمضارع مثبت أو منفي لا يجيز البصريون في الظرف
المضاف إليها البناء بوجه وأن ما ذكر مذهب كوفي وَلا يُؤْذَنُ
لَهُمْ قيل في النطق مطلقا أو في الاعتذار. وقرأ زيد بن عليّ
كما حكى عنه أبو علي الأهوازي بالبناء للفاعل أي «ولا يأذن-
الله تعالى- لهم» فَيَعْتَذِرُونَ عطف على يُؤْذَنُ منتظم معه
في سلك النفي والفاء للتعقيب بين النفيين في الأخبار في قول
ولترتب النفي الثاني نفسه على الأول في آخر ونظر فيه ولم يقل
فيعتذروا بالنصب في جواب النفي قيل ليفيد الكلام نفي الاعتذار
مطلقا إذ لا عذر لهم ولا يعتذرون بخلاف ما لو نصب وجعل جوابا
فإنه يدل على أن عدم اعتذارهم لعدم الإذن فيوهم ذلك أن لهم
عذرا لكن لم يؤذن لهم فيه. وقال ابن عطية إنما لم ينصب في جواب
النفي للمحافظة على رؤوس الآي والوجهان جائزان وظاهره استواء
المعنى عليهما وهو مخالف لكلامهم لقولهم بالسببية في النصب دون
الرفع نعم ذهب أبو الحجاج الأعلم إلى أنه قد يرفع الفعل ويكون
معناه على قلة معنى المنصوب بعد الفاء وأن النحويين إنما جعلوا
معنى الرفع غير معنى النصب رعيا للأكثر في كلام العرب وجعل
دليله على ذلك هذه الآية، ورد عليه ذلك ابن عصفور وغيره فتدبر.
والظاهر أن نفي الاعتذار باعتبار بعض المواطن والمواقيت كنفي
النطق وجوز أن يكون المنفي حقيقة الاعتذار النافع فلا منافاة
بين ما هنا وقوله تعالى يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ
مَعْذِرَتُهُمْ [غافر: 52] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ بين المحقّ والمبطل جَمَعْناكُمْ
وَالْأَوَّلِينَ أي من تقدمكم من الأمم والكلام تقرير وبيان
للفصل لأنه لا يفصل بين المحق والمبطل إلّا إذا جمع بينهم
فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ فإن جميع من كنتم
تقلدونهم وتقتدون بهم حاضرون وهذا تقريع لهم على كيدهم
للمؤمنين في الدنيا وإظهار لعجزهم وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ حيث ظهر أن لا حول لهم ولا حيلة في التخلص
مما هم فيه إِنَّ الْمُتَّقِينَ من الكفر والتكذيب لوقوعه في
مقابلة المكذبين بيوم الدين فيشمل عصاة المؤمنين فِي
(15/196)
ظِلالٍ
جمع ظل ضد الضح وهو أعم من الفيء فإنه يقال ظل الليل وظل الجنة
ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس ظل ولا يقال الفيء إلا
لما زال عنه الشمس ويعبر به أيضا عن الرفاهة وعن العزة
والمناعة وعن هذا المعنى حمل الراغب ما في الآية والمتبادر منه
ما هو المعروف، ويؤيده ما تقدم في المقابل انْطَلِقُوا إِلى
ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ إلخ وقراءة الأعمش في «ظلل» جمع ظلة
وأيّا ما كان فالمراد من قوله تعالى إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي
ظِلالٍ وَعُيُونٍ وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ أنهم مستقرون
في فنون الترفه وأنواع التنعم كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً
بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مقدر بقول هو حال من ضمير
الْمُتَّقِينَ في الخبر كأنه قيل مستقرون في ذلك مقولا لهم
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في
الدنيا من العمل الصالح بالإيمان وغير ذلك إِنَّا كَذلِكَ أي
مثل ذلك الجزاء العظيم نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ لا جزاء أدنى
منه، والمراد بالمحسنين المتقون السابق ذكرهم إلّا أنه وضع
الظاهر موضع الضمير مدحا لهم بصفة الإحسان أيضا مع الإشعار
بعلة الحكم، وجوز أن يراد بالمتقين والمحسنين الصالحون من
المؤمنين ولا دليل فيه للمعتزلة على خلود العصاة أهل الكبائر
في النار وغاية الأمر عدم التعرض لحالهم وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ حيث نال أعداؤهم هذا الثواب العظيم وهم بقوا
في العذاب الأليم كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ
مُجْرِمُونَ حال من المكذبين على ما ذهب إليه غير واحد من
الأجلة أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم ذلك تذكيرا لما
كان يقال لهم في الدنيا ولما كانوا أحقاء بأن يخاطبوا به حيث
تركوا الحظ الكثير إلى النزر الحقير فيفيد التحسير والتخسير
وعلى طريقته قوله:
إخوتي لا تبعدوا أبدا ... وبلى والله قد بعدوا
فهو دعاء لإخوته بعدم الهلكة بعد هلاكهم تقريرا بأنهم كانوا
أحقاء بذلك الدعاء في حياتهم وأن هلاكهم لحينونة الأجل المسمى
لا لأنهم كانوا أحقاء بالدعاء عليهم. وذهب أبو حيان إلى أنه
كلام مستأنف خوطب به المكذبون في الدنيا والأمر فيه أمر تحسير
وتهديد وتخسير، ولم يعتبر التهديد على الأول لأنه غير مقصود في
الآخرة ورجح بأنه أبعد من التعسف وأوفق لتأليف النظم وفيه نظر.
والظاهر أن قوله سبحانه إِنَّكُمْ إلخ في موضع التعليل وفيه
دلالة على أن كل مجرم نهايته تمتع أيام قليلة ثم يبقى في عذاب
وهلاك أبدا وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَإِذا قِيلَ
لَهُمُ ارْكَعُوا أي أطيعوا الله تعالى واخشعوا وتواضعوا له عز
وجل بقبول وحيه تعالى واتباع دينه سبحانه وارفضوا هذا
الاستكبار والنخوة لا يَرْكَعُونَ لا يخشعون ولا يقبلون ذلك
ويصرون على ما هم عليه من الاستكبار، وقيل: أي إذا أمر بالصلاة
أو بالركوع فيها لا يفعلون إذ
روي عن مقاتل أن الآية نزلت في ثقيف قالوا للرسول عليه الصلاة
والسلام: حط عنا الصلاة فإنّا لا نجبى فإنها مسبة علينا، فقال
عليه الصلاة والسلام: «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود»
ورواه أيضا أبو داود والطبراني وغيرهما
. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال هذا يوم القيامة يدعون
إلى السجود فلا يستطيعون السجود من أجل أنهم لم يكونوا يسجدون
في الدنيا. واتصال الآية على ما نقل عن الزمخشري بقوله تعالى
لِلْمُكَذِّبِينَ كأنّه قيل ويل يومئذ للذين كذبوا والذين إذا
قيل لهم اركعوا لا يركعون، وجوز أن يكون أيضا بقوله سبحانه
إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ على طريقة الالتفات كأنه قيل هم أحقاء
بأن يقال لهم كُلُوا وَتَمَتَّعُوا ثم علل ذلك بكونهم مجرمين
وبكونهم إذا قيل لهم صلّوا لا يصلّون واستدل به على أن الأمر
للوجوب وإن الكفار مخاطبون بالفروع وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أي بعد القرآن
الناطق بأحاديث الدارين وأخبار النشأتين
(15/197)
على نمط بديع معجز مؤسس على حجج قاطعة
وبراهين ساطعة يُؤْمِنُونَ إذ لم يؤمنوا به والتعبير ببعده دون
غيره للتنبيه على أنه لا حديث يساويه في الفضل أو يدانيه فضلا
أو يفوته ويعاليه فلا حديث أحق بالإيمان منه فالبعدية للتفاوت
في الرتبة كما قالوا في عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [القلم:
13] وكان الفاء لما أن المعنى إذا كان الأمر كذلك وقد اشتمل
القرآن على البيان الشافي والحق الواضح فما بالهم لا يبادرون
الإيمان به قبل الفوت وحلول الويل وعدم الانتفاع بعسى ولعل
وليت. وقرأ يعقوب وابن عامر في رواية «تؤمنون» على الخطاب هذا
ولما أوجز في سورة الإنسان في ذكر أحوال الكفار في الآخرة
وأطنب في وصف أحوال المؤمنين فيها عكس الأمر في هذه السورة
فوقع الاعتدال بذلك بين هذه السورتين والله تعالى أعلم.
تم والحمد لله تعالى الجزء التاسع والعشرون ويليه إن شاء الله
تعالى الجزء الثلاثين وأوله (سورة النبأ)
(15/198)
|