روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)

سورة التّكوير
ويقال سورة كورت وسورة إذا الشمس كورت وهي مكية بلا خلاف وآيها تسع وعشرون آية، وفي التيسير ثمان وعشرون، وفيها من شرح حال يوم القيامة الذي تضمنه آخر السورة قبل ما فيها
وقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت»
أي السور الثلاث وكفى بذلك مناسبة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ أي لفّت من كورت العمامة إذا لففتها وهو مجاز عن رفعها (1) وإزالتها من مكانها بعلاقة اللزوم فإن الثوب إذا أريد رفعه يلف لفا ويطوى ثم يرفع ونحوه قوله تعالى يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ [الأنبياء: 104] ويجوز أن يراد لف ضوئها المنبسط في الآفاق المنتشر في الأقطار، إما على أن الشمس مجاز عن الضوء فإنه شائع في العرف، أو على تقدير المضاف، أو على التجوز في الإسناد ويراد من لفه إذهابه مجازا بعلاقة اللزوم كما سمعت آنفا، أو رفعه وستره استعارة كما قيل، وقد اعتبر تشبيه الضوء بالجواهر والأمور النفسية التي إذا رفعت لفّت في ثوب ثم تعتبر الاستعارة ويجعل التكوير بمعنى اللف قرينة ليكون هناك استعارة مكنية تخييلية. وكون المراد إذهاب ضوئها مروي عن الحسن وقتادة ومجاهد وهو ظاهر ما رواه جماعة عن ابن عباس من تفسيره كُوِّرَتْ بأظلمت، والظاهر أن ذاك مع بقاء جرمها كالقمر في خسوفه وفي الآثار ما يؤيد ذلك، وقيل: إن ذاك عبارة عن إزالة نفس الشمس والذهاب بها للزوم العادي واستلزام زوال اللازم لزوال الملزوم، ويجوز أن يكون المراد ب كُوِّرَتْ ألقيت عن فلكها
__________
(1) ولعل القرينة النسبة اهـ منه.

(15/253)


وطرحت من طعنه فحوره وكوره أي ألقاه مجتمعا على الأرض وإلقاؤها في جهنم مع عبدتها كما يدل عليه بعض الأخبار المرفوعة ويذهب إذا ذاك نورها كما صرح به القرطبي أو في البحر كما يدل عليه خبر ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عتيك. وفيه أن الله تعالى يبعث ريحا دبورا فتنفخه أي البحر حتى يرجع نارا، وعظم جرم الشمس اليوم لا يقتضي استحالة إلقائها في البحر ذلك اليوم لجواز اختلاف الحال في الوقتين والله عز وجل على كل شيء قدير لكن جاء في الأخبار الصحيحة أن الشمس تدنو يوم القيامة من الرؤوس في المحشر حتى تكون قدر ميل ويلجم الناس العرق يومئذ والأبحر حينئذ لتلقى فيه بعد فلا تقفل وعن أبي صالح كُوِّرَتْ نكست. وفي رواية عن ابن عباس تكويرها إدخالها في العرش. وعن مجاهد أيضا اضمحلت، ومدار التركيب على الإدارة والجمع هذا ولم نقف لأحد من السلف على إرادة لفها حقيقة، وللمتأخرين في جواز إرادته خلاف فقيل: لا تجوز إرادته لأن الشمس كرية مصمتة وغاية اللف هي الإدارة وهي حاصلة فيها، وقيل: تجوز لأن كون الشمس كذلك مما لا يثبته أهل الشرح وعلى تسليمه يجوز أن يحدث فيها قابلية اللف بأن يصيرها سبحانه منبسطة ثم يلفها وله عز وجل في ذلك ما له من الحكم، ويبعد إرادة الحقيقة فيما أرى كونها كيفما كانت من الأجرام التي لا تلف كالثياب نعم القدرة في كل وقت لا يتعاصاها شيء، وارتفاع الشمس بفعل مضمر يفسره المذكور عند جمهور البصريين لاختصاص إذا الشرطية عندهم بالفعل وعلى الابتداء عند الأخفش والكوفيين لعدم الاختصاص عندهم وكون التقدير خلاف الأصل.
وكذا يقال في قوله تعالى وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أي انقضت وسقطت كما أخرجه عبد بن حميد عن مجاهد وقتادة، ومنه: انكدر البازي إذا نزل بسرعة على ما يأخذه. قال العجاج يمدح عمر بن عمر التميمي:
إذا الكرام ابتدروا الباع بدر ... تقضّي البازي إذا البازي كسر

دانى جناحيه من الطود فمر ... أبصر خربان فضاء فانكدر
وهذا إحدى روايتين عن ابن عباس. وروي عنه أنه قال: لا يبقى يومئذ نجم إلّا سقط في الأرض. وعنه أيضا أن النجوم قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور بأيدي ملائكة من نور، فإذا مات من في السماوات والأرض تساقطت من أيديهم. وظاهر هذا أن النجوم ليست في جرم أفلاك لها كما يقول الفلاسفة المتقدمون بل معلقة في فضاء ويقرب منه من وجه قول الفلاسفة المحدثين فإنهم يقولون بكونها في فضاء أيضا لكن بقوى متجاذبة لا معلقة بسلاسل بأيدي ملائكة وليس وراء ما يشاهد منها إلا سماء بمعنى جهة علو لا سماء بالمعنى المعروف، وإن صح خبر الحبر وهو في حكم المرفوع لم نعدل عن ظاهره إلّا إن ظهر استحالته وهيهات ذلك وحينئذ فالأمر سهل. وقد ذكر بعض متأهلين أن الملائكة قد تطلق على الأرباب النورية كما
في خبر: «إن لكل شيء ملكا وإن كل قطرة من قطرات المطر ينزل معها ملك»
.
وخبر «أتاني ملك الجبال وملك البحار»
وتسمى المثل الأفلاطونية وهي أنوار مجردة قائمة بنفسها مدبرة بإذن الله تعالى للمربوبات حافظة إياها وهي المنمية والغاذية والمولودة في النباتات والحيوانات ويقال في السلاسل إنه أريد بها القوى التي بها حفظ الأوضاع أو نحو ذلك. وقيل: انكدرت تغيرت وانطمس. نورها كما في هو في الرواية الأخرى عن ابن عباس من كدرت الماء فانكدر ففيه تشبيه انطماس نورها بتكدر الماء الذي لا يبقى معه صفاؤه ورونق منظره، وتكون هي حينئذ على ما في بعض الآثار مع عبدتها في النار وظاهر أن النجوم لا تشمل الشمس وقيل تشملها وذكرها بعدها تعميم بعد تخصيص فلا تغفل وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ أي أزيلت عن أماكنها من الأرض

(15/254)


بالرجفة الحاصلة على أن التسيير مجاز عن ذلك، وقيل: سيرت بعد رفعها في الجو كما قال تعالى وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل: 88] . وهذا إنما يكون بعد النفخة الثانية وَإِذَا الْعِشارُ جمع عشراء كنفاس جمع نفساء وهي الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل فيها الفحل عشرة أشهر ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع، وقد يقال لها ذلك بعد ما تضع أيضا وهي أنفس ما يكون عند أهلها وأعز شيء عليهم عُطِّلَتْ تركت مهملة لا راعي لها ولا طالب، وقيل: عطلها أهلها عن الحلب والصر، وقيل عن أن يرسل فيها الفحول وذلك إذا كان قبيل قيام القيامة لاشتغال أهلها بما عراهم مما يكون إذا ذاك. وقيل: إن هذا التعطيل يوم القيامة، فقال القرطبي: الكلام على التمثيل إذ لا عشار حينئذ والمعنى أنه لو كانت عشار لعطلها أهلها واشتغلوا بأنفسهم، وقيل على الحقيقة أي إذا قاموا من القبور وشاهدوا الوحوش والأنعام والدواب محشورة ورأوا عشارهم التي كانت كرائم أموالهم فيها لم يعبؤوا بها لشغلهم بأنفسهم وهو كما ترى. وقيل: المراد بالعشار السحاب على تشبيه السحابة المتوقع مطرها بالناقة العشراء القريب وضع حملها وفيه استعارة لطيفة مع المناسبة التامة بينه وبين ما قبله فإن السحب تنعقد على رؤوس الجبال وترى عندها وإلّا ينافيه كونه مناسبا لما بعده على الأول فإنه معنى حقيقي مرجح بنفسه، وتعطيلها مجاز عن عدم ارتقاب مطرها لأنهم في شغل عنه.
وقيل عن عدم إمطارها وقيل: هي الديار تعطل فلا تسكن، وقيل: الأرض التي يعشر زرعها تعطل فلا تزرع.
وقرأ مضر اليزيدي «عطلت» بالتخفيف والبناء للمجهول ونقله في اللوامح عن ابن كثير ثم قال: هو وهم إنما «عطلت» بفتحتين بمعنى تعطلت لأن تشديده للتعدية، يقال: عطلت الشيء وأعطلته فعطل بنفسه وعطلت المرأة فهي عاطل إذا لم يكن عليها حلي فلعل هذه القراءة لغة استوى فيها فعلت وأفعلت أي في التعدي، وقيل: الأظهر أنه عدّي بالحرف ثم حذف وأوصل الفعل بنفسه.
وَإِذَا الْوُحُوشُ جمع وحش وهو حيوان البر الذي ليس في طبعه التأنس ببني آدم والمراد به ما يعم البهائم مطلقا حُشِرَتْ أي جمعت من كل جانب وذلك قبيل النفخة الأولى حين تخرج نار تفر الناس والأنعام منها حتى تجتمع، وقيل أميتت من قولهم: إذا أجحنت السنة الناس حشرتهم، ونحوه ما أخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه قال: حشرها موتها، وعن ابن عباس تفسير الحشر بالجمع إلّا أنه قال كما أخرجه جماعة وصححه الحاكم جمعت بالموت فلا تبعث ولا يحضر في القيامة غير الثقلين، وقيل: بعثت للقصاص فيحشر كل شيء حتى الذباب وروي ذلك عن ابن عباس أيضا وعن قتادة وجماعة. وفي رواية عن الحبر تحشر الوحوش حتى يقتص من بعضها لبعض فيقتص للجماء من القرناء ثم يقال لها موتي فتموت، وقيل: إذا قضي بينها ردت ترابا فلا يبقى منها إلّا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاووس والظبي. وقيل: يبقى كل ما لم ينتفع به إلّا المؤمن كشاة لم يأكل منها إلّا هو ويدخل ما يبقى الجنة على حال لائقة بها. وذهب كثير إلى بعث جميع الحيوانات ميلا إلى هذه الأخبار ونحوها
فقد أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة في هذه الآية قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لتؤذن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء» .
وزاد أحمد بن حنبل: «وحتى الذرة من الذرة»
ومال حجة الإسلام الغزالي وجماعة إلى أنه لا يحشر غير الثقلين لعدم كونه مكلفا إلّا أهلا للكرامة بوجه وليس في هذا الباب نص من كتاب أو سنة معول عليها يدل على حشر غيرهما من الوحوش وخبر مسلم والترمذي وإن كان صحيحا لكنه لم يخرج مخرج التفسير للآية، ويجوز أن يكون كناية عن العدل التام وإلى هذا القول أميل ولا أجزم بخطأ القائلين بالأول لأن لهم ما يصلح مستندا

(15/255)


في الجملة والله تعالى أعلم. وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون «حشّرت» بالتشديد للتكثير.
وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ أي أحميت بأن تغيض مياهها وتظهر النار في مكانها ولذا ورد على ما قيل إن البحر غطاء جهنم، أو ملئت بتفجير بعضها إلى بعض حتى يكون مالحها وعذبها بحرا واحدا من سجر التنور إذا ملأه بالحطب ليحميه، وقيل: ملئت نيرانا تضطرم لتعذيب أهل النار، وقيل: ملئت ترابا تسوية لها بأرض المحشر وليس له مستند أثر عن السلف. ونقل في البحر عن كتاب لغات القرآن أن سُجِّرَتْ بمعنى جمعت لغة خثعم ولعل جمعها عليه بالتفجير. وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون المعنى ملكت وقيد اضطرابها حتى لا يخرج عن الأرض من الهول فيكون ذلك مأخوذا من ساجور الكلب وهو خشبة تجعل في عنقه، ويقال: سجره إذا شده به. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «سجّرت» بالتخفيف وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ أي قرنت كل نفس بشكلها. أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن النعمان بن بشير عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن ذلك فقال: يقرن الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، ويقرن الرجل السوء مع الرجل السوء في النار فذلك تزويج الأنفس. وفي حديث مرفوع رواه النعمان أيضا ما يقتضي ظاهره ذلك وقال بعض هذا في الموقف أن يقرن بين الطبقات الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل. وقال مقاتل بن سليمان: تقرن نفوس المؤمنين بأزواجهم من الحور وغيرهن، ونفوس الكافرين بالشياطين. وقيل: تقرن كل نفس بكتابها وقيل بعملها وجوز أن يراد تقرن كل نفس بخصمها فلا يمكنها الفرار منه وأنت تعلم أن كون كل نفس ذا خصم بين الانتفاء وأيّا ما كان فالنفس بمعنى الذات والتزويج جعل الشيء زوجا أي مقارنا. وقال عكرمة والضحاك والشعبي: تقرن النفوس بأزواجها وذلك عند البعث والنفس عليه بمعنى الروح. وقرأ عاصم «زوجت» على فوعلت.
وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ وهي البنت التي تدفن حية من الوأد وهو الثقل كأنها سميت بذلك لأنها تثقل بالتراب حتى تموت. وقيل: هو مقلوب الأوتد وحكاه المرتضى في درره عن بعض أهل اللغة وهو غير مرتضى عند أبي حيان وكانت العرب تئد البنات مخافة لحوق العار بهم من أجلهن، وقيل: مخافة الإملاق ولعله بالنسبة إلى بعضهم ومنهم من يقول: الملائكة بنات الله سبحانه عما يقولون فألحقوا البنات به تعالى فهو عز وجل أحق بهن. وذكر غير واحد أنه كان الرجل منهم إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها، ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض. وقيل: كانت الحامل إذا قربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمت بها فيها، وإن ولدت ابنا حبسته ورأيت إذ أنا يافع في بعض الكتب أن أول قبيلة وأدت من العرب ربيعة وذلك أنهم أغير عليهم فنهبت بنت لأمير لهم فاستردها بعد الصلح فخيرت برضا منه بين أبيها ومن هي عنده فاختارت من هي عنده وآثرته على أبيها فغضب وسن لقوله الوأد ففعلوه غيرة منهم ومخافة أن يقع لهم بعد مثل ما وقع، وشاع في العرب غيرهم والله تعالى أعلم بصحة ذلك. وقرأ البزي في رواية الموؤدة» كمعونة فاحتمل أن يكون الأصل الْمَوْؤُدَةُ كقراءة الجمهور فنقل حركة الهمزة إلى الواو قبله وحذفت ثم همزت تلك الواو واحتمل أن يكون اسم مفعول من آد والأصل المأوودة فحذفت أحد الواوين فصارت الموءودة كما حذفت من مقوول فصار مقولا. وقرىء «الموودة» بضم الواو الأولى وتسهيل الهمزة أعني التسهيل بحذفها ونقل حركتها إلى ما قبلها. وفي مجمع البيان والعهدة عليه روي عن أبي جعفر وأبي

(15/256)


عبد الله وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أنهم قرؤوا «المودّة» بفتح الميم والواو والمراد بها الرحم والقرابة وعن أبي جعفر قرابة الرسول صلّى الله عليه وسلم ويراد بقتلها قطعها أو هو على حقيقته والإسناد مجازي والمراد قتل المتصف بها. وتوجيه السؤال إلى الموءودة في قوله تعالى سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ دون الوائد مع أن الذنب له دونها لتسليتها وإظهار كمال الغيظ والسخط لوائدها وإسقاطه عن درجة الخطاب والمبالغة في تبكيته فإن المجني عليه إذا سئل بمحضر الجاني ونسبت إليه الجناية دون الجاني كان ذلك بعثا للجاني على التفكر في حال نفسه وحال المجني عليه، فيرى براءة ساحته وأنه هو المستحق للعتاب والعقاب، وهذا نوع من الاستدراج واقع على طريق التعريض كما في قوله تعالى أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ [المائدة: 116] .
وقرأ أبيّ وابن مسعود والربيع بن خيثم وابن يعمر «سألت» أي خاصمت أو سألت الله تعالى أو قاتلها وإنما قيل قُتِلَتْ لما أن الكلام إخبار عنها لا حكاية لما خوطبت به حين سئلت ليقال قتلت على الخطاب ولا حكاية لكلامها حين سألت ليقال قتلت على الحكاية عن نفسها وقد قرأ كذلك علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن مسعود أيضا وجابر بن يزيد وأبو الضحى ومجاهد. وقرأ الحسن والأعرج «سيلت» بكسر السين وذلك على لغة من قال سال بغير همز. وقرأ أبو جعفر بشد الياء لأن الموءودة اسم جنس فناسب التكثير باعتبار الأشخاص وفي الآية دليل على عظم جناية الوأد.
وقد أخرج البزار والحاكم في الكنى والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: جاء قيس بن عاصم التميمي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: إني وأدت ثمان بنات لي في الجاهلية، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أعتق عن كل واحدة رقبة» قال: إني صاحب إبل قال:
«فاهد عن كل واحدة بدنة»
. وكان لأمر للندب لا للوجوب لتوقف صحة التوبة عليه فإن الإسلام يجب ما قبله من مثل ذلك وفيه تعظيم أمر الوأد وكان من العرب من يستقبحه كصعصعة بن ناجية المجاشعي جد الفرزدق كان يفتدي الموءودات من قومه بني تميم وبه افتخر الفرزدق في قوله:
وجدي الذي منع الوائدات ... فأحيا الوئيد فلم توأد
وأخرج الطبراني عنه قال: قلت يا رسول الله إني عملت أعمالا في الجاهلية فهل فيها من أجر؟ أحييت ثلاثمائة وستين من الموءودة اشتري كل واحدة منهن عشراوين وجمل فهل لي في ذلك من أجر؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لك أجره إذ منّ الله تعالى عليك بالإسلام»
. وعد من الوأد العزل لما
أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والطبراني وابن مردويه عن خذامة بنت وهب قالت: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن العزل فقال: «ذلك الوأد الخفي»
ومن هنا قيل بحرمته وأنت تعلم أن المسألة خلافية فقد قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: العزل وهو أن يجامع فإذا قارب الانزال نزع وأنزل خارج الفرج مكروه عندنا في كل حال امرأة سواء رضيت أم لا لأنه طريق إلى قطع النسل. وأما التحريم فقد قال أصحابنا- يعني الشافعية- لا يحرم في مملوكته ولا في زوجته الأمة سواء رضيت أم لا لأن عليه ضررا في مملوكته بمصيرها أم ولد وامتناع بيعها، وعليه ضرر في زوجته الرقيقة بمصير ولده رقيقا تبعا لأمه، وأما زوجته الحرة فإن أذنت فيه لم يحرم وإلّا فوجهان أصحهما لا يحرم ثم الأحاديث التي ظاهرها التعارض في هذا المطلب يجمع بينها بأن ما ورد منها في النهي محمول على كراهة التنزيه، وما ورد في الإذن في ذلك محمول على أنه ليس بحرام وليس معناه نفي الكراهة انتهى. وأجيب على الحديث السابق بأن تسميته بالوأد الخفي لا يدل على أن حكمه حكم الوأد الظاهر فقد صح أن الرياء شرك خفي ولم يقل أحد بأن حكمه حكمه، ولا يبعد أن يكون الاستمناء باليد كالعزل وأدا

(15/257)


خفيا. وذكر بعضهم أنه إذا لم يخش الزنا حرام وإن خشي لم يحرم وكذا لا يبعد أن يكون التفخيذ مع من يحل له وطؤها كذلك ولم أر قائلا بحرمته وتمام الكلام في هذا المقام في كتب الفقه فلتراجع. واستدل الزمخشري بالآية على أن أطفال المشركين لا يعذبون وعلى أن العذاب لا يستحق إلّا الذنب، أما الأول فلأن تبكيت قاتلها يباين تعذيبها لأن استحقاق التبكيت لبراءتها من الذنب فمتى بكّت سبحانه الكافر ببراءتها من الذنب كيف يكر سبحانه عليها فيفعل بها ما ينسى عنده فعل المبكت من العذاب السرمدي. وأما الثاني فلإشارة قوله تعالى بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ إلى أن القتل إنما يصار إليه بذنب وأنه لا يستحسن ارتكابه دونه، ومعلوم أن في معناه كل تعذيب. ثم الآية لما دلت على أن الموءودة لا ذنب لها ليتم التبكيت تضمنت عدم استحقاقها العقاب. وزعم أن ابن عباس سئل عن ذلك فاحتج بهذه الآية وتعقب بأن مبنى ما ذكره التحسين والتقبيح، وقد بيّن ما فيهما في موضعه. وعلى التسليم نمنع انحصار سبب التبكيت في البراءة على أن القتل للباعث المذكور في القرآن بمعنى خشية الإملاق رذيلة يستحق بها التبكيت استحق بها المقتول التعذيب الأخروي أولا، وإشارة الآية على أن باعثهم على القتل لم يكن الذنب لا إلى أن الذنب أعني ما تستحق به الموءودة التعذيب معدوم من كل وجه، وما روي عن ابن عباس لا نسلم صحته وفي الأخبار ما ينافيه.
أخرج الإمام أحمد والنسائي وغيرهما عن سلمة بن يزيد الجعفي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الوائدة والموءودة في النار» إلّا أن تدرك الوائدة الإسلام فيعفو الله تعالى عنها»
.
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال: «الله تعالى إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين»
وتفسيره على ما قيل ما
روى أبو داود عن عائشة قلت: يا رسول الله ذراري المؤمنين؟ فقال «من آبائهم» قلت: بلا عمل؟ قال: الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين» قلت يا رسول الله فذراري المشركين؟ فقال:
«من آبائهم» قلت: بلا عمل؟ قال: «الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين»
.
وفي مسند الإمام أحمد سألت خديجة عن ولدين ما بالهما في الجاهلية فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «هما في النار وأنت تعلم أن في مسألة الأطفال من هذه الحيثية ما عدا أطفال الأنبياء عليهم السلام فإنهم أجمع على كونهم من أهل الجنة
كما قال اللقاني خلافا فقد قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفا، وتوقفت فيه بعض من لا يعتد به
لحديث عائشة: توفي صبي من الأنصار فقالت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه قال صلّى الله عليه وسلم: «أو غير ذلك يا عائشة إن الله تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم» .
وأجاب العلماء عنه بأنه لعله عليه الصلاة والسلام نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع ويحتمل أنه عليه الصلاة والسلام قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة، فلما علم صلّى الله عليه وسلم قال ذلك في
قوله صلّى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يموت له ثلاث من الولد لم يبلغوا الحنث إلّا أدخله الله تعالى الجنة بفضله ورحمته إياهم»
وغير ذلك من الأحاديث. وأما أطفال المشركين ففيهم ثلاثة مذاهب قال الأكثرون: هم في النار تبعا لآبائهم
لحديث سئل عن أولاد المشركين من يموت منهم صغيرا فقال عليه الصلاة والسلام: «الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين»
أي وغير ذلك. وتوقف طائفة فيهم وقالت الثالثة وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة ويستدل له بأشياء منها
حديث إبراهيم الخليل عليه السلام حين رآه النبي صلّى الله عليه وسلم في الجنة حوله أولاد الناس، قالوا: يا رسول الله وأولاد المشركين قال: «وأولاد

(15/258)


وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)

المشركين» رواه البخاري في صحيحه
ومنها قوله تعالى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ولا يتوجه على المولود التكليف ويلزمه قول الرسول حتى يبلغ وهذا متفق عليه والجواب عن
حديث «الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين»
أنه ليس فيه تصريح بأنهم في النار، وحقيقة لفظة:
«الله تعالى أعلم بما كانوا يعملون»
لو بلغوا ولم يبلغوا والتكليف لا يكون إلّا بالبلوغ انتهى. وتعقب ما ذكره من الاحتمال في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها بأنه يأباه ما ذكره من حديث إبراهيم عليه السلام فإن حديث عائشة كان بالمدينة لأنه في صبي من الأنصار وبناؤه عليه الصلاة والسلام عليها إنما كان فيها، وحديث إبراهيم عليه السلام كان بمكة لأن الظاهر أن تلك الرؤية كانت ليلة المعراج وهو قد كان فيها، ومنه يعلم أنه صلّى الله عليه وسلم قد علم أن الأطفال كلهم في الجنة يومئذ فكيف يحتمل أن يكون ما قاله بعد قاله قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة، وأيضا إذا كان حديث إبراهيم عليه السلام في مكة يضعف الجواب الأول عن حديث عائشة باحتمال أن تكون قالت ما قالت لأنه بلغها ذلك الحديث. ثم ما ذكر من أن المذاهب في أطفال المشركين ثلاثة الظاهر أنه مبني على ما وقف عليه وإلّا فهي غير منحصرة فيها بل منها أنهم في برزخ بين الجنة والنار ومنها أنهم يمتحنون بدخول النار يوم القيامة فمن كتب له السعادة أطاع بدخولها فيرد إلى الجنة، ومن كتب له الشقاوة امتنع فيسحب إلى النار كما جاء في بعض الروايات فلا يحكم على معين منهم بجنة ولا نار وعليه حمل الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين وفي اختيارات الشيخ ابن تيمية أن هذا أحسن الأجوبة فيهم. وقال الجلال السيوطي هو الصحيح المعتمد ومنها ما ذكره هذا الجلال واختاره الإمام الرباني الفاروقي السرهندي قدس سره أنهم يحشرون ثم يصيرون ترابا كالوحوش وإن أريد مما تقدم من أنهم في الجنة كونهم فيها كسائر أهلها فهناك قول آخر وهو أنهم فيها خدما لأهلها وقد نقله النسفي في بحر الكلام على أهل السنة والجماعة وفيه أحاديث جمة. والظاهر أن المراد بأطفال المشركين الأطفال الذين ولدوا لهم وهم مشركون ولو آمنوا بعد ويدل عليه
قوله عليه الصلاة والسلام: «السابق في ولدي خديجة هما في النار»
وهو يعكر على من يقول: أطفال الذين ماتوا مشركين في النار وأطفال المشركين الذين آمنوا بعد موتهم في الجنة إكراما لهم. والذي أختاره القول بأن الأطفال مطلقا وكذا فرخ الزنا ومن جن قبل البلوغ في الجنة فهو الأخلق بكرم الله تعالى وواسع رحمته عز وجل والأوفق للحكمة بحسب الظاهر والأكثر تأيدا بالآيات ولا بعد في ترجح الأخبار الدالة على ذلك بما ذكر على الأخبار الدالة على خلافه والقول بأن ما تضمنته هاتيك الأخبار كان منه عليه الصلاة والسلام قبل علمه صلّى الله عليه وسلم بأن الأطفال في الجنة بعيد عندي. نعم جوز أن يكون قد أخبر صلّى الله عليه وسلم بأنهم من أهل النار بناء على أخبار الوحي به كأخباره بالوعيدات التي يعفو الله تعالى عنها من حيث إنه مقيد بشرط كان لم يشملهم الفضل مثلا لكنه لم يذكر معه كما لم يذكر معها لحكمة ثم أخبر عليه الصلاة والسلام بأنهم من أهل الجنة بناء على أخبار الوحي به أيضا ويكون متضمنا للأخبار بأن شرط كونهم من أهل النار لا يتحقق فضلا من الله تعالى وكرما ويكون ذلك كالعفو عما يقتضيه الوعيد ومثل ذلك أخباره بما ذكر بناء على مشاهدة كونهم في الجنة عند إبراهيم عليه السلام فتأمل.

(15/259)


وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ أي صحف الأعمال. أخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال: إذا مات الإنسان طويت صحيفته ثم تنشر يوم القيامة فيحاسب بما فيها، وقيل: نشرت أي فرقت بين أصحابها عن مرثد بن وداعة إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية، وتقع صحيفة الكافر في يده في سموم وحميم أي مكتوب فيها ذلك وهي صحف غير صحف الأعمال. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «نشّرت» بالتشديد للمبالغة في النشر بمعنييه أو لكثرة الصحف أو لشدة التطاير وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ قلعت وأزيلت كما يكشف الإهاب عن الذبيحة والغطاء عن الشيء المستور به فأصل الكشط السلخ واستعير هنا للإزالة. وقرأ عبد الله «قشطت» بالقاف مكان الكاف واعتقابهما غير عزيز كالكافور. والقافور وعربي قح وكح وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ أي أوقدت إيقادا شديدا قال قتادة: سعرها غضب الله تعالى وخطايا بني آدم. وقرأ جمع منهم علي كرم الله تعالى وجهه «سعرت» بالتخفيف وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ أي قربت من المتقين كقوله تعالى وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق: 31] أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي العالية أنه قال: ست آيات من هذه السورة في الدنيا والناس ينظرون، وست في الآخرة إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ- إلى- وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ هذه في الدنيا وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ- إلى- وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ هذه في الآخرة. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبيّ بن كعب أنه قال: ست آيات قبل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينما هم كذلك إذ تكدرت النجوم، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت ففزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن واختلطت الدواب والطير والوحش فماجوا بعضهم في بعض وأهملت العشار وقال الجنس للإنس:
نحن نأتيكم بالخبر فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تأجج فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فأماتتهم وقال بعضهم: إن الست الأول فيما بين النفختين وإنه مراد من قال إنها في الدنيا، وقيل: هي فيما قبل النفخة الأولى وما بعدها إلى النفخة الثانية فلا تغفل. عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ جواب إِذَا على أن المراد بها زمان واحد ممتد يشع الأمور المذكورة مبدؤه قبيل النفخة الأولى أو هي ومنتهاه فصل القضاء بين الخلائق لكن لا بمعنى إن النفس تعلم ما تعلم في كل جزء من أجزاء ذلك الوقت المديد أو عند وقوع داهية من تلك الدواهي بل عند نشر الصحف إلّا أنه لما كان بعض تلك الدواهي من مباديه وبعضها من روادفه نسب علمها بذلك إلى زمان وقوع كلها تهويلا للخطب وتفظيعا للحال، والمراد ب ما أَحْضَرَتْ أعمالها من الخير والشر، وبحضور الأعمال أما حضور صحائفها كما يعرب عنه نشرها وأما حضور أنفسها على ما قالوا من أن الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية تبرز في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح على كيفيات مخصوصة وهيئات معينة حتى أن الذنوب والمعاصي تتجسم هنالك وتتصور وحمل على ذلك نحو قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: 10] وعن ابن عباس ما يؤيده ويؤيده أيضا حديث ذبح الموت ونحوه، قيل: ولا بعد في ذلك ألا يرى أن العلم يظهر في عالم المثال على صورة اللبن كما لا يخفى على من له خبرة بأحوال الحضرات الخمس، وقد حكي عن بعض الأكابر أنهم يشاهدون في هذه النشأة الأعمال عند العروج بها إلى السماء وكان ذلك بنوع من التجسد وأيا ما كان فإسناد إحضارها إلى النفس مع أنها تحضر بأمر الله تعالى كما يؤذن به قوله تعالى يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [آل عمران: 30]

(15/260)


الآية لأنها لما عملتها في الدنيا فكأنها أحضرتها في الموقف ومعنى علمها بها على التقدير الأول اطلاعها عليها مفصلة في الصحف بحيث لا يشذ عنها منها شيء كما ينبىء عنه قولهم مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: 49] . وعلى التقدير الثاني أنها تشاهدها على ما هي عليه في الحقيقة فإن كانت صالحة تشاهدها على صور أحسن مما كانت تدركها في الدنيا لأن الطاعات لا تخلو فيها عن نوع مشقة، وإن كانت سيئة تشاهدها على خلاف ما كانت عندها في الدنيا كانت مزينة لها موافقة لهواها، وتنكير نفس المفيد لثبوت العلم لفرد من النفوس أو لبعض منها للإيذان بأن ثبوته لجميع أفرادها قاطبة من الظهور والوضوح بحيث لا يكاد يحوم حوله شائبة قطعا يعرفه كل أحد، ولو جيء بعبارة تدل على خلافه وللرمز إلى أن تلك النفوس العالمة بما ذكر مع توفر أفرادها وتكثر أعدادها مما تستقل بالنسبة إلى جناب الكبرياء والعظمة الذي أشير إلى بعض بدائع شؤونه المنبئة عن عظم سلطانه عز وجل. وفي الكشاف إن هذا من عكس كلامهم الذي يقصدون فيه الإفراط فيما يعكس عنه ومنه قوله تعالى رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر: 2] ومعناه كم وأبلغ وقول القائل:
قد أترك القرم مصفرا أنامله ... كأن أثوابه مجّت بفرصاد

وتقول لبعض قواد العساكر كم عندك من الفرسان فيقول: رب فارس عندي، أو لا تعدم عندي فارسا وعنده المقانب وقصده بذلك التمادي في تكثير فرسانه ولكنه أراد إظهار براءته من التزيد وإنه ممن يقلل كثير ما عنده فضلا أن يتزيد فجاء بلفظ التقليل ففهم منه معنى الكثرة على الصحة واليقين وبين بالكشف أنه يفيد ذلك مع ما في خصوص كل موقف من فائدة خاصة، وذكر أن من الفوائد هاهنا تهويل اليوم بتقليل الأنفس العالمة وإن كن جميعها وإظهار أنه كلام من غاية العظمة والكبرياء وأن من يغير هذه الأجرام العظام ويبدلها صفات وذوات تستقل الأنفس الإنسانية في جنب قدرته سبحانه أيما استقلال وتعقب ذلك أبو السعود بما لا يخلو عن نظر كما لا يخفى على ذي نظر جليل فضلا عن ذي نظر دقيق. وجوز أن يكون ذلك للإشعار بأنه إذا علمت حينئذ نفس من النفوس ما أحضرت وجب على كل نفس إصلاح عملها مخافة أن تكون هي تلك التي عملت ما أحضرت فكيف وكل نفس تعلمه على طريقة قولك لمن تنصحه لعلك ستندم على ما فعلت وربما ندم الإنسان على ما فعل فإنك لا تقصد بذلك أن ندمه مرجو الوجود لا متيقن به أو نادر الوجود بل تريد أن العاقل يجب عليه أن يجتنب أمرا يرجى منه الندم أو قل ما يقع فيه فكيف إذا كان قطعي الوجود كثير الوقوع، واشتهر أن النكرة هنا في معنى العموم وهي قد تعم في الإثبات إذا اقتضى المقام أو نحوه ذلك ومنه قول ابن عمر لبعض أهل الشام وقد سأله عن المحرم إذا قتل جرادة أيتصدق بتمرة فدية لها تمرة خير من جرادة، قيل: ولهذا العموم ساغ الابتداء بالنكرة فيه وقول بعض إنه لا عموم فيها بل العموم جاء من تساوي نسبة الجزء إلى أفراد الجنس قيل مبني على ظن منافاة العموم للوحدة والإفراد وأنت تعلم أن ذلك إنما ينافي العموم الشمولي دون البدلي وقال بعض: لا يبعد أن يقال استفيد العموم بجعلها في حيز النفي معنى لأن عَلِمَتْ نَفْسٌ في معنى لم تجهل نفس لأن الحكم بالشيء يستلزم نفي ضده ليس بشيء وإلّا لعمت كل نكرة في الإثبات بنحو هذا التأويل. وعن عبد الله بن مسعود أن قارئا قرأ هذه السورة عنده فلما بلغ عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ قال وانقطاع ظهرياه.
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ جمع خانس من الخنوس وهو الانقباض والاستخفاء الْجَوارِ جمع جارية من الجري وهو المر السريع وأصله لمر الماء ولما يجري بجريه الْكُنَّسِ جمع كانس وكانسة من كنس الوحش إذا دخل كناسه وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر والمراد بها على ما
أخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن

(15/261)


حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طريق عن علي كرم الله تعالى وجهه الكواكب أي جميعها
، فقيل لأنها تخنس بالنهار فتغيب عن العيون وتكنس بالليل أي تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها. وفي تفسير تكنس بتطلع خفاء وقيل لأنها تخنس نهارا وتخفى عن العيون مع طلوعها وكونها فوق الأفق وتكنس بعد طلوعها في المغيب وتدخل فيه كما تكنس الظباء في الكنس فتكون تحت الأفق بعد أن كانت فوقه. وروي تفسيرها بالكواكب عن الحسن وقتادة أيضا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال: هي خمسة أنجم زحل وعطارد والمشتري وبهرام يعني المريخ والزهرة والخنس الرواجع من خنس إذا تأخر
، ووصفت بما ذكر في الآية لأنها تجري مع الشمس والقمر وترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس فخنوسها رجوعها بحسب الرؤية وكنوسها اختفاؤها تحت ضوئها، وتسمى المتحيرة لاختلاف أحوالها في سيرها فيما يشاهد فلها استقامة ورجعة وإقامة فبينما تراها تجري إلى جهة إذا بها راجعة تجري إلى خلاف تلك الجهة، وبينما تراها تجري إذا بها مقيمة لا تجري وسبب ذلك على ما قال المتقدمون من أهل الهيئة كونها في تداوير في حوامل مختلفة الحركات على ما بيّن في موضعه وللمحدثين منهم النافين لما ذكر غير ذلك مما هو مذكور في كتبهم وهي مع الشمس والقمر يقال لها السيارات السبع لأن سيرها بالحركة الخاصة مما لا يكاد يخفى على أحد بخلاف غيرها من الثوابت. وأخرج الخطيب في كتاب النجوم وابن مردويه عن ابن عباس أنها المرادة هنا ووصفها بِالْخُنَّسِ بمعنى الرواجع قيل من باب التغليب إذ لا رجعة للشمس ولا للقمر وبالخنس لاختفائها في مغيبها. وقيل: الوصفان باعتبار أنها تغيب عن العيون وتطلع في أماكنها على نحو ما تقدم على تقدير أن يكون المراد بها الكواكب جميعها وكون السيارات هي هذه السبع هو المعروف عند المتقدمين من المنجمين. وأما اليوم فقد ضموا إليها كواكب أخرى يقال لها وستا وزونو وبالاس وسرس وأورنوس ويسمى هرسل وهو اسم المنجم الذي ظفر به بالرصد، وبينوا مقدار أقطارها وأبعادها وحركاتها ولولا مخافة التطويل لذكرت ذلك.
وعدوا من جملة السيارات الأرض بناء على زعمهم أن لها حركة حول الشمس واشتهر أنهم لم يعدوا القمر منها لكونه من توابع الأرض بزعمهم. وأخرج الحاكم وصححه وجماعة من طرق عن ابن مسعود أنها بقر الوحش، وأخرج نحوه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وعبد بن حميد عن مجاهد وأبي ميسرة والحسن وحكاه في البحر عن النخعي وجابر بن زيد وجماعة. وأخرج ابن جرير عن الحبر أنها الظباء وروي ذلك أيضا عن ابن جبير والضحاك قالوا: و «الخنس» تأخر الأنف عن الشفة مع ارتفاع قليل من الأرنبة وتوصف به بقر الوحش والظباء ومنه قول بعض المولدين:
ما سلم الظبي على حسنه ... كلا ولا البدر الذي يوصف

فالظبي فيه خنس بيّن ... والبدر فيه كلف يعرف
وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ أي أدبر ظلامه أو أقبل وكلاهما مأثوران عن ابن عباس وغيره وهو من الأضداد عند المبرد. وقال الراغب: العسعسة والعساس رقة الظلام وذلك في طرفي الليل فهو من المشترك المعنوي عنده وليس من الأضداد. وفسر عَسْعَسَ هنا بأقبل وأدبر معا وقال ذلك في مبدأ الليل ومنتهاه. وقال الفراء: أجمع المفسرون على أن معنى عَسْعَسَ أدبر وعليه العجاج يصف الخمر أو المفازة:
حتى إذا الصبح لها تنفسا ... وانجاب عنها ليلها وعسعسا
وقيل: هي لغة قريش خاصة وقيل كونه بمعنى أقبل ظلامه أوفق بقوله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ فإنه أول النهار فيناسب أول الليل، وقيل: كونه بمعنى أدبر أنسب بهذا لما بين إدبار الليل وتنفس الصبح من الملاصقة فيكون بينهما مناسبة الجوار. والمراد من تنفس الصبح على ما ذكر غير واحد إضاءته وتبلجه وفي

(15/262)


الكشاف أن إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم فجعل ذلك نفسا له على المجاز وقيل: تنفس الصبح وعنى بالمجاز الاستعارة لأنه لما كان النفس ريحا خاصا يفرج عن القلب انبساطا وانقباضا شبه ذلك النسيم بالنفس وأطلق عليه الاسم استعارة وجعل الصبح متنفسا لمقارنته له ففي الكلام استعارة مصرحة وتجوز في الإسناد.
وظاهر كلام بعضهم أنه بعد الاستعارة يكون ذلك كناية عن الإضاءة وجوز أن يكون هناك مكنية وتخييلية بأن يشبه الصبح بماش وآت من مسافة بعيدة ويثبت له التنفس المراد به هبوب نسيمه مجازا على طريق التخييل كما في ينقضون عهد الله. وقال الإمام: النهار يغشيان الليل المظلم كالمكروب وكما أنه يجد راحة بالتنفس كذلك تخلص الصبح من الظلام وطلوعه كأنه تخلص من كرب إلى راحة وهذا أدق مما عنى الكشاف كما لا يخفى، وجوز أن يقال: إن الليل لما غشى النهار ودفع به إلى تحت الأرض فكأنه أماته ودفنه فجعل ظهور ضوئه كالتنفس الدال على الحياة وهو نحو مما نقل عن الإمام. وقيل: تنفس أي توسع وامتد حتى صار نهارا، والظاهر أن التنفس في الآية إشارة إلى الفجر الثاني الصادق وهو المنتشر ضوءه معترضا بالأفق بخلاف الأول الكاذب وهو ما يبدو مستطيلا وأعلاه أضوأ من باقيه ثم يعدم وتعقبه ظلمة أو يتناقص حتى ينغمر في الثاني على زعم بعض أهل الهيئة أو يختلف حاله في ذلك تارة وتارة بحسب الأزمنة والعروض على ما قيل، وسمي هذا الكاذب عارضا
ففي خبر مسلم: «لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا العارض لعمود الصبح حتى يستطير»
أي ينتشر ذلك العموم في نواحي الأفق. وكلام بعض الأجلة يشعر بأنه فيها إشارة إلى الكاذب حيث قال: يؤخذ من تسمية الفجر الأول عارضا للثاني أنه يعرض للشعاع الناشئ عنه الفجر الثاني انحباس قرب ظهوره كما يشعر به التنفس في قوله تعالى وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ فعند ذلك الانحباس يتنفس منه شيء من شبه كوة. والمشاهد في المنحبس إذا خرج بعضه دفعه أن يكون أوله أكثر من آخره، ويعلم من ذلك سبب طول العمود وإضاءة أعلاه إلى آخر ما قال وفيه بحث. ثم الظاهر أن تنفس الصبح وضياءه بواسطة قرب الشمس إلى الأفق الشرقي بمقدار معين وهو في المشهور ثمانية عشر جزءا. وقول الإمام إنه يلزم على ذلك بناء على كريّة الأرض واستضاءة أكثر من نصفها من الشمس دائما ظهور الضياء وتنفس الصبح إذا فارقت الشمس سمت القدم من دائرة نصف النهار وذلك بعيد نصف الليل والواقع خلافه تشكيك فيما يقرب أن يكون بديهيا وفيه غفلة عن أحوال ظل الأرض وانعكاس الأشعة من أبصار سكنة أقطارها فتأمل. ولا تغفل. والواو في قوله تعالى وَالصُّبْحِ وَاللَّيْلِ على ما نقل عن ابن جني للعطف وإِذا ليس معمولا لفعل القسم لفساد المغني إذا التقييد بالزمان غير مراد حالا كان أو استقبالا وإنما هو على ما اختاره غير واحد معمول مضاف مقدر من نحو العظمة لأن الإقسام بالشيء إعظام له كأنه قيل: ولا أقسم بعظمة الليل زمان عسعس وبعظمة النهار زمان تنفس على نحو قولهم عجبا من الليث إذا سطا فإنه ليس المعنى على تقييد التعجب من هوله وعظمته في ذلك الزمان وقال عصام الدين: ينبغي أن يجعل تقييدا للمقسم به أي أقسم بالليل كائنا إذا عسعس والحال مقدرة أي مقدرا كونه في ذلك الوقت.
وصرح العلامة التفتازاني في التلويح في مثله أن إِذا بدل من اللَّيْلِ إذ ليس المراد تعليق القسم وتقييده بذلك الوقت ولهذا منع المحققون كونه حالا من الليل لأنه أيضا يفيد تقييد القسم بذلك الوقت وسيأتي إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الشمس ما يتعلق بهذا المقام أيضا.
إِنَّهُ أي القرآن الجليل الناطق بما ذكر من الدواهي الهائلة وجعل الضمير للإخبار عن الحشر والنشر تعسف لَقَوْلُ رَسُولٍ هو كما قال ابن عباس وقتادة والجمهور جبريل عليه السلام ونسبته إليه عليه السلام

(15/263)


لأنه واسطة فيه وناقل له عن مرسله وهو الله عز وجل كَرِيمٍ أي عزيز على الله سبحانه وتعالى وقيل متعطف على المؤمنين ذِي قُوَّةٍ أي شديد كما قال سبحانه شَدِيدُ الْقُوى [النجم: 5] وجاء في قوته أنه عليه السلام بعث إلى مدائن لوط وهي أربع مدائن وفي كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري فحملها بمن فيها من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماء أصوات الدجاج ونباح الكلاب ثم هوى بها فأهلكها.
وقيل: المراد القوة في أداء طاعة الله تعالى وترك الإخلال بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف. وقيل: لا يبعد أن يكون المراد قوة الحفظ والبعد عن النسيان والخلط عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أي ذي مكانة رفيعة وشرف عند الله العظيم جل جلاله عندية إكرام وتشريف لا عندية مكان فالظرف متعلق بمكين وهو فعيل من المكانة وقد كثر استعمالها كما في الصحاح حتى ظن أن الميم من أصل الكلمة واشتق منه تمكن كما اشتق من المسكنة تمسكن. وجوز أن يكون مصدرا ميميا من الكون وأصله مكون بكسر الواو فصار بالنقل والقلب مكينا وأريد بالكون الوجود كأنه من كمال الوجود صار عين الوجود والأول هو الظاهر. وقيل: إن الظرف متعلق بمحذوف وقع صفة أخرى لرسول أي كائن عند ذي العرش الكينونة اللائقة وهو كما ترى مُطاعٍ فيما بين الملائكة المقربين عليهم السلام يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه ثَمَّ ظرف مكان للبعيد وهو يحتمل أن يكون ظرفا لما قبله وجعل إشارة إلى عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ والمراد بكونه مطاعا هناك كونه مطاعا في ملائكته تعالى المقربين كما سمعت ويحتمل أن يكون ظرفا لما بعده أعني قوله سبحانه أَمِينٍ والإشارة بحالها وأمانته على الوحي
وفي رواية عنه عليه السلام أنه قال: «أمانتي أني لم أومر بشيء فعدوته إلى غيره»
ولأمانته أنه عليه السلام يدخل الحجب كما في بعض الآثار بغير إذن. وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وأبو البرهسم وابن مقسم «ثمّ» بضم الثاء حرف عطف تعظيما للأمانة وبيانا لأنها أفضل صفاته المعدودة. وقال صاحب اللوامح هي بمعنى الواو لأن جبريل عليه السلام كان بالصفتين معا في حال واحدة ولو ذهب ذاهب إلى الترتيب والمهلة في هذا العطف بمعنى مطاع في الملأ الأعلى عليّ ثم أمين عند انفصاله عنهم حال وحيه إلى الأنبياء عليهم السلام لجاز أن ورد به أثر انتهى. والمعول عليه ما سمعت والمقام يقتضي تعظيم الأمانة لأن دفع كون القرآن افتراء منوط بأمانة الرسول.
وَما صاحِبُكُمْ هو رسول الله صلّى الله عليه وسلم بِمَجْنُونٍ كما تبهته الكفرة قاتلهم الله تعالى. وفي التعرض لعنوان الصحبة مضافة إلى ضميرهم على ما هو الحق تكذيب لهم بألطف وجه إذ هو إيماء إلى أنه عليه الصلاة والسلام نشأ بين أظهركم من ابتداء أمره إلى الآن فأنتم أعرف به وبأنه صلّى الله عليه وسلم أتم الخلق عقلا وأرجحهم قيلا وأكملهم وصفا وأصفاهم ذهنا فلا يسند إليه الجنون إلّا من هو مركب من الحمق والجنون. واستدل الزمخشري بالمبالغة في ذكر جبريل عليه السلام وتركها في شأن النبي صلّى الله عليه وسلم على أفضليته عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلم وأجابوا بما بحث فيه والوجه في الجواب على ما في الكشف أن الكلام مسوق لحقية المنزل دلالة على صدق ما ذكر فيه من أهوال القيامة وقد علمت أن من شأن البليغ أن يجرد الكلام لما ساق له لئلا يعد الزيادة لكنة وفضولا ولا خفاء أن وصف الآتي بالقول يشدّ من عضد ذلك أبلغ شد، وأما وصف من أنزل عليه فلا مدخل له في البين إلّا إذا كان الغرض الحث على اتباعه فلهذا لم تدل المبالغة في شأن جبريل عليه السلام وعد صفاته الكوامل وترك ذلك في شأن نبينا عليه أفضل الصلوات والتسليمات على تفضيله بوجه. وقال بعضهم: إن المبالغة في وصف جبريل عليه السلام مدح بليغ في حق النبي صلّى الله عليه وسلم لأن الملك إذا أرسل لأحد من هو معزز معظم مقرب لديه دل على أن المرسل إليه بمكانه عنده ليس فوقها

(15/264)


مكانة، وقد علمت أن المقام ليس للمبالغة في مدح المنزل عليه وقيل المراد بالرسول هو نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلم كالمراد بالصاحب وهو خلاف الظاهر الذي عليه الجمهور.
وَلَقَدْ رَآهُ أي وبالله تعالى لقد رأى صاحبكم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم الرسول الكريم جبريل عليه السلام على كرسي بين السماء والأرض بالصورة التي خلقه الله تعالى عليها له ستمائة جناح بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق كما
روي عن الحسن وقتادة ومجاهد وسفيان وفي رواية عن مجاهد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رآه عليه السلام نحو جياد وهو مشرق مكة
وقيل: إن المراد به مطلع رأس السرطان فإنه أعلى المطالع لأهل مكة، وهذه الرؤية كانت فيها بعد أمر غار حراء. وحكى ابن شجرة أنه أفق السماء الغربي وليس بشيء.
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في الآية رآه في صورته عند سدرة المنتهى
والأفق على هذا قيل بمعنى الناحية وقيل سمّي ذلك أفقا مجازا وَما هُوَ أي رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عَلَى الْغَيْبِ على ما يخبر به من الوحي إليه وغيره من الغيوب بِضَنِينٍ من الضنّ بكسر الضاد وفتحها بمعنى البخل أي ببخيل لا يبخل بالوحي ولا يقصر في التبليغ والتعليم ومنح كل ما هو مستعد له من العلوم على خلاف الكهنة فإنهم لا يطلعون على ما يزعمون معرفته إلّا بإعطاء حلوان. وقرأ ابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وعائشة وعمر بن عبد العزيز وابن جبير وعروة وهشام بن جندب ومجاهد وغيرهم ومن السبعة النحويان وابن كثير «بظنين» بالظاء أي بمتهم من الظنّة بالكسر بمعنى التهمة وهو نظير الوصف السابق ب أَمِينٍ. وقيل معناه بضعيف القوة على تبليغ الوحي من قولهم: بئر ظنون إذا كانت قليلة الماء والأول أشهر. ورجحت هذه القراءة عليه بأنها أنسب بالمقام لاتهام الكفرة له صلّى الله تعالى عليه وسلم ونفي التهمة أول من نفي البخل وبأن التهمة تتعدى بعلى دون البخل فإنه لا يتعدى بها إلّا باعتبار تضمينه معنى الحرص ونحوه لكن قال الطبري بالضاد خطوط المصاحف كلها ولعله أراد المصاحف المتداولة فإنهم قالوا بالظاء خط مصحف ابن مسعود ثم إن هذا لا ينافي قول أبي عبيدة أن الظاء والضاد في الخط القديم لا يختلفان إلّا بزيادة رأس إحداهما على الأخرى زيادة يسيرة قد تشتبه كما لا يخفى. والفرق بين الضاد والظاء مخرجا أن الضاد مخرجها من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره ومنهم من يتمكن من إخراجها منهما، والظاء مخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا. واختلفوا في إبدال إحداهما بالأخرى هل يمتنع وتفسد به الصلاة أم لا؟ فقيل: تفسد قياسا ونقله في المحيط البرهاني عن عامة المشايخ ونقله في الخلاصة عن أبي حنيفة ومحمد، وقيل: لا استحسانا ونقله فيها عن عامة المشايخ كأبي مطيع البلخي ومحمد بن سلمة وقال جمع: إنه إذا أمكن الفرق بينهما فتعمد ذلك وكان مما لم يقرأ به كما هنا وغير المعنى فسدت صلاته وإلّا فلا لعسر التمييز بينهما خصوصا على العجم وقد أسلم كثير منهم في الصدر الأول ولم ينقل حثهم على الفرق وتعليمه من الصحابة ولو كان لازما لفعلوه ونقل وهذا هو الذي ينبغي أن يعود عليه ويفتى به وقد جمع بعضهم الألفاظ التي لا يختلف معناها ضادا وظاء في رسالة صغيرة ولقد أحسن بذلك فليراجع فإنه مهم.
وَما هُوَ أي القرآن بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أي بقول بعض المسترقة للسمع لأنها هي التي ترجم وهو نفي لقولهم إنه كهانة فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ استضلال لهم فيما يسلكونه في أمر القرآن العظيم كقولك لتارك الجادة الذاهب في بنيات الطريق أين تذهب والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ظهور أنه وحي إِنْ هُوَ أي ما هو إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ موعظة وتذكير عظيم لمن يعلم وضمير هُوَ للقرآن أيضا وجوز كون الضميرين للرسول عليه الصلاة والسلام أي وما هو ملتبس بقول شيطان رجيم كما هو شأن الكهنة إن هو إلّا مذكر

(15/265)


للعالمين وقوله تعالى فَأَيْنَ إلخ استضلال لهم فيما يسلكونه في أمره صلّى الله تعالى عليه وسلم وهو كما ترى قوله سبحانه لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ بدل من العالمين بدل بعض من كل والبدل هو المجرور وأعيد معه العامل على المشهور، وقيل: هو الجار والمجرور وجوز أن يكون بدل كل من كل لإلحاق من لم يشأ بالبهائم ادعاء وهو تكلف. وقوله تعالى أَنْ يَسْتَقِيمَ مفعول شاءَ أي لمن شاء منكم الاستقامة بتحري الحق وملازمة الصواب وإبداله من العالمين لأنهم المنتفعون بالتذكير وَما تَشاؤُنَ أي الاستقامة بسبب من الأسباب إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي إلا بأن يشاء الله تعالى مشيئتكم فمشيئتكم بسبب مشيئة الله تعالى رَبُّ الْعالَمِينَ أي ملك الخلق ومربيهم أجمعين أو ما تشاؤون الاستقامة مشيئة نافعة مستتبعة لها إلّا بأن يشاءها الله تعالى فله سبحانه الفضل والحق عليم باستقامتكم إن استقمتم. روي عن سليمان بن موسى والقاسم بن مخيمرة أنه لما نزلت لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ قال أبو جهل: جعل الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله تعالى وَما تَشاؤُنَ الآية وأن وما معها هنا على ما ذكرنا في موضع خفض بإضمار باء السببية، وجوز أن تكون للمصاحبة وذهب غير واحد إلى أن الاستثناء مفرغ من أعم الأوقات أي وما تشاؤون الاستقامة في وقت من الأوقات إلّا وقت أن يشاء الله تعالى شأنه استقامتكم وهو مبني على ما نقل عن الكوفيين من جواز نيابة المصدر المؤول من أَنْ والفعل عن الظرف وفي الباب الثامن من المعنى أن أَنْ وصلتها لا يعطيان حكم المصدر في النيابة عن ظرف الزمان تقول: جئتك صلاة العصر ولا يجوز جئتك أن تصلي العصر فالأولى ما ذكرنا أولا وإليه ذهب مكي وذهب القاضي إلى الثاني. وقد اعترض عليه أيضا بأن ما لنفي الحال وأَنْ خاصة للاستقبال فيلزم أن يكون وقت مشيئته تعالى المستقبل ظرفا لمشيئة العبد الحالية وأجيب بأنا لا نسلم أن ما مختصة بنفي الحال ومن ادعى اختصاصها بذلك اشترط انتفاء القرينة على خلافه ولم تنتف هاهنا لمكان أَنْ في حيزها أو بأن كون أَنْ للاستقبال مشروط بانتفاء قرينة خلافه وهاهنا قد وجدت لمكان ما قبلها فهي لمجرد المصدرية. وقيل: يندفع الاعتراض بجعل الاستثناء منقطعا فليجعل كذلك وإن كان الأصل فيه الاتصال وليس بشيء وقد أورد على وجه السببية الذي ذكرناه نحو ذلك وهو أنه يلزم من كون ما لنفي الحال وللاستقبال سببية المتأخر للمتقدم ومما ذكر يعلم الجواب كما لا يخفى فتأمل جميع ذلك والله تعالى الهادي لأوضح المسالك.
وقال بعض أهل التأويل: الشمس شمس الروح، والنجوم نجوم الحواس، والجبال جبال القوالب وهي تسير كل وقت إلّا أنه يظهر ذلك للمحجوب إذا كشف له الغطاء والعشار عشار القوى القالبية، والوحوش وحوش الأخلاق الذميمة النفسانية، والبحار بحار العناصر الطبيعية والنفوس القوى النفسانية وتزويجها قرن كل قوة بعملها، والموءودة الخواطر الإلهامية التي ترد على السالك فيئدها في قبر القالب ويظلمها والصحف على ظاهرها، والسماء سماء الصدر، والجحيم جحيم النفس وتسعيرها بنيران الهوى والجنة جنة القلب والخنس الأنوار المودعة في القوى القلبية، والليل الأنوار الجلالية، والصبح الأنوار الجمالية إلى آخر ما قال. ويستدل بحال البعض على البعض وقد حكى أبو حيان شيئا من نحو ذلك وعقبه بتشنيع فظيع وهو لا يتم إلّا إذا أنكر إرادة الظاهر وأما إذا لم تنكر وجعل ما ذكره ونحوه من باب الإشارة فلا يتم أمر التشنيع كما حقق ذلك في موضعه.

(15/266)


إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)

سورة الانفطار
وتسمى سورة انفطرت وسورة المنفطرة ولا خلاف في أنها مكية ولا في أنها تسع عشرة آية ومناسبتها لما قبلها معلومة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أي انشقت لنزول الملائكة كقوله تعالى يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: 25] والكلام في ارتفاع السماء كما مر في ارتفاع الشمس وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ أي تساقطت متفرقة وهو استعارة لإزالتها حيث شبهت بجواهر قطع سلكها وهي مصرحة أو مكنية وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ فتحت وشققت جوانبها فزال ما بينها من البرزخ واختلط العذاب بالأجاج وصارت بحرا واحدا. وروي أن الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار فتصير مستوية أي في أن لا ماء وأريد أن البحار تصير واحدة أولا ثم تنشف الأرض جميعا فتصير بلا ماء، ويحتمل أن يراد بالاستواء بعد النضوب عدم بقاء مغايض الماء لقول تعالى لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه: 107] وقرأ مجاهد والربيع بن خيثم والزعفراني والثوري «فجرت» بالتخفيف مبنيا للمفعول وعن مجاهد أيضا «فجرت» به مبنيا للفاعل بمعنى نبعت لزوال البرزخ من الفجور نظرا إلى قوله تعالى لا يَبْغِيانِ [الرحمن: 20] لأن البغي والفجور أخوان وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ قلب ترابها الذي حثي على موتاها وأزيل وأخرج من دفن فيها على ما فسر به غير

(15/267)


واحد. وأصل البعثرة على ما قيل تبديد التراب ونحوه وهو إنما يكون لإخراج شيء تحته فقد يذكر ويراد معناه ولازمه معا وعليه ما سمعت. وقد يتجوز به عن البعث والإخراج كما في العاديات حيث أسند فيها لما في القبور دونها كما هنا وزعم بعض أنه مشترك بين النبش والإخراج وذهب بعض الأئمة كالزمخشري والسهيلي إلى أنه مركب من كلمتين اختصارا ويسمى ذلك نحتا وأصل بعثر بعث وأثير ونظيره بسمل وحمدل وحوقل ودمعز أي قال بسم الله والحمد لله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى وأدام لله تعالى عزه إلى غير ذلك من النظائر وهي كثيرة في لغة العرب، وعليه يكون معناه النبش والإخراج معا واعترضه أبو حيان بأن الراء ليست من أحرف الزيادة وهو توهم منه فإنه فرق بين التركيب والنحت من كلمتين والزيادة على بعض الحروف الأصول من كلمة واحدة كما فصل في الزهر نقلا عن أئمة اللغة. نعم الأصل عدم التركيب. عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ جواب إِذَا لكن لا على أنها تعلمه عند البعث بل عند نشر الصحف لما عرفت أن المراد بها زمان واحد مبدؤه قبيل النفخة الأولى أو هي ومنتهاه الفصل بين الخلائق لا أزمنة متعددة بحسب كلمة إذا وإنما كررت لتهويل ما في حيزها من الدواهي والكلام فيه كالذي مر في نظيره. ومعنى «ما قدم وأخر» ما أسلف من عمل خير أو شر وأخّر من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها بعده قاله ابن عباس وابن مسعود. وعن ابن عباس أيضا ما قدم معصية وأخر من طاعة وهو قول قتادة. وقيل: ما عمل ما كلف به وما لم يعمل منه وقيل ما قدم من أمواله لنفسه وما أخر لورثته وقيل: أول عمله وآخره ومعنى علمها بهما علمها التفصيلي حسبما ذكر فيما قدم يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ أي أي شيء خدعك وجرأك على عصيانه تعالى وارتكاب ما لا يليق بشأنه عز شأنه وقد علمت ما بين يديك وما سيظهر من أعمالك عليك والتعرض لعنوان كرمه تعالى دون قهره سبحانه من صفات الجلال المانعة ملاحظتها عن الاغترار للإيذان بأنه ليس مما يصلح أن يكون مدارا لاغتراره حسبما يغويه الشيطان ويقول له افعل ما شئت فإن ربك كريم قد تفضل عليك في الدنيا وسيفعل مثله في الآخرة، أو يقول له نحو ذلك مما مبناه الكرم كقول بعض شياطين الإنس:
تكثّر ما استطعت من الخطايا ... ستلقى في غد ربّا غفورا

تعض ندامة كفيك مما ... تركت مخافة الذنب السرورا
فإنه قياس عقيم وتمنية باطلة بل هو مما يوجب المبالغة في الإقبال على الإيمان والطاعة والاجتناب عن الكفر والعصيان دون العكس، ولذا قال بعض العارفين: لو لم أخف الله تعالى لم أعصه، فكأنه قيل: ما حملك على عصيان ربك الموصوف بما يزجر عنه وتدعو إلى خلافه؟ وقيل إن هذا تلقين للحجة وهو من الكرم أيضا فإنه إذا قيل له ما غرك إلخ. يتفطن للجواب الذي لقنه ويقول كرمه كما قيل يعرف حسن الخلق والإحسان بقلة الآداب في الغلمان ولم يرتض ذلك الزمخشري وكان الاغترار بذلك في النظر الجليل وإلّا فهو في النظر الدقيق كما سمعت. وعن الفضيل أنه قال: غره ستره تعالى المرخي وقال محمد بن السماك:
يا كاتم الذنب أما تستحي ... والله في الخلوة رائيكا

غرك من ربك إمهاله ... وستره طول مساويكا
وقال بعضهم:
يقول مولاي ألا تستحي ... مما أرى من سوء أفعالك

فقلت يا مولاي رفقا فقد ... جرّأني كثرة أفضالك

(15/268)


وقال قتادة: غره عدوه المسلط عليه.
وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ الآية فقال: «الجهل»
وقاله عمر رضي الله تعالى عنه وقرأ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا [الأحزاب: 72] والفرق بين هذا وبين ما ذكروا لا يخفى على ذي علم. واختلف في الْإِنْسانُ المنادى فقيل الكافر، بل عن عكرمة أنه أبيّ بن خلف وقيل الأعم الشامل للعصاة وهو الوجه لعموم اللفظ، ولوقوعه بين المجمل ومفصله أعني عَلِمَتْ نَفْسٌ وإِنَّ الْأَبْرارَ وإِنَّ الْفُجَّارَ وأما قوله تعالى بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ [الانفطار: 9] ففي الكشف إما أن يكون ترشيحا لقوة اغترارهم بإيهام أنهم أسوأ حالا من المكذبين تغليظا، وإما لصحة خطاب الكل بما وجد فيما بينهم. وقرأ ابن جبير والأعمش: «ما أغرك» بهمزة فاحتمل أن يكون تعجبا وأن تكون ما استفهامية كما في قراءة الجمهور و «أغرك» بمعنى أدخلك في الغرة. وقوله سبحانه الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ صفة ثانية مقررة للربوبية مبينة للكرم مومية إلى صحة ما كذب من البعث والجزاء موطئة لما بعد حيث نبهت على أن من قدر على ذلك بدأ أقدر عليه إعادة، والتسوية جعل الأعضاء سوية سليمة معدة لمنافعها وهي في الأصل جعل الأشياء على سواء فتكون على وفق الحكمة ومقتضاها بإعطائها ما تتم به وعدلها بعضها ببعض بحيث اعتدلت من عدل فلانا بفلان إذا ساوى بينهما أو صرفها عن خلقة غير ملائمة لها من عدل بمعنى صرف. وذهب إلى الأول الفارسي وإلى الثاني الفراء. وقرأ غير واحد من السبعة «عدّلك» بالتشديد أي صيرك معتدلا متناسب الخلق من غير تفاوت فيه ونقل القفال عن بعضهم أن عدل وعدّل بمعنى واحد فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ أي ركبك ووضعك في أي صورة اقتضتها مشيئته تعالى وحكمته جل وعلا من الصور المختلفة في الصور المختلفة في الطول والقصر ومراتب الحسن ونحوها، فالجار والمجرور متعلق ب رَكَّبَكَ وأَيِّ للصفة مثلها في قوله:
أرأيت أي سوالف وخدود ... برزت لنا بين اللّوى وزرود
ولما أريد التعميم لم يذكر موصوفها وجملة شاءَ صفة لها والعائد محذوف وما مزيدة وإنما لم تعطف الجملة على ما قبلها لأنها بيان لعدلك. وجوز أن يكون الجار والمجرور في موضع الحال أي ركبك كائنا في أي صورة شاءها، وقيل أَيِّ موصولة صلتها جملة شاءها كأنه قيل ركبك في الصورة التي شاءها.
وفيه أنه صرح أبو علي في التذكرة بأن أيا الموصولة لا تضاف إلى نكرة وقال ابن مالك في الألفية:
واخصصن بالمعرفة موصولة أيا وفي شرحها للسيوطي مع اشتراط ما سبق يعني كون المعرفة غير مفردة فلا تضفها إلى نكرة خلافا لابن عصفور، ويجوز أن تجعل أَيِّ شرطية والماضي في جوابها في معنى المستقبل إذا نظر إلى تعلق المشيئة وترتب التركيب عليه فجيء بصورة إلى الماضي نظر إلى المشيئة وأداة الشرط نظرا إلى المتعلق والترتب، ويجوز أن يكون الجار متعلقا «بعدلك» وحينئذ يتعين في أي الصفة كأنه قيل فَعَدَلَكَ في صورة أي صورة في صورة عجيبة ثم حذف الموصوف زيادة للتفخيم والتعجيب وأَيِّ هذه منقولة من الاستفهامية لكنها لانسلاخ معناها عنها بالكلية عمل فيها ما قبلها، ويكون ما شاءَ رَكَّبَكَ كلاما مستأنفا وما أما موصولة أو موصوفة مبتدأ أو مفعولا مطلقا لركبك، أي ما شاء من التركيب ركبك فيه أو تركيبا شاء ركبك. وجوز أن تكون شرطية وشاءَ فعل الشرط ورَكَّبَكَ جزاؤه أي إن شاء تركيبك في أي صورة غير هذه الصورة ركبك فيها والجملة الشرطية في موضع الصفة لصورة والعائد محذوف، ولم يجوزوا على هذا الوجه تعلق الظرف بركبك لأن معمول ما في حيز الشرط لا يجوز تقديمه عليه كَلَّا ردع عن الاغترار بكرم الله تعالى

(15/269)


وجعله ذريعة إلى الكفر والمعاصي مع كونه موجبا للشكر والطاعة. وقوله تعالى بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ إضراب عن جملة مقدرة ينساق إليها الكلام كأنه قيل بعد الردع بطريق الاعتراض وأنتم لا ترتدعون عن ذلك بل تجترئون على أعظم منه حيث تكذبون بالجزاء والبعث رأسا أو بدين الإسلام اللذين هما من جملة أحكامه فلا تصدقون سؤالا ولا جوابا ولا ثوابا ولا عقابا وفيه ترقّ من الأهون إلى الأغلظ. وعن الراغب بل هنا لتصحيح الثاني وإبطال الأول كأنه قيل: ليس هنا مقتض لغرورهم ولكن تكذيبهم حملهم على ما ارتكبوه، وقيل تقدير الكلام أنكم لا تستقيمون على ما توجبه نعمي عليكم وإرشادي لكم بل تكذبون إلخ. وقيل إن كَلَّا ردع عما دل عليه هذه الجملة من نفيهم البعث وبَلْ إضراب عن مقدر كأنه قيل ليس الأمر كما تزعمون من نفي البعث والنشور ثم قيل: لا تتبينون بهذا البيان بل تكذبون إلخ. وأدغم خارجة عن نافع رَكَّبَكَ كَلَّا كأبي عمرو في ادغامه الكبر وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة وأبو بشر «يكذبون» بياء الغيبة وقوله تعالى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ حال من فاعل تُكَذِّبُونَ مفيدة لبطلان تكذيبهم وتحقيق ما يكذبون به من الجزاء على الوجهين في الدين أي تكذبون بالجزاء والحال أن عليكم من قبلنا لحافظين لأعمالكم كِراماً لدينا كاتِبِينَ لها يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ من الأفعال قليلا كان أو كثيرا ويضبطونه نقيرا أو قطميرا وليس ذلك للجزاء وإقامة الحجة وإلّا لكان عبثا ينزه عنه الحكيم العليم. وقيل: جيء بهذه الحال استبعادا للتكذيب معها وليس بذاك. وفي تعطيم الكاتبين بالثناء عليهم تفخيم لأمر الجزاء وأنه عند الله عز وجل من جلائل الأمور حيث استعمل سبحانه فيه هؤلاء الكرام لديه تعالى ثم إن هؤلاء الحافظين غير المعقبات في قوله تعالى لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد: 11] . فمع الإنسان عدة ملائكة.
روي عن عثمان أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلم كم من ملك على الإنسان؟ فذكر عليه الصلاة والسلام عشرين ملكا.
قال المهدوي في الفيصل: وقيل إن كل آدمي يوكل به من حين وقوعه نطفة في الرحم إلى موته أربعمائة ملك ومن يكتب الأعمال ملكان كاتب الحسنات وهو في المشهور على العاتق الأيمن وكاتب ما سواها وهو على العاتق الأيسر والأول أمين على الثاني فلا يمكنه من كتابة السيئة إلّا بعد مضي ست ساعات من غير مكفر لها، ويكتبان كل شيء حتى الاعتقاد والعزم والتقرير وحتى الأنين في المرض وكذا يكتبان حسنات الصبي على الصحيح ويفارقان المكلف عند الجماع ولا يدخلان مع العبد الخلاء.
وأخرج البزار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى ينهاكم عن التعري فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حاجات الغائط والجنابة والغسل»
. ولا يمنع ذلك من كتبهما ما يصدر عنه ويجعل الله تعالى لهما أمارة على الاعتقاد القلبي ونحوه ويلزمان العبد إلى مماته فيقومان على قبره يسبحان ويهللان ويكبران ويكتب ثوابه للميت إلى يوم القيامة إن كان آمنا ويلعنانه إلى يوم القيامة إن كان كافرا.
واستظهر بعضهم أنهما اثنان بالشخص وقيل بالنوع وقيل: كاتب الحسنات يتغير دون كاتب السيئات ونصوا على أن المجنون لا حفظة عليه وورد في بعض الآثار ما يدل على أن بعض الحسنات ما يكتبها غير هذين الملكين والظواهر تدل على أن الكتب حقيقي وعلم الآلة وما يكتب فيه مفوض إلى الله عز وجل.
وقوله سبحانه إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ استئناف مسوق لبيان نتيجة الحفظ والكتب من الثواب والعقاب. وفي تنكير النعيم والجحيم ما لا يخفى من التفخيم والتهويل. وقوله تعالى يَصْلَوْنَها إما صفة للجحيم أو حال من ضمير الْفُجَّارَ في الخبر أو استئناف مبني على سؤال نشأ من

(15/270)


تهويلها كأنه قيل: ما حالهم فيها؟ فقيل: يقاسون حرّها. وقرأ ابن مقسم «يصلونها» مشددا مبنيا للمفعول يَوْمَ الدِّينِ يوم الجزاء الذي كانوا يكذبون به استقلالا أو في ضمن تكذيبهم بالإسلام وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ طرفة عين فإن المراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار وهو كقوله تعالى وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها [المائدة:
37] في الدلالة على سرمدية العذاب وأنهم لا يزالون محسين بالنار. وقيل معناه وما كانوا غائبين عنها قبل ذلك بالكلية بل كانوا يجدون سمومها في قبورهم حسبما
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «القبر روضة من رياض الجنة- أو- حفرة من حفر النار»
على أن غائبين من حكاية الحال الماضية والجملة قيل على الوجهين في موضع الحال لكنها على الأول حال مقدرة وعلى الثاني من باب جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء: 90] وقيل إنها على الأول حالية دون الثاني لانفصال ما بين صلي النار وعذاب القبر بالبعث وما في موقف الحساب بل هي عليه معطوفة على ما قبلها، ويحتمل اسم الفاعل فيها أعني غائبين على الحال أي وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ الآن لتغاير المعطوف عليه الذي أريد به الاستقبال. والكلام على ما عرف في أخباره تعالى من التعبير عن المستقبل بغيره لتحققه فلا يرد أن بعض الفجار في زمرة الأحياء بعد وبعضهم لم يخلق كذلك وعذاب القبر بعد الموت فكيف يحمل غائبين على الحال. وقوله تعالى وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ
تفخيم لشأن يوم الدين الذي يكذبون به إثر تفخيم وتعجيب منه بعد تعجيب والخطاب فيه عام، والمراد أن كنه أمره بحيث يدركه دراية داري وقيل الخطاب لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم وقيل للكافر والإظهار في موضع الإضمار تأكيد لهول يوم الدين وفخامته وقد تقدم الكلام في تحقيق كون الاستفهام في مثل ذلك مبتدأ أو خبرا مقدما فلا تغفل. وقوله سبحانه يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ بيان إجمالي لشأن يوم الدين أثر إبهامه وإفادة خروجه عن الدائرة الدراية قيل بطريق إنجاز الوعد فإن نفي الإدراء مشعر بالوعد الكريم بالإدراء على ما روي عن ابن عباس من أنه قال: كل ما في القرآن من قوله تعالى ما أَدْراكَ فقد أدراه وكل ما فيه من قوله عز وجل ما يُدْرِيكَ [الأحزاب: 63، الشورى: 17، عبس: 3] فقد طوى عنه. ويَوْمَ منصوب بإضمار اذكر كأنه قيل بعد تفخيم أمر يوم الدين وتشويقه صلّى الله عليه وسلم إلى معرفته اذكر يوم لا تملك نفس من النفوس لنفس من النفوس مطلقا لا للكفارة فقط كما روي عن مقاتل شيئا من الأشياء إلخ فإنه يدريك ما هو أو مبني، على الفتح محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف على رأي من يرى جواز بناء الظرف إذا أضيف إلى غير متمكن وهم الكوفيون أي هو يوم لا تملك إلخ. وقيل هو نصب على الظرفية بإضمار يدانون أو يشتد الهول أو نحوه مما يدل عليه السياق، أو هو مبني على الفتح محله الرفع على أنه بدل من يَوْمُ الدِّينِ وكلاهما ليسا بذاك لخلوهما عن إفادة ما أفاده ما قبل.
وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى وابن جندب وابن كثير وأبو عمرو «يوم» بالرفع بلا تنوين على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو يوم لا بدل لما سمعت آنفا. وقرأ محبوب عن أبي عمرو «يوم» بالرفع والتنوين فجملة لا تَمْلِكُ إلخ في موضع الصفة له والعائد محذوف أي فيه والأمر كما قال في الكشف واحد الأوامر لقوله تعالى لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] فإن الأمر من شأن الملك المطاع واللام للاختصاص أي الأمر له تعالى لا لغيره سبحانه لا شركة ولا استقلالا أي إن التصرف جميعه في قبضة قدرته عز وجل لا غير. وفي تحقيق قوله تعالى لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً لدلالته على أن الكل مسوسون مطيعون مشتغلون بحال أنفسهم مقهورون بعبوديتهم لسطوات الربوبية، وقيل واحد الأمور أعني الشأن وليس بذاك. وقول قتادة فيما أخرجه عند عبد بن

(15/271)


حميد وابن المنذر أي ليس ثم أحد يقضي شيئا ولا يصنع شيئا غير رب العالمين تفسير الحاصل المعنى لا إيثار لذلك هذا وقوله وحده ليس بحجة يترك له الظاهر والمنازعة في الظهور مكابرة وأيّا ما كان فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة يوم القيامة كما لا يخفى والله تعالى أعلم.

(15/272)


سورة المطفّفين
ويقال لها سورة المطففين، واختلف في كونها مكية أو مدنية فعن ابن مسعود والضحاك أنها مكية، وعن الحسن وعكرمة أنها مدنية وعليه السدّي، قال: كان بالمدينة رجل يكنى أبا جهينة له مكيالان يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص فنزلت. وعن ابن عباس روايات فأخرج ابن الضريس عنه أنه قال: آخر ما نزل بمكة سورة المطففين، وأخرج ابن مردويه والبيهقي عنه أنه قال: أول ما نزل بالمدينة وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ويؤيد هذه الرواية ما أخرجه النسائي وابن ماجة والبيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح وغيرهم عنه قال: لما قدم النبي صلّى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فأحسنوا الكيل بعد ذلك وفي رواية عنه أيضا وعن قتادة أنها مكية إلّا ثمان آيات من آخرها إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا [المطففين: 29] إلخ وقيل: إنها مدنية إلّا ست آيات من أولها وبعض من يثبت الواسطة بين المكي والمدني يقول إنها ليست أحدهما بل نزلت بين مكة والمدينة ليصلح الله تعالى أمر أهل المدينة قبل ورود رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليهم، وآيها ست وثلاثون بلا خلاف والمناسبة بينها وبين ما قبلها أنه سبحانه لما ذكر فيما قبل السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأنه ذكر عز وجل هنا ما أعد جل وعلا لبعض العصاة وذكر سبحانه بأخس ما يقع من المعصية وهو التطفيف الذي لا يكاد يجدي شيئا في تثمير المال وتنميته، مع اشتمال هذه السورة من شرح حال المكذبين المذكورين هناك على زيادة تفصيل كما لا يخفى. وقال الجلال السيوطي: الفصل بهذه السورة بين الانفطار والانشقاق التي هي نظيرتها من أوجه لنكتة لطيفة ألهمنيها الله تعالى وذلك أن السور الأربع هذه والسورتان قبلها والانشقاق لما كانت في صفة حال يوم القيامة ذكرت على ترتيب ما يقع فيه فغالب ما وقع في التكوير وجميع ما وقع في الانفطار يقع في صدر يوم القيامة ثم بعد ذلك يكون الموقف الطويل ومقاساة الأهوال فذكره في هذه السورة بقوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين: 6] ثم بعد ذلك تحصل الشفاعة العظمى فتنشر الصحف فآخذ باليمين وآخذ بالشمال وآخذ ما وراء ظهره ثم بعد ذلك يقع الحساب كما ورد بذلك الآثار فناسب تأخر سورة الانشقاق التي فيها إيتاء الكتب والحساب عن السورة التي فيها ذكر الموقف والسورة التي فيها ذكره عن السورة التي فيها ذكر مبادئ أحوال اليوم ووجه آخر وهو أنه جل جلاله لما قال في الانفطار وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ [الانفطار:
10، 11] وذلك في الدنيا ذكر سبحانه في هذه الحال ما يكتبه الحافظون وهو مرقوم يجعل في عليين أو سجين وذلك أيضا في الدنيا كما تدل عليه الآثار فهذه حالة ثانية للكتاب ذكرت في السورة الثانية وله حالة ثالثة متأخرة عنهما وهي إيتاؤه صاحبه باليمين أو غيرها وذلك يوم القيامة فناسب تأخير السورة التي فيها ذلك عن السورة التي فيها الحالة الثانية انتهى. وهو وإن لم يخل عن لطافة للبحث فيه مجال فتذكر.

(15/273)


وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ قيل الويل شدة الشر، وقيل: الحزن والهلاك، وقيل العذاب الأليم،
وقيل جبل في جهنم وأخرج ذلك عن عثمان مرفوعا
ابن جرير بسند فيه نظر. وذهب كثير إلى أنه واد في جهنم.
فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره» .
وفي صحيحي ابن حبان والحاكم بلفظ: «واد بين جبلين يهوي فيه الكافر»
إلخ وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله أنه واد في جهنم من قبح. وفي كتاب المفردات للراغب قال الأصمعي: ويل قبوح وقد يستعمل للتحسر، ومن قال: ويل واد في جهنم لم يرد أن ويلا في اللغة موضوع لهذا، وإنما أراد من قال الله تعالى فيه ذلك فقد استحق مقرا من النار وثبت ذلك له انتهى.
والظاهر أن إطلاقه على ذلك كإطلاقه جهنم على ما هو المعروف فيها فلينظر من أي نوع ذلك الإطلاق وأيّا ما كان فهو مبتدأ وإن كان نكرة لوقوعه في موقع الدعاء، ولِلْمُطَفِّفِينَ خبره، والتطفيف البخس في الكيل والوزن لما أن ما يبخس في كيل أو وزن واحد شيء طفيف أي نزر حقير، والتفعيل فيه للتعدية أو للتكثير ولا ينافي كونه من الطفيف بالمعنى المذكور لأن كثرة الفعل بكثرة وقوعه وهو بتكراره لا بكثرة متعلقه. وعن الزجاج أنه من طف الشيء جانبه.
وقوله تعالى الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ إلخ صفة مخصصة للمطففين الذين نزلت فيهم الآية، أو صفة كاشفة لحالهم شارحة لكيفية تطفيفهم الذي استحقوا به الويل أي إذا أخذوا من الناس ما أخذوا بحكم الشراء ونحوه كيلا يأخذونه وافيا وافرا، وتبديل كلمة على هنا بمن قيل لتضمين (الاكتيال) معنى الاستيلاء، أو للإشارة إلى أنه اكتيال مضر للناس لا على اعتبار الضرر من حيث الشرط الذي يتضمنه إذا لإخلاله بالمعنى بل في نفس الأمر بموجب الجواب بناء على أن المراد بالاستيفاء ليس أخذ الحق وافيا من غير نقص بل مجرد الأخذ الوافي الوافر حسبما أرادوا بأي وجه يتيسر من وجوه الحيل، وكانوا يفعلونه بكبس المكيل ودعدعة المكيال إلى غير ذلك. وقيل: إن ذلك لاعتبار أن اكتيالهم لما لهم من الحق على الناس فعن الفراء أن من وعلى يعتقبان في هذا الموضع، فيقال: اكتلت عليه أي أخذت ما عليه كيلا واكتلت منه أي استوفيت منه كيلا وتعقب بأنه مع اقتضائه لعدم شمول الحكم لاكتيالهم قبل أن يكون لهم على الناس شيء بطريق الشراء ونحوه مع أنه الشائع فيما بينهم يقتضي أن يكون معنى الاستيفاء أخذ ما لهم على الناس وافيا من غير نقص إذ

(15/274)


هو المتبادر منه عند الإطلاق في معرض الحق فلا يكون مدارا لذمهم والدعاء عليهم، وحمل ما لهم عليهم على معنى ما سيكون لهم عليهم مع كونه بعيدا جدا مما لا يجدي نفعا فإن اعتبار كون المكيل لهم حالا كان أو مآلا يستدعي كون الاستيفاء بالمعنى المذكور حتما انتهى. وأقول: إن قطع النظر عن كون الآية نازلة في مطففين صفتهم أخذ مكيل الناس إذا اكتالوا وافرا حسبما يريدون فلا بأس بحملها على ما يدل على أن المأخوذ حق حالا أو مآلا وكون المتبادر حينئذ من الاستيفاء أخذ مالهم وافيا من غير نقص مسلم لكنه لا يضر قوله فلا يكون مدارا لذمهم والدعاء عليهم. قلنا: مدار الذم ما تضمنه مجموع المتعاطفين والكلام كقولك: فلان يأخذ حقه من الناس تاما ويعطيهم حقهم ناقصا وهي عبارة شائعة في الذم بل الذم بها أشد من الذم بنحو يأخذ ناقصا ويعطي ناقصا وكونه دون الذم بنحو قولك يأخذ زائدا ويعطي ناقصا لا يضر كما لا يخفى. ثم قد يقال:
إن الأغلب في اكتيال الشخص من شخص كون المكيل حقا له بوجه من الوجوه، ولعل مبنى كلام الفراء على ذلك فتأمل. وجوز على أن تكون عَلَى متعلقة ب يَسْتَوْفُونَ ويكون تقديمها على الفعل لإفادة الخصوصية أي يستوفون على الناس خاصة، فأما أنفسهم فيستوفون لها. وتعقب بأن القصر بتقديم الجار والمجرور إنما يكون فيما يمكن تعلق الفعل بغير المجرور أيضا حسب تعلقه به فيقصد بالتقديم قصره عليه بطريق القلب أو الإفراد أو التعيين حسبما يقتضيه المقام. ولا ريب في أن الاستيفاء الذي هو عبارة عن الأخذ الوافي مما لا يتصور أن يكون على أنفسهم حتى يقصد بتقديم الجار والمجرور قصره على الناس على أن الحديث واقع في الفعل لا فيما وقع عليه انتهى. وأجيب المراد بالاستيفاء المعدى بعلى على ذلك الإضرار، فكأنه قيل: إذا اكتالوا يضرون الناس خاصة ولا يضرون أنفسهم بل ينفعونها. والقصر بطريق القلب والإضرار مما يمكن أن يكون لأنفسهم كما يمكن أن يكون للناس وإن كان ما به الإضرار مختلفا حيث إن إضرارهم أنفسهم بأخذ الناقص وإضرارهم الناس بأخذ الزائد ثم إن خصوصية ما وقع عليه الفعل هو مدار الذم والدعاء بالويل وبه يجاب عما في حيّز العلاوة انتهى ولا يخفى ما فيه فتدبر.
والضمير المنفصل في قوله تعالى وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ للناس وما تقدم في الأخذ من الناس وهذا في الإعطاء، فالمعنى وإذا كالوا لهم أو وزنوا لهم للبيع ينقصون. وكال تستعمل مع المكيل باللام وبدونه فقد جاء في اللغة على ما قيل كال له وكاله بمعنى كال له وجعل غير واحد كاله من باب الحذف والإيصال على أن الأصل كال له فحذف الجار وأوصل الفعل كما في قوله:
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر

وقولهم في المثل: الحريص يصيدك لا الجواد، أي جنيت لك ويصيد لك وجوز أن يكون الكلام على حذف المضاف وهو مكيل وموزون وإقامة المضاف مقامه والأصل وإذا كالوا مكيلهم أو وزنوهم (1) وعن عيسى بن عمر وحمزة: إن المكيل له والموزون له محذوف، وهم ضمير مرفوع تأكيد للضمير المرفوع وهو الواو وكانا يقفان على الواوين وقيفة يبينان بها ما أرادوا. وقال الزمخشري: لا يصح كون الضمير مرفوعا للمطففين لأنه يكون المعنى عليه إذا أخذوا من الناس استوفوا وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص اخسروا وهو كلام متنافر لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر وذلك على ما في الكشف لأن التأكيد اللفظي يدفعه
__________
(1) قوله وإقامة المضاف إلى قوله أو وزنوهم هكذا بخط المؤلف ولعل فيه سقطا من قلمه اه.

(15/275)


المقام فليس المراد أن يحقق أن الكيل صدر منهم لا من عبيدهم مثلا والتقوى وحده يدفعه ترك الفاء في جواب إِذا لأن الفصيح إذ ذاك فهم يخسرون فيتعين الحمل على التخصيص ويظهر العذر في ترك الفاء إذ المعنى لا يخسر الأهم ويلزم التنافر وفوات المقابلة هذا وهم أولا في كالُوهُمْ مانع من هذا التقدير أشد المنع والحمل على حذف الخبر من أحدهما وهو شطر الجزاء لا نظير له، وقيل إنه يبعد كون الضمير مرفوعا عدم إثبات الألف بعد الواو. وقد تقرر في علم الخط إثباتها بعدها في مثل ذلك وجرى عليه رسم المصحف العثماني في نظائره وكونه هنا بالخصوص مخالفا لما تقرر ولما سلك في النظائر بعيد كما لا يخفى. ولعل الاقتصار على الاكتيال في صورة الاستيفاء وذكر الكيل والوزن في صورة الإخسار أن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلّا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة، وإذا أعطوا كالوا ووزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعا، والحاصل أنه إنما جاء النظم الجليل هكذا ليطابق من نزل فيهم فالصفة تنعى عليهم ما كانوا عليه من زيادة البخس والظلم، وهذا صحيح جعلت الصفة مخصصة لهؤلاء المطففين كما هو الأظهر أو كاشفة لحالهم فقد أريد بالأول معهود ذهني. وقال شيخ مشايخنا العلامة السيد صبغة الله الحيدري في ذلك: إن التطفيف في الكيل يكون بشيء قليل لا يعبأ به في الأغلب دون التطفيف في الوزن، فإن أدنى حيلة فيه يفضي إلى شيء كثير وأيضا الغالب فيما يوزن ما هو أكثر قيمة مما يكال، فإذا أخبرت الآية بأنهم لا يبقون على الناس ما هو قليل مهين من حقوقهم علم أنهم لا يبقون عليهم الكثير الذي لا يتسامح به أكثر الناس بل أهل المروءات أيضا إلا نادرا بالطريق الأولى بخلاف ما إذا ذكر أنهم يخسرون الناس بالأشياء الجزئية كما يفهم من ذكر الإخسار في الكيل فإنه لا يعلم منه أنهم يخسرونهم بالشيء الكثير أيضا بل ربما يتوهم من تخصيص الجزئية بالذكر أنهم لا يتجرؤون على إخسارهم بكليات الأموال فلا بد في الشق الثاني من ذكر الإخسار في الوزن أيضا فتكون الآية منادية على ذميم أفعالهم ناعية عليهم بشنيع أحوالهم انتهى.
وتعقب بأنه لا يحسم السؤال لجواز أن يقال لم لم يقل إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ليعلم من القرينتين أنهم يستوفون الكثير ويخسرون بالنزر الحقير بالطريق الأولى ويكون في الكلام ما هو من قبيل الاحتباك. وقال الزجاج: المعنى إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل وكذلك إذا اتزنوا استوفوا الوزن، ولم يذكر إذا اتزنوا لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فيما يكال ويوزن ومراده على ما نص عليه الطيبي أنه استغنى بذكر إحدى القرينتين عن الأخرى لدلالة القرينة الآتية عليها وهو كما ترى. وقيل: إن المطففين باعة وهم في الغالب يشترون الشيء الكثير دفعة ثم يبيعونه متفرقا في دفعات وكم قد رأينا منهم من يشتري من الزراعين مقدارا كثيرا من الحبوب مثلا في يوم واحد فيدخره ثم يبيعه شيئا فشيئا في أيام عديدة، ولما كانت العادة الغالبة أخذ الكثير بالكيل ذكر الاكتيال فقط في صورة الاستيفاء ولما كان ما يبيعونه مختلفا كثرة وقلة ذكر الكيل والوزن في صورة الإعطاء أو لما كان اختيار ما به تعيين المقدار مفوضا إلى رأي من يشتري منهم ذكرا معا في تلك الصورة إذ منهم من يختار الكيل ومنهم من يختار الوزن، وأنت تعلم أن كون العادة الغالبة أخذ الكثير في الكيل غير مسلم على الإطلاق ولعله في بعض المواضع دون بعض، وأهل بلدنا مدينة السلام اليوم لا يكتالون ولا يكيلون أصلا وإنما عادتهم الوزن والاتزان مطلقا وعدم التعرض للمكيل والموزون في الصورتين على ما قال غير واحد لأن مساق الكلام لبيان سوء معاملة المطففين في الأخذ والإعطاء لا في خصوصية المأخوذ والمعطى.

(15/276)


أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ استئناف وارد لتهويل ما ارتكبوه من التطفيف والهمزة للإنكار والتعجيب ولا نافية، فليست أَلا هذه الاستفتاحية أو التنبيهية بل مركبة من همزة الاستفهام ولا النافية، والظن على معناه المعروف، وأُولئِكَ إشارة إلى المطففين ووضعه موضع ضميرهم للإشعار بمناط الحكم الذي هو وصفهم فإن الإشارة إلى الشيء متعرضة له من حيث اتصافه بوصفه، وأما الضمير فلا يتعرض للوصف وللإيذان بأنهم ممتازون بذلك الوصف القبيح عن سائر الناس أكمل امتياز نازلون منزلة الأمور المشار إليها إشارة حسية وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد درجتهم في الشرارة والفساد. أي لا يظن أولئك الموصوفون بذلك الوصف الشنيع الهائل أنهم مبعوثون لِيَوْمٍ عَظِيمٍ لا يقادر قدر عظمه فإن من يظن ذلك وإن كان ظنا ضعيفا لا يكاد يتجاسر على أمثال هذه القبائح فكيف بمن يتيقنه. ووصف اليوم بالعظم لعظم ما فيه كما أن جعله علة للبعث باعتبار ما فيه وقدر بعضهم مضافا أي لحساب يوم وقيل: الظن هنا بمعنى اليقين والأول أولى وأبلغ.
وعن الزمخشري أنه سبحانه جعلهم أسوأ حالا من الكفار لأنه أثبت جل شأنه للكفار ظنا حيث حكى سبحانه عنهم إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا [الجاثية: 32] ولم يثبته عز وجل لهم. والمراد أنه تعالى نزلهم منزلة من لا يظن ليصح الإنكار وقوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي لحكمه تعالى وقضائه عز وجل منصوب بإضمار أعني، وجوز أن يكون معمولا لمبعوثون أو مرفوع المحل خبرا لمبتدأ مضمر أي هو أو ذلك يوم، أو مجرور كما قال الفراء بدلا من يوم عَظِيمٍ وهو على الوجهين مبني على الفتح لإضافته إلى الفعل وإن كان مضارعا كما هو رأي الكوفيين وقد مر غير مرة. ويؤيد الوجهين قراءة زيد بن علي «يوم» بالرفع قراءة بعضهم كما حكى أبو معاذ «يوم» بالجر وفي هذا الإنكار والتعجيب وإيراد الظن والإتيان باسم الإشارة ووصف يوم قيامهم بالعظمة وإبدال يَوْمَ يَقُومُ إلخ منه على القول به ووصفه تعالى بربوبية العالمين من البيان البليغ لعظم الذنب وتفاقم الإثم في التطفيف ما لا يخفى وليس ذلك نظرا إلى التطفيف من حيث هو تطفيف بل من حيث إن الميزان قانون العدل الذي قامت به السماوات والأرض فيعم الحكم التطفيف على الوجه الواقع من أولئك المطففين وغيره.
وصح من رواية الحاكم والطبراني وغيرهما عن ابن عباس وغيره مرفوعا خمس بخمس، قيل: «يا رسول الله وما خمس بخمس؟ قال: ما نقض قوم العهد إلّا سلط الله تعالى عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله تعالى إلّا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلّا فشا فيهم الموت، ولا ظففوا الكيل إلّا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر»
وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائعة فيقول:
اتق الله تعالى وأوف الكيل فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى إن العرق ليلجمهم. وعن عكرمة أشهد أن كل كيال ووزان في النار فقيل له: إن ابنك كيال ووزان فقال: أشهد أنه في النار، وكأنه أراد المبالغة لما علم أن الغالب فيهم التطفيف. ومن هذا القبيل ما روي عن أبيّ رضي الله تعالى عنه: لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤوس المكاييل وألسن الموازين والله تعالى أعلم. واستدل بقوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ إلخ على منع القيام للناس لاختصاصه بالله تعالى، وأجاب عنه الجلال السيوطي بأنه خاص بالقيام للمرء بين يديه أما القيام له إذا قدم ثم الجلوس فلا. وأنت تعلم أن الآية بمعزل عن أن يستدل بها على ما ذكر ليحتاج إلى هذا الجواب وأرى الاستدلال بها على ذلك من العجب العجاب.
وقوله تعالى كَلَّا ردع عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ إلخ تعليل للردع أو وجوب الارتداع بطريق التحقيق وكِتابَ قيل بمعنى مكتوب أي ما

(15/277)


يكتب من أعمال الفجار لَفِي إلخ وقيل مصدر بمعنى الكتابة وفي الكلام مضاف مقدر أي كتابة عمل الفجار لفي إلخ، والمراد ب الفُجَّارِ هنا على ما قال أبو حيان الكفار، وعلى ما قال غير واحد ما يعمهم والفسقة فيدخل فيهم المطففون وسِجِّينٍ قيل صفة كسكير واختار غير واحد أنه علم لكتاب جامع وهو ديوان الشر دوّن فيه أعمال الفجرة من الثقلين كما قال تعالى: وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ فإن الظاهر أن كِتابٌ بدل من سِجِّينٌ أو خبر مبتدأ محذوف هو ضمير راجع إليه أي هو كتاب، وأصله وصف من السّجن بفتح السين لقب به الكتاب لأنه سبب الحبس فهو في الأصل فعيل بمعنى فاعل، أو لأنه ملقى كما قيل تحت الأرضين في مكان وحش كأنه مسجون فهو بمعنى مفعول ولا يلزم على جعله علما لما ذكر كون الكتاب ظرفا للكتاب لما سمعت من تفسير كتاب الفجار، وعليه يكون الكتاب المذكور ظرفا للعمل المكتوب فيه أو ظرفا للكتابة. وقيل: الكتاب على ظاهره والكلام نظير أن تقول: إن كتاب حساب القرية الفلانية في الدستور الفلاني لما يشتمل على حسابها وحساب أمثالها في أن الظرفية فيه من ظرفية الكل للجزء. وعن الإمام لا استبعاد في أن يوضع أحدهما في الآخر حقيقة أو ينقل ما في أحدهما للآخر. وعن أبيّ على أن قوله تعالى كِتابٌ مَرْقُومٌ أي موضع كتاب، فكتاب على ظاهره وسِجِّينٌ موضع عنده ويؤيده ما
أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا: «إن الفلق جب في جهنم مغطى، وسجين جب فيها مفتوح»
وعليه يكون سجين لشر موضع في جهنم. وجاء في آثار عدة أنه موضع تحت الأرض السابعة ولا منافاة بين ذلك وبين الخبر المذكور بناء على القول بأن جهنم تحت الأرض. وفي الكشف لا يبعد أن يكون سجين علم الكتاب وعلم الموضع أيضا جمعا بين ظاهر الآية وظواهر الأخبار وبعض من ذهب إلى أنه في الآية علم الموضع قال «وما أدراك سجين» على حذف مضاف أي وما أدراك ما كتاب سجين. وقال ابن عطية: من قال بذلك فكتاب عنده مرفوع على أنه خبر إِنَّ والظرف الذي هو لَفِي سِجِّينٍ ملغى، وتعقب بأن إلغاءه لا يتسنى إلّا إذا كان معمولا للخبر أعني كِتابٌ أو لصفته أعني مَرْقُومٌ وذلك لا يجوز لأن كِتابٌ موصوف فلا يعمل، ولأن مَرْقُومٌ الذي هو صفته لا يجوز أن تدخل اللام في معموله ولا يجوز أن يتقدم معموله على الموصوف وفيه نظر. وقيل: كِتابٌ خبر ثان لإن، وقيل: خبر كمبتدأ محذوف هو ضمير راجع إلى كِتابَ الفُجَّارِ ومناط الفائدة الوصف، والجملة في البين اعتراضية وكلا القولين خلاف الظاهر. وعن عكرمة إن سِجِّينٌ عبارة عن الخسار والهوان كما تقول: بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الخمول. والكلام في وَما أَدْراكَ إلخ عليه يعلم مما ذكرنا وهذا خلاف المشهور. وزعم بعض اللغويين أن نونه بدل من لام وأصله سجيل فهو كجبرين في جبريل فليس مشتقا من السجن أصلا. ومَرْقُومٌ من رقم الكتاب إذا أعجمه وبيّنه لئلا يلغو أي كتاب بيّن الكتابة أو من رقم الكتاب إذا جعل له رقما أي علامة أي كتاب معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه. وقال ابن عباس والضحاك مَرْقُومٌ مختوم بلغة حمير وذكر بعضهم أنه يقال: رقم الكتاب بمعنى ختمه ولم يخصه بلغة دون لغة. وفي البحر مَرْقُومٌ أي مثبت كالرقم لا يبلى ولا يمحى وهو كما ترى.
وشاع الرقم في الكتابة قال أبو حيان: وهو أصل معناه، ومنه قول الشاعر:
سأرقم في الماء القراح إليكم ... على بعدكم إن كان للماء راقم
وأما الرقم المعروف عند أهل الحساب فالظاهر أنه بمعنى العلامة وخص بعلامة العدد فيما بينهم وقوله تعالى وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ متصل بقوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وما بينهما اعتراض والمراد

(15/278)


للمكذبين بذلك اليوم فقوله تعالى الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ إما مجرور على أنه صفة ذامة للمكذبين أو بدل منه أو مرفوع أو منصوب على الذم وجوز أن يكون صفة كاشفة موضحة، وقيل: هو صفة مخصصة فارقة على أن المراد المكذبين بالحق والأول أظهر لأن قوله تعالى وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ إلخ يدل على أن القصد إلى المذمة أي وما يكذب بيوم الدين إلّا كل متجاوز حدود النظر والاعتبار غال في التقليد حتى جعل قدرة الله تعالى قاصرة عن الإعادة وعلمه سبحانه قاصرا عن معرفة الأجزاء المتفرقة التي لا بد في الإعادة منها فعدّ الإعادة محالة عليه عز وجل أَثِيمٍ أي كثير الآثام منهمك في الشهوات المخدجة الفانية بحيث شغلته عما وراءها من اللذات التامة الباقية وحملته على إنكارها إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا الناطقة بذلك قالَ من فرط جهله وإعراضه عن الحق الذي لا محيد عنه أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي هي حكايات الأولين يعني هي أباطيل جاء بها الأولون وطال أمد الإخبار بها ولم يظهر صدقها، أو أباطيل ألقيت على آبائنا الأولين وكذبوها ولسنا أول مكذب بها حتى يكون التكذيب منا عجلة وخروجا عن طريق الحزم والاحتياط والأول أظهر. والآية قيل نزلت في النضر بن الحارث وعن الكلبي أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وأيا ما كان فالكلام على العموم. وقرأ أبو حيوة وابن مقسم «إذا يتلى» بتذكير الفعل وقرىء إذا تتلى على الاستفهام الإنكاري كَلَّا ردع للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل وتكذيب له فيه وقوله عز وجل بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ بيان لما أدى بهم إلى التفوه بتلك العظيمة أي ليس في آياتنا ما يصحح أن يقال في شأنها مثل تلك المقالة الباطلة بل ركب قلوبهم وغلب عليها ما استمروا على اكتسابه من الكفر والمعاصي حتى صار كالصدأ في المرآة فحال ذلك بينهم وبين معرفة الحق فلذلك قالوا ما قالوا والرين في الأصل الصدأ يقال: ران عليه الذنب وغان عليه رينا وغينا ويقال: ران فيه النوم أي رسخ فيه وفي البحر أصل الرين الغلبة يقال: رانت الخمر على عقل شاربها أي غلبت، وران الغشي على عقل المريض أي غلب. وقال أبو زيد: يقال رين بالرجل يران به رينا إذا وقع فيما لا يستطيع منه الخروج، وأريد به حب المعاصي الراسخ بجامع أنه كالصدأ المسود للمرآة والفضة مثلا المغيّر عن الحالة الأصلية.
وأخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححاه والنسائي وابن ماجة وابن حبان وغيرهم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه»
فذلك الران الذي ذكر الله تعالى في القرآن كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يكسبون وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه قال: كانوا يرون أن الرين هو الطبع وذكروا له أسبابا
وفي حديث أخرجه عبد بن حميد من طريق خليد بن الحكم عن أبي المجبر أنه عليه الصلاة والسلام قال: «أربع خصال مفسدة للقلوب مجاراة الأحمق فإن جاريته كنت مثله وإن سكت عنه سلمت منه، وكثرة الذنوب مفسدة للقلوب وقد قال الله تعالى بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ، والخلوة بالنساء والاستمتاع بهن والعمل برأيهن، ومجالسة الموتى» قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: «كل غني قد أبطره غناه» .
وقرىء بإدغام اللام في الراء وقال أبو جعفر بن الباذش أجمعوا يعني القرّاء على إدغام اللام في الراء إلّا ما كان من وقف حفص على بل وقفا خفيفا يسيرا لتبيين الإظهار وليس كما قال من الإجماع ففي اللوامح عن قالون من جميع طرقه إظهار اللام عند الراء نحو قوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء: 158] بَلْ رَبُّكُمْ [الأنبياء: 56] وفي كتاب ابن عطية وقرأ نافع بَلْ رانَ غير مدغم وفيه أيضا وقرأ نافع أيضا بالإدغام والإمالة وقال سيبويه في اللام مع الراء نحو أشغل رحمه البيان، والإدغام حسنان وقال أيضا: فإذا كانت يعني اللام غير لام التعريف نحو لام هل وبل فإن الإدغام أحسن فإن لم تدغم فهي لغة لأهل الحجاز وهي

(15/279)


ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)

عربية جائزة وفي الكشاف قرىء بإدغام اللام في الراء وبالإظهار والإدغام أجود وأميلت الألف وفخمت فليحفظ.
كَلَّا ردع وزجر عن الكسب الرائن أو بمعنى حقا إِنَّهُمْ أي هؤلاء المكذبين عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ لا يرونه سبحانه وهو عز وجل حاضر ناظر لهم بخلاف المؤمنين فالحجاب مجاز عن عدم الرؤية لأن المحجوب لا يرى ما حجب أو الحجب المنع والكلام على حذف مضاف أي عن رؤية ربهم لممنوعون فلا يرونه سبحانه. واحتج بالآية مالك على رؤية المؤمنين له تعالى من جهة دليل الخطاب وإلّا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصيص. وقال الشافعي: لما حجب سبحانه قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا. وقال أنس بن مالك: لما حجب عز وجل أعداءه سبحانه فلم يروه تجلى جل شأنه لأوليائه حتى رأوه عز وجل، ومن أنكر رؤيته تعالى كالمعتزلة قال: إن الكلام تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين لديهم، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم كما قال:
إذا اعتروا باب ذي عبية رجبوا ... والناس من بين مرجوب ومحجوب
أو هو بتقدير مضاف أي عن رحمة ربهم مثلا لمحجوبون. وعن ابن عباس وقتادة ومجاهد تقدير ذلك وعن ابن كيسان تقدير الكرامة لكنهم أرادوا عموم المقدر للرؤية وغيرها من ألطافه تعالى. والجار والمجرور متعلق «بمحجوبون» وهو العالم في يَوْمَئِذٍ والتنوين فيه تنوين عوض والمعوض عنه هنا يقوم الناس السابق كأنه قيل إنهم لمحجوبون عن ربهم يوم إذ يقوم الناس لرب العالمين ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ مقاسو حرها على ما قال الخليل. وقيل: داخلون فيها وثُمَّ قيل لتراخي الرتبة لكن بناء على ما عندهم فإن صلي الجحيم عندهم أشد من حجابهم عن ربهم عز وجل، وأما عند المؤمنين لا سيما الوالهين به سبحانه منهم فإن الحجاب عذاب لا يدانيه عذاب.
ثُمَّ يُقالُ لهم تقريعا وتوبيخا من جهة الخزنة أو أهل الجنة هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فذوقوا عذابه كَلَّا تكرير للردع السابق في قوله تعالى كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ إلخ ليعقب بوعد الأبرار كما عقب ذاك بوعيد الفجار إشعارا بأن التطفيف فجور والإيقاء بر، وقيل ردع عن التكذيب فلا تكرار إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ الكلام نحو ما مر في نظيره بيد أنهم اختلفوا في عِلِّيِّينَ

(15/280)


على وجه آخر غير اختلافهم في سِجِّينٍ فقال غير واحد: هو علم لديوان الخبر الذي دوّن فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء النقلين منقول من جمع على فعيل من العلو كسجين من السجن، سمّي بذلك إما لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي درجات الجنان أو لأنه مرفوع في السماء السابعة أو عند قائمة العرش اليمنى مع الملائكة المقربين عليهم الاسم تعظيما له. وقيل: هو المواضع العلية واحده عليّ وكان سبيله أن يقال علية كما قالوا للغرفة علية فلما حذفوا التاء عوضوا عنها الجمع بالواو والنون وحكي ذلك عن أبي الفتح بن جني وقيل هو وصف للملائكة ولذلك جمع بالواو والنون. وقال الفراء: هو اسم موضوع على صيغة الجمع ولا واحد له من لفظة كعشرين وثلاثين. والعرب إذا جمعت جمعا ولم يكن له بناء واحد ولا تثنية أطلقوه في المذكر والمؤنث بالواو والنون يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ صفة أخرى لكتاب أي يحضرونه على أن يشهد من الشهود بمعنى الحضور وحضوره كناية عن حفظه في الخارج أو يشهدون بما فيه يوم القيامة على أنه من الشهادة، وعلى الوجهين المراد بالمقربين جمع من الملائكة عليهم السلام كذا قالوا. وأخرج عبد بن حميد من طريق خالد بن عرعرة وأبي عجيل أن ابن عباس سأل كعبا عن هذه الآية فقال: إن المؤمن يحضره الموت ويحضره رسل ربه عز وجل، فلا هم يستطيعون أن يؤخروه ساعة ولا يعجلوه حتى تجيء ساعته، فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه فدفعوه إلى ملائكة الرحمة فأروه ما شاء الله تعالى أن يروه من الخير ثم عرجوا بروحه إلى السماء فيشيعه من كل سماء مقربوها حتى ينتهوا به إلى السماء السابعة فيضعونه بين أيديهم ولا ينتظرون به صلاتكم عليه فيقولون: اللهم هذا عبدك فلان قبضنا نفسه ويدعون له بما شاء الله تعالى أن يدعو له، فنحن نحب أن تشهدنا اليوم كتابه فينشر كتابه من تحت العرش فيثبتون اسمه فيه وهم شهود فذلك قوله تعالى: كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ وسأله عن قوله تعالى إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ الآية فقال: إن العبد الكافر يحضره الموت ويحضره رسل ربه سبحانه فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه فدفعوه إلى ملائكة العذاب فأروه ما شاء الله تعالى أن يروه من الشر ثم هبطوا به إلى الأرض السفلى وهو سجين وهي آخر سلطان إبليس فأثبتوا كتابه فيها الحديث وفي بعض الأخبار ما ظاهره أن نفس العمل يكون في سجن ويكون في عليين،
فقد أخرج ابن المبارك عن صخر بن حبيب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الملائكة يرفعون أعمال العبد من عباد الله تعالى يستكثرونه ويزكونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه، فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه، إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين، ويصعدون بعمل العبد يستقلونه ويستحقرونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا أخلص لي عمله فاجعلوه في عليين»
وبأدنى تأويل يرجع إلى ما تضمنته الآية فلا تغفل.
وقوله تعالى إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ شروع في بيان محاسن أحوالهم إثر بيان حال كتابهم والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل: هذا حال كتابهم فما حالهم؟ فأجيب بما ذكر أي إنهم لفي نعيم عظيم عَلَى الْأَرائِكِ أي على الأسرّة في الحجال وقد تقدم تمام الكلام فيها يَنْظُرُونَ أي إلى ما شاؤوا من رغائب مناظر الجنة وما تحجب الحجال أبصارهم. وقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد: إلى ما أعد الله تعالى لهم من الكرامات. وقال مقاتل: إلى أهل النار أعدائهم ولم يرتضه بعض ليكون ما في آخر السورة تأسيسا وقيل: ينظر بعضهم إلى بعض فلا يحجب حبيب عن حبيبه وقيل: النظر كناية عن سلب النوم فكأنه قيل لا

(15/281)


ينامون وكأنه لدفع توهم النوم من ذكر الأرائك المعدة للنوم غالبا، وفيه إشارة إلى أنه لا نوم في الجنة كما وردت في الأخبار لما فيه من زوال الشعور وغفلة الحواس إلى غير ذلك مما لا يناسب ذلك المقام. وعليه يكون قوله سبحانه تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أي بهجة النعيم ورونقه لنفي ما يوهمه سلب النوم من الضعف وتغير بهجة الوجه كما في الدنيا وهو وجه لا يعرف فيه الناظر نضرة التحقيق والخطاب في تعرف لكل من له حظ من الخطاب للإيذان بأن ما لهم من آثار النعمة وأحكام البهجة بحيث لا يختص براء دون راء.
وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وطلحة وشيبة ويعقوب «تعرف» مبنيا للمفعول «نضرة» رفعا على النيابة عن الفاعل، وجوز بعضهم أن يكون نائب فاعل تَعْرِفُ ضمير الْأَبْرارَ وفِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ مبتدأ وخبر كأنه قيل تعرف الأبرار بأن في وجوههم نضرة النعيم وليس بشيء كما لا يخفى. وقرأ زيد بن علي كذلك إلا أنه قرأ «يعرف» بالياء إذ تأنيث نَضْرَةَ مجازي يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ قال الخليل: هو أجود الخمر وقال الأخفش والزجاج: الشراب الذي لا غش فيه، قال حسان:
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل
وفسرها هنا بالشراب الخالص مما يكدر حتى الغول مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ أي مختوم أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين كما روي عن مجاهد وذكر أن طين الجنة مسك معجون. والظاهر أن الختام ما يختم به وأن الختم على حقيقته وكذا إسناده. وقولنا: مختوم أوانيه إلخ ليس لأن الإسناد مجازي بل لأن الختم على الشيء أعني الاستيثاق منه بالختم طريقه ذلك وختم اعتناء به وإظهارا لكرامة شاربه وكان ذلك بما هو على هيئة الطين ليكون على النهج المألوف. ويجوز أن يكون ذلك تمثيلا لكمال نفاسته وإلّا فليس ثمة غبار أو ذباب أو خيانة ليصان على ذلك بالختم. وقال ابن عباس وابن جبير والحسن: المعنى خاتمته ونهايته رائحة مسك إذا شرب أي يجد شاربه ذلك عند انتهاء شربه وكان ذلك لأن اشتغال الذائقة بكمال لذته تمنع عن إدراك الرائحة فإذا انقطع الشرب أدركت وإلّا فالرائحة لا تختص بالانتهاء. وقيل: المعنى ذو نهاية نهايته وما يبقى بعد شربه ويشرب في أوانيه مسك وليس كشراب الدنيا نهايته. وما يرسب في إنائه طين أو نحوه وهو كما ترى. وقيل: إن الرحيق يمزج بالكافور ويختم مزاجه بالمسك، فالمعنى ذو ختام ختام مزاجه مسك وهو مع كونه خلاف الظاهر وفيما بعد ما يبعده في الجملة يحتاج إلى نقل يعول عليه وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والنخعي والضحاك وزيد بن علي وأبو حيوة وابن أبي عبلة والكسائي «خاتمه» بألف بعد الخاء وفتح التاء والمراد ما يختم به أيضا فإن فاعلا بالفتح يكون أيضا اسم آلة كالقالب والطابع لكنه سماعي. وعن الضحاك وعيسى وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي كسر التاء أي آخره رائحة مسك، والجمل السابقة أعني عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ وتَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ إلخ ويُسْقَوْنَ إلخ قيل أحوال مترادفة، وقيل مستأنفات كجملة إِنَّ الْأَبْرارَ إلخ وقعت أجوبة للسؤال عن حالهم والفصل للتنبيه على استقلال كل في بيان كرامتهم.
وَفِي ذلِكَ إشارة إلى الرحيق وهو الأنسب بما بعد أو إلى ما ذكر من أحوالهم وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو مرتبته وبعد منزلته، وجوز أن يكون لكونه في الجنة والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى:
فَلْيَتَنافَسِ وقدم للاهتمام أو للحصر أي فليتنافس وليرغب فيه لا في خمور الدنيا أو لا في غيره من ملاذها ونعيمها الْمُتَنافِسُونَ أي الراغبون في المبادرة إلى طاعة الله تعالى، وقيل: أي فليعمل لأجله أي لأجل تحصيله خاصة والفوز به العاملون كقوله تعالى لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ [الصافات: 61] أي فليستبق في

(15/282)


تحصيل ذلك المتسابقون، وأصل التنافس التغالب في الشيء النفيس وأصله من النفس لعزتها. قال الواحدي:
نفست الشيء أنفسه نفاسة، والتنافس تفاعل منه كأن واحد من الشخصين يريد أن يستأثر به. وقال البغوي: أصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس ويريده كل أحد لنفسه، ويقال: نفست عليه بالشيء أنفس نفاسة إذا بخلت به عليه. وفي مفردات الراغب: المنافسة مجاهدة النفس للتشبه بالأفاضل واللحوق بهم من غير إدخال ضرر على غيره وهي بهذا المعنى من شرف النفس وعلو الهمة، والفرق بينها وبين الحسد أظهر من أن يخفى، واستشكل ذلك التعلق بأنه يلزم عليه دخول العاطف على العاطف إذ التقدير و «فليتنافس في ذلك» وأجيب بأنه بتقدير القول أي يقولون لشدة التلذذ من غير اختيار من ذلك فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ أي في الدنيا على معنى أنه كان اللائق بهم أن يتنافسوا في ذلك، وقيل: الكلام على تقدير حرف الشرط والفاء واقعة في جوابه أي وإن أريد تنافس فليتنافس في ذلك المتنافسون، وتقديم الظرف ليكون عوضا عن الشرط في شغل حيزه وهو أنفس مما تقدم. وقوله تعالى: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عطف على خِتامُهُ مِسْكٌ صفة أخرى لرحيق مثله وما بينهما اعتراض مقرر لنفاسته، وتَسْنِيمٍ علم لعين بعينها في الجنة كما روي عن ابن مسعود وعن حذيفة بن اليمان أنه قال: عين من عدن سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه إما لأن شرابها أرفع شراب في الجنة على ما روي عن ابن عباس، أو لأنها تأتيهم من فوق على ما روي عن الكلبي، وروي أنها تجري في الهواء متسنمة فتنصب في أوانيهم. وقيل: سميت بذلك لرفعة من يشرب بها ولا يلزم من كونه علما لما ذكر منع صرفه للعلمية والتأنيث لأن العين مؤنثة إذ هي قد تذكر بتأويل الماء أو نحوه ومِنْ بيانية أو تبعيضية أي ما يمزج به ذلك الرحيق هو تسنيم أي ماء تلك العين أو بعض ذلك وجوز أن تكون ابتدائية. عَيْناً نصب على المدح. وقال الزجاج: على الحال من تسنيم قيل وصح كونه حالا مع جموده لوصفه بقوله تعالى يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ أو لتأويله بمشتق كجارية وأنت تعلم أن الاشتقاق غير لازم، والباء إما زائدة أي يشربها أو بمعنى من أي يشرب منها، أو على تضمين يشرب معنى يروى أي يشرب راوين بها أو يروى بها شاربين المقربون أو صلة الالتذاذ أي يشرب ملتذا بها، أو الامتزاج أي يشرب الرحيق ممتزجا بها، أو الاكتفاء أي يشرب مكتفين بها أوجه ذكروها، وفي كونها صلة الامتزاج مقال فقد قال ابن مسعود وابن عباس والحسن وأبو صالح: يشرب بها المقربون صرفا وتمزج للأبرار ومذهب الجمهور أن الأبرار هم أصحاب اليمين وأن المقربين هم السابقون كأنهم إنما كان شرابهم صرف التسنيم لاشتغالهم عن الرحيق المختوم بمحبة الحي القيوم فهي الرحيق التي لا يقاس بها رحيق، والمدامة التي تواصى على شربها ذو والأذواق والتحقيق:
على نفسه فليبك من ضاع عمره ... وليس له منها نصيب ولا سهم
وقال قوم الأبرار والمقربون في هذه السورة بمعنى واحد يشمل كل من نعم في الجنة. وقوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إلخ حكاية لبعض قبائح مشركي قريش أبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأشياعهم جيء بها تمهيدا لذكر بعض أحوال الأبرار في الجنة كانُوا أي في الدنيا كما قال قتادة مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ كانوا يستهزئون بفقرائهم كعمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم من الفقراء.
وفي البحر روي أن عليا كرم الله تعالى وجهه وجمعا من المؤمنين معه مروا بجمع من كفار مكة فضحكوا منهم واستخفوا بهم فنزلت إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا

إلخ قبل أن يصل علي كرم الله تعالى وجهه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وفي

(15/283)


الكشاف حكاية ذلك عن المنافقين وأنهم قالوا: ربنا اليوم الأصلع أي سيدنا يعنون عليا كرم الله تعالى وجهه، وإنما قالوه استهزاء ولعل الأول أصح وتقديم الجار والمجرور إما للقصر إشعارا بغاية شناعة ما فعلوا أي كانوا من الذين آمنوا يضحكون مع ظهور عدم استحقاقهم لذلك على منهاج قوله تعالى أَفِي اللَّهِ شَكٌّ [إبراهيم:
10] لمراعاة الفواصل وَإِذا مَرُّوا
أي المؤمنون بِهِمْ
أي بالذين أجرموا وهم في أنديتهم يَتَغامَزُونَ
أي يغمز بعضهم بعضا ويشيرون بأعينهم استهزاء بالمؤمنين وإرجاع ضمير مَرُّوا
للمؤمنين وضمير بِهِمْ
للمجرمين هو الأظهر الأوفق بحكاية سبب النزول. واستظهر أبو حيان العكس معللا له بتناسق الضمائر وَإِذَا انْقَلَبُوا أي المجرمون ورجعوا من مجالسهم إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ملتذين باستخفافهم بالمؤمنين.
وكان المراد بذلك الإشارة إلى أنهم يعدون صنيعهم ذلك من أحسن ما اكتسبوه في غيبتهم عن أهلهم أو إلى أن له وقعا في قلوبهم ولم يفعلوه مراعاة لأحد وإنما فعلوه لحظ أنفسهم. وقيل: فيه إشارة إلى أنهم كانوا لا يفعلون ذلك بما رأى من المارين بهم ويكتفون حينئذ بالتغامز. وقرأ الجمهور «فاكهين» بالألف قيل هما بمعنى، وقيل فكهين أشرين، وقيل فرحين وفاكهين قيل متفكهين وقيل ناعمين وقيل مادحين وَإِذا رَأَوْهُمْ وإذا رأوا المؤمنين أينما كانوا قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ يعنون جنس المؤمنين مطلقا لا خصوص المرئيين منهم والتأكيد لمزيد الاعتناء بسبهم وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ جملة حالية من ضمير قالوا أي قالوا ذلك والحال أنهم ما أرسلوا من جهة الله تعالى على المؤمنين موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم ويهيمنون على أعمالهم ويشهدون برشدهم وضلالهم وهذا تهكم واستهزاء بهم وإشعار بأن ما جرؤوا عليه من القول من وظائف من أرسل من جهته تعالى، وجوز أن يكون من جملة قول المجرمين والأصل وما أرسلوا علينا حافظين إلّا أنه قيل عليهم نقلا بالمعنى على نحو قال زيد ليفعلن كذا وغرضهم بذلك إنكار صدّ المؤمنين إياهم عن الشرك ودعائهم إلى الإيمان فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا أي المعهودون من الفقراء مِنَ الْكُفَّارِ أي من المعهودين وجوز التعميم من الجانبين يَضْحَكُونَ حين يرونهم أذلاء مغلولين قد غشيتهم فنون الهوان والصغار بعد العز والكبر ورهقهم ألوان العذاب بعد التنعم والترفه. والظرف والجار والمجرور متعلقان ب يَضْحَكُونَ وتقديم الجار والمجرور قيل للقصر تحقيقا للمقابلة أي واليوم هم من الكفار يضحكون لا الكفار منهم كما كانوا يفعلون في الدنيا. وقوله تعالى عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ حال من فاعل يَضْحَكُونَ أي يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من سوء الحال. وقيل: يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم: هلم هلم، فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم يفعل ذلك مرارا حتى أن أحدهم يقال له: هلم هلم فما يأتي من إياسه ويضحك المؤمنون منهم. وتعقب بأن قوله تعالى هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ يأباه فإنه صريح في أن ضحك المؤمنين منهم جزاء لضحكهم منهم في الدنيا فلا بد من المجانسة والمشاكلة حتما والحق أنه لا إباء كما لا يخفى والتثويب والإثابة المجازاة. ويقال: ثوّبه وأثابه إذا جازاه، ومنه قول الشاعر:
سأجزيك أو يجزيك عني مثوب ... وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي
وظاهر كلامهم إطلاق ذلك على المجازاة بالخير والشر، واشتهر بالمجازاة بالخير وجوز حمله عليه هنا على أن المراد التهكم كما قيل به في قوله تعالى فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21، التوبة: 34، الانشقاق: 24] وذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: 49] كأنه تعالى يقول للمؤمنين هل أثبنا هؤلاء على ما كانوا يفعلون كما أثبناكم على ما كنتم تعلمون فيكون هذا القول زائدا في سرورهم لما فيه من

(15/284)


تعظيمهم والاستخفاف بأعدائهم. والجملة الاستفهامية حينئذ معمولة لقول محذوف وقع حالا من ضمير يَضْحَكُونَ أو من ضمير يَنْظُرُونَ أي يضحكون أو ينظرون مقولا لهم هَلْ ثُوِّبَ إلخ. ولم يتعرض لذلك الجمهور. وفي البحر الاستفهام لتقرير المؤمنين والمعنى قد جوزي الكفار ما كانوا إلخ. وقيل هَلْ ثُوِّبَ متعلق ب يَنْظُرُونَ والجملة في موضع نصب به بعد إسقاط حرف الجر الذي هو إلى انتهى وما مصدرية أو موصولة والعائد محذوف أي يفعلونه، والكلام بتقدير مضاف أي ثواب أو جزاء ما كانوا إلخ. وقيل هو بتقدير باء السببية أي هل ثوب الكفار بما كانوا وقرأ النحويان وحمزة وابن محيصن بإدغام اللام في التاء والله تعالى أعلم.

(15/285)


إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

سورة الانشقاق
ويقال سور انشقت وهي مكية بلا خلاف وآيها ثلاث وعشرون آية في البصري والشامي وخمس وعشرون في غيرهما، ووجه مناسبتها لما قبلها يعلم مما نقلناه عن الجلال السيوطي فيما قبل وأوجز بعضهم في بيان وجه ترتيب هذه السور الثلاث فقال: إن في انفطرت التعريف بالحفظة الكاتبين وفي المطففين مقر كتبهم وفي هذه عرضها في القيامة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ أي بالغمام كما روي عن ابن عباس وذهب إليه الفرّاء والزجّاج كما في البحر ويشهد له قوله تعالى وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان: 25] فالقرآن يفسر بعضه بعضا، وقيل: تنشق لهول يوم القيامة لقوله تعالى وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ [الحاقة: 16] وبحث فيه بأنه لا ينافي أن يكون الانشقاق بالغمام.
وأخرج ابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها تنشق من المجرة
وفي الآثار إنها باب السماء وأهل الهيئة يقولون إنها نجوم صغار متقاربة جدا غير متميزة في الحسن ويظهر ذلك ظهورا بيّنا لمن نظر إليها بالأرصاد ولا منافاة على ما قيل من أن المراد بكونها باب السماء أن مهبط الملائكة عليهم السلام ومصعدهم من جهتها وذلك بجامع كونها نجوما صغارا متقاربة غير متميزة في الحسن.
وخبر إن النبي صلّى الله عليه وسلم أرسل معاذا إلى أهل

(15/286)


اليمن فقال له: «يا معاذ إنهم سائلوك عن المجرة، فقل هي لعاب حية تحت العرش»
ومنه قيل إنها في البحر المكفوف تحت السماء لا يكاد يصح. والقول المذكور لا ينبغي أن يحكى إلّا لينبّه على حاله. وقرأ عبيد بن عقيل عن أبي عمرو «انشقت» وكذا ما بعد من نظائره بإشمام التاء مكسرا في الوقف. وحكى عنه أيضا الكسر أبو عبيد الله بن خالويه وذلك لغة طيىء على ما قيل. وعن أبي حاتم: سمعت أعرابيا فصيحا في بلاد قيس يكسر هذه التاء أي تاء التأنيث اللاحقة للفعل وهي لغة، ولعل ذلك لأن الفواصل قد تجري مجرى القوافي فكما أن هذه التاء تكسر في القوافي كما في قول كثير عزة من قصيدة:
وما أنا بالداعي لعزة بالردى ... ولا شامت إن قيل عزة ذلت
إلى غير ذلك من أبيات تلك القصيدة تكسر في الفواصل وإجراء الفواصل في الوقف مجرى القوافي مهيع معروف كقوله تعالى الظُّنُونَا والرَّسُولَا في سورة [الأحزاب: 10، 66] وحمل الوصل على حالة الوقف موجود أيضا في الفواصل وَأَذِنَتْ لِرَبِّها أي استمعت له تعالى، يقال: أذن إذا سمع. قال الشاعر:
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بشرّ عندهم أذنوا
وقال قعنب:
إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا ... وإن هم أذنوا من صالح دفنوا
والاستماع هنا مجاز عن الانقياد والطاعة أي انقادت لتأثير قدرته عز وجل حين تعلقت إرادته سبحانه بانشقاقها انقياد المأمور المطواع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إليها للإشعار بعلة الحكم، وهذه الجملة ونظيرتها بعد قيل بمنزلة قوله تعالى أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] في الإنباء عن كون ما نسب إلى السماء والأرض من الانشقاق والمد وغيرهما جاريا على مقتضى الحكمة على ما قرروه وَحُقَّتْ أي جعلت حقيقة بالاستماع والانقياد لكن لا بعد أن لم تكن كذلك بل في نفسها وحد ذاتها من قولهم هو محقوق بكذا وحقيق به، وحاصل المعنى انقادت لربها وهي حقيقة وجديرة بالانقياد لما أن القدرة الربانية لا يتعاصاها أمر من الأمور لا لأمر اختصت به من بين الممكنات. وذكر بعضهم أن أصل الكلام حق الله تعالى عليها بذلك أي حكم عليها بتحتم الانقياد على معنى أراده سبحانه منها إرادة لا نقض لها. وقيل: المعنى وحق لها أن تنشق لشدة الهول والجملة على ما اختاره بعض الأجلّة اعتراض مقرر لما قبلها، وقيل معطوفة عليه وليس بذاك وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ قال الضحاك:
بسطت باندكاك جبالها وآكامها وتسويتها فصارت قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا وقال بعضهم: زيدت سعة وبسطة من مده بمعنى أمدّه أي زاده ونحوه ما قيل جرت فزاد انبساطها وعظمت سعتها.
وأخرج الحاكم بسند جيد عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «تمد الأرض يوم القيامة مد الأديم ثم لا يكون لابن آدم منها إلّا موضع قدميه» .
وَأَلْقَتْ ما فِيها أي رمت ما في جوافها من الموتى والكنوز كما أخرج ذلك عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة وإليه ذهب الزجاج. واقتصر بعضهم كابن جبير وجماعة على الموتى بناء على أن إلقاء الكنوز إذا خرج الدجال وكأن من ذهب إلى الأول لا يسلم إلقاء الكنوز يومئذ، ولو سلم يقول: يجوز أن لا يكون عاما لجميع الكنوز وإنما يكون كذلك يوم القيامة والقول بأن يوم القيامة متسع يجوز أن يدخل فيه وقت خروج الدجال ينبغي أن يلقى ولا يلتفت إليه وَتَخَلَّتْ أي وخلت عما فيها غاية الخلو حتى لم يبق فيها شيء من ذلك كأنها تكلفت في ذلك أقصى جهدها فصيغة التفعل للتكلف والمقصود منه المبالغة كما في قولك: تحلم الحليم، وتكرم الكريم. وقيل تَخَلَّتْ ممن على ظهرها من الأحياء، وقيل: مما على ظهرها من جبالها وبحارها وكلا القولين كما ترى.
وقد أخرج أبو القاسم

(15/287)


الحبيلي في الديباج عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا أول من تنشق عنه الأرض فأجلس جالسا في قبري وإن الأرض تحرك بي فقلت لها مالك؟ فقالت: إن ربي أمرني أن ألقي ما في جوفي وأن أتخلى فأكون كما كنت إذ لا شيء فيّ»
وذلك قوله تعالى وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها في الإلقاء وما بعده وَحُقَّتْ الكلام فيه نظير ما تقدم، وفيه إشارة إلى أن ما ذكر وإن أسند إلى الأرض فهو بفعل الله تعالى وقدرته عز وجل وتكرير كلمة إذا لاستقلال كل من الجملتين بنوع من القدرة يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ أي جاهد ومجد جدا في عملك من خير وشر إِلى رَبِّكَ كَدْحاً أي طول حياتك إلى لقاء ربك أي إلى الموت وما بعده من الأحوال الممثلة باللقاء والكدح جهد النفس في العمل حتى يؤثر فيها، من كدح جلده إذا خدشه قال ابن مقيل:
وما الدهر إلّا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

وقال آخر:
ومضت بشاشة كل عيش صالح ... وبقيت أكدح للحياة وأنصب
فَمُلاقِيهِ أي فملاق له عقيب ذلك لا محالة من غير صارف يلويك عنه، والضمير له عز وجل أي فملاقي جزائه تعالى. وقيل: هو للكدح أي فملاقي جزاء الكدح وبولغ فيه على نحو: «إنما هي أعمالكم ترد إليكم» والظاهر أن «ملاقيه» معطوف على كادِحٌ على القولين. وقال ابن عطية بعد ذكره الثاني فألقاه على هذا عاطفة جملة الكلام على الجملة التي قبلها، والتقدير فأنت ملاقيه، ولا يظهر وجه التخصيص والمراد بالإنسان الجنس كما يؤذن به التقسيم بعد وقال مقاتل: المراد به الأسود بن هلال المخزومي جادل أخاه أبا سلمة في أمر البعث فقال أبو سلمة إي والذي خلقك لتركبن الطبقة ولتوافين العقبة، فقال الأسود: فأين الأرض والسماء وما حال الناس؟ وكأنه أراد أنها نزلت فيه وهي تعم الجنس، وقيل: المراد أبيّ بن خلف كان يكدح في طلب الدنيا وإيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلم والإصرار على الكفر، ولعل القائل أراد ذلك أيضا وأبعد غاية الإبعاد من ذهب إلى أنه الرسول عليه الصلاة والسلام على أن المعنى إنك تكدح في إبلاغ رسالات الله عز وجل وإرشاده عباده سبحانه واحتمال الضرر من الكفار، فأبشر إنك تلقى الله تعالى بهذا العمل وهو غير ضائع عنده جل شأنه وجواب إِذَا قيل قوله تعالى فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً إلخ كما في قوله تعالى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 38] وقوله تعالى يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إلخ اعتراض، وقيل: هو محذوف للتهويل أي كان ما كان مما يضيق عنه نطاق البيان، وقدره بعضهم نحو ما صرح به في سورتي التكوير والانفطار، وقيل: هو ما دل عليه يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إلخ وتقديره لاقى الإنسان كدحه، وقيل: هو نفسه على حذف الفاء والأصل فيا أيها الإنسان أو بتقدير يقال.
وقال الأخفش والمبرد: هو قوله تعالى فَمُلاقِيهِ بتقدير فأنت ملاقيه ليكون مع المقدر جملة، وعلى هذا جملة يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إلخ معترضة. وقال ابن الأنباري والبلخي هو وَأَذِنَتْ على زيادة الواو كما قيل في قوله تعالى حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 71، 73] وعن الأخفش أن إذا هنا لا جواب لها لأنها ليست بشرطية بل هي في إذا السماء متجردة عنها مبتدأ، وفي وإذا الأرض خبر والواو زائدة أي وقت انشقاق السماء وقت مد الأرض وقيل لا جواب لها لأنها ليست بذلك بل متجردة عن الشرطية واقعة مفعولا لأذكر محذوفا، ولا يخفى ما في بعض هذه الأقوال من الضعف ولعل الأولى منها الأولان والحساب اليسير السهل الذي لا مناقشة فيه كما قيل وفسره عليه الصلاة والسلام بالعرض وبالنظر في الكتاب مع التجاوز،
فقد

(15/288)


أخرج الشيخان والترمذي وأبو داود عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ليس أحد يحاسب إلّا هلك» قلت: يا رسول الله، جعلني الله تعالى فداك أليس الله تعالى يقول فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً؟ قال: «ذلك العرض يعرضون ومن نوقش الحساب هلك»
وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن مردويه والحاكم وصححه عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: «اللهم حاسبني حسابا يسيرا فلما انصرف عليه الصلاة والسلام قلت: يا رسول الله ما الحساب اليسير؟ قال: «أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه»
وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً أي عشيرته المؤمنين مبتهجا بحاله قائلا هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة: 19] وقيل أي فريق المؤمنين مطلقا وإن لم يكونوا عشيرته إذ كل المؤمنين أهل للمؤمن من جهة الاشتراك في الإيمان، وقيل: أي إلى خاصته ومن أعده الله تعالى له في الجنة من الحور والغلمان، وأخرج هذا ابن المنذر عن مجاهد. وقرأ زيد بن علي «ويقلب» مضارع قلب مبنيا للمفعول.
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ أي يؤتاه بشماله من وراء ظهره، قيل: تغل يمناه إلى عنقه وتجعل شماله وراء ظهره فيؤتى كتابه بشماله. وروي أن شماله تدخل في صدره حتى تخرج من وراء ظهره فيأخذ كتابه بها فلا تدافع بين ما هنا وما في سورة الحاقة حيث لم يذكر فيه الظهر ثم هذا إن كان في الكفرة وما قبله في المؤمنين المتقين فلا تعرض هنا للعصاة كما استظهره في البحر. وقيل: لا بعد في إدخال العصاة في أهل اليمين إما لأنهم يعطون كتبهم باليمين بعد الخروج من النار كما اختاره ابن عطية أو لأنهم يعطونها بها قبل لكن مع حساب فوق حساب المتقين ودون حساب الكافرين، ويكون قوله تعالى فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً من وصف الكل بوصف البعض، وقيل: إنهم يعطونها بالشمال وتمييز الكفرة بكون الإعطاء من وراء ظهورهم ولعل ذلك لأن مؤتي الكتب لا يتحملون مشاهدة وجوههم لكمال بشاعتها أو لغاية بغضهم إياهم أو لأنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً يطلبه ويناديه ويقول: يا ثبوراه تعالى فهذا أوانك والثبور الهلاك وهو جامع لأنواع المكاره وَيَصْلى سَعِيراً يقاسي حرها أو يدخلها، وقرأ أكثر السبعة وعمر بن عبد العزيز وأبو الشعثاء والحسن والأعرج «يصلّى» بضم الياء وفتح الصاد واللام مشددة من التصلية لقوله تعالى وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [الواقعة: 94] وقرأ أبو الأشهب وخارجة عن نافع وأبان عن عاصم والعتكي وجماعة عن أبي عمرو «يصلى» بضم الياء ساكن الصاد مخفف اللام مبنيا للمفعول من الإصلاء لقوله تعالى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ [النساء: 115] إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ في الدنيا مَسْرُوراً فرحا بطرا مترفا لا يخطر بباله أمور الآخرة ولا يتفكر في العواقب ولم يكن حزينا متفكرا في حاله ومآله كسنة الصلحاء والمتقين، والجملة استئناف لبيان علة ما قبلها. وقوله تعالى إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ تعليل لسروره في الدنيا أي ظن أن لن يرجع إلى الله تعالى تكذيبا للمعاد، وقيل: ظن أن لن يرجع إلى العدم أي ظن أنه لا يموت وكان غافلا عن الموت غير مستعد له وليس بشيء، والحور الرجوع مطلقا ومنه قول الشاعر:
وما المرء إلّا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
والتقييد هنا بقرينة المقام وأَنْ مخففة من الثقيلة سادّة مع ما في حيزها مسد مفعولي الظن على المشهور بَلى إيجاب لما بعد لَنْ وقوله تعالى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً تحقيق وتعليل له أي بلى يحور البتة أن ربه عز وجل الذي خلقه كان به وبأعماله الموجبة للجزاء بصيرا بحيث لا تخفى عليه سبحانه منها خافية فلا بد من رجعة وحسابه ومجازاته فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ هي الحمرة التي تشاهد في أفق المغرب

(15/289)


بعد الغروب وأصله من رقة الشيء، يقال: شيء شفق أي لا يتماسك لرقته ومنه أشفق عليه رق قلبه والشفقة من الإشفاق وكذلك الشفق قال الشاعر:
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا ... والموت أكرم نزّال على الحرم
وقيل: البياض الذي يلي تلك الحمرة ويرى بعد سقوطها، وفي تسمية ذلك شفقا خلاف فالجمهور على أنه لا يسمى به وأبو هريرة وعمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم على أنه يسمى. وروى أسد ابن عمرو عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه رجع عن ذلك إلى ما عليه الجمهور وتمام الكلام عليه في شروح الهداية. وأخرج عبد ابن حميد عن مجاهد وعكرمة أنه هنا النهار كله. وروي ذلك عن الضحاك وابن أبي نجيح وكأنه شجعهم على ذلك عطف الليل عليه وعن عكرمة أيضا أنه ما بقي من النهار والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا عرفت هذا أو تحققت الحور بالبعث فلا أقسم بالشفق وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ وما ضم وجمع يقال: وسقه فاتسق واستوسق أي جمعه فاجتمع، ويقال: طعام موسوق أي مجموع وإبل مستوسقة أي مجتمعة. قال الشاعر:
إن لنا قلائصا حقائقا ... مستوسقات لم يجدن سائقا
ومن الوسق الأصواع المجتمعة وهي ستون صاعا أو حمل بعير لاجتماعه على ظهره وما تحتمل المصدرية والموصولة والجمهور على الثاني والعائد محذوف، أي والذي وسقه والمراد به ما يجتمع بالليل ويأوي إلى مكانه من الدواب وغيرها. وعن مجاهد ما يكون فيه من خير أو شر وقيل ما ستره وغطى عليه بظلمته وقيل: ما جمعه من الظلمة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن جبير أنه قال وَما وَسَقَ وما عمل فيه ومنه قوله:
فيوما ترانا صالحين وتارة ... تقوم بنا كالواسق المتلبب
وقيل: وسق بمعنى طرد أي وما طرده إلى أماكنه من الدواب وغيرها أو ما طرده من ضوء النهار ومنه الوسيقة قال في القاموس وهي من الإبل كالرفقة من الناس فإذا سرقت طردت معا وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ أي اجتمع نوره وصار بدرا لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ خطاب لجنس الإنسان المنادى أولا باعتبار شموله لأفراده والمراد بالركوب الملاقاة والطبق في الأصل ما طابق غيره مطلقا وخص في العرف بالحال المطابقة لغيرها ومنه قول الأقرع بن حابس:
إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره ... وساقني طبق منه إلى طبق
وعَنْ للمجاوزة. وقال غير واحد: هي بمعنى بعد كما في قولهما: سادوك كابرا عن كابر وقوله:
ما زلت أقطع منهلا عن منهل ... حتى أنخت بباب عبد الواحد
والمجاوزة والبعدية متقاربان والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لطبقا أو حالا من فاعل (تركبن) والظاهر أن نصب طَبَقاً على أنه مفعول به أي لتلاقن حالا مجاوزة لحال أو كائنة بعد حال أو مجاوزين لحال أو كائنين بعد حال كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول، وجوز كون الركوب على حقيقته وتجعل الحال مركوبة مجازا. وقيل نصب طَبَقاً على التشبيه بالظرف أو الحالية وقال جمع الطبق جمع طبقة كتخم وتخمة وهي المرتبة ويقال إنه اسم جنس جمعي واحده ذلك والمعنى لتركبن أحوالا بعد أحوال هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها، ورجحه

(15/290)


الطيبي فقال: هذا الذي يقتضيه النظم وترتب الفاء في فَلا أُقْسِمُ على قوله تعالى بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً وفسر بعضهم الأحوال بما يكون في الدنيا من كونهم نطفة إلى الموت وما يكون في الآخرة من البعث إلى حين المستقر في إحدى الدارين. وقيل: يمكن أن يراد بطبقا عن طبق الموت المطابق للعدم الأصلي والإحياء المطابق للإحياء السابق، فيكون الكلام قسما على البعث بعد الموت ويجري فيه ما ذكره الطيبي.
وأخرج نعيم بن حماد وأبو نعيم عن مكحول أنه قال في الآية تكونون في كل عشرين سنة على حال لم تكونوا على مثلها. وفي رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في كل عشرين عاما تحدثون أمرا لم تكونوا عليه، فالطبق بمعنى عشرين عاما وقد عد ذلك في القاموس من جملة معانيه وما ذكر بيان للمعنى المراد. وقيل:
الطبق هنا القرن من الناس مثله في قول العباس بن عبد المطلب يمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
وأنت لما ولدت أشرقت الأر ... ض وضاءت بنورك الأفق

تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق
وإن المعنى لتركبن سنن من مضى قبلكم قرنا بعد قرن، وكلا القولين خلاف الظاهر. وقرأ عمر وابن مسعود وابن عباس ومجاهد والأسود وابن جبير ومسروق والشعبي وأبو العالية وابن وثاب وطلحة وعيسى والأخوان وابن كثير «لتركبنّ» بتاء الخطاب وفتح الباء وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنهما أيضا كسرا تاء المضارعة وهي لغة بني تميم على أنه خطاب للإنسان أيضا لكن باعتبار اللفظ لا باعتبار الشمول. وأخرج البخاري عن ابن عباس أن الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلم، وروي ذلك عن جماعة وكأن من ذهب إلى أنه عليه الصلاة والسلام هو المراد بالإنسان فيما تقدم يذهب إليه وعليه يراد لَتَرْكَبُنَّ أحوالا شريفة بعد أخرى من مراتب القرب أو مراتب من الشدة في الدنيا باعتبار ما يقاسيه صلّى الله عليه وسلم من الكفرة ويعانيه في تبليغ الرسالة أو الكلام عدة بالنصر أي لتلاقن فتحا بعد فتح ونصرا بعد نصر وتبشيرا بالمعراج، أي لتركبن سماء بعد سماء كما أخرجه عبد بن حميد عن ابن عباس وابن مسعود وأيّد بالتوكيد بالجملة القسمية والتعقيب بالإنكارية وأخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن مسعود أنه قال في ذلك يعني السماء تنفطر ثم تنشق ثم تحمر، وفي رواية السماء تكون كالمهل وتكون وردة كالدهان وتكون واهية وتشقق فتكون حالا بعد حال فالتاء للتأنيث والضمير الفاعل عائد على السماء. وقرأ عمر وابن عباس أيضا «ليركبن» بالياء آخر الحروف وفتح الباء على الالتفات من خطاب الإنسان إلى الغيبة. وعن ابن عباس يعني نبيكم عليه الصلاة والسلام فجعل الضمير له صلّى الله عليه وسلم والمعنى على نحو ما تقدم. وقيل الضمير الغائب يعود على القمر لأنه يتغير أحوالا من سرار واستهلال وإبدار. وقرأ عمر أيضا «ليركبن» بياء الغيبة وضم الباء على أن ضمير الجمع للإنسان باعتبار الشمول. وقرىء بالتاء الفوقية وكسر الباء على تأنيث الإنسان المخاطب باعتبار النفس وأمر التقدير الحالية المشار إليها فيما مر على هذه القراءات لا يخفى. والفاء في قوله تعالى فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ جوز أن تكون لترتيب ما بعدها من الإنكار والتعجب على ما قبلها من أحوال يوم القيامة وأهوالها المشار إليها بقوله تعالى لَتَرْكَبُنَّ إلخ على بعض الأوجه الموجبة للإيمان والسجود أي إذا كان حالهم يوم القيامة كما أشير إليه فأي شيء لهم حال كونهم غير مؤمنين، أي أي شيء يمنعهم من الإيمان بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم وسائر ما يجب الإيمان به مع تعاضد موجباته من الأهوال التي تكون لتاركه يومئذ، وجوز أن يكون لترتيب ذلك على ما قيل من عظيم شأنه عليه الصلاة والسلام المشار إليه بقوله سبحانه لَتَرْكَبُنَّ إلخ على بعض آخر من الأوجه السابقة فيه أي إذا كان حاله وشأنه صلّى الله عليه وسلم ما أشير

(15/291)


إليه فأي شيء يمنعهم من الإيمان به عليه الصلاة والسلام وجوز أن يكون لترتيب ذلك على ما تضمنه قوله سبحانه فَلا أُقْسِمُ إلخ مما يدل على صحة البعث من التغييرات العلوية والسفلية الدالة على كمال القدرة وإليه ذهب الإمام أي إذا كان شأنه تعالى شأنه كما أشير إليه من كونه سبحانه وتعالى عظيم القدرة واسع العلم فأي شيء يمنعهم عن الإيمان بالبعث الذي هو من جملة الممكنات التي تشملها قدرته عز وجل ويحيط بها علمه جل جلاله.
وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ عطف على الجملة الحالية فهي حالية مثلها، أي فأي مانع لهم حال عدم سجودهم عند قراءة القرآن والسجود مجاز عن الخضوع اللازم له على ما روي عن قتادة أو المراد به الصلاة. وفي قرن ذلك بالإيمان دلالة على عظم قدرها كما لا يخفى أو هو على ظاهره. فالمراد بما قبله قرىء القرآن المخصوص أو وفيه آية سجدة
وقد صح عنه صلّى الله عليه وسلم أنه سجد عند قراءة هذه الآية
. أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أبي هريرة قال: سجدنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ

وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي وعن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فسجد فقلت له، فقال: سجدت خلف أبي القاسم صلّى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه عليه الصلاة والسلام
. وفي ذلك رد على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حيث قال:
ليس في المنفصل وهو من سورة محمد صلّى الله عليه وسلم وقيل من الفتح وقيل هو قول الأكثر من الحجرات سجدة وهي سنة عند الشافعي وواجبة عند أبي حنيفة. قال الإمام:
روي أنه صلّى الله عليه وسلم قرأ ذات يوم وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:
19] فسجد هو ومن معه من المؤمنين
وقريش تصفق فوق رؤوسهم وتصفر فنزلت هذه الآية. واحتج أبو حنيفة على وجوب السجدة بهذا من وجهين: الأول أن فعله عليه الصلاة والسلام يقتضي الوجوب لقوله تعالى فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153، 155] الثاني أنه تعالى ذم من يسمعه ولا يسجد وحصول الذم عند الترك يدل على الوجوب انتهى. وفيه بحث مع أن الحديث كما قال ابن حجر لم يثبت بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ أي بالقرآن وهو انتقال عن كونهم لا يسجدون عند قراءته إلى كونهم يكذبون به صريحا ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالكفر والإشعار بعلة الحكم. وقرأ الضحاك وابن أبي عبلة «يكذبون» مخففا وبفتح الياء وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ أي بالذي يضمرونه في صدورهم من الكفر والحسد والبغضاء والبغي فما موصولة والعائد محذوف وأصل الإيعاء جعل الشيء في وعاء. وفي مفردات الراغب الإيعاء حفظ الأمتعة في وعاء ومنه قوله:
والشر أخبث ما أوعيت من زاد وأريد به هنا الإضمار مجازا وهو المروي عن ابن عباس ولا يلزم عليه كون الآية في حق المنافقين مع كون السورة مكية كما لا تخفى، وفسره بعضهم بالجمع وحكي عن ابن زيد وجوز أن يكون المعنى والله تعالى أعلم بما يجمعونه في صحفهم من أعمال السوء وأيّا ما كان فعلم الله تعالى بذلك كناية عن مجازاته سبحانه عليه. وقيل: المراد الإشارة إلى أن لهم وراء التكذيب قبائح عظيمة كثيرة يضيق عن شرحها نطاق العبارة. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المعنى والله تعالى أعلم بما يضمرونه في أنفسهم من أدلة كونه أي القرآن حقا فيكون المراد المبالغة في عتادهم وتكذيبهم على خلاف علمهم، والظاهر أن الجملة على هذا حال من ضمير يُكَذِّبُونَ وكونها كذلك على ما قيل من الإشارة خلاف الظاهر. وقرأ أبو رجاء «بما يعون» من وعى يعي فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ مرتب على الأخبار بعلمه تعالى بما يوعون مرادا به مجازاتهم به وقيل

(15/292)


على تكذيبهم، وقيل: الفاء فصيحة أي إذا كان حالهم ما ذكر فبشرهم إلخ والتبشير في المشهور الإخبار بسار والتعبير به هاهنا من باب:
تحية بينهم ضرب وجيع وجوز أن يكون ذلك على تنزيلهم لانهماكهم في المعاصي الموجبة للعذاب وعدم استرجاعهم عنها منزلة الراغبين في العذاب حتى كأن الأخبار به تبشيرا وإخبارا بسار، والفرق بين الوجهين يظهر بأدنى تأمل وأبعد جدا من قال إن ذلك تعريض بمحبة نبي الرحمة صلّى الله عليه وسلم البشارة فيستعار لأمره عليه الصلاة والسلام بالإنذار لفظ البشارة تطييبا لقلبه صلّى الله عليه وسلم إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ استثناء منقطع من الضمير المنصوب في فَبَشِّرْهُمْ وجوز أن يكون متصلا على أن يراد بالمستثنى من آمن وعمل الصالحات من آمن وعمل بعد منهم أي من أولئك الكفرة والمضي في الفعلين باعتبار علم الله تعالى أو هما بمعنى المضارع، ولا يخفى ما فيه من التكلف مع أن الأول أنسب منه بقوله تعالى لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ لأن الأجر المذكور لا يخص المؤمنين منهم بل المؤمنين كافة، وكون الاختصاص إضافيا بالنسبة إلى الباقين على الكفر منهم خلاف الظاهر على أن إيهام الاختصاص بالمؤمنين منهم يكفي في الغرض كما لا يخفى. والتنوين في أَجْرٌ للتعظيم ومعنى غَيْرُ مَمْنُونٍ غير مقطوع من منّ إذا قطع أو غير معتد به ومحسوب عليهم من منّ عليه إذا اعتد بالصنيعة وحسبها وجعل بعضهم المن بهذا المعنى من منّ بمعنى قطع أيضا لما أنه يقطع النعمة ويقتضي قطع شكرها والجملة على ما قيل استئناف مقرر لما أفاده الاستثناء من انتفاء العذاب عن المذكورين ومبين لكيفيته ومقارنته للثواب العظيم الكثير.

(15/293)