روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني روح المعاني الجزء الثلاثين
(15/199)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ
(1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ
مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا
سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6)
وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8)
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ
لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا
سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ
مَاءً ثَجَّاجًا (14)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النّبإ
وتسمى سورة عم وعم يتساءلون والتساؤل والمعصرات وهي مكية
بالاتفاق وآيها إحدى وأربعون في المكي والبصري وأربعون في
غيرهما. ووجه مناسبتها لما قبلها اشتمالها على إثبات القدرة
على البعث الذي دلّ ما قبل على تكذيب الكفرة به وفي تناسق
الدرر وجه اتصالها بما قبل تناسبها معها في الجمل فإن في تلك
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ [المرسلات: 16] أَلَمْ
نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [المرسلات: 20] أَلَمْ
نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً [المرسلات: 25] إلخ وفي هذه أَلَمْ
نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: 6] إلخ مع اشتراكها
والأربع قبلها في الاشتمال على وصف الجنة والنار وما وعد
المدثر أيضا في سورة المرسلات لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ
لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ
[المرسلات: 13] وفي هذه إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً
[النبأ: 17] إلخ ففيها شرح يوم الفصل المجمل ذكره فيا قبلها
اهـ. وقيل إنه تعالى لما ختم تلك بقوله سبحانه فَبِأَيِّ
حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [المرسلات: 25] وكان المراد
بالحديث فيه القرآن افتتح هذه بتهويل التساؤل عنه والاستهزاء
به وهو مبني على ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أن المراد
بالنبإ العظيم القرآن والجمهور على أنه البعث وهو الأنسب
بالآيات بعد كما ستعرفه إن شاء الله تعالى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ أصله عما على أنه
حرف جر دخل على ما الاستفهامية فحذفت الألف وعلل بالتفرقة
بينها وبين الخبرية والإيذان بشدة الاتصال وكثرة الدوران وحال
العلل النحوية معلوم. وقد قرأ عبد الله وأبيّ وعكرمة وعيسى
بالألف على الأصل وهو قليل الاستعمال وقال ابن جنّي إثبات
الألف أضعف اللغتين
(15/201)
وعليه قوله:
علام قام يشتمني لئيم ... كخنزير تمرغ في رماد
والاستفهام بالإيذان بفخامة شأن المسئول عنه وهو له وخروجه عن
حدود الأجناس المعهودة أي عن أي شيء عظيم الشأن يَتَساءَلُونَ
الضمير لأهل مكة وإن لم يسبق ذكرهم للاستغناء عنه بحضورهم حسا
مع ما في الترك على ما قيل من التحقير والإهانة لإشعاره بأن
ذكرهم مما يصان عنه ساحة الذكر الحكيم ولا يتوهم العكس لمنع
المقام عنه، وكانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم ويخوضون فيه
إنكارا واستهزاء لكن لا على طريقة التساؤل عن حقيقته ومسماه بل
عن وقوعه الذي هو حال من أحواله ووصف من أوصافه. «وما» كما مر
غير مرة وإن اشتهرت في طلب حقائق الأشياء ومسميات أسمائها
لكنها قد يطلب بها الصفة والحال فيقال ما زيد ويجاب بعالم أو
طبيب وقيل كانوا يتساءلون الرسول صلّى الله عليه وسلم
والمؤمنين استهزاء فالتساؤل متعد ومفعوله مقدر هنا وحذف لظهوره
أو لأن المستعظم السؤال بقطع النظر عمن سأل أو لصون المسئول عن
ذكره مع هذا السائل وتحقيق ذلك على ما في الإرشاد أن صيغة
التفاعل في الأفعال المتعدية لإفادة صدور الفعل عن المتعدد
ووقوعه عليه بحيث يصير كل واحد من ذلك فاعلا ومفعولا معا لكنه
يرفع المتعدد على الفاعلية ترجيحا لجانب فاعليته وتحال
مفعوليته على دلالة الفعل كما في قولك تراءى القوم، أي رأى كل
واحد منهم الآخر وقد تجرد عن المعنى الثاني فيراد بها مجرد
صدور الفعل عن المتعدد عاريا عن اعتبار وقوعه عليه فيذكر للفعل
حينئذ مفعول كما في قولك تراؤوا الهلال وقد يحذف كما فيما نحن
فيه فالمعنى عن أي شيء يسأل هؤلاء القوم الرسول صلّى الله عليه
وسلم والمؤمنين وربما تجرد عن صدور الفعل عن المتعدد أيضا
فيراد بها تعدده باعتبار تعدد متعلقة مع وحدة الفاعل كما في
قوله تعالى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى [النجم: 55] وذكر
بعض المحققين أنه قد يكون لصيغة التفاعل على الوجه الأول مفعول
أيضا لكنه غير الذي فعل به مثل فعله كما في تعاطيا الكأس
وتفاوضا الحديث، وعليه قول امرئ القيس:
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت ... هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
فمن قال إن تفاعل لا يكون إلّا من اثنين ولا يكون إلّا لازما
فقط غلط كما قال البطليوسي في شرح أدب الكاتب إن أراد ذلك على
الإطلاق وليت شعري كيف يصح ذلك مع أن مجيء تفاعل بمعنى فعل غير
متعدد الفاعل كتوانى زيد وتدانى الأمر وتَعالَى اللَّهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ [النمل: 63] كثير جدا وكذا مجيئه متعديا إلى غير
الذي فعل به مثل فعله كما سمعت، وجوز أن يكون ضمير
يَتَساءَلُونَ للناس عموما سواء كانوا كفار مكة وغيرهم من
المسلمين وسؤال المسلمين ليزدادوا خشية وإيمانا، وسؤال غيرهم
استهزاء ليزدادوا كفرا وطغيانا وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر الآيات
بعد. وقيل كان التساؤل عن القرآن وتعقب بأن قوله تعالى أَلَمْ
نَجْعَلِ الْأَرْضَ إلخ ظاهر في أنه كان عن البعث وهو مروي عن
قتادة أيضا لأنه من أدلته، وأجيب بأن تساؤلهم عنه واستهزاؤهم
به واختلافهم فيه بأنه سحر أو شعر كان لاشتماله على الإخبار
بالبعث فبعد أن ذكر ما يفيد استعظام التساؤل عنه تعرض الدليل
ما هو منشأ لذلك التساؤل وفيه بعد وقوله تعالى عَنِ النَّبَإِ
الْعَظِيمِ بيان لشأن المسئول عنه أثر تفخيمه بإبهام أمره
وتوجيه أذهان السامعين نحوه وتنزيلهم منزلة المستفهمين فإنّ
إيراده على طريقة الاستفهام من علام الغيوب للتنبيه على أنه
لانقطاع قرينه وانعدام نظيره خارج عن دائرة علوم الخلق خليق
بأن يعتني بمعرفته ويسأل عنه كأنه قيل عن أي شيء يتساءلون هل
أخبركم به ثم
(15/202)
قيل بطريق الجواب عَنِ النَّبَإِ
الْعَظِيمِ على منهاج لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ
الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] فعن متعلقة بما يدل عليه
المذكور من مضمر حقه على ما قيل أن يقدر بعدها مسارعة إلى
البيان ومراعاة لترتيب السؤال وإلى تعلقه بما ذكر ذهب الزجاج
وهو الذي تقتضيه جزالة التنزيل. وقال مكي إن ذلك بدل من ما
الاستفهامية بإعادة حرف الجر وتعقبه في الكشف بأنه لا يصح فإن
معنى الأول عن النبأ العظيم أم عن غيره والبدل لا يطابقه أعيد
الاستفهام أولا. وقال الخفاجي: البدلية جائزة ولا يلزم إعادة
الاستفهام لأنه غير حقيقي ولا أن يكون البدل عين الأول لجواز
كونه بدل بعض. وقيل هو متعلق ب يَتَساءَلُونَ المذكور وعَمَّ
متعلق بمضمر مفسر به وأيد ذلك بقراءة الضحاك ويعقوب وابن كثير
في رواية «عمه» بهاء السكت ووجهه أنه على الوقف وهو يدل على
أنه غير متعلق بالمذكور لأنه لا حسن الوقف بين الجار والمجرور
ومتعلقه لعدم تمام الكلام، ولعل من ذهب إلى الأول يقول إن
إلحاق الهاء مبني على إجراء الوصل مجرى الوقف وقيل عن الأولى
للتعليل وهي والثانية متعلقتان ب يَتَساءَلُونَ المذكور كأنه
قيل لم يتساءلون عن النبأ العظيم. ونقله ابن عطية عن أكثر
النحاة وقيل عَنِ النَّبَإِ متعلق بمحذوف وهناك استفهام مضمر
كأنه قيل عَمَّ يَتَساءَلُونَ أيتساءلون عَنِ النَّبَإِ
الْعَظِيمِ ووصف النبأ وهو الخبر الذي له شأن بالعظيم لتأكيد
خطره ووصفه بقوله سبحانه الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ
للمبالغة في ذلك والإشعار بمدار التساؤل عنه وفِيهِ متعلق ب
مُخْتَلِفُونَ قدم عليه اهتماما به ورعاية للفواصل وجعل الصلة
جملة اسمية للدلالة على الثبات أي هم راسخون في الاختلاف فيه
فمن جازم باستحالته يقول إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا
نَمُوتُ وَنَحْيا [المؤمنون: 37] إلخ وشاك يقول ما نَدْرِي مَا
السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ
بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: 32] وقيل منهم من ينكر المعادين
معا كهؤلاء ومنهم من ينكر المعاد الجسماني فقط كجمهور النصارى.
وقد حمل الاختلاف على الاختلاف في كيفية الإنكار فمنهم من
ينكره لإنكاره الصانع المختار تعالى شأنه، ومنهم من ينكره بناء
على استحالة إعادة المعدوم بعينه وقيل الاختلاف بالإقرار
والإنكار أو بزيادة الخشية والاستهزاء على أن ضمير
يَتَساءَلُونَ وضميرهم للناس عامة وقيل: يجوز أن يكون الاختلاف
بالإقرار والإنكار على كون ضمير يَتَساءَلُونَ للكفار أيضا بأن
يجعل ضميرهم للسائلين والمسئولين والكل كما ترى وإن تفاوتت
مراتب الضعف والمعول عليه الأول. وقال مفتي الديار الرومية:
الذي يقتضيه التحقيق ويستدعيه النظر الدقيق أن يحمل اختلافهم
في البعث على مخالفتهم للنبيّ صلّى الله عليه وسلم بأن يعتبر
في الاختلاف محض صدور الفعل عن المتعدد حسبما قيل في التساؤل
فإن الافتعال والتفاعل صيغتان متآخيتان كالاستباق
والتسابق والانتضال والتناضل يجري في كل منهما ما يجري في
الأخرى لا على مخالفة بعضهم لبعض على أن يكون كل من الجانبين
مخالفا اسم فاعل ومخالفا اسم مفعول لأن الكل وإن استحق ما يذكر
بعد من الردع والوعيد لكن استحقاق كل جانب لهما ليس لمخالفته
للجانب الآخر إذ لا حقية في شيء منهما حتى يستحق من يخالفه
المؤاخذة بل لمخالفته عليه الصلاة والسلام فكأنه قيل «الذي هم
فيه مخالفون» للنبي صلّى الله عليه وسلم انتهى. وفيه أنه خلاف
الظاهر وما ذكره من التعليل لا يخلو عن شيء، وقرأ عبد الله
وابن جبير «تسّاءلون» بغير ياء وشد السين على أن أصله تتساءلون
بتاء الخطاب فأدغمت التاء الثانية في السين.
كَلَّا ردع عن التساؤل على الوجهين المتقدمين فيه وقيل عنه وعن
الاختلاف بمعنى مخالفة الرسول صلّى الله عليه وسلم في أمر
البعث، وتعقب بأن الجملة التي تضمنته لم تقصد لذاتها فيبعد
اعتبار الردع إلى ما فيها. وقوله
(15/203)
سبحانه سَيَعْلَمُونَ وعيد لأولئك
المتسائلين المستهزئين بطريق الاستئناف وتعليل للردع والسين
للتقرب والتأكيد ومفعول «يعلمون» محذوف وهو ما يلاقونه من فنون
الدواهي والعقوبات والتعبير عن لقائه بالعلم لوقوعه في معرض
التساؤل، والمعنى ليرتدعوا عما هم عليه فإنهم سيعلمون عما قليل
حقيقة الحال إذا حل بهم العذاب والنكال ومثل هذا تقدير المفعول
جزاء التساؤل. وقيل: هو ما ينبىء عنه الظاهر وهو وقوع ما
يتساءلون عنه على معنى سيعلمون ذلك فيخجلون من تساؤلهم
واستهزائهم بين يديّ ربهم عزّ وجلّ وإلّا لم يظهر كون ما ذكر
وعيدا ومن جعل ضمير يَتَساءَلُونَ للناس عامة جعل ما هنا من
باب التغليب لأنه لغير المؤمنين بالبعث الجازمين به، وجوز
بعضهم كون كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ردعا ووعدا على الارتداع
والمراد ليرتدعوا فإنهم سيعلمون مثوبات الارتداع، وأنت تعلم أن
ذلك شائع في الوعيد وهو المتبادر منه في أمثال هذه المقامات.
وقوله تعالى ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ قيل تكرير لما قبله من
الردع والوعيد للمبالغة. وثُمَّ للتفاوت في الرتبة فكأنه قيل
لهم يوم القيامة ردع وعذاب شديدان بل لهم يومئذ أشد وأشد وبهذا
الاعتبار صار كأنه مغاير لما قبله فعطف عليه وابن مالك يقول في
مثله إنه من التوكيد اللفظي وإن توسط حرف العطف فلا تغفل.
وقيل: الأول إشارة إلى ما يكون عند النزع وخروج الروح من زجر
ملائكة الموت عليهم السلام وملاقاة كربات الموت وشدائده
وانكشاف الغطاء، والثاني إشارة إلى ما يكون في القيامة من زجر
ملائكة العذاب عليهم السلام وملاقاة شديد العقاب فثم في محلها
لما بينهما من البعد الزماني ولا تكرار فيه. والظاهر أن العطف
على هذا وما قبله على مجموع كَلَّا سَيَعْلَمُونَ وتوهم بعضهم
من كلام بعض الأجلة أن العطف على سَيَعْلَمُونَ وأورد عليه أن
ثُمَّ إذا كانت للتراخي الزماني يلزم الفصل بين المعطوف
والمعطوف عليه بأجنبي بخلاف ما إذا كانت للتراخي الرتبي ووجه
لدفع التخصيص بلا مخصص أنه على الثاني يفهم تفاوت الرتبة بين
الردعين كتفاوتها بين الوعيدين لتبعية الردع للوعيد فلا تكون
كَلَّا الثانية أجنبية بخلاف الأول فإن التراخي عليه إنما
يتحقق فيما يتحقق فيه الزمان وليس هو إلّا سَيَعْلَمُونَ دون
كَلَّا فتكون هي أجنبية ثم قال ذلك المتوهم ولا يبعد أن يقال
الردع الأول عن التساؤل والثاني عن الإنكار أي الصريح، وتفاوت
ما بينهما يقتضي العطف بثم والكل كما ترى. وقيل: متعلق العلم
في الأول البعث وفي الثاني الجزاء على إنكاره، وثُمَّ في محلها
أي كَلَّا سَيَعْلَمُونَ حقيقة البعث إذا بعثوا ثُمَّ كَلَّا
سَيَعْلَمُونَ الجزاء على إنكاره إذا دخلوا النار وعوقبوا.
وجوز أن يكون المتعلق مختلفا وثُمَّ للتراخي الرتبي بأن يكون
المعنى سيعلم الكفار أحوالهم ثم سيعلمون أحواله المؤمنين،
والأول إشارة إلى العذاب الجسماني والثاني إلى العذاب الروحاني
الذي هو أشد وأخزى، وأن يكون فاعل سيعلم في الموضعين مختلفا
بناء على أن ضمير يَتَساءَلُونَ للناس عامة وثُمَّ لذلك أيضا
بأن يكون المعنى سيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم، ثم سيعلم
الكفار عاقبة تكذيبهم فيكون الأول وعدا للمؤمنين والآخر وعيدا
للكافرين وهما متفاوتان رتبة، ولا يخفى عليك ما في ذلك.
وقرأ مالك بن دينار وابن مقسم والحسن وابن عامر «ستعلمون» في
الموضعين بالتاء الفوقية على نهج الالتفات إلى الخطاب الموافق
لما بعده من الخطابات تشديدا للردع والوعيد لا على تقدير قل
لهم كلا ستعلمون إلخ فإنه ليس بذاك وإن كان فيه نوع سن على
تقدير كون المراد يسألون النبي صلّى الله عليه وسلم. وعن
الضحاك.
أنه قرأ الأول بتاء الخطاب والثاني بياء الغيبة. وقوله تعالى
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً إلخ استئناف مسوق لتحقيق
النبأ المتساءل عنه بتعداد بعض الشواهد الناطقة بحقيته إثر ما
نبه عليها بما ذكر من الردع، وجوز أن
(15/204)
يكون بتقدير قل كأنه قيل قل كيف تنكرون أو
تشكّون في البعث وقد عاينتم ما يدل عليه من القدرة التامة
والعلم المحيط والحكمة الباهرة المقتضية أن لا يكون ما خلق
عبثا وفيه أن من كان عظيم الشأن باهر القدرة ينبغي أن يخاف
ويخشى ويتأثر من زجره ووعيده والهمزة للتقرير بما بعد النفي و
(المهاد) الفراش الموطأ.
وفي القاموس المهد الموضع الذي يهيأ للصبي كالمهاد وعليه
فالمهد والمهاد بمعنى ويؤيده قراءة مجاهد وعيسى الهمداني
«مهدا» وفي الآية حينئذ تشبيه بليغ وكل منهما مصدر سمّي به ما
يمهد وجوز أن يكون باقيا على المصدرية والوصف بالمصدر كثير، أو
لتقدير ذات مهاد أو مهد. وقيل: كما يمكن أن يكون المهاد مصدرا
سمّي المفعول يحتمل أن يكون فعالا أي اسما على زنته يؤخذ
للمفعول كالإله والإمام وجعل الأرض مهادا إما في أصل الخلقة أو
بعدها، وأيّا ما كان فلا دلالة في الآية على ما ينافي كريتها
كما هو المشهور من عدة مذاهب أهل الهيئة المحدثين أنها مسطحة
عند القطبين لأنها كانت لينة جدا في مبدأ الأمر لظهور غاية
الحرارة الكامنة فيها اليوم فيها إذ ذاك وقد تحركت على محورها
فاقتضى مجموع ذلك صيرورتها مسطحة عندهما عندهم، وأهل الشرع لا
يقولون بذلك ولا يتم للقائل به دليل حتى يرث الله تعالى الأرض
ومن عليها وَالْجِبالَ أَوْتاداً أي كالأوتاد ففيه تشبيه بليغ
أيضا والمراد أرسينا الأرض بالجبال كما يرسى البيت بالأوتاد
قال الأفوه:
والبيت لا يبتنى إلا له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
وفي الحديث: «خلق الله تعالى الأرض فجعلت تميد فوضع عليها
الجبال فاستقرت فقالت الملائكة:
ربنا هل خلقت خلقا أشد من الجبال؟ قال: نعم الحديد، فقالت:
ربنا هل خلقت خلقا أشد من الحديد؟ قال:
نعم النار، فقالوا: ربنا هل خلقت خلقا أشد من النار؟ قال: نعم
الماء، فقالوا: ربنا هل خلقت خلقا أشد من الماء؟ قال: نعم
الهواء، فقالوا: ربنا هل خلقت خلقا أشد من الهواء؟ قال: نعم
ابن آدم يتصدق بيمينه فيخفي ذلك عن شماله»
. وظاهره كغيره أن خلق الجبال به خلق الأرض وإليه ذهب الفلاسفة
المتقدمون والمحدثون وهي متفاوتة عندهم في الحدوث تقدما وتأخرا
وجاء في حديث رواه الحاكم وصححه عن ابن عباس إن أول جبل أبو
قبيس وفي كيفية حدوثها منذ حدثت خلاف عندهم وقد يتلاشى ما حدث
منها بطول الزمان:
إن الجديدين إذا ما استو ... ليا على جديد أسلماه للبلى
وربما يشاهد حدوث بعض تلاع حجرية من انجماد بعض المياه واستشكل
احتياجها للإرساء بالجبال مع طلبها للمركز بثقلها المطلق،
وأجيب بأنه قد علم الله تعالى أنها ستكون ويكون عليها من
الأثقال ما يكون، ومن المعلوم أنها حينئذ يكون لها مركزان مركز
حجم ومركز ثقل والذي ينطبق منهما على مركز العالم إنما هو مركز
الثقل فيلزم من تحرك ثقيل إلى جهة المشرق أو المغرب مثلا عليها
تحركها لاختلاف مركز ثقلها ولزوم انطباقه على مركز العالم
فيحصل الميد ولم تكن إذ ذاك بحيث لا يكون لما يكون عليها من
أثقال سكنتها قدر يحس به فوضعت عليها الجبال وانطبق مركز ثقلها
على مركز العالم وصار مجموع الأرض والجبال بحيث لا يظهر
للمتحرك بعد قدر يحس به. وقيل: إنها كانت لخفتها بحيث يحركها
أمواج البحر المحيط بها فيحصل الميد فثقلت بالجبال مع ما في
الجبال من المنافع الجمة التي لم تخلق الأرض لأجلها بحيث لا
تحركها الأمواج. وتمام الكلام في ذلك حسبما كنا واقفين عليه قد
مر فتذكر. وحكي عن بعض أن جعلها كذلك بمعنى جعلها سببا لانتظام
أهل الأرض بما أودع فيها من المنافع ولولاها لمادت بهم أي لما
تهيأت
(15/205)
للانتفاع بها ولاختل أمر سكناهم إياها وهو
تأويل مناف للظواهر لا يحتاج إليه ما لم يقم الدليل القطعي على
محالية إرادة الظاهر. نعم قيل: إن هذا أقرب للتقرير فإن جعلها
أوتادا بهذا المعنى أظهر من جعله كذلك بذلك المعنى وأقرب إلى
العلم به، وربما يقال إنه أوفق لترك إعادة العامل ومن لا يراه
يجعل النكتة فيه قوة ما بين الأرض والجبال من الاشتراك
والارتباط فافهم. وَخَلَقْناكُمْ عطف على المضارع المنفي بلم
داخل في حكمه فإنه في قوة إما جعلنا إلخ أو على ما يقتضيه
الإنكار التقريري فإنه في قوة أن يقال قد جعلنا إلخ والالتفات
إلى الخطاب هنا بناء على القراءة المشهورة في سَيَعْلَمُونَ
للمبالغة في الإلزام والتبكيت أَزْواجاً قال الزجاج وغيره
مزدوجين ذكرا وأنثى ليتسنى التناسل وينتظم أمر المعاش، وقيل:
أصنافا في اللون والصورة واللسان، وقيل: يجوز أن يكون المراد
من الخلق أزواجا الخلق من منيين مني الرجل ومني المرأة خلقنا
كل واحد منكم أزواجا باعتبار مادته التي هي عبارة عن منيين
فيكون خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً من قبيل مقابلة الجمع بالجمع
وتوزيع الأفراد على الأفراد وهو خلاف الظاهر جدا ولا داعي إليه
وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً أي كالسبات ففي الكلام تشبيه
بليغ كما تقدم، والمراد بالسبات الموت وقد ورد في اللغة بهذا
المعنى ووجه تشبيه النوم به ظاهر وعلى ذلك قوله تعالى وَهُوَ
الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام: 60] وهو على
بناء الأدواء مشتق من السبت بمعنى القطع لما فيه من قطع العمل
والحركة، ويقال: سبت شعره إذا حلقه وأنفه إذا اصطلمه. وزعم ابن
الأنباري كما في الدرر أنه لم يسمع السبت بمعنى القطع وكأنه
كان أصم. وقيل:
أصل السبت التمدد كالبسط يقال سبت الشعر إذا حل عقاصه وعليه
تفسير السبات بالنوم الطويل الممتد والامتنان به لما فيه من
عدم الانزعاج، وجوز بعضهم حمله على النوم الخفيف بناء على ما
في القاموس من إطلاقه عليه على أن المعنى جعلنا نومكم نوما
خفيفا غير ممتد فيختل به أمر معاشكم ومعادكم وفي البحر سباتا
أي سكونا وراحة. يقال: سبت الرجل إذا استراح. وزعم ابن
الأنباري أيضا عدم سماع سبت بهذا المعنى ورد عليه المرتضى بأنه
أريد الراحة اللازمة للنوم وقطع الإحساس فإن في ذلك راحة القوى
الحيوانية مما عراها في اليقظة من الكلال، ومنه سمّي اليوم
المعروف سبتا لفراغ وراحة لهم فيه، وقيل: سمّي بذلك لأن الله
تعالى ابتدأ بخلق السماوات والأرض يوم الأحد فخلقها في ستة
أيام كما ذكر عز وجل فقطع عمله سبحانه يوم السبت فسمّي بذلك
واختار المحققون كون السبات هنا بمعنى الموت لأنه أنسب بالمقام
كما لا يخفى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ الذي يقع فيه النوم غالبا
لِباساً يستركم بظلامه كما يستركم اللباس، ولعل المراد بهذا
اللباس المشبه به ما يستتر به عند النوم من اللحاف ونحوه فإن
شبه الليل به أكمل واعتباره في تحقيق المقصد أدخل. واختار غير
واحد إرادة الأعم وأن المعنى جعلناه ساترا لكم عن العيون إذا
أردتم هربا من عدو أو بياتا له أو خفاء ما لا تحبون الاطّلاع
عليه من كثير من الأمور. وقد عد المتنبي من نعم الليل البيات
على الأعداء والفوز بزيارة المحبوب واللقاء مكذبا ما اشتهر من
مذهب المانوية من أن الخير منسوب إلى النور والشر إلى الظلمة
بالمعنى المعروف فقال:
وكم لظلام الليل عندي من يد ... تخبر أن المانوية تكذب
وقاك ردى الأعداء تسري إليهم ... وزارك فيه ذو الدلال المحجب
وقال بعضهم: يمكن أن يحمل كون الليل كاللباس على كونه كاللباس
لليوم في سهولة إخراجه ومنه ولا يخفى بعده ومما يقضي منه العجب
استدلال بعضهم بهذه الآية على أن من صلّى عريانا في ليل أو
ظلمة فصلاته صحيحة.
(15/206)
ولعمري لقد أتى بعري عن لباس التحقيق كما
لا تخفى على من أشرق عليه ضياء الحق الحقيق وَجَعَلْنَا
النَّهارَ مَعاشاً مصدر ميمي بمعنى العيش وهو الحياة المختصة
بالحيوان على ما قال الراغب دون العامة لحياة الملك مثلا ووقع
هنا ظرفا كما قيل في نحو: أتيتك خفوق النجم وطلوع الفجر، وجوز
أن يكون اسم زمان وتعقب بأنه لم يثبت مجيئه كذلك في اللغة.
والمعنى وجعلنا النهار وقت معاش أي حياة تبعثون فيه من نومكم
الذي هو أخو الموت وكأنه لما جعل سبحانه النوم موتا مجازا جعل
جل شأنه اليقظة معاشا كذلك لكن أوثر النهار ليناسب المتوسط.
وقيل: المعنى وجعلنا النهار وقت معاش تتقلبون فيه لتحصيل ما
تعيشون به وهو أنسب بجعل السبات فيما تقدم بمعنى القطع عن
الحركة على ما قيل، ولا يخفى حسن ذكر جعل الليل لباسا بعد جعل
النوم سباتا وهو مشير إلى حكمة جعل النوم ليلا أيضا لأن النائم
معطل الحواس فكان محتاجا لساتر عما يضره فهو أحوج ما يكون
للدثار وضرب خيام الاستتار. وفي الكشف أن المطابقة بين قوله
تعالى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وقوله سبحانه وَجَعَلْنَا
النَّهارَ مَعاشاً مصرحة وفيه مطابقة معنوية أيضا مع قوله
تعالى وجعلنا النوم من حيث إن النهار وقت اليقظة والمعاش في
مقابلة السبات لأنه حركة الحيّ ومنه علم أن قوله تعالى
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً غير مستطرد ووجه النظم أنه لما
ذكر خلقهم أزواجا استوفى أحوالهم مقترنين ومفترقين اه. وفيه
تعريض بالطيبي حيث زعم الاستطراد إذا أريد بالمعاش اليقظة
وبالسبات الموت وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً أي سبع
سماوات قوية الخلق محكمة لا يسقط منها ما يمنعكم المعاش
والتعبير عن خلقها بالبناء للإشارة إلى تشبيهها بالقباب
المبنية على سكنتها. وقيل: للإشارة إلى أن خلقها على سبيل
التدريج وليس بذاك. وفيه أن السماء خيمية لا سطح مستو وفي
الآثار ما يشهد له ولا يأباه جعلنا سقفا في آية أخرى. وقد صح
في العرس ما يشهد بخيمية أيضا والفلاسفة السالفون على
استدارتها ويطلقون عليها اسم الفلك واستدلوا على ذلك حسب
أصولهم بعد الاستدلال على استدارة السطح الظاهر من الأرض ولا
يكاد يتم لهم دليل عليه قالوا الذي يدل على استدارة السماء هو
أنه متى قصدنا عدة مساكن على خط واحد من عرض الأرض وحصلنا
الكواكب المارة على سمت الرأس في كل واحدة منها ثم اعتبرنا
أبعاد ممرات تلك الكواكب في دائرة نصف النهار بعضها من بعض
وجدناها على نسب المسافات الأرضية بين تلك المساكن. كذلك وجدنا
ارتفاع القطب فيها متفاضلا بمثل تلك النسب فتحدب السماء في
العرش مشابه لتحدب الأرض فيه، لكن هذا التشابه موجود في كل خط
من خطوط العرض وكذا في كل خط من خطوط الطول، فسطح السماء بأسره
مواز لسطح الظاهر من الأرض بأسره وهذا السطح مستدير حسّا فكذا
سطح السماء الموازي له وأيضا أصحاب الأرصاد دونوا مقادير أجرام
الكواكب وأبعاد ما بينها في الأماكن المختلفة في وقت واحد كما
في أنصاف نهار تلك الأماكن مثلا متساوية وهذا يدل على تساوي
أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار المستلزم لتساوي أبعادها
عن مركز العالم لاستدارة الأرض المستلزم لكون السماء كرية،
وزعموا أن هذين أقرب ما يتمسك بهما في الاستدارة من حيث النظر
التعليمي وفي كل مناقشة أما الثاني فالمناقشة فيه أنه إنما يصح
لو كان الفلك عندهم ساكنا والكواكب متحركا إذ لو كان السماء
متحركا جاز أن يكون مربعا ويكون مساواة أبعاد مراكز الكواكب عن
مناظر الأبصار وتساوي مقادير الأجرام للكواكب حاصلا. وأما
الأول فالمناقشة فيه أنه إنما يصح لو كان الاعتدال المذكور
موجودا في كل خط من خطوط الطول والعرض وهو غير معلوم، وأما غير
ما ذكر من أدلتهم فمذكور مع ما فيه في نهاية الإدراك في دراية
الأفلاك فارجع إليه إن أردته. بقي هاهنا بحث وهو أن العطف إذا
كان على الفعل المنفي بلم داخلا في حكمه يلزم أن يكون بناء سبع
سماوات شداد فوق معلوما للمخاطبين وهم مشركو مكة
المنكرون للعبث كما سمعت ليتأتى تقريرهم به كسائر الأمور
السابقة واللاحقة، فيقال: إن كون السماوات سبعا مما لا يدرك
بالمشاهدة وهم المكذبون بالنبيّ صلّى الله عليه وسلم فلا
يصدقونه بمثل ذلك مما معرفته بحسب الظاهر إنما هي من طريق
الوحي،
(15/207)
وأجيب بأنهم علموا ذلك بواسطة مشاهدتهم
اختلاف حركات السيارات السبع مع اختلاف أبعادها بعضها عن بعض
وذلك أنهم علموا السيارات واختلاف حركاتها وعلموا أن بعضها فوق
بعض لخسف بعضها بعضا فقالوا في بادىء النظر بسبع سماوات كل
سماء لكوكب من هاتك الكواكب ولا يلزمنا البحث عما قالوا
الثوابت وفي المحرك لها وللسبع بالحركة اليومية إذ هو وراء ما
نحن فيه. واعترض بأن هذا لا يتم إلّا إذا كانوا قائلين بأن
السماء عبارة عن الفلك وأنها تتحرك على الاستدارة ويكون أوجها
حضيضا وحضيضها أوجا، ولعلهم لا يقولون بذلك وإنما يقولون كبعض
السلف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن السماء ساكنة والكوكب
متحرك والفلك إنما هو مجراه وحينئذ فيجوز أن تكون السبع على
اختلاف حركاتها وأبعادها في ثخن سماء واحدة تجري في أفلاك
ومجار لها على الوجه المحسوس ويجوز أيضا غير ذلك كما لا يخفى
وأيضا لو كان علمهم بذلك مما ذكر لقالوا بالتداوير ونحوها أيضا
كما قال بذلك أهل الهيئة السالفون لأن اختلاف الحركات يقتضيه
بزعمهم لا سيما في المتحيرة، ولو كان العرب قائلين به لوقع في
أشعارهم بل لا يبعد أنه لو ذكر لهم ذاكر التداوير والمتممات
الحاوية والمحوية مثلا لنسبوه إلى ما يكره. وقيل إنهم ورثوا
علم ذلك عن أسلافهم السامعين له ممن يعتقدون صدقه كإسماعيل
عليه السلام ويجوز أن يكونوا سمعوه من أهل الكتاب ولما لم يروه
منافيا لما هم عليه اعتقدوه ويكفي في صحة التقرير هذا المقدار
من العلم وتعقب بأنه على هذا لا تنتظم المتعاطفات المقرر بها
في سلك واحد من العلم والأمر فيه سهل، وقيل: نزلوا منزلة
العالمين به لظهور دليله وهو إخبار من دلت المعجزة على صدقه به
وفيه بعد. وقيل الخطاب للناس مؤمنيهم ومشركيهم وغلب المؤمنون
على غيرهم في التقرير المقتضي لسابقية العلم وهو كما ترى.
واختار بعض أن العطف على ما يقتضيه الإنكار التقريري فيكون
الكلام في قوة قد جعلنا الأرض إلى آخره وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ
سَبْعاً شِداداً وهو حينئذ ابتداء إخبار منه عزّ وجلّ بالبناء
المذكور فلا يقتضي سابقية علم وتعقب بأن العطف على الفعل
المنفي ب «لم» أوفق بالاستدلال بالمذكورات على صحة البعث كما
لا يخفى فتأمل. وتقديم الظرف على المفعول للتشويق إنه مع
مراعاة الفواصل.
وَجَعَلْنا أي أنشأنا وأبدعنا سِراجاً وَهَّاجاً مشرقا متلألئا
من وهجت النار إذا أضاءت أو بالغا في الحرارة من الوهج.
والمراد به الشمس والتعبير عنها بالسراج من روادف التعبير عن
خلق السماوات بالبناء.
ونصب سِراجاً على المفعولية ووَهَّاجاً على الوصفية له، وجوز
بعضهم أن يكونا مفعولين للجعل على أنه هنا ما يتعدى إليهما،
وتعقب بأنه مخالف للظاهر للتنكير فيهما وإن قيل السراج الشمس
وهي لانحصارها في فرد كالمعرفة. واختلف في موضع الجعل والمشهور
أنه في السماء الرابعة ولم نر فيه أثرا سوى ما في البحر من عبد
الله بن عمرو بن العاص. قال: الشمس في السماء الرابعة إلينا
ظهرها ولهبها يضطرم علوا.
والمذكور في كتب القوم أنهم جعلوا سبعة أفلاك للسيارات السبع
على ترتيب خسف بعضها بعضا أقصاها لزحل والذي تحته للمشتري ثم
للمريخ والأدنى للقمر والذي فوقه لعطارد ثم للزهرة إذ وجدوا
القمر يكسف الست من السيارات وكثيرا من الثوابت المحاذية
لطريقته في ممر البروج، وعلى هذا الترتيب وجدوا الأدنى يكسف
الأعلى والثوابت تنكسف بالكل ويعلم الكاسف من المنكسف باختلاف
اللون فأيهما ظهر لونه عند الكسف فهو كاسف، وأيهما خفي لونه
فهو منكسف. وبقي الشك في أمر الشمس إذ لم يعرف انكساف شيء من
الكواكب بها لاضمحلال نورها في ضيائها عند القرب منها ولا
انكسافها بشيء من الكواكب غير القمر، فذهب بعض القدماء إلى أن
فلكي الزهرة وعطارد فوق فلكها مستدلين عليه بأنهما لا يكسفاتها
كما يكسفها القمر وهو باطل إذ من شرط كسف السافل العالي أن
يكونا معا والبصر على خط واحد مستقيم وإلّا لم
(15/208)
يكسفه كما في أكثر اجتماعات القمر وإذا كان
كذلك فمن المحتمل أن يكون مدارهما بين الشمس والأبصار ولأن
جرميهما عندهم صغيران غير مظلمين كجرم القمر حتى يكسفاها ولأنه
إذا كسف القمر من جرم الشمس ما مساحته مساوية لجرم أحد هذين
الكوكبين أو أكثر لا يظهر المنكسف للأبصار على ما نص عليه
بطليموس في الاقتصاص. وذهب بعض من تقادم عهدهم إلى أنهما تحت
فلك الشمس وإن لم تكسف بهما استحسانا لما في ذلك من حسن
الترتيب وجودة النظام على ما بيّن في موضعه ومال إليه بطليموس.
قال في المجسطي: ونحن نرى ترتيب من تقادم عهده أقرب إلى
الإقناع لأنه أشبه بالأمر الطبيعي لتوسط الشمس بين ما يبعد
عنها كل البعد وبين ما لا يعبد عنها إلا يسيرا، ثم قوي عزمه
لما رأى بعد الشمس المعلوم من الأرض مناسبا لهذا الموضع لأن
لما وجد بين أبعد بعد القمر وأقرب قرب الشمس بعدا يمكن أن يوجد
فيه فلكا الزهرة وعطارد وأبعادهما المختلفة. قال في الاقتصاص:
مثل هذا الفضاء لا يحسن أن يترك عطلا ولا يحسن أن يكون فيه
المريخ فضلا عن غيره فليكونا فيه وتأكد هذا عند بعض المتأخرين
بأنه شوهدت الزهرة على قرص الشمس في وقتين بينهما نيف وعشرون
سنة وكانت أول الحالين في ذروة التدوير، وفي الثاني في أسفله،
ويبطل به ما ظن من كون عطارد والزهرة مع الشمس في كرة ومركز
تدويرهما لاستحالة أن ترى الزهرة في الذروة على هذا الوجه وهذه
أمور ضعيفة بعضها خطابي إقناعي وبعضها مبين ما فيه في محله.
وقد زعم بعض الناس أنه كما وجد في وجه القمر محو فكذا في وجه
الشمس فوق مركزها بقليل نقطة سوداء، وأهل الإرصاد اليوم على ما
سمعنا من غير واحد جازمون بأن في قرصها سوادا وعلامات مختلفة
ولهم في ذلك كلام مذكور في كتبهم وعليه ففي تشبيههما بالسراج
من الحسن ما فيه وعن بعضهم أن النور كخيمة عليها ورأيت في بعض
كتبهم أنه ينشق من حوالى جرمها والكلام في مقدار جرمها وبعدها
عن الأرض عند كل المتقدمين والمعاصرين من الفلاسفة مما لا حاجة
لنا به في هذا المقام مع ما في ذلك من الاختلاف المفضي بيانه
بما له وعليه إلى مزيد تطويل وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ
هي السحائب على ما روي عن ابن عباس وأبي العالية والربيع
والضحاك ولما كانت معصرة اسم مفعول لا معصرة اسم فاعل قيل إنها
جمع معصرة من أعصر على أن الهمزة فيه للحينونة أي حانت وشارفت
أن تعصرها الرياح فتمطر والأفعال يكون بهذا المعنى كثيرا كما
جزر إذا حان وقت جزاره، وأحصد إذا شارفت وقت حصاده ومنه أعصرت
الجارية إذا دنت أن تحيض. قال أبو النجم العجلي:
تمشي الهوينا مائلا خمارها ... قد عصرت أو قد دنا إعصارها
وجوز على تقدير كون الهمزة للحينونة أن يكون المعنى حان لها أن
تعصر أي تغيث، ومنه العاصر المغيث ولذا قال ابن كيسان: سميت
السحائب بذلك لأنها تغيث فهي من العصرة كأنه في الأصل بمعنى
حان أن تعصر بتخييل أن الدم يحصل منها بالعصر، وقيل: إنها جمع
لذلك أيضا إلا أن الهمزة لصيرورة الفاعل ذا المأخذ كأيسر وأعسر
وألحم أي صار ذا يسر وصار ذا عسر وصار ذا لحم. وعن ابن عباس
أيضا ومجاهد وقتادة أنه الرياح لأنها تعصر السحاب فيمطر،
وفسّرها بعضهم بالرياح ذوات الأعاصير على أن صيغة اسم الفاعل
للنسبة إلّا الإعصار بالكسر وهي ريح تثير سحابا ذا رعد وبرق
ويعتبر التجريد عليه على ما قيل والمازني اعتبر النسبة أيضا
إلّا أنه قال: المعصرات السحائب ذوات الأعاصير فإنها لا بد أن
تمطر معها، وأيد تفسيرها بالرياح بقراءة ابن الزبير وابن عباس
وأخيه الفضل وعبد الله بن يزيد وعكرمة وقتادة «بالمعصرات» بباء
السببية والآلية
(15/209)
لِنُخْرِجَ بِهِ
حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ
يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي
الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ
فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ
سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21)
لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا
حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ
كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)
وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا
يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ
رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ
مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ
وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ
أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ
الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ
مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ
يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ
الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
فإنها ظاهرة في الرياح فإن بها ينزل المال
من السحاب ولهذه القراءة جعل بعضهم من في قراءة الجمهور وتفسير
الْمُعْصِراتِ بالرياح للتعليل. وذهب غير واحد إلى أنها
للتعليل ابتدائية فإن السحاب كالمبدأ الفاعل للإنزال وتعقب بأن
ورود من كذلك قليل وعن أبي الحسن وابن جبير وزيد بن أسلم
ومقاتل وقتادة أيضا أنها السماوات، وتعقب بأن السماء لا ينزل
منها الماء بالعصر فقيل في تأويله أن الماء ينزل من السماء إلى
السحاب فكأن السماوات يعصرن أي يحملن على عصر الرياح السحاب،
ويمكن منه وتعقب بأنه مع بعده إنما يتم لو جاء المعصر بمعنى
العاصر أي الحامل على العصر، ولو قيل المراد بالمعصر الذي حان
له أن يعصل كان تكلفا على تكلف والذي في الكشف أن الهمزة على
التأويل المذكور للتعدية فتدبر ولا تغفل ماءً ثَجَّاجاً أي
منصبا بكثرة، يقال: ثج الماء إذا سال بكثرة، وثجه أي أساله
فثجّ. ورد لازما ومتعديا واختير جعل ما في النظم الكريم من
اللازم لأنه الأكثر في الاستعمال وجعله الزجاج من المتعدي كأن
الماء المنزل لكثرته يصب نفسه ومن المتعدي ما في
قوله صلّى الله عليه وسلم: «أفضل الحج العج والثج»
أي رفع الصوت بالتلبية وصب ماء الهدي والمراد أفضل أعمال الحج
التلبية والنحر ولا يأبى الكثرة كون الماء من المعصرات وظاهره
أنه بالعصر وهو لا يحصل منه إلّا القليل لأن ذلك غير مسلم ولو
سلم فالقلة نسبية. وقرأ الأعرج «ثجاجا» بجيم ثم حاء مهملة
ومثاجج الماء: مصابه.
لِنُخْرِجَ بِهِ أي بذلك الماء وهو على ظاهره عند السلف ومن
اقتدى بهم وقالت الأشاعرة أي عنده حَبًّا وَنَباتاً ما يقتات
به كالحنطة والشعير ويعتلف كالحشيش والتبن وتقديم الحب مع
تأخره عن النبات في الإخراج لأصالته وشرفه لأن غالبه غذاء
الإنسان وَجَنَّاتٍ جمع جنة وهي كل بستان ذي شجر يستره بأشجاره
الأرض من الجن وهو الستر. وقال الفراء: الجنة ما فيه النخيل
والفردوس ما فيه الكرم وقد تسمى الأشجار الساترة جنة وعليه حمل
قوله زهير:
من النواضح تسقي جنة سحقا وهو المراد هنا وقوله تعالى
أَلْفافاً أي ملتفة تداخل بعضها ببعض قيل لا واحد له كالأوزاع
والأخياف للجماعات المتفرقة المختلفة اختاره الزمخشري. وقال
ابن قتيبة: جمع لف بضم اللام جمع لفاء فهو جمع
(15/210)
الجمع، واستبعد بأنه لم يجىء في نظائره ذلك
فقد جاء خضر جمع خضراء وحمر جمع حمراء ولم يجىء أخضار جمع خضر
ولا أحمار جمع حمر وجمع الجمع لا ينقاس ووجود نظيره في
المفردات لا يكفي كذا قيل. وقال الكسائي جمع لفيف بمعنى ملفوف
وفعيل يجمع على أفعال كشريف وأشراف وإنما اختلف النحاة في كونه
جمعا لفاعل وفي الكشاف لو قيل هو جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد
لكان قولا وجيها انتهى. وإنما يقدر حذف الزوائد وهو الذي يسميه
النحاة في مثل ذلك ترخيما لأن قياس جمع ملتفة ملتفات لا ألفاف
واعترضه في الكشف فقال فيه إنه لا نظير له لأن تصغير الترخيم
ثابت (1) أما جمعه فلا لكن قيل إن هذا غير مسلم فإنه وقع في
كلامهم ولم يتعرضوا له لقلته والحق أنه وجه متكلف وجمهور
اللغويين على أنه جمع لف بالكسر وهو صفة مشبهة بمعنى ملفوف
وفعل يجمع على أفعال باطراد كجذع وأجذاع وعن صاحب الاقليد أنه
قال: أنشدني الحسن بن علي الطوسي:
جنة لف وعيش مغدق ... وندامى كلهم بيض زهر
وجوز في القاموس أن يكون جمع لف بالفتح هذا وفيما ذكر من
أفعاله تعالى شأنه دلالة على صحة البعث وحقيته من أوجه ثلاثة
على ما قيل الأول باعتبار قدرته عزّ وجلّ فإن من قدر على إنشاء
تلك الأمور البديعة من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه كان
على الإعادة أقدر وأقوى. الثاني باعتبار علمه وحكمته فإن من
أبدع هذه المصنوعات على نمط رائع مستتبع لغايات جليلة ومنافع
جميلة عائدة إلى الخلق يستحيل حكمة أن لا يجعل لها عاقبة
الثالث باعتبار نفس الفعل فإن اليقظة بعد النوم أنموذج للبعث
بعد الموت يشاهده كل واحد وكذا إخراج الحب والنبات من الأرض
يعاين كل حين فكأنه قيل قد فعلنا أو ألم نفعل هذه الأفعال
الآفاقية الدالة بفنون الدلالة على حقية البعث الموجبة للإيمان
به فما لكم تخوضون فيه إنكارا وتسألون عنه استهزاء. وقوله
تعالى إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً شروع في بيان سر
تأخير ما يتساءلون عنه ويستعجلون به قائلين مَتى هذَا
الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [النمل: 71، سبأ: 39، يس:
48، الملك: 25] ونوع تفصيل لكيفية وقوعه وما سيلقونه عند ذلك
من فنون العذاب حسبما جرى به الوعيد إجمالا. وقال بعض الأجلة
إنه لما أثبت سبحانه صحة البعث كان مظنة السؤال عن وقته فقيل:
إِنَّ إلخ وأكد لأنه مما ارتابوا فيه وليس بذاك أي إن يوم فصل
الله تعالى شأنه بين الخلائق كان في علمه عز وجل ميقاتا
وميعادا لبعث الأولين والآخرين وما يترتب عليه من الجزاء ثوابا
وعقابا لا يكاد يتخطاه بالتقدم والتأخر وقيل حدا توقت به
الدنيا وتنتهي إليه أو حدا للخلائق ينتهون إليه لتمييز أحوالهم
والأول أوفق بالمقام على أن الدنيا تنتهي على ما قيل عند
النفخة الأولى وأيّا ما كان فالمضي في كان باعتبار العلم وجوز
أن يكون بمعنى يكون وعبر عن المستقبل بالماضي لتحقق وقوعه
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ أي النفخة الثانية ويَوْمَ بدل
من يَوْمَ الْفَصْلِ أو عطف بيان مفيد لزيادة تفخيمه وتهويله
ولا ضير في تأخر الفصل عن النفخ فإنه زمان ممتد يقع في مبدئه
النفخ وفي بقيته الفصل ومبادئه وآثاره وتقدم الكلام في الصور.
وقرأ أبو عياض «في الصّور» بفتح الواو جمع صورة وقد مر الكلام
في ذلك أيضا.
والفاء في قوله تعالى فَتَأْتُونَ فصيحة تفصح عن جملة قد حذفت
ثقة بدلالة الحال عليها وإيذانا بغاية
__________
(1) قوله أما جمعه فلا واللواقح والطوائح ليسا منه على ما قيل
اه منه.
(15/211)
سرعة الإتيان كما في قوله تعالى فقلنا
اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشعراء: 63] أي
فتحيون فتبعثون من قبوركم فتأتون إلى الموقف عقيب ذلك من غير
لبث أصلا أَفْواجاً أي أمما كل أمة بإمامها كما قال سبحانه
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء: 71] أو
زمرا وجماعات مختلفة الأحوال متباينة الأوضاع حسب اختلاف
الأعمال وتباينها. واستدل لهذا بما
خرج ابن مردويه عن البراء بن عازب أن معاذ بن جبل قال: يا رسول
الله ما قول الله تعالى يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا؟
فقال: «يا معاذ سألت عن عظيم من الأمور» ثم أرسل عينيه ثم قال
عليه الصلاة والسلام: «عشرة أصناف قد ميّزهم عز وجل من جماعة
المسلمين فبدل صورهم، فبعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة
الخنازير، وبعضهم منكسين أرجلهم فوق وجوههم أسفل يسحبون عليها،
وبعضهم عمي يترددون، وبعضهم صمّ بكم لا يعقلون، وبعضهم يمضغون
ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم لعابا
يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم
مصلبون على جذوع من نار، وبعضهم أشد نتنا من الجيف، وبعضهم
ملبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم، فأما الذين على
صورة القردة فالقتات من الناس، وأما الذين على صورة الخنازير
فأكلة السحت، وأما المنكسون على وجوههم فأكلة الربا، وأما
العمي فالذين يجورون في الحكم، وأما الصم البكم فالمعجبون
بأعمالهم، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين
خالف أقوالهم أعمالهم، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم
الذين يؤذون الجيران، وأما المصلبون على جذوع من نار فالساعون
بالناس إلى السلطان، وأما الذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين
يتمتعون بالشهوات واللذات ويمنعون حق الله تعالى من أموالهم،
وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والخيلاء والفخر»
. وهذا كما قال ابن حجر حديث موضوع وآثار الوضع لائحة عليه،
وعليه قيل لا بد من التغليب في قوله تعالى «تأتون» . إذ لا
يمكن الإتيان للمصلوب والمسحوب على الوجه ولا لمن قطعت يداه
ورجلاه، وتعقب بأنه ليس بشيء فإن أمور الآخرة لا تقاس على أمور
الدنيا، والقادر على البعث قادر على جعلهم ماشين بلا أيد وأرجل
وأن تمشي بهم عمد النار التي صلبوا عليها مع أنه لا يلزم أن
يأتوا بأنفسهم لجواز أن تأتي بهم الزبانية وَفُتِحَتِ
السَّماءُ عطف على يُنْفَخُ على ما قيل وصيغة الماضي للدلالة
على التحقق. وعن الزمخشري أنه معطوف على فَتَأْتُونَ وليس بشرط
أن يتوافقا في الزمان كما يظن من ليس بنحوي وأقره في الكشف
وقال: الشرط في حسنه أن يكون مقربا من الحال أو يكون المضارع
حكاية حال ماضية وما نحن فيه مضارع جيء به بلفظ الماضي تفخيما
وتحقيقا لوقوعه فهو أقرب قريب منه. ولو جعل حالا على معنى
فتأتون وقد فتحت السماء لكان وجها. وقرأ الجمهور أي من عدا
الكوفيين «فتحت» بالتشديد قيل وهو الأنسب بقوله تعالى فَكانَتْ
أَبْواباً وفسر الفتح بالشق لقوله تعالى إِذَا السَّماءُ
انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1] وقوله سبحانه إِذَا السَّماءُ
انْفَطَرَتْ [الانفطار: 1] إلى غير ذلك والقرآن يفسر بعضه
بعضا. وجاء الفتح بهذا المعنى كفتح الجسور وما ضاهاها ولعل
نكتة التعبير به عنه الإشارة إلى كمال قدرته تعالى حتى كان شق
هذا الجرم العظيم كفتح الباب سهولة وسرعة وكان معنى صار
ولدلالتها على الانتقال من حال إلى أخرى وكون السماء بالشق لا
تصير أبوابا حقيقة قالوا إن الكلام على التشبيه البليغ أي
فصارت شقوقها لسعتها كالأبواب أو فصارت من كثرة الشقوق كأن
الكل أبواب أو بتقدير مضاف أي فصارت ذات أبواب، وقيل الفتح على
ظاهره الكلام بتقدير مضاف إلى السماء أي فتحت أبواب السماء
فصارت كأن كلها أبواب ويجامع ذلك شقها فتشق وتفتح أبوابها،
وتعقب بأن شقها لنزول الملائكة كما قال تعالى وَيَوْمَ
تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ
تَنْزِيلًا [الفرقان: 25] فإذا شققت لا يحتاج لفتح الأبواب
وأيضا فتح أبوابها ليس
(15/212)
من خواص يوم الفصل وفيه بحث نعم إن الوجه
الأول أولى وقيل المعنى بفتح مكان السماء بالكشط فتصير كلها
طرقا لا يسدها شيء وفيه بعد. وعلى ما تقدم في الآية رد على
زاعمي امتناع الخرق على السماء وفيها على هذا رد لزاعمي كشطها
كما هو المشهور عن الفلاسفة المتقدمين وإن حقق الملا صدرا في
الأسفار أن أساطنتهم على خلاف ذلك والفلاسفة اليوم ينفون
السماء المعروفة عند المسلمين ولم يأتوا بشيء تؤول له الآيات
والأخبار الصحيحة في صفتها كما لا يخفى على الذكي المنصف.
وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ أي في الجو على هيئتها بعد تفتتها وبعد
قلعها من مقارها كما يعرب عنه قوله تعالى وَتَرَى الْجِبالَ
تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل:
88] وأدمج فيه تشبيه الجبال بحبال السحاب في تخلخل الأجزاء
وانتفاشها كما ينطق به قوله تعالى وَتَكُونُ الْجِبالُ
كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة:
5] فَكانَتْ سَراباً أي فصارت بعد تسييرها مثل سراب فترى بعد
تفتتها وارتفاعها في الهواء كأنها جبال وليست بجبال بل غبار
غليظ متراكم يرى من بعيد كأنه جبل كالسراب يرى كأنه بحر مثلا
وليس به فالكلام على التشبيه البليغ والجامع أن كلّا من الجبال
والسراب يرى على كل شيء وليس هو بذلك الشيء، وجوز أن يكون وجه
الشبه التخلخل إذ تكون بعد تسييرها غبارا منتشرا كما قال تعالى
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا
[الواقعة: 5، 6] والمستفاد من الأزهار البديعة في علم الطبيعة
لمحمد الهراوي أن السراب هواء تسخنت طبقته السفلى التي تلي
الأرض لتسخن الأرض من حر الشمس فتخلخلت وصعد جزء منها إلى ما
فوقها من الطبقات فكان أكثف مما تحته وخرج بذلك التسخن عن
موقعه الطبيعي من الأرض ولانعكاس الأشعة الضوئية وانكسارها فيه
على وجه مخصوص مبين في الكتاب المذكور مع انعكاس لون السماء
يظن ماء وترى فيه صورة الشيء منقلبة، وقد ترى فيه صور سابحة
كقصور وعمد ومساكن جميلة مستغربة وأشباح سائرة تتغير هيئتها في
كل لحظة وتنتقل عن محالها ثم تزول وما هي إلّا صور حاصلة من
انعكاس صور مرئية بعيدة جدا أو متراكبة في طبقات الهواء
المختلفة الكثافة فاعتبار التخلخل فقط في وجه الشبه لا يخلو عن
نظر وأيا ما كان فهذا بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق فالله
عز وجل يسير الجبال ويجعلها هباء منبثا ويسوي الأرض يومئذ كما
نطق به قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ
يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى
فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ
الدَّاعِيَ [طه: 105- 108] وقوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ
الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ
الْواحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم: 48] فإن اتّباع الداعي الذي
هو إسرافيل عليه السلام وبروز الخلق لله تعالى لا يكون إلّا
بعد النفخة الثانية، وأما اندكاك الجبال وانصداعها فعند النفخة
الأولى. وقيل: إن تسييرها وصيرورتها سرابا عند النفخة الأولى
أيضا ويأباه ظاهر الآية. نعم لو جعلت الجملة حالية أي فتأتون
أفواجا وقد سيرت الجبال فكانت سرابا لكان ذلك محتملا والظاهر
أنها تصير سرابا لتسوية الأرض ولا يبعد أن يكون فيه حكم أخرى
وقول بعضهم إنها تجري جريان الماء وتسيل سيلانه كالسراب فيزيد
ذلك في اضطراب متعطشي المحشر وغلبة شوقهم إلى الماء خلاف
الظاهر.
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً شروع في تفصيل أحكام الفصل
الذي أضيف إليه اليوم إثر بيان هوله والمرصاد اسم مكان
كالمضمار للموضع الذي تضمر فيه الخيل ومفعال يكون كذلك على ما
صرح به الراغب والجوهري وغيرهما، كما يكون اسم آلة وصفة مشبهة
للمبالغة والظاهر أنه حقيقة في الجميع أي موضع رصد وترقب ترصد
فيه خزانة النار الكفار ليعذبوهم. وقيل: ترصد فيه خزنة الجنة
المؤمنين ليحرسوهم من فيحها في
(15/213)
مجازهم عليها. وقيل: ترصد فيه الملائكة
عليهم السلام الطائفتين لتعذب (1) إحداهما وهي المؤمنة وتعذب
الأخرى وهي الكافرة وجوز أن يكون صيغة مبالغة كمتحار أي مجدة
في ترصد الكفرة لئلا يشذ منهم واحد أو مجدة في ترصد المؤمنين
لئلا يتضرر أحد منهم من فيحها أو مجدة في ترصد الطائفتين على
نحو ما سمعت آنفا، وإسناد ذلك إليها مجاز أو على سبيل التشبيه.
وفي البحر إن مِرْصاداً معنى النسب أي ذات رصد وقد يفسر
المرصاد بمطلق الطريق وهو أحد معانيه فيكون للطائفتين ومن هنا
قال الحسن كما أخرج عنه ابن جرير وابن المنذر وعبد بن حميد في
الآية، لا يدخل الجنة أحد حتى يجتاز النار. وقال قتادة كما
أخرج هؤلاء عنه أيضا اعلموا أنه لا سبيل إلى الجنة حتى تقطع
النار. وقوله تعالى لِلطَّاغِينَ أي المتجاوزين الحد فيه
الطغيان متعلق بمضمر إما نعت ل مِرْصاداً أي كائنا للطاغين
وإما حال من قوله تعالى مَآباً قدم عليه لكونه نكرة ولو تأخر
لكان صفة له أي كانت مرجعا ومأوى كائنا لهم يرجعون إليه ويأوون
لا محالة، وجوز أن يكون خبرا آخر لكانت أو متعلقا بمآبا أو
بمرصاد، وعليه قيل معنى مِرْصاداً لهم معدة لهم من قولهم أرصدت
له أي أعدت وكافأته بالخير أو بالشر ومَآباً قيل بدل من
مِرْصاداً على جميع الأوجه بدل كل من كل وقيل: هو خبر ثان
لكانت أو صفة لمرصادا، ولِلطَّاغِينَ متعلق به أو حال منه على
بعض التفاسير السابقة في كانَتْ مِرْصاداً فتأمل. وقرأ أبو عمر
والمنقري وابن يعمر «أن جهنم» بفتح الهمزة بتقدير لام جر
لتعليل قيام الساعة المفهوم من الكلام والمعنى كان ذلك لإقامة
الجزاء، وتعقب بأنه ينبغي حينئذ أن يكون «أن للمتقين» أيضا
بالفتح ومعطوفا على ما هنا لأنه بكليهما يتم التعليل بإقامة
الجزاء إلّا أن يقال ترك العطف للإشارة إلى استقلال كل من
الجزاءين في استدعاء قيام الساعة وفيه نظر لأنه بذاك يتم
الجزاء وأما نفس إقامته فيكفي في تعليلها ما ذكر على أنه لو
كان المراد فيما سبق كانت مرصادا للفريقين على ما سمعت لا
يتسنى هذا الكلام أصلا وقوله تعالى لابِثِينَ فِيها أي مقيمين
في جهنم ملازمين لها حال مقدرة من المستكن في لِلطَّاغِينَ.
وقرأ عبد الله وعلقمة وزيد بن عليّ وابن وثاب وعمرو بن شرحبيل
وابن جبير وطلحة والأعمش وحمزة وقتيبة وسورة وروح «لبثين» بغير
ألف بعد اللام وفيه من المبالغة ما ليس في لابِثِينَ وقال أبو
حيان إن فاعلا يدل على من وجد منه الفعل وفعلا يدل على من شأنه
ذلك كحاذر وحذر. وقوله تعالى أَحْقاباً ظرف للبثهم وهو وكذا
أحقب جمع حقب بالضم وبضمتين وهو على ما روي عن الحسن بزمان غير
محدود ونحوه تفسير بعض اللغويين له بالدهر. وأخرج سعيد بن
منصور والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه قال: الحقب الواحد
ثمانون سنة وأخرج نحوه البزار عن أبي هريرة وابن جرير عن ابن
عباس وابن المنذر عن ابن عمر. وروي عن جمع من السلف بيد أنهم
قالوا إن كل يوم منه أي هنا مقدار ألف سنة من سني الدنيا.
وأخرج البزار وابن مردويه والديلمي عن ابن عمر مرفوعا أنه بضع
وثمانون سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما واليوم ألف سنة مما
تعدون
وقيل أربعون سنة. وأخرج ابن مردويه عن عبادة بن الصامت فيه
حديثا مرفوعا وقال بعض اللغويين سبعون ألف سنة. واختار غير
واحد تفسيره بالدهر وأيّا ما كان فالمعنى لابِثِينَ فِيها
أَحْقاباً متتابعة كلما مضى حقب تبعه حقب آخر وإفادة التتابع
في الاستعمال بشهادة الاشتقاق فإنه من الحقيبة وهي ما يشد خلف
__________
(1) قوله لتعذب إحداهما وهي المؤمنة هكذا في خط المؤلف ولعل
صوابه لتنقذ وانظره اه.
(15/214)
الراكب والمتتابعات يكون أحدها خلف الآخر
فليس في الآية ما يدل على خروج الكفرة من النار وعدم خلودهم
فيها لمكان فهم التتابع في الاستعمال، وصيغة القلة لا تنافي
عدم التناهي إذ لا فرق بين تتابع الأحقاب الكثيرة إلى ما لا
يتناهى، وتتابع الأحقاب القليلة كذلك. وقيل: إن الصيغة هنا
مشتركة بين القلة والكثرة إذ ليس للحقب جمع كثرة فليرد بها
بمعونة المقام جمع الكثرة وتعقب بثبوت جمع الكثرة له وهو الحقب
كما ذكر الراغب والذي رأيته في مفرداته أن الحقب أي بكسر الحاء
وفتح القاف الحقبة المفسرة بثمانين عاما نعم قيل إنه ينافيه ما
ورد أنه يخرج أناس من أهل النار من النار ويقربون من الجنة حتى
إذا استنشقوا ريحها ورأوا ما أعد الله تعالى لعباده المؤمنين
فيها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيردون إلى النار
بحسرة ما رجع الأولون والآخرون بمثلها وتعقب بأنه إن صح إنما
ينافيه لو كان الخروج حقبا تاما، أما لو كان في بعض أجزاء
الحقب فلا لبقاء تتابع الأحقاب جملة سلمنا لكن هذا الإخراج
الذي يستعقب الرد لزيادة التعذيب كاللبث في النار أشد والكلام
من باب التغليب وليس فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز. ثم إن وجد
أن في الآية ما يقتضي الدلالة على التناهي والخروج من النار
ولو بعد زمان طويل فهو مفهوم معارض بالمنطوق الصريح بخلافه
كآيات الخلود. وقوله تعالى وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها
وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ [المائدة: 37] إلى غير ذلك وإن جعل
قوله تعالى لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا
حَمِيماً وَغَسَّاقاً حالا من المستكن في لابِثِينَ فيكون قيدا
للبث فيحتمل أن يلبثوا فيها أحقابا غير ذائقين إلا حميما
وغساقا، ثم يكون لهم بعد الأحقاب لبث على حال آخر من العذاب.
وكذا إن جعل أَحْقاباً منصوبا ب لا يَذُوقُونَ قيدا له إلّا أن
فيه بعدا ومثله لو جعل لا يَذُوقُونَ فِيها إلخ صفة ل
أَحْقاباً وضمير فِيها لها لا لجهنم لكنه أبعد من سابقه. وقيل
المراد بالطاغين ما يقابل المتقين فيشمل العصاة والتناهي
بالنظر إلى المجموع وهو كما ترى. وقوله مقاتل إن ذلك منسوخ
بقوله تعالى فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً فاسد
كما لا يخفى. وجوز أن يكون أَحْقاباً جمع حقب كحذر من حقب
الرجل إذا أخطأه الرزق، وحقب العام إذ قل مطره وخيره. والمراد
محرومين من النعيم وهو كناية عن كونهم معاقبين فيكون حالا من
ضمير لابِثِينَ وقوله تعالى لا يَذُوقُونَ صفة كاشفة أو جملة
مفسرة لا محل لها من الإعراب وهو على ما ذكر أولا جملة مبتدأة
خبر عنهم. والمراد بالبرد ما يروحهم وينفس عنهم حر النار فلا
ينافي أنهم قد يعذبون بالزمهرير، والشراب معروف، والحميم الماء
الشديد الحرارة، والغساق ما يقطر من جلود أهل النار من الصديد
أي لا يذوقون فيه شيئا ما من روح ينفس عنهم حر النار ولا من
شراب يسكن عطشهم لكن يذوقون ماء حارا وصديدا.
وفي الحديث «إن الرجل منهم إذا أدنى ذلك من فيه سقط فروة وجهه
حتى يبقى عظاما تقعقع»
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن البرد الشراب البارد
المستلذ. ومنه قول حسان بن ثابت:
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردا (1) يصفق بالرحيق السلسل
وقول الآخر:
أمانيّ من سعدى حسان كأنما ... سقتك بها سعدى على ظما بردا
فيكون وَلا شَراباً من نفي العام بعد الخاص. وقال أبو عبيدة
والكسائي والفضل بن خالد ومعاذ
__________
(1) قوله بردا النحويون ينشدون بيت حسان بردى بفتح الراء
والدال بعدها ألف التأنيث وهو نهر بدمشق اه منه.
(15/215)
النحوي: البرد النوم، والعرب تسميه بذلك
لأنه يبرد سورة العطش ومن كلامهم منع البرد وقال الشاعر:
فلو شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
أي وهو مجاز في ذلك عند بعض. ونقل في البحر عن كتاب اللغات في
القرآن أن البرد هو النوم بلغة هذيل. وعن ابن عباس وأبي
العالية: الغساق الزمهرير وهو على ما قيل مستثنى من بَرْداً
إلا أنه أخر لتوافق رؤوس الآي فلا تغفل. وقرأ غير واحد من
السبعة «غساقا» بالتخفيف جَزاءً أي جوزوا بذلك جزاء ف جَزاءً
مفعول مطلق منصوب بفعل مقدر وجعله خبرا آخر لكانت ليس بشيء
وقوله تعالى وِفاقاً مصدر وافقه صفة له بتقدير مضاف أي ذا وفاق
أو بتأويله باسم الفاعل أو لقصد المبالغة على ما عرف في أمثاله
وأيّا ما كان فالمراد جزاء موافقا لأعمالهم على معنى أنه
بقدرها في الشدة والضعف بحسب استحقاقهم كما يقتضيه عدله وحكمته
تعالى، والجملة من الفعل المقدر ومعموله جملة حالية أو مستأنفة
وجوز أن يكون وِفاقاً مصدرا منصوبا بفعل مقدر أيضا أي وافقها
وفاقا وهذه الجملة في موضع الصفة لجزاء. وقال الفراء: هو جمع
وفق ولا يخفى ما في جعله حينئذ صفة لجزاء من الخفاء. وقرأ أبو
حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة «وفّاقا» بكسر الواو وتشديد
الفاء من وفقه يفقه كورثه يرثه وجده موافقا لحاله. وفي الكشف
وفقه بمعنى وافقه وليس وصف الجزاء به وصفا بحال صاحبه كما لا
يخفى. وحكى ابن القوطية وفق أمره أي حسن وليس المعنى عليه
إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً تعليل لاستحقاق العذاب
المذكور أي كانوا لا يخافون أن يحاسبوا بأعمالهم وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا الناطقة بذلك أو به وبغيره مما يجب الإيمان به
كِذَّاباً أي تكذيبا مفرطا وفعال بمعنى تفعيل في مصدر فعل مصدر
شائع في كلام فصحاء العرب. وعن الفراء أنه لغة يمانية فصيحة
وقال لي أعرابي على جبل المروة يستفتيني آلحلق أحب إليك أم
القصار ومن تلك اللغة قول الشاعر:
لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي ... وعن حاجة قضاؤها من شفائيا
وقال ابن مالك في التسهيل: إنه قليل. وقرأ عليّ كرم الله تعالى
وجهه وعوف الأعرابي وأبو رجاء والأعمش وعيسى بخلاف عنه في
التخفيف. قال صاحب اللوامح: وذلك لغة اليمن يجعلون مصدر كذب
مخففا كذابا بالتخفيف مثل كتب كتابا فكذابا بمعنى كذبا وعليه
قول الأعشى:
فصدقتها وكذبتها ... والمرء ينفعه كذابه
والكلام هنا عليه من باب أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً
[نوح: 17] ففعله الثلاثي أما مقدر أي كذبوا بأياتنا وكذبوا
كذابا، أو هو مصدر للفعل المذكور باعتبار تضمنه معنى كذب
الثلاثي فإن تكذيبهم الحق الصريح يستلزم أنهم كاذبون، وأيّا ما
كان يدل على كذبهم في تكذيبهم، وجوز أن يكون بمعنى مكاذبة
كقتال بمعنى مقاتلة فهو من باب المفاعلة على معنى أن كلّا منهم
ومن المسلمين اعتقد كذب الآخر بتنزيل ترك الاعتقاد منزلة الفعل
لا على معنى أن كلّا كذب الآخر حقيقة. ويجوز أن تكون المفاعلة
مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم عن الجد والاجتهاد في الفعل، ويحتمل
الاستعارة فإنهم كانوا مبالغين في الكذب مبالغة المغالبين فيه
وعلى المعنيين كونه بمعنى الكذب وكونه بمعنى المكاذبة يجوز أن
يكون حالا بمعنى كاذبين أو مكاذبين على اعتبار المشاركة وعدم
اعتبارها. وقرأ عمر بن عبد العزيز والماجشون «كذّابا» بضم
الكاف وتشديد الذال وخرج على أنه جمع كاذب كفساق جمع فاسق
فيكون حالا أيضا وكذبوا في حال كذبهم نظير إذا جاء حين يأتي
على ما قيل في قوله طرفة:
(15/216)
إذا جاء ما لا بد منه فمرحبا ... به حين
يأتي لا كذاب ولا علل
وفيه بحث ظاهر وجوز أن يكون مفردا صيغة مبالغة ككبار وحسان
فيكون صفة لمصدر محذوف أي تكذيبا كذابا فيفيد المبالغة
والدلالة على الإفراط في الكذب لأنه كليل أليل وظلام مظلم
والإسناد فيه مجازي وَكُلَّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها
أعمالهم. وقال أبو حيان: أي كل شيء مما يقع عليه الثواب
والعقاب فهو عام مخصوص وانتصابه بمضمر يفسره أَحْصَيْناهُ أي
حفظناه وضبطناه. وقرأ أبو السمال بالرفع على الابتداء كِتاباً
مصدر مؤكد ل أَحْصَيْناهُ فإن الإحصاء والكتب يتشاركان في معنى
الضبط فأما أن يؤول أَحْصَيْناهُ بكتبناه أو كِتاباً بإحصاء،
وجوز الاحتباك على الحذفين من الطرفين أو حال بمعنى مكتوبا في
اللوح أو صحف الحفظة. والظاهر أن الكلام على حقيقته. وقال
بعضهم: الظاهر أنه تمثيل لصورة ضبط الأشياء في علمه تعالى بضبط
المحصي المجد المتقن للضبط بالكتابة وإلّا فهو عز وجل مستغن عن
الضبط بالكتابة وهذا التمثيل لتفهيمنا وإلّا فالانضباط في علمه
تعالى أجل وأعلى من أن يمثل بشيء والمشهور عند أهل السنة ما
قدمنا وليس ذلك للاحتياج وإنما هو لحكم تقصر عنها العقول
والجملة اعتراض لتأكيد الوعيد السابق بأن ذلك كائن لا محالة لا
حق بهم لأنّ معاصيهم مضبوطة مكتوبة يكفحون بها يوم الجزاء.
وقيل لتأكيد كفرهم وتكذيبهم بالآيات بأنهما محفوظان للجزاء
وليس بذاك. وقال البعض: الأوجه عندي أن كل شيء منصوب بالعطف
على اسم إن في إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً
وأَحْصَيْناهُ كِتاباً عطف على خبره والرفع على العطف على محل
اسم إن، والجمل بيان لكون الجزاء المذكور موافقا لأعمالهم لأن
الجزاء الموافق إنما يكون لصدور أفعال موجبة له عنهم وضبطها
وعدم فوتها على المجازي فالجملتان الأوليان لإفادة صدور الموجب
وهو الكفر المعبر عنه بعدم رجاء الحساب والتكذيب بالآيات لما
أن ذلك كالعلم فيه والأخيرة لإفادة الضبط وعدم الفوت أي مع
إدماج الإشارة إلى باقي المعاصي فيها وليست اعتراضا انتهى. ولا
يخفى ما فيه من التكلف فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا
عَذاباً مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات وتسبب الذوق
والأمر به في غاية الظهور. وقيل: الأظهر أنه مرتبط بقوله
تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً إلخ أي إذا ذاقوا الحميم
والغساق فيقال لهم فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إلخ. وحينئذ
الجمل بينهما اعتراضية وفيه أنه في غاية البعد مع ما فيه من
كثرة الاعتراض ومجيئه على طريق الالتفات للمبالغة لتقدير
إحضارهم وقت الأمر ليخاطبوا بالتقريع والتوبيخ وهو أعظم في
الإهانة والتحقير ولو قدر القول فيه لم يكن هناك التفات. وأخرج
عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه
عن الحسن قال: سألت أبا برزة الأسلمي عن أشد آية في كتاب الله
تعالى على أهل النار، فقال: قول الله تعالى فَذُوقُوا فَلَنْ
نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً ووجه الأشدية على ما قيل إنه تقريع
في يوم الفصل وغضب من أرحم الراحمين وتأييس لهم مع ما في لن أي
على القول بإفادتها التأبيد من أن ترك الزيادة كالمحال الذي لا
يدخل تحت الصحة. وقيل: يحتمل
أن يكون المراد أنه أشد حجج القرآن على أهل النار فإنه إذا
بلغهم في الدنيا هذا الوعيد ولم يخافوا منه فقد قبلوا العذاب
الأبدي في مقابلة الكفر فلا عذر لهم يوم القيامة في الحكم
عليهم بخلود النار، وفيه من البعد ما فيه. واستشكل أمر زيادة
العذاب بمنافاتها كون الجزء موافقا للأعمال وأجيب بأنها لحفظ
الأصل إذ لولاها لألفوا ما أصابهم من العذاب أول مرة ولم
يتألموا به وهو كما ترى. وقيل: إن العذاب لما كان للكفر
والمعاصي وهي متزايدة في القبح في كل آن فالكفر مثلا في الزمن
الثاني أقبح منه في الزمن الأول وهكذا، وعلم الله تعالى منهم
لسوء استعدادهم استمرارهم على ذلك اقتضى ذلك زيادة العذاب
وشدته يوما فيوما وقيل: لما كان كفرهم أعظم كفر اقتضى
(15/217)
أشد عذاب والعذاب المزاد يوما فيوما من أشد
العذاب وقيل غير ذلك فليتأمل.
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً شروع في بيان محاسن أحوال
المؤمنين أثر بيان سوء أحوال الكافرين ومَفازاً مصدر ميمي أو
اسم مكان أي إن للذين يتقون عمل الكفر فوزا وظفرا بمساعيهم أو
موضع فوز وقيل نجاة مما فيه أولئك أو موضع نجاة حَدائِقَ بدل
اشتمال من مَفازاً على الأول وبدل البعض على الثاني والرابط
مقدر وتقديره حدائق فيه أو هي في محله أو نحو ذلك، وجوز أن
يكون بدل كل على الادعاء أو منصوبا بأعني مقدرا وهو جمع حديقة
بستان فيها أنواع الشجر المثمر زاد بعضهم والرياحين والزهر.
وقال الراغب: قطعة من الأرض ذات ماء سميت بذلك تشبيها بحدقة
العين في الهيئة وحصول الماء فيها وكأنه أراد ذات ماء وشجر
وَأَعْناباً جمع عنب ويقال للكرم نفسه ولثمرته والمتبادر عطفه
على حدائق قبله وهو بعض منها إذا أريد به الكروم وبها الأشجار
وموضعها وخص بالذكر اعتناء به، وأما إن أريد به الكروم وبها
الموضع فقط فلا ويتعين الاشتمال كما إذا أريد به ثمرات الكروم
وجوز أن يكون هو وكذا ما بعد عطفا على مَفازاً وَكَواعِبَ جمع
كاعب وهي المرأة التي تكعّب ثدياها واستدار مع ارتفاع يسير
ويكون ذلك في سن البلوغ وأحسن التسوية أَتْراباً أي لدات ينشأن
معا تشبيها في التساوي والتماثل بالترائب التي هي ضلوع الصدر
أو لوقوعهن معا على التراب أي الأرض. وفي بعض التفاسير نساء
الجنة كلهن بنات ست عشرة سنة ورجالهن أبناء ثلاث وثلاثين
وَكَأْساً دِهاقاً أي مترعة. يقال: دهق فلان الحوض وأدهقه أي
ملأه وروي عن ابن عباس أنه فسره بذلك وأنشد قوله الشاعر:
أتانا عامر يبغي قرانا ... فأترعنا له كأسا دهاقا
وفي البحر الدهاق الملأى مأخوذ من الدهق وهو ضغط الشيء وشده
باليد كأنه لامتلائه انضغط. وعن مجاهد وجماعة تفسيره
بالمتتابعة، وصحح الحاكم عن ابن عباس ما رواه غير واحد أنه
قال: هي الممتلئة المترعة المتتابعة وربما سمعت العباس يقول:
يا غلام اسقنا وادهق لنا. وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنه قال: أي
صافية ولا يخلو عن كدر والجمهور على الأول لا يَسْمَعُونَ
فِيها أي في الجنة وقيل في الكأس وجعلت الفاء للسببية لَغْواً
هو ما لا يعتد به من الكلام وهو على ما قال الراغب الذي يورد
لا عن روية وفكر فيجري مجرى اللغا وهو صوت العصافير ونحوها من
الطير وقد يسمى كل كلام قبيح لغوا وكذا ما لا يعتد به مطلقا
وَلا كِذَّاباً أي تكذيبا وقرىء بالتخفيف أي «كذابا» أو
«مكاذبة» وقد تضمنت هذه المذكورات أنواعا من الذات الحسية كما
لا يخفى جَزاءً مِنْ رَبِّكَ مصدر مؤكد منصوب بمعنى إِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً فإنه في قوة أن يقال جازى المتقين
بمفازا جزاء كائنا من ربك، والتعرض لعنوان الربوبية للإشارة
إلى أن ذلك حصل بترتيبه وإرشاده تعالى وإضافة الرب إلى ضميره
عليه الصلاة والسلام دونهم لتشريفه صلّى الله تعالى عليه وسلم.
وقيل: لم يقل: «من ربهم» لئلا يحمله المشركون على أصنامهم وهو
بعيد جدا ويعلم مما ذكرنا وجه ترك مِنْ رَبِّكَ فيما تقدم من
قوله تعالى جَزاءً وِفاقاً وعدم التعرض هناك لنسبة الجزاء إليه
تعالى بعنوان آخر قيل من باب: «اللهم إن الخير بيديك والشر ليس
إليك» وقوله تعالى عَطاءً أي تفضلا وإحسانا منه عز وجل إذ لا
يجب عليه سبحانه شيء بدل من جزاء، فمعنى كونه جزاء أنه كذلك
بمقتضى وعده جل وعلا.
وجوز أن يكون نصبا بجزاء نصب المفعول به. وتعقبه أبو حيان بأن
جَزاءً مصدر مؤكد لمضمون الجملة والمصدر المؤكد لا يعمل بلا
خلاف لعلمه عند النحاة لأنه لا ينحل لفعل وحرف مصدري ورد بأن
ذلك إذا
(15/218)
كان الناصب للمفعول المطلق مذكورا أما إذا
حذف مطلقا ففيه خلاف هل هو العالم أو الفعل. وقال الشهاب:
الحق ما قال أبو حيان لأن المذكور هنا هو المصدر المؤكد لنفسه
أو لغيره والذي اختلف فيه النحاة هو المصدر الآتي بدلا من
اللفظ بفعله:
كندل زريق المال ندل الثعالب وقوله:
يا قابل التوب غفرانا مآثم قد ... أسلفتها أنا منها خائف وجل
فليعرف. وقوله تعالى حِساباً صفة عطاء بمعنى كافيا على أنه
مصدر أقيم مقام الوصف أو بولغ فيه أو هو على تقدير مضاف وهو
مأخوذ من قولهم أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال: حسبي، وقيل على
حسب أعمالهم أي مقسطا على قدرها. وروي ذلك عن مجاهد وكأن
المراد مقسطا بعد التضعيف على ذلك فيندفع ما قيل إنه غير مناسب
لتضعيف الحسنات ولذا لم يقل وِفاقاً كما في السابق. ودفع أيضا
بأن هذا بيان لما هو الأصل لا للجزاء مطلقا وقيل: المعنى عطاه
مفروغا عن حسابه لا كنعم الدنيا وتعقب بأنه بعيد عن اللفظ مع
ما فيه من الإيهام. وقرأ ابن قطيب «حسّابا» بفتح الحاء وشد
السين قال ابن جني بنى فعالا من أفعل كدراك من أدرك فمعناه
محسبا أي كافيا. ومنع بعضهم مجيء فعالا من الأفعال ودراك من
درك فليحرر. وقرأ شريح بن يزيد الحمصي وأبو البرهسم بكسر الحاء
وشد السين على أن مصدر ككذاب. وقرأ ابن عباس «حسنا» بالنون من
الحسن وحكى المهدوي «حسبا» بفتح الحاء وسكون السين والباء
الموحدة نحو قولك حسبك كذا أي كافيك رَبِّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا بدل من لفظ رَبِّكَ وفي إبداله
تعظيم لا يخفى وإيماء على ما قيل إلى ما
روي في كتب الصوفية من الحديث القدسي: «لولاك لما خلقت
الأفلاك»
وقوله تعالى الرَّحْمنِ صفة لربك أو لرب السماوات على الأصح
عند المحققين من جواز وصف المضاف إلى ذي اللام بالمعرف بها
وجوز أن يكون عطف بيان وهل يكون بدلا من لفظ رَبِّكَ؟ قال في
البحر: فيه نظر لأن الظاهر أن البدل لا يتكرر. وقوله تعالى لا
يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً استئناف مقرر لما إفادته الربوبية
العامة من غاية العظمة واستقلالا له تعالى بما ذكر من الجزاء
والعطاء من غير أن يكون لأحد قدرة عليه والقراءة كذلك مروية عن
عبد الله وابن أبي إسحاق والأعمش وابن محيصن وابن عامر وعاصم.
وقرأ الأعرج وأبو جعفر وشيبة وأبو عمرو والحرميان برفع الاسمين
فقيل على أنهما خبران لمبتدأ مضمر أي هو رب السماوات إلخ. وقيل
الأول هو الخبر والثاني صفة له أو عطف بيان وقيل الأول مبتدأ
والثاني خبره ولا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خبر آخر أو هو الخبر
والثاني نعت للأول أو عطف بيان وقيل لا يَمْلِكُونَ حال لازمة.
وقيل: الأول مبتدأ أول، والثاني مبتدأ ثان ولا يَمْلِكُونَ
خبره والجملة خبر للأول وحصل الربط بتكرير المبتدأ بمعناه على
رأي من يقول به، واختير أن يكون كلاهما مرفوعا على المدح أو
يكون الثاني صفة للأول ولا يَمْلِكُونَ استئنافا على حاله لما
في ذلك من توافق القراءتين معنى. وقرأ الأخوان والحسن وابن
وثاب والأعمش وابن محيصن بخلاف عنهما بجر الأول على ما سمعت
ورفع الثاني على الابتداء والخبر ما بعده أو على أنه خبر
لمبتدأ مضمر وما بعده استئناف أو خبر ثان، وضمير لا
يَمْلِكُونَ لأهل السماوات والأرض ومِنْهُ بيان ل خِطاباً مقدم
عليه أي لا يملكون أن يخاطبوه تعالى من تلقاء أنفسهم كما ينبىء
عنه لفظ الملك خطابا ما في شيء ما والمراد نفي قدرتهم على أن
يخاطبوه عز وجل بشيء من نقص العذاب أو زيادة الثواب من غير
إذنه تعالى على
(15/219)
أبلغ وجه وآكده، وجوز أن يكون منه صلة
يَمْلِكُونَ ومن ابتدائية والمعنى لا يملكون من الله تعالى
خطابا واحدا أي لا يملكهم الله تعالى ذلك فلا يكون في أيديهم
خطاب يتصرفون فيه تصرف الملاك فيزيدون في الثواب أو ينقصون من
العقاب، وهذا كما تقول: ملكت منه درهما وهو أقل تكلفا وأظهر من
جعل مِنْهُ حالا من خِطاباً مقدما وإضمار مضاف أي خطابا من
خطاب الله تعالى فيكون المعنى لا يملكون خطابا واحدا من جملة
ما يخاطب به الله تعالى ويأمر به في أمر الثواب والعقاب. وظاهر
كلام البيضاوي حمل الخطاب على خطاب الاعتراض عليه سبحانه في
ثواب أو عقاب ومنه على ما سمعت منا أولا لا يملكون خطابه تعالى
والاعتراض عليه سبحانه في ثواب أو عقاب لأنهم مملوكون له عز
وجل على الإطلاق فلا يستحقون عليه سبحانه اعتراضا أصلا. وأيّا
ما كان فالآية لا تصلح دليلا على نفي الشفاعة بإذنه عز وجل.
وعن عطاء عن ابن عباس أن ضمير لا يَمْلِكُونَ للمشركين وعدم
الصلاحية عليه أظهر.
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا قيل الرُّوحُ
خلق أعظم من الملائكة وأشرف منهم وأقرب من رب العالمين، وقيل:
هو ملك ما خلق الله عز وجل بعد العرش خلقا أعظم منه. عن ابن
عباس أنه إذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفا والملائكة صفا.
وعن الضحاك أنه لو فتح فاه لوسع جميع الملائكة عليهم السلام.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن ابن
عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الروح جند من جنود
الله تعالى ليسوا ملائكة لهم رؤوس وأيد وأرجل» .
وفي رواية: «يأكلون الطعام» ثم قرأ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ
وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا وقال: «هؤلاء جند وهؤلاء جند»
وروي القول بهذا عن مجاهد وأبي صالح. وقيل: هم أشراف الملائكة
وقيل: هم حفظة الملائكة، وقيل: ملك موكل على الأرواح قال في
الأحياء: الملك الذي يقال له الروح هو الذي يولج الأرواح في
الأجسام فإنه يتنفس فيكون في كل نفس من أنفاسه روح في جسم وهو
حق يشاهده أرباب القلوب ببصائرهم. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك
أنه جبريل عليه السلام وهو قول لابن عباس
فقد أخرج هو عنه أيضا أنه قال: إن جبريل عليه السلام يقوم
القيامة لقائم بين يديّ الجبار ترعد فرائصه فرقا من عذاب الله
تعالى يقول: سبحانك لا إله إلّا أنت ما عبدناك حق عبادتك وإن
ما بين منكبيه كما بين المشرق والمغرب أما سمعت قول الله تعالى
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا
وفي رواية البيهقي في الأسماء والصفات عنه أن المراد به أرواح
الناس وأن قيامها مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن ترد
إلى الأجساد وهو خلاف الظاهر في الآية جدا ولعله لا يصح عن
الحبر. وقيل: القرآن وقيامه مجاز عن ظهور آثاره الكائنة عن
تصديقه أو تكذيبه وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز مع ما لا
يخفى ولم يصح عندي فيه هنا شيء ويَوْمَ ظرف لـ لا يَمْلِكُونَ
وصَفًّا حال أي مصطفين قيل هما صفان الروح صف واحد أو متعدد
والملائكة صف آخر، وقيل صفوف وهو الأوفق لقوله تعالى
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] وقيل يوم يقوم الروح
والملائكة الكل صفا واحدا وجوز أن يكون ظرفا لقوله تعالى لا
يَتَكَلَّمُونَ وقوله سبحانه إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ
الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً بدل من ضمير لا يَتَكَلَّمُونَ وهو
عائد إلى أهل السماوات والأرض الذين من جملتهم الروح والملائكة
وذكر قيامهم مصطفين لتحقيق عظمة سلطانه تعالى وكبرياء ربوبيته
عز وجل وتهويل يوم البعث الذي عليه مدار الكلام من مطلع السورة
الكريمة إلى مقطعها. والجملة استئناف مقرر لمضمون قوله تعالى
لا يَمْلِكُونَ إلخ ومؤكد له على معنى أن أهل السماوات والأرض
إذا لم يقدروا حينئذ أن يتكلموا بشيء من جنس الكلام إلّا من
أذن الله تعالى له منهم في التكلم مطلقا وقال ذلك المأذون له
بعض.
(15/220)
الإذن في مطلق التكلم قولا صوابا أي حقا من
الشفاعة لمن ارتضى فكيف يملكون خطاب رب العزة جل جلاله مع كونه
أخص من مطلق الكلام وأعز منه مراما. وجوز أن يكون ضمير لا
يَتَكَلَّمُونَ إلى الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ والكلام مقرر
لمضمون قوله تعالى لا يَمْلِكُونَ إلخ أيضا لكن على معنى أن
الروح والملائكة مع كونهم أفضل الخلائق وأقربهم من الله تعالى
إذا لم يقدروا أن يتكلموا بما هو صواب من الشفاعة لمن ارتضى
إلا بإذنه فكيف يملكه غيرهم وذكر بعض أهل السنة فتعقب بأنه
مبني على مذهب الاعتزال من كون الملائكة عليهم السلام أفضل من
البشر مطلقا. وأنت تعلم أن من أهل السنة أيضا من ذهب إلى هذا
كأبي عبد الله الحليمي والقاضي أبي بكر الباقلاني والإمام
الرازي. ونسب إلى القاضي البيضاوي وكلامه في التفسير هنا لا
يخلو عن إغلاق وتصدي من تصدى لتوجيهه وأطالوا في ذلك على أن
الخلاف في أفضليتهم بمعنى كثرة الثواب وما يترتب عليها من
كونهم أكرم على الله تعالى وأحبهم إليه سبحانه لا بمعنى قرب
المنزلة ودخول حظائر القدس ورفع ستارة الملكوت بالاطلاع على ما
غاب عنا. والمناسبة في النزاهة وقلة الوسائط ونحو ذلك فإنهم
بهذا الاعتبار أفضل بلا خلاف وكلام ذلك البعض يحتمل أن يكون
مبنيا عليه وهذا كما نشاهده من حال خدام الملك وخاصة حرمه
فإنهم أقرب إليه من وزرائه والخارجين من أقربائه وليسوا عنده
بمرتبة واحدة وإن زادا في التبسط والدلال عليه. وعن ابن عباس
أن ضمير لا يَتَكَلَّمُونَ للناس وجوز أن يكون إِلَّا مَنْ
أَذِنَ إلخ منصوبا على أصل الاستثناء والمعنى لا يتكلمون إلّا
في حق شخص أذن له الرحمن. وقال ذلك الشخص في الدنيا صوابا أي
حقا هو التوحيد وقول لا إله إلا الله كما روي عن ابن عباس
وعكرمة وعليه قيل:
يجوز أن يكون قالَ صَواباً في موضع الحال ممن بتقدير قد أو
بدونه لا عطفا على أَذِنَ ومن الناس من جوز الحالية على الوجه
الأول أيضا لكن من ضمير يَتَكَلَّمُونَ باعتبار كل واحد أو
باعتبار المجموع وظن أن قول بعضهم المعنى لا يتكلمون بالصواب
إلّا بإذنه لا يتم بدون ذلك وفيه ما فيه. وقيل: جملة لا
يَتَكَلَّمُونَ حال من الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ أو من ضميرهم
في صَفًّا والجمهور على ما تقدم وإظهار الرحمن في موقع الإضمار
للإيذان بأن مناط الإذن هو الرحمة البالغة لا أن أحدا يستحقه
عليه سبحانه وتعالى كما أن ذكره فيما تقدم بالإشارة إلى أن
الرحمة مناط تربيته عز وجل.
ذلِكَ إشارة إلى يوم قيامهم على الوجه المذكور وما فيه من معنى
البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو درجته وبعد
منزلته في الهول والفخامة ومحله الرفع على الابتداء خبره قوله
تعالى الْيَوْمُ الموصوف بقوله سبحانه الْحَقُّ أو هو الخير
واليوم بدل أو عطف بيان والمراد بالحق الثابت المتحقق أي ذلك
اليوم الثابت الكائن لا محالة والجملة مؤكدة لما قبل ولذا لم
تعطف والفاء في قوله عز وجل فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ
مَآباً فصيحة تفصح عن شرط محذوف، ومفعول المشيئة محذوف دل عليه
الجزاء وإِلى رَبِّهِ متعلق بما تقدم عليه اهتماما به ورعاية
للفواصل كأنه قيل وإذا كان الأمر كما ذكر من تحقق الأمر
المذكور لا محالة فمن شاء أن يتخذ مرجعا إلى ثواب ربه الذي ذكر
شأنه العظيم فعل ذلك بالإيمان والطاعة وقال قتادة فيما رواه
عنه عبد بن حميد وعبد الرزاق وابن المنذر مَآباً أي سبيلا
وتعلق الجار به لما فيه من معنى الإفضاء والإيصال والأول أظهر.
وتقدير المضاف أعني الثواب قيل لاستحالة الرجوع إلى ذاته عز
وجل وقيل لأن رجوع كل أحد إلى ربه سبحانه ليس بمشيئته إذ لا بد
منه شاء أم لا، والمعلق بالمشيئة الرجوع إلى ثوابه تعالى فإن
العبد مختار في الإيمان والطاعة ولا ثواب بدونهما وقيل لتقدم
قوله تعالى لِلطَّاغِينَ مَآباً فإن
(15/221)
لهم مرجعا لله تعالى أيضا لكن للعقاب لا
للثواب ولكل وجهة
إنَّا أَنْذَرْناكُمْ:أي بما ذكر في السورة من الآيات الناطقة
بالبعث بما فيه وما بعده من الدواهي أو بها وبسائر القوارع
الواردة في القرآن العظيم
عذاباً قَرِيباً: هو عذاب الآخرة وقربه لتحقق إتيانه فقد قيل
ما أبعد ما فات وما أقرب ما هو آت أو لأنه قريب بالنسبة إليه
عز وجل، أو يقال: البرزخ داخل في الآخرة ومبدؤه الموت وهو قريب
حقيقة كما لا يخفى على من عرف القرب والبعد. وعن قتادة هو
عقوبة الذنب لأنه أقرب العذابين. وعن مقاتل هو قتل قريش يوم
بدر وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى "يوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما
قَدَّمَتْ يَداهُ " فإن الظاهر أنه ظرف لمضمر هو صفة عذاباً أي
عذابا كائنا يوم إلخ. وليس ذلك اليوم إلّا يوم القيامة وكذا
على ما قيل من أنه بدل من عذاباً أو ظرف لـ قرِيباً
وعلى هذا الأخير قيل لا حاجة إلى توجيه القرب لأن العذاب في
ذلك اليوم قريب لا فاصل بينه وبين المرء، ونظر فيه بأن الظاهر
جعل المنذر به قريبا في وقت الإنذار لأنه المناسب للتهديد
والوعيد إذ لا فائدة في ذكر قربه منهم يوم القيامة فإذا تعلق
به فالمراد بيان قرب اليوم نفسه فتأمل.
والظاهر أنْ المَرْءُ عام للمؤمن والكافر
و"ما" موصولة منصوبة بـ ينْظُرُ
والعائد محذوف والمراد يوم يشاهد المكلف المؤمن والكافر ما
قدمه من خير أو شر وجوز أن تكون ما استفهامية منصوبة بـ
قدَّمَتْ أي ينظر أي شيء قدمت يداه والجملة معلق عنها لأن
النظر طريق العلم والكلام في قوله ينْظُرُ جواب ما قدمت يداه
وفي الكلام على ما ذكره العلامة التفتازاني تغليب ما وقع بوجه
مخصوص على ما وقع بغير هذا الوجه حيث ذكر اليدان لأن أكثر
الأعمال تزاول بهما فجعل الجميع كالواقع بهما تغليبا. وقرأ ابن
أبي إسحاق «المرء» بضم الميم وضعفها أبو حاتم ولا ينبغي أن
تضعف لأنها لغة بعض العرب يتبعون حركة الهمزة فيقولون مرء ومرأ
ومرء على حسب الإعراب ويَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ
تُراباً
تخصيص لأحد الفريقين اللذين تناولهما المرء فيما قبل منه
بالذكر وخص قول الكافر دون المؤمن لدلالة قوله على غاية الخيبة
ونهاية التحسر ودلالة حذف قول المؤمنين على غاية التبجح ونهاية
الفرح والسرور. وقال عطاء "الْمَرْءُ" هنا الكافر لقوله تعالى:
إ نَّا أَنْذَرْناكُمْ
وكان الظاهر عليه الضمير فيما بعد إلّا أنه وضع الظاهر موضعه
لزيادة الذم. وفيه أن تناول الفريقين هو المطابق لما سبق من صف
يوم مفصل لما اشتمل على حالهما وهم الوجه لقوله تعالى فَمَنْ
شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً و"إنَّا أَنْذَرْناكُمْ "
لا يخص الكافر لأن الإنذار عام للفريقين أيضا فلا دلالة على
الاختصاص. وقال ابن عباس وقتادة والحسن: المراد به المؤمن، قال
الإمام دل عليه قول الكافر فيما كان هذا بيانا لحال الكافر وجب
أن يكون الأول بيانا لحال المؤمن، ولا يخفى ما فيه من الضعف
كاستدلال الرياشي بالآية على أن المرء لا يطلق إلّا على المؤمن
وأراد الكافر بقوله هذا يا ليْتَنِي كُنْتُ تُراباً
في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف، أو ليتني كنت ترابا في هذا اليوم
فلم أبعث. وعن ابن عمر وأبي هريرة ومجاهد أن الله تعالى يحضر
البهائم فيقتص لبعضها من بعض ثم يقول سبحانه لها كوني ترابا
فيعود جميعها ترابا فإذا رأى الكافر ذلك تمنى مثله. وإلى حشر
البهائم والاقتصاص لبعضها من بعض ذهب الجمهور وسيأتي الكلام في
ذلك في سورة التكوير إن شاء الله تعالى. وقيل: الكافر في الآية
إبليس عليه اللعنة لما شاهد آدم عليه الصلاة والسلام ونسله
المؤمنين وما لهم من الثواب تمنى أن يكون ترابا لأنه احتقره
لما قال "خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ"
[الأعراف: 12، ص: 76] وهو بعيد عن السياق وإن كان حسنا.
والتراب على جميع ما ذكر بمعناه المعروف والكلام على ظاهره
وحقيقته وجوز لا سيما على الأخير أن يكون المراد بقول ليتني
كنت في الدنيا متواضعا لطاعة الله تعالى لا جبارا ولا متكبرا
والمعول عليه ما تقدم كما لا يخفى
(15/222)
وَالنَّازِعَاتِ
غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ
سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ
أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا
الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)
أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا
لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا
نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ
بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ
نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ
إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى
أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)
فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21)
ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ
أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ
الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)
سورة النّازعات
وتسمى سورة الساهرة والطامة وهي مكية بالاتفاق وعدد آيها ست
وأربعون في الكوفي وخمس وأربعون في غيره. وعن ابن عباس أنها
نزلت عقب سورة عم وأولها يشبه أن يكون قسما لتحقيق ما في آخر
عم أو ما تضمنته كلها وفي البحر لما ذكر سبحانه في آخر ما
قبلها الإنذار بالعذاب يوم القيامة أقسم عز وجل في هذه على
البعث ذلك اليوم فقال جل شأنه:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً
وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقاتِ
سَبْقاً فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً إقسام من الله تعالى بطوائف
من ملائكة الموت عليهم السلام الذين ينزعون الأرواح من الأجساد
على الإطلاق كما في رواية عن ابن عباس ومجاهد، أو
أرواح الكفرة على ما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عن علي
كرم الله تعالى وجهه
وجويبر في تفسيره عن الحبر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وعبد بن
حميد عن قتادة. وروي عن سعيد بن جبير ومسروق وينشطونها أي
يخرجونها من الأجساد من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها ويسبحون
في إخراجها سبح الذي يخرج من البحر ما يخرج فيسبقون ويسرعون
بأرواح الكفرة إلى النار وبأرواح المؤمنين إلى الجنة فيدبرون
أمر عقابها وثوابها بأن يهيئوها لإدراك ما أعد لها من الآلام
واللذات. ومال بعضهم إلى تخصيص النزع بأرواح الكفار والنشط
والسبح بأرواح المؤمنين لأن النزع جذب
(15/223)
بشدة وقد أردف بقوله تعالى غَرْقاً وهو
مصدر مؤكد بحذف الزوائد أي إغراقا في النزع من أقاصي الأجساد.
وقيل: هو نوع، والنزع جنس أي في هذا المحل وذلك أنسب بالكفار.
وقال ابن مسعود: تنزع الملائكة روح الكفار من جسده من تحت كل
شعرة ومن تحت الأظافر وأصول القدمين ثم تغرقها في جسده ثم
تنزعها حتى إذا كادت تخرج يردها في جسده وهكذا مرارا فهذا
عملها في الكفار. والنشط الإخراج برفق وسهولة وهو أنسب
بالمؤمنين وكذا السبح ظاهر في التحرك برفق ولطافة. قال بعض
السلف: إن الملائكة يسلون أرواح المؤمنين سلا رقيقا ثم
يتركونها حتى تستريح رويدا ثم يستخرجونها برفق ولطف كالذي يسبح
في الماء فإنه يتحرك برفق لئلا يغرق فهم يرفقون في ذلك
الاستخراج لئلا يصل إلى المؤمن ألم وشدة وفي التاج إن النشط حل
العقدة برفق ويقال كما في البحر: أنشطت العقال ونشطته إذا مددت
أنشوطته فانحلت، والأنشوطة عقدة يسهل انحلالها إذا جذبت كعقدة
التكة فإذا جعلت النَّاشِطاتِ من النشط بهذا المعنى كان أوفق
للإشارة إلى الرفق والعطف مع اتحاد الكل لتنزيل التغاير
العنواني منزلة التغاير الذاتي كما مر غير مرة للإشعار بأن كل
واحد من الأوصاف المعدودة من معظمات الأمور حقيق بأن يكون على
حياله مناطا لاستحقاق موصوفة للإجلال والإعظام بالإقسام به من
غير انضمام الأوصاف الأخر إليه. ولو جعلت النَّازِعاتِ ملائكة
العذاب والنَّاشِطاتِ ملائكة الرحمة كان العطف للتغاير الذاتي
على ما هو الأصل والفاء في الأخيرين للدلالة على ترتبهما على
ما قبلهما بغير مهلة. وانتصاب نَشْطاً وسَبْحاً وسَبْقاً على
المصدرية كانتصاب غَرْقاً وأما انتصاب أَمْراً فعلى المفعولية
للمدبرات لا على نزع الخافض أي بأمر منه تعالى كما قيل. وزعم
أنه الأولى وتنكيره للتهويل والتفخيم. وجوز أن يكون غَرْقاً
مصدرا مؤولا بالصفة المشبهة ونصبه على المفعولية أيضا للنازعات
أو صفة للمفعول به لها أي نفوسا غرقة في الأجساد.
وحمل بعضهم غرقها فيها بشدة تعلقها بها وغلبة صفاتها عليها
وكان ذلك مبني على تجرد الأرواح كما ذهب إليه الفلاسفة وبعض
أجلة المسلمين. هذا ولم نقف على نص في أن الملائكة حال قبض
الأرواح وإخراجها هل يدخلون في الأجساد أم لا. وظاهر تفسير
النَّاشِطاتِ أنهم حالة النزع خارج الجسد كالواقف
والسَّابِحاتِ دخولهم فيه لإخراجها على ما قيل وأنت تعلم أن
السبح ليس على حقيقته ولا مانع من أن يراد به مجرد الاتصال
ونحوه مما لا توقف له على الدخول. وجوز أن يكون المراد
بالسابحات وما بعدها طوائف من الملائكة يسبحون في مضيهم
فيسبقون فيه إلى ما أمروا به من الأمور الدنيوية والأخروية
فيدبرون أمره من كيفيته وما لا بد منه فيه ويعم ذلك ملائكة
الرحمة وملائكة العذاب، والعطف عليه لتغاير الموصوفات كالصفات،
وأيّا ما كان فجواب القسم محذوف يدل عليه ما بعد من أحوال
القيامة ويلوح إليه الأقسام المذكورة والتقدير والنَّازِعاتِ
إلخ لتبعثن وإليه ذهب الفراء وجماعة. وقيل: إقسام بالنجوم
السيارة التي تنزع أي تسير من نزع الفرس إذا جرى من المشرق إلى
المغرب غرقا في النزع وجدّا في السير بأن تقطع الفلك على ما
يبدو للناس حتى تنحط في أقصى الغرب وتنشط من برج إلى برج أي
تخرج من نشط الثور إذا خرج من مكان إلى مكان آخر ومنه قول
هميان بن قحافة:
أرى همومي تنشط المناشطا ... الشام بي طورا وطورا واسطا
وتسبح في الفلك فيسبق بعضها في السير لكونه أسرع حركة فتدبر
أمرا نيط بها كاختلاف الفصول وتقدير الأزمنة وظهور مواقيت
العبادات والمعاملات المؤجلة ولما كانت حركاتها من المشرق إلى
المغرب
(15/224)
سريعة قسرية وتابعة لحركة الفلك الأعظم
ضرورة وحركاتها من برج إلى برج بإرادتها من غير قسر لها وهي
غير سريعة أطلق على الأولى النزع لأنه جذب بشدة، وعلى الثانية
النشط لأنه برفق وروي حمل النَّازِعاتِ على النجوم عن الحسن
وقتادة والأخفش وابن كيسان وأبي عبيدة وحمل الناشطات عليها عن
ابن عباس والثلاثة الأول وحمل السَّابِحاتِ عليها عن الأولين
وحملها أبو روق على الليل والنهار والشمس والقمر منها
والمدبرات عليها من معاذ وإضافة التدبير إليها مجاز وقيل:
إقسام بالنفوس الفاضلة حالة المفارقة لا بد أنها بالموت فإنها
تنزع عن الأبدان غرقا أي نزعا شديدا من أغرق النازع في القوس
إذا بلغ غاية المدى حتى ينتهي إلى النصل لعسر مفارقتها إياها
حيث ألفنه وكان مطية لها لاكتساب الخير ومظنة لازدياده فتنشط
شوقا إلى عالم الملكوت وتسبح به فتسبق به إلى حظائر القدس
فتصير لشرفها وقوتها من المدبرات أي ملحقة بالملائكة أو تصلح
هي لأن تكون مدبرة كما قال الإمام إنها بعد المفارقة قد تظهر
لها آثار وأحوال في هذا العالم فقد يرى المرء شيخه بعد موته
فيرشده لما يهمه. وقد نقل على جالينوس أنه مرض مرضا عجز عن
علاجه الحكماء فوصف له في منامه علاجه فأفاق وفعله فأفاق وقد
ذكره الغزالي ولذا قيل: وليس بحديث كما توهم «إذا تحيرتم في
الأمور فاستعينوا من أصحاب القبور» أي أصحاب النفوس الفاضلة
المتوفين ولا شك في أنه يحصل لزائرهم مدد روحاني ببركتهم،
وكثيرا ما تنحل عقد الأمور بأنامل التوسل إلى الله تعالى
بحرمتهم. وحمله بعضهم على الأحياء منهم الممتثلين أمر موتوا
وقبل أن تموتوا. وتفسير النَّازِعاتِ بالنفوس مروي عن السدّي
إلّا أنه قال: هي جماعة النفوس تنزع بالموت إلى ربها
والنَّاشِطاتِ بها عن ابن عباس أيضا إلّا أنه قال:
هي النفوس المؤمنة تنشط عند الموت للخروج والسابقات بها عن ابن
مسعود إلّا أنه قال: هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة عليهم
السلام الذين يقبضونها وقد عاينت السرور شوقا إلى لقاء الله
تعالى وقيل: إقسام بالنفوس حال سلوكها وتطهير ظاهرها وباطنها
بالاجتهاد في العبادة والترقي في المعارف الإلهية فإنها تنزع
عن الشهوات وتنشط إلى عالم القدس فتسبح في مراتب الارتقاء
فتسبق إلى الكمالات حتى تصير من المكملات للنفوس الناقصة.
وقيل: إقسام بأنفس الغزاة أو أيديهم تنزع القسي بإغراق السهام
وتنشط بالسهم للرمي وتسبح في البر والبحر فتسبق إلى حرب العدو
فتدبر أمرها. وإسناد السبح وما بعده إلى الأيدي عليه مجاز
للملابسة وحمل النَّازِعاتِ على الغزاة مروي عن عطاء إلّا أنه
قال: هي النازعات بالقسي وغيرها، وقيل: بصفات خيلهم فإنها تنزع
في أعنتها غرقا أي تمد أعنتها مدّا قويا حتى تلصقها بالأعناق
من غير ارتخائها فتصير كأنها انغمست فيها، وتخرج من دار
الإسلام إلى دار الكفر وتسبح في جريها فتسبق إلى العدو فتدبر
أمر الظفر وإسناد التدبير إليها إسناد إلى السبب. وحمل
السَّابِحاتِ على الخيل مروي عن عطاء أيضا وجماعة، ولا يخفى أن
أكثر هذه الأقوال لا يليق بشأن جزالة التنزيل وليس له قوة
مناسبة للمقام ومنها ما فيه قول بما عليه أهل الهيئة المتقدمون
من الحركة الإرادية للكوكب وهي حركته الخاصة ونحوها مما ليس في
كلام السلف ولم يتم عليه برهان. ولذا قال بخلافه المحدثون من
الفلاسفة وفي حمل «المدبرات» على النجوم إيهام صحة ما يزعمه
أهل الأحكام وجهلة المنجمين وهو باطل عقلا ونقلا كما أوضحنا
ذلك فيما تقدم وكذا في حملها على النفوس الفاضلة المفارقة
إيهام صحة ما يزعمه كثير من سخفة العقول من أن الأولياء
يتصرفون بعد وفاتهم بنحو شفاء المريض وإنقاذ الغريق والنصر على
الأعداء وغير ذلك مما يكون في عالم الكون والفساد على معنى أن
الله تعالى فوض إليهم ذلك، ومنهم من خص ذلك بخمسة من الأولياء
والكل جهل وإن كان الثاني أشد جهلا. نعم لا ينبغي التوقف في أن
الله تعالى قد يكرم من شاء من أوليائه بعد الموت كما يكرمه
قبله بما شاء فيبرىء
(15/225)
سبحانه المريض وينقذ الغريق وينصر على
العدو وينزل الغيث وكيت وكيت كرامة له وربما يظهر عز وجل من
يشبهه صورة فتفعل ما سئل الله تعالى بحرمته مما لا إثم فيه
استجابة للسائل، وربما يقع السؤال على الوجه المحظور شرعا
فيظهر سبحانه نحو ذلك مكرا بالسائل واستدراجا له. ونقل الإمام
في هذا المقام عن الغزالي أنه قال: إن الأرواح الشريفة إذا
فارقت أبدانها ثم اتفق إنسان مشابه للإنسان الأول في الروح
والبدن فإنه لا يبعد أن يحصل للنفس المفارقة تعلق بهذا البدن
حتى تصير كالمعاونة للنفس المتعلقة بذلك البدن على أعمال الخير
فتسمى تلك المعاونة إلهاما. ونظيره في جانب النفوس الشريرة
وسوسة انتهى. ولم أر ما يشهد على صحته في الكتاب والسنة وكلام
سلف الأمة وقد ذكر الإمام نفسه في الباحث المشرقية استحالة
تعلق أكثر من نفس ببدن واحد وكذا استحالة تعلق نفس واحدة بأكثر
من بدن ولم يتعقب ما نقله هنا فكأنه فهم أن التعلق فيه غير
التعلق المستحيل فلا تغفل. وقال في وجه حمل المذكورات على
الملائكة أن الملائكة عليهم السلام لها صفات سلبية وصفات
إضافية أما الأولى فهي أنها مبرأة عن الشهوة والغضب والأخلاق
الذميمة والموت والهرم والسقم والتركيب والأعضاء والأخلاط
والأركان بل هي جواهر روحانية مبرأة عن هذه الأحوال «فالنازعات
غرقا إشارة إلى كونها منزوعة عن هذه الأحوال نزعا كليا من جميع
الوجوه على أن الصيغة للنسبة وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً إشارة إلى
أن خروجها عن ذلك ليس كخروج البشر على سبيل الكلفة والمشقة بل
بمقتضى الماهية، فالكلمتان إشارتان إلى تعريف أحوالهم السلبية
وأما صفاتهم الإضافية فهي قسمان: الأول شرح قوتهم العاقلة
وبيان حالهم في معرفة ملك الله تعالى وملكوته سبحانه والاطلاع
على نور جلاله جل جلاله فوصفهم سبحانه في هذا المقام بوصفين
أحدهما وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فهم يسبحون من أول فطرتهم في
بحار جلاله تعالى ثم لا منتهى لسبحهم لأنه لا منتهى لعظمة الله
تعالى وعلو صمديته ونور جلاله وكبريائه فهم أبدا في تلك
السباحة. وثانيهما فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً
وهو إشارة إلى تفاوت مراتبهم في درجات المعرفة وفي مراتب
التجلّي والثاني شرح قوتهم العاملة وبيان حالهم فيها فوصفهم
سبحانه في هذا المقام بقوله تعالى فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً
ولما كان التدبير لا يتم إلّا بعد العلم قدم شرح القوة العاقلة
على شرح القوة العاملة انتهى. وهو على ما في بعضه من المنع ليس
بشديد المناسبة للمقام. ونقل غير واحد أقوالا غير ما ذكر في
تفسير المذكورات فعن مجاهد النَّازِعاتِ المنايا تنزع النفوس.
وحكى يحيى بن سلام أنها الوحش تنزع إلى الكلأ. وعن الأول تفسير
النَّاشِطاتِ بالمنايا أيضا وعن عطاء تفسيرها بالبقر الوحشية
وما يجري مجراها من الحيوان الذي ينشط من قطر إلى قطر. وعنه
أيضا تفسير السَّابِحاتِ بالسفن وعن مجاهد تفسيرها بالمنايا
تسبح في نفوس الحيوان وعن بعضهم تفسيرها بالسحاب وعن آخر
تفسيرها بدواب البحر. وعن بعض تفسير «السابقات» بالمنايا على
معنى أنها تسبق الآمال وعن غير واحد تفسير «المدبرات» بجبريل
يدبر الرياح والجنود والوحي وميكال يدبر القطر والنبات
وعزرائيل يدبر قبض الأرواح وإسرافيل يدبر الأمر النزل عليهم
لأنه ينزل به ويدبر النفخ في الصور والأكثرون تفسيرها
بالملائكة مطلقا بل قال ابن عطية لا أحفظ خلافا في أنها
الملائكة وليس في تفسير شيء مما ذكر خبر صحيح عن رسول الله
صلّى الله عليه وسلم فيما أعلم وما ذكرته أولا هو المرجح عندي
نظرا للمقام والله تعالى أعلم.
وقوله سبحانه يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ منصوب بالجواب
المضمر والمراد ب الرَّاجِفَةُ الواقعة أو النفخة التي ترجف
الأجرام عندها على أن الإسناد إليها مجازي لأنها سبب الرجف أو
التجوز في الطرف بجعل سبب
(15/226)
الرجف راجفا. وجوز أن تفسر الراجفة
بالمحركة ويكون ذلك حقيقة لأن رجف يكون بمعنى حرك وتحرك كما في
القاموس وهي النفخة الأولى. وقيل: المراد بها الأجرام الساكنة
التي تشتد حركتها حينئذ كالأرض والجبال لقوله تعالى يوم
تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ [المزمل: 14] وتسميتها راجفة
باعتبار الأول ففيه مجاز مرسل وبه يتضح فائدة الإسناد وقوله
تعالى: تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ أي الواقفة أو النفخة التي
تردف وتتبع الأولى وهي النفخة الثانية. وقيل الأجرام التابعة
وهي السماء والكواكب فإنها تنشق وتنتشر بعد والجملة حال من
الرَّاجِفَةُ مصححة لوقوع اليوم ظرفا للبعث لإفادتها امتداد
الوقت وسعته حيث أفادت أن اليوم زمان الرجفة المقيدة بتبعية
الرادفة لها وتبعية الشيء الآخر فرع وجود ذلك الشيء فلا بد من
امتداد اليوم إلى الرادفة واعتبار امتداده مع أن البعث لا يكون
عند الرادفة أعني النفخة الثانية، وبينها وبين الأولى أربعون
لتهويل اليوم ببيان كونه موقعا لداهيتين عظيمتين. وقيل: يَوْمَ
تَرْجُفُ منصوب باذكر فتكون الجملة استئنافا مقرر المضمون
الجواب المضمر كأنه قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم اذكر
لهم يوم النفختين فإنه وقت بعثهم وقيل هو منصوب بما دل عليه
قوله تعالى قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أي يوم ترجف وجفت
القلوب أي اضطربت، يقال: وجف القلب وجيفا اضطرب من شدة الفزع
وكذلك وجب وجيبا. وروي عن ابن عباس أن واجِفَةٌ بمعنى خائفة
بلغة همدان. وعن السدّي زائلة عن مكانها ولم يجعل منصوبا
بواجفة لأنه نصب ظرفه أعني يَوْمَئِذٍ والتأسيس أولى من
التأكيد فلا يحمل عليه كيف، وحذف المضاف وإبدال التنوين مما
يأباه أيضا ورفع قُلُوبٌ على الابتداء ويَوْمَئِذٍ متعلق ب
واجِفَةٌ وهي الخبر على ما قيل وهو الأظهر كما في قوله تعالى
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وَوُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ [القيامة: 22- 24] . وجاز الابتداء
بالنكرة لأن تنكيرها للتنويع وهو يقوم مقام الوصف المخصص. نعم
التنويع في النظير أظهر لذكر المقابل بخلاف ما نحن فيه ولكن لا
فرق بعد ما ساق المعنى إليه وإن شئت فاعتبر ذلك للتكثير كما
اعتبر في: شرّ أهرّ ذا ناب وقيل: واجِفَةٌ صفة قُلُوبٌ مصححة
للابتداء بها.
وقوله تعالى: أَبْصارُها خاشِعَةٌ أي أبصار أهلها ذليلة من
الخوف ولذلك أضافها إليها فالإضافة لأدنى ملابسة، وجوز أن يراد
بالأبصار البصائر أي صارت البصائر ذليلة لا تدرك شيئا فكنى
بذلها عن عدم إدراكها لأن عز البصيرة إنما هي بالإدراك، وبحث
في كون القلوب غير مدركة يوم القيامة وأجيب بأن المراد شدة
الذهول والحيرة جملة من مبتدأ وخبر في محل رفع على الخبرية
لقلوب. وتعقب بأنه قد اشتهر أن حق الصفة أن تكون معلومة
الانتساب إلى الموصوف عند السامع حتى قال غير واحد: إن الصفات
قبل العلم بها أخبار والأخبار بعد العلم بها صفات، فحيث كان
ثبوت الوجيف وثبوت الخشوع لأبصار أصحاب القلوب سواء في المعرفة
والجهالة كان جعل الأول عنوان الموضوع مسلم الثبوت مفروغا عنه،
وجعل الثاني مخبرا به مقصود الإفادة تحكما بحتا على أن الوجيف
الذي هو عبارة عن اضطراب القلب وقلقه من شدة الخوف والوجل أشد
من خشوع البصر وأهول فجعل وأهول الشرين عمدة وأشدهما فضلة مما
لا عهد له في الكلام، وأيضا فتخصيص الخشوع بقلوب موصوفة بصفة
معينة غير مشعرة بالعموم والشمول تهوين للخطب في موقع التهويل
انتهى. وأنت تعلم أن المشتهر وما قاله غير واحد غير مجمع على
اطّراده وأن بعض ما اعترض به يندفع على ما يفهمه كلام بعض
الأجلّة من جواز جعل المفرد خبرا والجملة بعد صفة لكنه بعيد
وما قيل على الأول من أن جعل التنوين للتنويع مع إلباسه مخالف
للظاهر وكونه كالوصف معنى تعسف خروج عن الإنصاف. وزعم ابن
(15/227)
عطية أن النكرة تخصصت بقوله تعالى
يَوْمَئِذٍ وتعقب بأنه لا تتخصص بالأجرام بظروف الزمان وقدر
عصام الدين جواب القسم ليأتين وقال: نحن نقدره كذلك ونجعل يوم
ترجف فاعلا له مرفوع المحل ونجعل تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ صفة
للراجفة بجعلها في حكم النكرة لكون التعريف للعهد الذهني نحو:
أمرّ على اللئيم يسبني وفيه ما فيه وقيل إن الجواب تَتْبَعُهَا
الرَّادِفَةُ ويَوْمَ منصوب به ولام القسم محذوفة أي ليوم كذا
تتبعها الرادفة ولم تدخل نون التأكيد لأنه قد فصل بين اللام
المقدرة والفعل وليس بذاك. وقال محمد بن عليّ الترمذي: إن جواب
القسم إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى وهو كما ترى
ومثله ما قيل هو هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى لأنه في تقدير قد
أتاك وقال أبو حاتم على التقديم والتأخير كأنه قيل فَإِذا هُمْ
بِالسَّاهِرَةِ والنازعات وخطأه ابن الأنباري بأن الفاء لا
يفتتح بها الكلام وبالجملة الوجه الوجيه هو ما قدمنا.
وقوله تعالى يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي
الْحافِرَةِ حكاية لما يقوله المنكرون للبعث المكذبون بالآيات
الناطقة به إثر بيان وقوعه بطريق التوكيد القسمي وذكر مقدماته
الهائلة وما يعرض عند وقوعها للقلوب والأبصار أي يقولون إذا
قيل لهم إنكم تبعثون منكرين له متعجبين منه أَإِنَّا
لَمَرْدُودُونَ بعد موتنا فِي الْحافِرَةِ أي في الحالة الأولى
يعنون الحياة كما قال ابن عباس وغيره. وقيل إنه تعالى شأنه لما
أقسم على البعث وبيّن ذلّهم وخوفهم ذكر هنا إقرارهم بالبعث
وردهم إلى الحياة بعد الموت فالاستفهام لاستغراب ما شاهدوه بعد
الإنكار والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لما يقولون إذ ذاك.
والظاهر ما تقدم وإن القول في الدنيا وأيّا ما كان فهو من
قولهم رجع فلان في حافرته أي طريقته التي جاء فيها فحفرها أي
أثر فيها بمشيه والقياس المحفورة فهي إما بمعنى ذا حفر أو
الإسناد مجازي أو الكلام على الاستعارة المكنية بتشبيه القابل
بالفاعل وجعل الحافرية تخييلا. وذلك نظير ما ذكروا في عِيشَةٍ
راضِيَةٍ [القارعة: 7] ويقال لكل من كان في أمر فخرج منه ثم
عاد إليه رجع إلى حافرته وعليه قوله:
أحافرة على صلع وشيب ... معاذ الله من سفه وعار
يريد أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والتصابي بعد أن
شبت معاذ الله من ذاك سفها وعارا.
ومنه المثل: النقد عند الحافرة، فقد قيل الحافرة فيه بمعنى
الحالة الأولى وهي الصفقة أي النقد حال العقد لكن نقل الميداني
عن ثعلب أن معناه النقد عند السبق وذلك أن الفرس إذا سبق أخذ
الرهن والحافرة الأرض التي حفرها السابق بقوائمه على أحد
التأويلات. وقيل الْحافِرَةِ جمع الحافر بمعنى القدم أي
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ أحياء نمشي على أقدامنا
ونطأ بها الأرض ولا يخفى أن أداء اللفظ هذا المعنى غير ظاهر.
وعن مجاهد الْحافِرَةِ القبور المحفورة أي لمردودون أحياء في
قبورنا. وعن زيد بن أسلم هي النار وهو كما ترى. وقرأ أبو حيوة
وأبو بحرية وابن أبي عبلة «في الحفرة» بفتح الحاء وكسر الفاء
على أنه صفة مشبهة من حفر اللازم كعلم مطاوع حفر بالبناء
للمجهول يقال: حفرت أسنانه فحفرت حفرا بفتحتين إذا أثر الأكال
في أسنانها وتغيرت، ويرجع ذلك إلى معنى المحفورة وقيل هي الأرض
المنتنة المتغيرة بأجساد موتاها وقوله تعالى أَإِذا كُنَّا
عِظاماً نَخِرَةً تأكيدا لإنكار البعث بذكر حالة منافية له.
والعامل في إِذا مضمر يدل عليه «مردودون» أي: أئذا كنا عظاما
بالية نرد ونبعث مع كونه أبعد شيء من الحياة. وقرأ نافع وابن
عامر «إذا كنا» بإسقاط همزة الاستفهام، فقيل: يكون خبر استهزاء
بعد الاستفهام الإنكاري، واستظهر أنه متعلق بمردودون. وقرأ
(15/228)
عمر وأبيّ وعبد الله وابن الزبير وابن عباس
ومسروق ومجاهد والأخوان وأبو بكر «ناخرة» بالألف وهو كنخرة من
نخر العظم أي بلي وصار أجوف تمر به الريح فيسمع له نخير أي صوت
وقراءة الأكثرين أبلغ فقد صرحوا بأن فعلا أبلغ من فاعل وإن
كانت حروفه أكثر وقولهم زيادة المبني تدل على زيادة المعنى
أغلبي أو إذا اتحد النوع لا إذا اختلف كأن كان فاعل اسم فاعل
وفعل صفة مشبهة. نعم تلك القراءة أوفق برؤوس الآي واختيارها
لذلك لا يفيد اتحادها مع الأخرى في المبالغة كما وهم وإلى
الأبلغية ذهب المعظم. وفسرت النخرة عليه بالأشد بلى. وقال عمرو
بن العلاء: النخرة التي قد بليت، والناخرة التي لم تنخر بعد.
ونقل اتحاد المعنى عن الفراء وأبي عبيدة وأبي حاتم وآخرين.
وقوله تعالى قالُوا حكاية لكفر آخر لهم متفرع على كفرهم السابق
ولعل توسيط قالوا بينهما للإيذان بأن صدور هذا الكفر عنهم ليس
بطريق الاطّراد والاستمرار مثل كفرهم السابق المستمر صدوره
عنهم في كافة أوقاتهم حسبما ينبىء عنه حكايته بصيغة المضارع أي
قالوا بطريق الاستهزاء مشيرين إلى ما أنكروه من الرد في
الحافرة مشعرين بغاية بعده عن الوقوع تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ
خاسِرَةٌ أي ذات خسر أو خاسر أصحابها أي إذا صحت تلك الرجعة
فنحن خاسرون لتكذيبنا بها وأبرزوا ما قطعوا بانتفائه واستحالته
في صورة ما يغلب على الظن وقوعه لمزيد الاستهزاء وقال الحسن:
خاسِرَةٌ كاذبة أي بكائنة فكان المعنى تلك إِذا كُنَّا عِظاماً
نَخِرَةً كرة ليست بكائنة وقوله تعالى فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ
واحِدَةٌ تعليل لمقدر يقتضيه إنكارهم ذلك فإنه لما كان مداره
استصعابهم الكرة رد عليهم ذلك فقيل لا تحسبوا تلك الكرة صعبة
فإنما هي صيحة واحدة أي حاصلة بصيحة واحدة وهي النفخة الثانية
عبر عنها بها تنبيها على كمال اتصالها بها كأنها عينها، وقيل:
هي راجع إلى الرادفة. وقوله تعالى: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ
حينئذ بيان لترتب الكرة على الزجرة مفاجأة أي فإذا هم أحياء
على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتا في بطنها. وعلى الأول بيان
لحضورهم الموقف عقيب الكرة التي عبر عنها بالزجرة والساهرة قيل
وجه الأرض والفلاة وأنشدوا قول أمية بن أبي الصلت:
وفيها لحم ساهرة وبحر ... وما فاهوا به أبدا مقيم
وفي الكشاف الأرض البيضاء أي التي لا نبات فيها المستوية، سميت
بذلك لأن السراب يجري فيها من قولهم: عين ساهرة جارية الماء
وفي ضدها نائمة. قال الأشعث بن قيس:
وساهرة يضحي السراب مجللا ... لأقطارها قد جبتها متلثما
أو لأن سالكها لا ينام خوف الهلكة وفي الأول مجاز على المجاز،
وعلى الثاني السهر على حقيقته والتجوز في الإسناد وحكى الراغب
فيها قولين الأول أنها وجه الأرض، والثاني أنها أرض القيامة ثم
قال:
وحقيقتها التي يكثر الوطء بها فكأنها سهرت من ذلك إشارة إلى
نحو ما قال الشاعر:
تحرك يقظان التراب ونائمه وروى الضحاك عن ابن عباس أن الساهرة
أرض من فضة لم يعص الله تعالى عليها قط يخلقها عز وجل حينئذ،
وعنه أيضا أنها أرض مكة وقيل: وهي الأرض السابعة يأتي الله
تعالى بها فيحاسب الخلائق عليها وذلك حين تبدل الأرض غير
الأرض. وقال وهب بن منبه: جبل بالشام يمده الله تعالى يوم
القيامة لحشر الناس. وقال أبو العالية وسفيان: أرض قريبة من
بيت المقدس، وقيل: الساهرة بمعنى الصحراء على شفير جهنم، وقال
قتادة: وهي جهنم لأنه لا نوم لمن فيها. وقوله تعالى هَلْ
أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى كلام مستأنف وارد لتسلية رسول الله صلّى
الله عليه وسلم
(15/229)
من تكذيب قومه وتهديدهم عليه بأن يصيبهم
مثل ما أصاب من كان أقوى منهم وأعظم. ومعنى هَلْ أَتاكَ أن
اعتبر أن هذا أول ما أتاه عليه الصلاة والسلام من حديثه عليه
السلام ترغيب له صلّى الله عليه وسلم في استماع حديثه كأنه
قيل: هل أتاك حديثه أنا أخبرك به وإن اعتبر إتيانه قبل هذا وهو
المتبادر من الإيجاز في الاقتصاص أليس قد أتاك حديثه وليس هل
بمعنى قد على شيء من الوجهين. وقوله تعالى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ
بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ظرف للحديث لا للإتيان لاختلاف
وقتيهما وجوز كونه مفعول اذكر مقدرا. وتقدم الكلام في الواد
المقدس واختلاف القراء في طُوىً اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ على
إرادة القول والتقدير وقال له أو قائلا له اذْهَبْ إلخ. وقيل:
هو تفسير للنداء أي ناداه اذهب وقيل: هو على حذف أن المفسرة
يدل عليه قراءة عبد الله أن اذهب لأن في النداء معنى القول
وجوز أن يكون بتقدير المصدرية قبلها حرف جر إِنَّهُ طَغى تعليل
للأمر أو لوجوب الامتثال به فَقُلْ بعد ما أتيته هَلْ لَكَ
إِلى أَنْ تَزَكَّى أي هل لك ميل إلى أن تتزكى فلك في موضع
الخبر لمبتدأ محذوف وإِلى أَنْ تَزَكَّى متعلق بذلك المبتدأ
المحذوف ونحوه قول الشاعر:
فهل لكم فيها إليّ فإنني ... بصير بما أعيا النطاسي حذيما
قد يقال هل لك في كذا فيؤتى بفي ويقدر المبتدأ رغبة ونحوه مما
يتعدى بها، ومنهم من قدره هنا رغبة لأنها تعدى بها أيضا وقال
أبو البقاء: لما كان المعنى أدعوك جيء بإلى ولعله جعل الظرف
متعلقا بمعنى الكلام أو بمقدر يدل عليه وتَزَكَّى بحذف إحدى
التاءين أي تتطهر من دنس الكفر والطغيان وقرأ الحرميان وأبو
عمر بخلاف «تزّكّى» بتشديد الزاي وأصله كما أشرنا إليه تتزكى
فأدغمت التاء الثانية في الزاي وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ أي
أرشدك إلى معرفته عز وجل فتعرفه فَتَخْشى إذ الخشية لا تكون
إلّا بعد معرفته قال الله تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] وجعل الخشية غاية للهداية
لأنها ملاك الأمر من خشي الله تعالى أتى منه كل خير، ومن أمن
اجترأ على كل شر. ومنه
قوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة: «من
خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل» .
وفي الاستفهام ما لا يخفى من التلطف في الدعوة والاستنزال عن
العتو وهذا ضرب تفصيل لقوله تعالى فَقُولا لَهُ قَوْلًا
لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] وتقديم
التزكية على الهداية لأنها تخلية. والفاء في قوله تعالى
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى فصيحة تفصح عن جمل قد طويت تعويلا
على تفصيلها في موضع آخر كأنه قيل فذهب وكان كيت وكيت فأراه.
واقتصر الزمخشري في الحواشي على تقدير جملة فقال:
إن هذا معطوف على محذوف والتقدير فذهب فأراه لأن قوله تعالى
اذْهَبْ يدل عليه فهو على نحو اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ
فَانْبَجَسَتْ والإراءة إما بمعنى التعريف فإن اللعين حين
أبصرها عرفها، وادعاء سحريتها إنما كان وادعاء سحريتها إنما
كان إظهارا للتجلد ونسبتها إليه عليه الصلاة والسلام بالنظر
إلى الظاهر كما أن نسبتها إلى نون العظمة في قوله تعالى
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا [طه: 56] بالنظر إلى الحقيقة
والمراد بالآية الكبرى على ما روي عن ابن عباس قلب العصا حية
فإنها كانت المقدمة والأصل والأخرى كالتبع لها، وعلى ما روي عن
مجاهد ذلك واليد البيضاء فإنهما باعتبار الدلالة كالآية
الواحدة وقد عبر عنهما بصيغة الجمع في قوله تعالى اذْهَبْ
أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي [طه: 42] باعتبار ما في تضاعيفهما
من بدائع الأمور التي كل منها آية بينة لقوم يعقلون وجوز أن
يراد بها مجموع معجزاته عليه السلام والوحدة باعتبار ما ذكر
والفاء لتعقيب أولها أو مجموعها باعتبار أولها، وكونها كبرى
باعتبار معجزات من قبله من الرسل عليهم السلام أو هو للزيادة
المطلقة ولا يخفى بعده، ويزيده بعدا ترتيب حشر السحر بعد فإنه
لم يكن إلّا على إراءة تينك الآيتين وإدباره
(15/230)
عن العمل بمقتضاهما وإما ما عداهما من
التسع فإنما ظهر على يده عليه السلام بعد ما غلب السحرة على
مهل في نحو من عشرين سنة. وزعم غلاة الشيعة أن الآية الكبرى
عليّ كرم الله تعالى وجهه أراه إياه متطورة روحه الكريمة بأعظم
طور وهو هذيان وراء طور العقل وطور النقل فَكَذَّبَ بموسى عليه
السلام وسمى معجزته سحرا وَعَصى الله تعالى بالتمرد بعد ما علم
صحة الأمر ووجوب الطاعة أشد عصيان وأقبحه حيث اجترأ على إنكار
وجود رب العالمين رأسا وكان اللعين وقومه مأمورين بعبادته عز
وجل وترك العظمة التي يدعيها الطاغية ويقبلها منه فئته الباغية
لا بإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر فقط، وفي جعل متعلق
التكذيب موسى عليه السلام ومتعلق العصيان الله عز وجل ما ليس
في جعلهما موسى كما قيل فكذب موسى عصاه من الذم كما لا يخفى.
ثُمَّ أَدْبَرَ تولى عن الطاعة يَسْعى أي ساعيا مجتهدا في
إبطال أمره عليه السلام ومعارضة الآية وثم لأن إبطال ذلك ونقضه
يقتضي زمانا طويلا، وجوز أن يكون الإدبار على حقيقته أي ثم
انصرف عن المجلس ساعيا في إبطال ذلك، وقيل: أدبر يسعى هاربا من
الثعبان فإنه روي أنه لما ألقى العصا انقلبت ثعبانا أشعر فاغرا
فاه بين لحييه ثمانون ذراعا فوضع لحيه الأسفل على الأرض
والأعلى على سور القصر فهرب فرعون وأحدث وانهزم الناس مزدحمين
فمات منهم خمسة وعشرون ألفا من قومه. وفي بعض الآثار أنها
انقلبت حية وارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة نحو
فرعون وجعلت تقول: يا موسى مرني بما شئت، يقول فرعون:
أنشدك بالذي أرسلك إلّا أخذته فأخذه فعاد عصى، وأنت تعلم أن
هذا إن كان بعد حشر السحرة للمعارضة كما هو المشهور فلا تظهر
صحة إرادته هاهنا إذا أريد بالحشر بعد حشرهم وإن كان بعد
التكذيب والعصيان وقبل الحشر فلا يظهر تراخيه عن الأولين نعم
قيل إن ثم عليه للدلالة على استبعاد إدباره مرعوبا مسرعا مع
زعمه الإلهية وقيل: أريد بقوله سبحانه ثُمَّ أَدْبَرَ ثم أقبل
يفعل أي أنشأ لكن جعل الإدبار موضع الإقبال تلميحا وتنبيها على
أنه كان عليه دمارا وإدبارا فَحَشَرَ أي فجمع السحرة لقوله
تعالى فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ
[الشعراء: 53] وقوله سبحانه فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ
كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى [طه: 60] أي ما يكاد به من السحرة وآلاتهم
وقيل جمع جنوده وجوز أن يراد جمع أهل مملكته فَنادى في المجمع
نفسه أو بواسطة المنادي وأيد الأول بقوله تعالى فَقالَ أَنَا
رَبُّكُمُ الْأَعْلى وعلى الثاني فيه تقدير أي فقال: يقول
فرعون أَنَا رَبُّكُمُ إلخ مع ما في الثاني من التجوز وفي بعض
الآثار أنه قام فيهم خطيبا فقال تلك العظيمة وأراد اللعين
تفضيل نفسه على كل من يلي أمورهم فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ
الْآخِرَةِ وَالْأُولى النكال بمعنى التنكيل كالسلام بمعنى
التسليم وهو التعذيب الذي ينكل من رآه أو سمعه ويمنعه من تعاطي
ما يفضي إليه وهو نصب على أنه مصدر مؤكد ك وَعْدَ اللَّهِ
[النساء: 122 وغيرها] وصِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة: 138] كأنه
قيل نكل الله تعالى به نكال الآخرة والأولى وهو الإحراق في
الآخرة والإغراق والإذلال في الدنيا، وجوز أن يكون نصبا على
أنه مفعول مطلق لأخذ أي أخذه الله تعالى أخذ نكال الآخرة إلخ.
وأن يكون مفعولا له أي أخذه لأجل نكال إلخ. وأن يكون نصبا بنزع
الخافض أي أخذه بنكال الآخرة والأولى وإضافته إلى الدارين
باعتبار وقوع نفس الأخذ فيهما لا باعتبار أن ما فيه من معنى
المنع يكون فيهما فإن ذلك لا يتصور في الآخرة بل في الدنيا فإن
العقوبة الأخروية تنكل من سمعها وتمنعه من تعاطي ما يؤدي إليها
فيها وأن يكون في تأويل المشتق حالا وإضافته على معنى في أي
منكلا لمن رآه أو سمع به في الآخرة والأولى، وجوز أن تكون
الإضافة عليه لامية وحمل الآخرة والأولى على الدارين هو
الظاهر. وروي عن الحسن وابن زيد وغيرهما وعن ابن عباس وعكرمة
(15/231)
إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا
أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا
(28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا
مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)
مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ
الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ
مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36)
فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38)
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ
مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ
الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ
ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا
أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا
(46)
والضحاك والشعبي أن الآخرة قولته أَنَا
رَبُّكُمُ الْأَعْلى والأولى قولته ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ
إِلهٍ غَيْرِي [القصص: 38] وقيل بالعكس فهما كلمتان وكان
بينهما على ما قالوا أربعون سنة. وقال أبو رزين الْأُولى حالة
كفره وعصيانه والْآخِرَةِ قولته أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وعن
مجاهد أنهما عبارتان عن أول معاصيه وآخرها أي نكل بالجميع
والإضافة على جميع ذلك من إضافة المسبب إلى السبب ومآل من يقول
بقبول إيمان فرعون إلى هذه الأقوال، وجعل ذلك النكال الإغراق
في الدنيا وقد قدمنا الكلام في هذا المقام.
إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من قصة فرعون وما فعل وما فعل به
لَعِبْرَةً عظيمة لِمَنْ يَخْشى أي لمن شأنه أن يخشى وهو من من
شأنه المعرفة وهذا إما لأن من كان في خشية لا يحتاج للاعتبار
أو ليشمل من يخشى بالفعل ومن كان من شأنه ذلك على ما قيل.
وقوله تعالى أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً خطاب للمخاطبين في
جواب القسم أعني لتبعثن من أهل مكة المنكرين للبعث بناء على
صعوبته في زعمهم بطريق التوبيخ والتبكيت بعد ما بيّن كمال
سهولته بالنسبة إلى قدرة الله تعالى بقوله سبحانه فَإِنَّما
هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ [الصافات: 89، النازعات: 13] ونصب
خَلْقاً على التمييز وهو محول عن المبتدأ أي أخلقكم بعد موتكم
أَشَدُّ أي أشق وأصعب في تقديركم أَمِ السَّماءُ أي أم خلق
السماء على عظمها وانطوائها على تعاجيب البدائع التي تحار
العقول عن ملاحظة أدناها وقوله تعالى: بَناها إلخ بيان وتفصيل
لكيفية خلقها المستفاد من قوله تعالى أَمِ السَّماءُ
وفي عدم ذكر الفاعل فيه وفيما عطف من الأفعال من التنبيه على
تعيينه وتفخيم شأنه عز وجل ما لا يخفى. وقوله سبحانه رَفَعَ
سَمْكَها بيان للبناء أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض وذهابها
إلى سمت العلو مديدا رفيعا، وجوز أن يفسر السمك بالثخن فالمعنى
جعل ثخنها مرتفعا في جهة العلو. ويقال للثخن سمك لما فيه من
ارتفاع السطح الأعلى عن السطح الأسفل وإذا لوحظ هذا الامتداد
العلو للسفل قيل له عمق ونظير ذلك الدرج والدرك وقد جاء في
الأخبار الصحيحة أن ارتفاع السماء الدنيا عن الأرض خمسمائة عام
وارتفاع كل سماء عن سماء وثخن كل كذلك، والظاهر تقدير ذلك
بالسير المتعارف وأن المراد بالعدد المذكور التحديد دون
التكثير ونحن مع الظاهر إلّا أن يمنع عنه مانع فَسَوَّاها أي
جعلها سواء فيما اقتضته الحكمة فلم يخل عز وجل قطعة منها عما
تقتضيه الحكمة فيها، ومن ذلك تزيينها بالكواكب وقيل تسويتها
جعلها ملساء ليس في سطحها انخفاض وارتفاع. وقيل: جعلها بسيطة
متشابهة الأجزاء والشكل فليس بعضها سطحا وبعضها زاوية وبعضها
خطا وهو قول بكريتها الحقيقية وإليه ذهب كثير. وقالوا: وحكاه
الإمام لما ثبت أنها محدثة مفتقرة إلى فاعل مختار فأي ضرر في
الدين ينشأ من كونها كرية وقيل تسويتها
(15/232)
تتميمها بما يتم به كمالها من الكواكب
والمتممات والتداوير وغيرها مما بيّن في علم الهيئة من قولهم:
سوّى أمره أي أصلحه أو من قولهم: استوت الفاكهة إذا نضجت، وأنت
تعلم أن هذا مع بنائه على اتحاد السماوات والأفلاك غير معروف
في الصدر الأول من المسلمين لعدم وروده عن صاحب المعراج رسول
الله صلّى الله عليه وسلم وعدم ظهور الدليل عليه والأدلة التي
يذكرها الهيئة لتلك الأمور لا يخفى حالها ولذا لم يقل بما
تقتضيه مخالفوهم من أهل الهيئة اليوم والله تعالى أعلم بحقيقة
الحال وَأَغْطَشَ لَيْلَها أي جعله مظلما، يقال: غطش الليل
وأغطشه الله تعالى كما يقال: ظلم وأظلمه، ويقال أيضا: أغطش
الليل كما يقال أظلم وجاء ليلة غطشاء وليل أغطش وغطش. قال
الأعشى:
عقرت لهم ناقتي موهنا ... فليلهم مدلهم غطش
وفي البحر عن كتاب اللغات في القرآن أَغْطَشَ أظلم بلغة أنمار
وأشعر وَأَخْرَجَ ضُحاها أي أبرز نهارها، والضحى في الأصل على
ما يفهم من كلام الراغب انبساط الشمس وامتداد النهار ثم سمّي
به الوقت المعروف وشاع في ذلك وتجوز به عن النهار بقرينة
المقابلة. وقيل: الكلام على حذف مضاف أي ضحى شمسها أي ضوء
شمسها وكنى بذلك عن النهار والأول أقرب، وعبر عن النهار بالضحى
لأنه أشرف أوقاته وأطيبها وفيه من انتعاش الأرواح ما ليس في
سائرها فكان أوفق لمقام تذكير الحجة على منكري البعث وإعادة
الأرواح إلى أبدانها. وقيل: إنه لذلك كان أحق بالذكر في مقام
الامتنان وإضافة الليل والضحى إلى السماء لأنهما يحدثان بسبب
غروب الشمس وطلوعها وهي سماوية أو وهما إنما يحصلان بسبب
حركتها على القول بحركتها لاتحادها مع الفلك أو وهما إنما
يحصلان بسبب حركة الشمس في فلكها فيها على القول بأن السماء
والفلك متغايران والمتحرك إنما هو الكوكب في الفلك كما يقتضيه
ظاهر قوله تعالى كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 33،
يس: 40] وإن الفلك ليس إلّا مجرى الكوكب في السماء، وقيل:
أضيفا إليها لأنهما أول ما يظهران منها إذ أول الليل بإقبال
الظلام من جهة المشرق، وأول النهار بطلوع الفجر وإقبال الضياء
منه. وفي الكشاف أضيف الليل والشمس إلى السماء لأن الليل ظلها
والشمس هي السراج المثقب في جوّها، واعترض بأن الليل ظل الأرض
وأجيب بأنه اعتبار بمرأى الناظر كذلك كما أن زينة السماء
الدنيا أيضا اعتبار بمرأى الناظر. وقيل إضافتهما إليها باعتبار
أنهما إنما يحدثان تحتها وشملا بهذا الاعتبار ما لم يكد يخطر
في أذهان العرب من ليل ونهار طول كل منهما ستة أشهر وهما ليل
ونهار عرض تسعين حيث الدور رحوي وتعقب بأنهم قالوا: إن ظل
الأرض المخروطي ينتهي إلى فلك الزهرة وهي في السماء الثالثة
فالحصر غير تام وفيه نظر فتأمل، وبالجملة الإضافة لأدنى
ملابسة. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ الظاهر أنه إشارة إلى ما
تقدم من خلق السماء وإغطاش الليل وإخراج النهار دون خلق السماء
فقط، وانتصاب الْأَرْضَ بمضمر قيل على شريطة التفسير وقيل
تقديره تذكر أو تدبر أو اذكر وستعلم ما في ذلك إن شاء الله
تعالى. ومعنى قوله تعالى دَحاها بسطها ومدها لسكنى أهلها
وتقلبهم في أقطارها من الدحو أو الدحي بمعنى البسط وعليه قول
أمية بن أبي الصلت:
وبث الخلق فيها إذ دحاها ... فهم قطانها حتى التنادي
وقيل: دَحاها سواها. وأنشدوا قول زيد بن عمرو بن نفيل:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما استوت شدها ... بأيد وأرسى عليها الجبالا
(15/233)
والأكثرون على الأول. وأنشد الإمام بيت زيد
فيه والظاهر أن دحوها بعد خلقها وقيل مع خلقها فالمراد خلقها
مدحوة وروي الأول عن ابن عباس ودفع به توهم تعارض بين آيتين.
أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أن رجلا قال له: آيتان في
كتاب الله تعالى تخالف إحداهما الأخرى، فقال: إنما أتيت من قبل
رأيك اقرأ قال قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي
خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ- حتى بلغ- ثُمَّ اسْتَوى
إِلَى السَّماءِ [فصلت: 9- 11] وقوله تعالى وَالْأَرْضَ بَعْدَ
ذلِكَ دَحاها قال: خلق الله تعالى الأرض قبل أن يخلق السماء،
ثم خلق السماء ثم دحا الأرض بعد ما خلق السماء، وإنما قوله
سبحانه دَحاها بسطها وتعقبه الإمام بأن الجسم العظيم يكون
ظاهره كالسطح المستوي ويستحيل أن يكون هذا الجسم العظيم مخلوقا
ولا يكون ظاهره مدحوا مبسوطا. وأجيب أنه لعل مراد القائل
بخلقها أولا ثم دحوها ثانيا خلق مادتها أولا ثم تركيبها
وإظهارها على هذه الصورة والشكل مدحوة مبسوطة وهذا كما قيل في
قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ
سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة: 29] إن السماء خلقت مادتها أولا ثم
سويت وأظهرت على صورتها اليوم. وعن الحسن ما يدل على أنها كانت
يوم خلقت قبل الدحو كهيئة الفهر ويشعر بأنها لم تكن على عظمها
اليوم وتعقبه بعضهم بشيء آخر وهو أنه يأبى ذلك قوله تعالى
خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
السَّماءِ [البقرة: 29] الآية فإنه يفيد أن خلق ما في الأرض
قبل خلق السماوات، ومن المعلوم أن خلق ما فيها إنما هو بعد
الدحو فكيف يكون الدحو بعد خلق السماوات. وأجيب بأن خَلَقَ في
الآية بمعنى قدر أو أراد الخلق ولا يمكن أن يراد به فيها
الإيجاد بالفعل ضرورة أن جميع المنافع الأرضية يتجدد إيجادها
أولا فأولا سلمنا أن المراد الإيجاد بالفعل لكن يجوز أن يكون
المراد خلق مادة ذلك بالفعل، ومن الناس من حمل ثُمَّ على
التراخي الرتبي لأن خلق السماء أعجب من خلق الأرض. وقال عصام
الدين إن بَعْدَ ذلِكَ هنا كما في قوله تعالى عُتُلٍّ بَعْدَ
ذلِكَ زَنِيمٍ [القلم: 13] يعني فعل بالأرض ما فعل بعد ما سمعت
في السماء. والمراد التأخير في الأخبار فخلق الأرض ودحوها
وإخراج مائها ومرعاها وإرساء الجبال عليها عنده قبل خلق السماء
كما يقتضيه ظاهر آية البقرة وظاهر آية الدخان، وأيد حمل
البعدية على ما ذكر بأن حملها على ظاهرها مع حمل الإشارة على
الإشارة إلى مجموع ما تقدم مما سمعت يلزم عليه أن إغطاش الليل
وإبراز النهار كانا قبل خلق الأرض ودحوها وذلك مما لا يتسنى
على تقدير أنها غير مخلوقة أصلا ومما يبعد على تقدير أنها
مخلوقة غير عظيمة، وأيضا قيل لو لم تحمل البعدية ما ذكر وقيل
بنحو ما قال ابن عباس من تأخر الدحو عن خلق السماء مع تقدم خلق
الأرض من غير دحو على خلقها لم تنحسم مادة الإشكال إذ آية
الدخان ظاهرة في أن جعل الرواسي في الأرض قبل خلق السماء
وتسويتها، وهذه الآية إلى آخرها ظاهرة في أن جعل الرواسي بعد
وبالجملة أنه قد اختلف أهل التفسير في أن خلق السماء مقدم على
خلق الأرض أو مؤخر؟ فقال ابن الطاشكبري: نقل الواحدي عن مقاتل
أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض واختاره جمع لكنهم قالوا إن
خلق ما فيها مؤخر وأجابوا عما هنا وآية البقرة بأن الخلق فيها
بمعنى التقدير أو بمعنى الإيجاد وتقدير الإرادة، وأن البعدية
هاهنا لإيجاد الأرض وجميع ما فيها وعما هنا وآية الدخان بنحو
ذلك فقدروا الإرادة في قوله تعالى خَلَقَ الْأَرْضَ فِي
يَوْمَيْنِ [فصلت: 9] وكذا في قوله سبحانه وَجَعَلَ فِيها
رَواسِيَ وقالوا: يؤيد ما ذكر قوله تعالى فَقالَ لَها
وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا
طائِعِينَ [فصلت: 11] فإن الظاهر أن المراد ائْتِيا في الوجود
ولو كانت الأرض موجودة سابقة لما صح هذا فكأنه قال سبحانه:
أئنكم لتكفرون بالذي أراد إيجاد الأرض وما فيها من الرواسي
والأقوات في أربعة أيام ثم قصد إلى السماء فتعلقت إرادته
بإيجاد السماء والأرض فأطاعا لأمر التكوين فأوجد سبع
(15/234)
سماوات في يومين، وأوجد الأرض وما فيها في
أربعة أيام ونكتة تقديم خلق الأرض وما فيها في الظاهر في سورتي
البقرة والدخان على
خلق السماوات والعكس هاهنا أن المقام في الأولين مقام الامتنان
وتعداد النعم على أهل الكفر والإيمان فمقتضاه تقديم ما هو نعمة
بالنظر إلى المخاطبين من الفريقين فكأنه قال سبحانه هو الذي
دبر أمركم قبل السماء ثم خلق السماء. والمقام هنا مقام بيان
كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل انتهى. وفي الكشف أطبق
أهل التفسير أنه تم خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام ثم خلق
السماء في يومين إلّا ما نقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أن
خلق السماء مقدم على إيجاد الأرض فضلا عن دحوها. والكلام مع من
فرق بين الإيجاد والدحو وما قيل إن دحو الأرض متأخر عن خلق
السماء لا عن تسويتها يرد عليه بعد ذلك فإنه إشارة إلى السابق
وهو رفع السمك والتسوية والجواب بتراخي الرتبة لا يتم لما نقل
من إطباق المفسرين فالوجه أن يجعل الْأَرْضَ منصوبا بمضمر نحو
تذكر وتدبر واذكر الأرض بعد ذلك وإن جعل مضمرا على شريطة
التفسير جعل بعد ذلك إشارة إلى المذكور سابقا من ذكر خلق
السماء لا خلق السماء نفسه ليدل على أنه متأخر في الذكر عن خلق
السماء تنبيها على أنه قاصر في الدلالة عن الأول لكنه تتميم
كما تقول جملا ثم تقول بعد ذلك كيت وكيت، وهذا كثير في استعمال
العرب والعجم وكان بعد ذلك بهذا المعنى عكسه إذا استعمل لتراخي
الرتبة وقد تستعمل ثُمَّ بهذا المعنى وكذا الفاء وهذا لا ينافي
قول الحسن إنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر
عليها دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السماوات وأمسك
الفهر في موضعها وبسط منها الأرض وذلك قوله تعالى كانَتا
رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الأنبياء: 30] الآية فإنه يدل على أن
كون السماء دخانا سابق على دحو الأرض وتسويتها وهو كذلك بل
ظاهر قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ
[فصلت: 11] يدل على ذلك وإيجاد الجوهرة النورية والنظر إليها
بعين الجلال المبطن بالرحمة والجمال وذوبها وامتياز لطيفها عن
كثيفها وصعود المادة الدخانية اللطيفة وبقاء الكثيف هذا كله
سابق على الأيام الستة، وثبت في الخبر الصحيح ولا ينافي الآيات
وأما ما نقله الواحدي عن مقاتل واختاره الإمام فلا إشكال فيه
ويتعين ثم في سورتي البقرة والسجدة على تراخي الرتبة وهو أوفق
لمشهور قواعد الحكماء لكن لا يوافق ما روي أنه تعالى خلق جرم
الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين، ودحاها وخلق ما فيها يوم
الثلاثاء ويوم الأربعاء، وخلق السماوات وما فيها في يوم الخميس
والجمعة، وفي آخر يوم الجمعة ثم خلق آدم عليه السلام انتهى.
والذي أميل إليه أن تسوية السماء بما فيها سابقة على تسوية
الأرض بما فيها لظهور أمر العلية في الأجرام العلوية وأمر
المعلولية في الأجرام السفلية ويعلم تأويل ما ينافي ذلك مما
سمعت. وأما الخبر الأخير ففي صحته مقال والله تعالى أعلم
بحقيقة الحال وقد مر شيء مما يتعلق بهذا المقام وإنما أعدنا
الكلام فيه تذكيرا لذوي الأفهام فتأمل والله تعالى الموفق
لتحصيل المرام.
وقوله تعالى أَخْرَجَ مِنْها ماءَها بأن فجّر منها عيونا وأجرى
أنهارا وَمَرْعاها يقع على الرعي بالكسر وهو الكلأ والرعي
بالفتح وهو المصدر وكذا على الموضع والزمان، وزعم بعضهم أنه في
الأصل للموضع ولعله أراد أنه أشهر معانيه والمناسب للمقام
المعنى الأول لكنه قيل إنه خاص بما يأكله الحيوان غير الإنسان
وتجوز به عن مطلق المأكول للإنسان وغيره فهو مجاز مرسل من قبيل
المرسن. وقال الطيبي: يجوز أن يكون استعارة مصرحة لأن الكلام
مع منكري الحشر بشهادة أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً كأنه قيل
أيها المعاندون الملزوزون في قرن البهائم في التمتع بالدنيا
والذهول عن الآخرة بيان وتفسير لدحاها وتكملة له فإن السكنى لا
تتأتى بمجرد البسط والتمهيد بل لا بد من تسوية أمر المعاش من
المأكل والمشرب أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه
(15/235)
وكلا الوجهين مقتض لتجريد الجملة عن
العاطف. وقوله تعالى وَالْجِبالَ منصوب بمضمر يفسره قوله
سبحانه أَرْساها أي أثبتها وفيه تنبيه على أن الرسو المنسوب
إليها في مواضع كثيرة من التنزيل ليس من مقتضيات ذاتها
وللفلاسفة المحدثين كلام في أمر الأرض وكيفية بدئها لا مستند
لهم فيه إلّا آثار أرضية يزعمون دلالتها على ذلك هي في أسفل
الأرض عن ساحة القبول. وقرأ عيسى برفع «الأرض» والحسن وأبو
حيوة وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال برفع «الأرض»
«والجبال» وهو على ما قيل على الابتداء، وتعقبه الزجاج بأن ذلك
مرجوح لأن العطف على فعلية وأورد عليه أن قوله تعالى بَناها
بيان لكيفية خلق السماء وقوله سبحانه رَفَعَ سَمْكَها بيان
للبناء وليس لدحو الأرض وما بعده دخل في شيء من ذلك فكيف يعطف
عليه ما هو معطوف على المجموع عطف القصة على القصة والمعتبر
فيه تناسب القصتين وهو حاصل هنا فلا ضير في الاختلاف بل فيه
نوع تنبيه على ذلك. وقيل: إن جملة قوله تعالى وَالْأَرْضَ إلخ
على القراءتين ليست معطوفة على قوله سبحانه رَفَعَ سَمْكَها
لأنها لا تصلح بيانا لبناء السماء فلا بد من تقدير معطوف عليه
وحينئذ يقدر جملة فعلية على قراءة الجمهور أي فعل ما فعل في
السماء، وجملة اسمية على قراءة الآخرين أي السماء وما يتعلق
بها مخلوق له تعالى. وجوز عطف «الأرض» بالرفع على «السماء» من
حيث المعنى كأنه قيل السماء أشد خلقا والأرض بعد ذلك أي والأرض
بعد ما ذكر من السماء أشد خلقا فيكون وزان قوله تعالى دَحاها
إلخ وزان قوله تعالى بَناها إلخ وحينئذ فلا يكون بعد ذلك مشعرا
بتأخر دحو الأرض عن بناء السماء. وقوله تعالى مَتاعاً لَكُمْ
وَلِأَنْعامِكُمْ قيل مفعول له أي فعل ذلك تمتيعا لكم
ولأنعامكم لأن فائدة ما ذكر من الدحو وإخراج الماء والمرعى
واصلة إليهم ولأنعامهم فإن المرعى كما سمعت مجاز عما يأكله
الإنسان وغيره، وقيل: مصدر مؤكد لفعله المضمر أي متعكم بذلك
متاعا أو مصدر من غير لفظه فإن قوله تعالى أَخْرَجَ مِنْها
ماءَها وَمَرْعاها في معنى متع بذلك وأورد على الأول أن الخطاب
لمنكري البعث والمقصود هو تمتيع المؤمنين فلا يلائم جعل تمتيع
الآخرين كالغرض فالأولى ما بعده. وأجيب بأن خطاب المشافهة وإن
كان خاصا بالحاضرين إلّا أن حكمه عام كما تقرر في الأصول
فالمآل إلى تمتيع الجنس وأيضا النصب على المصدرية بفعله المقدر
لا يدفع المحذور لكونه استئنافا لبيان المقصود ولا يخفى أن كون
المقصود هو تمتيع المؤمنين محل بحث. وقوله سبحانه فَإِذا
جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى إلخ شروع في بيان معادهم إثر
بيان أحوال معاشهم بقوله عز وجل مَتاعاً إلخ والفاء للدلالة
على ترتب ما بعدها على ما قبلها على ما قيل كما ينبىء عنه لفظ
المتاع، والطامة أعظم الدواهي لأنه من طم بمعنى علا كما ورد في
المثل: جرى الوادي فطمّ على القرى، وجاء السيل فطمّ الركيّ.
وعلوها على الدواهي غلبتها عليها فيرجع لما ذكر قيل، فوصفها
«بالكبرى» للتأكيد ولو فسر كونها طامة بكونها غالبة للخلائق لا
يقدرون على دفعها لكان الوصف مخصصا، وقيل كونها طامة باعتبار
أنها تغلب وتفوق ما عرفوه من دواهي الدنيا وكونها كبرى باعتبار
أنها أعظم من جميع الدواهي مطلقا وقيل غير ذلك. وأنت تعلم أن
الطَّامَّةُ الْكُبْرى صارت كالعلم للقيامة وروي كونها اسما من
أسمائها هنا عن ابن عباس
وعنه أيضا وعن الحسن أنها النفخة الثانية. وأخرج ابن أبي شيبة
وابن المنذر عن القاسم بن الوليد الهمداني أنها الساعة التي
يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار. وأخرجا
عن عمرو بن قيس الكندي أنها ساعة يساق أهل النار إلى النار وفي
معناه قول مجاهد هي إذا دفعوا إلى مالك خازن جهنم يَوْمَ
يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى بدل كل أو بعض من إذا جاءت
على ما قيل، وقيل: بدل من الطَّامَّةُ الْكُبْرى فيكون مرفوع
المحل وفتح لإضافته إلى الفعل على رأي الكوفيين
(15/236)
وتكون الطامة حقيقة التذكر البروز لأن حسن
العمل يغلب كل لذة وسواه كل مشقة وكذا بروز الجحيم مع الابتلاء
به يغلب كل مشقة ومع النجاة عنه كل لذة إلا يخفى تعسفه. وقيل:
ظرف ل جاءَتِ وعليه الطبرسي واستظهر أنه منصوب بأعني تفسيرا
للطامة الكبرى وما موصولة وسَعى بمعنى عمل والعائد مقدر أي له
والمراد يوم يتذكر كل أحد ما عمله من خير أو شر بأن يشاهده
مدوّنا في صحيفته وقد كان نسيه من فرط الغفلة أو طول الأمد أو
شدة ما لقي أو كثرته التي تعجز الحافظ عن الضبط لقوله تعالى
أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة: 6] ويمكن أن يكون تذكره
بوجه آخر، وجوّز أن تكون ما مصدرية أي يتذكر فيه سعيه.
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ عطف على جاءَتِ وقيل على يَتَذَكَّرُ
وقيل حال من الإنسان بتقدير قد أو بدونه، والموصول بعد مغن عن
العائد، وكلا القولين على ما في الإرشاد على تقدير الجواب
يتذكر الإنسان ونحوه وسيأتي إن شاء الله تعالى فلا تغفل. ومعنى
بُرِّزَتِ أظهرت إظهارا بيّنا لا يخفى على أحد لِمَنْ يَرى
كائنا من كان يروي أنه يكشف عنها فتتلظى فيراها كل ذي بصر وخص
بعض من بالكافر وليس بشيء.
وقرأت عائشة وزيد بن علي وعكرمة ومالك بن دينار «وبرزت» مبنيا
للفاعل مخففا لمن ترى بالتاء الفوقية على أن فيه ضمير جهنم كما
في قوله تعالى إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [الفرقان:
12] وإسناد الرؤية لها مجازا وهو حقيقة على أن يخلق الله تعالى
ذلك فيها، ويجوز أن تكون خطابا لسيد المخاطبين صلّى الله عليه
وسلم أو لكل راء كقوله تعالى وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ
[السجدة: 12] أي لمن تراه من الكفار. وقرأ أبو نهيك وأبو
السمال وهارون عن أبي عمرو «وبرزت» مبنيا للمفعول مخففا وقوله
تعالى فَأَمَّا مَنْ طَغى إلخ جواب «إذا» على أنها شرطية لا
ظرفية كما جوز على طريقة قوله تعالى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ
مِنِّي هُدىً [البقرة: 38، طه: 123] الآية.
وقولك إذا جاءك بنو تميم فأما العاصي فأهنه وأما الطائع
فأكرمه. واختاره أبو حيان وقيل: جوابها محذوف كأنه قيل فإذا
جاءت وقع ما لا يدخل تحت الوصف. وقوله سبحانه فَأَمَّا إلخ
تفصيل لذلك المحذوف وفي جعله جوابا غموض وهو وجه وجيه بيد أنه
لا غموض في ذاك بعد تحقق استقامة أن يقال فإذا جاءت فإن الطاغي
الجحيم مأواه وغيره في الجنة مثواه وزيادة أما لم تفد إلّا
زيادة المبالغة وتحقيق الترتب والثبوت على كل تقدير، وقيل: هو
محذوف لدلالة ما قبل والتقدير ظهرت الأعمال ونشرت الصحف أو
يتذكر الإنسان ما سعى أو لدلالة ما بعد والتقدير انقسم الراؤون
قسمين وليس بذاك أي فأما من عتا وتمرد عن الطاعة وجاوز الحد في
العصيان حتى كفر وَآثَرَ أي اختار الْحَياةَ الدُّنْيا الفانية
التي هي على جناح الفوات فانهمك فيما متع به فيها ولم يستعد
للحياة الآخرة الأبدية بالإيمان والطاعة فَإِنَّ الْجَحِيمَ
التي ذكر شأنها هِيَ الْمَأْوى أي مأواه على ما رآه الكوفيون
من أن أل في مثله عوض عن المضاف إليه الضمير وبها يحصل الربط
أو المأوى له على رأي البصريين من عد كونها عوضا ورابطا، وهذا
الحذف هنا للعلم بأن الطاغي هو صاحب المأوى وحسنه وقوع المأوى
فاصلة وهو الذي اختاره الزمخشري. وهي إما ضمير فصل لا محل له
من الإعراب أو ضمير جهنم مبتدأ والكلام دال على الحصر أي كأنه
قيل فإن الجحيم هي مأواه أو المأوى له لا مأوى له سواها.
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أي مقامه بين يدي مالك أمره
يوم الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى على أن الإضافة
مثلها في رقود حلب أو وأما من خاف ربه سبحانه على أن لفظ
مَقامَ مقحم والكلام معه كناية عن ذلك وإثبات للخوف من الرب عز
وجل بطريق برهاني بليغ نظير ما قيل في قوله
(15/237)
تعالى أَكْرِمِي مَثْواهُ [يوسف: 21] .
وتمام الكلام في ذلك قد تقدم في سورة الرحمن وَنَهَى النَّفْسَ
عَنِ الْهَوى أي زجرها وكفها عن الهوى المردي وهو الميل إلى
الشهوات وضبطها بالصبر والتوطين على إيثار الخيرات ولم يعتد
بمتاع الدنيا وزهرتها ولم يغتر بزخارفها وزينتها علما بوخامة
عاقبتها. وعن ابن عباس ومقاتل إنه الرجل يهم بالمعصية فيذكر
مقامه للحساب بين يديّ ربه سبحانه فيخاف فيتركها، وأصل الهوى
مطلق الميل وشاع في الميل إلى الشهوة وسمي بذلك على ما قال
الراغب لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل واهية وفي الآخرة
إلى الهاوية ولذلك مدح مخالفه. قال بعض الحكماء: إذا أردت
الصواب فانظر هواك فخالفه.
وقال الفضيل: أفضل الأعمال مخالفة الهوى وقال أبو عمران
الميرتلي:
فخالف هواها واعصها إن من يطع ... هوى نفسه تنزع به شر منزع
ومن يطع النفس اللجوجة ترده ... وترم به في مصرع أي مصرع
إلى غير ذلك. وقد قارب أن يكون قبح موافقة الهوى وحسن مخالفته
ضروريين إلّا أن السالم من الموافقة قليل قال سهل: لا يسلم من
الهوى إلّا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبعض الصديقين فطوبى
لمن سلم منه. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى له لا غيرها،
والظاهر أن هذا التفصيل عام في أهل النار وأهل الجنة.
وعن ابن عباس أن الآيتين نزلتا في أبي عزير بن عمير وأخيه مصعب
بن عمير رضي الله تعالى عنه كان الأول طاغيا مؤثر الحياة
الدنيا وكان مصعب خائفا مقام ربه ناهيا النفس عن الهوى وقد وقى
رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس
عنه حتى نفذت المشاقص أي السهام في جوفه فلما رآه عليه الصلاة
والسلام متشحطا في دمه قال: «عند الله تعالى احتسبك» وقال
لأصحابه: «لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك
نعله من ذهب ولما أسر أخوه أبو عزيز ولم يشد وثاقه إكراما له
وأخبر بذلك قال: ما هو لي بأخ شدوا أسيركم فإن أمه أكثر أهل
البطحاء حليا ومالا.
وفي الكشاف أنه قتل أخاه أبا عزيز يوم أحد وعن ابن عباس أيضا
أنهما نزلتا في أبي جهل وفي مصعب وقيل نزلت الأولى في النضر
وابنه الحارث المشهورين بالغلو في الكفر والطغيان.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها أي متى
إرساؤها أي إقامتها يريدون متى يقيمها الله تعالى ويكونها
ويثبتها، فالمرسى مصدر ميمي من سار بمعنى ثبت ومنه الجبال
الرواسي وحاصل الجملة الاستفهامية السؤال عن زمان ثبوتها
ووجودها، وجوز أن يكون المرسى بمعنى المنتهى أي متى منتهاها
ومستقرها كما أن مرسى السفينة حيث تنتهي إليه وتستقر فيه كذا
قيل. وتقدير الاستفهام بمتى يقتضي أن المرسى اسم زمان وقوله:
كما أن إلخ ظاهر في أنه اسم مكان ولذا قيل الكلام على
الاستعارة يجعل اليوم المتباعد فيه كشخص سائر لا يدرك ويوصل
إليه ما لم يستقر في مكان فجعل الظاهر على ما قيل. وقوله تعالى
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا
عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها إما تقرير وتأكيد لما ينبىء عنه الإنذار
من سرعة مجيء المنذر به لا سيما على الوجه الثاني والمعنى
كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الإنذار إلّا قليلا، وإما رد
لما أدمجوه في سؤالهم فإنهم كانوا يسألون عنها بطريق الاستبطاء
مستعجلين بها وإن كان على نهج الاستهزاء بها وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس: 48، النمل: 71،
سبأ: 29، يس: 48، الملك: 25] والمعنى كأنهم يوم يرونها لم
يلبثوا بعد الوعيد بها إلّا عشية إلخ. وهذا الكلام على ما نقل
عن الزمخشري له أصل وهو لم يلبثوا إلّا ساعة من نهار عشيته أو
ضحاه فوضع هذا المختصر موضعه وإنما أفادت الإضافة ذلك كما في
الكشف من حيث
(15/238)
إنك إذا قلت «لم يلبثوا إلّا عشية أو ضحى»
احتمل أن تكون العشية من يوم والضحى من آخر فيتوهم الاستمرار
من ذلك الزمان إلى مثله من اليوم الآخر، أما إذا قلت عشيته أو
ضحاه لم يحتمل ذلك البتة وفي قولك ضحى تلك العشية ما يغني عن
قولك عشية ذلك النهار أو ضحاه. وقال الطيبي: إنه من المحتمل أن
يراد بالعشية أو الضحى كل اليوم مجازا، فلما أضيف أفاد التأكيد
ونفي ذلك الاحتمال وجعله من باب رأيته بعيني وهو حسن ولكن
السابق أبعد من التكلف ولا منع من الجمع وزاد الإضافة حسنا كون
الكلمة فاصلة واعتبر جمع كون اللبث في الدنيا وبعضهم كونه في
القبور وجوز كونه فيهما واحتار في الإرشاد ما قدمنا وقال: إن
الذي يقتضيه المقام اعتبار كونه بعد الإنذار أو بعد الوعيد
تحقيقا للإنذار وردا لاستبطائهم والجملة على الوجه الأول حال
من الموصول كأنه قيل: تنذرهم مشبهين يوم يرونها في الاعتقاد
بمن لم يلبث بعد الإنذار بها إلّا تلك المدة اليسيرة، وعلى
الثاني مستأنفة لا محل لها من الإعراب، هذا ولا يخفى عليك أن
الوجه الثاني وإن كان حسنا في نفسه لكنه مما لا يتبادر إلى
الفهم وعليه يحسن الوقف على فِيمَ ثم يستأنف أنت من ذكراها
لئلا يلبس وقيل إن قوله تعالى فِيمَ إلخ متصل بسؤالهم على أنه
بدل من جملة يسألونك إلخ أو هو بتقدير القول أي يسألونك عن
زمان قيام الساعة ويقولون لك في أي مرتبة أَنْتَ مِنْ ذِكْراها
أي علمها أي ما مبلغ علمك فيها أو يسألونك عن ذلك قائلين لك في
أي مرتبة أنت إلخ. والجواب عليه قوله تعالى إِلى رَبِّكَ
مُنْتَهاها ولا يخفى ضعف ذلك.
وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والحاكم وصححه
عن عائشة قالت: ما زال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسأل عن
الساعة حتى أنزل الله تعالى عليه فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها
إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها فانتهى عليه الصلاة والسلام فلم يسأل
بعدها
.
وأخرج النسائي وغيره عن طارق بن شهاب قال: كان رسول الله صلّى
الله عليه وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت فِيمَ أَنْتَ مِنْ
ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها فكف عنها
وعلى هذا فهو تعجيب من كثرة ذكره صلّى الله عليه وسلم لها كأنه
قيل في أي شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها، والمعنى
أنهم يسألونك عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل
عنها ونظر فيه ابن المنير بأن قوله عز وجل يَسْئَلُونَكَ كأنك
وقت إدراكه مستقرا له فتدبر.
وقوله تعالى فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إنكار ورد لسؤال
المشركين عنها أي في أي شيء أنت من أن تذكر لهم وقتها وتعلمهم
به حتى يسألوك بيانها كقوله تعالى يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ
حَفِيٌّ عَنْها [الأعراف: 187] فالاستفهام للإنكار وفِيمَ خبر
مقدم وأَنْتَ مبتدأ مؤخر ومِنْ ذِكْراها على تقدير مضاف أي
ذكرى وقتها متعلق بما تعلق به الخبر وقيل فِيمَ إنكار لسؤالهم
وما بعده استئناف تعليل للإنكار وبيان لبطلان السؤال أي فيم
هذا السؤال ثم ابتدئ فقيل أَنْتَ مِنْ ذِكْراها أي إرسالك وأنت
خاتم الأنبياء المبعوث في نسم الساعة علامة من علامتها ودليل
يدلهم على العلم بوقوعها عن قريب فحسبهم هذه المرتبة من العلم،
فمعنى قوله تعالى إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها على هذا الوجه إليه
تعالى يرجع منتهى علمها أي علمها بكنهها وتفاصيل أمرها ووقت
وقوعها لا إلى أحد غيره سبحانه وإنما وظيفتهم أن يعلموا
باقترابها ومشارفتها وقد حصل لهم ذلك بمبعثك فما معنى سؤالهم
عنها بعد ذلك؟ وأما على الوجه الأول فمعناه إليه عز وجل انتهاء
علمها ليس لأحد منه شيء كائنا ما كان فلأي شيء يسألونك عنها.
وقوله تعالى إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها عليه تقرير
لما قبل من قوله سبحانه فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها وتحقيق لما
هو المراد منه وبيان لوظيفته عليه الصلاة والسلام في ذلك الشأن
فإن إنكار كونه صلّى الله عليه وسلم في شيء من ذكراها مما يوهم
بظاهره أن
(15/239)
ليس له عليه الصلاة والسلام ان يذكرها بوجه
من الوجوه فأزيح ذلك ببيان أن المنفي عنه صلّى الله عليه وسلم
ذكراها لهم بتعيين وقتها حسبما كانوا يسألونه عنها، فالمعنى
إنما أنت منذر من يخشاها ويخاف أهوالها وظيفتك الامتثال بما
أمرت به من بيان اقترابها وتفصيل ما فيها من فنون الأهوال كما
تحيط به لا معلم بتعيين وقتها الذي لم يفوض إليك فما لهم
يسألونك عما لم تبعث له ولم يفوض إليك أمره، وعلى الوجه الثاني
هو تقرير لقوله تعالى أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ببيان أن إرساله
عليه الصلاة والسلام وهو خاتم الأنبياء عليهم السلام منذر
بمجيء الساعة كما ينطق به
قوله صلّى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كهاتين إن كادت
لتسبقني»
والظاهر على الأول أن القصر من قصر الموصوف على الصفة والمعنى
ما أنت إلّا منذر لا معلم بالوقت مبين له. وإنما ذكر صلة
المنذر إظهارا لكونها ذات مدخل في القصر لكون الكلام في القصر
على منذر خاص ونفي إعلام خاص يقابله وكونه من قصر الصفة على
الموصوف بناء على ما يتبادر إلى الفهم من كلام السكاكي أن
المعنى إنما أنت منذر الخاشي دون من لا يخشى، أي ما أنت منذر
إلّا من يخشى دون غيره مناسب للمقام على أنه قيل عليه إن من
يخشى مَنْ صلة مُنْذِرُ ليس من متعلق إنما في شيء ليجعل الجزء
الأخير المقصور عليه الإنذار وهذا إن صح استلزم عدم صحة ما قرر
لكن في صحته مقال إذ يستلزم أيضا أن لا يصح إنما هو غلام زيد
لا عمرو وإنما هو ضارب عمرا لا زيدا مع شهرة استعمال ذلك من
غير نكير فتأمل. والظاهر على الثاني أن إِنَّما لمجرد التأكيد
زيادة في الاعتناء بشأن الخبر وليست للحصر إذ لا يتعلق به غرض
عليه بحسب حَفِيٌّ عَنْها يرده إذ المراد أنك لا تحتفي بالسؤال
عنها ولا تهتم بذلك وهم يسألونك كما يسأل الحفي عن الشيء أي
الكثير السؤال عنه، وأجيب بأنه يحتمل أنه لم يكن منه صلّى الله
عليه وسلم أو لا احتفاه ثم كان وإن سؤالهم هذا ونزول الآية بعد
وقوع الاحتفاء وأنت تعلم ما في ذلك من البعد. وقرأ أبو جعفر
وشيبة وخالد الحذّاء وابن هرمز وعيسى وطلحة وابن محيصن وابن
مقسم وأبو عمرو في رواية «منذر» بالتنوين والإعمال وهو الأصل
في مثله بعد اعتبار المشابه والإضافة للتخفيف فلا ينافي أن
الأصل في الأسماء عدم الإعمال والإعمال عارض للشبه والوصف عند
إعماله وإضافته للتخفيف صالح للحال والاستقبال، وإذا أريد
الماضي فليس إلّا الإضافة كقولك: هو منذر زيد أمس وهو هنا على
ما قيل للحال لمقارنة «يخشى» ولا ينافي أنه صلّى الله عليه
وسلم منذر في الماضي والمستقبل حتى يقال المناسب لحال الرسالة
الاستمرار ومثله ويجوز فيه الإعمال وعدمه ثم المراد بالحال حال
الحكم لا حال التكلم وفي ذلك كلام في كتب الأصول فلا تغفل
والله تعالى أعلم.
(15/240)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)
أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ
يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا
عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى
(8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا
إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي
صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ
الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ
(18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ
السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا
أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)
سورة عبس
وتسمى سورة الصاخة وسورة السفرة وسميت في غير كتاب سورة الأعمى
وهي مكية لا خلاف وآيها اثنتان وأربعون في الحجازي والكوفي،
وإحدى وأربعون في البصري، وأربعون في الشامي والمدني الأول
ولما ذكر سبحانه فيما قبلها إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ
يَخْشاها [النازعات: 45] ذكر عز وجل في هذه من ينفعه الإنذار
ومن لم ينفعه فقال عز من قائل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ
جاءَهُ الْأَعْمى إلخ روي أن ابن أم مكتوم وهو ابن خال خديجة
واسمه عمرو بن قيس بن زائدة بن جندب بن هرم بن رواحة بن حجر بن
معيص بن عامر بن لؤي القرشي وقيل عبد الله بن عمرو وقيل عبد
الله بن شريح بن مالك بن أبي ربيعة الفهري والأول أكثر وأشهر
كما في جامع الأصول وأم مكتوم كنية أمه واسمها عاتكة بنت عبد
الله المخزومية، وغلط الزمخشري في جعلها في الكشاف جدته وكان
أعمى وعمي بعد نور وقيل ولد أعمى ولذا قيل لأمه أم مكتوم.
أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش عتبة
وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف
والوليد بن المغيرة يناجيهم ويدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم
بإسلامهم غيرهم فقال: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك
الله تعالى وكرر ذلك ولم يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله
صلّى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت. فكان
رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكرمه ويقول إذا رآه: «مرحبا
بمن عاتبني فيه ربي» ويقول: «هل لك من حاجة» .
واستخلفه صلّى الله عليه وسلم على المدينة فكان يصلي بالناس
ثلاث عشرة مرة كما رواه ابن عبد البر في الاستيعاب عن
(15/241)
أهل العلم بالسير ثم استخلف بعده أبا لبابة
وهو من المهاجرين الأولين هاجر على الصحيح قبل النبيّ صلّى
الله عليه وسلم ووهم القرطبي في زعمه أنه مدني وأنه لم يجتمع
بالصناديد المذكورين من أهل مكة وموته قيل بالقادسية شهيدا يوم
فتح المدائن أيام عمر رضي الله تعالى عنه، ورآه أنس يومئذ
وعليه درع وله راية سوداء وقيل رجع منها إلى المدينة فمات بها
رضي الله تعالى عنه. وضمير عَبَسَ وما بعده للنبيّ صلّى الله
عليه وسلم وفي التعبير عنه عليه الصلاة والسلام بضمير الغيبة
إجلال له صلّى الله عليه وسلم لإيهام أن من صدر عنه ذلك غيره
لأنه لا يصدر عنه صلّى الله عليه وسلم مثله كما أن في التعبير
عنه صلّى الله عليه وسلم بضمير الخطاب في قوله سبحانه وَما
يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ذلك لما فيه من الإيناس بعد
الإيحاش والإقبال بعد الإعراض والتعبير عن ابن أم مكتوم
بالأعمى للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام الرسول صلّى
الله عليه وسلم وتشاغله بالقوم. وقيل: إن الغيبة أولا والخطاب
ثانيا لزيادة الإنكار وذلك كمن يشكو إلى الناس جانيا جنى عليه
ثم يقبل على الجاني إذا حمى على الشاكية مواجها بالتوبيخ
وإلزام الحجة وفي ذكر الأعمى نحو من ذلك لأنه وصف يناسب
الإقبال عليه والتعطف. وفيه أيضا دفع إيهام الاختصاص بالأعمى
المعين وإيماء إلى أن كل ضعيف يستحق الإقبال من مثله على أسلوب
«لا يقضي القاضي وهو غضبان» وإن بتقدير حرف الجر أعني لام
التعليل وهو معمول لأول الفعلين على مختار الكوفيين وثانيهما
على مختار البصريين وكليهما معا على مذهب الفراء نعم هو بحسب
المعنى علة لهما بلا خلاف أي عبس لأن جاءه الأعمى وأعرض لذلك.
وقرأ زيد بن علي «عبّس» بتشديد الباء للمبالغة لا للتعدية وهو
والحسن وأبو عمران الجوني وعيسى «آن» بهمزة ومدة بعدها وبعض
القراء بهمزتين محققتين والهمزة في القرائتين للاستفهام
الإنكاري ويوقف على تَوَلَّى والمعنى إلّا أن جاء الأعمى فعل
ذلك وضمير لَعَلَّهُ للأعمى والظاهر أن الجملة متعلقة بفعل
الدراية على وجه سد مسد مفعوله أي أي شيء يجعلك داريا بحال هذا
الأعمى لعله يتطهر بما يتلقن من الشرائع من بعض أوضار الإثم.
أَوْ يَذَّكَّرُ أي يتعظ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أي ذكراك
وموعظتك والمعنى أنك لا تدري ما هو مترقب منه من تزك أو تذكر
ولو دريت لما كان الذي كان والغرض نفي دراية أنه يزكى أو يذكر
والترجي راجع إلى الأعمى أو إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم
على ما قيل دلالة على أن رجاء تزكية أو كونه ممن يرجى منه ذلك
كاف في الامتناع من العبوس والإعراض كيف وقد كان استزكاؤه
محققا، ولما هضم من حقه في تعلق الرجاء به لا التحقق اعتبر
متعلق التزكي بعض الأوضار ترشيحا لذلك وفيه إظهار ما يقتضي
مقام العظمة هاهنا من إطلاق التزكي وحمله على ما ينطلق عليه
الاسم لا الكامل. وقال بعضهم: متعلق الدراية محذوف أي ما يدريك
أمره وعاقبة حاله ويطلعك على ذلك. وقوله سبحانه لَعَلَّهُ إلخ
استئناف وارد لبيان ما يلوح به ما قبله فإنه مع إشعاره بأن له
شأنا منافيا للإعراض عنه خارجا عن دراية الغير ودرائه مؤذن
بأنه تعالى يدريه ذلك. واعتبر في التزكي الكمال فقال: أي لعله
يتطهر بما يقتبس منك من أوضار الإثم بالكلية أو يتذكر فتنفعه
موعظتك إن لم تبلغ درجة التزكي التام، ولعل الأول أبعد مغزى.
وقدم التزكي على التذكر لتقدم التخلية على التحلية وخص بعضهم
الثاني بما إذا كان ما يتعلمه من النوافل والأول بما إذا كان
سوى ذلك وهو كما ترى وفي الآية تعريض وإشعار بأن من تصدى صلّى
الله عليه وسلم لتزكيتهم وتذكيرهم من الكفرة لا يرجى منهم
التزكي والتذكر أصلا فهي كقولك لمن يقرر مسألة لمن لا يفهمها
وعنده آخر قابل لفهمها: لعل هذا يفهم ما تقرر فإنه يشعر بأنه
قصد تفهيم غيره وليس بأهل لما قصده، وقيل: جاء التعريض من جهة
أن المحدث عنه كان متزكيا من الآثام متعظا
(15/242)
وقيل ضمير لَعَلَّهُ للكافر والترجي راجع
إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم أي إنك طمعت في تزكيه بالإسلام
وتذكره بالموعظة ولذلك أعرضت عن غيره فما يدريك أن ما طمعت فيه
كائن وضعف بعدم تقدم ذكر الكافر وبإفراد الضمير والظاهر جمعه
أي بناء على المشهور في أن من تشاغل عليه الصلاة والسلام به
كان جمعا وجاء في بعض الروايات أنه كان واحدا. وقرأ الأعرج
وعاصم في رواية «أو يذكر» بسكون الذال وضم الكاف وقرأ الأكثر
«فتنفعه» بالرفع عطفا على يَذَّكَّرُ وبالنصب قرأ عاصم في
المشهور والأعرج وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وهو عند
البصريين بإضمار أن بعد الفاء وعند الكوفيين في جواب الترجي
وهو كالتمني عندهم ينصب في جوابه. وفي الكشف أن النصب يؤيد
رجوع ضمير لعله على الكافر لإشمام الترجي معنى التمني لبعد
المرجو من الحصول أي بالنظر إلى المجموع إذ قد حصل من العباس
وعلى السابق وجهه ترشيح معنى الهضم فتذكر أَمَّا مَنِ
اسْتَغْنى أي عن الإيمان وعما عندك من العلوم والمعارف التي
ينطوي عليها القرآن وفي معناه ما قيل استغنى بكفره عما يهديه
وقيل: أي وأما من كان ذا ثروة وغنى وتعقب بأنه لو كان كذلك
لذكر الفقر في مقابله وأجيب بما ستعمله إن شاء الله تعالى
فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى أي تتصدى وتتعرض بالإقبال عليه
والاهتمام بإرشاده واستصلاحه وفيه مزيد تنفير له صلّى الله
عليه وسلم عن مصاحبتهم فإن الإقبال على المدبر مخل بالمروءة،
ومن هنا قيل:
لا أبتغي وصل من لا يبتغي صلتي ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني
والله لو كرهت كفي مصاحبتي ... يوما لقلت لها عن صحبتي بيني
وقرأ الحرميان «تصدّى» بتشديد الصاد على أن الأصل تتصدى فقلبت
التاء صادا وأدغمت وقرأ أبو جعفر «تصدّى» بضم التاء وتخفيف
الصاد مبنيا للمعفول أي تعرض ومعناه يدعوك إلى التصدّي والتعرض
له داع من الحرص ومزيد الرغبة في إسلامه، وأصل تَصَدَّى على ما
في البحر تصدد من الصدد وهو ما استقبلك وصار قبالتك يقال داري
صدد داره أي قبالتها، وقيل من الصدى وهو العطش وقيل من الصدى
وهو الصوت المعروف وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وليس عليك
بأس في أن لا يتزكى بالإسلام حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى
الإعراض عمن أسلم فما نافية والجملة حال من ضمير تَصَدَّى
والممنوع عنه في الحقيقة الإعراض عمن أسلم لا الإقبال على غيره
والاهتمام بأمره حرصا على إسلامه، ويجوز أن تكون ما استفهامية
للإنكار أي أي شيء عليك في أن لا يتزكى ومآله النفي أيضا
وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى أي حال كونه مسرعا طالبا لما عندك
من أحكام الرشد وخصال الخير وَهُوَ يَخْشى أي يخاف الله تعالى
وقيل أذية الكفار في الإتيان وقيل العثار والكبوة إذ لم يكن
معه قائد والجملة حال من فاعل يَسْعى كما أن جملة يَسْعى حال
من فاعل جاءَكَ واستظهر بعض الأفاضل أن النظم الجليل من
الاحتباك ذكر الغنى أولا للدلالة على الفقر ثانيا، والمجيء
والخشية ثانيا للدلالة على ضدهما أولا وكأنه حمل استغنى على ما
نقل أخيرا واستشعر ما قيل عليه فاحتاج لدفعه إلى هذا التكلف
وعدم الاحتياج إليه على ما نقلناه في غاية الظهور فَأَنْتَ
عَنْهُ تَلَهَّى تتشاغل يقال لهى عنه كرضى ورمى والتهى وتلهى.
وفي تقديم ضميره عليه الصلاة والسلام على الفعلين تنبيه على أن
مناط الإنكار خصوصيته عليه الصلاة والسلام وتقديم له وعنه قيل
للتعريض بالاهتمام بمضمونها وقيل للعناية لأنهما منشأ العتاب
وقيل للفاصلة وقيل للحصر وذكر التصدي في المستغني دون الاشتغال
به وهو المقابل للتلهي عن المسرع الخاشي والتلهي عنه دون عدم
التصدي له وهو المقابل للتصدي لذلك قيل للإشعار
(15/243)
بأن العتاب للاهتمام بالأول لا للاشتغال به
إذ الاشتغال بالكفار غير ممنوع وعلى الاشتغال عن الثاني لا
لأنه لا اهتمام له صلّى الله عليه وسلم في أمره إذ الاهتمام
غير واجب لأنه عليه الصلاة والسلام ليس إلّا منذرا. وقرأ البزي
عن ابن كثير «عنهو تلهى» بإدغام تاء المضارعة في تاء تفعل وأبو
جعفر «تلهّى» بضم التاء مبنيا للمفعول أي يشغلك الحرص على دعاء
الكافر للإسلام وطلحة «تتلهى» بتاءين وعنه بتاء واحدة وسكون
اللام كَلَّا مبالغة في إرشاده صلّى الله عليه وسلم إلى عدم
معاودة ما عوقب عليه صلّى الله عليه وسلم، وقد نزل ذلك كما في
خبر رواه ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس بعد أن قضى عليه
الصلاة والسلام نجواه وذهب إلى أهله، وجوز كونه إرشادا بليغا
إلى ترك المعاتب عليه عليه الصلاة والسلام بناء على أن النزول
في أثناء ذلك وقبل انقضائه. وفي بعض الآثار أنه صلّى الله عليه
وسلم بعد ما عبس في وجه فقير ولا تصدى لغني وتأدب الناس بذلك
أدبا حسنا فقد روي عن سفيان الثوري أن الفقراء كانوا في مجلسه
أمراء.
والضمير في قوله تعالى إِنَّها للقرآن العظيم والتأنيث لتأنيث
الخبر أعني قوله سبحانه تَذْكِرَةٌ أي موعظة يجب أن يتعظ بها
ويعمل بموجبها وكذا الضمير في قوله عز وجل فَمَنْ شاءَ
ذَكَرَهُ والجملة والمؤكدة تعليل لما أفادته كلا ببيان علو
رتبة القرآن العظيم الذي استغنى عنه من تصدى عليه الصلاة
والسلام له والجملة الثانية اعتراض جيء به للترغيب في القرآن
والحث على حفظه أو الاتعاظ به واقتران الجملة المعترض بها
بالفاء قد صرح به ابن مالك في التسهيل من غير نقل اختلاف فيه
وكلام الزمخشري في الكشاف عند الكلام على قوله تعالى
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [النحل: 43، الأنبياء: 7] نص في
ذلك نعم قيل إنه قيل له فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ اعتراض فقال لا
لأن الاعتراض شرطه أن يكون بالواو أو بدونه فأما بالفاء فلا أي
وهو استطراد لكن تعقب بأن النقل لمنافاته ذلك ليس بثبت، ويمكن
أن يكون في القوم من ينكر ذلك فوافقه تارة وخالفه أخرى، وما
ألطف قول السعد في التلويح الاعتراض يكون بالواو والفاء:
فاعلم فعلم المرء ينفعه هذا وقيل الضمير الأول للسورة أو
للآيات السابقة والثاني للتذكرة والتذكير لأنها بمعنى الذكر
والوعظ أو لمرجع الأول والتذكير باعتبار كون ذلك قرآنا ورجح
بعدم ارتكاب التأويل قبل الاحتياج إليه وتعقب بأنه ليس بذاك
فإن السورة أو الآيات وإن كانت متصفة بما سيأتي إن شاء الله
تعالى من الصفات الشريفة لكنها ليست مما ألقى على من استغنى
عنه واستحق بسبب ذلك ما سيأتي إن شاء الله تعالى من الدعاء
عليه والتعجب من كفره المفرط لنزولها بعد الحادثة وجوز كون
الضميرين للمعاتبة الواقعة وتذكير الثاني لكونها عتابا وفيه
أنه يأباه الوصف بالصفات الآتية وإن كان باعتبار أن العتاب وقع
بالآيات المذكورة قبل وهي متصفة بما ذكر جاء ما سمعت آنفا وقيل
لك أن تجعلهما للدعوة إلى الإسلام وتذكير الثاني لكونها دعاء
وهذا على ما فيه مما يأباه المقام. وقوله تعالى فِي صُحُفٍ
متعلق بمضمر هو صفة لتذكرة أو خبر ثان لأن أي كائنة أو مثبتة
في صحف والمراد بها الصحف المنتسخة من اللوح المحفوظ. وعن ابن
عباس هي اللوح نفسه وهو غير ظاهر وقيل الصحف المنزلة على
الأنبياء عليهم السلام كقوله تعالى وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ
الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 196] وقيل:
صحف المسلمين على أنه إخبار بالغيب فإن القرآن بمكة لم يكن في
الصحف وإنما كان متفرقا في الدفاف والجريد ونحوهما، وأول ما
جمع في صحيفة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وهو
كما ترى مُكَرَّمَةٍ عند الله عز وجل مَرْفُوعَةٍ أي في السماء
السابعة كما قال يحيى بن سلام أو مرفوعة القدر كما
(15/244)
قيل مُطَهَّرَةٍ منزهة عن مساس أيدي
الشياطين أو عن كل دنس على ما روي عن الحسن، وقيل: عن الشبه
والتناقص والأول قيل مأخوذ من مقابلته بقوله تعالى: بِأَيْدِي
سَفَرَةٍ أي كتبة من الملائكة عليهم السلام كما قال مجاهد
وجماعة فإنهم ينسخون الكتب من اللوح وهو جمع سافر أي كاتب
والمصدر السفر كالضرب.
وعن ابن عباس هم الملائكة المتوسطون بين الله تعالى وأنبيائه
عليهم السلام على أن جمع سافر أيضا بمعنى سفير أي رسول وواسطة،
والمشهور في مصدره بهذا المعنى السفارة بكسر السين وفتحها وجاء
فيه السفر أيضا كما في القاموس. وقيل: هم الأنبياء عليهم
السلام لأنهم سفراء بين الله تعالى والأمة أو لأنهم يكتبون
الوحي ولا يخفى بعده فإن الأنبياء عليهم السلام وظيفتهم التلقي
من الوحي لا الكتب لما يوحى على أن خاتمهم صلّى الله عليه وسلم
لم يكن يكتب القرآن بل لم يكتب أصلا على ما هو الشائع وقد مر
تحقيقه وكذا وظيفتهم إرشاد الأمة بالأمر والنهي وتعليم الشرائع
والأحكام لا مجرد السفارة إليهم. وأخرج عبد بن حميد وابن
المنذر عن وهب بن منبه أنهم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم
قيل لأنهم سفراء ووسائط بينه عليه الصلاة والسلام وبين سائر
الأمة، وقيل: لأن بعضهم يسفر إلى بعض في الخير والتعليم
والتعلم وفي رواية عن قتادة أنهم القراء وكان القولين ليس
بالمعول عليه وقد قالوا هذه اللفظة مختصة بالملائكة عليهم
السلام لا تكاد تطلق على غيرهم وإن جاز الإطلاق بحسب اللغة
ومادتها موضوعة بجميع تراكيبها لما يتضمن الكشف كسفرت المرأة
إذا كشفت القناع عن وجهها والباء قيل متعلقة ب مُطَهَّرَةٍ
وقيل بمضمر هو صفة أخرى ل صُحُفٍ كِرامٍ أي أعزاء على الله
تعالى معظمين عنده عز وجل فهو من الكرامة بمعنى التوقير أو
متعطفين على المؤمنين يستغفرون لهم ويرشدونهم إلى ما فيه الخير
بالإلهام وينزلون بما فيه تكميلهم من الشرائع فهو من الكرم ضد
اللؤم بَرَرَةٍ أي أتقياء وقيل مطيعين الله تعالى من قولهم
فلان يبر خالقه أي يطيعه وقيل صادقين من بر في يمينه وهو جمع
بر لا غير، وأما أبرار فيكون جمع بر كرب وأرباب وجمع بار كصاحب
وأصحاب وإن منعه بعض النحاة لعدم اطّراده واختص على ما قيل
الجمع الأول بالملائكة والثاني بالآدميين في القرآن ولسان
الشارع صلّى الله عليه وسلم وكان ذلك لأن الأبرار من صيغ القلة
دون البررة، ومتقو الملائكة أكثر من متقي الآدميين فناسب
استعمال صيغة القلة وإن لم ترد حقيقتها في الآدميين دونهم.
وقال الراغب. خص البررة بهم من حيث إنه أبلغ من أبرار فإنه جمع
بر وأبرار جمع بار، وبر أبلغ من بار كما أن عدلا أبلغ من عادل
وكأنه عنى أن الوصف ببر أبلغ لكونه من قبيل الوصف بالمصدر من
الوصف ببار لكن قد سمعت أن أبرارا يكون جمع بر كما يكون جمع
بار وأيضا في كون الملائكة أحق بالوصف بالأبلغ بالنسبة إلى
الآدميين مطلقا بحث. وقيل: إن الأبرار أبلغ من البررة إذ هو
جمع بار والبررة جمع بر وبار أبلغ منه لزيادة بنيته ولما كانت
صفات الكمال في بني آدم تكون كاملة وناقصة وصفوا بالأبرار
إشارة إلى مدحهم بأكمل الأوصاف، وأما الملائكة فصفات الكمال
فيهم لا تكون ناقصة فوصفوا بالبررة لأنه يدل على أصل الوصف
بقطع النظر عن المبالغة فيه لعدم احتياجهم لذلك وإشارة لفضيلة
البشر لما في كونهم أبرارا من المجاهدة وعصيان داعي الجبلة
وفيه ما لا يخفى ومن استعمال البررة في الملائكة ما
أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن
ماجة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الذي
يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأه
وهو عليه شاق له أجران» .
قُتِلَ الْإِنْسانُ دعاء عليه بأشنع الدعوات وأفظعها ما
أَكْفَرَهُ تعجيب من إفراطه في الكفران وبيان لاستحقاقه الدعاء
عليه والمراد به إما من استغنى عن القرآن الكريم الذي ذكرت
نعوته الجليلة الموجبة للإقبال
(15/245)
عليه والإيمان به، وإما الجنس باعتبار
انتظامه له ولأمثاله من أفراده ورجح هذا بأن الآية نزلت على ما
أخرج ابن للمنذر عن عكرمة في عتبة بن أبي لهب غاضب أباه فأسلم
ثم استصلحه أبوه وأعطاه مالا وجهزه إلى الشام، فبعث إلى رسول
الله صلّى الله عليه وسلم إنه كافر برب النجم إذا هوى فقال
صلّى الله عليه وسلم: «اللهم ابعث عليه كلبك حتى يفترسه»
فلما كان في أثناء الطريق ذكر الدعاء فجعل لمن معه ألف دينار
إن أصبح حيا فجعلوه وسط الرفقة والمتاع حوله فأقبل أسد إلى
الرحال ووثب فإذا هو فوقه فمزقه فكان أبوه يندبه ويبكي عليه
ويقول: ما قال محمد صلّى الله عليه وسلم شيئا قط إلّا كان
وسيأتي إن شاء الله تعالى خبر في هذه القصة أطول من هذا الخبر
فلا تغفل ثم إن هذا كلام في غاية الإيجاز. وقد قال جار الله:
لا ترى أسلوبا أغلظ منه ولا أدل على سخط ولا أبعد شوطا في
المذمة مع تقارب طرفيه ولا أجمع للأئمة على قصر متنه حيث اشتمل
على ما سمعت من الدعاء مرادا إذ لا يتصور منه تعالى لازمه وعلى
التعجب المراد به لاستحالته عليه سبحانه التعجيب لكل سامع.
وقال الإمام: إن الجملة الأولى تدل على استحقاقهم أعظم أنواع
العقاب عرفا، والثانية تنبيه على أنهم اتصفوا بأعظم أنواع
القبائح والمنكرات شرعا ولم يسمع ذلك قبل نزول القرآن وما نسب
إلى امرئ القيس من قوله:
يتمنى المرء في الصيف الشتا ... فإذا جاء الشتا أنكره
فهو لا يرضى بحال واحد ... قتل الإنسان ما أكفره
لا أصل له ومن له أدنى معرفة بكلام العرب لا يجهل أن قائل ذلك
مولد أراد الاقتباس لا جاهلي، وجوز بعضهم أن يكون قوله تعالى
قُتِلَ الْإِنْسانُ خبرا عن أنه سيقتل الكفار بإنزال آية
القتال وعبر بالماضي مبالغة في أنه سيتحقق ذلك وليس بشيء ونحوه
ما قيل إن ما استفهامية أي أي شيء أكفره أي جعله كافرا بمعنى
لا شيء يسوغ له أن يكفر. وقوله تعالى مِنْ أَيِّ شَيْءٍ
خَلَقَهُ شروع في بيان إفراطه في الكفران بتفصيل ما أفاض عز
وجل عليه من مبدأ فطرته إلى منتهى عمره من فنون النعم الموجبة
لأن تقابل بالشكر والطاعة مع إخلاله والاستفهام قيل للتحقير
وذكر الجواب أعني قوله تعالى مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ لا يقتضي
أنه حقيقي لأنه ليس بجواب في الحقيقة بل على صورته وهو بدل من
قوله سبحانه مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وجوز أن يكون للتقرير
والتحقير مستفاد من شيء المنكر وقيل التحقير يفهم. أيضا من
قوله سبحانه مِنْ نُطْفَةٍ إلخ أي من أي شيء حقير مهين خلقه من
نطفة مذرة خلقه فَقَدَّرَهُ فهيأه لما يصلح له ويليق به من
الأعضاء والأشكال فالتقدير بمعنى التهيئة لما يصلح ولذا ساغ
عطفه بالفاء دون التسوية لأن الخلق بمعنى التقدير بهذا المعنى
أو يتضمنه فلا تصلح الفاء وجوز أن يكون هذا تفصيلا لما أجمل
أولا في قوله تعالى مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ أي فقدره أطوار
إلى أن أتم خلقه ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ أي ثم سهل مخرجه
من البطن كما جاء في رواية عن ابن عباس بأن فتح فم الرحم ومدد
الأعصاب في طريقه ونكس رأسه لأسفل بعد أن كان في جهة العلو.
وعن ابن عباس أيضا وقتادة وأبي صالح والسدّي المراد ب
السَّبِيلَ سبيل النظر القويم المؤدي إلى الإيمان وتيسيره له
هو هبة العقل وتمكينه من النظر. وقال مجاهد والحسن وعطاء وهو
رواية عن الحبر أيضا:
هو سبيل الهدى والضلال أي سهل له الطريق الذي يريد سلوكه من
طريق الخير والهدى وطريق الشر والضلال بأن أقدره عز وجل على كل
ومكنه منه والإقدار على المراد نعمة ظاهرة بقطع النظر عن
خيريته وشريته فلا يرد عليه أنه كيف يعد تسهيل طريق الشر
والضلال من النعم وقل إنه عد منها لأنه لو لم يكن مسهلا كسبيل
الخير لم يستحق المدح والثواب بالإعراض عنه وتركه مبني على
القول بأن ترك المحرم كالزنا مع عدم القدرة عليه
(15/246)
لعنة مثلا لا يثاب عليه وقيل يثاب ويمدح
عليه إذا قدر التارك في نفسه أنه لو تمكن لم يفعل. وقال بعضهم:
العجز عن الشر نعمة وأنشد:
جكونه شكر ابن نعمت كزارم ... كه زور مردم آزارى ندارم
ونصب السبيل بمضمر يفسره الظاهر وفيه مبالغة في التيسير وتمكين
في النفس بسبب التكرير. قيل:
وفي تعريفه باللام دون الإضافة إشعار بعمومه فإنه لو قيل سبيله
أوهم أنه على التوزيع وإن لكل إنسان سبيلا يخصه وخص بعضهم هذه
النكتة بالمعنى الأخير للسبيل فتدبر. وعلى هذا المعنى قيل إن
فيه إيماء إلى أن الدنيا طريق المقصد غيرها لما أشعرت به الآية
من أن الميسر سبيل المكلفين الذي يترتب عليه الثواب والعقاب
وفيه خفاء وأيّا ما كان فالضمير المنصوب في يَسَّرَهُ للسبيل
وليس في التفكيك لبس حتى يكون نقصا في البيان ثُمَّ أَماتَهُ
فَأَقْبَرَهُ أي جعله ذا قبر توارى فيه جيفته تكرمة له ولم
يجعله مطروحا على الأرض يستقذره من يراه وتقتسمه السباع والطير
إذا ظفرت به كسائر الحيوان والمراد من جعله إذا قبر أمره عز
وجل بدفنه يقال: قبر الميت إذا دفنه بيده، ومنه قول الأعشى:
لو أسندت ميتا إلى نحرها ... عاش ولم ينقل إلى قابر
وأقبره إذا أمر بدفنه أو مكّن منه ففي الآية إشارة إلى مشروعية
دفن الإنسان وهي مما لا خلاف فيه وأما دفن غيره من الحيوانات
فقيل هو مباح لا مكروه وقد يطلب لأمر مشروع يقتضيه كدفع أذى
جيفته مثلا وعد الإماتة من النعم لأنها وصلة في الجملة إلى
الحياة الأبدية والنعيم المقيم، وخصت هذه النعم بالذكر لما
فيها من ذكر أحوال الإنسان من ابتدائه إلى انتهائه وما تتضمن
من النعم التي هي محض فضل من الله فإذا تأمل ذلك العاقل علم
قبح الكفر وكفران نعم الرب سبحانه وتعالى فشكره جل وعلا
بالإيمان والطاعة ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أي إذا شاء
إنشاره أنشره على القاعدة المعروفة في حذف مفعول المشيئة وفي
تعليق الإنشار بمشيئته تعالى إيذان بأن وقته غير معين أصلا بل
هو تابع لها وهذا بخلاف الإماتة فإن وقتها معين إجمالا على ما
هو المعهود في الأعمار الطبيعية وكذا الحال في وقت الإقبار بل
هو أظهر في ذلك. وقرأ شعيب بن الحجاب كما في كتاب اللوامح وابن
أبي حمزة كما في تفسير ابن عطية «نشره» بدون همزة وهما لغتان
في الإحياء وقوله تعالى كَلَّا ردع للإنسان عما هو عليه من
كفران النعم البالغ نهايته وقوله سبحانه لَمَّا يَقْضِ ما
أَمَرَهُ بيان لسبب الردع ولَمَّا نافية جازمة ونفيها غير
منقطع وما موصولة وضمير أَمَرَهُ إما للإنسان كالمستتر في يقض
والعائد إلى الموصول محذوف أي به أو للموصول على الحذف
والإيصال والعائد إلى الإنسان محذوف أي إياه قيل والثاني أحسن
لأن حذف المفعول أهون من حذف العائد إلى الموصول والمراد بما
أمره جميع ما أمره والمعنى على ما قال غير واحد لم يقض من أول
زمانه تكليفه إلى زمان أمانته وإقباره أو من لدن آدم عليه
السلام إلى هذه الغاية مع طول المدى وامتداده جميع ما أمره فلم
يخرج من جميع أوامره تعالى إذ لا يخلو أحد عن تقصير ما، ونقل
هذا عن مجاهد وقتادة وفيه حمل عدم القضاء على نفي العموم وتعقب
بأنه لا ريب في أن مساق الآيات الكريمة لبيان غاية عظم جناية
الإنسان وتحقيق كفرانه المفرط المستوجب للسخط العظيم وظاهر أن
ذلك لا يتحقق بهذا القدر من نوع تقصير لا يخلو عنه أحد من
أفراده واختير أن يحمل عدم القضاء على عموم النفي إما على أن
المحكوم عليه هو الإنسان المستغني أو هو الجنس لكن لا على
الإطلاق بل على أن مصداق الحكم بعدم القضاء بعض أفراده وقد
أسند إلى الكل كما في قوله
(15/247)
أَنَّا صَبَبْنَا
الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)
فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28)
وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30)
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ
(32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ
الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35)
وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ
يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)
أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ
كَفَّارٌ [إبراهيم: 34] وإما على أن مصداقه الكل من حيث هو كمل
بطريق رفع الإيجاب الكلي دون السلب الكلي فالمعنى لما يقض جميع
أفراده ما أمره بل أخل به بعضها بالكفر والعصيان مع أن مقتضى
ما فصل من فنون النعماء الشاملة للكل أن لا يختلف عنه أحد. وعن
الحسن أن كَلَّا بمعنى حقا فيتعلق بما بعده أي حقا لم يعمل بما
أمره به. وقال ابن فورك: الضمير في يَقْضِ لله تعالى أي لم يقض
الله تعالى لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان بل أمره إقامة
للحجة عليه لما يقض له ولا يخفى بعده.
والظاهر عليه أن كَلَّا بمعنى حقا أيضا وقوله سبحانه
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ على معنى إذا كان هذا
حال الإنسان وهو أنه إلى الآن لم يقض ما أمره مع أن مقتضى
النعم السابقة القضاء فلينظر إلى طعامه إلخ لعله يقضي. وفي
الحواشي العصامية لا يخفى ما في قوله تعالى لَمَّا يَقْضِ ما
أَمَرَهُ من كمال تهييج الإنسان وتحريضه على امتثال ما يعقبه
من الأمر بالنظر وتفريع الأمر عليه مبني على أن الائتمار كما
ينبغي أن يتيسر بعد الارتداع عما هو عليه، والظاهر أن المراد
بالإنسان هنا نحو ما أريد به في قوله تعالى قُتِلَ الْإِنْسانُ
ولما جوز صاحب الحواشي المذكورة حمل عدم القضاء على السلب
الكلي وجعل الكلام في الإنسان المبالغ في الكفر قال: فالمراد
بضمير يَقْضِ غير الإنسان الذي أمر بالنظر فإنه عام فلذا أظهر
وتضمن ما مر ذكر النعم الذاتية أي ما يتعلق بذات الإنسان من
الذات نفسها ولوازمها، وهذا ذكر النعم الخارجية المقابلة لذلك
وقيل: الأولى نعم خاصة والثانية نعم عامة. وقيل: تلك نعم
متعلقة بالحدوث وهذه نعم متعلقة بالبقاء وفيه نظر. والظاهر أن
المراد بالطعام المطعوم بأنواعه واقتصر عليه ولم يذكر المشروب
لأن آثار القدرة فيه أكثر من آثارها في المشروب واعتبار
التغليب لا يخفى ما فيه.
وقوله تعالى أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ بدل منه بدل اشتمال فإنه
لكونه من أسباب تكونه كالمشتمل عليه والعائد محذوف أي صببنا
له، وجوز كونه بدل كل من كل على معنى فلينظر الإنسان إلى
إنعامنا في طعامه إنا صببنا إلخ وهو كما ترى وأيّا ما كان
فالمقصود بالنظر هو البدل وبذلك يضعف ما روي عن أبيّ وابن عباس
ومجاهد والحسن وغيرهم أن المعنى فلينظر إلى طعامه إذا صار
رجيعا ليتأمل عاقبة الدنيا وما تهالك عليه أهلها، ولعمري إن
هذا بعيد الإرادة عن السياق ولا أظن أنه وقع على صحة روايته عن
هؤلاء الأجلّة الاتفاق. وظاهر الصب يقتضي تخصيص الماء بالغيث
وهو المروي عن ابن عباس وجوز بعضهم إرادة الأعم. وقال: إن في
كل ماء صبا من الله تعالى بخلق أسبابه على أصول النباتات وأنت
تعلم أن إيصال الماء إلى أصول النباتات يبعد تسميته صبا وتأكيد
الجملة للاعتناء بمضمونها مع كونها مظنة لإنكار القاصر لعدم
الإحساس بفعل من الله تعالى وإنما يعرف الاستناد إليه عز وجل
بالنظر الصحيح. وقرأ الأكثر «إنّا» بالكسر على الاستئناف
البياني كأنه لما أمر سبحانه بالنظر إلى ما رزقه جل وعلا من
أنواع المأكولات قيل كيف أحدث ذلك وأوجد بعد أن لم يكن فقيل
أَنَّا صَبَبْنَا إلخ
وقرأ الإمام الحسين ابن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى
وجههما ورضي سبحانه
(15/248)
عنهما «أنى صببنا» بفتح الهمزة والإمالة
على معنى فلينظر الإنسان كيف صببنا الماء صَبًّا عجيبا ثُمَّ
شَقَقْنَا الْأَرْضَ أي بالنبات كما قال ابن عباس شَقًّا بديعا
لائقا بما يشقها من النبات صغرا وكبرا وشكلا وهيئة.
وقيل: شقها بالكراب وإسناده إلى ضميره تعالى مجاز من باب
الإسناد إلى السبب وإن كان الله تعالى عز وجل هو الموجد حقيقة
فقد تبين في موضعه أن إسناد الفعل حقيقة لمن قام به لا من صدر
عنه إيجادا ولهذا يشتق اسم الفاعل له وتعقب بأنه يأباه كلمة ثم
والفاء في قوله تعالى فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا فإن الشق
بالمعنى المذكور لا ترتب بينه وبين الإمطار أصلا ولا بينه وبين
إنبات الحب بلا مهلة فإن المراد بالنبات ما نبت من الأرض إلى
أن يتكامل النمو وينعقد الحب فإن انشقاق الأرض بالنبات لا يزال
يتزايد ويتسع إلى تلك المرتبة على أن مساق النظم الكريم لبيان
النعم الفائضة من جنابه تعالى على وجه بديع خارج عن العادات
المعهودة كما ينبىء منه إرداف الفعلين بالمصدرين فتوسيط فعل
المنعم عليه في حصول تلك النعم مخل بالمرام وللبحث فيه مجال.
وقيل عليه أيضا إن الشق بالكراب لا يظهر في العنب والزيتون
والنخل وأجيب بأنه ليس من لوازم العطف تقييد المعطوف بجميع ما
قيد به المعطوف عليه ويحتمل أن يكون ذكر الكراب في القيل على
سبيل التمثيل، أو أريد به ما يشمل الحفر وجوز أن يكون المراد
شقها بالعيون على أن المراد بصب الماء إمطار المطر وبهذا إجراء
الأنهار، وتعقب بأنه يأباه ترتب الشق على صب الماء بكلمة
التراخي وأيضا ترتيب الإنبات على مجموع الصب والشق بالمعنى
المذكور لا يلائم قوله تعالى وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ
ماءً ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا [النبأ: 14، 15] الآية
لإشعارة باستقلال الصب وإنزال الغيث في ذلك، ودفعا بأن ماء
العيون من المطر لا من الأبخرة المحتبسة في الأرض ولا يخفى على
ذي عين أن هذا الوجه بعيد متكلف. والمراد بالحب جنس الحبوب
التي يتقوت بها وتدخر كالحنطة والشعير والذرة وغيرها وَعِنَباً
معروف وَقَضْباً أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن
ابن عباس أنه قال هو الفصفصة وقيدها الخليل بالرطبة وقال:
إذا يبست فهي القت وسميت بمصدر قضبه أي قطعة مبالغة كأنها
لتكرر قطعها وتكثره نفسه القطع، وضعف هذا من فسر الأب بما يشمل
ذلك وقيل هو كل ما يقضب ليأكله ابن آدم غضا من النبات كالبقول
والهليون.
وفي البحر عن الحبر إنه الرطب وهو يقضب من النخل واستأنس له
بذكره مع العنب ولا يخفى ما فيه وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا هما
معروفان وَحَدائِقَ رياضا غُلْباً أي عظاما وأصله جمع أغلب
وغلباء صفة العنق وقد يوصف به الرجل لكن الأول هو الأغلب ومنه
قول الأعشى:
يمشي بها غلب الرقاب كأنهم ... بزل كسين من الكحيل (1) جلالا
ووصف الحدائق بذلك على سبيل الاستعارة شبه تكاثف أوراق الأشجار
وعروقها بغلظ الأوداج وانتفاخ الأعصاب مع اندماج بعضها في بعض
في غلظ الرقبة إلا أن الغلظ في الأشجار أقوى لأن الأمر بالعكس
نظرا إلى الاندماج وتقوّي البعض بالبعض حتى صارت شيئا واحدا،
وجوز أن يكون هناك مجاز مرسل كما في المرسن بأن يراد بالأغلب
الغليظ مطلقا، وتجوز في الإسناد أيضا لأن الحدائق نفسها ليست
غليظة بل الغليظ أشجارها. وقال بعض: المراد بالحدائق نفس
الأشجار لمكان العطف على ما في حيز أنبتنا فلا تغفل وَفاكِهَةً
قيل هي الثمار كلها وقيل بل هي الثمار ما عدا العنب والرمان
وأيّا ما كان فذكر ما يدخل فيها
__________
(1) الكحيل مصغر وهو النفط يطلى به الجرب اهـ منه.
(15/249)
أولا للاعتناء بشأنه وَأَبًّا عن ابن عباس
وجماعة إنه الكلأ والمرعى من أنّه إذا أمّه وقصده لأنه يؤم
ويقصد أو من أب لكذا إذا تهيأ له لأنه متهىء المرعى ويطلق على
نفس مكان الكلأ ومنه قوله:
جذمنا (1) قيس ونجد دارنا ... ولنا الأب بها والمكرع
وذكر بعضهم أن ما يأكله الآدميون من النبات يسمى الحصيدة
والحصيد، وما يأكله غيرهم يسمى الأب وعليه قول بعض الصحابة
يمدح النبي صلّى الله عليه وسلم:
له دعوة ميمونة ريحها الصبا ... بها ينبت الله الحصيدة والأبا
وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك أنه التبن خاصة وقيل هو يابس
الفاكهة لأنها تؤب وتهيأ للشتاء للتفكه بها. وأخرج أبو عبيد في
فضائله وعبد بن حميد عن إبراهيم التيمي قال: سئل أبو بكر
الصديق رضي الله تعالى عنه عن الأب ما هو؟ فقال: أي سماء تظلني
وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله تعالى ما لا أعلم. وأخرج
ابن سعد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر
والحاكم وصححه وغيرهم عن أنس أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ
على المنبر فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً- إلى قوله-
وَأَبًّا فقال: كل هذا قد عرفناه فما الأب ثم رفع عصا كانت في
يده فقال هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك يا ابن أم عمر أن
لا تدري ما الأب ابتغوا ما بيّن لكم من هذا الكتاب فاعملوا به
وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه وفي صحيح البخاري من رواية أنس
أيضا أنه قرأ ذلك وقال: فما الأب؟ ثم قال: ما كلفنا أو ما
أمرنا بهذا. ويتراءى من ذلك النهي عن تتبع معاني القرآن والبحث
عن مشكلاته. وفي الكشاف لم يذهب إلى ذلك ولكن القوم كانت أكبر
همتهم عاكفة على العمل وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به
تكلفا فأراد رضي الله تعالى عنه أن الآية مسوقة في الامتنان
على الإنسان بمطمعه واستدعاء شكره وقد علم من فحواها أن الأب
بعض ما أنبت سبحانه للإنسان متاعا له أو لأنعامه فعليك بما هو
أهم من النهوض بالشكر له عز وجل على ما تبين لك، ولم يشكل مما
عدد من نعمته تعالى ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ومعرفة
النبات الخاص الذي هو اسم له واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن
يتبين لك في غير هذا الوقت، ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا
السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن انتهى. وهو قصارى ما
يقال في توجيه ذلك لكن في بعض الآثار عن الفاروق كما في الدر
المنثور ما يبعد فيه إن صح هذا التوجيه بقي شيء وهو أنه ينبغي
أن خفاء تعيين المراد من الأب على الشيخين رضي الله تعالى
عنهما ونحوها من الصحابة وكذا الاختلاف فيه لا يستدعي كونه
غريبا مخلا بالفصاحة وأنه غير مستعمل عند العرب العرباء وقد
فسره ابن عباس لابن الأزرق بما تعتلف منه الدواب واستشهد به
بقول الشاعر:
ترى به الأب واليقطين مختلطا ووقع في شعر بعض الصحابة كما سمعت
ومن تتبع وجد غير ذلك. مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ قيل
إما مفعول له أي فعل ذلك تمتيعا لكم ولمواشيكم فإن بعض النعم
المعدودة طعام لهم وبعضها علف لدوابهم ويوزع وينزل كل على
مقتضاه والالتفات لتكميل الامتناع، وإما مصدر مؤكد لفعله
المضمر بحذف الزوائد أي متعكم بذلك متاعا أو لفعل مرتب عليه أي
فتمتعتم بذلك متاعا أي تمتعا أو مصدر من غير لفظه فإن ما ذكر
__________
(1) جذمنا بكسر الجيم أي أصلنا اهـ منه.
(15/250)
من الأفعال الثلاثة في معنى التمتيع وقد مر
الكلام في نظيره فتذكر فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ شروع في بيان
أحوال معادهم بعد بيان ما يتعلق بخلقهم ومعاشهم والفاء للدلالة
على ترتب ما بعدها على ما يشعر به لفظ المتاع من سرعة زوال
هاتيك النعم وقرب اضمحلالها. والصَّاخَّةُ هي الداهية العظيمة
من صخ بمعنى أصاخ أي استمع والمراد بها النفخة الثانية، ووصفت
بها لأن الناس يصخون لها فجعلت مستمعة مجازا في الظرف أو
الإسناد. وقال الراغب الصَّاخَّةُ شدة صوت ذي النطق، يقال: صخ
يصخ فهو صاخ فعليه هي بمعنى الصائحة مجازا أيضا. وقيل: مأخوذة
من صخه بالحجر أي صكه. وقال الخليل: هي صيحة تصخ الآذان صخا أي
تصمها لشدة وقعتها، ومنه أخذ الحافظ أبو بكر بن العربي قوله
الصَّاخَّةُ هي التي تورث الصمم وإنها لمسمعة وهو من بديع
الفصاحة كقوله:
أصم بك الداعي وإن كان أسمعا ثم قال: ولعمر الله تعالى إن صيحة
القيامة مسمعة تصم عن الدنيا وتسمع أمور الآخرة. والكلام في
جواب (إذا) وفي يَوْمَ من قوله تعالى يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ
مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ أي زوجته
وَبَنِيهِ على نحو ما تقدم في النازعات فتذكره فما في العهد من
قدم أي يوم يعرض عنهم ولا يصاحبهم.
ولا يسأل عن حالهم كما في الدنيا لاشتغاله بحال نفسه كما يؤذن
به قوله تعالى لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ
يُغْنِيهِ فإنه استئناف وارد لبيان سبب الفرار وجعله جواب
فَإِذا والاعتذار عن عدم التصدير بالفاء بتقدير الماضي بغير قد
أو المضارع المثبت أو بالفاء إبدال يوم يفر المرء عنه إياه لأن
البدل لا يطلب جزاء لا يخفى حاله على من شرط الإنصاف على نفسه
أي لكل واحد من المذكورين شغل شاغل وخطب هائل يكفيه في
الاهتمام به.
وأخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي والحاكم وصححه عن أم
المؤمنين سودة بنت زمعة قالت:
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة حفاة
عراة غرلا قد ألجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان» قلت: يا رسول
الله وا سوأتاه ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: «شغل الناس عن ذلك»
وتلا يَوْمَ يَفِرُّ الآية
.
وجاء في رواية الطبراني عن سهل بن سعد أنه قيل له عليه الصلاة
والسلام: ما شغلهم؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «نشر الصحائف
فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل»
. وقيل يفر منهم لعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئا وكلام الكشاف
يشعر بذلك ويأباه ما سمعت وكذا ما قيل يفر منهم حذرا من
مطالبتهم بالتبعات يقول الأخ لم تواسني بمالك، والأبوان قصرت
في برنا، والصاحبة أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت، والبنون لم
تعلمنا ولم ترشدنا ويشعر بذلك ما أخرج أبو عبيد وابن المنذر عن
قتادة قال: ليس شيء أشد على الإنسان يوم القيامة من أن يرى من
يعرفه مخافة أن يكون يطلبه بمظلمة. ثم قرأ يَوْمَ يَفِرُّ
الآية وذكر المرء بناء على أنه الرجل لا الإنسان ليعلم منه حال
المرأة من باب أولى. وقيل: هو من باب التغليب وفيه نظر وجعل
القاضي ذكر المتعاطفات على هذا النمط من باب الترقي على اعتبار
الأب على الأم سابقا على عطفهما على الأخ فيكون المجموع معطوفا
عليه وكذا في صاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ فقال: تأخير الأحب فالأحب
للمبالغة كأنه قيل: يفر من أخيه بل من أبويه بل من صاحبته
وبنيه، ولا يخفى تكلفه مع اختلاف الناس والطباع في أمر الحب
ولعل عدم مراعاة ترق أو تدل لهذا الاختلاف مع الرمز إلى أن
الأمر يومئذ أبعد من أن يخطر بالبال فيه ذلك.
وروي عن ابن عباس أنه يفر قابيل من أخيه هابيل، ويفر النبي
صلّى الله عليه وسلم من أمه، ويفر إبراهيم عليه السلام من
أبيه، ويفر نوح عليه السلام من ابنه، ويفر لوط عليه السلام من
امرأته. وفي خبر رواه ابن عساكر عن الحسن نحو ذلك
وفيه فيرون أن هذه الآية أعني يوم يفر
(15/251)
إلخ نزلت فيهم وكلا الخبرين لا يعول عليهما
ولا ينبغي أن يلتفت إليهما كما لا يخفى والذي أدين الله تعالى
به نجاة أبويه صلّى الله عليه وسلم وقد ألفت رسائل في ذلك رغما
لأنف علي القاري ومن وافقه وأعتقد أن جميع آبائه عليه الصلاة
والسلام لا سيما من ولداه بلا واسطة أوفر الناس حظا مما أوتي
هناك من السعادة والشرف وسمو القدر:
كم من أب قد سما بابن ذرى شرف ... كما سما برسول الله عدنان
وقرأ ابن محيصن وابن أبي عبلة وحميد وابن السميفع «يعنيه» بفتح
الياء وبالعين المهملة أي يهمه من عناه الأمر إذا أهمه أي
أوقعه في الهم ومنه
قوله صلّى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا
يعنيه»
لا من عناه إذا قصده كما زعمه أبو حيان. وقوله تعالى وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ بيان لمآل أمر المذكورين وانقسامهم إلى
السعداء والأشقياء بعد ذكر وقوعهم في داهية دهياء ف وُجُوهٌ
مبتدأ وسوغ الابتداء به كونه في حيز التنويع كما مر
ومُسْفِرَةٌ خبره ويَوْمَئِذٍ متعلق به أي مضيئة متهللة من
أسفر الصبح إذا أضاء وعن ابن عباس إن ذلك من قيام الليل. وعن
الضحاك من آثار الوضوء فيختص ذلك بهذه الأمة أي لأن الوضوء من
خواصهم قيل أي بالنسبة إلى الأمم السابقة فقط لا مع أنبيائهم
عليهم السلام وقيل من طول ما اغبرّت في سبيل الله تعالى
ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ أي مسرورة بما تشاهد من النعيم المقيم
والبهجة الدائمة وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ أي
غبار وكدورة تَرْهَقُها أي تعلوها وتغشاها قَتَرَةٌ أي سواد
وظلمة ولا ترى أوحش من اجتماع الغرة والسواد في الوجه وسوّى
الفيروزآبادي والجوهري بين الغبرة والقترة فقيل المراد بالقترة
الغبار حقيقة، وبالغبرة ما يغشاهم من العبوس من الهم. وقيل:
هما على حقيقتهما والمعنى أن عليها غبارا وكدورة فوق غبار
وكدورة.
وقال زيد بن أسلم: الغبرة ما انحطت إلى الأرض والقترة ما ارتفع
إلى السماء، والمراد وصول الغبار إلى وجوههم من فوق ومن تحت
والمعول عليه ما تقدم. وقرأ ابن أبي عبلة «قترة» بسكون التاء
أُولئِكَ إشارة إلى أصحاب تلك الوجوه وما فيه من معنى البعد
للإيذان ببعد درجتهم في سوء الحال أي أولئك الموصوفون بما ذكر
هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ أي الجامعون بين الكفر والفجور
فلذلك جمع الله تعالى لهم بين الغبرة والقترة وكان الغبرة
للفجور والقترة للكفور نعوذ بالله عز وجل من ذلك.
(15/252)
|