روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ
وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ
ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ
عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا
نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ
الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ
لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ
الْحَرِيقِ (10)
سورة البروج
لا خلاف في مكيتها ولا في كونها اثنتين وعشرين آية، ووجه
مناسبتها لما قبلها باشتمالها كالتي قبل على وعد المؤمنين
ووعيد الكافرين مع التنويه بشأن القرآن وفخامة قدره. وفي البحر
أنه سبحانه لما ذكر أنه جل وعلا أعلم بما يجمعون لرسول الله
صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين من المكر والخداع وإيذاء من
أسلم بأنواع من الأذى كالضرب والقتل والصلب والحرق بالشمس
وإحماء الصخر ووضع أجساد من يريدون أن يفتنوه عليه، ذكر سبحانه
أن هذه الشنشنة كانت فيمن تقدم من الأمم فكانوا يعذبون بالنار
وأن المعذبين كان لهم من الثبات في الإيمان ما منعهم أن يرجعوا
عن دينهم وأن الذين عذبوهم ملعونون فكذلك الذين عذبوا المؤمنين
من كفار قريش فهذه السورة عظة لقريش وتثبيت لمن يعذبونه من
المؤمنين انتهى وهو وجه وجيه.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ ذاتِ
الْبُرُوجِ أي القصور كما قال ابن عباس وغيره، والمراد بها عند
جمع البروج الاثنا عشر المعروفة وأصل البرج الأمر الظاهر ثم
صار حقيقة للقصر العالي لأنه ظاهر للناظرين، ويقال لما ارتفع
من سور المدينة برج أيضا وبروج السماء بالمعنى المعروف وإن
التحقت بالحقيقة فهي في الأصل استعارة فإنها شبهت بالقصور
لعلوها ولأن النجوم نازلة فيها كسكانها فهناك استعارة مصرحة
تتبعها مكنية، وقيل: شبهت السماء بسور المدينة فأثبت لها
البروج وقيل: هي منازل القمر وهذا راجع إلى القول الأول لأن
البروج منقسمة إلى ثمانية وعشرين منزلا وقد تقدم الكلام فيها.
وقال مجاهد والحسن وعكرمة وقتادة: هي النجوم.
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه فيه
حديثا مرفوعا بلفظ الكواكب بدل النجوم
والله تعالى أعلم بصحته. وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن أبي
صالح أنه قال: هي
(15/294)
النجوم العظام وعليه إنما سميت بروجا
لظهورها وكذا على ما قبله وإن اختلفت الظهور ولم يظهر شموله
جميع النجوم، وقيل: هي أبواب السماء وسميت بذلك لأن النوازل
تخرج من الملائكة عليهم السلام منها فجعلت مشبهة بقصور العظماء
النازلة أو أمرهم منها أو لأنها لكونها مبدأ للظهور وصفت به
مجازا في الطرف، وقيل في النسبة والبروج الاثنا عشر في الحقيقة
على ما ذكره محققو أهل الهيئة معتبرة في الفلك الأعلى المسمى
بفلك الأفلاك والفلك الأطلس، وزعموا أنه العرش بلسان الشرع
لكنها لما لم تكن ظاهرة حسا دلوا عليها بما سامتها وقت تقسيم
الفلك الأعلى من الصور المعروفة كالحمل والثور وغيرهما التي هي
في الفلك الثامن المسمى عندهم بفلك الثوابت وبالكرسي في لسان
الشرع على ما زعموا فبرج الحمل مثلا ليس إلا جزءا من اثني عشر
جزءا من الفلك الأعلى سامتته صورة الحمل من الثوابت وقت
التقسيم، وبرج الثور ليس إلّا جزءا من ذلك سامتته صورة الثور
منها ذلك الوقت أيضا وهكذا وإنما قيل وقت التقسيم لأن كل صورة
قد خرجت لحركتها وإن كانت بطيئة عما كانت مسامتة له من تلك
البروج حتى كاد يسامت الحمل اليوم برج الثور والثور برج
الجوزاء وهكذا، فعلى هذا وكون المراد بالبروج البروج الاثني
عشر أو المنازل قيل المراد بالسماء الفلك الأعلى وقيل الفلك
الثامن لظهور الصور الدالة على البروج فيه، ولذا يسمى فلك
البروج وقيل: السماء الدنيا لأنها ترى فيها بظاهر الحس نظير ما
قيل في قوله تعالى وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا
بِمَصابِيحَ [الملك: 5] وقيل الجنس الشامل لكل سماء لأن
السماوات شفافة فيشارك العليا فيما فيها السفلى لأنه يرى فيها
ظاهرا، وإذا أريد بالبروج النجوم فقيل المراد بالسماء الفلك
الثامن لأنها فيه حقيقة وقيل: السماء الدنيا وقيل الجنس على
نحو ما مر ولا يراد على ما قيل الفلك الأطلس أعني الفلك الأعلى
لأنه كاسمه غير مكوكب وإذا أريد بها الأبواب فقيل المراد
بالسماء ما عدا فلك الأفلاك المسمى بلسان الشرع بالعرش فإنه لم
يرد أن له أبوابا، هذا وأنت تعلم أن أكثر ما ذكر مبني على كلام
أهل الهيئة المتقدمين وهو لا يصح له مستند شرعا ولا يكاد تسمع
فيه إطلاق السماء على العرش أو الكرسي لكن لما سمع بعض
الإسلاميين من الفلاسفة أفلاكا تسعة وأراد تطبيق ذلك على ما
روي في الشرع زعم أن سبعة منها هي السماوات السبع والاثنين
الباقيين هما الكرسي والعرش ولم يدر أن في الأخبار ما يأبى ذلك
وكون الدليل العقلي يقتضيه محل بحث كما لا يخفى. ومن رجع إلى
كلام أهل الهيئة المحدثين ونظر في أدلتهم على ما قالوه في أمر
الأجرام العلوية وكيفية ترتيبها قوي عنده وهن ما ذهب إليه
المتقدمون في ذلك فالذي ينبغي أن يقال: البروج هي المنازل
للكواكب مطلقا التي يشاهدها الخواص والعوام وما علينا في أي
سماء كانت أو الكواكب أنفسها أينما كانت أو أبواب السماء
الواردة في لسان الشرع والأحاديث الصحيحة وهي لكل سماء ولم
يثبت للعرش ولا للكرسي منها شيء ويراد بالسماء جنسها أو السماء
الدنيا في غير القول الأخير على ما سمعت فيما تقدم فلا تغفل.
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ أي الموعود به وهو يوم القيامة
باتفاق المفسرين، وقيل: لعله اليوم الذي يخرج الناس فيه من
قبورهم فقد قال سبحانه يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً
كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ
تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا
يُوعَدُونَ [المعارج: 43، 44] أو يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ
كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء: 104] وقيل يمكن أن
يراد به يوم شفاعة النبي صلّى الله عليه وسلم على ما أشار إليه
قوله تعالى عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً
[الإسراء: 79] ولا يخفى أن جميع ذلك داخل في يوم القيامة
وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ أي ومن يشهد بذلك اليوم ويحضره من
الخلائق المبعوثين فيه وما يحضر فيه من الأهوال
(15/295)
والعجائب فيكون الله عز وجل قد أقسم سبحانه
بيوم القيامة وما فيه تعظيما لذلك اليوم وإرهابا لمنكريه،
وتنكير الوصفين للتعظيم أي وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما أو
للتكثير كما قيل في عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير:
14]
وأخرج الترمذي وجماعة عن أبي هريرة مرفوعا: «الشاهد يوم الجمعة
والمشهود يوم عرفة» وروي ذلك عن أبي مالك الأشعري وجبير بن
مطعم رضي الله تعالى عنهما مرفوعا أيضا وأخرجه جماعة عن علي
كرم الله تعالى وجهه وغيره من الصحابة والتابعين
.
وأخرج الحاكم وصححه عنه مرفوعا أيضا: «الشاهد يوم عرفة ويوم
الجمعة والمشهود يوم القيامة»
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه:
«الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النجم»
.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن الحسن بن علي رضي الله تعالى
عنهما وكرم وجههما أن رجلا سأله عن ذلك فقال: هل سألت أحدا
قبلي؟ قال: نعم، سألت ابن عمر وابن الزبير فقالا يوم الذبح
ويوم الجمعة
، قال: لا ولكن الشاهد محمد. وفي رواية جدي رسول الله صلّى
الله عليه وسلم ثم قرأ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً
[النساء: 41] والمشهود يوم القيامة. ثم قرأ ذلِكَ يَوْمٌ
مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود: 103]
وروى النسائي وجماعة من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه
والشاهد الله عز وجل والمشهود يوم القيامة. وعن مجاهد وعكرمة
وعطاء بن يسار الشاهد آدم عليه السلام وذريته والمشهود يوم
القيامة. وعن ابن المسيب الشاهد يوم التروية والمشهود يوم
عرفة. وعن الترمذي الشاهد الحفظة والمشهود أي عليه الناس. وعن
عبد العزيز بن يحيى هما رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأمته
عليه الصلاة والسلام، وعنه أيضا هما الأنبياء عليهم السلام
وأممهم. وعن ابن جبير ومقاتل هما الجوارح وأصحابها وقيل هما
يوم الاثنين ويوم الجمعة، وقيل هما الملائكة المتعاقبون عليهم
السلام وقرآن الفجر، وقيل هما النجم والليل والنهار وقيل
الشاهد الله تعالى والملائكة وأولو العلم المشهود به الوحدانية
وإن الدين عند الله تعالى الإسلام وقيل الشاهد مخلوقاته تعالى
والمشهود به الوحدانية وقيل هما الحجر الأسود والحجيج، وقيل
الليالي والأيام وبنو آدم فعن الحسن ما من يوم إلّا ينادي إني
يوم جديد وإني على ما يعمل فيّ شهيد فاغتنمني فلو غابت شمسي لم
تدركني إلى يوم القيامة. وقيل: أمة النبي صلّى الله عليه وسلم
وسائر الأمم. وجوز أن يراد بهما المقربون والعليون لقوله تعالى
كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [المطففين: 20،
21] وأن يراد بالشاهد الطفل الذي قال: يا أماه اصبري فإنك على
الحق كما سيجيء إن شاء الله تعالى.
والمشهود له أمه والمؤمنون لأنه إذا كانت أمه على الحق فسائر
المؤمنين كذلك. وقيل: وجميع الأقوال في ذلك على ما وقفت عليه
نحو من ثلاثين قولا والوصف على بعضها من الشهادة بمعنى الحضور
ضد المغيب، وعلى بعضها الآخر من الشهادة على الخصوم أوله شهادة
الجوارح بأن ينطقها الله تعالى الذي أنطق كل شيء وكذا الحجر
الأسود ولا بعد في حضوره يوم القيامة للشهادة للحجيج، وأما
شهادة اليوم فيمكن أن تكون بعد ظهوره في صورة كظهور القرآن على
صورة الرجل الشاحب إذ يتلقى صاحبه عند قيامه من قبره وظهور
الموت في صورة كبش يوم القيامة حتى يذبح بين الجنة والنار إلى
غير ذلك. وقال الشهاب: الله تعالى قادر على أن يحضر اليوم
ليشهد ولم يبيّن كيفية ذلك فإن كانت كما ذكرنا فذاك وإن كانت
شيئا آخر بأن يحضر نفس اليوم في ذلك اليوم فالظاهر أنه يلزم أن
يكون للزمان زمان وهو إن جوزه من جوزه من المتكلمين لكن في
الشهادة بلسان القال عليه خفاء ومثلها نداء اليوم الذي سمعته
آنفا عن الحسن إن كان بلسان القال أيضا دون لسان الحال كما هو
الأرجح عندي. واختار أبو حيان من الأقوال على تقدير أن يراد
بالشهادة الشهادة بالمعنى الثاني القول بأن الشاهد من يشهد في
ذلك اليوم أعني اليوم الموعود يوم القيامة وأن المشهود من يشهد
عليه
(15/296)
فيه، وعلى تقدير أن يراد بها الشهادة
بالمعنى الأول القول بأن الشاهد الخلائق الحاضرون للحساب وأن
المشهود اليوم ولعل تكرير القسم به وإن اختلف العنوان لزيادة
تعظيمه فتأمل. وجواب القسم قيل هو قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ
فَتَنُوا [البروج: 10] وقال المبرد هو قوله تعالى إِنَّ بَطْشَ
رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 120] وصرح به ابن جريج وأخرج ابن
المنذر والحاكم وصححه عن ابن مسعود ما يدل عليه وقال غير واحد
هو قوله تعالى قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ على حذف اللام منه
للطول والأصل لقتل كما في قوله:
حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا فما إن من حديث ولا صالي
وقيل: على خدف اللام وقد والأصل لقد قتل وهو مبني على ما اشتهر
من أن الماضي المثبت المتصرف الذي لم يتقدم معموله تلزمه اللام
وقد، ولا يجوز الاقتصار على أحدهما إلّا عند طول الكلام كما في
قوله سبحانه قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس: 9] بعد قوله
تعالى وَالشَّمْسِ وَضُحاها [الشمس: 1] إلخ والبيت المذكور ولا
يجوز تقدير اللام بدون قد لأنها لا تدخل على الماضي المجرد
منها، وتمام الكلام في محله كشروح التسهيل وغيرها وأيّا ما كان
فالجملة خبرية. وقال بعض المحققين: إن الأظهر أنها دعائية دالة
على الجواب كأنه قيل: أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش لملعونون
أحقاء بأن يقال فيها قتلوا كما هو شأن أصحاب الأخدود لما أن
السورة وردت لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الإيمان
وتصبيرهم على أذية الكفرة وتذكيرهم بما جرى ممن تقدمهم من
التعذيب لأهل الإيمان وصبرهم على ذلك حتى يأنسوا بهم ويصبروا
على ما كانوا يلقون من قومهم ويعلموا أنهم مثل أولئك عند الله
عز وجل في كونهم ملعونين مطرودين، فالقتل هنا عبارة عن أشد
اللعن والطرد لاستحالة الدعاء منه سبحانه حقيقة فأريد لازمه من
السخط والطرد عن رحمته جل وعلا. وقال بعضهم: الأظهر أن يقدر
أنهم لمقتولون كما قتال أصحاب الأخدود فيكون وعدا له صلّى الله
عليه وسلم بقتل الكفرة المتردين لإعلاء دينه، ويكون معجزة بقتل
رؤوسهم في غزوة بدر انتهى. وظاهرة إبقاء القتل على حقيقته
واعتبار الجملة خبرية وهو كما ترى وحكي في البحر أن الجواب
محذوف وتقديره لتبعثن ونحوه وليس بشيء كما لا يخفى
والْأُخْدُودِ الخد وهو الشق في الأرض ونحوهما بناء ومعنى الخق
والأخقوق ومنه ما جاء في خبر سراقة حين تبع رسول الله صلّى
الله عليه وسلم فساخت قوائمه أي قوائم فرسه في أخاقيق جرذان.
أخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث صهيب يرفعه: «كان
ملك من الملوك وكان لذلك الملك كاهن يكهن له فقال له ذلك
الكاهن: انظروا لي غلاما فهما فأعلمه علمي هذا فإني أخاف أن
أموت فينقطع منكم هذا العلم ولا يكون فيكم من يعلمه، فنظروا له
غلاما على ما وصف فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن وأن يختلف إليه،
فجعل الغلام يختلف إليه وكان على طريق الغلام راهب في صومعة
فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مر به فلم يزل به حتى أخبره
فقال: إنما أعبد الله تعالى. فجعل الغلام يمكث عند الراهب
ويبطىء على الكاهن فأرسل الكاهن إلى أهل الغلام إنه لا يكاد
يحضرني فأخبر الغلام الراهب بذلك فقال له الراهب: إذا قال لك
الكاهن أين كنت فقل عند أهلي، وإذا قال لك أهلك أين كنت
فأخبرهم أنك كنت عند الكاهن، فبينما الغلام على ذلك إذ مر
بجماعة من الناس كثيرة قد حبستهم دابة يقال كانت أسدا، فأخذ
الغلام حجرا فقال: اللهم إن كان ما يقول الراهب حقا فأسألك أن
أقتل هذه الدابة وإن كان ما يقوله الكاهن حقا فأسألك أن لا
أقتلها ثم رمى فقتل الدابة، فقال الناس من قتلها؟ فقالوا:
الغلام ففزع الناس وقالوا قد علم هذا
(15/297)
الغلام علما لم يعلمه أحد، فسمع أعمى فجاءه
فقال له: إن أنت رددت بصري فلك كذا وكذا، فقال الغلام: لا أريد
منك هذا ولكن أرأيت إن رجع عليك بصرك أتؤمن بالذي رده عليك؟
قال نعم، فرد عليه بصره فآمن الأعمى فبلغ الملك أمرهم فبعث
إليهم فأتى بهم فقال لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها
صاحبه فأمر بالراهب والرجل الذي كان أعمى فوضع المنشار على
مفرق أحدهما فقتله وقتل الآخر بقتلة أخرى، ثم أمر بالغلام
فقال: انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا فألقوه من رأسه فانطلقوا به
إلى ذلك الجبل فلما انتهوا به إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن
يلقوه منه جعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ويتردّون حتى لم يبق
منهم إلّا الغلام، ثم رجع الغلام فأمر به الملك أن ينطلقوا به
إلى البحر فيلقوه فيه فانطلق به إلى البحر ففرق الله تعالى
الذين كانوا معه وأنجاه الله تعالى، فقال الغلام للملك: إنك لا
تقتلني حتى تصلبني وترميني وتقول: بسم الله رب الغلام، فأمر به
فصلب ثم رماه وقال: بسم الله رب الغلام فوضع الغلام يده على
صدغه حين رمي ثم مات. فقال الناس: لقد علم هذا الغلام علما ما
علمه أحد فإنا نؤمن برب هذا الغلام فقيل للملك: أجزعت إن خالفك
ثلاثة فهذا العالم كلهم قد خالفوك فخدّ أخدودا ثم ألقى فيها
الحطب والنار ثم جمع الناس فقال: من رجع عن دينه تركناه ومن لم
يرجع ألقيناه في هذه النار، فجعل يلقيهم في تلك الأخدود، فقال:
يقول الله تعالى قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ- حتى بلغ-
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ،
وفيه فأما الغلام فإنه دفن ثم أخرج فيذكر أنه خرج في زمن عمر
بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وإصبعه على صدغه كما وضعها حين
قتل وفي بعض رواياته فجاءت امرأة بابن لها صغير فكأنها تقاعست
أن تقع في النار فقال الصبي: يا أمه اصبري فإنك على الحق.
وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن نجيّ قال: شهدت عليا كرم الله
تعالى وجهه وقد أتاه أسقف نجران فسأله عن أصحاب الأخدود فقص
عليه القصة، فقال عليّ كرم الله تعالى وجهه: أنا أعلم بهم منك
بعث نبي من الحبش إلى قومه ثم قرأ رضي الله تعالى عنه وَلَقَدْ
أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا
عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر: 78]
فدعاهم فتابعه الناس فقاتلهم فقتل أصحابه وأخذ فأوثق فانفلت
فأنس إليه رجال فقاتلهم وقتلوا، وأخذ فأوثق فخددوا أخدودا
وجعلوا فيها النيران وجعلوا يعرضون الناس فمن تبع النبي رمي به
فيها ومن تابعهم ترك. وجاءت امرأة في آخر من جاء ومعها صبي
فجزعت فقال الصبي: يا أمه اصبري ولا تماري، فوقعت
.
وأخرج عبد بن حميد عنه كرم الله تعالى وجهه أنه قال: كان
المجوس أهل كتاب وكانوا متمسكين بكتابهم وكانت الخمرة قد أحلت
لهم فتناول منها ملك من ملوكهم فغلبته على عقله فتناول أخته أو
ابنته فوقع عليها، فلما ذهب عنه السكر ندم وقال لها: ويحك ما
هذا الذي أتيت وما المخرج منه؟ قالت:
المخرج منه أن تخطب الناس فتقول: أيها الناس إن الله تعالى أحل
نكاح الأخوات أو البنات، فقال الناس جماعتهم معاذ الله تعالى
أن نؤمن بهذا أو نقر به أو جاء به نبي أو نزل علينا في كتاب،
فرجع إلى صاحبته وقال: ويحك إن الناس قد أبوا عليّ ذلك، قالت:
إن أبوا عليك فابسط فيهم السوط فبسط فيهم السوط فأبوا أن
يقروا، قالت: فجرد فيهم السيف فأبوا أن يقروا، قالت: فخدّ لهم
الأخدود ثم أوقد فيها النيران فمن تابعك خل عنه فأخدّ لهم
أخدودا وأوقد فيها النيران وعرض أهل مملكته على ذلك فمن أبى
قذفه في النار ومن لم يأب خلى عنه. وقيل: وقع إلى نجران رجل
ممن كان على دين عيسى عليه السلام فأجابوه فسار إليهم ذو نواس
اليهودي بجنود من حيمر فخيّرهم بين النار واليهودية فأبوا
فأحرق منهم اثني عشر ألفا في الأخاديد
وقيل سبعين ألفا، وذكر أن طول الأخدود أربعون ذراعا وعرضه اثني
عشر ذراعا، ولاختلاف الأخبار في القصة اختلفوا
(15/298)
في موضع الأخدود فقيل بنجران لهذا الخبر
الأخير، وقيل بأرض الحبشة لخبر ابن نجيّ السابق.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة عن علي كرم الله تعالى
وجهه أنه كان بمذراع اليمن أي قراه وهذا لا ينافي كونه بنجران
لأنه بلد باليمن
، وكذا اختلفوا في أصحاب الأخدود لذلك فحكي فيه ما يزيد على
عشرة أقوال منها أنهم حبشة، ومنها أنهم من النبط وروي عن
عكرمة، ومنها أنهم من بني إسرائيل وروي عن ابن عباس، وأصح
الروايات عندي في القصة ما قدمناه عن صهيب رضي الله تعالى عنه
والجمع ممكن، فقد قال عصام الدين: لعل جميع ما روي واقع
والقرآن شامل له فلا تغفل. وقرأ الحسن وابن مقسم «قتّل»
بالتشديد وهو مبالغة في لعنهم لعظم ما أتوا به وقد كان صلّى
الله عليه وسلم على ما أخرج ابن أبي شيبة عن عوف وعبد بن حميد
عن الحسن إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ من جهد البلاء.
النَّارِ بدل اشتمال من الأخدود والرابط مقدر أي فيه أو أقيم
إلى مقام الضمير، أو لأنه معلوم اتصاله به فلا يحتاج لرابط
وكذا كل ما يظهر ارتباطه فيما قبل. وجوز أبو حيان كونه بدل كل
من كل على تقدير محذوف أي أخدود النار وليس بذاك. وقرأ قوم
«النّار» بالرفع فقيل على معنى قتلتهم النار كما في قوله تعالى
يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ [النور:
36] على قراءة «يسبّح» بالبناء للمفعول وقوله:
ليبك يزيد ضارع لخصومة ويكون أصحاب الأخدود إذ ذاك المؤمنين
وليس المراد بالقتل اللعن، وجوز أن يراد بهم الكفرة والقتل على
حقيقته بناء على ما قال الربيع بن أنس والكلبي وأبو العالية
وأبو إسحاق من أن الله تعالى بعث على المؤمنين ريحا فقبضت
أرواحهم وخرجت النار فأحرقت الكافرين الذي كانوا على حافتي
الأخدود، وأنت تعلم أن قول هؤلاء مخالف لقول الجمهور ولما دلت
عليه القصص التي ذكروها فلا ينبغي أن يعول عليه، وإن حمل القتل
على حقيقته غير ملائم للمقام ولعل الأولى في توجيه هذه القراءة
أن النَّارِ خبر مبتدأ محذوف أي هي أو هو النار ويكون الضمير
راجعا على الأخدود وكونه النار خارج مخرج المبالغة كأنه نفس
النار ذاتِ الْوَقُودِ وصف لها بعناية العظمة وارتفاع اللهب
وكثرة ما يوجبه ووجه إفادته ذلك أنه لم يقل موقدة بل جعلت ذات
وقود أي مالكته وهو كناية عن زيادته زيادة مفرطة لكثرة ما
يرتفع به لهبها وهو الحطب الموقد به لأن تعريفه استغراقي وهي
إذا ملكت كل موقود به عظم حريقها ولهبها وليس ذلك لأنه لا يقال
ذو كذا إلّا لمن كثر عنده كذا لأنه غير مسلم، وذو النون يأباه
وكذا ذو العرش. وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة وعيسى «الوقود»
بضم الواو وهو مصدر بخلاف مفتوحه فإنه ما يوقد به. وقد حكى
سيبويه أنه مصدر كمضمونه. وقوله تعالى: إِذْ هُمْ عَلَيْها
قُعُودٌ ظرف لقتل أي لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين حولها في
مكان قريب منها مشرفين عليها من حافات الأخدود كما في قول
الأعشى:
تشب لمقرورين يصطليانها ... وباب على النار الندى والمحلق
وقيل الكلام بتقدير مضاف أي على حافاتها أو نحوه، والجمهور على
أن المراد ذلك من غير تقدير وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ
بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ أي يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأن
أحدا لم يقصر فيما أمر به، أو يشهدون عنده على حسن ما يفعلون
واشتماله على الصلاح ما قيل أو يشهد بعضهم على بعض بذلك الفعل
الشنيع يوم القيامة، أو يشهدون على أنفسهم بذلك يوم تشهد عليهم
جوارحهم بأعمالهم. وقيل عَلى بمعنى مع والمعنى وهم مع ما
يفعلون بالمؤمنين من العذاب حضور لا يرقّون لهم لغاية قسوة
قلوبهم، ومن زعم
(15/299)
أن الله تعالى نجّى المؤمنين وإنما أحرق
سبحانه الكافرين يقول هنا المراد وهم على ما يريدون فعله
بالمؤمنين شهود، وأيّا ما كان ففي المؤمنين تغليب والمراد
بِالْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات ومن الغريب الذي لا يلتفت إليه ما
قيل إن أصحاب الأخدود عمرو بن هند المشهور بمحرق ومن معه حرق
مائة من بني تميم وضمير هُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ لكفار قريش
الذين كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ
أي ما أنكروا منهم وما عابوا. وفي مفردات الراغب يقال: نقمت
الشيء إذا أنكرته بلسانك أو بعقوبة. وقرأ زيد بن علي وأبو حيوة
وابن أبي عبلة «وما نقموا» بكسر القاف والجملة عطف على الجملة
الاسمية وحسن ذلك على ما قيل كون تلك الاسمية لوقوعها في حيز
إذ ماضوية فكان العطف عطف فعلية على فعلية. وقيل إن هذه
الفعلية بتقدير وهم ما نقموا منهم إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ استثناء مفصح عن براءتهم عما
يعاب وينكر بالكلية على منهاج قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وكون الكفرة يرون الإيمان أمرا منكرا والشاعر لا يرى الفلول
كذلك لا يضر على ما أرى في كون ذلك منه عز وجل جاريا على ذلك
المنهاج من تأكيد المدح بما يشبه الذم، ثم إن القوم إن كانوا
مشركين فالمنكر عندهم ليس هو الإيمان بالله تعالى بل نفي ما
سواه من معبوداتهم الباطلة وإن كانوا معطّلة فالمنكر عندهم ليس
إلّا إثبات معبود غير معهود لهم لكن لما كان مآل الأمرين إنكار
المعبود بحق الموصوف بصفات الجلال والإكرام عبر بما ذكر مفصحا
عما سمعت فتأمل. ولبعض الأعلام كلام في هذا المقام قد رده
الشهاب فإن أردته فارجع إليه. وفي المنتخب إنما قال سبحانه
إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا لأن التعذيب إنما كان واقعا على
الإيمان في المستقبل ولو كفروا فيه لم يعذبوا على ما مضى فكأنه
قال عز وجل: إلّا أن يدوموا على إيمانهم انتهى.
وكأنه حمل النقم على الإنكار بالعقوبة، ووصفه عز وجل بكونه
عزيزا غلبا يخشى عقابه وحميدا منعما يرجى ثوابه، وتأكيد ذلك
بقوله سبحانه الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
للإشعار بمناط إيمانهم. وقوله تعالى وَاللَّهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ وعد لهم ووعيد لمعذبيهم فإن علم الله جل شأنه
الجامع لصفات الجلال والجمال بجميع الأشياء التي من جملتها
أعمال الفريقين يستدعي توفير جزاء كل منهما ولكونه تذييلا لذلك
واللائق به الاستقلال جيء فيه بالاسم الجليل دون الضمير إِنَّ
الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي محنوهم
في دينهم ليرجعوا عنه والمراد بالذين فتنوا وبالمؤمنين
والمؤمنات المفتونين، أما أصحاب الأخدود والمطروحون فيه خاصة
وأما الأعم، ويدخل المذكورون دخولا أوليا وهو الأظهر. وقيل:
المراد بالموصول كفار قريش الذين عذبوا المؤمنين والمؤمنات من
هذه الأمة بأنواع من العذاب وقوله تعالى ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا
قال ابن عطية: يقوي أن الآية في قريش لأن هذا اللفظ فيهم أحكم
منه في أولئك الذين قد علم أنهم ماتوا على كفرهم، وأما قريش
فكان فيهم وقت نزولها من تاب وآمن، وأنت تعلم أن هذا على ما
فيه لا يعكر على أظهرية العموم والظاهر أن المراد ثم لم يتوبوا
من فتنهم فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ أي بسبب فتنهم ذلك
وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ وهو نار أخرى زائدة الإحراق كما
تنبىء عنه صيغة فعيل لعدم توبتهم ومبالاتهم بما صدر منهم. وقال
بعض الأجلة: أي فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ بسبب كفرهم فإن
فعلهم ذلك لا يتصور من غير الكافر وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ
بسبب فتنهم المؤمنين والمؤمنات وفي جعل ذلك جزاء الفتن من
الحسن ما لا يخفى.
وتعقب بأن عنوان الكفر لم يصرح به في جانب الصلة وإنما المصرح
به الفتن وعدم التوبة فالأظهر اعتبارهما
(15/300)
إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ
وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو
الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ
أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ
وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي
لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
سببين في جانب الخبر على الترتيب، وقيل: أي
فلهم جهنم في الآخرة ولهم عذاب الحريق في الدنيا بناء على ما
روي عن الربيع ومن سمعت أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم وقد
علمت حاله وتعقبه أبو حيان بأن ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا يأبى عنه
لأن أولئك المحرقين لم ينقل لنا أن أحدا منهم تاب بل الظاهر
أنهم لم يلعنوا إلّا وهم قد ماتوا على الكفر وفيه نظر، وعليه
إنما أخر وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ ورعاية للفواصل أو
للتتميم والترديف كأنه قيل ذلك وهو العقوبة العظمى كائن لا
محالة وهذا أيضا لا يتجاوزونه. وفي الكشف الوجه أن عذاب جهنم
وعذاب الحريق واحد وصف بما يدل على أنه للمعبودين جدا عن رحمته
عز وجل، وعلى أنه عذاب هو محض الحريق وهو الحرق البالغ وكفى به
عذابا. والظاهر أنه اعتبر الحريق مصدرا والإضافة بيانية ولا
بأس بذلك إلّا أن الوحدة التي ادعاها خلاف ظاهر العطف. وقال
بعضهم: لو جعل من عطف الخاص على العام للمبالغة فيه لأن عذاب
جهنم بالزمهرير والإحراق وغيرهما كان أقرب، ولعل ما ذكرناه
أبعد عن القال والقيل. وجملة فَلَهُمْ عَذابُ إلخ وقعت خبرا
لأن أو الخبر الجار والمجرور وعذاب مرتفع به على الفاعلية وهو
الأحسن والفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط ولا يضر نسخه بأن
وإن زعمه الأخفش. واستدل بالآية على بعض أوجهها على أن عذاب
الكفار يضاعف بما قارنه من المعاصي.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ على الإطلاق
من المفتونين وغيرهم لَهُمْ بسبب ما ذكر من الإيمان والعمل
الصالح جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إن أريد
بالجنات الأشجار فجريان الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أريد بها
الأرض المشتملة عليها فالتحتية باعتبار جزئها الظاهر فإن
أشجارها ساترة لساحتها كما يعرب عنه اسم الجنة وفصل الجملة،
قيل لأنها كالتأكيد لما أشعرت به الآية قبل من اختصاص العذاب
بالذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا ذلِكَ إشارة إلى
كون ما ذكر لهم وحيازتهم إياه وقيل للجنات الموصوفة والتذكير
لتأويلها بما ذكر وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو الدرجة
وبعد المنزلة في الفضل والشرف ومحله الرفع على الابتداء خبره
الْفَوْزُ الْكَبِيرُ الذي يصغر عنده الفوز بالدنيا وما فيها
من الرغائب والفوز النجاة من الشر والظفر بالخير فعلى الوجه
الثاني في الإشارة هو مصدر أطلق على المفعول مبالغة وعلى الأول
مصدر على حاله إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ استئناف خوطب به
النبي صلّى الله عليه وسلم إيذانا بأن لكفار قومه نصيبا موفورا
من مضمونه كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة
إلى ضميره عليه الصلاة والسلام والبطش الآخذ بصولة وعنف وحيث
وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم وهو بطشه عز وجل بالجبابرة
والظلمة، وأخذه سبحانه إياهم بالعذاب والانتقام إِنَّهُ هُوَ
يُبْدِئُ وَيُعِيدُ أي إنه عز وجل هو يبدأ الخلق بالإنشاء وهو
سبحانه يعيده بالحشر يوم القيامة كما قال ابن زيد والضحاك، أو
يبدىء كل ما يبدي ويعيد كل ما يعاد كما قال ابن عباس من غير
دخل لأحد في شيء منهما، ومن كان كذلك كان بطشه في غاية الشدة.
أو يبدىء البطش بالكفرة في الدنيا ثم يعيده في الآخرة وعلى
الوجهين الجملة في موضع التعليل لما سبق
(15/301)
ووجهه على الثاني ظاهر وعلى الأول قد أشرنا
إليه، وقيل: وجهه عليه أن الإعادة للمجازاة فهي متضمنة للبطش
وليس بذاك. وعن ابن عباس يبدىء العذاب بالكفار ويعيده عليهم
فتأكلهم النار حتى يصيروا فحما ثم يعيدهم عز وجل خلقا جديدا
وفيه خفاء وإن كان أمر الجملة عليه في غاية الظهور. واستعمال
يبدىء مع يعيد حسن وإن لم يسمع أبدا كما بين في محله. وحكى أبو
زيد أنه قرىء «يبدأ» من بدأ ثلاثيا وهو المسموع لكن القراءة
بذلك شاذة وَهُوَ الْغَفُورُ لمن يشاء من المؤمنين وقيل لمن
تاب وآمن والتخصيص عند من يرى رأي أهل السنة إما لمناسبة مقام
الإنذار أو لما في صيغة الغفور من المبالغة فأصل المغفرة لا
يتوقف على التوبة وزيادتها بها لا يعلمه إلّا الله تعالى
للتائبين الْوَدُودُ المحب كثيرا لمن أطاع ففعول صيغة مبالغة
في الواد اسم فاعل ومحبة الله تعالى ومودته عند الخلف بإنعامه
سبحانه وإكرامه جل شأنه، ومن هنا فسر الودود بكثير الإحسان،
وعن ابن عباس أي المتودد إلى عباده تعالى شأنه بالمغفرة. وقيل:
هو فعول بمعنى مفعول كركوب وحلوب أي يوده ويحبه سبحانه عباده
الصالحون وهو خلاف الظاهر. وحكى المبرد عن القاضي إسماعيل بن
إسحاق أن الودود هو الذي لا ولد له، وأنشد قوله:
وأركب في الروع عريانة ... ذلول الجماح لقاحا ودودا
أي لا ولد لها تحن إليه وحمله مع الغفور على هذا المعنى غير
مناسب كما لا يخفى ذُو الْعَرْشِ أي صاحبه والمراد مالكه أو
خالقه وهو أعظم المخلوقات.
وعن عليّ كرم الله تعالى وجهه: لو جمعت مياه الدنيا ومسح بها
سطح العرش الذي يلينا لما استوعب منه إلّا قليل
. وجاء في الأخبار من عظمه ما يبهر العقول. وقال القفال ذُو
الْعَرْشِ ذو الملك والسلطان كأنه جعل العرش بمعنى الملك بطريق
الكناية والتجوز، وجوز أن يبقى العرش على حقيقته ويراد بذي
العرش الملك لأن ذا العرش لا يكون إلا ملكا. وقرأ ابن عامر في
رواية «ذي العرش» بالياء على أنه صفة ل رَبِّكَ وحينئذ يكون
قوله تعالى إِنَّهُ هُوَ إلخ جملة معترضة لا يضر الفصل بها بين
الصفة والموصوف، وكذا لا يضر الفصل بينهما بخبر المبتدأ لأنه
ليس بأجنبي فإن الموصوف هنا من تتمة المبتدأ. وقد قال ابن مالك
في التسهيل: يجوز الفصل بين التابع والمتبوع بما لا يتمحض
مباينته. نعم قال ابن الحاجب الفصل بين الصفة والموصوف بخبر
المبتدأ شاذ كما في قوله:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلّا الفرقدان
الْمَجِيدُ العظيم في ذاته عز وجل وصفاته سبحانه فإنه تعالى
شأنه واجب الوجوب تام القدرة كامل الحكمة. وقرأ الحسن وعمرو بن
عبيد وابن وثاب والأعمش والمفضل عن عاصم والأخوان «المجيد»
بالجر صفة للعرش ومجده علوه وعظمته وحسن صورته وتركيبه، فإنه
قيل العرش أحسن الأجسام صورة وتركيبا وليس من مجده كون الحوادث
الكونية بتوسط أوضاعه كما يزعمه المنجمون فإن ذلك باطل شرعا
وعقلا على ما تقتضيه أصولهم. وجاز على قراءة «ذي العرش» بالياء
أن يكون صفة ل ذي وجوز كونه صفة ل رَبِّكَ وليس بذلك لأن الأصل
عدم الفصل بين التابع والمتبوع فلا يقال به ما لم يتعين
فَعَّالٌ لما يريد بحيث لا يتخلف عن إرادته تعالى من أفعاله
سبحانه وأفعال غيره عز وجل فما للعموم وفي التنكير من التفخيم
ما لا يخفى وفيه رد ظاهر على المعتزلة في قولهم إنه سبحانه
وتعالى إيمان الكافر وطاعة العاصي ويتخلفان عن إرادته سبحانه
والمرفوعات كلها على ما استحسنه أبو حيان أخبار لهو في قوله
تعالى هُوَ الْغَفُورُ وجوز أن يكون الْوَدُودُ وذُو الْعَرْشِ
والْمَجِيدُ صفات ل (غفور) ومن لم يجوز تعدد الخبر لمبتدأ واحد
يقول بذلك أو بتقدير مبتدءات للمذكورات. وأطلق الزمخشري القول
بأن فَعَّالٌ خبر لمبتدأ محذوف أي هو
(15/302)
فعال فقال صاحب الكشف إنما لم يحمله على
أنه خبر السابق أعني هو في قوله تعالى هُوَ الْغَفُورُ لأن
قوله سبحانه فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ تحقيق للصفتين البطش
بالأعداء والغفر والود للأولياء، ولو حمل عليه لفاتت هذه
النكتة اه. وهو تدقيق لطيف.
وقوله تعالى هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ استئناف فيه تقرير
لكونه تعالى فعالا لما يريد وكذا لشدة بطشه سبحانه بالظلمة
العصاة والكفرة العتاة وتسلية له صلّى الله عليه وسلم بالإشعار
بأنه سيصيب كفرة قومه ما أصاب الجنود وهو جمع جند يقال للعسكر
اعتبارا بالغلظة من الجند أي الأرض الغليظة وكذا للأعوان،
ويقال لصنف من الخلق على حدة وكذا لكل مجتمع والمراد ب
الْجُنُودِ هاهنا الجماعات الذين تجندوا على أنبياء الله تعالى
عليهم السلام واجتمعوا على أذيتهم فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بدل من
الْجُنُودِ بدل كل من كل على حذف مضاف أي جنود فرعون أو على أن
يراد بفرعون هو وقومه، واكتفى بذكره عنهم لأنهم أتباعه. وقيل:
البدل هو المجموع لا كل من المتعاطفين وهو خلاف الظاهر. وقال
السمين: يجوز كونه منصوبا بأعني لأنه لما لم يطابق ما قبله وجب
قطعه، وتعقب بأنه تفسير للجنود حينئذ فيعود الإشكال. وأجيب بأن
المفسر حينئذ المجموع وليس اعتباره مع أعني كاعتباره مع
الإبدال والمراد بحديثهم ما صدر عنهم من التمادي في الكفر
والضلال وما حل بهم من العذاب والنكال، والمعنى قد أتاك حديثهم
وعرفت ما فعلوا وما فعل بهم فذكر قومك بأيام الله تعالى وشؤونه
سبحانه، وأنذرهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم وقوله تعالى
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي من قومك فِي تَكْذِيبٍ إضراب
انتقالي عن مماثلتهم لهم وبيان لكونهم أشد منهم في الكفر
والطغيان كما ينبىء عنه العدول عن يكذبون إلى فِي تَكْذِيبٍ
المفيد لإحاطة التكذيب بهم إحاطة الظرف بمظروفه أو البحر
بالغريق فيه مع ما في تنكيره من الدلالة على تعظيمه وتهويله.
فكأنه قيل: ليسوا مثلهم بل هم أشد منهم فإنهم غرقى مغمورون في
تكذيب عظيم للقرآن الكريم فهم أولى منهم في استحقاق العذاب، أو
كأنه قيل:
ليست جنايتهم مجرد عدم التذكر والاتعاظ بما سمعوا من حديثهم بل
هم مع ذلك في تكذيب عظيم للقرآن الناطق بذلك وكونه قرآنا من
عند الله تعالى مع وضوح أمره وظهور حاله بالبينات الباهرة
وقوله تعالى وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ جوز أن يكون
اعتراضا تذليليا وأن يكون حالا من الضمير في الجار والمجرور
السابق، والكلام تمثيل لعدم نجاتهم من بأس الله تعالى بعدم فوت
المحاط المحيط كما قال غير واحد، وكان المعنى أنه عز وجل عالم
بهم وقادر عليهم وهم لا يعجزونه ولا يفوتونه سبحانه وتعالى.
وذكر عصام الدين أن في ذلك تعويضا وتوبيخا للكفار بأنهم نبذوا
الله سبحانه وراء ظهورهم وأقبلوا على الهوى والشهوات بكليتهم
ولعل ذلك من العدول عن ربهم إلى من ورائهم.
وقوله تعالى بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ رد لكفرهم وإبطال
لتكذيبهم وتحقيق للحق أي بل هو كتاب شريف عالي الطبقة فيما بين
الكتب الإلهية في النظم والمعنى لا يحق تكذيبه والكفر به.
وقيل: إضراب وانتقال عن الإخبار بشدة تكذيبهم وعدم ارعوائهم
عنه إلى وصف القرآن للإشارة إلى أنه لا ريب فيه ولا يضره تكذيب
هؤلاء، والأول أولى. وزعم بعضهم أن الإضراب الأول عن قصة فرعون
وثمود إلى جميع الكفار والمعنى عليه أن جميع الكفار في تكذيب
ولم يكن نبي فارغا عن تكذيبهم والله تعالى لا يهمل أمرهم، وفيه
من تسليته صلّى الله عليه وسلم ما فيه ويبعده إرداف ذلك بهذا
الإضراب. وقرأ ابن السميفع «قرآن مجيد» بالإضافة قال ابن
خالويه:
سمعت ابن الأنباري يقول: معناه بل هو قرآن رب مجيد كما قال
الشاعر:
(15/303)
ولكن للغنى رب غفور أي غنى رب غفور وقال
ابن عطية: قرأ اليماني بالإضافة على أن يكون المجيد هو الله
تعالى وهو محتمل للتقدير وعدمه، وجوز أن يكون من إضافة الموصوف
لصفته قال أبو حيان: وهذا أولى لتوافق القراءتين فِي لَوْحٍ أي
كائن في لوح مَحْفُوظٍ أي ذلك اللوح من وصول الشياطين إليه
وهذا هو اللوح المحفوظ المشهور وهو على ما روي عن ابن عباس
والعهدة على الراوي لوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء
والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، وحافتاه الدر والياقوت،
ودفتاه ياقوتة حمراء، وقلمه نور وهو معقود بالعرش، وأصله في
حجر مالك يقال له ساطريون لله عز وجل فيه في كل يوم ثلاثمائة
وستون لحظة يحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء، وأنه كتب في
صدره لا إله إلّا الله وحده لا شريك له دينه الإسلام ومحمد
عبده ورسوله، فمن آمن بالله عز وجل وصدق بوعده واتبع رسله
أدخله الجنة. وقال مقاتل: إن اللوح المحفوظ عن يمين العرش وجاء
فيه إخبار غير ذلك ونحن نؤمن به ولا يلزمنا البحث عن ماهيته
وكيفية كتابته ونحو ذلك. نعم نقول إن ما يزعمه بعض الناس من
أنه جوهر مجرد ليس في حيّز وإنه كالمرآة للصور العليّة مخالف
لظواهر الشريعة وليس له مستند من كتاب ولا سنة أصلا. وقرأ ابن
يعمر وابن السميفع «لوح» بضم اللام، وأصله في اللغة الهواء
والمراد به هنا مجازا ما فوق السماء السابعة. وقرأ الأعرج وزيد
بن علي وابن محيصن ونافع بخلاف عنه «محفوظ» بالرفع على أنه صفة
لقرآن وفِي لَوْحٍ قيل متعلق به، وقيل صفة أخرى لقرآن.
وتعقب بأن فيه تقديم الصفة المركبة على المفردة وهو خلاف الأصل
والمعنى عليه قيل محفوظ بعد التنزيل من التغيير والتبديل
والزيادة والنقص كما قال سبحانه إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] وقيل محفوظ في
ذلك اللوح عن وصول الشياطين إليه والله تعالى أعلم.
(15/304)
وَالسَّمَاءِ
وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2)
النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا
حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)
خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ
وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ
وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)
وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ
(13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ
كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ
أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
سورة الطّارق
مكية بلا خلاف وهي سبع عشرة آية على المشهور وفي التيسير ست
عشرة، ولما ذكر سبحانه فيما قبلها تكذيب الكفار للقرآن نبه
تعالى شأنه هنا على حقارة الإنسان ثم استطرد جل وعلا منه إلى
وصف القرآن ثم أمر سبحانه نبيه صلّى الله عليه وسلم بإمهال
أولئك المكذبين فقال عز قائلا:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالسَّماءِ هي
المعروفة على ما عليه الجمهور، وقيل المطر هنا وهو أحد
استعمالاتها ومنه قوله:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
ولا يخفى حاله والطَّارِقِ وهو في الأصل اسم فاعل من الطرق
بمعنى الضرب بوقع أشده يسمع لها صوت ومنه المطرقة والطريق لأن
السابلة تطرقها، ثم صار في عرف اللغة اسما لسالك الطريق لتصور
أنه يطرقها بقدمه واشتهر فيه حتى صار حقيقة ثم اختص بالآتي
ليلا لأنه في الأكثر يجد الأبواب مغلقة فيطرقها، ثم اتسع في كل
ما يظهر بالليل كائنا ما كان حتى الصور الخيالية البادية فيه
والعرب تصفها بالطروق كما في قوله:
طرق الخيال ولا كليلة مدلج ... سدكا (1) بأرحلنا ولم يتعرج
والمراد به هاهنا عند الجمهور الكوكب البادي بالليل إما على
أنه اسم جنس أو كوكب معهود كما ستعلمه إن شاء الله تعالى.
وقوله تعالى وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ تنويه بشأنه إثر
تفخيمه بالإقسام وتنبيه على أن
__________
(1) سدكا بفتح فكسر أي مونعا اه منه.
(15/305)
رفعة قدره بحيث لا ينالها إدراك الخلق فلا
بد من تلقيها من الخلاق العليم ف ما الأولى مبتدأ وأَدْراكَ
خبره وما الثانية خبر والطَّارِقُ مبتدأ على ما اختاره بعض
المحققين أي أي شيء أعلمك ما الطارق.
وقوله سبحانه النَّجْمُ الثَّاقِبُ خبر مبتدأ محذوف والجملة
استئناف وقع جوابا عن استفهام نشأ عما قبل كأنه قيل: ما هو؟
فقيل: هو النجم إلخ والثَّاقِبُ في الأصل الخارق ثم صار بمعنى
المضيء لتصور أنه يثقب الظلام، وقد يخص بالنجوم والشهب لذلك.
وتصور أنها ينفذ ضوءها في الأفلاك ونحوها. وقال الفراء
الثَّاقِبُ المرتفع، يقال: ثقب الطائر أي ارتفع وعلا، والمراد
بالنجم الثاقب الجنس عند الحسن فإن لكل كوكب ضوءا ثاقبا لا
محالة وكذا كل كوكب مرتفع ولا يضرب التفاوت في ذلك، وذهب غير
واحد إلى أن المراد به معهود، فعن ابن عباس أنه الجدي. وأخرج
ابن جرير عن ابن زيد أنه الثريا وهو الذي تطلق العرب عليه اسم
النجم، وروي عنه أيضا أنه زحل وهو أبعد السيارات وأرفعها وما
يثقبه ضوؤه من الأفلاك أكثر فيما يزعم المنجمون المتقدمون،
وإنما قلنا أبعد السيارات لأن الجدي والثريا عندهم أبعد منه
بكثير وكذا عند المحدثين وعن الفراء أنه القمر لأنه آية الليل
وأشد الكواكب ضوءا فيه وهو زمان سلطانه، وأنت تعلم أن إطلاق
النجم عليه ولو موصوفا غير شائع وقيل هو النجم الذي يقال له
كوكب الصبح.
وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه نجم في السماء السابعة لا
يسكنها فميّزه فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان
معها ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة فهو طارق حين ينزل
وطارق حين يصعد
، ولا يخفى أن المعروف أن الذي يسكن السماء السابعة أعني الفلك
السابع وحده هو زحل فيكون ذلك قولا بأن النجم الثاقب هو لكن لا
يعرف له نزول ولا صعود بالمعنى المتبادر وأيضا لا يعقل له نزول
إلى حيث تكون النجوم أعني الثوابت لأن المعروف عندهم أنها في
الفلك الثامن ويجوز عقلا أن يكون بعضها في أفلاك فوق ذلك بل نص
المحدثون لما قام عندهم على تفاوتها في الارتفاع ولم يشكوا في
أن كثيرا منها أبعد من زحل بعدا عظيما وإذا اعتبرت الظواهر
وقلنا بأنها في السماء الدنيا وإن تفاوتت في الارتفاع فذلك
أيضا مما يأباه أن النجوم قد تأخذ أمكنتها من السماء وليس معها
زحل. وبالجملة ما يعكر على هذا الخبر كثير وكونه كرم الله تعلى
وجهه أراد كوكبا آخر هذا شأنه لا يخفى حاله والذي يقتضيه
الإنصاف وترك التعصب أن الخبر مكذوب على الأمير رضي الله تعالى
عنه وكرم وجهه، وجوز على إرادة الجنس أن يراد به جنس الشهب
التي يرجم بها وليس بذاك وما
روي أن أبا طالب كان عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فانحط
نجم فامتلأ ماء ثم نور ففزع أبو طالب فقال: أي شيء هذا؟
فقال عليه الصلاة والسلام: «هذا نجم رمي به وهو آية من آيات
الله تعالى» فعجب أبو طالب فنزلت
لا يقتضي ذلك على ما لا يخفى. وزعم ابن عطية أن المراد ب
الطَّارِقِ جميع ما يطرق من الأمور والمخلوقات فيعم النجم
الثاقب وغيره، ويكون معنى وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ حق
الطارق بأن تكون أل في مَا الطَّارِقُ مثلها في أنت الرجل وما
أدري ما الطارق على هذا الرجل حتى ركب هذا الطريق الوعر في
التفسير وفي إيراد ذلك عند الإقسام به بوصف مشترك بينه وبين
غيره ثم الإشارة إلى أن ذلك الوصف غير كاشف عن كنه أمره وأن
ذلك مما لا يبلغه أفكار الخلائق، ثم تفسيره بالنجم الثاقب من
تفخيم شأنه وإجلال محله ما لا يخفى على ذي نظر ثاقب، ولإرادة
ذلك لم يقل ابتداء والنَّجْمُ الثَّاقِبُ مع أنه أخصر وأظهر
ولله عز وجل أن يفخم شأن ما شاء من خلقه لما شاء ولا دلالة فيه
هاهنا على شيء مما يزعمه المنجمون في أمر النجوم زحل وغيره من
التأثير في سعادة أو شقاوة أو نحوهما وجواب القسم قوله تعالى.
(15/306)
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ
وما بينهما اعتراض جيء به لما ذكر من تأكيد فخامة المقسم به
المستتبع لتأكيد مضمون الجملة المقسم عليها، وقيل جوابه قوله
سبحانه إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ وما في البين اعتراض
وهو كما ترى وإِنْ نافية ولَمَّا بمعنى إلّا ومجيئها كذلك لغة
مشهورة كما نقل أبو حيان عن الأخفش في هذيل وغيرهم يقولون:
أقسمت عليك أو سألتك لما فعلت كذا يريدون إلا وفعلت، وبهذا رد
على الجوهري المنكر لذلك. وقال الرضي: لا تجيء إلّا بعد نفي
ظاهر أو مقدر ولا تكون إلا في المفرغ أي بخلاف. إلّا وكُلُّ
لتأكيد العموم لتحقق أصله من وقوع النكرة في سياق النفي وهو
مبتدأ والخبر على المشهور حافِظٌ وعَلَيْها متعلق به وعلى ما
سمعت عن الرضي محذوف أي ما كل نفس كائنة في حال من الأحوال إلا
في حال أن يكون عليها حافظ أي مهيمن ورقيب وهو الله عز وجل كما
في قوله تعالى وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً
[الأحزاب: 52] .
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل عليّ رقيب
وقيل: هو من يحفظ عملها من الملائكة عليهم السلام ويحصي عليها
ما تكسب من خير أو شر كما في قوله تعالى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ [الانفطار: 10، 11] الآية. وروي
ذلك عن ابن سيرين وقتادة وغيرهما وخصصوا النفس بالمكلفة، وقيل:
هو ومن وكل على حفظها والذب عنها من الملائكة كما في قوله
تعالى لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد: 11]
وعن أبي أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «وكل بالمؤمن
مائة وستون ملكا يذبّون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب، ولو
وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين» .
وقيل: هو العقل يرشد المرء إلى مصالحه ويكفه عن مضاره.
وقرأ الأكثر لما بالتخفيف، فعند الكوفيين إِنْ نافية كما سبق
واللام بمعنى إلّا، وما زائدة. وصرحوا هنا بأن كُلُّ وحافِظٌ
مبتدأ وخبر فلا تغفل. وعند البصريين إن مخففة من الثقيلة
وكُلُّ مبتدأ و (ما) زائدة واللام هي الداخلة للفرق بين إن
النافية وإن المخففة وحافِظٌ خبر المبتدأ وعَلَيْها متعلق به
وقدر لأن ضمير الشأن وتعقب بأنه لا حاجة إليه لأنه في غير
المفتوحة ضعيف لعدم العمل مع أنه مخل بإدخال اللام الفارقة
لأنه إذا كان الخبر جملة فالأولى إدخال اللام على الجزء الأول
كما صرح به في التسهيل، وإدخالها على الجزء الثاني كما صرح به
بعض الأفاضل في حواشيه عليه، ولعل من قال أي إن الشأن كل نفس
لعليها حافظ لم يرد تقدير الضمير وإنما أراد بيان حاصل المعنى.
وحكى هارون أنه قرىء «إنّ» بالتشديد «وكلّ» بالنصب و «لما»
بالتخفيف فاللام هي الداخلة في خبر «إن» و «ما» زائدة وعلى
جميع القراءات أمر الجوابية ظاهر لوجود ما يتلقى به القسم
وتلقيه بالمشددة مشهور وبالمخففة تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ
لَتُرْدِينِ [الصافات: 56] وبالنافية وَلَئِنْ زالَتا إِنْ
أَمْسَكَهُما [فاطر: 41] وقوله تعالى فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ
مِمَّ خُلِقَ متفرع على ما قبله وليست الفاء بفصيحة خلافا
للطيبي إذ لا يحتاج إلى حذف في استقامة الكلام إما على تقدير
أن يكون الحافظ هو الله عز وجل أو الملك الذي وكله تعالى شأنه
للحفظ على الوجه الذي سمعت فلأنه لما أثبت سبحانه أن عليه
رقيبا منه تعالى حثه على النظر المعرف لذلك مع أوصافه، كأنه
قيل فليعرف المهيمن عليه بنصبه الرقيب أو بنفسه، وليعلم رجوعه
إليه تعالى، وليفعل ما يسر به حال الرجوع. وعبر عن الأول بقوله
تعالى فَلْيَنْظُرِ ليبين طريقه المعرفة فهو بسط فيه إيجاز
وأدمج فيه الأخيران وإما على تقدير أن يكون المراد به العقل
فلأنه لما أثبت سبحانه أن له عقلا يرشد إلى المصالح ويكف عن
المضار حثه على استعماله فيما ينفعه وعدم تعطليه وإلغائه كأنه
قيل: فلينظر بعقله وليتفكر به في مبدأ خلقه حتى يتضح له قدرة
واهبه وأنه إذا قدر
(15/307)
على إنشائه من مواد لم تشم رائحة الحياة قط
فهو سبحانه على إعادته أقدر وأقدر فيعمل بما يسر به حين
الإعادة وقد يقرر التفريع على جميع الأوجه بنحو واحد فتأمل
ومِمَّ خُلِقَ استفهام ومن متعلقة بخلق والجملة في موضع نصب
بينظر وهي معلقة بالاستفهام.
وقوله تعالى خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ استئناف وقع جوابا عن
استفهام مقدر كأنه قيل: مم خلق؟ فقيل خُلِقَ مِنْ ماءٍ إلخ
وظاهر كلام بعض الأجلّة أنه جواب الاستفهام المذكور مع تعلق
الجار بينظر. وفيه مسامحة، وكأن المراد أنه على صورة الجواب
وجعله جوابا له حقيقة على أنه مقطوع عن ينظر ليس بشيء عند من
له نظر. والدفق صب فيه دفع وسيلان بسرعة، وأريد بالماء الدافق
المني، ودافِقٍ قيل بمعنى مدفوق على تأويل اسم الفاعل
بالمفعول. وقد قرأ بذلك زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما. وقال
الخليل وسيبويه هو على النسب كلابن وتامر أي ذي دفق وهو صادق
على الفاعل والمفعول. وقيل: هو اسم فاعل وإسناده إلى الماء
مجاز وأسند إليه ما لصاحبه مبالغة أو هو استعارة مكنية
وتخييلية كما ذهب إليه السكاكي أو مصرحة بجعله دافقا لأنه
لتتابع قطراته كأنه يدفق أي يدفع بعضه بعضا. وقد فسر ابن عطية
الدفق بالدفع، فقال: الدفق دفع الماء بعضه ببعض يقال: تدفق
الوادي والسيل إذا جاء يركب بعضه بعضا ويصح أن يكون الماء
دافقا لأن بعضه يدفع بعضا فمنه دافق ومنه مدفوق، وتعقبه أبو
حيان بأن الدفق بمعنى الدفع غير محفوظ في اللغة بل المحفوظ أنه
الصب، ونقل عن الليث أن دفق بمعنى انصبّ بمرة فدافق بمعنى منصب
فلا حاجة إلى التأويل، وتعقب بأنه مما تفرد به الليث كما في
القاموس وغيره وقيل: من ماء مع أن الإنسان لا يخلق إلّا من
ماءين ماء الرجل وماء المرأة، ولذا كان خلق عيسى عليه السلام
خارقا للعادة لأن المراد به الممتزج من الماءين في الرحم
وبالامتزاج صارا ماء واحدا، ووصفه بالدفق قيل باعتبار أحد
جزأيه وهو مني الرجل، وقيل باعتبار كليهما ومني المرأة دافق
أيضا إلى الرحم ويشير إلى إرادة الممتزج على ما قيل. قوله
تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ أي من بين أجزاء صلب كل
رجل أي ظهره وَالتَّرائِبِ أي ومن بين ترائب كل امرأة أي عظام
صدرها جمع تريبة، وفسرت أيضا بموضع القلادة من الصدر. وروي عن
ابن عباس وهو لكل امرأة واحد إلا أنه يجمع كما في قوله امرئ
القيس:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل
باعتبار ما حوله على ما في البحر وجاء في المفرد تريب كما في
قول المثقب العبدي:
ومن ذهب يبين على تريب ... كلون العاج ليس بذي غضون
وحمل الآية على ما ذكر مروي عن سفيان وقتادة إلّا أنهما قالا:
أي يخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة، وظاهره كالآية أن أحد
الطرفين للبينية الصلب والآخر الترائب وهو غير ما قلناه، وعليه
قيل: هو كقولك يخرج من بين زيد وعمرو خير كثير على معنى أنهما
سببان فيه، وقيل إن ذلك باعتبار أن الرجل والمرأة يصيران
كالشيء الواحد فكان الصلب والترائب لشخص واحد فلا تغفل. ثم إن
ما تقدم مبني إما على أن الترائب مخصوصة بالمرأة كما هو ظاهر
كلام غير واحد، وإما على حمل تعريفها على العهد وقال الحسن
وروي عن قتادة أيضا: أن المعنى يخرج من بين صلب كل واحد من
الرجل والمرأة وترائب كل منهما، ولم يفسر الترائب فقيل عظام
الصدر، وقيل ما بين الثديين، وقيل ما بين المنكبين والصدر،
وقيل التراقي، وقيل أربع أضلاع من يمنة الصدر وأربع من يسرته.
وعن ابن جبير الأضلاع التي هي أسفل الصلب وحكى مكي عن
(15/308)
ابن عباس أنها أطراف المرء رجلاه ويداه
وعيناه والأشهر أنها عظام الصدر وموضع القلادة منه، وطعن في
ذلك على ما قال الإمام بعض الملاحدة خذلهم الله تعالى بأن
المني إنما يتولد من فضلة الهضم الرابع وينفصل من جميع أجزاء
البدن فيأخذ من كل عضو طبيعة وخاصية مستعدا لأن يتولد منه تلك
الأعضاء وإن كان المراد أن معظم أجزاء المني تتولد في ذينك
الموضعين فهو ضعيف لأن معظمه إنما يتولد في الدماغ ألا ترى أنه
في صورته يشبه الدماغ والمكثر منه يظهر الضعف أولا في دماغه
وعينيه وإن كان المراد أن مستقره هناك فهو ضعيف أيضا لأن
مستقره عروق يلتف بعضها بالبعض عند البيضتين وتسمى أوعية المني
وإن كان المراد أن مخرجه هناك فهو أيضا كذلك لأن الحس يدل على
خلافه. وأجاب رحمه الله تعالى بأن لا شك أن أعظم الأعضاء معونة
في توليد المني الدماغ وخليفته النخاع في الصلب وشعب نازلة إلى
مقدم البدن وهي التربية فلذا خصّا بالذكر على أن كلامهم في أمر
المني وتولده محض الوهم والظن الضعيف وكلام الله تعالى المجيد
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو المقبول والمعول
عليه اهـ. وفي الكشف أقول النخاع بين الصلب والترائب ولا يحتاج
إلى تخصيص التريبة بالنساء فقد يمنع الشعب النازلة على أن تلك
الشعب إن كانت فهي أعصاب لا ذات تجاويف، والوجه والله تعالى
أعلم أن النخاع والقوى الدماغية والقلبية والكبدية كلها تتعاون
في إبراز ذلك الفضل على ما هو عليه قابلا لأن يصير مبدأ الشخص
على ما بيّن في موضعه.
وقوله سبحانه مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ عبارة
مختصرة جامعة لتأثير الأعضاء الثلاثة، فالترائب يشمل القلب
والكبد وشمولها للقلب أظهر، والصلب النخاع وبتوسطه الدماغ
ولعله لا يحتاج إلى التنبيه على مكان الكبد لظهوره ذلك لأنه دم
نضيج وإنما احتيج إلى ما خفي وهو أمر الدماغ والقلب في تكون
ذلك الماء فنبه على مكانهما وقيل: ابتداء الخروج منه كما أن
انتهاءه بالإحليل انتهى. وقيل: لو جعل ما بين الصلب والترائب
كناية عن البدن كله لم يبعد وكان تخصيصهما بالذكر لما أنهما
كالوعاء للقلب الذي هو المضغة العظمى فيه وأمر هذه الكناية على
ما حكى مكي عن ابن عباس في الترائب أظهر. وزعم بعضهم جواز كون
الصلب والترائب للرجل أي يخرج من بين صلب كل رجل وترائبه
فالمراد بالماء الدافق ماء الرجل فقط، وجعل الكلام إما على
التغليب أو على أنه لا ماء للمرأة أصلا فضلا عن الماء الدافق
كما قيل به ولا يخفى ما فيه، والقول بأن المرأة لا ماء لها
تكذبه الشريعة وغيرها. وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم «يخرج»
مبنيا للمفعول وهما أهل مكة وعيسى «الصلب» بضم الصاد واللام
واليماني بفتحهما وروي على اللغتين قول العجاج:
ريا العظام فخمة المخدم ... في صلب مثل العنان المؤدم
وفيه لغة رابعة وهي صالب كما في قول العباس:
تنقل من صالب إلى رحم وهي قليلة الاستعمال واستشهد بعض الأجلة
بقوله تعالى خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ على أن الإنسان هو الهيكل
المخصوص كما ذهب إليه جمهور المتكلمين النافين للنفس الناطقة
الإنسانية المجردة التي ليست داخل البدن ولا خارجه. وقال إنه
شاهد قوي على ذلك وتأويله على حذف المضاف أي خلق بدن الإنسان
لا يسمع ما لم يقم برهان على امتناع ظاهره انتهى. وأنت تعلم أن
القائلين بالنفس الناطقة المجردة قد أقاموا فيما عندهم براهين
على إثباتها نعم إن فيها أبحاثا للنافين وتحقيق ذلك بما لا
مزيد عليه في كتاب الروح للعلامة ابن القيم عليه الرحمة
إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ الضمير الأول للخالق تعالى
شأنه وكما فخم أولا بترك الفاعل في قوله تعالى مِمَّ خُلِقَ
خُلِقَ
(15/309)
إذ لا يذهب إلى خالق سواه عز وجل فخم
بالإضمار ثانيا، والضمير الثاني للإنسان أي إن ذلك الذي خلقه
ابتداء مما ذكر على إعادته بعد موته لبين القدرة وهذا كما في
قوله:
لئن كان تهدي برد أنيابها العلى ... لأفقر مني إنني لفقير
فإنه أراد لبين الفقر وإلّا لم يصح إيراده في مقابلة لأفقر مني
والتأكيد البالغ لفظا لما قام عليه البرهان الواضح معنى، ولذا
فسر (قادر) هنا يبين القدرة كما في الكشاف واعتبر فيه أيضا
الاختصاص، فقال: أي على إعادته خصوصا وكأن ذلك لأن الغرض
المسوق له الكلام ذلك فكأن ما سواه مطرح بالنسبة إليه وحينئذ
يراد ما ذكر جعل الجار من صلة لقادر أو مدلولا على موصوله به
على المذهبين، وفصل الجملة عما سبق لكونه جواب الاستفهام
دونها. وقال مجاهد وعكرمة:
الضمير الثاني للماء أي إنه تعالى على رد الماء في الإحليل أو
في الصلب لقادر وليس بشيء ومثله كون المعنى على تقدير كونه
للإنسان أنه جل وعلا رده من الكبر إلى الشباب لقادر كما روي عن
الضحاك وما ذكرناه أولا مروي عن ابن عباس يَوْمَ تُبْلَى
السَّرائِرُ أي يتعرف ويتصفح ما أسر في القلوب من العقائد
والنيات وغيرها ومما أخفى من الأعمال ويميز بين ما طاب منها
وما خبث، وأصل الابتلاء الاختبار وإطلاقه على ما ذكر إطلاق على
اللازم وحمل السرائر على العموم هو الظاهر. وأخرج ابن المنذر
عن عطاء ويحيى بن أبي كثير أنها الصوم والصلاة والغسل من
الجنابة.
وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله
صلّى الله عليه وسلم: «ضمن الله تعالى خلقه أربعا الصلاة
والزكاة وصوم رمضان والغسل من الجنابة وهن السرائر التي قال
الله تعالى يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ»
وفي البحر ضم التوحيد إليها ولعل المراد بيان عظيمها على سبيل
المبالغة لا حقيقة الحصر وسمع الحسن من ينشد قول الأحوص:
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ود يوم تبلى السرائر
فقال: ما أغفله عما في السَّماءِ وَالطَّارِقِ وكأنه حمل
البقاء فيه على عدم التعرف أصلا فليفهم ويوم عند جمع من الحذاق
ظرف لمحذوف يدل عليه أي يرجعه يوم إلخ. وقال الزمخشري وجماعة:
ظرف لرجعه واعترض بأن فيه فصلا بين المصدر ومعموله بأجنبي
وأجيب تارة بأنه جائز لتوسعهم في الظروف وأخرى بأن الفاصل هنا
غير أجنبي لأنه إما تفسير أو عامل على المذهبين وقال عصام
الدين: إن الفصل بهذا الأجنبي كلا فصل لأن المعمول في نية
التقديم عليه وإنما أخّر لرعاية الفاصلة وفيه ما لا يخفى.
وقيل: ظرف لناصر بعد وتعقبه أبو حيان بأنه فاسد لأن ما بعد
الفاء لا يعمل فيما قبلها وكذلك ما النافية على المشهور
المنصور وقيل معمول لأذكر محذوفا وهو كما ترى، ويتعين هو أو ما
قبله على رأي مجاهد وعكرمة ورأى الضحاك السابقين آنفا وجوز
الطبرسي تعلقه بقادر ولم يعلقه جمهور المعربين به لأنه يوهم
اختصاص قدرته عز وجل بيوم دون يوم كما قال غير واحد. وقال ابن
عطية: فروا من أن يكون العامل لَقادِرٌ للزوم تخصيص القدرة في
ذلك اليوم وحده وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب
جاز أن يكون العامل وذلك أنه تعالى قال عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ
على الإطلاق أو وآخرا وفي كل وقت ثم ذكر سبحانه من الأوقات
الوقت الأعظم على الكفار لأنه وقت الجزاء والوصول إلى العذاب
ليجتمع الناس على حذره والخوف منه انتهى وهو على ما فيه لا
يدفع الإيهام فَما لَهُ أي الإنسان مِنْ قُوَّةٍ في نفسه يمتنع
بها وَلا ناصِرٍ ينتصر به وَالسَّماءِ وهي المظلة في قول
الجمهور ذاتِ الرَّجْعِ أي المطر في قولهم أيضا كما في قوله
الخنساء:
يوم الوداع ترى دموعا جاريه ... كالرجع في (1) المدجنة السارية
__________
(1) كذا في خط المؤلف وليحرر الوزن اه.
(15/310)
وأصله مصدر رجع المتعدي واللازم أيضا في
قول ومصدره الخاص به الرجوع سموا به المطر كما سموه بالأب مصدر
آب ومنه قوله:
رياء شماء لا يأوي لقلتها ... إلا السحاب وإلا الأوب والسبل
ليرجع أو لأن السحاب يحمله من بحار الأرض ثم يرجعه إلى الأرض،
وبنى هذا غير واحد على الزعم وفيه بحث وعن أو المراد به فيه
النحل لأن الله تعالى يرجعه حينا فحينا، وقال الحسن: لأنه يرجع
بالرزق كل عام أو أرادوا بذلك التفاؤل. ابن عباس ومجاهد تفسير
السماء بالسحاب والرجع بالمطر وقال ابن زيد السَّماءِ هي
المعروفة والرَّجْعِ رجوع الشمس والقمر والكواكب من حال إلى
حال ومن منزلة إلى منزلة فيها وقبل رجوعها نفسها فإنها ترجع في
كل دورة إلى الموضع الذي تتحرك منه وهذا مبني على أن السماء
والفلك واحد فهي تتحرك ويصير أوجها حضيضا وحضيضها أوجا وقد
سمعت فيما تقدم أن ظاهر كلام السلف أن السماء غير الفلك وأنها
لا تدور ولا تتحرك والذي ذكر رأي الفلاسفة ومن تابعهم. وقيل
الرَّجْعِ الملائكة عليهم السلام سموا بذلك لرجوعهم بأعمال
العباد وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ هو ما تتصدع عنه الأرض من
النبات وأصله الشق سمّي به النبات مجازا، أو هو مصدر من المبني
للمفعول فالمراد تشققها بالنبات وروي ذلك عن عطية وابن زيد،
وقيل: تشققها بالعيون، وتعقب بأن وصف السماء والأرض عند
الإقسام بهما على حقيقة القرآن الناطق بالبعث بما ذكر من
الوصفين للإيماء إلى أنهما في أنفسهما من شواهده، وهو السر في
التعبير عن المطر بالرجع وذلك في تشقق الأرض بالنبات المحاكي
للنشور حسبما ذكر في مواضع من التنزيل لا في تشققها بالعيون،
ويعلم منه ما في تفسير الرجع بغير المطر وكذا ما في قوله مجاهد
الصَّدْعِ ما في الأرض من شقاق وأودية وخنادق وتشقق بحرث وغيره
وما روي عنه أيضا الصَّدْعِ الطرق تصدعها المشاة وقيل ذات
الأموات لانصداعها عنهم للنشور إِنَّهُ أي القرآن الذي من
جملته هذه الآيات الناطقة بمبدأ حال الإنسان ومعاده وهو أولى
من جعل الضمير راجعا لما تقدم أي ما أخبرتكم به من قدرتي على
حيائكم لأن القرآن يتناول ذلك تناولا أوليا. وقوله تعالى
لَقَوْلٌ فَصْلٌ أنسب به والمراد لقول فاصل بين الحق والباطل
قد بلغ الغاية في ذلك حتى كأنه نفس الفصل وقيل مقابلة الفصل
بالهزل بعد يستدعي أن يفسر بالقطع أي قول مقطوع به والأول أحسن
وَما هُوَ بِالْهَزْلِ أي ليس في شيء منه شائبة هزل بل كله جد
محض فمن حقه أن يهتدي به الغواة وتخضع له رقاب العتاة.
وفي حديث أخرجه الترمذي والدارمي وابن الأنباري عن الحارث
الأعور عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: سمعت رسول الله صلّى
الله عليه وسلم يقول: «إنها ستكون فتنة» قلت: فما المخرج منها
يا رسول الله؟ قال: «كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم
وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله،
ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين وهو
الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ فيه الأهواء
ولا تشبع منه العلماء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق عن الرد،
ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تلته الجن لما سمعته عن أن قالوا
إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ
[الجن: 1، 2] من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن
هدى به هدي إلى صراط مستقيم»
وفي هذا من الرد على الذين نبذوه وراء ظهورهم ما فيه.
إِنَّهُمْ أي كفار مكة يَكِيدُونَ يعملون المكايد في إبطال
أمره وإطفاء نوره أو في إبطال أمر الله
(15/311)
تعالى وإطفاء نور الحق والأول أتم انتظاما
وهذا قيل أملأ فائدة كَيْداً أي عظيما حسبا تفي به قدرتهم،
والجملة تحتمل أن تكون استئنافا بيانيا كأنه قيل: إذا كان حال
القرآن ما ذكر فما حال هؤلاء الذين يقولون فيه ما يقولون فقيل
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً أي أقابلهم
بكيد متين لا يمكن رده حيث استدرجهم من حيث لا يعلمون أو
أقابلهم بكيدي في إعلاء أمره وإكثار نوره من حيث لا يحتسبون
والفصل لهذا، وقيل لئلا يتوهم عطفها على جواب القسم مع أنها
غير مقسم عليها فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ فلا تشتغل بالانتقام
منهم ولا تدع عليهم بالهلاك أو تأن وانتظر الانتقام منهم ولا
تستعجل، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن الإخبار
بتوليه تعالى لكيدهم بالذات وعدم إهمالهم مما يوجب إمهالهم
وترك التصدي لمكايدتهم قطعا ووضع الظاهر موضع الضمير لذمهم
بأبي الخبائث وأمها، وقيل للإشعار بعلة ما تضمنه الكلام من
الوعيد وقوله تعالى أَمْهِلْهُمْ بدل من مهل على ما صرح به في
الإرشاد وقوله سبحانه رُوَيْداً إما مصدر مؤكد لمعنى العامل أو
نعت لمصدره المحذوف أي أمهلهم إمهالا رويدا أي قريبا كما أخرج
ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس أو قليلا كما روي عن قتادة.
وأخرج ابن المنذر عن السدّي أنه قال أي أمهلهم حتى آمر بالقتال
ولعله المراد بالإمهال القريب أو القليل. واختار بعضهم أن يكون
المراد إلى يوم القيامة لأن ما وقع بعد الأمر بالقتال كالذي
وقع يوم بدر وفي سائر الغزوات لم يعم الكل وما يكون يوم
القيامة يعمهم والتقريب باعتبار أن كل آت قريب وعلى هذا النحو
التقليل على أن من مات فقد قامت قيامته، والظاهر ما قال السدي
وقد عراهم بعد الأمر بالقتال ما عراهم وعدم العموم الحقيقي لا
يضر وهو في الأصل على ما قال أبو عبيدة تصغير رود بالضم وأنشد:
كأنها ثمل تمشي على رود اي على مهل وقال أبو حيان وجماعة تصغير
إرواد مصدر رود يرود بالترخيم وهو تصغير تحقير وتقليل وله في
الاستعمال وجهان آخران كونه اسم فعل نحو ريدا زيد أي أمهله
وكونه حالا نحو سار القوم رويدا أي متمهلين غير مستعجلين، ولم
يذكر أحد احتمال كونه اسم فعل هنا وصرح ابن الشيخ بعدم جريانه
وعلل ذلك بأن الأوامر بمعنى فكأنه قيل: أمهل الكافرين أمهلهم
وفائدة التأكيد تحصل بالثاني فيلغو الثالث وفي التعليل نظر فقد
يسلك في التأكيد بألفاظ متحدة لفظا ومعنى نحو ذلك
ففي الحديث: «أيما امرأة أنكحت نفسها بدون ولي فنكحها باطل
باطل باطل»
ولا فرق بين الجمل والمفردات نعم هو خلاف الظاهر جدا.
وجوز رحمه الله كونه حالا أي أمهلهم غير مستعجل، والظاهر أنه
حال مؤكدة كما في قوله تعالى لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ
مُفْسِدِينَ [البقرة: 60] فلا تغفل وهو أيضا بعيد وظاهر كلام
أبي حيان وغيره أن الأمر الثاني توكيد للأول قالوا: والمخالفة
بين اللفظين في البنية لزيادة تسكينه صلّى الله عليه وسلم
وتصبيره عليه الصلاة والسلام، وإنما دلت الزيادة من حيث
الإشعار بالتغاير كأن كلّا كلام مستقل بالأمر بالتأني فهو أوكد
من مجرد التكرار وقرأ ابن عباس «مهّلهم» بفتح الميم وشد الهاء
وموافقة للفظ الأمر الأول.
(15/312)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ
الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ
فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ
غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا
مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى
(7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ
الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ
الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ
فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16)
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي
الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
سورة الأعلى
وتسمى سورة سبح، والجمهور على أنها مكية وحكى ابن الفرس عن
بعضهم أنها مدنية لذكر صلاة العيد وزكاة الفطر فيها، ورده
الجلال السيوطي بما أخرج البخاري وابن سعد وابن أبي شيبة عن
البراء بن عازب قال: أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلّى
الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرآن القرآن
ثم جاء عمار وبلال وسعد ثم جاء عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى
عنه في عشرين ثم جاء النبي صلّى الله عليه وسلم فما رأيت أهل
المدينة فرحوا بشيء فرحهم به عليه الصلاة والسلام حتى رأيت
الولائد والصبيان يقولون: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم
قد جاء فما جاء عليه الصلاة والسلام حتى قرأت سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى في سور مثلها ثم أن ذكر صلاة العيد وزكاة
الفطر فيها غير مسلم ولو سلم فلا دلالة فيه على ذلك كما سيأتي
إن شاء الله تعالى تفصيله، وهي تسع عشرة آية بلا خلاف ووجه
مناسبتها لما قبلها أنه ذكر في سورة الطارق خلق الإنسان وأشير
إلى خلق النبات بقوله تعالي وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ
[الطارق: 12] وذكرا هاهنا في قوله تعالى خَلَقَ فَسَوَّى
[الأعلى: 2] وقوله سبحانه أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ
غُثاءً أَحْوى [الأعلى: 4، 5] وقصة النبات هنا أوضح وأبسط كما
أن قصة خلق الإنسان هناك كذلك، نعم إن ما في هذه السورة أعم من
جهة شموله للإنسان وسائر المخلوقات وكان صلّى الله عليه وسلم
يحبها.
أخرج الإمام أحمد والبزار وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى
وجهه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحب هذه السورة
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى
وجاء في حديث أخرجه أبو عبيد عن أبي تميم أنه عليه الصلاة
والسلام سماها أفضل المسبحات
.
وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه
والبيهقي عن عائشة قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقرأ
في الوتر في الركعة الأولى سَبِّحِ وفي الثانية قُلْ يا
أَيُّهَا الْكافِرُونَ وفي الثالثة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
والمعوذتين وفي حديث أخرجه المذكورون وغيرهم إلّا الترمذي عن
أبيّ بن كعب نحو ذلك
بيد أنه ليس فيه المعوذتان.
وأخرج ابن أبي شيبة والإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي
والنسائي وابن ماجة عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلّى الله
عليه وسلم كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ وإن وافق
يوم الجمعة قرأهما جميعا
.
وأخرج الطبراني عن عبد الله بن الحارث قال: آخر صلاة صلاها
رسول الله صلّى الله عليه وسلم المغرب فقرأ في الركعة الأولى
بسبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية بقل يا أيها الكافرون.
(15/313)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أي نزه أسماءه عز وجل عما لا
يليق فلا تؤول مما ورد منها اسما من غير مقتض ولا تبقه على
ظاهره إذا كان ما وضع له مما لا يصح له تعالى ولا تطلقه على
غيره سبحانه أصلا إذا كان مختصا كالاسم الجليل أو على وجه يشعر
بأنه تعالى والغير فيه سواء إذ لم يكن مختصا فلا تقل لمن أعطاك
شيئا مثلا: هذا رازقي على وجه يشعر بذلك، وصنه عن الابتذال
والتلفظ به في محل لا يليق به كالخلاء وحالة التغوط وذكره
لأعلى وجه الخشوع والتعظيم، وربما يعد مما لا يليق ذكره عند من
يكره سماعه من غير ضرورة إليه. وعن الإمام مالك رضي الله تعالى
عنه أنه كان إذا لم يجد ما يعطي السائل يقول: ما عندي ما أعطيك
أو ائتني في وقت آخر أو نحو ذلك، ولا يقول نحو ما يقول الناس
يرزقك الله تعالى أو يبعث الله تعالى لك أو يعطيك الله تعالى
أو نحوه، فسئل عن ذلك فقال: إن السائل أثقل شيء على سمعه
وأبغضه إليه قول المسئول له، ما يفيده رده وحرمانه، فأنا أجلّ
اسم الله سبحانه من أن أذكره لمن يكره سماعه ولو في ضمن جملة
وهذا منه رضي الله تعالى عنه غاية في الورع. وما ذكر من
التفسير مبني على الظاهر من أن لفظ اسم غير مقحم، وذهب كثير
إلى أنه مقحم وهو قد يقحم لضرب من التعظيم على سبيل الكناية
ومنه قوله لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما فالمعنى نزه ربك عما لا يليق
به من الأوصاف واستدل لهذا بما
أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة وغيرهم عن عقبة بن عامر
الجهني قال: لما نزلت فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ
[الواقعة: 74] قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«اجعلوها في ركوعكم» فلما نزلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ
الْأَعْلَى قال: «اجعلوها في سجودكم»
. ومن المعلوم أن المجهول فيهما سبحان ربي العظيم وسبحان ربي
الأعلى وبما
أخرج الإمام أحمد وأبو داود والطبراني والبيهقي في سننه عن ابن
عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا قرأ سَبِّحِ
اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: «سبحان ربي الأعلى»
وروى عبد بن حميد وجماعة أن عليا كرم الله تعالى وجهه قرأ ذلك
فقال سبحان ربي الأعلى وهو في الصلاة فقيل له أتزيد في القرآن
قال لا إنما أمرنا بشيء ففعلته.
وفي الكشاف تسبيح اسمه تعالى تنزيهه عما لا يصح فيه من المعاني
التي هي إلحاد في أسمائه سبحانه كالجبر والتشبيه مثلا وأن يصان
عن الابتذال والذكر لا على وجه الخشوع والتعظيم فجعل المعنيين
على ما قيل راجعين إلى الاسم وإن كان الأول بالحقيقة راجعا
إليه عز وجل لكن كما يصح أن يقال نزه الذات عما لا يصح له من
الأوصاف أن يقال أيضا نزه أسماءه تعالى الدالّة على الكمال عما
لا يصح فيه من خلافه وليس المعنى الأول مبنيا على أن لفظ اسم
مقحم ولا على أن المراد به المسمى إطلاقا لاسم الدال على
المدلول نعم قال به بعضهم هنا وهو إن كان للأخبار السابقة كما
في دعوى الإقحام فلا بأس، وإن كان لظن أن التسبيح لا يكون
للألفاظ الموضوعة له تعالى فليس بشيء لفساد هذا الظن بظهور أن
التسبيح يكون لها كما سمعت وقد قال الإمام إنه كما يجب تنزيه
ذاته تعالى وصفاته حلّ وعلا عن النقائص يجب تنزيه الألفاظ
(15/314)
الموضوعة لذلك عن الرفث وسوء الأدب، ومن
هذا يعلم ما في التعبير عنه تعالى شأنه بنحو ليلى ونعم كما
يدعي ذلك في قول ابن الفارض قدس سره:
أبرق بدا من جانب الغور لامع ... أم ارتفعت عن وجه ليلى
البراقع
وقوله:
إذا أنعمت نعم عليّ بنظرة ... فلا أسعدت سعدى ولا أجملت جمل
إلى غير ذلك من أبياته وقد عاب ذلك بعض الأجلّة وعدّه من سوء
الأدب ومخالفا لقوله تعالى وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى
فَادْعُوهُ بِها [الأعراف: 180] الآية وأجاب بعضهم بأن ذلك ليس
من الوضع في شيء وفهم الحضرة الإلهية من تلك الألفاظ إنما هو
بطريق الإشارة كما قالوا في فهم النفس الأمارة من البقرة مثلا
في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا
بَقَرَةً [البقرة: 67] والمنكر لا يقنع بهذا والأظهر أن يقال:
إن الكلام المورد فيه ذلك من قبيل الاستعارة التمثيلية ولا نظر
فيها إلى تشبيه المفردات بالمفردات فليس فيه التعبير عنه عز
وجل بليلى ونحوها، واستعمال الاستعارة التمثيلية في شأنه تعالى
مما لا بأس به حتى إنهم قالوه في البسملة كما لا يخفى على من
تتبع رسائلهم فيها هذا ولعل عندهم خيرا منه. وقال جمع: الاسم
بمعنى التسمية والمعنى نزه تسمية ربك بأن تذكره وأنت له سبحانه
معظم ولذكره جل شأنه محترم، وأنت تعلم أن هذا يندرج في تسبيح
الاسم كما تقدم. وعن ابن عباس أن المعنى صل باسم ربك الأعلى
كما تقول: ابدأ باسم الله تعالى، وحذف حرف الجر حكاه في البحر
ولا أظن صحته. وقال عصام الدين: لا يبعد أن يراد الاسم الأثر
أي سبح آثار ربك الأعلى عن النقصان فإن أثره تعالى دال عليه
سبحانه كالاسم فيكون منعا عن عيب المخلوقات أي من حيث إنها
مخلوقة له تعالى على وجه ينافي قوله تعالى ما تَرى فِي خَلْقِ
الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك: 3] ولا يخفى بعده وإن كان
فيما بعد من الصفات ما يستأنس به له، وأنا أقول إن كان سَبِّحِ
بمعنى نزه فكلا الأمرين من كون اسم مقحما وكونه غير مقحم وتعلق
التسبيح به على الوجه الذي سمعت محتمل غير بعيد، وإذا كان
معناه قل سبحان كما هو المعروف فيما بينهم فكونه مقحما متعين
إذ لم يسمع سلفا وخلفا من يقول سبحان اسم ربي الأعلى أو سبحان
اسم الله، والأخبار ظاهرة في ذلك وحمل ما فيها على اختيار
الأخصر المستلزم لغيره كما ترى ويؤيد هذا قراءة أبيّ بن كعب
كما في خبر سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر
والحاكم وصححه عن ابن جبير «سبحان ربي الأعلى» وأما ما قيل من
أن الاسم عين المسمى واستدل عليه بهذه الآية ونحوها فهو مما لا
يعول عليه أصلا وقد تقدم الكلام أول الكتاب فارجع إليه إن
أردته والْأَعْلَى صفة للرب وأريد بالعلو القهر والاقتدار لا
بالمكان لاستحالته عليه سبحانه والسلف وإن لم يؤولوه بذلك
لكنهم أيضا يقولون باستحالة العلو المكاني عليه عز وجل وجوز
جعله صفة لاسم وعلوه ترفعه عن أن يشاركه اسم في حقيقة معناه.
واستشكل بأن قوله تعالى الَّذِي خَلَقَ إلخ إن كان صفة للرب
كما هو الظاهر لزم الفصل بين الموصوف وصفته بصفة غيره وهو لا
يجوز فلا يقال: رأيت غلام هند العاقل الحسنة، وإن كان صفة لاسم
أيضا اختل المعنى إذ الاسم لا يتصف بالخلق وما بعده. وأجيب
باختيار الثاني ولا اختلال إما لأن الاسم بمعنى المسمى، أو
لأنه لما كان مقحما كان اسْمَ رَبِّكَ بمنزلة ربك فصح وصفه بما
يوصف به الرب عز وجل وفيه نظر والجواب المقبول أن الَّذِي على
ذلك التقدير إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو منصوب على
المدح، ومفعول خَلَقَ محذوف ولذا قيل بالعموم أي
(15/315)
الذي خلق كل شيء فَسَوَّى أي فجعله متساويا
وهو أصل معناه والمراد فجعل خلقه كما تقتضيه حكمته سبحانه في
ذاته وصفاته وفي معناه ما قيل أي فجعل الأشياء سواء في باب
الأحكام والإتقان لا أنه سبحانه أتقن بعضا دون بعض، وردّ بما
دلت عليه الآية من العموم على المعتزلة في زعمهم أن العبد خالق
لأفعاله والزمخشري مع أن مذهبه مذهبهم قال هنا بالعموم ولعله
لم يرد العموم الحقيقي أو أراده لكن على لمعنى خلق كل شيء إما
بالذات أو بالواسطة، وجعل ذلك في أفعال العباد بأقداره سبحانه
وتمكينهم على خلقها باختيارهم وقدرهم الموهوبة لهم، وعن الكلبي
خلق كل ذي روح فسوّى بين يديه وعينيه ورجليه. وعن الزجاج خلق
الإنسان فعدّل قامته ولم يجعله منكوسا
كالبهائم وفي كل تخصيص لا يقتضيه ظاهر الحذف وَالَّذِي قَدَّرَ
أي جعل الأشياء على مقادير مخصوصة في أجناسها وأنواعها
وأفرادها وصفاتها وأفعالها وآجالها فَهَدى فوجه كل واحد منها
إلى ما يصدر عنه وينبغي له طبعا أو اختيارا ويسره لما خلق له
بخلق الميول والإلهامات ونصب الدلائل وإنزال الآيات، فلو تتبعت
أحوال النباتات والحيوانات لرأيت في كل منها ما تحار فيه
العقول وتضيق عنه دفاتر النقول. وأما فنون هداياته سبحانه
وتعالى للإنسان على الخصوص ففوق ذلك بمراحل وأبعد منه ثم أبعد
وأبعد بألوف من المنازل وهيهات أن يحيط بها فلك العبارة
والتحرير ولا يكاد يعلمها إلّا اللطيف الخبير:
أتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر
وقيل أي والذي قدر الخلق على ما خلقهم فيه من الصور والهيئات،
وأجرى لهم أسباب معاشهم من الأرزاق والأقوات، ثم هداهم إلى
دينه ومعرفة توحيده بإظهار الدلالات والبينات. وقيل قدر
أقواتهم وهداهم لطلبها. وعن مقاتل والكلبي قدرهم ذكرانا وإناثا
وهدى الذكر كيف يأتي الأنثى وعن مجاهد قدر الإنسان والبهائم
وهدى الإنسان للخير والشر والبهائم للمراتع. وعن السدّي قدر
الولد في البطن تسعة أشهر أو أقل أو أكثر وهداه للخروج منه
للتمام وقيل قدر المنافع في الأشياء وهدى الإنسان لاستخراجها
والأولى ما ذكر أولا ولعل ما في سائر الأقوال من باب التمثيل
لا التخصيص. وزعم الفرّاء أن في الآية اكتفاء والأصل فهدى وأضل
وليس بشيء. وقرأ الكسائي «قدر» بالتخفيف من القدرة أو التقدير
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى أي أنبت ما ترعاه الدواب غضا
رطبا يرف فَجَعَلَهُ غُثاءً هو ما ما يقذف به السيل على جانب
الوادي من الحشيش والنبات، وأصله على ما في المجمع الأخلاط من
أجناس شتى والعرب تسمى القوم إذا اجتمعوا من قبائل شتى أخلاطا
وغثاء، ويقال: غثاء بالتشديد وجاء جمعه على أغثاء وهو غريب من
حيث جمع فعال على فعال والمراد به هنا اليابس من النبات أي
فجعله بعد ذلك يابسا أَحْوى من الحوة وهي كما قيل السواد. وقال
الأعلم لون يضرب إلى السواد وفي الصحاح الحوّة السمرة فالمراد
بأحوى أسود أو أسمر والنبات إذا يبس اسودّ أو أسمر فهو صفة
مؤكدة للغثاء وتفسر الحوة بشدة الخضرة وعليه قول ذي الرمة:
لمياه في شفتيها حوة لعس ... وفي اللثات وفي أنيابها شنب
ولا ينافي ذلك تفسيرها بالسواد لأن شدة الخضرة ترى في بادىء
النظر كالسواد، وجوز كونه حالا من المرعى أي أخرج المرعى حال
كونه طريا غضا شديد الخضرة فجعله غثاء، والفصل بالمعطوف بين
الحال وصاحبها ليس فصلا بأجنبي لا سيما وهو حال يعاقب الأول من
غير تراخ. وسر التقديم المبالغة في استعقاب حالة الجفاف حالة
الرفيف والغضارة كأنه قبل أن يتم رفيقه وغضارته يصير غثاء ومع
هذا هو خلاف الظاهر وهذه الأوصاف على ما قيل يتضمن كل منها
التدريج ففي الوصف بها تحقيق لمعنى التربية وهي تبليغ الشيء
كماله شيئا فشيئا وقوله تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى بيان
لهدايته تعالى شأنه الخاصة برسوله صلّى الله عليه وسلم إثر
بيان
(15/316)
هدايته عز وجل العامة لكافة مخلوقاته
سبحانه وهي هدايته عليه الصلاة والسلام لتلقي الوحي وحفظ
القرآن الذي هو هدى للعالمين وتوفيقه صلّى الله عليه وسلم
لهداية الناس أجمعين. والسين إما للتأكيد وإما لأن المراد
إقراء ما أوحي إليه صلّى الله عليه وسلم حينئذ وما سيوحى إليه
عليه الصلاة والسلام بعد فهو وعد كريم باستمرار الوحي في ضمن
الوعد بالإقراء وإسناد الإقراء إليه تعالى مجازي أي سنقرئك ما
نوحي إليك الآن وفيما بعد على لسان جبريل عليه السلام فإنه
عليه السلام الواسطة في الوحي على سائر كيفياته فلا تنسى أصلا
من قوة الحفظ والإتقان مع أنك أمي لم تكن تدري ما الكتاب وما
القراءة ليكون ذلك لك آية مع ما في تضاعيف ما تقرؤه من الآيات
البينات من حيث الإعجاز ومن حيث الأخبار بالمغيبات، وجوز أن
يكون المعنى سنجعل قارئا بإلهام القراءة أي في الكتاب من دون
تعليم أحد كما هو العادة
فقد روي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة
والسلام كان يقرأ الكتابة ولا يكتب
. ويكون المراد بقوله تعالى فَلا تَنْسى نفي النسيان مطلقا عنه
عليه الصلاة والسلام وامتنانا عليه صلّى الله عليه وسلم بأنه
أوتي قوة الحفظ وفيه أنه مع كونه خلاف المأثور عن السلف في
الآية تأباه فاء التفريع.
وجوز أيضا أن يكون المراد نفي نسيان المضمون أي سنقرئك القرآن
فلا تغفل عنه فتخالفه في أعمالك ففيه وعد بتوفيقه عليه الصلاة
والسلام لالتزام ما فيه من الأحكام وهو كما ترى. وقيل: فلا
تنسى نهي والألف لمراعاة الفاصلة كما في قوله تعالى
فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب: 67] وفيه أن النسيان ليس
بالاختيار فلا ينهى عنه إلا أن يراد مجازا ترك أسبابه
الاختيارية أو ترك العمل بما تضمنه المقروء وفيه ارتكاب تكلف
من غير داع، وأيضا رسمه بالياء يقتضي أنها من البنية لا
للإطلاق وكون رسم المصحف مخالفا تكلف أيضا نعم قيل:
رسمت ألف الإطلاق ياء الموافقة غيرها من الفواصل وموافقة أصلها
مع أن الإمام المرزوقي صرح بأنه عند الإطلاق ترد المحذوفة،
وقيل هو نهي لكن لم تحذف الألف فيه إذ قد لا يحذف الجازم حرف
العلة وحسن ذلك هنا مراعاة الفاصلة وفيه أيضا ما فيه والأهون
للطالب معنى النهي أن يقول هو خبر أريد به النهي على أحد
التأويلين السابقين آنفا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ استثناء مفرغ
من أعم المفاعيل أي لا تنسى أصلا مما سنقرئكه شيئا من الأشياء
إلا ما شاء الله أن تنساه، قيل: أي أبدا قال الحسن وقتادة
وغيرهما: وهذا مما قضى الله تعالى نسخه وأن يرتفع حكمه
وتلاوته، والظاهر أن النسيان على حقيقته وفي الكشاف أي إلا ما
شاء الله فذهب به عن حفظك برفع حكمه وتلاوته وجعل النسيان عليه
بمعنى رفع الحكم والتلاوة وكناية عنه لأن ما رفع حكمه وتلاوته
يترك فينسى فكأنه قيل بناء على إرادة المعنيين في الكنايات
سنقرئك القرآن فلا تنسى شيئا منه ولا يرفع حكمه وتلاوته إلا ما
شاء الله فتنساه ويرفع حكمه وتلاوته أو نحو هذا، وأنا لا أرى
ضرورة إلى اعتبار ذلك.
والباء في برفع إلخ للسببية والمراد إما بيان السبب العادي
البعيد للذهاب الله تعالى به عن الحفظ فإن رفع الحكم والتلاوة
يؤدي عادة في الغالب إلى ترك التلاوة لعدم التعبد بها وإلى عدم
إخطاره في البال لعدم بقاء حكمه وهو يؤدي عادة في الغالب أيضا
إلى النسيان أو بيان السبب الدافع لاستبعاد الذهاب به عن حفظه
عليه الصلاة والسلام رهو كالسبب المجوز لذلك، وأيّا ما كان فلا
حاجة إلى جعل معنى فَلا تَنْسى فلا تترك تلاوة شيء منه والعمل
به فتأمل. ثم إنه لا يلزم من كون ما شاء الله تعالى نسيانه مما
قضى سبحانه أن يرتفع حكمه وتلاوته أن يكون كل ما ارتفع حكمه
وتلاوته قد شاء الله تعالى نسيان النبي صلّى الله عليه وسلم له
فإن من ذلك ما يحفظه العلماء إلى اليوم فقد أخرج الشيخان عن
عائشة رضي الله تعالى عنها كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات
فنسخن بخمس معلومات الحديث. وكونه صلّى الله عليه وسلم نسي
الجميع بعد تبليغه وبقي ما بقي عند بعض من سمعه منه عليه
الصلاة والسلام فنقل حتى وصل إلينا بعيد وإن أمكن عقلا، وقيل:
كان صلّى الله عليه وسلم يعجل بالقراءة إذا
(15/317)
لقنه جبريل عليه السلام فقيل: لا تعجل فإن
جبريل عليه السلام مأمور أن يقرأه عليك قراءة مكررة إلى أن
تحفظه ثم لا تنساه إلّا ما شاء الله تعالى ثم تذكره بعد
النسيان، وأنت تعلم أن الذكر بعد النسيان وإن كان واجبا إلّا
أن العلم به لا يستفاد من هذا المقام. وقيل: إن الاستثناء
بمعنى القلة وهذا جار في العرف كأنه قيل إلّا ما لا يعلم لأن
المشيئة مجهولة وهو لا محالة أقل من الباقي بعد الاستثناء
فكأنه قيل فلا تنسى شيئا إلّا شيئا قليلا.
وقد جاء في صحيح البخاري وغيره أنه صلّى الله عليه وسلم أسقط
آية في قراءته في الصلاة وكانت صلاة الفجر فحسب أبي أنها نسخت
فسأله عليه الصلاة والسلام، فقال: نسيتها ثم إنه عليه الصلاة
والسلام لا يقر على نسيانه القليل
أيضا بل يذكره الله تعالى أو ييسر من يذكره،
ففي البحر أنه صلّى الله عليه وسلم قال حين سمع قراءة عباد بن
بشير: «لقد ذكرني كذا وكذا آية في سورة كذا وكذا»
. وقيل: الاستثناء بمعنى القلة وأريد بها النفي مجازا كما في
قولهم قل من يقول كذا قيل والكلام عليه باب:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم البيت والمعنى فلا تنسى إلا نسيانا
معدوما. وفي الحواشي العصامية على أنوار التنزيل أن الاستثناء
على هذا الوجه لتأكيد عموم النفي لا لنقض عمومه. وقد يقال
الاستثناء من أعم الأوقات فلا تنسى في وقت من الأوقات إلا وقت
مشيئة الله تعالى نسيانك لكنه سبحانه لا يشاء وهذا كما قيل في
قوله تعالى في أهل الجنة خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ
السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ [هود: 107]
وقد قدمنا ذلك وإلى هذا ذهب الفراء فقال إنه تعالى ما شاء أن
ينسى النبي صلّى الله عليه وسلم شيئا إلا أن المقصود من
الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصيره عليه الصلاة
والسلام ناسيا لذلك لقدر عليه كما قال سبحانه وَلَئِنْ شِئْنا
لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الإسراء: 86] ثم
إنّا نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك وقال له صلّى الله عليه وسلم
لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] مع أنه
عليه الصلاة والسلام لم يشرك البتة، وبالجملة ففائدة هذا
الاستثناء أن يعرف الله تعالى قدرته حتى يعلم صلّى الله عليه
وسلم أن عدم النسيان من فضله تعالى وإحسانه لا من قوته، أي حتى
يتقوى ذلك جدا أو ليعرف غيره ذلك وكأن نفي أن يشاء الله تعالى
نسيانه عليه الصلاة والسلام معلوم من خارج ومنه آية لا
تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
[القيامة: 16] الآية. وقد أشار أبو حيان إلى ما قاله الفراء
وإلى الوجه الذي قبله وأباهما غاية الإباء لعدم الوقوف على
حقيقتهما وقال: لا ينبغي أن يكون ذلك في كلام الله تعالى بل
ولا في كلام فصيح وهو مجازفة منه عفا الله تعالى عنه، ثم إن
المراد من نفي نسيان شيء من القرآن نفي النسيان التام المستمر
مما لا يقر عليه صلّى الله عليه وسلم كالذي تضمنه الخبر السابق
ليس كذلك. وقد ذكروا أنه عليه الصلاة والسلام لا يقر على
النسيان فيما كان من أصول الشرائع والواجبات وقد يقر على ما
ليس منها أو منها وهو من الآداب والسنن ونقل هذا عن الإمام
الرازي عليه الرحمة فليحفظ. والالتفات إلى الاسم الجليل على
سائر الأوجه لتربية المهابة والإيذان بدوران المشيئة على عنوان
الألوهية المستتبعة لسائر الصفات، وربط الآية بما قبلها على
الوجه الذي ذكرناه هو الذي اختاره في الإرشاد وقال أبو حيان:
إنه سبحانه لما أمره صلّى الله عليه وسلم بالتسبيح وكان لا يتم
إلّا بقراءة ما أنزل عليه من القرآن وكان صلّى الله عليه وسلم
يتفكر في نفسه مخافة أن ينسى أزال سبحانه عنه ذلك بأنه عز وجل
يقرئه وأنه لا ينسى إلا ما شاء أن ينسيه لمصلحة وفيه نظر لا
يخفى ولو قيل إن سَنُقْرِئُكَ استئناف واقع موقع التعليل
للتسبيح أو للأمر به فيفيد جلالة الإقراء وأنه مما ينبغي أن
يقابل بتنزيه الله تعالى وإجلاله كان أهون مما ذكر ونحوه كونه
في موقع التعليل على معنى هيىء نفسك للإفاضة عليك بتسبيح الله
تعالى لأنّا سنقرئك فلا تنسى إلّا ما
(15/318)
شاء الله. ويتضمن ذلك الإشارة إلى فضل
التسبيح وقد وردت أخبار كثيرة في ذلك وذكر الثعلبي بعضا منها
ونقله ابن الشيخ في حواشيه على تفسير البيضاوي والله تعالى
أعلم بصحته.
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى تعليل لما قبله
والْجَهْرَ هنا ما ظهر قولا أو فعلا أو غيرهما وليس خاصا
بالأقوال بقرينة المقابلة أي إنه تعالى يعلم ما ظهر وما بطن من
الأمور التي من جملتها حالك وحرصك على حفظ ما يوحى إليك بأسره
فيقرئك ما يقرئك ويحفظك عن نسيان ما شاء منه وينسيك ما شاء منه
مراعاة لما نيط بكل من المصالح والحكم التشريعية، وقيل توكيد
لجميع ما تقدمه وتوكيد لما بعده، وقيل توكيد لقوله تعالى
سَنُقْرِئُكَ إلخ على أن الجهر ما ظهر من الأقوال أي يعلم
سبحانه جهرك بالقراءة مع جبريل عليه السلام وما دعاك إليه من
مخافة النسيان فيعلم ما فيه الصلاح من إبقاء وإنساء أو فلا تخف
فإني أكفيك ما تخاف وقيل إنه متعلق بقوله تعالى سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى وهذا ليس بشيء كما ترى وَنُيَسِّرُكَ
لِلْيُسْرى عطف على سَنُقْرِئُكَ كما ينبىء عنه الالتفات إلى
الحكاية وما بينهما اعتراض وارد لما سمعت وتعليق التيسير به
صلّى الله عليه وسلم مع أن الشائع تعليقه بالأمور المسخرة
للفاعل كما في قوله تعالى وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه: 26]
للإيذان بقوة تمكينه عليه الصلاة والسلام من اليسرى والتصرف
فيها بحيث صار ذلك ملكة راسخة له كأنه عليه الصلاة والسلام جبل
عليها أي نوفقك توفيقا مستمرا للطريقة اليسرى في كل باب من
أبواب الدين علما وتعليما واهتداء وهداية فيندرج فيه تيسير
تلقى طريقي الوحي والإحاطة بما فيه من أحكام الشريعة السمحة
والنواميس الإلهية مما يتعلق بتكميل نفسه الكريمة صلّى الله
عليه وسلم وتكميل غيره كما يفصح عنه الفاء فيما بعد كذا في
الإرشاد. وقيل: المراد باليسرى الطريقة التي هي أيسر وأسهل في
حفظ الوحي، وقيل هي الشريعة الحنيفية السهلة، وقيل الأمور
الحسنة في أمر الدنيا والآخرة من النصر وعلو المنزلة والرفعة
في الجنة وضم إليها بعض أمر الدين وهو مع هذا الضم تعميم حسن
وظاهر عليه أيضا أمر الفاء في قوله تعالى فَذَكِّرْ إِنْ
نَفَعَتِ الذِّكْرى أي فذكر الناس حسبما يسرناك بما يوحى إليك
واهدهم إلى ما في تضاعيفه من الأحكام الشرعية كما كنت تفعله.
وقيل: أي. فذكر بعد ما استتب أي استقام وتهيأ لك الأمر فإن
أراد فدم على التذكير بعد ما استقام لك الأمر من إقرائك الوحي
وتعليمك القرآن بحيث لا تنسى منه إلّا ما اقتضت المصلحة نسيانه
وتيسيرك للطريقة اليسرى في كل باب من أبواب الدين فذاك وإلّا
فليس بشيء، وتقييد التذكير بنفع الذكرى لما أن رسول الله صلّى
الله عليه وسلم كان قد ذكر وبالغ فيه فلم يدع في القوس منزعا
وسلك فيه كل طريق فلم يترك مضيفا ولا مهيعا حرصا على الإيمان
وتوحيد الملك الديان وما كان يزيد ذلك بعض الناس إلّا كفرا
وعنادا وتمردا وفسادا، فأمره صلّى الله عليه وسلم تخفيفا عليه
حيث كاد الحرص على إيمانهم يوجه سهام التلف إليه كما قال تعالى
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ
يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف: 6] بأن يخص
التذكير بمواد النفع في الجملة بأن يكون من يذكره كلّا أو بعضا
ممن يرجى منه التذكر ولا يتعب نفسه الكريمة في تذكير من لا
يورثه التذكير إلّا عتوا ونفورا وفسادا وغرورا من المطبوع على
قلوبهم كما في قوله تعالى فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ
وَعِيدِ [ق: 45] وقوله سبحانه فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى
عَنْ ذِكْرِنا [النجم: 29] وعلمه صلّى الله عليه وسلم بمن طبع
على قلبه بإعلام الله تعالى إياه عليه الصلاة والسلام به فهو
صلّى الله عليه وسلم بعد التبليغ وإلزام الحجة لا يجب عليه
تكرير التذكير على من علم أنه مطبوع على قلبه فالشرط على هذا
على حقيقته، وقيل إنه ليس كذلك وإنما هو استبعاد النفع بالنسبة
إلى هؤلاء المذكورين نعيا عليهم بالتصميم كأنه قيل: افعل ما
أمرت به لتؤجر وإن لم
(15/319)
ينتفعوا به وفيه تسلية له صلّى الله عليه
وسلم، ورجح الأول بأن فيه إبقاء الشرط على حقيقته مع كونه أنسب
بقوله تعالى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى أي سيذكر بتذكيرك من من
شأنه أن يخشى الله تعالى حق خشيته أو من يخشى الله تعالى في
الجملة فيزداد ذلك التذكير فيتفكر في أمر ما تذكره به فيقف على
حقيقته فيؤمن به وقيل إن إِنْ بمعنى إذ كما
في قوله تعالى وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 139] أي إذ كنتم لأنه سبحانه لم يخبرهم
بكونهم الأعلون إلّا بعد إيمانهم
وقوله صلّى الله عليه وسلم في زيارة أهل القبور: «وإنا إن شاء
الله تعالى بكم لاحقون»
وأثبت هذا المعنى لها الكوفيون احتجاجا بما ذكر ونظائره وأجاب
النافون عن ذلك بما في المغني وغيره وقيل هي بمعنى قد، وقد قال
بهذا المعنى قطرب. وقال عصام الدين: المراد أن التذكير ينبغي
أن يكون بما يكون مهما لمن له التذكير فينبغي تذكير الكافرين
بالإيمان لا بالفروع كالصلاة والصوم والحج إذ لا تنفعه بدون
الإيمان، وتذكير المؤمن التارك للصلاة بها دون الإيمان مثلا
وهكذا فكأنه قيل: ذكر كل واحد بما ينفعه ويليق به. وقال
الفرّاء والنحاس والجرجاني والزهراوي: الكلام على الاكتفاء
والأصل فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى وإن لم تنفع كقوله
تعالى سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] والظاهر أن
الذين لا يقولون بمفهوم المخالفة سواء كان مفهوم الشرط أو غيره
لا يشكل عليهم أمر هذه الآية كما لا يخفى.
يَتَجَنَّبُهَا
أي ويتجنب الذكرى ويتحاماهاَْشْقَى
وهو الكافر المصرّ على إنكار المعاد ونحوه الجازم بنفي ذلك مما
يقتضي الخشية بوجه وهو أشقى أنواع الكفرة. وقيل: المراد به
الكافر المتوغل في عداوة الرسول صلّى الله عليه وسلم كالوليد
بن المغيرة وعتبة بن ربيعة. وقد روي أن الآية نزلت فيهما فإنه
أشقى من غير المتوغل. وقيل: المراد به الكافر مطلقا فإنه أشقى
من الفاسق وقيل المفضل عليه كفرة سائر الأمم فإنه حيث كان
المؤمن من هذه الأمة أسعد من مؤمنيهم كان الكافر منها أشقى من
كافريهم والأوجه عندي في المراد بالأشقى ما تقدم الَّذِي
يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى أي الطبقة السفلى من أطباق النار
كما قال الفراء ولا بعد في تفاضل نار الآخرة وكون بعض منها
أكبر من بعض وأشد حرارة. وقال الحسن الْكُبْرى نار الآخرة،
والصغرى نار الدنيا
ففي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا: «ناركم هذه جزء من سبعين
جزءا من نار جهنم» .
وفي رواية للإمام أحمد عنه مرفوعا أيضا: «إن هذه النار جزء من
مائة جزء من جهنم»
فلعل السبعين وارد مورد التكثير وهو كثير ثُمَّ لا يَمُوتُ
فِيها فيستريح وَلا يَحْيى أي حياة تنفعه، وقيل: إن روح أحدهم
تصير في حلقه فلا تخرج فيموت ولا ترجع إلى موضعها من الجسد
فيحيا وهو غير غني عن التقييد بنحو حياة كاملة على أنه بعد لا
يخلو عن بحث وثم للتراخي في الرتبة فإن هذه الحالة أفظع وأعظم
من نفس المصلي.
وقال عصام الدين: يحتمل أن يكون هذا الكلام كناية عن عدم
النجاة لأن النجاة عن العذاب إنما يكون بالعمل في دار يموت
فيها العامل ويحيا، والنظم أقرب إلى هذا المعنى كيف واللائق
بالمعنى السابق ثم لا يكون ميتا فيها ولا حيا فتأمل انتهى. وفي
كون اللائق بالمعنى السابق ما ذكره دون ما في النظم الجليل منع
ظاهر والظاهر أنه لائق به مع تضمنه رعاية الفواصل وكذا في
توجيه كون ما ذكر كناية عن عدم النجاة خفاء وكأنه لذلك أمر
بالتأمل وقد يقال: إن مثل ذلك الكلام يقال لمن وقع في شدة
واستمر فيها فلا يبعد أن يكون فيه إشارة إلى خلودهم في العذاب
وأمر التراخي الرتبي عليه ظاهر أيضا لظهور أن الخلود في النار
الكبرى أفظع من دخولها وصليها. واعلم أن عدم الموت في النار
على ما صرح به غير واحد مخصوص بالكفرة وأما عصاة المؤمنين
الذين يدخلونها فيموتون فيها، واستدل لذلك بما
أخرجه مسلم عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أما
(15/320)
أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون
فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم- أو قال-
بخطاياهم فأماتهم الله تعالى إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن في
الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل:
يا أهل الجنة أفيضوا عليهم من الماء فينبتون نبات الحبة في
حميل السيل»
قال الحافظ ابن رجب: إنه يدل على أن هؤلاء يموتون حقيقة وتفارق
أرواحهم أجسادهم، وأيد بتأكيد الفعل بالمصدر في
قوله عليه الصلاة والسلام «فأماتهم الله تعالى إماتة»
وأظهر منه ما
أخرجه البزار عن أبي هريرة مرفوعا: «إن أدنى أهل الجنة حظا أو
نصيبا قوم يخرجهم الله تعالى من النار فيرتاح لهم الرب تبارك
وتعالى وذلك أنهم كانوا لا يشركون بالله تعالى شيئا فينبذون
بالعراء فينبتون كما ينبت البقل، حتى إذا دخلت الأرواح أجسادهم
فيقولون ربنا كما أخرجتنا من النار وأرجعت الأرواح إلى أجسادنا
فاصرف وجوهنا عن النار، فينصرف وجوههم عن النار»
وهذه الإماتة على ما اختاره غير واحد بعد أن يذوقوا ما
يستحقونه من عذابها بحسب ذنوبهم كما يشعر به حديث مسلم
وإبقاؤهم فيها ميتين إلى أن يؤذن بالشفاعة لإيجابه تأخير
دخولهم الجنة تلك المدة كان تتمة لعقوبتهم بنوع آخر فتكون
ذنوبهم قد اقتضت أن يعذبوا بالنار مدة ثم يحسبوا فيها من غير
عذاب مدة فهم كمن أذنب في الدنيا فضرب وحبس بعد الضرب جزاء
لذنبه ولم يبقوا أحياء فيها من غير عذاب كخزنتها إما ليكون
أبعد عن أن يهولهم رؤيتها، أو لتكون الإماتة وإخراج الروح من
تتمة العقوبة أيضا. وقال القرطبي: يجوز أن تكون إماتتهم عند
إدخالهم فيها ويكون إدخالهم وصرف نعيم الجنة عنهم مدة كونهم
فيها عقوبة لهم كالحبس في السجن بلا غل ولا قيد مثلا، ويجوز أن
يكونوا متألمين حالة موتهم نحو تألم الكافر بعد موته وقبل قيام
الساعة ويكون ذلك أخف من تألمهم لو بقوا أحياء كما أن تألم
الكافر بعد موته في قبره أخف من تألمه إذا أدخل النار بعد
البعث وهو كما ترى. وفي مطامح الأفهام يجوز أن يراد بالإماتة
المذكورة وفي الحديث الإنامة وقد سمى الله تعالى النوم وفاة
لأن فيه نوعا من عدم الحسن.
وفي الحديث المرفوع: «إذا أدخل الله تعالى الموحدين النار
أماتهم فيها فإذا أراد سبحانه أن يخرجوا أمسهم العذاب تلك
الساعة»
انتهى.
والمعول عليه ما ذكرناه وأولا والله تعالى أعلم.
قَدْ أَفْلَحَ أي نجا من المكروه وظفر بما يرجوه مَنْ تَزَكَّى
أي تطهر من الشرك بتذكره واتعاظه بالذكرى وحمله على ذلك مروي
عن ابن عباس وغيره.
وأخرج البزار وابن مردويه عن جابر بن عبد الله عن النبيّ صلّى
الله عليه وسلم أنه قال في ذلك: «من شهد أن لا إله إلّا الله
وخلع الأنداد وشهد أني رسول الله»
واعتبر بعضهم أمرين فقال: أي تطهر من الكفر والمعصية وعليه
يجوز أن يكون ما تقدم من باب الاقتصار على الأهم، وقيل تزكى أي
تكثر من التقوى والخشية من الزكاء وهو النماء، وقيل تطهر
للصلاة، وقيل آتى الزكاة وروي هذا عن أبي الأحوص وقتادة وجماعة
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ بلسانه وقلبه لا بلسانه مع غفلة القلب
إذ مثل ذلك لا ثواب فيه فلا ينبغي أن يدخل فيما يترتب عليه
الفلاح والذكر القلبي باستحضار اسمه تعالى في القلب وإن كان
ممدوحا بلا شبهة إلّا أن إرادته بخصوصه مما ذكر خلاف الظاهر
وحكاه في مجمع البيان عن بعض. وما روي عن ابن عباس من قوله أي
ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه عز وجل ظاهر فيه وفي إقحام لفظ
اسْمَ وذهب بعض الحنفية إلى أن المراد بهذا الذكر تكبيرة
الافتتاح كأنه قيل وكبر للافتتاح
فَصَلَّى أي الصلوات الخمس كما أخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن
عباس وروي ذلك في حديث مرفوع
وقيل: الصلاة المفروضة وما أمكن من النوافل، واحتج بذلك على
وجوب التكبيرة حيث نيط به الفلاح ووقع بين واجبين بل فرضين
(15/321)
التزكي من الشرك والصلاة مع أن الاحتياط في
العبادات واجب فلا يضر الاحتمال وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم
من أسمائه عز وجل وهو ظاهر، وعلى أن التكبيرة شرط لا ركن للعطف
بالفاء وعطف الكل على الجزء كعطف العام على الخاص وإن جاز لا
يكون بها مع أنه لو سلم صحته بتكلف فلا بد له من نكتة ليدعي
وقوعه في الكلام المعجز فحيث لم تظهر لم يصح ادعاؤه وبناء
الركنية عليه والانصاف أنه مع ما سمعت احتجاج ليس بالقوي، وقيل
هو خصوص بسم الله الرحمن الرحيم قبل الصلاة وليس بشيء.
وعن علي كرم الله تعالى وجهه تَزَكَّى أي تصدق صدقة الفطر
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ كبّر يوم العيد. فَصَلَّى صلاة العيد
. وعن جماعة من السلف ما يقتضي ظاهره ذلك، وتعقب بأن الصلاة
مقدمة على الزكاة في القرآن وأن السورة مكية ولم يكن حينئذ عيد
ولا فطر، ورد بأن ذلك إذا ذكرت باسمها أما إذا ذكرت بفعل
فتقديمها غير مطدر ومنه فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [القيامة:
31] على أنه يجوز أن تكون مخالفة العادة هاهنا للإرشاد إلى أن
هذه الزكاة المقدمة قولا ينبغي تقديمها فعلا على الصلاة ولهذا
كانوا يخرجونها قبل أن يصلوا العيد كما جاء في الآثار، وكون
السورة مكية غير مجمع عليه وعلى القول بمكيتها الذي هو الأصح
يكون ذلك مما تأخر حكمه عن نزوله. وأقول أن يقال تَزَكَّى أي
تطهر من الشرك بأن آمن بقلبه وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ أي قال لا
إله إلا الله فَصَلَّى أي الصلاة المفروضة وأخرج ابن أبي حاتم
وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ما يؤيده فيكون تَزَكَّى
إشارة إلى التصديق بالجنان وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ إلى النطق
باللسان فَصَلَّى إلى العمل بالأركان لما أن الصلاة عماد الدين
وأفضل الأعمال البدنية وناهية عن الفحشاء والمنكر فلا بدع أن
تذكر فيراد جميع الأعمال البدنية والعبادات القلبية وقد يقال:
اقتصر على ذكر الصلاة لأن الفرائض والواجبات البدنية لم تكن
تامة يوم نزول السورة وكانت الصلاة أهم ما نزل إن كان نزل
غيرها. وقد روى عطاء عن ابن عباس ويزيد النحوي عن عكرمة والحسن
بن أبي الحسن أن أول ما نزل من القرآن بمكة اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ ثم ن ثم المزمل ثم المدثر ثم تَبَّتْ ثم إِذَا
الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ثم سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ ثم إن من رداف
لا إله إلا الله محمد رسول الله وكان ذكر الله تعالى المطلوب
هو مجموع الجملتين فلا بعد في أن يراد من ذكره تعالى في الآية
وإذا اعتبر الإتيان باسمه عز وجل في الجملة الثانية على الوجه
الذي أتى به ذكرا له تعالى كان أمر الإرادة أقرب وهذا الوجه لا
يخلو عن حسن. وكلمة قَدْ لما أنه عند الإخبار بسوء حال المتجنب
عن الذكر في الآخرة يتوقع السامع الإخبار بحسن حال المتذكر
فيها. ولا يبعد أن تكون الجملة مستأنفة استئنافا جوابا لسؤال
نشأ عن بيان حال المتجنب والسكوت عن حال المتذكر الذي يخشى
فكأنه قيل: ما حال من تذكر؟ فقيل قَدْ أَفْلَحَ إلى آخره وكان
الظاهر قد أفلح من تذكر إلا أنه وضع مَنْ تَزَكَّى إلى آخره
موضع من تذكر إشارة إلى بيان المتذكر بسماته.
وقوله تعالى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا إضراب عن
مقدر ينساق إليه الكلام كأنه قيل إثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح
لا تفعلون ذلك بَلْ تُؤْثِرُونَ إلخ ولعله مراد من قال إنه
إضراب عن قَدْ أَفْلَحَ إلخ وقيل إضراب عن بيان حال المتذكر
والمتجنب إلى بيان أنه لا ينفع هذا البيان وأضعافه المتمردين
على وجه يتضمن بيان سبب عدم النفع وهو إيثار الحياة الدنيا،
والخطاب على هذا للكفرة الأشقين من أهل مكة وعلى الأول يحتمل
أن يكون لهم فالمراد بإيثار الحياة الدنيا هو الرضاء
والاطمئنان بها والإعراض عن الآخرة بالكلية كما في قوله تعالى
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ
الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها [يونس: 7] الآية ويحتمل أن
(15/322)
يكون لجميع الناس على سبيل التغليب فالمراد
بإيثارها إنما هو أعم مما ذكر وما لا يخلو عنه الناس غالبا من
ترجيح جانب الدنيا على الآخرة في السعي وترتيب المبادئ. وعن
ابن مسعود ما يقتضيه والالتفات على الأول لتشديد التوبيخ وعلى
الثاني. كذلك في حق الكفرة ولتشديد العتاب في حق المسلمين،
وقيل لا التفات لأنه بتقدير قل. وقرأ عبد الله وأبو رجاء
والحسن والجحدري وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو عمرو والزعفراني
وابن مقسم «يؤثرون» بياء الغيبة وقوله تعالى وَالْآخِرَةُ
خَيْرٌ وَأَبْقى حال من فاعل تؤثرون مؤكدة للتوبيخ والعتاب أي
تؤثرونها على الآخرة والحال أن الآخرة خير في نفسها لما أن
نعيمها مع كونه في غاية ما يكون من اللذة خالص عن شائبة
الغائلة أبدي لا انصرام له، وعدم التعرض لبيان تكدر نعيم
الدنيا بالمنغصات وانقطاعه عما قليل لغاية الظهور إِنَّ هذا
إشارة على ما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد إلى قوله
تعالى وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى وروي ذلك عن قتادة. وقال
غير واحد: إشارة إلى ما ذكر من قوله سبحانه قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى إلخ وسيأتي إن شاء الله تعالى في الحديث ما يشهد له.
وقال الضحاك: إشارة إلى القرآن فالآية كقوله تعالى وَإِنَّهُ
لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 196] وعن ابن عباس
وعكرمة والسدّي إشارة إلى ما تضمنته السور جميعا وفيه بعد
لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى أي ثابت فيها معناه. وقرأ الأعمش
وهارون وعصمة كلاهما عن أبي عمرو بسكون الحاء وكذا فيما بعد
وهي لغة تميم على ما في اللوامح صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى
بدل من الصُّحُفِ الْأُولى وفي إبهامها ووصفها بالقدم ثم
بيانها وتفسيرها من تفخيم شأنها ما لا يخفى، وكانت صحف إبراهيم
عشرة وكذا موسى صحف عليه السلام، والمراد بها ما عدا التوراة
أخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن أبي ذر قال: قلت:
يا رسول الله كم أنزل الله تعالى من كتاب؟ قال: «مائة كتاب
وأربعة كتب، أنزل على شيث خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين
صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وعلى موسى قبل التوراة عشر
صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان» . قلت: يا
رسول الله فما كانت صحف إبراهيم؟ قال: «أمثال كلها أيها الملك
المتسلط على المبتلى المغرور لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى
بعض ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت
من كافر، وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له
ثلاث ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه ويتذكر
فيما صنع وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال فإن في هذه الساعة
عونا لتلك الساعات واجتماعا للقلوب وتفريغا لها، وعلى العاقل
أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه فإن من حسب
كلامه من عمله أقل الكلام إلّا فيما يعنيه، وعلى العاقل أن
يكون طالبا لثلاث مرمة لمعاش أو تزود لمعاد أو تلذذ في غير
محرم» . قلت: يا رسول الله فما كانت صحف موسى؟ قال: «كانت عبرا
كلها: عجبت لمن أيقن بالموت ثم يفرح، ولمن أيقن بالنار ثم
يضحك، ولمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم يطمئن إليها، ولمن
أبقى بالقدر ثم يغضب ولمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل» . قلت يا
رسول الله هل أنزل عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟
قال:
«يا أبا ذر نعم قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ
رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى»
والله تعالى أعلم بصحة الحديث. وقرأ أبو رجاء «إبرهم» بحذف
الألف والياء وبالهاء مفتوحة ومكسورة وعبد الرحمن ابن أبي بكرة
بكسرها لا غير. وقرأ أبو موسى الأشعري وابن الزبير «ابراهام»
بألفين في كل القرآن. وقرأ مالك بن دينار «ابراهم» بألف وفتح
الهاء وبغير ياء. وجاء كما قال ابن خالويه «إبرهم» بضم الهاء
بلا ألف ولا ياء وهذا من تصرفات العرب في الأسماء الأعجمية فإن
إبراهيم على الصحيح منها. وحكى الكرماني في عجائبه أنه اسم
عربي مشتق من البرهمة وهي شدة النظر ونسبه قد تقدم وكذا نسب
موسى صلّى الله عليه وسلم.
(15/323)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ
نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ
عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ
(6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي
جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)
فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)
وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)
وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى
الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ
رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا
أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ
الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
سورة الغاشية
مكية بلا خلاف وعدة آياتها ست وعشرون كذلك
وكان صلّى الله عليه وسلم كما أخرج مسلم وأبو داود والنسائي
وابن ماجة عن النعمان بن بشير يقرؤها في الجمعة مع سورتها
ولما أشار سبحانه فيما قبل إلى المؤمن والكافر والجنة والنار
إجمالا بسط الكلام هاهنا فقال عز قائلا:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ
الْغاشِيَةِ قيل هَلْ بمعنى قد وهو ظاهر كلام قطرب حيث قال: أي
قد جاءك يا محمد حديث الغاشية، والمختار أنه للاستفهام وهو
استفهام أريد به التعجيب مما في حيّزه والتشويق إلى استماعه
والإشعار بأنه من الأحاديث البديعة التي حقها أن تتناقلها
الرواة ويتنافس في تلقنها الوعاة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن ميمون قال: مر النبي صلّى الله
عليه وسلم على امرأة تقرأ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ
فقام عليه الصلاة والسلام يستمع ويقول: «نعم قد جاءني»
والْغاشِيَةِ القيامة كما قال سفيان.
والجمهور وأطلق عليها ذلك لأنها تغشى الناس بشدائدها وتكتنفهم
بأهوالها. وقال محمد بن كعب وابن جبير:
هي النار من قوله تعالى وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ
[ابراهيم: 50] وقوله سبحانه وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ
[الأعراف: 41] وليس بذاك فإن ما سيرى من حديثها ليس مختصا
بالنار وأهلها بل ناطق بأحوال أهل الجنة
(15/324)
أيضا وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ المرفوع مبتدأ
وجاز الابتداء به وإن كان نكرة لوقوعه في موضع التنويع، وقيل
لأن تقدير الكلام أصحاب وجوه والخبر ما بعد والظرف متعلق به
والتنوين عوض عن جملة أشعرت بها الْغاشِيَةِ أي يوم إذا غشيت.
والجملة إلى قوله تعالى مَبْثُوثَةٌ استئناف وقع جوابا عن سؤال
نشأ من الاستفهام التشويقي كأن قيل من جهته عليه الصلاة
والسلام ما أتاني حديثها ما هو؟ فقيل وُجُوهٌ إلخ. قال ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما: لم يكن أتاه صلّى الله عليه وسلم
حديثها فأخبره سبحانه عنها فقال جل وعلا وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
خاشِعَةٌ والمراد بخاشعة ذليلة ولم توصف بالذل ابتداء لما في
وصفها بالخشوع من الإشارة إلى التهكم وإنها لم تخشع في وقت
ينفع فيه الخشوع، وكذا حال وصفها بالعمل في قوله سبحانه
عامِلَةٌ على ما قيل وهو وقوله تعالى ناصِبَةٌ خبران آخران
لوجوه إذ المراد بها أصحابها وفي ذلك الاحتمالات أخر ستأتي إن
شاء الله تعالى أي عاملة في ذلك اليوم تعبة فيه، وذلك في النار
على ما روي عن ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة، وعملها فيها
على ما قيل جر السلاسل والأغلال والخوض فيها خوض الإبل في
الوحل والصعود والهبوط في تلالها ووهادها وذلك جزاء التكبر عن
العمل وطاعة الله تعالى في الدنيا وعن زيد بن أسلم أنه قال: أي
عامِلَةٌ في الدنيا ناصِبَةٌ فيها لأنها على غير هدى فلا ثمرة
لها إلّا النّصب وخاتمته النار وجاء ذلك في رواية أخرى عن ابن
عباس وابن جبير أيضا. والظاهر أن الخشوع عند هؤلاء باق على
كونه في الآخرة وعليه فيومئذ لا تعلق له بالوصفين معنى بل
متعلقهما في الدنيا ولا يخفى ما في هذا الوجه من البعد وظهور
أن العمل لا يكون في الآخرة بعد تسليمه لا يجدي نفعا في دفع
بعده. وقال عكرمة عامِلَةٌ في الدنيا ناصِبَةٌ يوم القيامة
والظاهر أن الخشوع على ما مر ولا يخفى ما في جعل المحاط
باستقبالين ماضويا من البعد، وقيل: الأوصاف الثلاثة في الدنيا
والكلام على منوال:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة أي ظهر لهم يومئذ أنها كانت
خاشعة عاملة ناصبة في الدنيا من غير نفع وأما قبل ذلك اليوم
فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا وهؤلاء النساك من اليهود
والنصارى كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس ويشمل غيرهم مما
شاكلهم من نساك أهل الضلال وهذا الوجه أبعد من أخويه. وقوله
تعالى تَصْلى ناراً حامِيَةً متناهية في الحر من حميت النار
إذا اشتد حرها خبر آخر ل وُجُوهٌ وقيل خاشِعَةٌ صفة لها وما
بعد أخبار، وقيل: الأولان صفتان والأخيران خبران، وقيل:
الثلاثة الأول صفات وهذه الجملة هي الخبر والكل كما ترى. وجوز
أن يكون هذا وما بعده من الجملتين استئنافا مبينا لتفاصيل
أحوالها. وقرأ ابن كثير في رواية شبل وحميد وابن محيصن «عاملة
ناصبة» بالنصب على الذم. وقرأ أبو رجاء وابن محيصن ويعقوب وأبو
عمرو وأبو بكر «تصلى» بضم التاء وقرأ خارجة «تصلّى» بضم التاء
وفتح الصاد مشدد اللام للمبالغة تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ
بلغت اناها أي غايتها في الحر فهي متناهية فيه كما في قوله
تعالى وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن: 44] وهو التفسير المشهور.
وقد روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقال ابن زيد أي حاضرة لهم
من قولهم أنى الشيء حضر وليس بذاك لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا
مِنْ ضَرِيعٍ بيان لطعامهم إثر بيان شرابهم، والضريع كما أخرج
عبد بن حميد عن ابن عباس الشبرق اليابس وهي على ما قاله عكرمة
شجرة ذات شوك لاطئة بالأرض. وقال غير واحد: هو جنس من الشوك
ترعاه الإبل رطبا فإذا يبس تحامته وهو سم قاتل. قال أبو ذؤيب:
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى ... وصار ضريعا بان عنه النحائص
(15/325)
وقال ابن غرارة الهذلي يذكر إبلا وسوء
مرعى:
وحبسن في هزم الضريع فكلها ... حدباء دامية اليدين حرود
وقال بعض اللغويين: الضريع يبيس العرفج إذا انحطم. وقال
الزجاج: نبت كالعوسج. وقال الخليل: نبت أخضر منتن الريح يرمي
به البحر. والظاهر أن المراد ما هو ضريع حقيقة وقيل هو شجرة
نارية تشبه الضريع وأنت تعلم أنه لا يعجز الله تعالى الذي أخرج
من الشجر الأخضر نارا أن ينبت في النار شجر الضريع. نعم يؤيد
ما قيل ما حكاه
في البحور الزاخرة عن البغوي عن ابن عباس يرفعه: «الضريع شيء
في النار شبه الشوك أمرّ من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأشد حرا
من النار»
فإن صح فذاك. وقال ابن كيسان: هو طعام يضرعون عنده ويذلون
ويتضرعون إلى الله تعالى طلبا للخلاص منه فسمي بذلك وعليه
يحتمل أن يكون شجرا وغيره. وعن الحسن وجماعة أنه الزقوم. وعن
ابن جبير أنه حجارة في النار، وقيل: هو واد في جهنم أي ليس لهم
طعام إلّا من ذلك الموضع، ولعله هو الموضع الذي يسيل إليه صديد
أهل النار وهو الغسلين وعليه يكون التوفيق بين هذا الحصر
والحصر في قوله تعالى وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ
[الحاقة: 36] ظاهرا بأن يكون طعامهم من ذلك الوادي هو الغسلين
الذي يسيل إليه، وكذا إذا أريد به ما قاله ابن كيسان واتحد به
وقد يتحد بهما عليه أيضا الزقوم واتحاده بالضريع على القول
بأنه شجرة قريب. وقيل في التوفيق إن الضريع مجازا أو كناية
أريد به طعام مكروه حتى للإبل وغيرها من الحيوانات التي تلتذ
رعي الشوك فلا ينافي كونه زقوما أو غسلينا، وقيل: إنه أريد أن
لا طعام لهم أصلا لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلا عن الناس
كما يقال: ليس لفلان إلّا ظل إلّا الشمس أي لا ظل له وعليه
يحمل قوله تعالى وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ وقوله
تعالى إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان:
43، 44] فلا مخالفة أصلا. وقيل: إن الغسلين وهو الصديد في
القدرة الإلهية أن تجعله على هيئة الضريع والزقوم فطعامهم
الغسلين والزقوم اللذان هما الضريع ولا يخفى تعسفه على الرضيع.
وقد يقال في التوفيق على القول بأن الثلاثة متغايرة بالذات أن
العذاب ألوان والمعذبون طبقات فمنهم أكلة الزقوم، ومنهم أكلة
الغسلين، ومنهم أكلة الضريع لكل باب منهم جزء مقسوم لا
يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ إما في محل جر صفة لضريع
والمعنى أن طعامهم من شيء ليس من مطاعم الإنس وإنما هو شوك
والشوك مما ترعاه الإبل وتتولع به وهذا نوع منه تنفر عنه ولا
تقربه ومنفعتا الغذاء منفيتان عنه وهما إماطة الجوع وإفادة
القوة والسمن في البدن، وإن شئت فقل إنه من شيء مكروه يضرع
عنده ويتضرع إلى الله تعالى ويطلب منه سبحانه الخلاص عنه وليس
فيه منفعتا الغذاء أصلا، وإما في محل رفع صفة لطعام المقدر إذ
التقدير ليس لهم طعام إلّا طعام من ضريع. والمعنى قريب مما ذكر
ولا يجوز كونه صفة للمذكور إذ لا يدل حينئذ على أن طعامهم
منحصر في الضريع بل يدل على أن ما لا يسمن ولا يغني من طعامهم
منحصر فيه ويفسد المعنى. وأما لا محل له من الإعراب على أنه
مستأنف والأول أظهر. ويروى أن كفار قريش قالوا لما سمعوا صدر
الآية: إن الضريع لتسمن عليه إبلنا. فنزلت لا يُسْمِنُ إلخ.
قيل: فلا يخلو إما أن يتكذبوا أو يتعنتوا بذلك وهو الظاهر فيرد
قولهم بنفي السمن والشبع وإما أن يصدقوا فيكون المعنى أن
طعامهم من ضريع ليس من جنس ضريعكم إنما هو غير مسمن ولا مغن من
جوع. وعلى الأول هو صفة مؤكدة ردا لما زعموه لا كاشفة إذ لا
خفاء وعلى الثاني هو صفة مخصصة وأيّا ما كان فتنكير الجوع
للتحقير أي لا يغني من جوع ما، وتأخير نفي الإغناء عنه لمراعاة
الفواصل والتوسل به إلى التصريح بنفي كلا الأمرين إذ لو قدم
لما احتيج إلى ذكر نفي الاسمان ضرورة استلزام
(15/326)
نفي الإغناء عن الجوع إياه ولذلك كرر لا
لتأكيد النفي. وفي الإرشاد إن نفي الأمرين عنه ليس على أن لهم
استعدادا للشبع والسمن إلّا أنه لا يفيد شيئا منهما بل على أنه
لا استعداد من جهتهم ولا إفادة من جهته، وتحقيق ذلك أن جوعهم
وعطشهم ليسا من قبيل ما هو المعهود منهما في هذه النشأة من
حالة عارضة للإنسان عند استدعاء الطبيعة لبدل ما يتحلل من
البدن مشوقة له إلى المطعوم والمشروب بحيث يلتذ بهما عند الأكل
والشرب ويستغنى بهما عن غيرهما عند استقرارهما في المعدة
ويستفيد منهما قوة وسمنا عند انهضامهما بل جوعهم عبارة عن
اضطرارهم عند اضطرام النار في أحشائهم إلى إدخال شيء كثيف
يملؤها ويخرج ما فيها من اللهب، وأما أن يكون لهم شوق إلى
مطعوم ما والتذاذ به عند الأكل واستغناء به عن الغير واستفادة
قوة فهيهات. وكذا عطشهم عبارة
عن اضطرارهم عند أكل الضريع والتهابه في بطونهم إلى شيء مائع
بارد ليطفئوه من غير أن يكون لهم التلذذ بشربه أو استفادة قوة
به في الجملة وهو المعنى بما روي أنه تعالى يسلط عليهم الجوع
بحيث يضطرون إلى أكل الضريع، فإذا أكلوه سلّط عليهم العطش
فاضطروا إلى شرب الحميم فيشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم أعاذنا
الله تعالى وسائر المسلمين من ذلك انتهى. وهو خلاف الظاهر
ومثله لا يقال عن الرأي وليس له فيما وقفنا عليه مستند يؤول
لأجله الظواهر، فالحق أن لهم جوعا وعطشا وشهوة إلى الطعام
والشراب كما أن للجائع والعطشان في الدنيا شهوة إليهما لكنهما
لهم هناك قد بلغا الغاية بتسليط الله تعالى عز وجل بدون سبب
عادي على نحو ما في الدنيا فيضطرون لذلك إلى الضريع والحميم
كما يضطر من أفرط فيه الجوع والعطش في الدنيا إلى تناول الكريه
البشع من المطعوم والمشروب لكنهم لا ينتفعون بما يتناولونه بل
يزدادون به عذابا فوق العذاب. نسأل الله تعالى العفو والعافية
بمنه وكرمه.
وقوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ شروع في رواية حديث
أهل الجنة وتقديم حكاية أهل النار لأنه أدخل في تهويل الغاشية
وتفخيم حديثها ولأن حكاية حسن حال أهل الجنة بعد حكاية سوء حال
أهل النار مما يزيد المحكي حسنا وبهجة، والكلام في إعرابه نظير
ما تقدم وإنما لم تعطف هذه الجملة على تلك الجملة إيذانا بكمال
تباين مضمونيهما. والناعمة إما من النعومة وكنى بها عن البهجة
وحسن المنظر أي وجوه يومئذ ذات بهجة وحسن كقوله تعالى تَعْرِفُ
فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: 24] أو من
النعيم أي وجوه يومئذ متنعمة لِسَعْيِها أي لعملها الذي عملته
في دار الدنيا وهو متعلق بقوله تعالى راضِيَةٌ والتقديم
للاعتناء مع رعاية الفاصلة واللام ليست للتعليل بل مثلها في
رضيت بكذا، فكأنه قيل راضية بسعيها. وذكر بعض المحققين أنها
مقوية لتعدي الوصف بنفسه ولذا قال سفيان في ذلك كما أخرجه عنه
ابن أبي حاتم:
رضيت عملها ورضاها به كناية أو مجاز عن أنه محمود العاقبة
مجازى عليه أعظم الجزاء وأحسنه. وقيل في الكلام مضاف مقدر أي
لثواب سعيها راضية وجوز كون اللام للتعليل أي لأجل سعيها في
طاعة الله تعالى راضية حيث أوتيت وما أتيت من الخير وليس بذاك
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ مرتفعة المحل أو علية القدر فالعلو إما
حسّي أو معنوي وجمع أبو حيان بينهما لا تَسْمَعُ خطاب لكل من
يصلح للخطاب أو هو مسند إلى ضمير الغائبة المؤنثة وهو راجع
للوجوه على أن المراد بها أصحابها أو الإسناد مجازي وكذا يقال
فيما قبل وأشار بعض إلى أن في الآية صنعة الاستخدام اختيارا
لأن المراد بالوجوه أولا حقيقتها وعند إرجاع الضمير إليها
ثانيا أصحابها فهم الذين لا يسمعون فِيها لاغِيَةً أي لغوا فهي
مصدر بمعناه ويجوز كونها صفة كلمة محذوفة على أنها للنسب أي
كلمة ذات لغو، وجوز على تقدير كونها صفة كون الإسناد مجازيا
لأن الكلمة ملغو بها
(15/327)
لا لاغية، ويجوز أن تكون صفة نفس محذوفة أي
لا تسمع فيها نفسا لاغية وجعلها مسموعة لوصفها بما يسمع كما
تقول: سمعت زيدا يقول كذا، وجوز أن يكون ذلك على المجاز في
الإسناد أيضا. وقرأ الأعرج وأهل مكة والمدينة ونافع وابن كثير
وأبو عمرو بخلاف عنهم «لا تسمع» بتاء التأنيث مبنيا للمفعول
«لاغية» بالرفع وابن محيصن وعيسى وابن كثير وأبو عمرو كذلك
إلّا أنهم قرؤوا بالياء التحتية لأن التأنيث مجازي مع وجود
الفاصل والجحدري كذلك إلّا أنه نصب «لاغية» على معنى لا يسمع
فيها أي أحد لاغية من قولك أسمعت زيدا فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ
قيل يجري ماؤها ولا ينقطع وعدم الانقطاع إما من وصف العين
لأنها الماء الجاري فوصفها بالجريان يدل على المبالغة كما في
ناراً حامِيَةً وإما من اسم الفاعل فإنه للاستمرار بقرينة
المقام والتنكير للتعظيم واختار الزمخشري كونه للتكثير كما في
عَلِمَتْ نَفْسٌ [التكوير: 14، الانفطار: 5] أي عيون كثيرة
تجري مياهها فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ رفيعة السمك أو المقدار
وقيل مخبوءة من رفعت لك كذا أي خبأته وَأَكْوابٌ وقداح لا عرا
لها مَوْضُوعَةٌ أي بين أيديهم وقيل على حافات العيون وجوز أن
يراد موضوعة عن حد الكبار أوساط بين الصغر والكبر كقوله تعالى
قَدَّرُوها تَقْدِيراً [الإنسان: 16] ولا يخفى بعده وَنَمارِقُ
ووسائد قال زهير:
كهولا وشبانا حسانا وجوههم ... على سرر مصفوفة ونمارق
جمع نمرقة بضم النون والراء وبكسرهما وفتحهما وبغير هاء
مَصْفُوفَةٌ صف بعضها إلى جنب بعض للاستناد إليها والاتكاء
عليها. وقال الكلبي: وسائد موضوعة بعضها إلى جنب بعض كالشيء
الذي جعل صفا أينما أراد أن يجلس المؤمن جلس على واحدة واستند
إلى أخرى وعلى رأسه وصائف كأنهن الياقوت والمرجان وَزَرابِيُّ
وبسط فاخرة كما قال غير واحد وقال الفرّاء: هي الطنافس التي
لها خمل رقيق. وقال الراغب: إنها في الأصل ثياب محبرة منسوبة
إلى موضع ثم استعيرت للبسط واحدها زربية مثلثة الزاي ولم يفرق
في الصحاح بين الزرابي والنمارق، والظاهر الفرق. نعم قيل قد
جاء نمارق بمعنى الزرابي ومنه:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
لظهور أن الوسائد لا يمشى عليها عادة مَبْثُوثَةٌ مبسوطة أو
مفرقة في المجالس أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ
خُلِقَتْ استئناف مسوق لتقرير ما فصل من حديث الغاشية وما هو
مبني عليه من البعث الذي هم فيه مختلفون بالاستشهاد عليه بما
لا يستطيعون إنكاره. وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة قال:
لما نعت الله تعالى ما في الجنة عجب من ذلك أهل الضلالة فأنزل
سبحانه وتعالى أَفَلا يَنْظُرُونَ إلخ ويرجع هذا في الآخرة إلى
إنكار. البعث كما لا يخفى والهمزة للإنكار والتوبيخ والفاء
للعطف على مقدر يقتضيه المقام، وكلمة كَيْفَ منصوبة بما بعدها
على أنها حال من مرفوع خُلِقَتْ كما في قوله تعالى كَيْفَ
تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ [البقرة: 28] معلقة لفعل النظر والجملة
بدل اشتمال من الإبل وقد تبدل الجملة وفيها الاستفهام من الاسم
الذي قبلها كقولهم عرفت زيدا أبو من هو على أصح الأقوال على أن
العرب قد أدخلت إلى على كيف بلا واسطة إبدال كما أدخلت عليها
على فحكي عنهم أنهم قالوا: انظر إلى كيف يصنع كما حكي عنهم
أنهم قالوا على كيف تبيع الأحمرين. وذكر أبو حيان في البحر
والتذكرة وغيرهما أنه إذا علق الفعل عما فيه الاستفهام لم يبق
الاستفهام على حقيقته. وقيل كيف بدل من الإبل وتعقبه في المغني
بما في بعضه نظر، وجوز في مجمع البيان كونها في موضع نصب على
المصدر وهو كما ترى والإبل يقع على البعران الكثيرة ولا واحد
له من
(15/328)
لفظه وهو مؤنث ولذا إذا صغر دخلته التاء
فقالوا أبيلة وقالوا في الجمع آبال وقد اشتقوا من لفظه،
فقالوا: أبل وتأبل الرجل وتعجبوا من هذا الفعل على غير قياس
فقالوا: ما آبل زيدا ولم يحفظ سيبويه فيما قيل اسما جاء على
فعل بكسر الفاء والعين وغير ابل أي أينكرون ما أشير إليه من
البعث وأحكامه ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عز وجل فلا ينظرون
إلى الإبل التي هي نصب أعينهم يستعملونها كل حين كيف خلقت خلقا
بديعا معدولا به عن سنن خلق أكثر أنواع الحيوانات في عظم جثتها
وشدة قوتها وعجيب هيئاتها اللائقة بتأتّي ما يصدر عنها من
الأفاعيل الشاقة كالنوء بالأوقار الثقيلة وهي باركة وإيصالها
الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة وفي صبرها على الجوع
والعطش حتى إن ظمأها ليبلغ العشر بكسر فسكون وهو ثمانية أيام
بين الوردين وربما يجوز ذلك وتسمى حينئذ الحوازي بالحاء
المهملة والزاي واكتفائها بالسير ورعيها لكل ما يتيسر من شوك
وشجر وغير ذلك مما لا يكاد يرعاه سائر البهائم، وفي انقيادها
مع ذلك للإنسان في الحركة والسكون والبروك والنهوض حيث
يستعملها في ذلك كيف يشاء ويقتادها بقطارها كل صغير وكبير، وفي
تأثرها بالصوت الحسن على غلظ أكبادها إلى غير ذلك، وخصت بالذكر
لأنها أعجب ما عند العرب من الحيوانات التي هي أشرف المركبات
وأكثرها صنعا ولهم على أحوالها أتم وقوف. وعن الحسن أنها خصت
بالذكر لانها تأكل النوى والقتّ وتخرج اللبن، وقيل له الفيل
أعظم في الأعجوبة، فقال: العرب بعيدة العهد بالفيل ثم هو خنزير
لا يؤكل لحمه ولا يركب ظهره أي على نحو ما يركب ظهر البعير من
غير مشقة في تربيضه ولا يحلب دره.
وقال أبو العباس المبرد: الإبل هنا السحاب لأن العرب قد تسميها
بذلك إذ تأتي أرسالا كالإبل وتزجى كما تزجى الإبل وهي في
هيئاتها أحيانا تشبه الإبل يعني أن إرادته منها هنا على طريق
التشبيه والمجاز وكأنه كما قال الزمخشري لم يدع القائل بذلك
إلّا طلب المناسبة بين المتعاطفات على ما يقتضيه قانون البلاغة
وهي حاصلة مع بقاء الإبل في عطنها. قال الإمام: التناسب فيها
أن الكلام مع العرب وهم أهل أسفار على الإبل في البراري فربما
انفردوا فيها والمنفرد يتفكر لعدم رفيق يحادثه وشاغل يشغله
فيتفكر فيما يقع عليه طرفه فإذا نظر لما معه رأى الإبل، وإذا
نظر لما فوقه رأى السماء، وإذا نظر يمينا وشمالا رأى الجبال،
وإذا نظر لأسفل رأى الأرض فأمر بالنظر في خلوته لما يتعلق به
النظر من هذه الأمور فبينها مناسبة بهذا الاعتبار. وقال عصام
الدين:
إن خيال العرب جامع بين الأربعة لأن ما لهم النفيس الإبل ومدار
السقي لهم على السماء ورعيهم في الأرض وحفظ مالهم بالجبال، وما
ألطف ذكر الإبل بعد ذكر الضريع فإن خطورها بعده على طرف
الثمام، وإذا صح ما روي من كلام قريش عند نزول تلك الآية كان
ذكرها ألطف وألطف.
وقرأ الأصمعي عن أبي عمرو «إلى الإبل» بسكون الباء وقرأ علي
كرّم الله تعالى وجه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما «إبلّ»
بتشديد اللام ورويت عن أبي عمرو وأبي جعفر والكسائي وقالوا:
إنها السحاب عن قوم من أهل اللغة.
وَإِلَى السَّماءِ التي يشاهدونها ليلا ونهارا كَيْفَ رُفِعَتْ
رفعا سحيق المدى بلا عماد ولا مساك بحيث لا يناله الفهم
والإدراك وَإِلَى الْجِبالِ التي ينزلون في أقطارها وينتفعون
بمائها وأشجارها كَيْفَ نُصِبَتْ وضعت وضعا ثابتا يتأتى معه
ارتقاؤها فلا تميل ولا تميد ويمكن الرقي إلى دارها وَإِلَى
الْأَرْضِ التي يضربون فيها ويتقلبون عليها كَيْفَ سُطِحَتْ
سفحا بتوطئة وتمهيد وتسوية وتوطيد حسبما يقتضيه صلاح أمور
أهلها ولا ينافي ذلك القول بأنها قريبة من الكرة الحقيقية
لمكان عظمها. وقرأ عليّ كرم الله تعالى
(15/329)
وجهه وأبو حيوة وابن أبي عبلة «خلقت»
«رفعت» «نصبت» «سطحت» بتا المتكلم مبنيا للفاعل والمفعول ضمير
محذوف وهو العائد إلى المبدل منه بدل اشتمال أي خلقتها رفعتها
نصبتها سطحتها. وقرأ الحسن وهارون الرشيد سُطِحَتْ بتشديد
الطاء والمعنى أفلا ينظرون نظر التدبر والاعتبار إلى كيفية خلق
هذه المخلوقات الشاهدة بحقية البعث والنشور ليرجعوا عما هم
عليه من الإنكار والنفور ويسمعوا إنذارك ويستعدوا للقائه
بالإيمان والطاعة. وجوز أن يحمل النظر على الإبصار ويكون فيه
دعوى ظهور المطلوب بحيث يظهر بمجرد إبصار هذه المخلوقات وهو
خلاف الظاهر. والفاء في قوله تعالى فَذَكِّرْ لترتيب الأمر
بالتذكير على ما ينبىء عنه الإنكار السابق من عدم النظر أي
فاقتصر على التذكير ولا تلح عليهم ولا يهمنك أنهم لا ينظرون
ولا يتذكرون. وقوله تعالى إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ تعليل
للأمر. وقوله سبحانه لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ تقرير له
وتحقيق لمعنى الإنذار أي لست بمتسلط عليهم تجبرهم على ما تريد
كقوله تعالى وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق: 45] وقرأ
الجمهور «بمصيطر» بالصاد وكسر الطاء والأصل السين والصاد بدل
منه فإنه من السطر بمعنى التسلط يقال: سطر عليه إذا تسلط وقرأ
حمزة في رواية بإشمام الصاد زايا وهارون بفتح الطاء وهي لغة
تميم وسيطر متعد عندهم ويدل عليه قولهم تسيطر لمكان المطاوعة.
وقوله تعالى إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ قيل استثناء منقطع
وإِلَّا فيه بمعنى لكن ومَنْ موصولة مبتدأ وما بعدها صلة
والعائد الضمير المستتر فيه. وقوله سبحانه فَيُعَذِّبُهُ
اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ خبر المبتدأ والفاء لتضمن
المبتدأ معنى الشرط نحو: الذي يأتيني فله درهم، وجعل من شرطية
يبعده وجود الفاء فيما يصلح لجوابيتها بدونها وتقدير فهو يعذبه
تكلف مستغنى عنه وأيّا ما كان فمن المنقطع ما يقع بعد إلّا فيه
جملة أي لكن من أعرض وأقام على الكفر منهم يعذبه الله تعالى
العذاب الأكبر وهذا عذاب الآخرة في النار فإنه الأكبر وعذاب
الدنيا بالنسبة إليه أصغر. وجعل الزمخشري الانقطاع على معنى
لست بمستول عليهم لكن من تولى وكفر منهم فإن لله تعالى الولاية
عليه والقهر فيعذبه في نار جهنم ولم يجعل على ما قيل متصلا
لأنه يلزم عليه كونه صلّى الله عليه وسلم مستوليا على من تولى
وقد حصرت الولاية به تعالى، وجوز اتصاله بأن يكون من ضمير
عَلَيْهِمْ فيكون من في محل جر تابعا له وتسلطه صلّى الله عليه
وسلم على المتولي باعتبار جهاده وقتله الذي وعد به عليه الصلاة
والسلام ولا ينافي حصر الولاية به تعالى لأنه بأمره عز وجل
فكأنه قيل: لست عليهم بمسيطر إلّا على من تولى وأقام على الكفر
فإنك متسلط عليه بما يؤذن لك من جهاده وقتله وسبيه وأسره وبعده
ذلك يعذبه الله تعالى في جهنم، فيكون في الآية إيعاد لهم
بالجهاد في الدنيا وعذاب النار في الآخرة. وجوز أن يكون إيعادا
بالجهاد فقط على أن المراد بالعذاب الأكبر القتل وسبي النساء
والأولاد وسائر ما يترتب على الجهاد من البلايا فيكون فيه
إشارة إلى أن هذه الأمة أكبر عذابهم في الدنيا ذلك لا ما كان
في الأمم السابقة من الخسف والمسخ ونحوهما وأقيم فَيُعَذِّبُهُ
إلخ مقام فتكون عليه متسلطا إيذانا بأن ذلك من قبله عز وجل حتى
كأنه صلّى الله عليه وسلم لا دخل له فيه وقال عصام الدين في
كون الاستثناء منقطعا إشكال لأن المستثنى المنقطع هو المذكور
بعدا لا غير مخرج عن متعدد قبله لعدم دخوله فيه مخالف له في
الحكم وليس من تولى وكفر خارجا عن قوله تعالى عَلَيْهِمْ وليس
حكمهم مخالفا له. ثم أجاب بأن الاستثناء المنقطع قد
يكون لدفع توهم ناشىء مما سبق من غير أن يخالف المستثنى منه في
الحكم فالواجب ذكر حكم له ليعلم أنه ليس حكمه مخالفا لحكم
المستثنى منه فكأنه هاهنا لدفع توهم التعذيب فتأمل. وجوز كون
الاستثناء متصلا من قوله تعالى فَذَكِّرْ ومَنْ موصولة لا غير
والمراد بالعذاب استحقاق العذاب أي فذكر إلا من انقطع طمعك من
إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر. وقوله إِنَّما أَنْتَ إلخ
على هذا
(15/330)
اعتراض ورجح الانقطاع بأن ابن عباس وزيد بن
علي وقتادة وزيد بن أسلم قرؤوا «ألا» حرف تنبيه واستفتاح.
وقوله تعالى إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ تعليل لتعذيبه تعالى
إياهم بالعذاب الأكبر وإياب مصدر آب أي رجع أي إن إلينا رجوعهم
بالموت والبعث لا إلى أحد سوانا لا استقلالا ولا اشتراكا، وجمع
الضمير فيه وفيما بعده باعتبار معنى من كما أن إفراده فيما سبق
باعتبار لفظها. وقرأ أبو جعفر وشيبة «إيّابهم» بتشديد الياء
قال البطليوسي في كتاب المثلثات: هذه القراءة تحتمل تأويلين
أحدهما أن يكون إيّاب بالتشديد فعالا من أوب على زنة ككذب
كذابا وأصله أواب فلم يعتد بالواو الأولى حاجزا لضعفها بالسكون
فأبدل من الواو الثانية ياء لانكسار الهمزة فصار في التقدير
أويابا ثم قبلت الأولى ياء أيضا لاجتماع ياء وواو وسكون
إحداهما، ولأن الواو الأولى إذا لم تمنع من الانقلاب الثانية
فهي أجدر بالانقلاب، والثاني أن يكون فيعالا وأصله أيوابا فاعل
إعلال سيد وفعله على هذا أيب على وزن فيعل كحوقل حيقالا من
الإياب وأصله أيوب فاعل كما ذكرنا، والوجه الأول أقيس لأنهم
قالوا في مصدره التأويب والتفعيل مصدر فعل لا فيعل ومع ذلك فقد
قالوا هو سريع الأوبة والأيبة فكأنهم آثروا الياء لخفتها
انتهى. وقد ذكر هذين الوجهين الزمخشري إلّا أنه في الأول منهما
يجوز أن يكون أصله أوابا فعالا من أوب ثم قيل أيوابا كديوان في
دوان ثم فعل به ما فعل بأصل سيد، وظاهره أن الواو الأول هي
التي قلبت أولا ياء، واعترض بأن المقرر أن الواو الأولى إذا
كانت موضوعة على الإدغام وجاء ما قبلها مكسورا لا تقلب ياء
لأجل الكسر كما في اخرواط مصدر اخروط وإن ديوانا إذا كان
مذكورا للقياس عليه لا للتنظير لا يصلح لذلك لنصهم على شذوذه
وكأن البطليوسي عدل إلى ما عدل لذلك. وفي الكشف: لو جعل مصدر
فاعل من الأوب فقد جاء فيه فيعال حتى قال بعضهم إن فعالا مخفف
عنه لكان أظهر لأن فيعل لا يثبت إلّا بثبت والأول كالمنقاس،
ومعنى الفاعلة حينئذ إما المبالغة وإما مسابقة بعضهم بعضا في
الأوب وأما جعله فعالا على ما قرر الزمخشري فأبعد إلى آخر
كلامه وكونه من فاعل جوزه ابن عطية أيضا لكنه قال:
ويصح أن يكون من آوب فيجيء إيوابا سهلت همزته وكان اللازم في
الإدغام يردها أوابا لكن استحسنت فيه الياء على غير قياس
فاعترضه أبو حيان بأن قوله: وكان اللازم إلخ ليس بصحيح بل
اللازم إذا اعتبر الإدغام أن يكون إيابا لأنه قد اجتمعت ياء
وهي المبدلة من الهمزة بالتسهيل وواو وهي عين الكلمة وإحداهما
ساكنة فتقلب الواو ياء وتدغم فيها الياء فيصير إيابا فلا تغفل.
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ في المحشر لا على غيرنا
وثُمَّ للتراخي الرتبي لا الزماني فإن الترتيب الزماني بين
إيابهم وحسابهم لا بين كون إيابهم إليه تعالى وحسابهم عليه
سبحانه فإنهما أمران مستمران. وفي تصدير الجملتين بأن وتقديم
خبرها والإتيان بضمير العظمة وعطف الثانية على الأولى بثم
المفيدة لبعد منزلة الحساب في الشدة من الإنباء عن غاية السخط
الموجب لشديد العذاب ما لا يخفى. وفي الآية رد على كثير من
الشيعة حيث زعموا أن حساب الخلائق على الأمير كرّم الله تعالى
وجهه واستدلوا على ذلك بما افتروه عليه وعلى أهل بيته رضي الله
تعالى عنهم أجمعين من الأخبار ومعنى
قوله كرم الله تعالى وجهه: أنا قسيم الجنة والنار
إن صح أن الناس من هذه الأمة فريقان فريق معي فهم على هدى
وفريق عليّ فهم على ضلال فقسم معي في الجنة وقسم في النار»
ولعلهم عنوا أن عليّا كرم الله تعالى وجهه يحاسب الخلائق بأمره
عز وجل كما يقول غيرهم بأن الملائكة عليهم السلام يحاسبونهم
بأمره جل وعلا وهو معنى لا ينافي الحصر الذي تقتضيه الآية لكنه
لم يثبت، وأي خصوصية في الأمير كرم الله تعالى وجهه من بين
جميع الأنبياء والمرسلين
(15/331)
والملائكة المقربين عليهم الصلاة والسلام
أجمعين نقتضيه ولا نقص له كرم الله وجهه في نفي ذلك عنه ويكفيه
رضي الله تعالى عنه من ظهور شرفه يوم القيامة أنه يزف إلى
الجنة بين النبيّ وإبراهيم عليهما وعليه الصلاة والسلام كما
جاء في الحديث إلى غير ذلك مما يظهر في ذلك اليوم والله تعالى
أعلم.
(15/332)
وَالْفَجْرِ (1)
وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ
إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ
الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي
الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ
بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ
طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ
(12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ
رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا
مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ
رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ
فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا
تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ
التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا
جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا
(21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ
يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ
وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي
قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ
عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي
إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي
عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
سورة الفجر
مكية في قول الجمهور. وقال علي بن أبي طلحة: مدنية وآيها
اثنتان وثلاثون آية في الحجازي، وثلاثون في الكوفي والشامي،
وتسع وعشرون في البصري. ولما ذكر سبحانه فيما قبلها وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ [الغاشية: 3] ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناعِمَةٌ [الغاشية: 8] أتبعه تعالى بذكر الطوائف المكذبين من
المتجبرين الذين وجوههم خاشعة، وأشار جل شأنه إلى الصنف الآخر
الذين وجوههم ناعمة بقوله سبحانه فيها يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ
الْمُطْمَئِنَّةُ [الفجر: 27] وأيضا فيها مما يتعلق بأمر
الغاشية ما فيها. وقال الجلال السيوطي: لم يظهر لي في وجهه
ارتباطها سوى أن أولها كالإقسام على صحة ما ختم به السورة التي
قبلها أو على ما يتضمنه من الوعد والوعيد هذا مع أن جملة
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ [الفجر: 6] مشابهة لجملة
أَفَلا يَنْظُرُونَ [الغاشية: 17] وها كما ترى.
(15/333)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ أقسم سبحانه بالفجر كما أقسم عز وجل بالصبح في
قوله تعالى
وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التكوير: 18] فالمراد به الفجر
المعروف كما روي عن عليّ كرم الله تعالى وجهه
وابن عباس وابن الزبير وغيرهم رضي الله تعالى عنهم. وقيل:
المراد عموده وضوءه الممتد وأصله شق الشيء شقا واسعا، وسمي
الصبح فجرا لكونها فاجرا لليل وهو كاذب لا يتعلق به حكم الصوم
والصلاة وصادق به يتعلق حكمهما وقد تكلموا في سبب كل بما يطول
وتقدم بعض منه، ولعل المراد به هنا الصادق فهو أحرى بالقسم به
والمراد عند كثير جنس الفجر لا فجر يوم مخصوص. وعن ابن عباس
ومجاهد فجر يوم النحر، وعن عكرمة فجر يوم الجمعة، وعن الضحاك
فجر ذي الحجة، وعن مقاتل فجر ليلة جمع. وأخرج سعيد بن منصور
والبيهقي في الشعب عن ابن عباس أنه قال: هو فجر المحرم فجر
السنة، وروي نحوه عن قتادة وعن الحبر أيضا أنه النهار كله.
وأخرج ابن جرير عنه أيضا أنه قال: يعني صلاة الفجر وروي نحوه
عن زيد بن أسلم فهو إما على تقدير مضاف أو على إطلاقه على
الصلاة مجازا وهو شائع. وقيل: المراد فجر العيون من الصخور
وغيرها وَلَيالٍ عَشْرٍ هن العشر الأولى من الأضحى كما أخرج
الحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس، وروي عن ابن الزبير ومسروق
ومجاهد وقتادة وعكرمة وغيرهم وأخرج ذلك أحمد والنسائي والحاكم
وصححه والبزار وابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن
جابر يرفعه، ولها من الفضل ما لها.
وقد أخرج أحمد والبخاري عن ابن عباس مرفوعا: «ما من أيام فيهن
العمل أحب إلى الله عز وجل وأفضل من أيام العشر» قيل:
يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في
سبيل الله إلا رجل جاهد في سبيل الله بنفسه وماله فلم يرجع من
ذلك بشيء»
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهن العشر
الأواخر من رمضان. وروي أيضا عن الضحاك بل زعم التبريزي
الاتفاق على أنهن هذه العشر وأنه لم يخالف فيه أحد واستدل له
بعضهم بالحديث المتفق على صحته.
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه
وسلم إذا دخل العشر- تعني العشر الأواخر من رمضان- شد مئزره
وأحيا ليله وأيقظ أهله
وتعقبه بعضهم بأن ذلك محتمل لأن يحظى عليه الصلاة والسلام
بليلة القدر لأنها فيها لا لكونه العشر المرادة هنا. وعن ابن
جريج أنهن العشر الأول من رمضان، وعن يمان وجماعة أنهن العشر
الأول من المحرم وفيها يوم عاشوراء وقد ورد في فضله ما ورد.
أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن عباس قال: قدم النبي صلّى الله
عليه وسلم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال عليه الصلاة
والسلام: «ما هذا اليوم الذي تصومونه» ؟ قالوا: يوم عظيم أنجى
الله تعالى فيه موسى وأغرق آل فرعون فيه، فصامه موسى عليه
السلام شكرا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فنحن أحق
بموسى منكم» فصامه صلّى الله عليه وسلم وأمر بصيامه
.
وصح في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام أرسل غداة عاشوراء
إلى قرى الأنصار التي حول المدينة «من كان أصبح صائما فليتمّ
يومه، ومن كان أصبح مفطرا فليصم بقية يومه» فكان الصحابة بعد
ذلك يصومونه ويصوّمونه صبيانهم الصغار ويذهبون بهم إلى المسجد
ويجعلون لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطوه
إياها حتى يكون الإفطار
.
وأخرج أحمد وغيره عن الحبر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه
وسلم: «صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود وصوموا قبله يوما
وبعده يوما»
وجاء في الأمر بالتوسعة فيه على العيال عدة أحاديث ضعيفة لكن
قال البيهقي هي وإن كانت ضعيفة إذا ضم بعضها إلى بعض أحد قوة
وأيّا ما كان فتنكيرها للتفخيم وقل للتبعيض لأنها بعض ليالي
السنة أو الشهر والتفخيم أولى. قيل: ولولا قصد ما ذكر كان
(15/334)
الظاهر تعريفها كأخواتها لأنها ليال معهودة
معينة، وقدر بعضهم على إرادة صلاة الفجر فيما مر مضافا هنا أي
وعبادة ليال ويقال نحوه فيما بعد على بعض الأقوال فيه وليس
بلازم ولا أثر فيه. وقرأ ابن عباس بالإضافة فضبطه بعضهم
وَلَيالٍ عَشْرٍ بلازم دون ياء وبعضهم «وليالي عشر» بالياء وهو
القياس والمراد وليالي أيام عشر فحذف الموصوف وهو المعدود وفي
مثل ذلك يجوز التاء وتركها في العدد ومنه واتبعه بست من شوال
وما حكاه الكسائي ضمنا من الشهر خمسا والمرجح للترك هاهنا
وقوعه فاصلة وجوز أن تكون بالإضافة بيانية وهو خلاف الظاهر.
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ هما على ما في حديث جابر المرفوع الذي
أشرنا إليه فيما تقدم يوم النحر ويوم عرفة.
وقال الطيبي: روينا عن الإمام أحمد والترمذي عن عمران بن حصين
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عن الشفع والوتر فقال:
«الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر» ثم قال: «هذا هو التفسير الذي
لا محيد عنه» انتهى. وقد رواه عن عمران أيضا عبد بن حميد وابن
جرير وابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم
وصححه، لكن في البحر أن حديث جابر أصح إسنادا من حديث عمران بن
حصين ووراء ذلك أقوال كثيرة، فأخرج عبد بن حميد عن الحسن أنه
قال: «أقسم ربنا بالعدد كله منه الشفع ومنه الوتر» وأخرج عبد
الرزاق عن مجاهد أنه قال «الخلق كله شفع ووتر فأقسم سبحانه
بخلقه» وأخرج ابن المنذر وجماعة عنه أنه قال: الله تعالى الوتر
وخلقه سبحانه الشفع الذكر والأنثى» وروي نحوه عن أبي صالح
ومسروق وقرآ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ
[الذاريات:
49] وقيل: المراد شفع تلك الليالي ووترها، وقيل الشفع أيام عاد
والوتر لياليها. وقيل: الشفع أبواب الجنة والوتر أبواب النار
وقيل غير ذلك. وقد ذكر في كتاب التحرير والتحبير مما قيل فيهما
ستا وثلاثين قولا وفي الكشاف: قد أكثروا في الشفع والوتر حتى
كادوا يستوعبون أجناس ما يقعان فيه وذلك قليل الطائل جدير
بالتلهي عنه. وقال بعض الأفاضل: لا إشعار للفظ الشفع والوتر
بتخصيص شيء مما ذكروه وتعيينه بل هو إنما يدل على معنى كلّي
متناول لذلك، ولعل من فسّرهما بما فسرهما لم يدع الانحصار فيما
فسر به بل أفرد بالذكر من أنواع مدلولهما ما رآه أظهر دلالة
على التوحيد أو مدخلا في الدين أو مناسبة لما قبل أو لما بعد
أو أكثر منفعة موجبة للشكر أو نحو ذلك من النكات، وإذا ثبت من
الشارع عليه الصلاة والسلام تفسيرهما ببعض الوجوه فالظاهر أنه
ليس مبنيا على تخصيص المدلول بل وارد على طريق التمثيل بما رأى
في تخصيصه بالذكر فائدة معتدا بها فحينئذ يجوز للمفسر أن يحمل
اللفظ على بعض آخر من محتملاته لفائدة أخرى انتهى.
وهو ميل إلى أن أل فيهما للجنس لا للعهد، والظاهر أن ما تقدم
من الحديثين من باب القطع بالتعيين دون التمثيل لكن يشكل أمر
التوفيق بينهما حينئذ وإذا صح ما قال في البحر كان المعول عليه
حديث جابر رضي الله تعالى عنه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وقرأ حمزة والكسائي والأغر عن ابن عباس وأبو رجاء وابن وثاب
وقتادة وطلحة والأعمش والحسن بخلاف عنه «والوتر» بكسر الواو
وهي لغة تميم والجمهور على فتحها وهي لغة قريش وهما لغتان
كالحبر والحبر بمعنى العالم على ما قال صاحب المطلع في الوتر
المقابل للشفع وأما في الْوَتْرِ بمعنى الترة أي الحقد فالكسر
هو المسموع وحده والأصمعي حكى فيه أيضا اللغتين وقرأ يونس عن
أبي عمرو بفتح الواو وكسر التاء وهو إما لغة أو نقل حركة الواو
في الوقف لما قبلها.
وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ أي يمضي كقوله تعالى وَاللَّيْلِ إِذْ
أَدْبَرَ [المدثر: 33] واللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ [التكوير: 17]
والظاهر أنه مجاز مرسل أو استعارة ووجه الشبه كالنهار وإِذا
على ما صرح به العلامة
(15/335)
التفتازاني في التلويح بدل من اللَّيْلِ
وخروجها عن الظرفية مما لا بأس به، أو ظرف متعلق بمضاف مقدر
وهو العظمة على ما اختاره بعضهم، والإقسام بذلك الوقت أو تقييد
العظمة به لما فيه من وضوح الدلالة على كمال القدرة ووفور
النعمة أو يسري فيه على ما نقل أبو حيان عن الأخفش وابن قتيبة،
كقولهم: صلى المقام أي صلى فيه على أنه تجوز فيه الإسناد
بإسناد ما للشيء للزمان كما يسند للمكان، وأيّا ما كان فالمراد
بالليل جنسه. وقال مجاهد وعكرمة والكلبي: المراد به ليلة النحر
وهي يسري الحاج فيها إلى المزدلفة بعد الإفاضة من عرفات وليس
بذاك، والإقسام والتقييد على الوجه الأخير لما في السير في
الليل من نعمة الحفظ من حر الشمس وشر قطاع الطريق غالبا وحذفت
الياء عند الجمهور وصلا ووقفا من آخر يَسْرِ مع أنها لام مضارع
غير مجزوم اكتفاء عنها بالكسرة للتخفيف ولتتوافق رؤوس الآي
ولذا وسمت كذلك في المصاحف، ولا ينبغي أن يقال إنها حذفت
لسقوطها في خطها فإنه يقتضي أن القراءة باتباع الرسم دون رواية
سابقة عليه وهو غير صحيح. وخص نافع وأبو عمرو في رواية هذا
الحذف بالوقف لمراعاة الفواصل ولم يحذف مطلقا ابن كثير ويعقوب.
وفي تفسير البغوي سئل الأخفش عن علة سقوط ياء يَسْرِ فقال:
الليل لا يسري ولكن يسرى فيه وهو تعليل كثيرا ما يسأل عنه
لخفائه والجواب أنه أراد أنه لما عدل عن الظاهر في المعنى
وغيرهما كان حقه معنى غير لفظه لأن الشيء يجر جنسه لإلفه به:
إن الطيور على أمثالها تقع وهذا كما قيل في قوله تعالى ما
كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم: 28] أنه لما عدل عن باغية
أسقطت منه التاء ولم يقل بغية، ومثله من بدائع اللغة العربية
ويمكن التعليل بنحوه على تفسير يَسْرِ بيمضي لما فيه من العدول
عن الظاهر في المعنى أيضا علمت من أنه مجاز في ذلك. وقرأ أبو
الدينار الأعرابي و «الفجر» و «الوتر» و «يسر» بالتنوين في
الثلاثة. قال ابن خالويه: هذا كما روي عن بعض العرب أنه وقف
على أواخر القوافي بالتنوين وإن كانت أفعالا أو فيها أل نحو
قوله:
أقلي اللوم عاذل والعتابن ... وقولي إن أصبت لقد أصابن
انتهى. وهذا كما قال أبو حيان ذكره النحويون في القوافي
المطلقة يعني المحركة إذا لم يترنم الشاعر وهو أحد وجهين للعرب
إذا لم يترنموا، والوجه الآخر الوقوف فيقولون: العتاب وأصاب
كحالهم إذا وقفوا على الكلمة في النثر، وهذا الأعرابي أجرى
الفواصل مجرى الوقف وعاملها معاملة القوافي المطلقة ويسمى هذا
التنوين تنوين الترنم ولا اختصاص له بالاسم، ويغلب على ظني أنه
قيل يكتب نونا بخلاف أقسام التنوين المختصة بالاسم. وقوله
تعالى هَلْ فِي ذلِكَ إلخ تحقيق وتقرير لفخامة الأشياء
المذكورة المقسم بها وكونها مستحقة لأن تعظم بالإقسام بها فيدل
على تعظيم المقسم عليه وتأكيده من طريق الكناية فذلك إشارة إلى
المقسم به وما فيه من معنى البعد لزيارة تعظيمه أي هل فيما ذكر
من الأشياء قَسَمٌ أي مقسم به لِذِي حِجْرٍ أي هل يحق عنده أن
يقسم به إجلالا وتعظيما، والمراد تحقيق أن الكل كذلك وإنما
أوثرت هذه الطريق هضما للحق وإيذانا بظهور الأمر، وهذا كما
يقول المتكلم بعد ذكر دليل واضح الدلالة على مدعاة هل دل هذا
على ما قلناه. وجوز أن يكون التحقيق أن ذوي الحجر يؤكدون بمثل
ذلك المقسم عليه فيدل أيضا على تعظيمه وتأكيده فذلك إشارة إلى
المصدر أعني الإقسام هل في إقسامي بتلك الأشياء إقسام لذي حجر
مقبول عنده يعتد به ويفعل مثله ويؤكد به المقسم عليه؟ وحاصل
الوجهين فيما يرجع إلى تأكيد المقسم
(15/336)
عليه واحد إلّا أن الوجه مختلف كما لا
يخفى، ولعل الأول أظهر والحجر العقل لأنه يحجر صاحبه أي يمنعه
من التهافت فيما لا ينبغي، كما سمي عقلا ونهية لأنه يعقل وينهى
وحصاة من الإحصاء وهو الضبط. وقال الفرّاء: يقال إنه لذو حجر
إذا كان قاهرا لنفسه ضابطا لها والمقسم عليه محذوف وهو ليعذبن
كما ينبىء عنه قوله تعالى شأنه أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ
رَبُّكَ بِعادٍ إلخ فإنه استشهاد بعلمه صلّى الله عليه وسلم
بما يدل عليه من تعذيب عاد وأضرابهم المشاركين لقومه عليه
الصلاة والسلام في الطغيان والفساد على طريقة أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ [البقرة: 258]
الآية وقوله سبحانه أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ
يَهِيمُونَ [الشعراء: 225] وقال أبو حيان: الذي يظهر أنه محذوف
يدل عليه ما قبله من آخر سورة [الغاشية: 25، 26] وهو قوله
تعالى إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا
حِسابَهُمْ وتقديره لإيابهم إلينا وحسابهم علينا. وأخرج ابن
المنذر عن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ وَالْفَجْرِ- إلى
قوله سبحانه- إِذا يَسْرِ فقال: هذا قسم على أن ربك لبالمرصاد
وإلى أنه هو المقسم عليه ذهب ابن الأنباري. وعن مقاتل أنه هل
في ذلك إلخ وهل بمعنى أن وهو باطل رواية ودراية إذ يبقى عليه
قسم بلا مقسم عليه. والمراد بعاد أولاد عاد بن عاص بن أرم بن
سام بن نوح عليه السلام قوم هود عليه السلام سموا باسم أبيهم
كما سمّي بنو هاشم هاشما وإطلاق الأب على نسله مجاز شائع حتى
ألحق بعضه بالحقيقة وقد قيل لأوائلهم عاد الأولى، ولأواخرهم
عاد الآخرة. قال عماد الدين بن كثير: كلما ورد في القرآن خبر
عاد فالمراد بعاد فيه عاد الأولى إلّا ما في سورة الأحقاف،
ويقال لهم أيضا إرم تسمية لهم باسم جدهم والتسمية بالجد شائعة
أيضا وهو اسم خاص بالأولى وعليه قول ابن الرقيات:
مجدا تليدا بناه أوله ... أدرك عادا وقبلها إرما
ونحوه قوله زهير:
وآخرين ترى الماذي عدتهم ... من نسج داود أو ما أورثت إرما
فقوله تعالى إِرَمَ عطف بيان لعاد للإيذان بأنهم عاد الأولى
تجوز أن يكون بدلا، ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث باعتبار
القبيلة، وصرف عاد باعتبار الحي، وقد يمنع من الصرف باعتبار
القبيلة أيضا. وقرأ الضحاك بذلك في إحدى الروايتين عنه ورجح
اعتبار الصرف فيه بخفته لسكون وسطه، وقدر بعضهم مضافا في
الكلام أي سبط إرم وجعل إرم عليه اسم أمهم وهو قول فيه حكاه في
القاموس. ووجه منع الصرف فيه ظاهر، وأبى بعضهم إلّا جعله اسم
جدهم ومعنى كونهم سبطه أنهم ولد ولده ولا يظهر على هذا علة منع
صرفه ولعل ذلك هو الذي دعا إلى جعله اسم أمهم، لكن رأيت في
تعليقات بعض الأفاضل على الحواشي العصامية على تفسير البيضاوي
أن إرم إنما منع من الصرف سواء كان اسما للقبيلة أم لجدها
للعلمية والعجمة، وقال إنهما موجودتان في عاد أيضا إلا أنه
لكونه ثلاثيا ساكن الوسط يجوز فيه الأمران الصرف وعدمه، وزعم
أن هذا هو الحق وبكونه اسم القبيلة قال مجاهد وقتادة وابن
إسحاق ولا حاجة معه إلى تقدير مضاف، فقوله تعالى ذاتِ
الْعِمادِ صفة ل إِرَمَ نفسها والمراد ذات القدود الطوال على
تشبيه قاماتهم بالأعمدة، ومنه قولهم رجل معمد وعمدان إذا كان
طويلا وروي هذا عن ابن عباس ومجاهد واشتهر أنه كان قد أحدهم
اثني عشر ذراعا وأكثر. وفي تفسير الكواشي قالوا: كان طول
الطويل منهم أربعمائة ذراع، وكان أحدهم يأخذ الصخرة العظيمة
فيقلبها على الحي فيهلكهم. عن قتادة وابن عباس في رواية عطاء
المراد ذات الخيام والأعمدة وكانوا سيارة في الربيع، فإذا هاج
النبت رجعوا إلى منازلهم. وقال غير واحد: كانوا بدويين أهل
عمدة وخيام يسكنونها حلا
(15/337)
وارتحالا. وقيل: المراد ذات الرفعة أو ذات
الوقار أو ذات الثبات وطول العمر والكل على الاستعارة. وقوله
تعالى الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ صفة أخرى
لها أي لم يخلق مثلهم في عظم الأجرام والقوة في بلاد الدنيا،
وقد سمعت ما نقل عن الكواشي آنفا وما ذكر فيه من أنه كان أحدهم
إلخ. جاء في حديث مرفوع أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن
المقدام بن معد يكرب. وقيل: إرم اسم مدينة لهم قال محمد بن كعب
هي الإسكندرية. وقال ابن المسيب والمقبري: هي دمشق، وقيل اسم
أرضهم وهي بين عمان وحضرموت وهي أرض رمال وأحقاف فقد قال
سبحانه وتعالى وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ
بِالْأَحْقافِ [الأحقاف: 21] وبهذا اعترض القول بأن مدينتهم
الإسكندرية، والقول بأنها دمشق حيث إنهما ليستا من بلاد
الأحقاف والرمال إلا أن يقال ما هنا عاد الأولى، وما في آية
الأحقاف عاد الآخرة، ويلتزم عدم اتحاد منازلهما. وعلى القول
بكونه اسم مدينتهم أو اسم أرضهم فهو بتقدير مضاف لتصحيح
التبعية أي أهل إرم. وقيل: يقدر مضاف في جانب المتبوع أي
بمدينة أو بأرض عاد إرم وهو كما ترى ومنع الصرف على الوجهين
لما سمعت، والأكثرون على أنها اسم مدينة عظيمة في أرض اليمن
والوصفان لها، والمراد ذات البناء الرفيع أو ذات الأساطين التي
لم يخلق مثلها سعة وحسن بيوت وبساتين في بلاد الدنيا، ويروى
أنه كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا وقهرا ثم مات شديد وخلص
الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة
فقال: أبني مثلها فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلاثمائة سنة
وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة
وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار
المطردة. ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته، فلما كان منها
مسيرة يوم وليلة بعث الله تعالى عليهم صيحة من السماء فهلكوا.
وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها فحمل
ما قدر عليه مما ثمّ، وبلغ خبره معاوية فاستحضره فقصّ عليه
فبعث إلى كعب فسأله، فقال: هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من
المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه
خال، يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة، فقال: هذا
والله ذلك الرجل. وخبر شداد المذكور
أخوه في الضعف بل لم تصح روايته كما ذكره الحافظ ابن حجر فهو
موضوع كخبر ابن قلابة. وروي عن مجاهد أن إِرَمَ مصدر أرم يأرم
إذا هلك، فأرم بمعنى هلاك منصوب على نحو نصب المصدر التشبيهي
مضاف إلى ذاتِ والَّتِي صفة ل ذاتِ الْعِمادِ مرادا بها
المدينة وكيف فعل في قوة كيف أهل فكأنه قيل: ألم تر كيف أهلك
ربك عادا كهلاك ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وهو
قول غريب غير قريب. وقرأ الحسن «يعاد رام» بإضافة عاد إلى إرم
فجاز أن يكون إرم جدا والوصفان لعاد، وأن يكون مدينة والوصفان
لازم وجوز أن يكون لعاد. وقرأ ابن الزبير «بعاد أرم» بالإضافة
أيضا إلّا أن أرم بفتح الهمزة وكسر الراء، قيل: وهي لغة في
المدينة لا غير. وعن الضحاك أنه قرأ «بعاد» مصروفا وغير مصروف
«أرم» بفتح الهمزة وسكون الراء للتخفيف وأصله أرم كفخذ. وقرىء
«إرم ذات» بإضافة إرم إلى ذات فقيل الإرم عليه العلم والمعنى
بعاد أعلام ذات العماد وهي مدينتهم، والَّتِي صفة ل ذاتِ
الْعِمادِ على الأظهر. وعن ابن عباس أنه قرأ «أرم» بالتشديد
فعلا ماضيا ذات بالنصب على المفعول به أي جعل الله تعالى ذات
العماد رميما، ويكون أرم على ما في البحر بدلا من فعل أو
تبيينا له، والمراد بذات العماد عليه إما عاد نفسها ويكون فيه
وضع المظهر موضع المضمر والنكتة فيه ظاهرة، وإما مدينتهم ويكون
جعلها رميما أي إهلاكها كناية عن جعلهم كذلك. وقرأ ابن الزبير
«لم يخلق» مبنيا للفاعل وهو ضميره عز وجل مثلها بالنصب على
المفعولية، وعنه أيضا «لم نخلق» بنون العظمة.
(15/338)
وَثَمُودَ عطف على (عاد) وهي قبيلة مشهورة
سميت باسم جدهم ثمود أخي جديس وهما ابنا عابر بن أرم بن سام بن
نوح عليه السلام، كانوا عربا من العاربة يسكنون الحجر بين
الحجاز وتبوك، وكانوا يعبدون الأصنام ومنع الصرف للعملية
والتأنيث. وقرأ ابن وثاب بالتنوين صرفه باعتبار الحي كذا
قالوا، وظاهره أنه عربي. وقد صرح بذلك فقيل هو فعول من الثمد
وهو الماء القليل الذي لا مادة له ومنه قيل: فلان مثمود ثمدته
النساء أي قطعن مادة مائه لكثرة غشيانه لهن، ومثمود إذا كثر
عليه السؤال حتى نفدت مادة ماله. وحكى الراغب أنه عجمي فمنع
الصرف للعلمية والعجمة الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ أي قطعوا
صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتا نحتوها من الصخر كقوله تعالى
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [الشعراء: 149] قيل أول
من نحت الحجارة والصخور والرخام ثمود وبنوا ألفا وسبعمائة
مدينة كلها بالحجارة، ولا أظن صحة هذا البناء بِالْوادِ هو
وادي القرى، وقرىء بالياء آخر الحروف، والباء للظرفية، والجار
والمجرور متعلق بجابوا أو بمحذوف هو حال من الفاعل أو المفعول.
وقيل: الباء للآلة أو السببية متعلقة بجابوا أي جابوا الصخر
بواديهم أو بسببه، أي قطعوا الصخر وشقوه وجعلوه واديا ومحلا
لمائهم فعل ذوي القوة والآمال وهو خلاف الظاهر وأيّا ما كان
فالجواب القطع والظاهر أنه حقيقة فيه تقول جبت البلاد أجوبها
إذا قطعتها. قال الشاعر:
ولا رأيت قلوصا قبلها حملت ... ستين وسقا ولا جابت بها بلدا
ومنه الجواب لأنه يقطع السؤال. وقال الراغب: الجوب قطع الجوبة
وهي الغائط من الأرض ثم يستعمل في قطع كل أرض، وجواب الكلام هو
ما يقطع الجوب فيصل من فم القائل إلى سمع المستمع لكنه خص بما
يعود من الكلام دون المبتدأ من الخطاب انتهى. فاختر لنفسك ما
يحلو وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ وصف بذلك لكثرة جنوده
وخيامهم التي يضربون أوتادها في منازلهم أو لأنه كان يدق
المعذب أربعة أوتاد ويشده بها مبطوحا على الأرض فيعذبه بما
يريد من ضرب أو إحراق أو غيره وقد تقدم الكلام في ذلك
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ إما مجرور على أنه صفة
للمذكورين عاد ومن بعده أو منصوب أو مرفوع على الذم أي طغى كل
طاغية منهم في البلاد، وكذا الكلام في قوله تعالى فَأَكْثَرُوا
فِيهَا الْفَسادَ أي بالكفر وسائر المعاصي فَصَبَّ عَلَيْهِمْ
رَبُّكَ أي أنزل سبحانه إنزالا شديدا على كل طائفة من أولئك
الطوائف عقيب ما فعلت من الطغيان والفساد سَوْطَ عَذابٍ أي
سوطا من عذاب على أن الإضافة بمعنى من، والعذاب بمعنى المعذب
به، والمراد بذلك ما حل بكل منهم من فنون العذاب التي شرحت في
سائر السور الكريمة. والسوط في الأصل مصدر من ساط يسوط إذا
خلط، قال الشاعر:
أحارث إنا لو تساط دماؤنا ... تزايلن حتى لا يمس دم دما
وشاع في الجلد المضفور والذي يضرب به، وسمي به لكونه مخلوط
الطاقات بعضها ببعض، أو لأنه يخلط اللحم بالدم والتعبير عن
إنزاله بالصب للإيذان بكثرته وتتابعه واستمراره فإنه عبارة عن
إراقة شيء مائع أو جار مجراه في السيلان كالحبوب والرمل
وإفراغه بشدة وكثرة واستمرار، ونسبته إلى السوط مع أنه على ما
سمعت ليس من هذا القبيل باعتبار تشبيهه في سرعة نزوله بالشيء
المصبوب، وتسمية ما أنزل سوطا قيل للإيذان بأنه على عظمه
بالنسبة إلى ما أعد لهم في الآخرة كالسوط بالنسبة إلى سائر ما
يعذب به في الكشف أن إضافة السوط إلى العذاب تقليل لما أصابهم
منه، ولا يأبى ذلك التعبير بالصب المؤذن بالكثرة لأن القلة
والكثرة من الأمور النسبية. وجوز أن يراد بالعذاب التعذيب
والإضافة حينئذ على معنى اللام وأمر التعبير بالصب
(15/339)
والتسمية بالسوط على ما تقدم. والآية من
قبيل قوله تعالى فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ [النحل:
112] وجوز أن تكون الإضافة كالإضافة في لجين الماء أي فصب
عليهم ربك عذابا كالسوط على معنى أنواعا من العذاب مخلوطا
بعضها ببعض اختلاط طاقات السوط بعضها ببعض، وأن يكون السوط
مصدرا بمعنى المفعول والإضافة كالإضافة في جرد قطيفة أي فصب
عليهم ربك عذابا مسوطا أي مخلوطا، ومآله فصب أنواعا من العذاب
خلط بعضها ببعض. وفي الصحاح سَوْطَ عَذابٍ أي نصيب عذاب ويقال
شدته لأن العذاب قد يكون بالسوط، وأراد أن الغرض التصوير
والأليق بجزالة التنزيل ما تقدم إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ
تعليل لما قبله وإيذان بأن كفار قومه صلّى الله عليه وسلم
سيصيبهم مثل ما أصاب أضرابهم المذكورين من العذاب كما ينبىء
عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة
والسلام، والمرصاد المكان الذي يقوم به الرصد ويترقبون فيه
مفعال من رصده كالميقات من وقته. وفي الكلام استعارة تمثيلية
شبه كونه تعالى حافظا لأعمال العصاة على ما روي عن الضحاك
مترقبا لها ومجازيا على نقيرها وقطميرها بحيث لا ينجو منه
سبحانه أحد منهم بحال من قعد على الطريق مترصدا لمن يسلكها
ليأخذه فيوقع به ما يريد، ثم أطلق لفظ أحدهما على الآخر والآية
على هذا وعيد للعصاة مطلقا. وقيل: هي وعيد للكفرة وقيل: وعيد
للعصاة ووعد لغيرهم وهو ظاهر قول الحسن، أي يرصد سبحانه أعمال
بني آدم. وجوز ابن عطية كون المرصاد صيغة مبالغة كالمطعام
والمطعان، وتعقبه أبو حيان بأنه لو كان كما زعم لم تدخل الباء
لأنها ليست في مكان دخولها لا زائدة ولا غير زائدة، وأجيب
بأنها على ذلك تجريدية نعم يلزمه إطلاق المرصاد على الله عز
وجل وفيه شيء.
وقوله تعالى فَأَمَّا الْإِنْسانُ إلخ متصل بما عنده كأنه قيل
إنه سبحانه لبالمرصاد من أجل الآخرة فلا يطلب عز وجل إلّا
السعي لها، فأما الإنسان فلا يهمه إلّا الدنيا ولذاتها، فإن
نال منها شيئا رضي الله وإلّا سخط وكان اللائق أن لا يهمه إلا
ما يطلبه الله عز وجل ولا يكون حاله ذلك. وقيل: هو متصل به
متفرع عليه على معنى فالإنسان يؤاخذ لا محالة لأنه بين غنى
مهلك موجب للتكبر والافتخار بالدنيا، وبين فقر لا يصبر عليه
ويكفر لأجله بالجزع والقول بما لا ينبغي وهو كما ترى إِذا مَا
ابْتَلاهُ رَبُّهُ أي عامله معاملة من يبتليه بالغنى واليسار
ليرى هل يشكر أم لا. والفاء في قوله سبحانه فَأَكْرَمَهُ
وَنَعَّمَهُ تفسيرية فإن الإكرام والتنعيم عين المراد
بالابتلاء، ولما كان الإكرام والتنعيم في حكم شيء واحد اقتصر
على قوله أَكْرَمَنِ في قوله سبحانه فَيَقُولُ رَبِّي
أَكْرَمَنِ ولم يضم إليه ونعمتي. وهذه الجملة خبر للمبتدأ الذي
هو الإنسان، والفاء لما في أما من معنى الشرط والظرف أعني إذا
متعلق بيقول وهو على نية التأخير ولا تمنع الفاء من ذلك كما
صرح به الزمخشري وغيره من متقدمي النحاة وتبعهم من بعدهم كأبي
حيان والسمين والسفاقسي مع جمع غفير من المفسرين، وهو كما قال
الشهاب الحق الذي لا محيد عنه، وخالفهم في ذلك الرضي ومن تبعه
كالبدر الدماميني في شرح المغني، فقالوا: إنما يجوز تقديم ما
بعد الفاء عليها إذا كان المقدم هو الفاصل بين أما والفاء لما
يتعلق بتقديمه من الأغراض فإن كان ثمت فاصل آخر امتنع تقديم
غيره فيمتنع أما زيد طعامك فآكل وإن جاز أما طعامك فزيد آكل،
وقالوا في ذلك أنهم لما التزموا حذف الشرط لزم دخول أداته على
فاء الجواب وهو مستكره فدعت الضرورة للفصل بينهما بشيء مما بعد
الفاء والفاصل الواحد كاف فيه فيجب الاقتصار عليه. وزعم الجلبي
محشي المطول أن هذا متفق عليه فرد به على المفسرين إعرابهم
السابق وقال إنه خطأ، والصواب أن يجعل الظرف متعلقا بمقدر وهو
ابتدأ في الحقيقة، والتقدير فأما شأن الإنسان إذا إلخ. فالظرف
(15/340)
من تتمة الجزء المفصول وبه ليس فاصلا ثانيا
كقولك: أما احسان زيد إلى الفقير فحسن، ويريد على تقديره أنه
لا يصح وقوع جملة يقول خبرا عن الشأن إلّا بتعسف كأن يكون
الفعل بتأويل المصدر وإن لم تكن معه في اللفظ أن المصدرية كما
قيل في:
تسمع بالمعيدي خير من أن تراه وهو فرار من السحاب إلى الميزاب
وذهب أبو البقاء إلى أن إِذا شرطية وقوله تعالى فَيَقُولُ
جوابها والجملة الشرطية خبر الإنسان ويلزمه حذف الفاء بدون
القول وقد قيل إنه ضرورة. وقوله عز وجل وَأَمَّا إِذا مَا
ابْتَلاهُ عامله معاملة من يبتليه ويختبره بالحاجة والفقر ليرى
هل يصبر أم لا فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي
أَهانَنِ بتقدير وأما هو أي الإنسان إذا ما ابتلاه إلخ ليصح
التفصيل ويتم التوازن، وبقية الكلام فيه كما في سابقه. والظاهر
أن كلتا الجملتين متضمنة لإنكار قول الإنسان الذي تضمنته
وإنكار قوله إذا ضيق عليه رزقه رَبِّي أَهانَنِ لدلالته على
قصور نظره وسوء فكره حيث حسب أن تضييق الرزق إهانة مع أنه قد
يؤدي إلى كرامة الدارين ولعدم كونه إهانة أصلا لم يقل سبحانه
في تفسير الابتلاء فأهانه «وقدر عليه رزقه» نظير ما قال سبحانه
أولا فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ وإنكار قوله إذا أكرم ربي
أكرمني مع قوله تعالى فَأَكْرَمَهُ أولا من حيث إنه أثبت إكرام
الله تعالى له على خلاف ما أثبت الله تعال وهو قصد أن الله
تعالى أعطاه ما أعطاه إكراما له مستحقا ومستوجبا قصدا جاريا
على ما كانوا عليه من افتخارهم وزعمهم جلالة أقدارهم. والحاصل
أن المنكر كونه عن استحقاق لحسب أو نسب في المفصل ما يدل على
أن أصل الإكرام منكر لا كونه عن استحقاق، وإنكار أصل الإهانة
يعضده. ووجهه ما أثبته تعالى من الإكرام أن الله عز وجل أثبت
الإكرام بإيتاء المال والتوسعة وهو جعله إكراما كليا مثبتا
للزلفى عنده تعالى فأنكر أنه ليس من ذلك الإكرام في شيء، وجوز
أن يكون الإنكار للإهانة فقط يعني أنه إذا تفضل عليه بالخير
وأكرم به اعترف بتفضل الله تعالى وإكرامه، وإذا لم يتفضل عليه
سمى ترك التفضل هوانا وليس به قيل، ويعضده ذكر الإكرام في قوله
تعالى فَأَكْرَمَهُ وفي الآية مع ما بعد شمة من أسلوب قوله
تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ
الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً
[المعارج: 19- 21] ولا يخفى أن الوجه هو الأول. وقرأ ابن كثير
«أكرمني» و «أهانني» بإثبات الياء فيهما ونافع بإثباتها وصلا
وحذفها وقفا وخير في الوجهين أبو عمرو وحذفها باقي السبعة
فيهما وصلا ووقفا من حذفها وقفا سكن النون فيه. وقرأ أبو جعفر
وعيسى وخالد والحسن بخلاف عنه وابن عامر «فقدّر» بتشديد الدال
للمبالغة.
كَلَّا ردع للإنسان عن قوليه المحكيين وتكذيب له فيهما لا عن
الأخير فقط كما في الوجه الأخير، وقد نص الحسن على ما قلنا
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: المعنى لم أبتله بالغنى
لكرامته عليّ ولم أبتله بالفقر لهوانه عليّ بل ذلك لمحض القضاء
والقدر. وقوله سبحانه بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ إلخ
انتقال وترق من ذمه بالقبيح من القول إلى الأقبح من الفعل
والالتفات إلى الخطاب لتشديد التقريع وتأكيد التشنيع.
وقيل: هو بتقدير قل فلا التفات. نعم فيه من الإشارة إلى
تنقيصهم ما فيه والجمع باعتبار معنى الإنسان إذ المراد هو
الجنس أي بل لكم أفعال وأحوال أشد شرا مما ذكر وأدل على
تهالككم على المال حيث يكرمكم الله تعالى بكثرة المال فلا
تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم بالمبرة به والإحسان
إليه.
وفي الحديث «أحب البيوت إلى الله تعالى بيت فيه يتيم مكرم» .
وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء وقتادة والجحدري وأبو
(15/341)
عمرو «لا يكرمون» بياء الغيبة وَلا
تَحَاضُّونَ بحذف إحدى التاءين من تتحاضون أي ولا يحض ويحث
بعضكم بعضا عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي على إطعامه فالطعام
مصدر بمعنى الإطعام كالعطاء بمعنى الإعطاء.
وزعم أبو حيان أن الأولى أن يراد به الشيء المطعوم، ويكون
الكلام على حذف مضاف أي على بذل طعام المسكين، والمراد
بالمسكين ما يعم الفقير. وقرأ عبد الله وعلقمة وزيد بن عليّ
وعبد الله بن المبارك والشيرزي عن الكسائي كقراءة الجماعة إلّا
أنهم ضموا تاء «تحاضون» من المحاضة. وقرأ أبو عمرو ومن سمعت
الحسن ومن معه «ولا يحضون» بياء الغيبة ولا ألف بعد الحاء،
وباقي السبعة بتاء الخطاب كذلك وكذا الفعلان بعد والفعل على
القراءتين جوز أن يكون متعديا ومفعوله محذوف. فقيل أنفسهم أو
أنفسكم، وقيل أهليهم أو أهليكم، وقيل أحدا. وجوز وهو الأولى أن
يكون منزلا منزلة اللازم للتعميم. وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أي
الميراث وأصله وارث فأبدلت الواو تاء كما في تخمنة وتكأة
ونحوهما أَكْلًا لَمًّا أي ذا لمّ أو هو نفس اللم على المبالغة
واللم الجمع، ومنه قوله النابغة:
ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث أي الرجال المهذب
والمراد به هنا الجمع بين الحلال والحرام وما يحمد وما لا
يحمد، ومنه قول الحطيئة:
إذا كان لما يتبع الذم ربه ... فلا قدس الرحمن تلك الطواحنا
يعني إنكم تجمعون في أكلكم بين نصيبكم من الميراث ونصيب غيركم.
ويروى أنهم كانوا لا يورّثون النساء ولا صغار الأولاد فيأكلون
نصيبهم. ويقولون: لا يأخذ الميراث إلّا من يقاتل ويحمي الحوزة
هذا وهم يعلمون من شريعة إسماعيل عليه السلام أنهم يرثون
فاندفع ما قيل إن السورة مكية وآية المواريث مدنية ولا يعلم
الحل والحرمة إلّا من الشرع، فإن الحسن والقبح العقليين ليسا
مذهبا لنا. وقيل يعني تأكلون ما جمعه الميت الموروث من حلال
وحرام عالمين بذلك فتلمون في الأكل بين حلاله وحرامه. وفي
الكشاف يجوز أن يذم الوارث الذي ظفر بالمال سهلا مهلا من غير
أن يعرق فيه جبينه فيسرف في إنفاقه ويأكله أكلا واسعا جامعا
بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه ونحوها كما
يفعله الورّاث الباطلون، وتعقب بأنه غير مناسب للسياق.
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا أي كثيرا كما قال ابن عباس
وأنشد قول أمية:
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
والمراد أنكم تحبونه مع حرص وشره كَلَّا ردع لهم عن ذلك وقوله
تعالى إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا إلى آخره استئناف
جيء به بطريق الوعيد تعليلا للردع. والدك قال الخليل: كسر
الحائط والجبل ونحوها وتكريره للدلالة على الاستيعاب فليس
الثاني تأكيد للأول بل ذلك نظير الحال في نحو قولك: جاؤوا رجلا
رجلا، وعلمته الحساب بابا بابا أي إذا دكت الأرض دكا متتابعا
حتى انكسر وذهب كل ما على وجهها من جبال وأبنية وقصور وغيرها
حين زلزلت المرة بعد المرة وصارت هباء منثورا. وقال المبرد:
الدك حط المرتفع بالبسط والتسوية، واندكّ سنام البعير إذا
افترش في ظهره، وناقة دكّاء إذا كانت كذلك، والمعنى عليه إذا
سويت تسوية بعد تسوية ولم يبق على وجهها شيء حتى صارت كالصخرة
الملساء، وأيّا ما كان فهو على ما قيل عبارة عما عرض للأرض عند
النفخة الثانية وَجاءَ رَبُّكَ قال منذر بن سعيد: معناه ظهر
سبحانه للخلق هنالك وليس ذلك بمجيء نقلة وكذلك مجيء الطامة
والصاخة. وقيل: الكلام على حذف المضاف للتهويل، أي وجاء أمر
ربك وقضاؤه سبحانه واختار جمع أنه تمثيل لظهور آيات اقتداره
تعالى وتبين آثار قدرته
(15/342)
عز وجل وسلطانه عز سلطانه مثلت حاله سبحانه
في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه ظهر لمحضوره من آثار الهيبة
والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره ووزرائه وخواصه عن بكرة
أبيهم، وأنت تعلم ما للسلف في المتشابه من الكلام وَالْمَلَكُ
أي جنس الملك فيشتمل جمع ملائكة السماوات عليهم السلام صَفًّا
صَفًّا أي مصطفين أو ذوي صفوف فإنه قيل: ينزل يوم القيامة
ملائكة كل سماء فيصطفون صفا بعد صف بحسب منازلهم ومراتبهم
محدقين بالجن والإنس، وقيل: يصطفون بحسب أمكنة أمور تتعلق بهم
وهو قريب مما ذكر. وروي أن ملائكة كل سماء تكون صفا حول الأرض
فالصفوف سبعة على ما هو الظاهر. وقال بعض الأفاضل: الظاهر أن
الملك أعم من ملائكة السماوات وغيرها وتعريفه للاستغراق وادعى
أن اصطفافهم بحسب مراتبهم اصطفاف أهل الدنيا في الصلاة وظاهره
أنه اصطفاف من غير تحديق ورأيت غير أثر في أنهم يصطفون محدقين
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ قيل هو كقوله تعالى
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ [الشعراء: 91] لمن يرى على أن يكون
مجيئها متجوزا به عن إظهارها واختبر أنه على حقيقته
فقد أخرج مسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
وابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه
وسلم: «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون
ألف ملك يجرونها» . وفي رواية بزيادة «حتى تنصب عن يسار العرش
لها تغيظ وزفير»
وجاء في بعض الآثار أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلّى
الله عليه وسلم فناجاه ثم قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم
الصلاة والسلام منكسر الطرف فسأله عليّ كرم الله وجهه تعالى
فقال صلّى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل عليه السلام بهذه
الآية كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ الآية. فقال له عليّ كرم
الله تعالى وجهه: كيف يجاء بها؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه
وسلم: «تقاد بسبعين ألف زمام كل زمام يقوده سبعون ألف ملك،
فبينما هم كذلك إذ شردت عليهم شردة انفلتت من أيديهم فلولا
أنهم أدركوها فأخذوها لأحرقت من في الجمع»
وفي رواية لولا أن الله تعالى حسبها لأحرقت السماوات والأرض،
وتأويل كل ما ذكر ونحوه مما ورد وحمله على المجاز لا يدعو إليه
إلا استحالة الانتقال الذي يقتضيه المجيء الحقيقي على جهنم وهو
لعمري غير مستحيل، فيجوز أن تخرج وتنتقل من محلها في المحشر ثم
تعود إليه، والحال في ذلك اليوم وراء ما تتخيله الأذهان.
يَوْمَئِذٍ بدل من إِذا دُكَّتِ وظاهر كلام الزمخشري أن العامل
فيه هو العامل نفسه في المبدل منه أعني قوله تعالى يَتَذَكَّرُ
الْإِنْسانُ وهو قول قد نسب إلى سيبويه. وفي البحر المشهور
خلافه وهو أن البدل على نية تكرار العامل والظاهر عندي الأول
ويتذكر من الذكر ضد النسيان أي يتذكر الإنسان ما فرط فيه
بتفاصيله بمشاهدة آثاره وأحكامه، أو بإحضار الله تعالى إياه في
ذهنه وإخطاره له وإن لم يشاهد بعد أثرا أو بمعاينة عينه بناء
على أن الأعمال تتجسم في النشأة الآخرة فتبرز بما يناسبها من
الصور حسنا وقبحا أو من التذكر بمعنى الاتعاظ، أي يتعظ بما يرى
من آثار قدرة الله عز وجل وعظيم عظمته تعالى وشأنه. وقوله
تعالى وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى اعتراض جيء به لتحقيق أنه ليس
بتذكر حقيقة لعرائه عن الجدوى لعدم وقوعه في أوانه وأَنَّى خبر
مقدم والذِّكْرى مبتدأ ولَهُ متعلق بما تعلق به الخبر، أي ومن
أين تكون له الذكرى وقد فات أوانها، وقيل: هناك مضاف محذوف أي
وأنى له منفعة الذكرى ولا بد من تقديره لئلا يكون تناقض وقد
علمت أن هذا يتحقق بما قرر أولا على أنه إذا جعل اختصاص اللام
مقتصرا على النافع استقام من غير تقدير، ويكون إنكار أن تكون
الذكرى له لا عليه. وأما كونه حكاية لما كان عليه في الدنيا من
عدم الاعتبار والاتعاظ فليس بشيء. واستدل بالآية على أن التوبة
من حيث هي توبة غير واجبة القبول عقلا كما زعم
(15/343)
المعتزلة بناء على وجوب الأصلح عندهم، وقيل
في توجيهه إنه لو وجب قبولها لوجب قبول هذا التذكر فإنه توبة
إذ هي كما بيّن محله في الندم على المعصية من حيث هي معصية،
والعزم على أن لا يعود لها إذا قدر عليها ولم يعتبر أحد في
تعريفها كونها في الدنيا وإن كانت النافعة منها لا تكون إلّا
فيها وهذا التذكر هو عين الندم المذكور. وقد صرح الضحاك كما
أخرجه عنه ابن أبي حاتم بأنه توبة ولم تقبل لعدم ترتب المنفعة
عليه التي هي من لوازم القبول، واعترض بأن المعتزلة إنما
يقولون بوجوب قبولها بشرط عدم رفع التكاليف وقيل إن تذكره ليس
من التوبة في شيء فإنه عالم بأنها إنما تكون في الدنيا كما
يعرب عنه قوله تعالى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي
ويعلم ما فيه مما تقدم من توجيه الاستدلال فلا تغفل. وهذه
الجملة بدل اشتمال من يتذكر أو استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ
منه كأنه قيل: ماذا يقول عند تذكره؟ فقيل: يقول يا ليتني إلخ.
واللام للتعليل والمراد بحياته حياته في الآخرة، ومفعول
قَدَّمْتُ محذوف فكأنه قال: يا ليتني قدمت لأجل حياتي هذه
أعمالا صالحة انتقع بها فيها. وقيل: اللام للتعليل إلّا أن
المعنى يا ليتني قدمت أعمالا صالحة لأجل أن أحيا حياة نافعة،
وقال ذلك لأنه لا يموت ولا يحيا حينئذ وهو كما ترى. ويجوز أن
تكون اللام توقيتية مثلها في نحو كتبته لخمس عشرة ليلة مضين من
المحرم، وجئت لطلوع الشمس ويكون المراد بحياته حياته في الدنيا
أي يا ليتني قدمت وعملت أعمالا صالحة وقت حياتي في الدنيا
لأنتفع بها اليوم، وليس في هذا التمني شائبة دلالة على استقلال
العبد بفعله وإنما يدل على اعتقاد كونه متمكنا من تقديم
الأعمال الصالحة، وإما أن ذلك بمحض قدرته تعالى أو بخلق الله
عز وجل عند صرف قدرته الكاسبة إليه فكلا وزعمه الزمخشري دليلا
على الاستقلال ورد به على المجبرة وهم عنده غير المعتزلة زعما
منه المنافاة بين التمني والحجر. وقد علمت أنه لا دلالة على
ذلك. وفي الكشف أن التمني قد يقع على المستحيل على أنه حالتئذ
كالغريق هذا وأهل الحق لا يقولون بسلب الاختيار بالكلية.
فَيَوْمَئِذٍ أي يوم إذ يكون ما ذكر من الأحوال والأقوال لا
يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ الهاء
إما لله عز وجل أي لا يتولى عذاب الله تعالى ووثاقه سبحانه أحد
سواه عز وجل وكأنه قيل: لا يفعل عذاب الله تعالى ووثاقه ولا
يباشرهما أحد، وذلك لأن الفعل في ضمن كل فعل خاص واستعمل ذلك
استعمالا شائعا في مثل:
وقد حيل بين العير والنزوان وإن نظن إلّا ظنا فالعذاب مفعول به
وكذا الوثاق، وفيه تعظيم عذاب الله تعالى ووثاقه سبحانه لهذا
الإنسان الذي شرح من أحواله ما شرح على طريق الكناية. فما
ادعاه ابن الحاجب من عدم قوة المعنى على تقدير عود الضمير إليه
تعالى بناء على فوات التعظيم الذي يقتضيه السياق للغفول عن
نكتة الكناية، وإما للإنسان الموصوف والإضافة إلى المفعول أي
لا يعذب ولا يوثق أحد من الزبانية أحدا من أهل النار مثل ما
يعذبونه ويوثقونه كأنه أشدهم عذابا ووثاقا لأنه أشدهم سيئات
أفعال وقبائح أحوال وهو وجه حسن بل هو أرجح من الأول على ما
سنشير إليه إن شاء الله تعالى. وقرأ ابن سيرين وابن أبي إسحاق
وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وسلام والكسائي ويعقوب
وسهل وخارجة عن أبي عمرو: «لا يعذب» «ولا يوثق» بالبناء
للمفعول فالهاء في عذابه ووثاقه للإنسان الموصوف أي لا يعذب
أحد مثل عذابه ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه لتناهيه
في كفره وشقاقه ونصب العذاب على المصدرية واقع موقع التعذيب
إما لأنه بمعناه في الأصل كالسلام بمعنى
(15/344)
التسليم، ثم نقل إلى ما يعذب به أو لأنه
وضع موضعه كما يوضع العطاء موضع الإعطاء وكذلك الوثاق. وجوز أن
يكون المعنى لا يحمل عذاب الإنسان أحد ولا يوثق وثاقه أحد
كقوله تعالى وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام:
164، الإسراء: 15، فاطر: 18، الزمر: 7] والعذاب عليه جار على
المتعارف والنصب على تضمين التعذيب معنى التحميل والأول أنسب
بمقام التغليظ على هذا الإنسان المفرط أو أن التمكن والوجه
الثاني للقراءة الأولى مطابق لهذا كما لا يخفى، والمراد من أنه
لا يعذب أحد مثل عذابه أنه لا يعذب أحد من جنسه كالعصاة كذلك
فلا يلزم كونه أشد عذابا من إبليس ومن في طبقته، ثم إن الظاهر
أن المراد جنس المتصف بما ذكر وقيل: المراد به أمية بن خلف
وقيل أبيّ بن خلف وهو خلاف الظاهر وإن قيل إن الآية نزلت فيمن
ذكر وأما القول بأن هذا العذاب الموثق إبليس عليه اللعنة فليس
بشيء إذ لا يقال له إنسان، وكون الضمير له وإن لم يسبق له ذكر
لا للإنسان المذكور في قوله تعالى يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ
الْإِنْسانُ إلخ مما لا ينبغي أن يلتفت إليه. وقرأ أبو جعفر
وشيبة ونافع بخلاف عنه «وثاقه» بكسر الواو وقوله تعالى:
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ إلخ حكاية لأحوال من
اطمأن بذكر الله تعالى وطاعته عز وجل إثر حكاية من اطمأن
بالدنيا وسكن إليها. وذكر أن على إرادة القول أي يقول الله
تعالى يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ إلخ. إما بالذات كما كلم سبحانه
موسى عليه السلام أو على لسان الملك واستظهر أن ذل القول عند
تمام الحساب.
ولينظر التفاوت ما بين ذلك الإنسان وهذه النفس ذاك يقول يا
لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي وهذه يقول الله تعالى لها يا
أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ إلخ وكأنه للإيذان
بغاية التباين لم يذكر القول وتعطف الجملة على الجملة السابقة.
والنفس قيل بمعنى الذات ووصفت بالاطمئنان بذلك لأنها لترقى
بقوتها العاقلة في معارج الأسباب والمسببات إلى المبدأ المؤثر
بالذات جلت صفاته وأسماؤه فتضطرب وتقلق قبل الوصول إلى معرفته
تعالى، فإذا وصلت إليه عز وجل اطمأنت واستغنت به سبحانه عن
وجودها وسائر شؤونها ولم تلتفت إلى ما سواه جل وعلا بالكلية
وقيل: هي النفس المؤمنة المطمئنة إلى الحق الواصلة إلى ثلج
اليقين وبرودته بحيث لا يخالطها شك ما ولا يمازجها سخونة
اضطراب القلب في الحق أصلا وهو وجه حسن والارتباط عليه أن هذه
النفس هي المتعظة الذاكرة على خلاف الإنسان الموصوف فيما قبل
فإن التذكر على قدر قوة اليقين، ألا ترى إلى قوله تعالى
إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر: 9] وقيل هي
الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن يوم القيامة، أعني النفس
المؤمنة اليوم المتوفاة على الإيمان. وأيد بقراءة أبيّ يا
أيتها النفس الآمنة المطمئنة وكأنه لأن الوصفين يعتبر تناسبهما
في الأكثر وهي على هذا تقابل السابق وهو المتحسر والمتحزن.
وقرأ زيد بن علي «يا أيها» بغير تاء وذكر صاحب البديع أن أيا
قد تذكر مع المنادى المؤنث قيل ولذلك وجه من القياس وذلك أنها
كما لم تثن ولم تجمع في نداء المثنى والمجموع فكذلك لم تؤنث في
نداء المؤنث، واعتبار النفس هاهنا مذكرة ثم مؤنثة مما لا تلتفت
إليه النفس المطمئنة ارْجِعِي أي من حيث حوسبت إِلى رَبِّكِ أي
إلى محل عنايته تعالى وموقف كرامته عز وجل لك أولا وهذا لأن
للسعداء قبل الحساب كما يفهم من الأخبار موقفا في المحشر
مخصوصا يكرمهم الله تعالى به لا يجدون فيه ما يجده غيرهم في
مواقفهم من النصب، ومنه ينادي الواحد بعد الواحد للحساب فمتى
كان هذا القول عند تمام الحساب اقبضي أن يكون المعنى ما ذكر
الواحد بعد الواحد للحساب فمتى كان هذا القول عند تمام الحساب
اقبضي أن يكون المعنى ما ذكر ويجوز أن يكون المعنى ارجعي
بتخلية القلب عن الأعمال والالتفات إليها والاهتمام بأمرها
أتقبل أم لا، أي إلى
(15/345)
ملاحظة ربّك والانقطاع إليه وترك الالتفات
إلى ما سواه عز وجل كما كنت أولا كان النفس المطمئنة لما دعيت
للحساب شغل فكرها، وإن كانت مطمئنة بمقتضى الطبيعة وحال اليوم
بأمر الحساب وما ينتهي إليه وأنه ماذا يكون حال أعمالها أتقبل
أم لا، فلما تم حسابها وقبلت أعمالها قيل لها ذلك تطييبا
لقلبها بأن الأمر قد انتهى. وفرغ منه وليس بعد إلا كل خير.
ونداؤها بعنوان الاطمئنان لتذكيرها بما يقتضي الرجوع نظير قولك
لشجاع مشهور بالشجاعة أحجم في بعض المواقف يا أيها الشجاع أقدم
ولا تحجم، والظاهر أنه على الأول لا يناسبها ولا يخفى ما في
قوله سبحانه إِلى رَبِّكِ على الوجهين من مزيد اللطف بها ولذا
لم يقل نحو ارجعي إلى الله تعالى أو إليّ راضِيَةً أي بما
تؤتينه من النعم التي لا تتناهى وقد يقال راضية بما نلتيه من
خفة الحساب وقبول الأعمال وليس بذاك مَرْضِيَّةً أي عند الله
عز وجل قيل: المراد راضية عن ربك مرضية عنده، وزعم أنه الأظهر
واعترض بأنه غير مناسب للسياق وفيه نظر. والوصفان منصوبان على
الحال والظاهر أن الحال الأولى مقدرة وقيل مقارنة، وذكر الحال
الثانية من باب الترقي فقد قال سبحانه وتعالى رِضْوانٌ مِنَ
اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 72] .
فَادْخُلِي فِي عِبادِي في زمرة عبادي الصالحين المخلصين لي
وانتظمي في سلكهم وكوني في جملتهم وَادْخُلِي جَنَّتِي عطف على
الجملة قبلها داخلة معها في حيّز الفاء المفيدة لكون ما بعدها
عقيب ما قبلها من غير تراخ وكأن الأمر بالدخول في جملة عباد
الله تعالى الصالحين إشارة إلى السعادة الروحانية لكمال
استئناس النفس بالجليس الصالح، والأمر بدخول الجنة إشارة إلى
السعادة الجسمانية ولفضل الأولى على الثانية قدم الأمر الأول
وجيء بالثاني على وجه التتميم. ونكتة الالتفات فيهما ظاهرة
بأدنى التفات.
وتعدى الدخول أولا بفي وثانيا بدونها قال أبو حيان: لأن
المدخول فيه إن كان غير ظرف حقيقي تعدى إليه في الاستعمال بفي،
تقول: دخلت في الأمر ودخلت في غمار الناس وإذا كان ظرفا حقيقيا
تعدى إليه في الغالب بغير وساطتها فلا تغفل. وقيل المراد ارجعي
إلى موعد ربك واستظهر أن المراد بموعده تعالى على تقدير كون
القول المذكور بعد تمام الحساب ما وعده سبحانه من الجنة والكون
مع عباده تعالى الصالحين والفاء تفسيرية، واستشكل عليه الأمر
بالرجوع إذ يقتضي أن تكون الجنة مقرا للنفس قبل ذلك، وأجيب
بتحقق هذا المقتضى بناء على وجودها بالقوة في ظهر آدم عليه
السلام حين كان في الجنة وقد قيل نحو هذا في قوله تعالى إِنَّ
الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ
[القصص: 85] على ما
روي عن أمير المؤمنين عليّ كرم الله تعالى وجهه. وعن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما من أن المراد بالمعاد الجنة دون مكة
وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يتم إلّا على القول بأن جنة
آدم عليه السلام هي الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة لا
جنة أخرى كانت في الأرض، والخلاف في ذلك قوي كما لا يخفى على
من راجع كتاب مفتاح السعادة للعلامة ابن القيم واطلع على أدلة
الطرفين. وقيل: المراد ارجعي إلى أمر ربك، واستظهر أن المراد
بالأمر على ذلك التقدير واحد الأمور ويفسر بمعاملة الله تعالى
إياها بما ليس فيه ما يشغل بالها أو بتمييزها بموقف كريم أو
بنحو ذلك مما يتحقق معه ما يقتضيه ظاهر الرجوع، وقيل: المراد
ارجعي إلى كرامة ربك ويراد جنس كرامته سبحانه والرجوع إليه
باعتبار أنها كانت بعد الموت في البرزخ أو بعد البعث وقبل
الحساب في نوع منه والفاء عليه قيل تفسيرية أيضا. وعن عكرمة
والضحاك أن ذلك القول عند البعث، فقيل النفس بمعنى الذات أيضا،
والمراد بالرب هو الله عز وجل والكلام على حذف مضاف ولا يقدر
محل كرامته تعالى مرادا به
(15/346)
الموقف الخاص على ما سمعت لأنه إنما يكون
لها بعد. وقيل النفس بمعنى الروح، والمراد بالرب الصاحب وفسر
بالجسد وباقي الآية على حالة أي ارجعي إلى جسدك كما كنت في
الدنيا فادخلي بعد الرجوع إليه في جملة عبادي وادخلي دار
ثوابي، وقيل المراد بالنفس والرب ما ذكر وقوله تعالى فِي
عِبادِي على حذف مضاف أي فادخلي في أجساد عبادي وجاء هذا في
رواية عن ابن عباس وابن جبير، ولا يضر الإفراد أولا والجمع
ثانيا لأن المعنى على الجنس. وقال ابن زيد وجماعة إن ذلك القول
عند الموت وأيّد بما
أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو
نعيم في الحلية عن ابن جبير قال: قرئت عند النبي صلّى الله
عليه وسلم يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ الآية
فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: إن هذا لحسن فقال رسول الله
صلّى الله عليه وسلم: «أما إن الملك سيقولها لك عند الموت»
وجاء نحو هذا من رواية الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من طريق
ثابت بن عجلان عن سليم بن عامر عن الصديق رضي الله تعالى عنه
. والنفس عليه بمعنى الروح والمعنى على ما قيل ارجعي بالموت
إلى عالم قدس ربك راضية بما تؤتين من النعيم أو راضية عن ربك
مرضية عنده تعالى، فادخلي في زمرة عبادي المقربين سكنة حظائر
القدس، وادخلي جنتي التي أعددتها لذوي النفوس المطمئنة، وهذان
الدخولان يعقبان الرجوع إلّا أن الدخول الأول يعقبه بلا تراخ
قبل يوم القيامة، والثاني يعقبه بتراخ لأنه يوم القيامة إن
أريد الدخول الجنة دخولها على وجه الخلود إلا أن الأمر لتحققه
يجوز تعقيبه بالفاء، وجوز أن يكون تعقيب الأمرين على هذا النمط
إن أريد بالدخول في عبادة تعالى انتظامها في سلك العباد
الصالحين المخلصين من جنسها، ويجوز على إرادة هذا التعقيب أن
يراد فادخلي في أجساد عبادي. وجوز أن يكون تعقيب الأمرين بلا
تراخ إن أريد بالدخول في العباد الدخول في زمرة المقربين من
سكنة حظائر القدس وبالدخول في الجنة الدخول لا على وجه الخلود
بل لنوع من التنعم إلى أن تقوم الساعة،
ففي الحديث أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور في الجنة
،
وفي بعض الآثار إذا مات المؤمن أعطي نصف الجنة
أي نصف جنته التي وعد دخولها يوم القيامة وذكر في وجه إدخالها
مع الأرواح القدسية كالمرايا المصقولة فإذا انضم بعضها إلى بعض
تعاكست أشعة أنوار المعارف فيظهر لكل منها ما يكملها فيكون
سببا أنها لتكامل السعادات وتعاظم الدرجات وهو عندي كلام
خطابي، وعن بعض السلف ما يؤيد بعض هذه الأوجه.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح أنه قال
في الآية ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ هذا عنوان الموت، ورجوعها إلى
ربها خروجها من الدنيا فإذا كان يوم القيامة قيل لها ادخلي في
عبادي وادخلي جنتي وقيل: إن هذا القول بعد الموت وقبل القيامة،
والمراد برجوعها إلى ربها رجوعها إلى جسدها لسؤال الملكين.
أخرج ابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي أنه قال في الآية إن
المؤمن إذا مات أري منزله من الجنة فيقول تبارك وتعالى: يا
أيتها النفس المطمئنة عندي ارجعي إلى جسدك الذي خرجت منه راضية
بما رأيت من ثوابي مرضيا عنك حتى يسألك منكر ونكير، وقيل إنه
في مواطن ثلاثة. أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم
أنه قال في الآية: بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث ويوم
الجمع وتفسر عليه بما ينطبق على الجميع. وقيل: يجوز أن يكون
ذلك في سائر أوقات النفس في حياتها الدنيا والمراد بالأمر
بالرجوع إلى الرب الأمر بالرجوع إليه تعالى في كل أمر من
الأمور، والمراد بالأمر بالدخول في العباد الأمر بالدخول في
زمرة العباد الخلص الذي ليس للشيطان عليهم سلطان بالإكثار من
العمل الصالح، وبالأمر بالدخول في الجنة الأمر بالدخول فيها
بالقوة القريبة فكأنه سبحانه بعد أن بالغ جل وعلا في سوء حال
الامارة
(15/347)
ووعيدها خاطب المطمئنة بذاك وأرشدها سبحانه
إلى ما فيه صلاحها ونجاتها ولا يخفى ما فيه فلا ينبغي أن يعد
وجها، وأيّا ما كان من الأوجه فالظاهر العموم فيها وإن أخرج
ابن أبي حاتم من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت
في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه حين اشترى بئر رومة
وجعلها سقاية للناس، وقيل: إنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب،
وقيل نزلت في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى
المدينة، فقال: اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك
فحول الله تعالى وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوله بعد.
فتفسير النفس المذكورة بأحد هؤلاء المذكورين كما نقل عن بعض من
باب التمثيل وأن صورة السبب قطعية الدخول وينبغي أن يتحمل قول
ابن عباس في تلك النفس كما أخرجه عنه ابن مردويه هو النبي صلّى
الله عليه وسلم على نحو ذلك، وأشعرت الآية على بعض أوجهها بأن
الأرواح مخلوقة قبل الأبدان ومقرها إذ ذاك في عالم الملكوت،
والخلاف في المسألة شهير وجمهور المتكلمين على أنها مخلوقة عند
استعداد الأبدان لها وكذا أفلاطون وأصحابه. وقرأ ابن عباس
وعكرمة والضحاك ومجاهد وأبو جعفر وأبو صالح وأبو شيخ واليماني
في «عبدي» على الإفراد واستظهر أن المراد الجنس كما في النفس.
وللسادة الصوفية قدست نفوسهم كلام طويل في تقسيم مراتب النفس
وقالوا إن الآية متضمنة لمراتب ثلاث منها المطمئنة والراضية
والمرضية وفسروا كلا بما فسروه فمن أراده فليرجع إليه في
كتبهم، وأنا أقول كما علم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعض
الصحابة على ما
أخرج الطبراني وابن عساكر عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه:
«اللهم إني أسألك نفسا مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع
بعطائك»
.
(15/348)
|