روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني لَا أُقْسِمُ بِهَذَا
الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ
وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ
(4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ
يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8)
وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا
الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي
يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ
مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا
بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ
الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
سورة البلد
مكية في قوله الجمهور بتمامها، وقيل مدنية بتمامها، وقيل مدنية
إلّا أربع آيات من أولها. واعترض كلا القولين بأنه يأباهما
قوله تعالى بِهذَا الْبَلَدِ [البلد: 1، 2] قيل ولقوة الاعتراض
ادعى الزمخشري الإجماع على مكيتها وسيأتي إن شاء الله تعالى أن
في بعض الأخبار ما هو ظاهر في نزول صدرها بمكة بعد الفتح، وهي
عشرون آية بلا خلاف. ولما ذم سبحانه فيما قبلها من أحب المال
وأكل التراث أكلا لمّا ولم يحض على طعام المسكين ذكر جل وعلا
فيها الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة وإطعام في
يوم ذي مسغبة وكذا لما ذكر عز وجل النفس المطمئنة هناك ذكر
سبحانه هاهنا بعض ما يحصل به الاطمئنان فقال عز قائلا:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. لا أُقْسِمُ بِهذَا
الْبَلَدِ أقسم سبحانه بالبلد الحرام أعني مكة فإنه المراد
بالمشار إليه بالإجماع وما عطف عليه على الإنسان خلق مغمورا في
مكابدة المشاق ومعاناة الشدائد. وقوله تعالى وَأَنْتَ حِلٌّ
بِهذَا الْبَلَدِ على ما اختاره في الكشاف اعتراض بين القسم
وجوابه وفيه تحقيق مضمونه بذكر بعض المكابدة على نهج براعة
الاستهلاك وادماج لسوء صنيع المشركين ليصرح بذمهم على أن الحل
بمعنى المستحل بزنة المفعول الذي لا يحترم، فكأنه قيل ومن
المكابدة أن مثلك على عظم حرمته يستحل
(15/349)
بهذا البلد الحرام ولا يحترم كما يستحل
الصيد في غير الحرم عن شرحبيل بن سعد يحرمون أن يقتلوا به صيدا
ويعضدوا شجره ويستحلون إخراجك وقتلك، وفي تأكيد كون الإنسان في
كيد بالقسم تثبيت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وبعث على أن
يطأ من نفسه الكريمة على احتماله فإن ذلك قدر محتوم، وجوز أن
يكون الحل بمعنى الحلال ضد الحرام قال ابن عباس فيما أخرجه عنه
ابن جرير وغيره: وأنت يا محمد يحل لك أن تقاتل به. وأما غيرك
فلا. وقال مجاهد: أحله الله تعالى له عليه الصلاة والسلام ساعة
من نهار وقال سبحانه له ما صنعت فيه من شيء فأنت في حل لا
تؤاخذ به، وروي نحو ذلك عن أبي صالح وقتادة وعطية وابن زيد
والحسن والضحاك ولفظه: يقول سبحانه أنت حل بالحرم فاقتل إن شئت
أو دع وذلك يوم الفتح، وقد قتل صلّى الله عليه وسلم يومئذ عبد
الله بن خطل وهو الذي كانت قريش تسميه ذا القلبين قدمه أبو
برزة سعيد بن حرب الأسلمي فضرب بأمره صلّى الله عليه وسلم عنقه
وهو متعلق بأستار الكعبة وكان قد أظهر الإسلام وكتب لرسول الله
صلّى الله عليه وسلم شيئا من الوحي فارتد وشنع على رسول الله
صلّى الله عليه وسلم بأن ما يمليه من القرآن منه عليه الصلاة
والسلام لا من الله تعالى وقتل غيره أيضا كما هو مذكور في كتب
السير، ثم
قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى حرّم مكة يوم خلق
السماوات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لا تحل لأحد قبلي
ولن تحل لأحد بعدي ولم تحل لي إلّا ساعة من نهار، فلا يعضد
شجرها ولا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلّا
لمنشد» فقال العباس: يا رسول الله إلّا الإذخر فإنه لقيوننا
وقبورنا وبيوتنا فقال عليه الصلاة والسلام: «إلّا الإذخر»
وتقديم المسند إليه على هذا للاختصاص كما أشير إليه في خبر ابن
عباس. وحِلٌّ على معنى الاستقبال بناء على أن نزول السورة قبل
الهجرة التي هي قبل الفتح بكثير وفي خبر رواه عبد بن حميد عن
ابن جبير ما هو ظاهر في أن الآية نزلت بعد أن ضرب أبو برزة عنق
ابن خطل يوم الفتح فإن صح لا يكون في معنى الاستقبال لكن
الجمهور على الأول، وفي تعظيم المقسم به وتوكيد المقسم عليه
بالإقسام توكيد لما سيق له الكلام وهو على ما ذكر أن عاقبة
الاحتمال والمكابدة إلى الفتح والظفر والغرض تسليته صلّى الله
عليه وسلم ثم ترشيحها بالتصريح بما سيكون من الغلبة وتعظيم
البلد يدل على تعظيم من أحل له وفي الإقسام به توطئة للتسلية
لأن تعظيم البلد مما يقترفه أهله من المآثم متحرج بريء منها
والمعنى في الإقسام بالبلد تعظيمه، وفي الاعتراض ترشيح التعظيم
والتشريف بكون مثله صلّى الله عليه وسلم في جلالة القدر ومنصب
النبوة ساكنا فيه مباينا لما عليه الغاغة والهمج والفائدة فيه
تأكيد المقسم عليه بأنهم من أهل الطبع فلا ينفعهم شرف مكان
والمتمكن فيه كأنه قيل: أقسم بهذا البلد الطيب بنفسه وبمن سكن
فيه أن أهله لفي مرض قلب وشك لا يقادر قدره. وقيل: الحل صفة أو
مصدر بمعنى الحال يقال حل أي نزل يحل حلا وحلولا ويقال أيضا هو
حل بموضع كذا كما يقال حال به والقول بأن الصفة من الحلول حال
لا حل ومصدر حل بمعنى نزل الحلول، والحل بفتح الحاء والحلل فقط
ناشىء من قلة التتبع. والاعتراض لتشريفه صلّى الله عليه وسلم
بجعل حلوله عليه الصلاة والسلام مناطا لإعظام البلد بالإقسام
به وجعل بعض الأجلّة الجملة على هذا الوجه حالا من هذا البلد
وكذا جعلها بعضهم حالية على الوجهين قبل إلّا أن الحال على
ثانيهما مقارنة وعلى أولهما مقدرة أو مقارنة إن قيل إن النزول
ساعة أحلت مكة وجعلها ابن عطية حالا على الوجه الأول أيضا أعني
كون الحل بمعنى المستحل لكن قيده بكون لا نافية غير زائدة
فتأمل وأيّا ما كان ففي الإشارة وإقامة الظاهر مقام الضمير من
تعظيم البلد ما فيهما.
(15/350)
وَوالِدٍ عطف على هذا البلد المقسم به وكذا
قوله تعالى وَما وَلَدَ والمراد بالأول آدم عليه السلام
وبالثاني جميع ولده على ما أخرج الحاكم وصححه من طريق مجاهد عن
ابن عباس ورواه جماعة أيضا عن مجاهد وقتادة وابن جبير. وقيل:
المراد آدم عليه السلام والصالحون من ذريته، وقيل نوح عليه
السلام وذريته، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عمران
أنهما إبراهيم عليه السلام وجميع ولده وقيل إبراهيم عليه
السلام ولده إسماعيل عليه السلام والنبي صلّى الله عليه وسلم
ادعى أنه ينبىء عن ذلك المعطوف عليه فإنه حرم إبراهيم ومنشأ
إسماعيل ومسقط رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليهن
أجمعين. وقال الطبري والماوردي: يحتمل أن يكون الوالد النبي
صلّى الله عليه وسلم لتقدم ذكره، وما ولد أمته
لقوله عليه الصلاة والسلام «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد»
ولقراءة عبد الله وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم وفي القسم بذلك
مبالغة في شرفه عليه الصلاة والسلام وهو كما ترى وقيل المراد
كل والد وولده من العقلاء وغيرهم، ونسب ذلك لابن عباس. وأخرج
ابن أبي حاتم وغيره من طريق عكرمة عنه أنه قال: الوالد الذي
يلد وما ولد العاقر الذي لا يلد من الرجال والنساء، ونسب إلى
ابن جبير أيضا فما عليه نافية فيحتاج إلى تقدير موصول يصح به
المعنى الذي أريد كأنه قيل وَوالِدٍ والذي ما ولد وإضمار
الموصول في مثله لا يجوز عند البصريين ومع هذا هو خلاف الظاهر،
ولعل ظاهر اللفظ عدم التعيين في المعطوفين وظاهر العطف على هذا
البلد إرادة من له دخل فيه وشهرة بنسبة البلد إليه أو المشهور
في ذلك إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وتنكير والِدٍ على ما
اختاره غير واحد للتعظيم وإيثار ما على من بناء على أن المراد
ب ما وَلَدَ العاقل لإرادة الوصف فتفيد التعظيم في مقام المدح
وأنه مما لا يكتنه كنهه لشدة إبهامها ولذا أفادت التعجب أو
التعجيب وإن لم تكن استفهامية كما في قوله تعالى وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمران: 36] أي أي مولود عظيم الشأن
وضعته، والتعظيم والتعجيب على تقدير أن يراد بما ولد ذرية آدم
عليه السلام مثلا قيل باعتبار التغليب وقيل باعتبار الكثرة.
وما خص به الإنسان من خواص البشر كالعقل وحسن الصورة ومن تأمل
في شؤون الإنسان من حيث هو إنسان يعلم أنه من تلك الحيثية
معظّم يتعجب منه لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أي
في تعب ومشقة فإنه لا يزال يقاسي فنون الشدائد من وقت نفخ
الروح إلى حين نزعها وما وراءه يقال: كبد الرجل كبدا فهو أكبد
إذا وجعته كبده وانتفخت فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة
ومنه اشتقت المكابدة لمقاساة الشدائد، كما قيل: كبته بمعنى
أهلكه وأصله كبده إذا أصاب كبده. قال لبيد يرثي أخاه:
يا عين هل بكيت أربد إذ ... قمنا وقام الخضوم في كبد
أي في شدة الأمر وصعوبة الخطب. وعن ابن عمر يكابد الشكر على
السراء ويكابد الصبر على الضراء وعن ابن عباس وعبد الله بن
شداد وأبي صالح والضحاك ومجاهد أنهم قالوا أي خلقناه منتصب
القامة واقفا ولم نجعله منكبا على وجهه. وقال ابن كيسان: أي
منتصبا رأسه في بطن أمه فإذا أذن له في الخروج قلب رأسه إلى
قدمي أمه وهذه الأقوال كلها ضعيفة لا يعول عليها بخلاف الأول
وقد رواه الحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس، وروي عن غير واحد
من السلف نعم جوز أن يكون المعنى لقد خلقناه في مرض شاق وهو
مرض القلب وفساد الباطن، وهذا بناء على الوجه الثالث من الأوجه
الأربعة السابقة في قوله تعالى لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ
وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ والمراد بالإنسان عليه الذين
علم الله تعالى منهم حين خلقهم أنهم لا يؤمنون ولا يعملون
الصالحات. والظاهر أن المراد على ما عداه جنس الإنسان مطلقا.
وقال ابن زيد: المراد بالإنسان
(15/351)
آدم عليه السلام، وبالكبد السماء وشاع في
وسط السماء كالكبيداء والكبيداة والكبداء وأكبد بفتح فسكون
وليس بشيء أصلا. والضمير في قوله تعالى أَيَحْسَبُ على ما عدا
ذلك راجع إلى ما دل عليه السياق مما يكابد منه صلّى الله عليه
وسلم ما يكابد من كفار قريش وينتهك حرمة البيت وحرمته عليه
الصلاة والسلام. وعليه للإنسان والتهديد مصروف لمن يستحقه وقيل
على إرادة البعض هو أبو الأشد أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد
القوة مغترا بقوته وكان يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه
ويقول: من أزالني عنه فله كذا، فيجذبن عشرة فينقطع قطعا ويبقى
موضع قدميه، وقيل عمرو بن عبد ود، وقيل الوليد بن المغيرة،
وقيل أبو جهل بن هشام، وقيل الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد
مناف. ويجوز أن يكون كل من هؤلاء سبب النزول فلا تغفل. وجعل
عصام الدين الاستفهام للتعجيب على معنى أيظن أَنْ لَنْ
يَقْدِرَ عَلَيْهِ أي على الانتقام منه ومكافأته بما هو عليه
أَحَدٌ مع أنه لا يتخلص من المكابدة ومقاساة الشدائد وأن مخففة
من الثقيلة ولعل في ذلك إدماج عدم إيمان بالقيامة يَقُولُ
أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً أي كثيرا من تلبد الشيء إذا اجتمع،
أي يقول ذلك وقت الاغترار فخرا ومباهاة وتعظما على المؤمنين
وأراد بذلك ما أنفقه رياء وسمعة وعبر عن الاتفاق بالإهلاك
إظهارا لعدم الاكتراث وأنه لم يفعل ذلك رجاء نفع فكأنه جعل
المال الكثير ضائعا وقيل: يقول ذلك إظهارا لشدة عداوته لرسول
الله صلّى الله عليه وسلم مريدا بالمال ما أنفقه في معاداته
عليه الصلاة والسلام وقيل: يقول ذلك إيذاء له عليه الصلاة
والسلام، فعن مقاتل أن الحارث بن نوفل كان إذا أذنب استفتى
الرسول صلّى الله عليه وسلم فيأمره عليه الصلاة والسلام
بالكفارة. فقال: لقد أهلكت مالا لبدا في الكفارات والتبعات منذ
أطعت محمدا صلّى الله عليه وسلم. وقيل: المراد ما تقدم أولا
إلّا أن هذا القول وقت الانتقام منه وذلك يوم القيامة،
والتعبير عن الإنفاق بالإهلاك لما أنه لم ينفعه يومئذ. وقرأ
أبو جعفر «لبّدا» بشد الباء وعنه وعن زيد بن علي «لبدا» بسكون
الباء وقرأ مجاهد وابن أبي الزناد «لبدا» بضم اللام والباء.
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ أي حين كان ينفق ما ينفق
رئاء الناس أو حرصا على معاداته صلّى الله عليه وسلم يعني أن
الله تعالى كان يراه وكان سبحانه عليه رقيبا فهو عز وجل يسأله
عنه ويجازيه عليه.
وفي الحديث: «لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع
عن عمره فيم أفناه، وعن ماله مم جمعه وفيم أنفقه، وعن علمه
ماذا عمل به»
. وجوز أن يكون المعنى إن لم يجده أحد على أن المراد بالرؤية
الوجدان اللازم له، ولَمْ بمعنى لن وعبر بها لتحقق الوقوع يعني
أنه تعالى يجده يوم القيامة فيحاسبه على ذلك. وعن الكلبي أن
هذا القائل كان كاذبا لم ينفق شيئا فقال تعالى: أيظن أن الله
تعالى ما رأى ذلك منه فعل أو لم يفعل أنفق أو لم ينفق بل رآه
عز وجل وعلم منه خلاف ما قال وقرر سبحانه القدرة على مجازاته
ومحاسبته والاطلاع على حاله بقوله جل وعلا أَلَمْ نَجْعَلْ
لَهُ عَيْنَيْنِ يبصر بهما وَلِساناً يفصح به عما في ضميره
وَشَفَتَيْنِ يستر بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل
والشرب والنفخ وغير ذلك والمفرد شفة وأصلها شفهة حذفت منها
الهاء ويدل عليه شفيهة وشفاه وشافهت وهي مما لا يجوز جمعه
بالألف والتاء وإن كان فيه تاء التأنيث على ما في البحر
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ أي طريقي الخير والشر كما أخرجه
الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما عن ابن مسعود وأخرجه عبد بن
حميد وابن جرير عن ابن عباس وروي عن عكرمة والضحاك وآخرين
وأخرجه الطبراني عن أبي أمامة مرفوعا
والنجد مشهور في الطريق المرتفع قال امرؤ القيس:
فريقان منهم جازع بطن نخلة ... وآخر منهم قاطع نجد كبكب
(15/352)
وسميت نجد به لارتفاعها عن انخفاض تهامة
والامتنان المحدث عنه بأن هداه سبحانه وبيّن له تعالى شأن ما
إن سلكه نجا وما إن سلكه هلك، ولا يتوقف الامتنان على سلوك
طريق الخير. وقد جعل الإمام هذه الآية كقوله تعالى إِنَّا
هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً
[الإنسان: 3] ووصف سبيل الخير بالرفعة والنجدية ظاهر بخلاف
سبيل الشرفان فيه هبوطا من ذروة الفطرة إلى حضيض الشقاوة فهو
على التغليب أو على توهم المتخيلة له صعودا ولذا استعمل الترقي
في الوصول إلى كل شيء وتكميله كذا قيل. وأخرج ابن جرير وابن
أبي حاتم من طرق عن ابن عباس أنهما الثديان وروي ذلك عن ابن
المسيب أي ثديي الأم لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه
والارتفاع فيهما ظاهر والبطن تحتهما كالغور، والعرب تقسم بثديي
الأم فتقول: أما ونجديها ما فعلت. ونسب هذا التفسير لعليّ كرم
الله تعالى وجهه أيضا. والمذكور في الدر المنثور من رواية
الفريابي وعبد بن حميد وكذا
في مجمع البيان عنه كرم الله تعالى وجهه أن أناسا يقولون: إن
النجدين الثديان، فقال: لا هما الخير والشر.
ولعل القائل بذلك رأى أن اللفظ يحتمله مع ظهور الامتنان عليه
جدا فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ الاقتحام الدخول بسرعة وضغط
وشدة ويقال: قحم في الأمر قحوما رمى نفسه فيه من غير روية.
والعقبة الطريق الوعر في الجبل وفي البحر هي ما صعب منه وكان
صعودا، والجمع عقب وعقاب وهي هنا استعارة لما فسرت به من
الأعمال الشاقة المرتفعة القدر عند الله تعالى والقرينة ظاهرة
وإثبات الاقتحام المراد به الفعل والكسب ترشيح، ويجوز أن يكون
قد جعل فعل ما ذكر اقتحاما وصعودا شاقا وذكره بعد النجدين جعل
الاستعارة في الذروة العليا من البلاغة والمراد ذم المحدث عنه
بأنه مقصر مع ما أنعم الله تعالى به عليه من النعم العظام
والأيادي الجليلة الجسام كأنه قيل فقصر ولم يشكر تلك النعم
العظيمة والأيادي الجسيمة بفعل الأعمال الصالحة بل غمط النعمة
وكفر بالمنعم واتبع هوى نفسه. وقوله تعالى وَما أَدْراكَ مَا
الْعَقَبَةُ أي أي شيء أعلمك ما هي تعظيم لشأن العقبة المفسرة
بقوله سبحانه فَكُّ رَقَبَةٍ إلخ وتفسيرها بذلك بناء على
الادعاء والمجاز وهو مما لا شبهة في صحته وإن لم يتحد العقبة
والفك حقيقة فلا حاجة إلى تقدير مضاف كما زعمه الإمام ليصح
التفسير، أي وما أدراك ما اقتحام العقبة فك إلخ وقال بعضهم:
يحتمل أن يراد بالعقبة نفس الشكر عبر بها عنه لصعوبته ولا
يأباه وما أَدْراكَ إلخ لأنه بمنزلة ما أدراك ما الشكر فَكُّ
رَقَبَةٍ وهو كما ترى. وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن أبي
شيبة عن ابن عمر أن العقبة جبل زلال في جهنم. وأخرج ابن جرير
عن الحسن نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنها النار وفي
رواية عبد بن حميد عنه أنها عقبة بين الجنة والنار، وعن مجاهد
والضحاك والكلبي أنها الصراط وقد جاء في صفته ما جاء، ولعل
المراد بعقبة بين الجنة والنار هذا. وأخرج ابن جرير وابن أبي
حاتم عن أبي رجاء أنه قال: بلغني أن العقبة التي ذكر الله
تعالى في القرآن مطلعها سبعة آلاف سنة ومهبطها سبعة آلاف سنة،
وهذه الأقوال إن صحت يتعين عليها أن يراد بالاقتحام المرور
والجواز بسرعة وأن يقدر المضاف أي وما أدراك ما اقتحام العقبة
فك إلخ. وجعل الفك وما عطف عليه نفس الاقتحام على سبيل
المبالغة في سببيته له حتى كأنه نفسه، ومآل المعنى فلا فعل ما
ينجو به ويجوز بسببه العقبة الكؤود يوم القيامة وبهذا يندفع ما
نقله الإمام عن الواحدي بعد نقله تفسيرها بجبل زلال في جهنم
وبالصراط ونحو ذلك وهو قوله. وفي هذا التفسير نظر لأن من
المعلوم أن هذا الإنسان وغيره لم يقتحموا عقبة جهنم ولا
جاوزوها فحمل الآية عليه يكون إيضاحا للواضحات ثم قال: ويدل
عليه أنه لما قال سبحانه وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فسرها
جل شأنه بفك الرقبة والإطعام انتهى. نعم أنا لا أقول بشيء من
ذلك حتى تصح فيه تفسيرا للآية رواية مرفوعة. والفك تخليص شيء
من شيء قال الشاعر:
(15/353)
فيا رب مكروب كررت وراءه ... وعان فككت
الغل منه ففداني
وهو مصدر فك وكذا الفكاك بفتح الفاء كما نص عليه الفرّاء
والمشهور أن المراد به هنا تخليص رقبة الرقيق من وصف الرقبة
بالإعتاق.
وأخرج أحمد وابن حبان وابن مردويه والبيهقي عن البراء رضي الله
تعالى عنه أن «أعرابيا قال: يا رسول الله علمني عملا يدخلني
الجنة، قال: «أعتق النسمة وفك الرقبة» قال: أو ليسا بواحد؟
قال: «لا إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين
في عتقها» الحديث.
وعليه يكون نفي العتق عن المحدث عنه متحققا من باب أولى، ومن
الفك بهذا المعنى إعطاء المكاتب ما يصرفه في جهة فكاك نفسه.
وجاء في فضل الإعتاق أخبار كثيرة منها ما
أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله
بكل عضو منها عضوا منه من النار حتى الفرج بالفرج»
. وهو أفضل من الصدقة عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وعند
صاحبيه الصدقة أفضل والآية على ما قيل أدل على قول الإمام
لمكان تقديم الفك على الإطعام. وعن الشعبي تفضيل العتق أيضا
على الصدقة على ذي القرابة فضلا عن غيره. وقال الإمام: في
الآية وجه آخر حسن وهو أن يكون المراد أن يفك المرء رقبة نفسه
بما يكلفه من العبادة التي يصير بها إلى الجنة فهي الحرية
الكبرى وعليه قيل يكون ما بعد من قبيل التخصيص بعد التعميم
وفيه بعد كما لا يخفى أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ
مصدر ميمي بمعنى السغب قال أبو حيان: وهو الجوع العام، وقد
يقال: سغب الرجل إذا جاع. وقال الراغب: هو الجوع مع التعب
وربما قيل في العطش مع التعب وفسره ابن عباس هنا بالجوع من غير
قيد. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن إبراهيم أنه قال في
يوم فيه الطعام عزيز وليس بتفسير بالمعنى الموضوع له. ووصف
اليوم بذي مسغبة نحو ما يقول النحويون في قولهم هم ناصب ذو
نصب، وليل نائم ذو نوم، ونهار صائم ذو صوم يَتِيماً ذا
مَقْرَبَةٍ أي قرابة فهو مصدر ميمي أيضا من قرب في النسب،
يقال: فلان ذو قرابتي وذو مقربتي بمعنى. قال الزجاج: وفلان
قرابتي قبيح لأن القرابة مصدر. قال:
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور
وفيه بحث. وفي إِطْعامٌ هذا جمع بين الصدقة والصلة وفيهما من
الأجر ما فيهما. وقيل: إنه لا يخص القريب نسبا بل يشمل من له
قرب بالجوار أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ أي افتقار وهو مصدر
ميمي كما تقدم من ترب إذا افتقر ومعناه التصق بالتراب، وأما
أترب فاستغنى أي صار ذا مال كالتراب في الكثرة كما قيل أثرى.
وعن ابن عباس أنه فسره هنا بالذي لا يقيه من التراب شيء. وفي
رواية أخرى هو المطروح على ظهر الطريق قاعدا على التراب لا بيت
له وهو قريب مما
أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعا: «هو الذي مأواه المزابل»
فإن صح لا يعدل عنه. وفي رواية أخرى عن ابن عباس هو الذي يخرج
من بيته ثم يقلب وجهه إليه مستيقنا أنه ليس فيه إلّا التراب.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه إنه قال في
ذلك يعني بعيد التربة أي بعيدا من وطنه وهو بعيد، والصفة على
بعض هذه التفاسير صفة كاشفة وبعض آخر مخصصة واو على ما في
البحر للتنويع. وقد استشكل عدم تكرار لا هنا مع أنها دخلت على
الماضي وهم قالوا يلزم تكرارها حينئذ كما في قوله تعالى فَلا
صَدَّقَ وَلا صَلَّى [القيامة: 31] وقول الحطيئة:
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا
كدوا
وشذ قوله:
لا هم إن الحارث بن جبله ... جنى على أبيه ثم قتله
(15/354)
وكان في جاراته لا عهد له ... فأي أمر سيىء
لا فعله
وأجيب بأن اللازم تكرارها لفظا أو معنىّ، وهي هنا مكررة معنى
لأن تفسير العقبة بما فسرت به من الأمور المتعددة يلزم منه
تفسير الاقتحام فيكون: فلا اقتحم العقبة في معنى فلا فك رقبة
ولا أطعم يتيما إلخ.
وقد يقال في البيت نحو ذلك بأن يقال إن العموم فيه قائم مقام
التكرار ويلزمه على ما قيل جواز لا جاءني زيد وعمرو لأنه في
معنى لا جاءني زيد ولا جاءني عمرو ومنعه الزجاج والفرّاء: يجوز
أن يكون منه قوله تعالى ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
فإنه عطف على المنفي أعني اقْتَحَمَ فكأنه قيل فلا اقتحم ولا
آمن، ولا يلزم منه كون الإيمان غير داخل في مفهوم العقبة لأنه
يكفي في صحة العطف والتكرار كونه جزءا أشرف خص بالذكر عطفا
فجاءت صورة التكرار ضرورة إذ الحمل على غير ذلك مفسد للمعنى،
ويلزمه جواز لا أكل زيد وشرب على العطف على المنفي والبعض
المتقدم يمنعه. وقيل: إن لا للدعاء والكلام دعاء على ذلك
الكافر أن لا يرزقه الله تعالى ذلك الخير. وقيل لا مخفف إلا
للتخضيض كهلا، فكأنه قيل: فهلا اقتحم أو الاستفهام محذوف
والتقدير أفلا اقتحم ونقل ذلك عن ابن زيد والجبائي وأبي مسلم.
وفيه أنه لم يعرف تخفيف ألا التحضيضية وأنه كما قال المرتضى
يقبح حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع، وقد عيب على عمر بن
أبي ربيعة قوله:
ثم قالوا تحبها قلت بهرا ... عدد الرمل والحصى والتراب
وقولهم: لو أريد النفي لم يتصل الكلام بشيء لظهور كان تحت
النفي واتصال الكلام عليه، قيل الكلام إخبار عن المستقبل فليس
مما يلزم فيه التكرير أي فلا يقتحم العقبة لأن ماضيه معلوم
بالمشاهدة فالأهم الإخبار عن حاله في الاستقبال لكي لتحقق
الوقوع عبر بالماضي. ونقل الطيبي عن أبي علي الفارسي عدم وجوب
تكريرها رادا على الزجاج في زعمه ذلك. وقال: هي كلم والتكرر في
نحو فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى لا يدل على الوجوب كما في لَمْ
يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الفرقان: 67] وعلى عدم التكرار
جاء قول أمية السابق:
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
والمتيقن عندي أكثرية التكرر وأما وجوبه فليس بمتيقن والله
تعالى أعلم. وقرأ ابن كثير والنحويان «فكّ» فعلا ماضيا «رقبة»
بالنصب «أو أطعم» فعلا ماضيا أيضا وعلى هذه القراءة ففك مبدلة
من اقتحم وما بينهما اعتراض. ومعناه أنك لم تدركنه صعوبتها على
النفس وكنه ثوابها عند الله عز وجل وقرأ أبو رجاء كذلك إلّا
أنه قرأ «ذا مسبغة» بالألف على أن «ذا» منصوب على المفعولية
بأطعم أي أطعم في يوم من الأيام إنسانا ذا مسغبة، ويكون يتيما
بدلا منه أو صفة له. وقرأ هو أيضا والحسن «أو إطعام في يوم ذا»
بالألف أيضا على أنه مفعول ب للمصدر. وقرأ بعض التابعين «فكّ
رقبة» بالإضافة «أو أطعم» فعلا ماضيا وهو معطوف على المصدر
لتأويله به.
والتراخي المفهوم من ثُمَّ في قوله تعالى ثُمَّ كانَ إلخ رتبي
فالإيمان فوق جميع ما قبله لأنه يستقل بكونه سببا للنجاة وشكرا
بدون الأعمال كما فيمن آمن بشرطه ومات في يومه قبل أن يجب عليه
شيء من الأعمال فإن ذلك ينفعه ويخلصه بخلاف ما عداه فإنه لا
يعتد به بدونه. وقوله سبحانه وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ عطف على
آمنوا أي أوصى بعضهم بعضا بالصبر على الإيمان والثبات عليه أو
بذلك والصبر على الطاعات أو به، والصبر على المعاصي وعلى المحن
التي يبتلى بها الإنسان وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أي
بالرحمة على عباده عز وجل ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، أو تواصوا بأسباب رحمة الله تعالى وما يؤدي إليها من
(15/355)
الخيرات على أن المرحمة مجاز عن سببها أو
الكلام على تقدير مضاف. وذكر أن تَواصَوْا بِالصَّبْرِ إشارة
إلى تعظيم أمر الله تعالى وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ إشارة
إلى الشفقة على خلق الله تعالى وهما أصلان عليهما مدار الطاعة
وهو الذي قاله بعض المحققين الأصل في التصوف أمر أن اصدق مع
الحق وخلق مع الخلق أُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه
بما في حيّز صلته وما فيه من معنى البعد مع قرب المشار إليه
لما مر غير مرة، أي أولئك الموصوفون بالنعوت الجليلة المذكورة
أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ أي جهة اليمين التي فيها السعداء أو
اليمن لكونهم ميامين على أنفسهم وعلى غيرهم وَالَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِنا بما نصبناه دليلا على الحق من كتاب وحجة أو
بالقرآن هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ أي جهة الشمال التي فيها
الأشقياء أو الشؤم على أنفسهم وعلى غيرهم عَلَيْهِمْ نارٌ
عظيمة مُؤْصَدَةٌ مطبقة من آصدت الباب إذا غلقته وأطبقته وهي
لغة قريش على ما روي عن مجاهد. وظاهر كلام ابن عباس عدم
الاختصاص بهم، ومن ذلك قول الشاعر:
تحن إلى أجبال مكة ناقتي ... ومن دونها أبواب صنعاء مؤصده
ويجوز أن يكون من أوصدت بمعنى غلقت أيضا وهمز على حد من قرأ
بالسؤق مهموزا وقرأ غير واحد من السبعة موصدة بغير همز. فيظهر
أنه من أوصدت وقيل: يجوز أن يكون من آصدت وسهلت الهمزة وقال
الشاعر:
قوما يعالج قملا أبناؤهم ... وسلاسلا ملسا وبابا موصدا
والمراد مغلقة أبوابها، وإنما أغلقت لتشديد العذاب والعياذ
بالله تعالى عليهم. وصرح بوعيدهم ولم يصرح بوعد المؤمنين لأنه
الأنسب بما سيق له الكلام، والأوفق بالغرض والمرام ولذا جيء
بضمير الفصل معهم لإفادة الحصر واعتبروا غيبا كأنهم بحيث لا
يصلحون بوجه من الوجوه لأن يكونوا مشارا إليهم ولم يسلك نحو
هذا المسلك في الجملة الأولى التي في شأن المؤمنين. ونقل عن
الشمني أنه قال: الحكمة في ترك ضمير الفصل في الأولين والإتيان
بدله باسم الإشارة أن اسم الإشارة يؤتى به لتمييز ما أريد به
أكمل تمييز كقوله:
هذا أبو الصقر فردا في محاسنه ... من نسل شيبان بين الضال
والسلم
ولا كذلك الضمير فإن اسم الإشارة البعيد يفيد التعظيم لتنزيل
رفعة محل المشار به إليه منزلة بعد درجته فاسم الإشارة للتعظيم
والإشارة إلى تمييزهم واستحقاقهم كمال الشهرة بخلاف أصحاب
المشأمة والضمير لا يفيد ذلك انتهى. وفيه أن اسم الإشارة كما
يفيد التعظيم يفيد التحقير كما في قوله تعالى فَذلِكَ الَّذِي
يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون: 2] وكمال الشهرة كما يكون في
الخير يكون في الشر، فأي مانع من اعتبار استحقاقهم كمال الشهرة
في الشر. وبالجملة ما ذكره ليس بشيء ولعل ما ذكرناه هو الأولى
فتدبر.
(15/356)
وَالشَّمْسِ
وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ
إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)
وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا
(6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا
وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ
خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا
(11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ
اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ
فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ
فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
سورة الشمس
مكية بلا خلاف وآيها ست عشرة آية في المكي والمدني الأول وخمس
عشرة في الباقية. ولما ختم سبحانه السورة المتقدمة بذكر أصحاب
الميمنة وأصحاب المشأمة أعاد جل شأنه في هذه السورة الفريقين
على سبيل الفذلكة بقوله سبحانه قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها
وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس: 9، 10] وفي هذه
فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس: 8] وهو كالبيان
لقوله تعالى في الأولى وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10]
على أول التفسيرين وختم سبحانه الأولى بشيء من أحوال الكفرة في
الآخرة، وختم جل وعز هذه بشيء من أحوالهم في الدنيا فقال عز من
قائل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحاها أي
ضوءها كما أخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس، والمراد إذا أشرقت
وقام سلطانها. وقال بعض المحققين: حقيقة الضحى تباعد الشمس عن
الأفق الشرقي المرئي وبروزها للناظرين ثم صار حقيقة في وقته،
ثم إنه قيل لأول الوقت ضحوة ولما يليه ضحى ولما بعده إلى قريب
الزوال ضحاء بالفتح والمد، فإذا أضيف إلى الشمس فهو مجاز عن
إشراقها كما هنا، ونقل عن المبرد أن الضحى مشتق من الضح وهو
نور الشمس والألف مقلوبة من الحاء الثانية وكذلك الواو من ضحوة
مقلوبة منها، وتعقبه أبو حيان بقوله: لعله مختلق عليه لأن
المبرد أجلّ من أن يذهب إلى هذا وهذان مادتان مختلفتان لا تشتق
إحداهما من أخرى. وأجيب بأنه لم يرد الاشتقاق الصغير ولا يخفى
حاله على الصغير والكبير. وعن مقاتل أن ضحاها حرها وهو تفسير
باللازم وعن مقاتل المراد به النهار كله وفيه أنه تعالى أقسم
به بعيد ذلك وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها أي تبعها فقيل باعتبار
طلوعه وطلوعها أي إذا تلا طلوعه طلوعها بأن طلع من
(15/357)
الأفق الشرقي بعد طلوعها وذلك أول الشهر،
فإن الشمس إذا طلعت من الأفق الشرقي أول النهار يطلع بعدها
القمر لكن لا سلطان له فيرى بعد غروبها هلالا ومناسبة ذلك
للقسم به لأنه وصف له بابتداء أمره، فكما أن الضحى كشباب
النهار فكذا غرة الشهر كولادته. وقيل باعتبار طلوعه وغروبها أي
إذا تلا طلوعه غروبها وذلك في ليلة البدر رابع عشر الشهر فإنه
حينئذ في مقابلة الشمس والبعد بينهما نصف دور الفلك فإذا كانت
في النصف الفوقاني منه أعني ما يلي رؤوسنا كان القمر في
التحتاني منه أعني ما يلي أقدامنا، فإذا غربت طلع من الأفق
الشرقي وهو المروي عن قتادة. وقولهم: سمي بدرا لأنه يسبق طلوعه
غروب الشمس فكأنه بدرها بالطلوع لا ينافيه لأنه مبني على
التقريب، ومناسبة ذلك للقسم به لأنه وقت ظهور سلطانه فيناسب
تعظيم شأنه. وقال ابن زيد: تبعها في الشهر كله ففي النصف الأول
تبعها بالطلوع وفي الآخر بالغروب، ومراده ما ذكر في القولين.
وقيل: المراد تبعها في الإضاءة بأن طلع وظهر مضيئا عند غروبها
آخذا من نورها وذلك في النصف الأول من الشهر فإنه فيه يأخذ كل
ليلة منه قدرا من النور بخلافه في النصف الثاني وهو مروي عن
ابن سلام واختاره الزمخشري. وقال الحسن والفرّاء كما في البحر:
أي تبعها في كل وقت لأنه يستضيء منها فهو يتلوها لذلك، وأنكر
بعض الناس ذهاب أحد من السلف إلى أن نور القمر مستفاد من ضوء
الشمس وزعم أنه رأي المنجمين لا غير وما ذكر حجة عليه والحجة
عن أصل المسألة أظهر من الشمس وهي اختلاف تشكلاته النورية قربا
وبعدا منها مع ذهاب نوره عند حيلولة الأرض بينه وبينها. وكون
الاختلاف لاحتمال أن يكون أحد نصفيه مضيئا والنصف الآخر غير
مضيء وأنه يتحرك على محوره حركة وضعية حتى يرى كل نصف منهما
تدريجا، وكون ذهاب النور عند الحيلولة لاحتمال حيلولة جسم كثيف
بيننا وبينه لا نراه أضعف من حبال القمر كما لا يخفى. وقال
الزجاج وغيره تَلاها معناه امتلأ واستدار فكان تابعا لها في
الاستدارة وكمال النور.
وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها أي جلى النهار الشمس أي أظهرها
فإنها تنجلي وتظهر إذا انبسط النهار ومضى منه مدة، فالإسناد
مجازي كالإسناد في نحو صام نهاره. وقيل: الضمير المنصوب يعود
على الأرض وقيل على الدنيا والمراد بها وجه الأرض وما عليه،
وقيل: يعود على الظلمة وجلاها حينئذ بمعنى أزالها وعدم ذكر
المرجع على هذه الأقوال للعلم به والأول أولى الذكر المرجع
واتساق الضمائر. وجوز بعضهم أن يكون الضمير المرفوع المستتر في
جَلَّاها عليه عائدا على الله عز وجل كأنه قيل والنهار إذا جل
الله تعالى الشمس فيكون قد أقسم سبحانه بالنهار في أكمل حالاته
وهو كما ترى وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها أي الشمس فيغطي ضوءها
والإسناد كما مر. وقيل أي الأرض وقيل أي الدنيا. وجيء بالمضارع
هنا دون الماضي كما في السابق بأن يقال إذا غشيها، قال أبو
حيان: رعاية للفاصلة ولم يقل غشاها لأنه يحتاج إلى حذف أحد
المفعولين لتعديه إليهما فإنه يقال: غشيته كذا كما قال الراغب
كذا قيل. وقال بعض الأجلّة: جيء بالمضارع للتنبيه على استواء
الأزمنة عنده تعالى شأنه. وقال الخفاجي: الأول أن يقال المراد
بالليل الظلمة الحادثة بعدم الضوء لا العدم الأصلي والظلمة
الأصلية فإن هذه أظهر في الدلالة على القدرة وهي مستقبلة
بالنسبة لما قبلها فلا بد من تغيير التعبير ليدل على المراد.
واستصعب الزمخشري الأمر في نصب إِذا بأن ما سوى الواو الأولى
إن كانت عاطفة لزم العطف على معمولي عاملين مختلفين كعطف
النهار مثلا على الشمس المعمول لحرف القسم، وعطف الظرف أعني
إِذا في إِذا جَلَّاها على نظيرتها في إِذا تَلاها المعمولة
لفعل القسم وإن كانت
(15/358)
قسمية لزم اجتماع المقسمات المتعددة على
جواب واحد وقد استكرهه الخليل وسيبويه وأجاب باختيار الشق
الأول ونفي ما لزمه، فقال: إن واو القسم مطرح معها إبراز الفعل
اطراحا كليا فكان لها شأن خلاف شأن الباء حيث أبرز معها الفعل
تارة وأضمر أخرى، فكانت الواو قائمة مقام فعل القسم وباؤه سادة
مسدهما معا والواوات العواطف نوائب عن هذه الواو فهي عاملة
الجر وعاملة النصب، فالعطف من قبيل العطف على معمولي عامل واحد
وهذا كما تقول: ضرب زيد عمرا وبكر خالدا فترفع بالواو وتنصب
لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملها انتهى. وأنت تعلم أن أول
الواوات العواطف هاهنا ليس معها ما تعمل فيه النصب فلعله أراد
أنها تعمل ذلك إن كان هناك منصوب أو هي عاملة باعتبار أن معنى
وَالشَّمْسِ وَضُحاها والشمس وضوءها إذا أشرقت وفيه أيضا أنه
لم يقل أحد بأن الحروف العواطف عوامل. وأيضا الإشكال مبني على
امتناع العطف على معمولي عاملين مطلقا حتى لو جوّز مطلقا أو
بشرط كون المعطوف مجرورا على ما ذهب إليه جمع كما في قولك:
في الدار زيد والحجرة عمرو لم يكن إشكال، وأيضا هو مبني على
قبول هذا الاستكراه وعدم إمكان التخلص من الاجتماع بتقدير جواب
لكل من المقسمات حتى إذا لم يقبل أو قبل وقدر لكل جواب لم يبق
إشكال.
وأيضا هو مبني على أن إذا ظرفية وهو ممنوع لجواز أن تكون قد
تجردت عن الظرفية وحينئذ تكون بدلا مما بعد الواو كما قيل في
قوله:
وبعد غد يا لهف نفسي من غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح
أن إذا بدل من غد وعلى تسليم أنها ظرفية يجوز أن يقدر مع كل
مضاف تتعلق به، كأن يقدر وتلو القمر إذا تلاها، وتجلية النهار
إذا جلاها، وغشيان الليل إذا يغشاها أو تجعل متعلقة بمحذوف وقع
حالا مقدرة مما تليه أي أقسم بالقمر كائنا إذا تلاها، وبالليل
كائنا إذا جلاها كما زعمه بعضهم وفيه بحث وأيضا يردّ على
الزمخشري مثل قوله تعالى وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ
وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التكوير: 17، 18] لأن الواو هنالك
عاطفة وقد تقدم صريح فعل القسم كما ذكره الشيخ ابن الحاجب على
أن التحقيق كما قال بعض المحققين أن الظرف ليس معمولا لفعل
القسم لفساد المعنى إذ التقييد بالزمان غير مراد حالا كان أو
استقبالا وإنما هو معمول مضاف مقدر من نحو العظمة لأن الإقسام
بالشيء إعظام له فكأنه أقسم بعظمة زمان كذا، وما قيل عليه من
أن إقسامه تعالى بشيء مستعار لإظهار عظمته وإبانة شرفه فيجوز
تقييده باعتبار جزء المعنى المراد يعني الإظهار، وأيضا إذا كان
الإقسام إعظاما لغا تقديره فلو سلم فالاستعارة إما تبعية أو
تمثيلية، وعلى كل حال فليس ثمت ما يكون متعلقا بحسب الصناعة
والتقدير ليتعلق به وليظهر ما أريد منه مؤكدا فلا لغوية
وَالسَّماءِ وَما بَناها أي ومن بناها وإيثار ما على من لإرادة
الوصفية تفخيما على ما تقدم في وَما وَلَدَ [البلد: 3] كأنه
قيل والقادر العظيم الشأن الذي بناها ودل على وجوده وكمال
قدرته بناؤهما والمراد به إيجادها بحيث تدل على ذلك ويستدل بها
عليه وهو أولى من تفسيره ببانيها لإشعاره بالمراد من البناء.
وكذا الكلام في قوله تعالى وَالْأَرْضِ وَما طَحاها أي بسطها
من كل جانب ووطأها كدحاها، ويكون طحا بمعنى ذهب كقول علقمة:
طحا بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب
وبمعنى أشرف وارتفع ومن أيمانهم لا والقمر الطاحي. ويقال: طحا
يطحو طحوا وطحى يطحي طحيا.
وقوله سبحانه وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها أي أنشأها وأبدعها مستعدة
لكمالها وذلك بتعديل أعضائها وقواها الظاهرة
(15/359)
والباطنة والتنكير للتكثير، وقيل للتفخيم
على أن المراد بالنفس آدم عليه السلام والأول أنسب بجواب القسم
الآتي، ومن ذهب إلى ذلك جعله من الاستخدام. وذهب الفراء
والزجاج والمبرد وقتادة وغيرهم إلى أن ما في المواضع الثلاثة
مصدرية أي وبنائها وطحوها وتسويتها. وتعقبه الزمخشري بأنه ليس
بالوجه لقوله تعالى فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها وما
يؤدي إليه من فساد النظم وذلك على ما في الحواشي لما يلزم من
عطف الفعل على الاسم وأنه لا يكون له فاعل لا ظاهر وهو ظاهر
ولا مضمر لعدم مرجعه. واعترض بأن الأخير منتقض بالأفعال
السابقة أعني بَناها وطَحاها سَوَّاها على أن دلالة السياق
كافية في صحة الإضمار، وأما الأول ففيه أن عطف الفعل على الاسم
ليس بفاسد وإن كان خلاف الظاهر على أنه على ما بعد ما كأنه
قيل:
ونفس وتسويتها فإلهامها فجورها وتقواها. واعترض هذا بأن الفاء
يدل على الترتيب من غير مهلة، والتسوية قبل نفخ الروح والإلهام
بعد البلوغ وأجيب بأن التسوية تعديل الأعضاء والقوى ومنها
المفكرة والإلهام عبارة عن بيان كيفية استعمالها في النجدين في
هذا المحل وهو غير مفارق عنه منذ سوى نعم يزداد بحسب ازدياد
القوى كيفية لا وجودا على أن المهلة في نحوها عرفي وقد يعد
متعقبا دون تراخ ثم إنه مشترك الإلزام ولا معنى لقول الطيبي
النظم السري يوجب موافقة القرائن فلا يجوز، ونفس وتسويتها
فألهمها الله فهي حاصلة وإنما ذلك بناء على توهم أن قوله تعالى
فَأَلْهَمَها جملة وبالجملة لا يلوح فساد هذا الوجه. وأبى
القاضي عبد الجبار إلّا المصدرية دون الموصولية قال لما يلزم
منها تقديم الإقسام بغير الله تعالى على إقسامه سبحانه بنفسه
عز وجل.
وأجاب عنه الإمام بأن أعظم المحسوسات الشمس فذكرها الله تعالى
مع أوصافها الأربعة الدالة على عظمها ثم ذكر سبحانه ذاته
المقدسة ووصفها جل وعلا بصفات ثلاث ليحظى العقل بإدراك جلال
الله تعالى وعظمته سبحانه كما يليق به جل جلاله ولا ينازعه
الحس فكان ذلك طريقا إلى جذب العقل من حضيض عالم المحسوسات إلى
بيداء أوج كبريائه جل شأنه، وجوز أن تكون ما عبارة عن الأمر
الذي له بنيت السماء وطحيت الأرض وسويت النفس من الحكم
والمصالح التي لا تحصى، ويكون إسناد الأفعال إليها مجازا،
وفاعل ألهمها يجوز أن يكون ذلك أمر ويكون الإسناد مجازا أيضا
وهو كما ترى والفجور والتقوى على ما أخرج عبد بن حميد وغيره عن
الضحاك المعصية والطاعة مطلقا قلبيين كانا أو قالبيين
وإلهامهما النفس على ما أخرج هو وابن جرير وجماعة عن مجاهد
تعريفهما إياها بحيث تميز رشدها من ضلالها، وروي ذلك عن ابن
عباس كما في البحر، وقريب منه قول ابن زيد ألهمها فُجُورَها
وَتَقْواها بيّنهما لها. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم
وغيرهما نحوه عن قتادة والآية على ذلك نظير قوله تعالى
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] وقدم الفجور على
التقوى لأن إلهامه بهذا المعنى من مبادئ تجنبه وهو تخلية
والتخلية مقدمة على التحلية وقيل:
قدم مراعاة للفواصل وأضيفا إلى ضمير النفس قيل إشارة إلى أن
الملهم للنفس فجور وتقوى قد استعدت لهما فهما لها بحكم
الاستعداد، وقيل رعاية للفواصل أيضا. وقوله تعالى قَدْ
أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها جواب القسم على ما أخرجه الجماعة عن
قتادة وإليه ذهب الزجاج وغيره، وحذف اللام كثير لا سيما عند
طول الكلام المقتضى للتخفيف أو لسدّه مسدها. وفاعل زَكَّاها
ضمير من والضمير المنصوب للنفس وكذا في قوله تعالى وَقَدْ خابَ
مَنْ دَسَّاها وتكرير قَدْ فيه لإبراز الاعتناء بتحقيق مضمونه
والإيذان بتعلق القسم به أصالة، والتزكية التنمية والتدسية
الإخفاء وأصل دسى دسس فأبدل من ثالث التماثلات ياء ثم أبدلت
ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وأطلق بعضهم فقال: أبدل من ذلك
حرف علة كما قالوا في تقضض تقضى ودسس مبالغة في دس بمعنى أخفى
قال الشاعر:
(15/360)
ودسست عمرا في التراب فأصبحت ... حلائله
منه أرامل ضيّعا
وفي الكشاف: التزكية الإنماء والإعلاء، والتدسية النقص
والإخفاء أي لقد فاز بكل مطلوب ونجا من كل مكروه من أنمى نفسه
وأعلاها بالتقوى علما وعملا ولقد خسر من نقصها وأخفاها بالفجور
جهلا وفسوقا.
وجوز أن تفسر التزكية بالتطهير من دنس الهيولى والتدسية
بالإخفاء فيه والتلوث به وأيّا ما كان ففي الوعد والوعيد
المذكورين مع إقسامه تعالى عليهما بما أقسم به مما يدل على
العلم بوجوده تعالى ووجوب ذاته سبحانه وكمال صفاته عز وجل
ويذكر عظائم آلائه وجلائل نعمائه جلا وعلا من اللطف بعباده ما
لا يخفى.
وقوله تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها استئناف وارد لتقرير
مضمون قوله تعالى وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها وجعل الزمخشري
قوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ إلخ تابعا لقوله تعالى فَأَلْهَمَها
إلخ على سبيل الاستطراد وأبى أن يكون جواب القسم وجعل الجواب
محذوفا مدلولا عليه بهذا كأنه قيل: ليدمن من الله تعالى على
كفار مكة لتكذيبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما دمدم على
ثمود لتكذيبهم صالحا عليه السلام، فقيل: إن ذلك لما يلزم من
حذف اللام وأنه لا يليق بالنظم المعجز أن يجعل أدنى الكمالين
أعني التزكية لاختصاصها بالقوة العملية المقصودة بالإقسام
ويعرض عن أعلاهما أعني التحلية بالعقائد اليقينية التي هي لب
الألباب وزبدة ما مخضته الأحقاب، ولو سلم عدم الاختصاص فهي
مقدمة التحلية في البابين وأما حذف المقسم عليه فكثير شائع لا
سيما في الكتاب العزيز. وتعقب بأن حذف اللام كثير لا سيما مع
الطول وهو أسهل من حذف الجملة بتمامها وقد ذكره في قَدْ
أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: 1] فما حدا مما بدا وأن
التزكية مرادا بها الإنماء لا اختصاص لها وليست مقدمة بل
مقصودة بالذات ولو سلم فلا مانع من الاعتناء ببعض المقدمات
أحيانا لتوقف المقاصد عليها فتدبر.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير
أنه قال في
فَأَلْهَمَها ألزمها وأخرجه الديلمي عن أنس مرفوعا
وعلى ذلك قال الواحدي وصاحب المطلع الإلهام أن يوقع في القلب
التوفيق والخذلان فإذا أوقع سبحانه في قلب عبد شيئا منهما فقد
ألزمه سبحانه ذلك الشيء ويزيد ذلك قوة ما
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن عمران بن حصين أن رجلين من
مزينة أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله
أرأيت ما يعمل الناس ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من
قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت
الحجة عليهم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «لا بل شيء قضي عليهم
ومضى فيهم وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى وَنَفْسٍ وَما
سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها»
ولا يقتضي ذلك أن لا يكون لقدرة العبد واختياره مدخل في الفجور
والتقوى بالكلية وإن قيل إن ما له إلى خلق الله تعالى إياهما
ليقال يأباه حينئذ قوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها إلخ
حيث جعل فيه العبد فاعل التزكية بالتقوى والتدسية بالفجور لأن
الإسناد يقتضي قيام المسند ويكفي فيه المدخلية المذكورة ولا
يتوقف صحة الإسناد حقيقة إلى العبد على كون فعله الإيجاد
فالاستدلال بهذا الإسناد على كونه متمكنا من اختيار ما شاء من
الفجور والتقوى وإيجاده إياه بقدرة مستقلة فيه على خلاف ما
يقوله الجماعة ليس بشيء على أن الضمير المستتر في زَكَّاها
وكذا في دَسَّاها لله عز وجل والبارز لمن بتأويل النفس. فقد
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال
في ذلك يقول الله تعالى قد أفلح من زكى الله تعالى نفسه فهداه
وقد خاب من دسى الله تعالى نفسه فأضله. بل
أخرج عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي أنه
قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم
(15/361)
يقول في قوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
زَكَّاها الآية: «أفلحت نفس زكاها الله تعالى وخابت نفس خيبها
الله من كل خير»
.
وأخرج الإمام أحمد وابن أبي شيبة ومسلم والنسائي عن زيد بن
أرقم قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «اللهم آت
نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها» .
وفي رواية الطبراني وغيره عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام
إذا تلا هذه الآية وقف وقال ذلك
. ولهذه الأخبار ونحوها قال بعضهم: إن ذلك هو المرجح، ورجحه
صاحب الانتصاف بأن الضمائر في وَالسَّماءِ وَما بَناها إلخ
تكون عليه متسقة عائدة كلها إلى الله تعالى وبأن قوله تعالى
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى: 14] أوفق به لأن تزكى
مطاوع زكى فيكون المعنى قد أفلح من زكاه الله تعالى فتزكى، ومع
هذا كله لا ينبغي أن ينكر أن المعنى السابق هو السابق إلى
الذهن وما ذكر من الأخبار ليس نصا في تعيين المعنى الآخر، نعم
هو نص في تكذيب الزمخشري في زعمه أنه من تعكيس القدرية يعني
بهم أهل السنة والجماعة فتأمل. والطغوى مصدر من الطغيان بمعنى
تجاوز الحد في العصيان فصلوا بين الاسم والصفة في فعلي من بنات
الياء بأن قلبوا الياء واوا في الاسم وتركوا القلب في الصفة
فقالوا في الصفة امرأة صديا وخزيا وفي الاسم تقوى وطغوى كذا في
الكشاف وغيره وكلام الراغب يدل على أن طغى وأوى ويأتي حيث قال:
يقال طغوت وطغيت طغوانا وطغيانا فلا تغفل. والباء عند الجمهور
للسببية أي فعلت التكذيب بسبب طغيانها كما تقول: ظلمني الخبيث
بجراءته على الله تعالى.
وجعلها الزمخشري للاستعانة والأمر سهل، وجوز أن تكون صلة
للتكذيب على معنى كذبت بما أوعدت به في لسان نبيها من العذاب
ذي الطغوى أي التجاوز عن الحد والزيادة، ويوصف العذاب بالطغيان
بهذا المعنى كما في قوله تعالى فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ
[الحاقة: 5] وقد يوصف بالطغوى مبالغة كما يوصف بسائر المصادر
لذلك فلا يكون هناك مضاف محذوف. وقرأ الحسن ومحمد بن كعب وحماد
بن سلمة «طغواها» بضم الطاء وهو مصدر أيضا كالرجعى والحسنى في
المصادر إلا أنه قيل كان القياس الطغيا كالسقيا لأن فعلى بالضم
لا يفرق فيه بين الاسم والصفة كأنهم شذوا فيه فقلبوا الياء
واوا، وأنت تعلم أن الواو عند من يقول طغوت أصلية.
إِذِ انْبَعَثَ متعلق بكذبت أو بطغوى وانْبَعَثَ مطاوع بعثه
بمعنى أرسله والمراد إذ ذهب لعقر الناقة أَشْقاها أي أشقى تمود
وهو قدار بن سالف أو هو ومن تصدى معه لعقرها من الأشقياء اثنان
على ما قال الفراء أو أكثر، فإن أفعل التفضيل إذا أضيف إلى
معرفة يصلح للواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث وفضل شقاوتهم على
من عداهم لمباشرتهم العقر مع اشتراك الكل في الرضا به ولخبائث
غير ذلك يعلمها الله تعالى فيهم هي فوق خبائث من عداهم فَقالَ
لَهُمْ أي لثمود أو لأشقاها على ما قيل بناء أن المراد به جمع
ولا يأباه وَسُقْياها كما لا يخفى رَسُولُ اللَّهِ هو صالح
عليه السلام وعبر عنه بعنوان الرسالة إيذانا بوجوب طاعته
وبيانا لغاية عتوهم وتماديهم في الطغيان وهو السر في إضافة
الناقة إليه تعالى في قوله سبحانه ناقَةَ اللَّهِ وهو نصب على
التحذير وشرطه ليس تكرير المحذر منه أو كونه محذرا بما بعده
فقط ليقال هو منصوب بتقدير ذروا أو احذروا لا على التحذير، بلى
شرطه ذاك أو العطف عليه كما هنا على ما نص عليه مكي والكلام
على حذف مضاف أي احذروا عقر ناقة الله أو المعنى على ذلك وإن
لم يقدر في نظم الكلام وجوز أن يكون التقدير عظموا أو الزموا
ناقة الله وليس بشيء وَسُقْياها أي واحذروا سقياها فلا تتعرضوا
بمنعها عنها في نوبتها ولا تستأثروا بها عليها وقيل الواو
للمعية والمراد ذروا ناقة الله مع سقياها ولا تحولوا بينهما
وهو كما ترى وقرأ زيد بن علي ناقة الله بالرفع فقيل أي همكم
ناقة الله وسقياها فلا تعقروها ولا تستأثروا بالسقيا عليها
(15/362)
فَكَذَّبُوهُ أي في وعيده إياهم كما حكي
عنه بقوله تعالى وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ [الأعراف: 73] فالتكذيب لخبر مقدر ويجوز أن
يكون لخبر تضمنه الأمر التحذيري السابق وهو الخبر بحلول العذاب
إن فعلوا ما حذرهم منه وقيل: إن ما قاله لهم من الأمر قاله
ناقلا له عن الله تعالى كما يؤذن بذلك التعبير عنه عليه السلام
بعنوان الرسالة، ومآل ذلك أنه قال لهم إنه قال الله تعالى ناقة
الله وسقياها فالتكذيب لذلك وهو وجه لا بأس به فَعَقَرُوها أي
فنحروها أو فقتلوها وضمير الجمع للأشقى وجمعه على تقدير وحدته
لرضا الكل بفعله. قال قتادة: بلغنا أنه لم يعقرها حتى تابعه
صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم.
فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ فأطبق عليهم العذاب وقالوا:
دمدم عليه القبر أي أطبقه وهو مما تكرر فيه الفاء فوزنه فعفل
لا فعلل من قولهم: ناقة مدمومة إذا لبسها الشحم وغطاها. وقال
في القاموس: معناه أتمّ العذاب عليهم. وقال مؤرخ: الدمدمة
إهلاك باستئصال. وفي الصحاح: دمدمت الشيء ألزقته بالأرض
وطحطحته. وقرأ ابن الزبير «فدهدم» بهاء بين الدالين والمعنى
كما تقدم بِذَنْبِهِمْ بسبب ذنبهم المحكي والتصريح بذلك مع
دلالة الفاء عليه للإنذار بعاقبة الذنب ليعتبر به كل مذنب
فَسَوَّاها الضمير للدمدمة المفهومة من دمدم أي فجعل الدمدمة
سواء بينهم أو جعلها عليهم سواء فلم يفلت سبحانه منهم أحدا لا
صغيرا ولا كبيرا أو هو لثمود والتأنيث باعتبار القبيلة كما في
(طغواها) وأَشْقاها والمعنى ما ذكر أيضا أو فسواها بالأرض وَلا
يَخافُ أي الرب عز وجل عُقْباها أي عاقبتها وتبعتها كما يخاف
المعاقبون من الملوك عاقبة ما يفعلونه وتبعته. وهو استعارة
تمثيلية لإهانتهم وأنهم أذلاء عند الله جل جلاله والواو للحال
أو للاستئناف، وجوز أن يكون ضمير لا يَخافُ للرسول والواو
للاستئناف لا غير على ما هو الظاهر، أي ولا يخاف الرسول عقبى
هذه الفعلة بهم إذ كان قد أنذرهم وحذرهم. وقال السدّي والضحاك
ومقاتل والزجاج وأبو علي: الواو للحال والضمير عائد على
أَشْقاها أي انبعث لعقرها وهو لا يخاف عقبى فعله لكفره وطغيانه
وهو أبعد مما قبله بكثير. وقرأ أبيّ والأعرج ونافع وابن عامر
«فلا يخاف» بالفاء وقرىء «ولم يخف» بواو وفعل مجزوم بلم. هذا
واختلف في هؤلاء القوم هل آمنوا ثم كفروا أو لم يؤمنوا أصلا
فالجمهور على الثاني وذهب بعض إلى أنهم آمنوا وبايعوا صالحا
مدة ثم كذبوه وكفروا فأهلكوا بما فصّل في موضع آخر. وقال الشيخ
الأكبر محيي الدين قدس سره في فصوصه: إنهم وقوم لوط عليه
السلام لا نجاة لهم يوم القيامة بوجه من الوجوه ولم يساو غيرهم
من الأمم المكذبة المهلكة في الدنيا كقوم نوح عليه السلام بهم.
ولكلامه قدس سره أهل يفهمونه فارجع إليهم في فهمه إن وجدتهم.
وذكر بعض أهل التأويل أن الشَّمْسِ إشارة إلى ذات واجب الوجود
سبحانه وتعالى وَضُحاها إشارة إلى الحقيقة المحمدية
وَالْقَمَرِ إشارة إلى ماهية الممكن المستفيدة للوجود من شمس
الذات وَالنَّهارِ إشارة إلى العالم بسائر أنواعه الذي ظهرت به
صفات جمال الذات وجلاله وكماله وَاللَّيْلِ إشارة إلى العالم
بسائر أنواعه الذي ظهرت بر صفات جمال الذات وجلاله وكماله
وَاللَّيْلِ إلى وجود ما يشاهد من أنواع الممكنات الساتر في
أعين المحجوبين للوجود الحق وَالسَّماءِ إشارة إلى عالم العقل
وَالْأَرْضِ إشارة إلى عالم الجسم والنفس معلومة وناقَةَ
اللَّهِ إشارة إلى راحلة الشوق الموصولة إلى سبحانه وَسُقْياها
إشارة إلى مشربها من عين الذكر والفكر وقال بعض: آخر الشمس
إشارة إلى الوجود الحق الذي هو عين الواجب تعالى فهو أظهر من
الشمس الله نور السماوات والأرض. وقال شيخ مشايخنا البندنيجي
قدس سره:
(15/363)
ظاهر أنت ولكن لا ترى ... لعيون حجبتها
النقط
وَضُحاها إشارة إلى أول التعينات بأي اسم سميته وَالْقَمَرِ
إشارة إلى الأعيان الثابتة المفاضة بالفيض الأقدس أو الشَّمْسِ
إشارة إلى الذات وَضُحاها إشارة إلى وجودها والإضافة للتغاير
الاعتباري وَالْقَمَرِ إشارة إلى أول التعينات وَالنَّهارِ
إشارة إلى الممكنات المفاضة بالفيض المقدس وَاللَّيْلِ إشارة
إليها أيضا باعتبار نظر المحجوبين أو النهار إشارة إلى صفة
الجمال والليل إشارة إلى صفة القهر والجلال وَالسَّماءِ إشارة
إلى عالم اللطافة وذكر النفس بعد مع دخولها في هذا العالم
للاعتناء بشأنها وَالْأَرْضِ إشارة إلى عالم الكثافة وناقَةَ
اللَّهِ إشارة إلى الطريقة وَسُقْياها مشربها من عين الشريعة
وقيل غير ذلك والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(15/364)
وَاللَّيْلِ إِذَا
يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى
(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ
وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى
(11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا
لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا
تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي
كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17)
الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ
عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ
رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
سورة الليل
لا خلاف في أنها إحدى وعشرون آية، واختلف في مكيتها ومدنيتها
فالجمهور على أنها مكية، وقال علي ابن أبي طلحة مدنية، وقيل
بعضها مكي وبعضها مدني. وكذا اختلف في سبب نزولها فالجمهور على
أنها نزلت في شأن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وروي ذلك
بأسانيد صحيحة عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما
وقال السدّي إنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري وذلك أنه كان
في دار منافق نخلة يقع منها في دار يتامى في جواره بعض بلح
فيأخذه منهم، فقال له صلّى الله عليه وسلم: «دعها لهم ولك
بدلها محل في الجنة» فأبى فاشتراها أبو الدحداح بحائطها فقال
للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: «أهبها لهم بالنخلة التي في
الجنة» . فقال صلّى الله عليه وسلم: «افعل» فوهبها فنزلت وروى
نحوه مطولا مبهما فيه أبو الدحداح ابن أبي حاتم عن ابن عباس
بسند ضعيف كما نص عليه الحافظ السيوطي. وذكر بعضهم أن قوله
تعالى فيها وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [الليل: 17] إلخ نزل
في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وسكت عما عداه. ونقل عن
بعض المفسرين أن هذا مجمع عليه وإن زعم بعض الشيعة أنه نزل في
الأمير كرم الله تعالى وجهه وسيأتي إن شاء الله تعالى شرح ما
له نزل. ولما ذكر سبحانه فيما قبلها قَدْ أَفْلَحَ [الشمس: 9]
إلخ ذكر سبحانه فيها من الأوصاف ما يحصل به الفلاح وما يحصل به
لخيبة ففيها نوع تفصيل لذلك لا سيما وقد عقب جل وعلا ذلك بشيء
من أنواع الفلاح وأنواع الخيبة والعياذ بالله تعالى. فقال عز
من قائل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَاللَّيْلِ إِذا
يَغْشى أي حين يغشى الشمس كقوله تعالى وَاللَّيْلِ إِذا
(15/365)
يَغْشاها
[الشمس: 4] أو النهار كقوله تعالى يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ
[الأعراف: 54، الرعد: 3] أو كل ما يواريه في الجملة بظلامه
والمقسم به في الأوجه الثلاث الليل كله وَالنَّهارِ إِذا
تَجَلَّى ظهر بزوال ظلمة الليل أو تبين وانكشف بطلوع الشمس
والأول على تقدير كون المغشي النهار أو كل ما يوارى إذ مآلهما
اعتبار وجود الظلام. والثاني على تقدير كونه الشمس إذ مآله
اعتبار غروبها فيحسن التقابل بين القرينتين على ذلك واختلاف
الفعلين مضيا واستقبالا قد تقدم الكلام فيه. وقرأ عبد الله بن
عبيد بن عمير «تتجلى» بتاءين على أن الضمير للشمس وقرىء «تجلى»
بضم التاء وسكون الجيم على أن الضمير لها أيضا وَما خَلَقَ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أي والقادر العظيم القدرة الذي خلق صنفي
الذكر والأنثى من الحيوان المتصف بذلك وقيل من بني آدم. وقال
ابن عباس والحسن والكلبي: المراد بالذكر آدم عليه السلام،
وبالأنثى حواء رضي الله تعالى عنها وأيّا ما كان فما موصولة
بمعنى من وأوثرت عليها لإرادة الوصفية على ما سمعت وتحتمل
المصدرية وليس بذاك. وقرىء «والذي خلق» . وقرأ ابن مسعود
«والذكر والأنثى» وتبعه ابن عباس كما أخرج ذلك ابن النجار في
تاريخ بغداد من طريق الضحاك عنه ونسبت لعليّ كرم الله تعالى
وجهه
.
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم من علقمة أنه
قدم الشام فجلس إلى أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه فقال له
أبو الدرداء ممّن أنت؟ فقال: من أهل الكوفة قال: كيف سمعت رسول
الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى؟ قال
علقمة: «والذكر والأنثى» فقال أبو الدرداء: أشهد أني سمعت رسول
الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ هكذا وهؤلاء
يريدوني على أن أقرأ وما خلق الذكر والأنثى والله لا أتابعهم
وأنت تعلم أن هذه قراءة شاذة منقولة آحادا لا تجوز القراءة بها
لكنها بالنسبة إلى من سمعها من النبيّ عليه الصلاة والسلام في
حكم المتواترة نجوز قراءته بها وذكر ثعلب أن من السلف من قرأ
«وما خلق الذكر» بجر الراء وحكاها الزمخشري عن الكسائي وخرجوا
ذلك على البدل من ما بمعنى وما خلقه الله أي ومخلوق الله الذكر
والأنثى. قيل: وقد يخرج على توهم المصدر بناء على مصدرية ما أي
وخلق الذكر والأنثى كما في قوله:
تطوف العفاة بأبوابه ... كما طاف بالبيعة الراهب
بجر الراهب على توهم النطق بالمصدر أي كطواف الراهب بالبيعة.
إِنَّ سَعْيَكُمْ أي مساعيكم فإن المصدر المضاف يفيد العموم
فيكون جمعا معنى ولذا أخبر عنه بجمع أعني قوله تعالى لَشَتَّى
فإنه جمع شتيت بمعنى متفرق، ويجوز أن لا يعتبر سعيكم في معنى
الجمع ويكون شتى مصدرا مؤنثا كذكرى وبشرى خبرا له بتقدير مضاف
أي ذو شتى أو بتأويله بالوصف أي شتيت أو بجعله عين الافتراق
مبالغة. وأيّا ما كان فالجملة جواب القسم كما أخرجه ابن جرير
عن قتادة. وجوز أن يكون الجواب مقدرا كما مرّ غير مرة والمراد
بتفرق المساعي اختلافها في الجزاء. وقوله تعالى فَأَمَّا مَنْ
أَعْطى إلخ تفصيل مبين لتفرقها واختلافها في ذلك، وجوز أن يراد
باختلافها كون البعض طالبا لليوم المتجلي والبعض طالبا لليل
الغاشي وبعضها مستعانا بالذكر وبعضها مستعانا بالأنثى فيكون
الجواب شديد المناسبة بالقسم ولا يخفى بعده وركاكته. والظاهر
أن المراد بالإعطاء بذل المال ومن هنا قال ابن زيد: المراد
إنفاق ماله في سبيل الله تعالى. قتادة: المعنى أعطى حق الله
تعالى وظاهره الحقوق المالية وَاتَّقى أي واتقى الله عز وجل
كما قال ابن عباس، وفي معناه قول قتادة واتقى ما نهي عنه. وفي
رواية محارم الله تعالى. وقال مجاهد: واتقى البخل وهو كما ترى
وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى أي بالكلمة الحسنى وهي كما قال أبو عبد
الرحمن السلمي وغيره وروي ذلك عن ابن عباس: لا
(15/366)
إله إلا الله، أو هي ما دلت على حق كما قال
بعضهم: وتدخل كلمة التوحيد دخولا أوليا أو بالملة الحسنى وهي
ملة الإسلام. وقال عكرمة وجماعة: وروي عن ابن عباس أيضا هي
المثوبة بالخلف في الدنيا مع المضاعفة وقال مجاهد: الجنة،
وقيل: المثوبة مطلقا ويترجح عندي أن الإعطاء إشارة إلى العبادة
المالية، والاتقاء إشارة إلى ما يشمل سائر العبادات من فعل
الحسنات وترك السيئات مطلقا والتصديق بالحسنى إشارة إلى
الإيمان بالتوحيد أو بما يعمه وغيره مما يجب الإيمان به وهو
تفصيل شامل للمساعي كلها، وتقديم الإعطاء لما أنه سبب النزول
ظاهرا فقد أخرج الحاكم وصححه عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن
أبيه قال:
قال أبو قحافة لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: أراك تعتق رقابا
ضعافا فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك
ويقيمون دونك. فقال: يا أبه إنما أريد ما أريد، فنزلت فَأَمَّا
مَنْ أَعْطى وَاتَّقى إلى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ
نِعْمَةٍ تُجْزى وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن
ابن مسعود قال: إن أبا بكر اشترى بلالا من أمية بن خلف ببردة
وعشرة أواق فأعتقه فأنزل الله تعالى وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى -
إلى قوله سبحانه- إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى وكذا على القول
بأنها نزلت في أبي الدحداح. ولما كان الإيمان أمرا معتنى به في
نفسه أخر عن الاتقاء ليكون ذكره بعده من باب ذكر الخاص بعد
العام مع ما في ذلك من رعاية الفاصلة.
وقيل: المراد أعطى الطاعة واتقى المعصية وصدق بالكلمة الدالّة
على الحق ككلمة التوحيد. وفيه أن المعروف في الإعطاء تعلقه
بالمال خصوصا وقد وقع في مقابلة ذكر البخل والمال وأمر تأخير
الإيمان عليه بحاله وقيل أخر لأن من جملة إعطاء الطاعة
بالإصغاء لتعلم كلمة التوحيد التي لا يتم الإيمان إلّا بها.
ومن جملة الاتقاء عن الإشراك وهما متقدمان على ذلك وليس بشيء
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى فسنهيئه للخلصة التي تؤدي إلى يسر
وراحة كدخول الجنة ومباديه، من يسر الفرس للركوب إذا أسرجها
وألجمها. ووصفها باليسرى إما على الاستعارة المصرحة أو المجاز
المرسل أو التجوز في الإسناد.
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ بماله فلم يبذله في سبيل الخير وقيل أي
بخل بفعل ما أمر به وفيه ما فيه وَاسْتَغْنى أي وزهد فيما عنده
عز وجل كأنه مستغنى عنه سبحانه فلم يتقه جل وعلا أو استغنى
بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى لأنه في مقابلة واتقى. كما أن
قوله تعالى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى في مقابلة وصدق بالحسنى
والمراد بالحسنى فيه ما مر في الأقوال قبل فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْعُسْرى أي للخصلة المؤدية إلى العسر والشدة كدخول النار
ومبادئه ووصفها بالعسرى على نحو ما ذكر، وأصل التيسير من اليسر
بمعنى السهولة لكن أريد التهيئة والإعداد للأمر أعني ما يفضي
إلى راحة وما يفضي إلى شدة. والسين في فَسَنُيَسِّرُهُ قيل
للتأكيد وقيل للدلالة على أن الجزاء الموعود معظمه يكون في
الآخرة التي هي أمر منتظر متراخ، وتقديم البخل فالاستغناء
فالتكذيب يعلم وجهه مما تقدم. وفي الإرشاد لعل تصدير القسمين
بالإعطاء والبخل مع أن كلّا منهما أدنى رتبة مما بعد في
استتباع التيسير لليسرى والتعسير للعسرى للإيذان بأن كلّا
منهما أصيل فيما ذكر لما بعدهما من التصديق والتقوى والتكذيب
والاستغناء. وقيل التيسير أولا بمعنى اللطف وثانيا بمعنى
الخذلان، واليسرى والعسرى الطاعة لكونها أيسر شيء على المتقي
وأعسره على غيره، والمعنى أما من أعطى فسنلطف به ونوفقه حتى
تكون الطاعة عليه أيسر الأمور وأهونها من قوله تعالى فَمَنْ
يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلامِ [الأنعام: 125] وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ إلخ فسنخذله
ونمنعه الإلطاف حتى تكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشد من قوله
تعالى يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما
يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ [الأنعام: 125] ، وأصل هذا
(15/367)
فسنيسره للطاعة العسرى ثم أريد ما ذكر على
أن الوصف هو المقصود بتعلق التيسير أعني التعسير لا الموصوف
أعني الطاعة، ومع هذا إطلاق التيسير للعسرى مشاكلة. وجوز أن
يراد باليسرى طريق الجنة وبالعسرى طريق النار وبالتيسير في
الموضعين معنى الهداية وهو في الآخرة وعدا ووعيدا وأمر
المشاكلة فيه على حاله. وجوز أن يراد بالتيسير التهيئة
والإعداد واليسرى والعسرى الطاعة والمعصية ومبادئهما من الصفات
المحمودة والمذمومة وهو وجه حسن غير بعيد عن الأول وكلاهما حسن
الطباق لما صح في الأخبار
أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي
وابن ماجة وغيرهم عن علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه قال:
كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في جنازة فقال: «ما منكم
من أحد إلّا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار» فقالوا:
يا رسول الله أفلا نتكل؟ فقال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له،
أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من
كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاء» ثم قرأ عليه الصلاة
والسلام «فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى» الآيتين
وكان حاصل ما أراده صلّى الله عليه وسلم بقوله: «اعملوا» إلخ
عليكم شأن العبودية وما خلقتم لأجله وأمرتم به وكلوا أمور
الربوبية المغيبة إلى صاحبها فلا عليكم بشأنها. وأيّا ما كان
فالمراد بمن أعطى إلخ وبمن بخل إلخ المتصف بعنوان الصلة مطلقا
وإن كان السبب خاصا إذا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
نعم هو قطعي الدخول وقيل من أعطى أبو بكر رضي الله تعالى عنه،
ومن بخل أمية بن خلف. وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن
عساكر عن ابن عباس أن الأول أبو بكر رضي الله تعالى عنه
والثاني أبو سفيان بن حرب ونحوه عن عبد الله بن أبي أوفى وفي
هذا نظر لأن أبا سفيان أسلم وقوي إسلامه في آخر أمره عند أهل
السنة. وفي رواية الطستي عنه أن وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ إلخ نزل
في أبي جهل ولعل كل ما قيل من التخصيص فهو من باب التنصيص على
بعض أفراد العام لتحقق دخوله فيه عند من خصص.
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ أي ولا يغني عنه على أن ما نافية
أو أي شيء يغني عنه ماله الذي يبخل به على أنها استفهامية إِذا
تَرَدَّى أي هلك تفعل من الردى وهو الهلاك قاله مجاهد. وقيل
تردى في حفرة القبر.
وقال قتادة وأبو صالح: تردى في جهنم أي سقط وقال قوم تردى
بأكفانه من الرداء وهو كناية عن موته وهلاكه إِنَّ عَلَيْنا
لَلْهُدى استئناف مقرر لما قبله أي إن علينا بموجب قضائنا
المبني على الحكم البالغة حيث خلقنا الخلق للعبادة أي ندلهم
ونرشدهم إلى الحق أو أن نبين لهم طريق الهدى وما يؤدي إليه من
طريق الضلال وما يؤدي إليه وقد فعلنا ذلك بما لا مريد عليه فلا
يتم الاستدلال بالآية على الوجوب عليه عز وجل بالمعنى الذي
يزعمه المعتزلة. وقيل: المراد أن الهدى موكول علينا لا على
غيرنا كما قال سبحانه إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص: 56] وليس المعنى
أن الهدى يجب علينا حتى يكون بظاهره دليلا على وجوب الأصلح
عليه تعالى عن ذلك علوا كثيرا. وفيه أن تعلق الجار بالكون
الخاص أعني موكولا خلاف الظاهر ومثله ما قيل إن المراد ثم إن
علينا طريقة الهدى على معنى أن من سلك الطريقة المبينة بالهدى
والإرشاد إليها يصل إلينا كما قيل في قوله تعالى وَعَلَى
اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ [النحل: 9] أي من سلك السبيل القصد
أي المستقيم وصل إليه سبحانه وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ
وَالْأُولى أي التصرف الكلي فيهما كيفما نشاء فنفعل فيهما ما
نشاء من الأفعال التي من جملتها ما ذكرنا فيمن أعطى وفيمن بخل
أو أن لنا ذلك فنثيب من اهتدى وأنجع فيه هدانا أو أن لنا كل ما
في الدارين فلا يضرنا ترككم الاهتداء وعدم انتفاعكم بهدانا، أو
فلا ينفعنا اهتداؤكم كما لا يضرنا ضلالكم فمن اهتدى فإنما
يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل
(15/368)
عليها فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى قيل
متفرع على كون الهدى عليه سبحانه أي فهديتكم بالإنذار
وبالغت في هدايتكم وتَلَظَّى بمعنى تلتهب وأصله تتلظى
بتاءين فحذفت منه إحداهما. وقد قرأ بذلك ابن الزبير وزيد
بن علي وطلحة وسفيان بن عيينة وعبيد بن عمير لا يَصْلاها
إِلَّا الْأَشْقَى المراد به الكافر فإنه أشقى من الفاسق
ويفصح بذلك وصفه بقوله تعالى الَّذِي كَذَّبَ أي بالحق
وَتَوَلَّى وأعرض عن الطاعة وَسَيُجَنَّبُهَا أي سيبعد
عنها الْأَتْقَى المبالغ في اتقاء الكفر والمعاصي فلا يحوم
حولها. واستشكل بأن صلى النار دخولها أو مقاساة حرها وهو
لازم دخولها على المشهور فالحصر السابق يقتضي أن لا يصلى
المؤمن العاصي النار لأنه ليس داخلا في عموم الأشقى
الموصوف بما ذكر وأن سيجنبها الأتقى يقتضي بمفهومه أن غير
الأتقى أعني التقي في الجملة وهو المؤمن العاصي لا يجنبها
بل يصلاها، فبيّن الحصرين مخالفة. وأجيب بأن الصلى ليس
مطلق دخول النار ولا مطلق مقاساة حرها بل هو مقاساته على
وجه الأشدية، فقد نقل ابن المنير عن أئمة اللغة أن الصلى
أن يحفروا حفيرة فيجمعوا فيها جمرا كثيرا ثم يعمدوا إلى
شاة فيدسوها وسطه بين أطباقه فالمعنى لا يعذب بين أطباقها
ولا يقاسي حرها على وجه الأشدية إلا الأشقى وسيبعد عنها
الأتقى فلا يدخلها فضلا عن مقاساة ذلك فيلزم من الأول أن
غير الأشقى وهو المؤمن العاصي لا يعذب بين أطباقها ولا
يقاسي حرها على وجه الأشدية، ولا يلزم منه أن لا يدخلها
ولا يعذب بها أصلا فيجوز أن يدخلها ويعذب بها على وجهها
عذابا دون ذلك العذاب. ويلزم من الثاني أن غير الأتقى لا
يجنبها ولا يلزم منه أن غيره أعني التقي في الجملة وهو
المؤمن العاصي يصلاها ويعذب بين أطباقها أشد العذاب، بل
غايته أنه لا يجنبها فيجوز أن يدخلها ويعذب بها على وجهها
عذابا ليس بالأشد فلا مخالفة بين الحصرين واعتبر بعضهم في
الصلى الأشدية لما ذكر واللزوم هنا لمقابلته بقوله تعالى
وَسَيُجَنَّبُهَا كذا قيل. واستحسن جعل السين للتأكيد
ليكون المعنى يجنبها الأتقى ولا بد فيفيد على القول
بالمفهوم أن غيره وهو المؤمن العاصي لا يجنبها ولا بد على
معنى أنه يجوز أن يجنبها، ويجوز أن لا يجنبها بل يدخلها
غير صال بها. وقرر الزمخشري الاستشكال بأنه قد علم أن كل
شقي يصلاها وكل تقي يجنبها لا يختص الصلى بأشقى الأشقياء
ولا التجنب والنجاة بأتقى الأتقياء وظاهر الجملتين وذلك.
وأجاب بما حاصله أن الحصر حيث كانت الآية واردة للموازنة
بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ادعائي
مبالغة لا حقيقي كان غير هذا الأشقى غير صال وغير هذا
الأتقى
غير مجنب بالكلية، واستحسنه في الكشف فقال: هو معنى حسن
وأنت تعلم أن مبنى ما قاله على الاعتزال وتخليد العصاة في
النار. وقال القاضي: إن قوله تعالى لا يَصْلاها لا يدل على
أنه تعالى لا يدخل النار إلّا الكفار كما يقول المرجئة
وذلك لأنه تعالى نكر النار فيها، فالمراد أن نارا من
النيران لا يصلاها إلّا من هذه حاله والنار دركات على ما
علم من الآيات فمن أين عرف أن هذه النار لا يصلاها قوم
آخرون.
وتعقبه الزمخشري بأنه ما يصنع عليه بقوله تعالى
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى فقد علم أن أفسق المسلمين
يجنب تلك النار المخصوصة لا الأتقى منهم خاصة، وأجيب بأنه
لعل هذا القائل لا يقول بمفهوم الصفة ونحوها فلا تفيد
الآية المذكورة عنده الحصر ويكون تمييز هذا الأتقى عنده
بمجموع التجنب وما سيذكر بعد، ولعل كل من لا يقول بالمفهوم
لا يشكل عليه الأمر إلا أمر الحضر في لا يصلاها إلخ فإنه
كالنص في بادىء النظر فيها يدعيه المرجئة لحملهم الصلى فيه
على مطلق الدخول. وأيدوه بما
أخرج الإمام أحمد وابن ماجة وابن مردويه عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار إلّا
من شقي» قيل: ومن الشقي؟ قال: «الذي لا يعمل لله تعالى
طاعة ولا يترك لله تعالى معصية»
. وهذا الخبر ونحوه من الأخبار مما يستندون إليه في تحقيق
دعواهم
(15/369)
وأهل السنة يؤولون ما صح من ذلك للنصوص
الدالة على تعذيب بعض ممن ارتكب الكبيرة على ما بيّن في
موضعه. وقيل في الجواب أن المراد بالأشقى والأتقى الشقي
والتقي وشاع أفعل في مثل ذلك ومنه قول طرفة:
تمنى رجال أن أموت فإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فإنه أراد بواحد واعترض بأنه لا يحسم مادة الإشكال إذ ذلك
الشقي في الآية ليس إلّا الكافر فيلزم الحصر أن لا يدخل
النار أو لا يعذب بها غيره من أنه خلاف المذهب الحق، وأيضا
أن ذلك التقي فيها قد وصف بما وصف فعلى القول بالمفهوم
يلزم أن لا يجنبها التقي الغير الموصوف بذلك كالتقي الذي
لا مال له وكغيره والمكلفين من الأطفال والمجانين مع أن
الحق أنهم يجتنبونها وقيل غير ذلك. ولعلك بعد الاطلاع عليه
وتدقيق النظر في جميع ما قيل واستحضار ما عليه الجماعة في
أهل الجمع تستحسن إن قلت بالمفهوم ما استحسنه صاحب الكشف
مما مر عن الزمخشري وإن لم تكن ممن يقول بتخليد أهل
الكبائر من المؤمنين فتأمل. وجنب يتعدى إلى مفعولين
فالضميرها هنا المفعول الثاني، والأتقى المفعول الأول وهو
النائب عن الفاعل. ويقال: جنب فلان خيرا وجنب شرا، وإذا
أطلق فقيل جنب فلان فمعناه على ما قال الراغب أبعد عن
الخير وأصل جنبته كما قيل جعلته على جانب منه، وكثيرا ما
يراد منه التبعيد ومنه ما هنا ولذا قلنا أي سيبعد عنها
الأتقى.
الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ أي يعطيه ويصرفه يَتَزَكَّى طالبا
أن يكون عند الله تعالى زاكيا ناميا لا يريد به رياء ولا
سمعة أو متطهرا من الذنوب فالجملة نصب على الحال من ضمير
يؤتي، وجوز أن تكون بدلا من الصلة فلا محل لها من الإعراب،
وجوز أيضا أن يكون الفعل وحده بدلا من الفعل السابق وحده
واعترض كلا الوجهين بأن البدل من قسم التابع المعرف بكل
ثان أعرب بإعراب سابقه ولا إعراب للصلة حتى يثبت لها تابع
فيه. وسبب الإعراب وهو الرفع في الفعل متوفر مع قطع النظر
عن التبعية وهو على المشهور تجرده عن الناصب والجازم فليس
معربا بإعراب سابقه لظهور ذلك في كون إعرابه للتبعية وهو
هنا ليس لها بل للتجرد. وأجيب مع الإغماض عما في ذلك
التعريف مما نبّه على بعضه الرضي أما عن الأول فبأن المراد
أعرب بإعراب سابقه إن كان له إعراب أو بأن المراد أعرب
بإعراب سابقه وجودا وعدما وقيل إطلاق التابع على ذلك ونحوه
من الحرف والفعل الغير المعرب مجاز من حيث إنه مشابه
للتابع لموافقته لسابقه فيما له وأما عن الثاني فبأن الشيء
قد يقصد لشيء وإن كان متحققا قبل ذلك الشيء لأمر آخر كألف
التثنية وواو الجمع فإنه يؤتى بهما للدلالة على التثنية
والجمع فيتحققان، ويأتي عامل الرفع على المثنى والمجموع
وهما فيهما قبله فيقصدان له وقال السيد عيسى: المراد
بقولهم كل ثان أعرب إلخ كل ثان أعرب لو لم يكن معربا فتدبر
ولا تغفل. وجوز أن يكون يَتَزَكَّى بتقدير لأن يتزكى
متعلقا بيؤتي علة له ثم حذفت اللام وحذفها من أن وأن شائع
ثم حذفت أن فارتفع الفعل أو بقي منصوبا كما في قول طرفة:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى فقد روي برفع أحضر وبنصبه
وقيل إنه بتقدير لأن أو عن أن أحضر فصنع فيه نحو ما سمعت.
وأيّا ما كان يدل الكلام على أن المراد بإيتائه صرفه في
وجوه البر والخير.
وقرأ الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله
تعالى عنهم «يزكى» بإدغام التاء في الزاي
وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى استئناف مقرر
لما أفاده الكلام السابق من كون إيتائه للتزكي خالصا لله
تعالى أي ليس لأحد عنده نعمة من
(15/370)
شأنها أن تجزى وتكافأ فيقصد بإيتاء ما يؤتى
مجازاتها ويعلم مما ذكر أن بناء تُجْزى للمفعول لأن القصد
ليس لفاعل معين وقيل إن ذلك لكونه فاصلة وأصله يجز به
إياها أو يجزيها إياه إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ
الْأَعْلى منصوب على الاستثناء المنقطع من نعمة لأن
الابتغاء لا يندرج فيها فالمعنى لكنه فعل ذلك لابتغاء وجه
ربه سبحانه وطلب رضاه عز وجل لا لمكافأة نعمة. وقرأ يحيى
بن وثاب «ابتغاء» بالرفع على البدل من محل «من نعمة» فإنه
الرفع إما على الفاعلية أو على الابتداء ومن مزيدة والرفع
في مثل ذلك لغة تميم وعليها قوله:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلّا اليعافير وإلّا العيس
وروي بالرفع والنصب على ما في البحر قول بشر بن أبي حازم:
أضحت خلاء قفارا لا أنيس بها ... إلا الجآذر والظلمان
تختلف
وجوز أن يكون نصبه على أنه مفعول له على المعنى لأن معنى
الكلام لا يؤتى ما له لأجل شيء من الأشياء إلّا لأجل طلب
رضا ربه عز وجل لا لمكافأة نعمة فهو استثناء مفرغ من أعم
العلل والأسباب، وإنما أول لأن الكلام أعني يُؤْتِي مالَهُ
موجب والاستثناء المفرغ يختص بالنفي عند الجمهور لكنه لما
عقب بقوله تعالى وَما لِأَحَدٍ وقد قال سبحانه أو لا
يَتَزَكَّى متضمنا نفي الرياء والسمعة دل على المعنى
المذكور. وقرأ ابن أبي عبلة «إلا ابتغا» مقصور وفيه
احتمال. النصب والرفع. وهذه الآيات على ما ما سمعت نزلت في
أبي بكر رضي الله تعالى عنه لما أنه كان يعتق رقابا ضعافا
فقال له أبوه ما قال وأجابه هو بما أجاب، وقد أوضحت ما
أبهمه رضي الله تعالى عنه في قوله فيه إنما أريد ما أريد.
وفي رواية ابن جرير وابن عساكر أنه قال: أي أبه إنما أريد
ما عند الله تعالى. وفي رواية عطاء والضحاك عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنه اشترى بلالا وكان رقيقا لأمية بن خلف
يعذبه لإسلامه برطل من ذهب فأعتقه فقال المشركون: ما أعتقه
أبو بكر إلّا ليد كانت له عنده فنزلت وهو رضي الله تعالى
عنه أحد الذين عذبوا لإسلامهم فاشتراهم الصديق وأعتقهم.
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن عروة أن أبا بكر الصديق رضي الله
تعالى عنه أعتق سبعة كلهم يعذب في الله عز وجل بلال وعامر
بن فهيرة والنهدية وابنتها ودنيرة وأم عبيس وأمة بني
المؤمل وفيه نزلت وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى إلى آخر
السورة واستدل بذلك الإمام على أنه رضي الله تعالى عنه
أفضل الأمة وذكر أن في الآيات ما يأبى قول الشيعة أنها في
علي كرم الله تعال وجهه وأطال الكلام في ذلك وأتى بما لا
يخلو عن قيل وقال وقوله تعالى وَلَسَوْفَ يَرْضى جواب قسم
مضمر أي وبالله لسوف يرضى والضمير فيه للأتقى المحدث عنه
وهو وعد كريم بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها
إذ به يتحقق الرضا وجوز الإمام كون الضمير للرب تعالى حيث
قال بعد أن فسر الجملة على رجوعه للأتقى وفيه عندي وجه آخر
وهو أن المراد أنه ما أنفق إلّا لطلب رضوان الله تعالى
ولسوف يرضى الله تعالى عنه وهذا عندي أعظم من الأول لأن
رضا الله سبحانه عن عبده أكمل للعبد من رضاه عن ربه عز
وجل، وبالجملة فلا بد من حصول الأمرين كما قال سبحانه
راضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر: 28] انتهى. والظاهر هو الأول
وقد قرىء «ولسوف يرضى» بالبناء للمفعول من الإرضاء وما
أشار إليه في معنى راضِيَةً مَرْضِيَّةً غير متعين كما
سمعت وفي هذه الجملة كلام يعلم مما سيأتي قريبا إن شاء
الله تعالى.
(15/371)
وَالضُّحَى (1)
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا
قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ
يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى
(7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا
الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا
تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
سورة الضّحى
مكية وآيها إحدى عشرة آية بلا خلاف. ولما ذكر سبحانه فيما
قبلها وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [الليل: 17] وكان سيد
الأتقين رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عقب سبحانه ذلك
بذكر نعمه عز وجل عليه صلّى الله عليه وسلم وقال الإمام:
لما كانت الأولى سورة أبي بكر رضي الله تعالى عنه وهذه
سورة رسول الله صلّى الله عليه وسلم عقب جل وعلا بها ولم
يجعل بينهما واسطة ليعلم أن لا واسطة بين رسوله صلّى الله
عليه وسلم والصديق رضي الله تعالى عنه، وتقديم سورة الصديق
على سورته عليه الصلاة والسلام لا يدل على أفضليته منه
صلّى الله عليه وسلم ألا ترى أنه تعالى أقسم أولا بشيء من
مخلوقاته سبحانه ثم أقسم بنفسه عز وجل في عدة مواضع منها
السورة السابقة على ما علمت، والخدم قد تتقدم بين يدي
السادة وكثير من السنن أمر بتقديمه على فروض العبادة ولا
يضر النور تأخره عن أغصانه ولا السنان كونه في أطراف
مرّانه ثم إن ما ذكره زهرة ربيع لا تتحمل الفرك كما لا
يخفى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحى تقدم
الكلام فيه والمراد به هنا وقت ارتفاع الشمس الذي يلي وقت
بروزها للناظرين دون ضوئها وارتفاعها لأنه أنسب بما بعد.
وتخصيصه بالإقسام به لأنه شباب النهار وقوله فيه قوة غير
قريبة من ضدها. ولذا عد شرفا يوميا للشمس وسعدا ولأنه على
ما قالوا الساعة التي كلم الله تعالى فيها موسى عليه
السلام وألقى فيه السحرة سجدا لقوله تعالى وَأَنْ يُحْشَرَ
النَّاسُ ضُحًى [طه: 59] ففيه مناسبة للمقسم عليه وهو أنه
تعالى لم يترك النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يفارقه
إلطافه تعالى وتكليمه سبحانه. وقيل المراد به النهار كما
في قوله تعالى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى [الأعراف:
98] واعتراض بالعرق فإنه وقع هناك في مقابلة البيات وهو
مطلق الليل، وهنا في مقابلة الليل مقيدا معنى باشتداد
ظلمته فالمناسب أن يراد به وقت ارتفاعه وقوة إضاءته. وأجيب
بمنع دلالة القيد على الاشتداد وستسمع إن شاء الله تعالى
ما في ذلك وأيّا ما كان فالظاهر أن المراد الجنس أي وجنس
الضحى وَاللَّيْلِ أي وجنس الليل إِذا سَجى أي سكن أهله
(15/372)
على أنه من السجو وهو السكون مطلقا كما قال
غير واحد والإسناد مجازي أو هو على تقدير المضاف كما قيل،
ونحوه ما روي عن قتادة أي سكن الناس والأصوات فيه وهذا
يكون في الغالب فيما بين طرفيه أو بعد مضي برهة من أوله أو
ركد ظلامه من سجا البحر سكنت أمواجه. قال الأعشى:
وما ذنبنا أن جاش بحر ابن عمكم ... وبحرك ساج لا يواري
الدعامصا
فالسجو قيل على هذا في الأصل سكون الأمواج ثم عم، والمراد
بسكون ظلامه عدم تغيره بالاشتداد والتنزيل أي فيما يحس
ويظهر وذلك إذا كمل حسا بوصول الشمس إلى سمت القدم وقبيله
وبعيده. وصرح باعتبار الاشتداد ابن الأعرابي حيث قال: سجا
الليل اشتد ظلامه. وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جبير أنه
قال: أي إذا أقبل فغطى كل شيء. وأخرج ابن جرير وابن مردويه
من طريق العوفي عن ابن عباس تفسير سجا بأقبل بدون ذكر
التغطية، وأخرجاهما وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا
أنه قال: سجا إذا ذهب، وكلا التفسيرين خلاف المشهور. وشاع
ليل ساكن أو ساج لما لا ريح فيه ووصفه بذلك أعني السكون
قيل على الحقيقة كما إذا قيل: ليل لا ريح فيه، ولا يقال إن
الساكن هو الريح بالحقيقة لأن السكون عليها حقيقة محال
لأنه هواء متحرك ثم إنهم يقولونه لما لا ريح فيه لا لما
سكن ريحه والتحقيق أن يقال إن السكون على تفسيريه أعني عدم
الحركة عما من شأنه الحركة أو كونين في حيّز واحد لا يصح
على الليل لأنه زمان خاص، لكن لما كان سكون الهواء بمنزلة
عدم له في العرف العامي لعدم الإحساس أو لتضمنه عدم الريح
لا الهواء قيل ليل ساج وساكن. وصف الليل على الحقيقة أي لا
إسناد فيه إلى غير ملائم على أنه يحتمل أن يجعل السكون
بهذا المعنى حقيقة عرفية، وجوز حمل ما في الآية على هذا
الشائع ولعل التقييد بذلك لأن الليل الذي لا ريح فيه أبعد
عن الغوائل. وقد ذكر بعض الفقهاء أن الريح الشديدة ليلا
عذر من أعذار الجماعة. ونقل عن قتادة ومقاتل أن المراد
بالضحى هو الضحى الذي كلم الله تعالى فيه موسى عليه
السلام، وبالليل ليلة المعراج.
ومن الناس من فسر الضحى بوجهه صلّى الله عليه وسلم بشعره
عليه الصلاة والسلام كما ذكر الإمام، وقال: لا استبعاد فيه
وهو كما ترى. ومثله ما قيل: الضحى ذكور أهل بيته عليه
الصلاة والسلام والليل إناثهم وقال الإمام يحتمل أن يقال
الضحى رسالته صلّى الله عليه وسلم والليل زمان احتباس
الوحي فيه لأن في حال النزول حصل الاستئناس وفي زمان
الاحتباس حصل الاستيحاش، أو الضحى نور علمه تعالى الذي
يعرف المستور من الغيوب والليل عفوه تعالى الذي به يستر
جميع العيوب، أو الضحى إقبال الإسلام بعد أن كان غريبا
والليل إشارة إلى أنه سيعود غريبا، أو الضحى كمال العقل
والليل حال الموت، أو الضحى علانيته عليه الصلاة والسلام
التي لا يرى الخلق عليها عيبا والليل سره صلّى الله عليه
وسلم لا يعلم عالم الغيب عليها عيبا انتهى. ولا يخفى أنه
ليس من التفسير في شيء وباب التأويل والإشارة يدخل فيه
أكثر من ذلك.
وتقديم الضحى على الليل بناء على ما قلنا أولا لرعاية شرفه
لما فيه من ظهور زيادة النور وللنور شرف ذاتي على الظلمة
لكونه وجوديا أو لكثرة منافعه أو لمناسبته لعالم الملائكة
فإنها نورانية، وتقديم الليل في السورة السابقة لما فيه من
الظلمة التي هي لعدميتها أصل للنور الحادث بإزالتها لأسباب
حادثة، وقيل تقديمه هناك لأن السورة في أبي بكر وهو قد
سبقه كفر، وتقديم الضحى هنا لأن السورة في رسول الله عليه
الصلاة والسلام وهو صلّى الله عليه وسلم لم يسبقه ذلك.
وتخصيصه تعالى الوقتين بالإقسام قيل ليشير سبحانه بحالهما
إلى حال ما وقع له عليه الصلاة والسلام ويؤيد عز وجل نفي
ما توهم فيه فكأنه تعالى يقول: الزمان ساعة فساعة ساعة ليل
وساعة نهار ثم تارة تزداد ساعات الليل وتنقص ساعات النهار
وأخرى بالعكس فلا الزيادة لهوى ولا النقصان لقلى بل كل
لحكمة، وكذا أمر الوحي مرة إنزال وأخرى حبس فلا كان
الإنزال عن هوى ولا الحبس عن قلى بل كل لحكمة. وقيل ليسلّي
عز وجل بحالهما حبيبه عليه
(15/373)
الصلاة والسلام كأنه سبحانه يقول: انظر إلى
هذين المتجاورين لا يسلم أحدهما من الآخر بل الليل يغلب
تارة والنهار أخرى فكيف تطمع أن تسلم من الخلق؟ والقولان
مبنيان على أن المراد بالضحى النهار كله وبالليل إذا سجى
جميع الليل وتخصيص الضحى على ما سمعت أولا لما سمعت وتخصيص
الليل بناء على أن المراد وقت اشتداد الظلمة قيل لأنه وقت
خلو المحب بالمحبوب والأمن من كل واش ورقيب. وقال الطيبي
طيب الله تعالى ثراه في ذلك: أنه تعالى أقسم له صلّى الله
عليه وسلم بوقتين فيهما صلاته عليه الصلاة والسلام التي
جعلت قرة عينه وسبب مزيد قربه وأنسه، أما الضحى فلما
رواه الدارقطني في المجتبى عن ابن عباس مرفوعا: «كتب عليّ
النحر ولم يكتب عليكم، وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها»
. وأما الليل فلقوله تعالى وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ
بِهِ نافِلَةً لَكَ [الإسراء: 79] إرغاما لأعدائه وتكذيبا
لهم في زعم قلاه وجفائه فكأنه قيل وحق قربك لدينا وزلفاك
عندنا إنّا اصطفيناك وما هجرناك وقليناك فهو كقوله:
وثناياك إنها إغريض وهو مما تستطيبه أهل الأذواق ويمكن أن
يكون الإقسام بالليل على ما نقل عن قتادة من باب وثناياك
أيضا وكذا الإقسام بهما على بعض الأوجه المارة كما لا
يخفى. وعلى كون المراد بالضحى الوقت المعروف من النهار
وبالليل جميعه قيل إن التفرقة للإشارة إلى أن ساعة من
النهار توازي جميع الليل كما أن النبيّ عليه الصلاة
والسلام يوازي جميع الأنبياء عليهم السلام وللإشارة لكون
النهار وقت السرور والليل وقت الوحشة والغم إلى أن هموم
الدنيا وغمومها أدوم من سرورها.
وقد روي أن الله تعالى لما خلق العرش أظلت عن يساره غمامة
فنادت: ماذا أمطر؟ فأمرت أن تمطر الغموم والأحزان فأمطرت
مائة سنة ثم انكشفت فأمرت مرة أخرى بذلك، وهكذا إلى إتمام
ثلاثمائة سنة ثم أظلت عن يمين العرش غمامة بيضاء فنادت:
ماذا أمطر؟ فأمرت أن تمطر السرور ساعة فلذا ترى الغموم
والأحزان أدوم من المسار في الدنيا
والله تعالى أعلم بصحة الخبر وقيل غير ذلك.
وقوله تعالى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ إلخ جواب القسم وودع من
التوديع وهو في الأصل من الدعة وهو أن تدعو للمسافر بأن
يدفع الله تعالى عنه كآبة السفر وأن يبلغه الدعة وخفض
العيش كما أن التسليم دعاء له بالسلامة، ثم صار متعارفا في
تشييع المسافر وتركه ثم استعمل في الترك مطلقا وفسر به هنا
أي ما تركك ربك. وفي البحر والكشاف:
التوديع مبالغة في الودع أي الترك لأن من ودعك مفارقا فقد
بالغ في تركك، قيل: وعليه يلزم أن يكون المنفي الترك
المبالغ فيه دون أصل الترك مع أن الظاهر نفي ذلك فلا بد من
أن يقال إنه إنما نفى ذلك لأنه الواقع في كلام المشركين
الذي نزلت له الآية، أو أن المبالغة تعود على النفي فيكون
المراد المبالغة في النفي لا نفي المبالغة، وقد ذكروا نظير
هذين الوجهين في قوله تعالى وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] فتدبر. وقيل: إن المعنى ما قطعك
قطع المودع على أن التوديع مستعارة تبعية للترك وفيه من
اللطف والتعظيم ما لا يخفى فإن الوداع إنما يكون بين
الأحباب ومن تعز مفارقته كما قال المتنبي:
حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا ... فلم أدر أي الظاعنين أشيّع
وحقيقة التوديع المتعارف غير متصورة هاهنا، وتعقب بأنه على
هذا لا يكون ردّا لما قاله المشركون لأنهم لم يقولوا ودعه
ربه على هذا المعنى كيف وهم بمعزل عن اعتقاد كونه عليه
الصلاة والسلام بالمحل الذي هو صلّى الله عليه وسلم فيه من
ربه سبحانه؟ وقيل في الجواب: إنه يجوز أن يدل ودعه ربه على
ذلك إلّا أنهم قاتلهم
(15/374)
الله تعالى قالوه على سبيل التهكم
والسخرية، وحين رد عليهم قصد ما يشعر به اللفظ على
التحقيق. وقيل: إن الترك مطلق في كلامهم والظاهر من حالهم
أنهم لم يريدوا الماهية من حيث هي ولا من حيث تحققها في
ضمن ما لا يخل بشريف مقامه عليه الصلاة والسلام بل الماهية
من حيث تحققها في ضمن ما يخل بذلك، ولما كان المقصود
إيناسه صلّى الله عليه وسلم وإزالة وحشته عليه الصلاة
والسلام جيء بما يتضمن نفي ما زعموه على أبلغ وجه كأنه
قيل: إن هذا النوع الغير المخل بمقامك من الترك لم يكن
فضلا عما زعموه من الترك المخل بعزيز مقامك وعندي أن
الظاهر أن ذلك القول بأي معنى كان صادر على سبيل التهكم
إذا كان المراد بالرب هو الله عز وجل وكان القائل من
المشركين كما لا يخفى على المتأمل. وقرأ عروة بن الزبير
وابنه هشام وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة «ما ودعك»
بالتخفيف وهي على ما قال ابن جني قراءة النبيّ صلّى الله
عليه وسلم وخرجت على أن ودع مخفف ودع ومعناه معناه. قال في
القاموس: ودعه كوضعه وودع بمعنى، وقيل: ليس بمخففة بل هو
فعل برأسه بمعنى ترك وأنه يعكر على قول النحاة أماتت العرب
ماضي يدع ويذر ومصدرهما واسم فاعلهما واسم مفعولهما
واستغنوا بما ليترك من ذلك. وفي المغرب أن النحاة زعموا أن
العرب أماتت ذلك والنبي صلّى الله عليه وسلم أفصحهم
وقد قال عليه الصلاة والسلام: «لينتهين أقوام عن ودعهم
الجماعات»
وقرأ ما وَدَّعَكَ وقال أبو الأسود:
ليت شعري عن خليلي ما الذي ... غاله في الحب حتى ودعه
ومثله قول آخر:
وثم ودعنا آل عمرو وعامر ... فرائس أطراف المثقفة السمر
وهو دليل أيضا على استعمال ودع وهو بمعنى ترك المتعلق
بمفعولين فلا تغفل.
وفي الحديث: «اتركوا الترك ما تركوكم ودعوا الحبشة ما
ودعكم»
وفي المستوفى أن كل ذلك قد ورد في كلام العرب ولا عبرة
بكلام النحاة. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. نعم وروده
نادر وقال الطيبي: بعد أن ذكر وروده نظما ونثرا إنما حسن
هذه القراءة الموافقة بين الكلمتين يعني هذه وما بعدها كما
في حديث الترك والحبشة لأن رد العجز على الصدر وصنعة
الترصيع قد جبرا منه. وقيل: إن القائلين إنما قالوا «ودعه
ربه» بالتخفيف فنزلت فيكون المحسن له قصد المشاكلة لما
قالوه وهم تكلموا بغير المعروف طيرة منهم كان غير المعروف
من اللفظ مما يتشاءم به من الفأل الرديء أو أنهم لما قصدوا
السخرية حسن استعمال اللفظ وقد قالوا يحسن استعمال الألفاظ
الغريبة ونحوها في الهجاء فلا يبعد أن يكون في السخرية
كذلك. والحق أنه بعد ثبوت وروده لا يحتاج إلى تكليف محسن
له، والظاهر أن المراد بالرب هو الله عز وجل وفي التعبير
عنه بعنوان الربوبية وإضافته إلى ضميره صلّى الله عليه
وسلم من اللطف ما لا يخفى فكأنه قيل ما تركك المتكفل
بمصلحتك والمبلغ لك على سبيل التدريج كما لك اللائق بك
وَما قَلى أي وما أبغضك، وحذف المفعول لئلا يواجه عليه
الصلاة والسلام بنسبة القلى وإن كانت في كلام منفي لطفا به
صلّى الله عليه وسلم وشفقة عليه عليه الصلاة والسلام أو
لنفي صدوره عنه عز وجل بالنسبة إليه صلّى الله عليه وسلم
ولأحد من أصحابه ومن أحبه صلّى الله عليه وسلم إلى يوم
القيامة، أو للاستغناء عنه بذكره من قبل مع أن فيه مراعاة
للفواصل. واللغة المشهورة في مضارع قلى يقلي كيرمي وطيىء
تقول: يقل بفتح العين كيرضى وتفسير القلى بالبغض شائع. وفي
القاموس من الواوي قلا زيدا قلا وقلاه أبغضه ومن اليائي
قلاه كرماه ورضيه قلى وقلاه مقيلة أبغضه وكرهه غاية
الكراهة فتركه أو قلاه في الهجر وقليه في البغض. وفي
مفردات
(15/375)
الراغب القلى شدة البغض يقال: قلاه يقلوه
ويقليه فمن جعله من الواوي فهو من القلو أي الرمي من
قولهم:
قلت الناقة براكبها قلوا وقلوت بالقلة فكان المقلو هو الذي
يقذفه القلب من بغضه فلا يقبله، ومن جعله من اليائي فمن
قليت البسر والسويق على المقلاة انتهى وبينهما مخالفة لا
تخفى. وعلى اعتبار شدة البغض فالظاهر أن ذلك في الآية ليس
إلّا لأنه الواقع في كلامهم قال المفسرون: أبطأ جبريل عليه
السلام على النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فقال المشركون: قد
قلاه ربه وودعه، فأنزل الله تعالى ذلك.
وأخرج الحاكم عن زيد بن أرقم قال لما نزلت تَبَّتْ يَدا
أَبِي لَهَبٍ [المسد: 1] إلخ قيل لامرأة أبي لهب أم جميل
إن محمدا صلّى الله عليه وسلم قد هجاك فأتته عليه الصلاة
والسلام وهو صلّى الله عليه وسلم جالس في الملأ فقالت: يا
محمد علام تهجوني؟ قال: «إني والله ما هجوتك ما هجاك إلّا
الله تعالى» فقالت: هل رأيتني أحمل حطبا أو في جيدي حبلا
من مسد؟ ثم انطلقت فمكث رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا
ينزل عليه فأتته فقالت: ما أرى صاحبك إلّا قد ودعك وقلاك،
فأنزل الله تعالى ذلك.
وأخرج الترمذي وصححه وابن أبي حاتم واللفظ له عن جندب
البجلي قال: رمي صلّى الله عليه وسلم بحجر في أصبعه فقال:
ما أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت فمكث ليلتين
أو ثلاثا لا يقوم فقالت له امرأة: ما أرى شيطانك إلّا قد
تركك
.
وفي رواية للترمذي أيضا والإمام أحمد والبخاري ومسلم
والنسائي وجماعة بلفظ: اشتكى النبي صلّى الله عليه وسلم
فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فأنزل الله تعالى وَالضُّحى
وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى
وليس فيه حديث المرأة ولا الحجر والرجز وذلك لا يطعن في
صحته.
وقال جمع من المفسرين: إن اليهود سألوه عليه الصلاة
والسلام عن أصحاب الكهف، وعن الروح، وعن قصة ذي القرنين
فقال عليه الصلاة والسلام: «سأخبركم غدا» ولم يستثن فاحتبس
عنه الوحي فقال المشركون ما قالوا فنزلت.
وقيل إن عثمان أهدى إليه صلّى الله عليه وسلم عنقود عنب
وقيل عذق تمر فجاء سائل فأعطاه ثم اشتراه عثمان بدرهم
فقدمه إليه عليه الصلاة والسلام ثانيا، ثم عاد السائل
فأعطيه وهكذا ثلاث مرات فقال عليه الصلاة والسلام ملاطفا
لا غضبان: «أسائل أنت يا فلان أم تاجر؟» فتأخر الوحي أياما
فاستوحش فنزلت
، ولعلهم أيضا قالوا ما قالوا.
وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده والطبراني وابن مردويه من
حديث خولة وكانت تخدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن
جروا دخل تحت سرير رسول الله صلّى الله عليه وسلم فمات ولم
نشعر به، فمكث رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربعة أيام
لا ينزل عليه الوحي فقال: «يا خولة ما حدث في بيت رسول
الله عليه الصلاة والسلام جبريل لا يأتيني» فقلت: يا نبي
الله ما أتى علينا يوم خير منا اليوم، فأخذ برده فلبسه
وخرج فقلت في نفسي لو هيأت البيت وكنسته فأهويت بالمكنسة
تحت السرير فإذا بشيء ثقيل فلم أزل به حتى بدا لي الجر
وميتا فأخذته بيدي فألقيته خلف الدار، فجاء النبيّ صلّى
الله عليه وسلم ترعد لحيته وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته
الرعدة فقال: يا خولة دثريني، فأنزل الله تعالى وَالضُّحى
وَاللَّيْلِ- إلى قوله سبحانه- فَتَرْضى
وهذه الرواية تدل على أن الانقطاع كان أربعة أيام. وعن ابن
جريج أنه كان اثني عشر يوما، وعن الكلبي خمسة عشر يوما
وقيل بضعة عشر يوما، وعن ابن عباس خمسة وعشرين يوما، وعن
السدّي ومقاتل أربعين يوما وأنت تعلم أن مثل ذلك مما
يتفاوت العلم بمبدئه ولا يكاد يعلم على التحقيق إلّا منه
عليه الصلاة والسلام والله تعالى أعلم. وفي بعض الروايات
ما يدل على أن قائل ذلك هو النبيّ عليه الصلاة والسلام.
فعن الحسن أنه قال: أبطأ الوحي على رسول الله صلّى الله
عليه وسلم فقال لخديجة: «إن ربي ودعني وقلاني» يشكو إليها،
فقالت: كلا والذي بعثك بالحق ما ابتدأك الله تعالى بهذه
الكرامة إلّا وهو سبحانه يريد أن يتمها لك فنزلت
. واستشكل هذا بأنه لا يليق بالرسول
(15/376)
صلّى الله عليه وسلم أن يظن أن الله تعالى
شأنه ودعه وقلاه وهل إلّا نحو من العزل وعزل النبيّ عن
النبوة غير جائز في حكمته عز وجل، والنبيّ عليه الصلاة
والسلام أعلم بذلك ويعلم صلّى الله عليه وسلم أيضا أن
إبطاء الوحي وعكسه لا يخلو كل منهما عن مصلحة وحكمة. وأجيب
بأن مراده عليه الصلاة والسلام إن صح أن يجربها ليعرف قدر
علمها أو ليعرف الناس ذلك فقال ما قال صلّى الله عليه وسلم
بضرب من التأويل كأن يكون قد قصد إن ربي ودعني وقلاني بزعم
المشركين، أو أن معاملته سبحانه إياي بإبطاء الوحي تشبه
صورة معاملة المودع والقالي. وأنت تعلم أن هذه الرواية
شاذة لا يعول عليها ولا يلتفت إليها فلا ينبغي إتعاب الذهن
بتأويلها. ونحوها ما دل على أن قائل ذاك خديجة رضي الله
تعالى عنها.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عروة قال: أبطأ جبريل عليه
السلام عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم فجزع جزعا شديدا
فقالت خديجة: أرى ربك قد قلاك مما أرى من جزعك فنزلت
وَالضُّحى وَاللَّيْلِ
إلى آخرها، والقول بأنها رضي الله تعالى عنها أرادت أن هذا
الجزع لا ينبغي أن يكون إلّا من قلى ربك إياك وحاشى أن
يقلاك فما هذا الجزع بعيد غاية البعد والمعول ما عليه
الجمهور وصحت به الأخبار أن القائل هم المشركون وأنه عليه
الصلاة والسلام إنما أحزنه بمقتضى الطبيعة البشرية تعبيرهم
وعدم رؤية جبريل عليه السلام مع مزيد حبه إياه.
وفي بعض الآثار أنه صلّى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه
السلام: «ما جئتني حتى اشتقت إليك» فقال جبريل عليه
السلام:
كنت أنا إليك أشوق ولكني عبد مأمور وتلا وَما نَتَنَزَّلُ
إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ
[مريم: 64]
وفي رواية أنه عاتبه عليهما الصلاة والسلام فقال أما علمت
أنّا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة.
وراوي هذا يروي أن السبب في إبطاء الوحي وجود جرو في بيته
عليه الصلاة والسلام والروايات في ذلك مختلفة، وجوز بعضهم
أن يكون الإبطاء لتجمع الأسباب ثم إنه قد زعم بعض بناء على
بعض الروايات السابقة جواز أن يكون المراد بربك في ما
وَدَّعَكَ رَبُّكَ دون ما بعد صاحبك والمراد به جبريل عليه
السلام وهو كما ترى.
وحيث تضمن ما سبق من نفي التوديع والقلى أنه عز وجل لا
يزال يواصله عليه الصلاة والسلام بالوحي والكرامة في
الدنيا بشر صلّى الله عليه وسلم بأن ما سيؤتاه في الآخرة
أجل وأعظم من ذلك فقيل: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ
الْأُولى لما أنها باقية صافية عن الشوائب على الإطلاق
وهذه فانية مشوبة بالمضار وما أوتي عليه الصلاة والسلام من
شرف النبوة وإن كان مما لا يعادله شرف ولا يدانيه فضل لكنه
لا يخلو في الدنيا عن بعض العوارض القادحة في تمشية
الأحكام مع أنه عند ما أعدّ له عليه الصلاة والسلام في
الآخرة من السبق والتقدم على كافة الأنبياء والرسل عليهم
الصلاة والسلام يوم الجمع يوم يقوم الناس لرب العالمين،
وكون أمته صلّى الله عليه وسلم شهداء على سائر الأمم، ورفع
درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته صلّى الله عليه
وسلم وغير ذلك من الكرامات السنية التي لا تحيط بها
العبارات وتقصر دونها الإشارات بمنزلة بعض المبادئ بالنسبة
إلى المطالب كذا في الإرشاد والاختصاص الذي تقتضيه اللام
قيل إضافي على معنى اختصاصه عليه الصلاة والسلام بخيرية
الآخرة دون من آذاه وشمت بتأخير الوحي عنه صلّى الله عليه
وسلم، ولا مانع من عمومه لجميع الفائزين كيف وقد علم
بالضرورة أن الخير المعدّ له عليه الصلاة والسلام خير من
المعدّ لغيره على الإطلاق، ويكفي في ذلك اختصاص المقام
المحمود به صلّى الله عليه وسلم على أن اختصاص اللام ليس
قصريا كما قرر في موضعه، وحمل الآخرة على الدار الآخرة
المقابلة للدنيا والأولى على الدار الأولى وهي الدنيا هو
الظاهر المروي عن أبي إسحاق وغيره. وقال ابن عطية وجماعة:
يحتمل أن يراد بهما نهاية أمره صلّى الله عليه وسلم
وبدايته فاللام فيهما للعهد أو عوض عن المضاف إليه أي
لنهاية أمرك خير من بدايته لا تزال تتزايد قوة وتتصاعد
رفعة. وفي بعض الأخبار المرفوعة ما هو أظهر في الأول
أخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه
وسلم: «عرض عليّ
(15/377)
ما هو مفتوح لأمتي بعدي فسرني» فأنزل الله
تعالى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى
ثم إن ربط الآية بما قبلها على الوجه الذي سمعت هو ما
اختاره غير واحد من الأجلّة وجوز أن يقال فيه إنه لما نزل
ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى حصل له عليه الصلاة
والسلام به تشريف عظيم فكأنه صلّى الله عليه وسلم استعظم
ذلك فقيل له وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى على
معنى أن هذا التشريف وإن كان عظيما إلّا أن ما لك عند الله
تعالى في الآخرة خير وأعظم. وجوز أيضا أن يكون المعنى أن
انقطاع الوحي لا يجوز أن يكون لما يتوهمون لأنه عزل عن
النبوة وهو مستحيل في الحكمة بل أقصى ما في الباب أن يكون
ذلك لأنه حصل الاستغناء عن الرسالة وذلك أمارة الموت فكأنه
تعالى قال: انقطاع الوحي متى حصل دل على الموت لكن الموت
خير لك فإن ما لك عند الله تعالى في الآخرة أفضل مما لك في
الدنيا، وهذا كما ترى دون ما قبله بكثير والمتبادر مما
قرروه أن الجملة مستأنفة واللام فيها ابتدائية. وقد صرح
جمع بأنها كذلك في قوله تعالى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ
رَبُّكَ فَتَرْضى وقالوا: فائدتها تأكيد مضمون لجملة
وبعدها مبتدأ محذوف أي ولأنت سوف يعطيك إلخ وأورد عليه أن
التأكيد يقتضي الاعتناء والحذف ينافيه ولذا قال ابن
الحاجب: إن المبتدأ المؤكد باللام لا يحذف وإن اللام مع
المبتدأ كقد مع الفعل وإن مع الاسم فكما لا يحذف الفعل
والاسم ويبقيان بعد حذفهما كذلك لا يحذف المبتدأ وتبقى
اللام وإنه يلزم التقدير والأصل عدمه وأن اللام لتخلص
المضارع الذي في حيزها للحال كتأكيد مضمون الجملة وهو هنا
مقرون بحرف التنفيس والتأخير فيلزم التنافي. وردّ بأن
المؤكد الجملة لا المبتدأ وحده حتى ينافي تأكيده حذفه
وكلام ابن الحاجب ليس حجة على الفارسي وأمثاله وأن يحذف
معها الاسم كثيرا كما ذكره النحاة وكذا قد يحذف بعدها
الفعل كقوله:
أزف الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا وكأن قد
مع أنه لو سلم فقد يفرق كما قال الطيبي بين أن وقد وهذه
اللام بأنهما يؤثران في المدخول عليه مع التأكيد بخلاف هذه
اللام فإن مقتضاها أن تؤكد مضمون الجملة لا غير وهو باق،
وإن حذف المبتدأ فالقياس قياس مع الفارق والنحويون يقدرون
كثيرا في الكلام كما قدروا المبتدأ في نحو قمت وأصك عينه
وهو لأجل الصناعة دون المعنى كما فيما نحن فيه واللام
المؤكدة لا نسلم أنها لتخليص المضارع للحال أيضا بل هي
لمطلق التأكيد فقط ويفهم معها الحال بالقرينة لأنه أنسب
بالتأكيد. وعلى تسليم أنها لتخليصه للحال أيضا يجوز أن
يقال إنها تجردت للتأكيد هنا بقرينة ذكر سوف بعدها،
والمراد تأكيد المؤخر أعني الإعطاء لا تأكيد التأخير
فالمعنى أن الإعطاء كائن لا محالة وإن تأخر لحكمة وعلى
تسليم أنها للأمرين ولا تجرد يجوز أن يقال نزل المستقبل
أعني الإعطاء الذي يعقبه الرضا لتحقق وقوعه منزلة الواقع
الحالي نظير ما قيل في قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ
لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [النحل: 124]
وقيل يحسن هذا جدا فيما نحن فيه على القول بأن الإعطاء قد
شرع فيه عند نزول الآية بناء على أحد أوجهها الآتية بعد أن
شاء الله تعالى، وذهب بعضهم بأن اللام الأولى للقسم وكذا
هذه اللام وبقسميتها جزم غير واحد فالواو عليه للعطف فكلا
الوعدين داخل في المقسم عليه، ويكون الله تعالى قد أقسم
على أربعة أشياء اثنان منفيان واثنان مثبتان وهو حسن في
نظري، واعترض بأن لام القسم لا تدخل على المضارع إلّا مع
النون المؤكدة فلو كانت للقسم لقيل «لسوف يعطيك ربك» ولا
يخفى أن هذا أحد مذهبين للنحاة والآخر أنه يستثنى ما قرن
بحرف تنفيس كما هنا، ففي المغني أنه تجب اللام وتمتنع
النون فيه كقوله:
(15/378)
فوربي لسوف يجزى الذي ... أسلف المرء سيئا
أو جميلا
وكذا مع فصل معمول بين اللام والفعل نحو وَلَئِنْ مُتُّمْ
أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:
158] ومع كون الفعل للحال نحو «لا قسم» وقد يمتنعان وذلك
مع الفعل المنفي نحو تَاللَّهِ تَفْتَؤُا [يوسف:
85] وقد يجبان وذلك فيما بقي نحو تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ
أَصْنامَكُمْ [الأنبياء: 57] وعليه لا يتجه الاعتراض مع أن
الممنوع بدون النون في جواب القسم لا في المعطوف عليه كما
هنا فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، وإنما
ذكرت اللام تأكيدا للقسم وتذكيرا به، وبالجملة هذا الوجه
أقل دغدغة من الوجه السابق ولا يحتاج فيه إلى توجيه جميع
اللام مع سوف إذ لم يقل أحد من علماء العربية بأن اللام
القسمية مخلصة المضارع للحال كما لا يخفى على من تتبع
كتبهم. وظاهر كلام الفاضل الكلنبوي أن كلّا من اللامين
موضوع للدلالة على الحال ووجه الجمع على تقدير كونها في
الآية قسمية بأنها محمولة على معناها الحقيقي، وسوف محمولة
على تأكيد الحكم ولذا قامت مقام إحدى النونين عند أبي علي
الفارسي وقد أطال رحمه الله تعالى الكلام فيما يتعلق بهذا
المقام وأتى على غزارة فضله بما يستبعد صدوره من مثله.
وقال عصام الدين: الأظهر أن جملة ما وَدَّعَكَ حالية أي ما
ودعك ربك وما قلاك، والحال أن الآخرة خير لك من الأولى
وأنت تختارها عليها، ومن حاله كذلك لا يتركه ربه ففيه
إرشاد للمؤمنين إلى ما هو ملاك قرب العبد إلى الرب عز وجل
وتوبيخ للمشركين بما هم فيه من التزام أمر الدنيا والإعراض
عن الآخرة، وحينئذ معنى قوله سبحانه وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ
أنه سوف يعطيك الآخرة ولا يخفى حينئذ كمال اشتباك الجمل
انتهى. وفيه أن دخول اللام عليها مع دخوله على الجملة
بعدها وسبقهما بالقسم يبعد الحالية جدا، وأيضا المعنى ذكره
على تقديرها غير ظاهر من الآية وكان الظاهر عليه عندك بدل
لك كما لا يخفى عليك واختلف في قوله تعالى وَلَسَوْفَ إلخ
فقيل: هو عدة كريمة شاملة لما أعطاه الله عز وجل في الدنيا
من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين وظهور الأمر وإعلاء
الدين بالفتوح الواقعة في عصره صلّى الله عليه وسلم وفي
أيام خلفائه عليه الصلاة والسلام وغيرهم من الملوك
الإسلامية وفشو الدعوة والإسلام في مشارق الأرض ومغاربها.
ولما ادّخر جل وعلا له عليه الصلاة والسلام في الآخرة من
الكرامات التي لا يعلمها إلا هو جل جلاله وعم نواله وقيل
عدة بما أعطاه سبحانه وتعالى في الدنيا من فتح مكة وغيره
والجمهور على أنه عدة أخروية فأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن
أنه قال هي الشفاعة، وروي نحوه عن بعض أهل البيت رضي الله
تعالى عنهم.
أخرج ابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية من طريق
حرب بن شريح قال: قلت لأبي جعفر محمد بن عليّ بن الحسين
على جدهم وعليهم الصلاة والسلام: أرأيت هذه الشفاعة التي
يتحدث بها أهل العراق أحق هي؟ قال: أي والله حدثني محمد بن
الحنفية عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أن رسول الله صلّى
الله عليه وسلم قال: «أشفع لأمتي حتى ينادي ربي أرضيت يا
محمد؟ فأقول: نعم يا رب رضيت» ثم أقبل عليّ فقال إنكم
تقولون يا معشر أهل العراق إن أرجى آية في كتاب الله تعالى
يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر:
35] قلت إنا لنقول ذلك قال فكلنا أهل البيت نقول: إن أرجى
آية في كتاب الله تعالى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ
فَتَرْضى وقال: هي الشفاعة
.. وقيل: هي أعم من الشفاعة وغيرها ويرشد إليه ما
أخرجه العسكري في المواعظ وابن مردويه وابن النجار عن جابر
بن عبد الله قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على
فاطمة وهي تطحن بالرحا وعليها كساء من جلد الإبل فلما نظر
إليها قال: «يا فاطمة تعجلي مرارة الدنيا بنعيم الآخرة
غدا» فأنزل الله تعالى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ
فَتَرْضى
. وقال أبو حيان: الأولى العموم لما في الدنيا والآخرة على
اختلاف
(15/379)
أنواعه والخبر المذكور لو سلم صحته لا يأبى
ذلك. نعم عطايا الآخرة أعظم من عطايا الدنيا بكثير فقد روى
الحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس أنه قال أعطاه الله تعالى
في الجنة ألف قصر من لؤلؤ ترابه المسك في كل قصر ما ينبغي
له من الأزواج والخدم. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال في
الآية من رضا محمد صلّى الله عليه وسلم أن لا يدخل أحد من
أهل بيته النار. وأخرج البيهقي ففي شعب الإيمان عنه أنه
قال: رضاه صلّى الله عليه وسلم أن يدخل أمته كلهم الجنة.
وفي رواية الخطيب في تلخيص المتشابه من وجه آخر عنه لا
يرضى محمد صلّى الله عليه وسلم وأحد من أمته في النار وهذا
ما تقتضيه شفقته العظيمة عليه الصلاة والسلام على أمته فقد
كان صلّى الله عليه وسلم حريصا عليهم رؤوفا بهم مهتما
بأمرهم.
وقد أخرج مسلم كما في الدر المنثور عن ابن عمر أنه صلّى
الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم عليه السلام
فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي [إبراهيم: 36] وقوله
تعالى في عيسى إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ
[المائدة:
118] الآية فرفع عليه الصلاة والسلام يديه وقال: «اللهم
أمتي أمتي» وبكى فقال الله تعالى: يا جبريل اذهب إلى محمد
صلّى الله عليه وسلم فقل له إنا سنرضيك في أمتك يخفى ولا
نسوؤك.
وفي إعادة اسم الرب مع إضافته إلى ضميره عليه الصلاة
والسلام ما لا يخفى أيضا من اللطف به صلّى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى تعديل لما
أفاض صلّى الله عليه وسلم من أول أمره إلى وقت النزول من
فنون النعماء العظام ليستشهد بالخاص الموجود على المترقب
الموعود فيزداد قلبه الشريف وصدره الرحيب طمأنينة وسرورا
وانشراحا وحبورا ولذا فصلت الجملة. والهمزة لإنكار النفي
وتقرير النفي على أبلغ وجه كأنه قيل قد وجدك إلخ. ووجدته
على ما قال الرضي بمعنى أصبته على صفة ويراد بالوجود فيه
العلم مجازا بعلاقة اللزوم.
وفي مفردات الراغب لوجود اضرب وجود بالحواس الظاهرة ووجود
بالقوى الباطنة ووجود بالعقل وما نسب إلى الله تعالى من
الوجود فبمعنى العلم المجرد إذ كان الله تعالى منزها عن
الوصف بالجوارح والآلات، وقد فسره بعضهم هنا بالعلم وجعل
مفعوله الأول الضمير ومفعوله الثاني يَتِيماً وبعضهم
بالمصادفة وجعله متعديا لواحد ف يَتِيماً حالا وأنت تعلم
أن المصادفة لا تصح في حقه تعالى لأنها ملاقاة ما لم يكن
في علمه سبحانه وتقديره جل شأنه، فلا بد من التجوز بها عن
تعلق علمه عز وجل بذلك. واليتم انقطاع الصبي عن أبيه قبل
بلوغه، والإيواء ضم الشيء إلى آخر يقال: آوى إليه فلانا أي
ضمّه إلى نفسه أي ألم يعلمك طفلا لا أبا لك فضمك إلى من
قام بأمرك. روي أن عبد المطلب بعث ابنه عبد الله أبا رسول
الله صلّى الله عليه وسلم يمتار تمرا من يثرب فتوفي ورسول
الله صلّى الله عليه وسلم جنين قد أتت عليه ستة أشهر فلما
وضعته كان في حجر جده مع أمه فماتت وهو عليه الصلاة
والسلام ابن ست سنين، ولما بلغ عليه الصلاة والسلام ثماني
سنين مات جده فكفله عمه الشفيق الشقيق أبو طالب بوصية من
أبيه عبد المطلب وأحسن تربيته صلّى الله عليه وسلم. وفي
الكشاف ماتت أمه عليه الصلاة السلام وهو ابن ثماني سنين
فكفله عمه وكان شديد الاعتناء بأمره إلى أن بعثه الله
تعالى وكان يرى منه صلّى الله عليه وسلم في صغره ما لم ير
من صغير
روي أنه قال يوما لأخيه العباس: ألا أخبرك عن محمد صلّى
الله عليه وسلم بما رأيت منه.
فقال: بلى. قال: إني ضممته إليّ فكنت لا أفارقه ساعة من
ليل ولا نهار ولم ائتمن عليه أحدا حتى أني كنت أنومه في
فراشي، فأمرته ليلة أن يخلع ثيابه وينام معي فرأيت
الكراهية في وجهه وكره أن يخالفني فقال: يا عماه اصرف وجهك
عني حتى أخلع ثيابي إني لا أحب أن تنظر إلى جسدي، فتعجبت
من قوله وصرفت بصري حتى دخل الفراش فلما دخلت معه الفراش
إذا بيني وبينه ثوب والله ما أدخلته في فراشي فإذا هو في
غاية اللين وطيب الراحة كأنه غمس في المسك، فجهدت لأنظر
إلى جسده فما كنت أرى شيئا وكثيرا ما
(15/380)
كنت أفقده من فراشي فإذا قمت لأطلبه ناداني
ها أنا يا عم فارجع، وكنت كثيرا ما أسمع منه كلاما يعجبني
وذلك عند ما مضى بعض الليل وكنا لا نسمي على الطعام
والشراب ولا نحمد وكان يقول في أول الطعام:
بسم الله الأحد، فإذا فرغ من طعامه قال: الحمد لله، فكنت
أعجب منه ولم أر منه كذبة ولا ضحكا ولا جاهلية ولا وقف مع
الصبيان وهم يلعبون وهذا لعمري غيض من فيض:
في المهد يعرب عن سعادة جده أثر النجابة ساطع البرهان
وقيل: المعنى ألم يجدك يتيما أبتك المراضع فآواك من مرضعة
تحنو عليك بأن رزقها بصحبتك الخير والبركة حتى أحبتك
وتكفلتك، والأول هو الظاهر، وقيل غير ذلك مما ستعلمه بعد
إن شاء الله تعالى. ومن بدع التفاسير على ما قال الزمخشري
أن يتيما من قولهم درة يتيمة والمعنى ألم يجدك واحدا في
قريش عديم النظير فآواك والأولى عليه أن يقال ألم يجدك
واحدا عديم النظير في الخليقة لم يحو مثلك صدف الإمكان
فآواك إليه وجعلك في حق اصطفائه. وقرأ أبو الأشعث «فأوى»
ثلاثيا فجوز أن يكون من أواه بمعنى آواه وأن يكون من أوى
له أي رحمه ومصدره أياواية وماويّة وماوية وتحقيقه على ما
قال الراغب أي رجع إليه بقلبه ومنه قوله:
أو أني ولا كفران لله أية وقوله تعالى وَوَجَدَكَ ضَالًّا
فَهَدى عطف على ما يقتضيه الإنكار السابق كما أشير إليه أو
على المضارع المنفي بلم داخل في حكمه كأنه قيل: أما وجدك
يتيما فآوى ووجدك غافلا عن الشرائع التي لا تهتدي إليها
العقول كما في قوله تعالى ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ
[الشورى: 52] وقوله سبحانه وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ
لَمِنَ الْغافِلِينَ
[يوسف: 3] فهداك إلى مناهجها في تضاعيف ما أوحي إليك من
الكتاب المبين وعلمك ما لم تكن تعلم، وعلى هذا كما قال
الواحدي أكثر المفسرين وهو اختيار الزجاج. وروى سعيد بن
المسيب أنه صلّى الله عليه وسلم سافر مع عمه أبي طالب إلى
الشام فبينما هو راكب ناقة ذات ليلة ظلماء وهو نائم جاءه
إبليس فأخذ بزمام الناقة فعدل به عن الطريق فجاءه جبريل
عليه الصلاة والسلام فنفخ إبليس نفخة وقع منها بالحبشة
ورده إلى القافلة، فما في الآية إشارة إلى ذلك على ما قيل.
وقيل إشارة إلى ما روي عن ابن عباس من أنه صلّى الله عليه
وسلم ضل وهو صغير عن جده في شعاب مكة فرآه أبو جهل منصرفا
من أغنامه فردّه لجده وهو متعلق بأستار الكعبة يتضرع إلى
الله تعالى في أن يرد إليه محمدا، وذكر له أنه لما رآه
أناخ الناقة وأركبه من خلفه فأبت أن تقوم فأركبه أمامه
فقامت فكانت الناقة تقول: يا أحمق هو الإمام فكيف يقوم خلف
المقتدي. وفي إرجاعه عليه الصلاة والسلام إلى أهله على يد
أبي جهل وقد علم سبحانه منه أنه فرعونه يشبه إرجاع موسى
عليه السلام إلى أمه على يد فرعون. وقيل: ضل عليه الصلاة
والسلام مرة أخرى وطلبوه فلم يجدوه فطاف عبد المطلب
بالكعبة سبعا وتضرع إلى الله تعالى فسمعوا مناديا ينادي من
السماء: يا معشر الناس لا تضجوا فإن لمحمد ربا لا يخذله
ولا يضيعه وإن محمدا بوادي تهامة عند شجرة السمر، فسار عبد
المطلب وورقة بن نوفل فإذا النبي صلّى الله عليه وسلم قائم
تحت شجرة يلعب بالأغصان والأوراق. وقيل: أضلته مرضعته
حليمة عند باب مكة حين فطمته وجاءت به لترده على عبد
المطلب فضالا على هذه الروايات من ضل في طريقه إذا سلك
طريقا غير موصولة لمقصده وضعف حمل الآية على ذلك بأن مثله
بالنسبة إلى ما تقدم لا يعد من نعم الله تعالى على مثل
نبيه صلّى الله عليه وسلم التي يمتن سبحانه بها عليه.
وقيل: الضال الشجرة المنفردة في البيداء ليس حولها شجر
والمراد
(15/381)
أما وجدك وحدك ليس معك أحد فهدى الناس إليك
ولم يتركك منفردا. وقال الجنيد قدس سره: أي وجدك متحيرا في
بيان الكتاب المنزل عليك فهداك لبيانه وفيه قرب ما من
الأول. وقال بعضهم: وجدك غافلا عن قدر نفسك فأطلعك على
عظيم محلك. وقيل: وجدك ضالا عن معنى محض المودة فسقاك كأسا
من شراب القربة والمودة فهداك به إلى معرفته عز وجل.
وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: كنت ضالا عن محبتي
لك في الأزل فمننت عليك بمعرفتي وهو قريب من سابقه
. وقال الحريري: أي وجدك مترددا في غوامض معاني المحبة
فهداك لها وهو أيضا كذلك وكل ذلك منزع صوفي. ورأى أبو حيان
في منامه أن الكلام على حذف مضاف والمعنى ووجد رهطك ضالا
فهدى بك وهو كما ترى في يقظتك.
وقوله تعالى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى على نمط سابق
والعائل المفتقر من عال يعيل عيلا وعيلة وعيولا ومعيلا
افتقر أي وجدك عديم المقتنيات فأغناك بما حصل لك من ربح
التجارة وذلك في سفره صلّى الله عليه وسلم مع ميسرة إلى
الشام وبما وهبته لك خديجة رضي الله تعالى عنها من المال
وكانت ذا مال كثير فلما تزوجها عليه الصلاة والسلام وهبته
جميعه له صلّى الله عليه وسلم لئلا يقول قائل ما يثقل على
سمعه الشريف عليه الصلاة والسلام وبمال أبي بكر الصديق رضي
الله تعالى عنه وكان أيضا ذا مال فأتى به كله رسول الله
فقال عليه الصلاة والسلام: «ما تركت لعيالك» ؟ فقال: تركت
الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم.
وقيل بما أفاء عليك من الغنائم وفيه أن السورة مكية
والغنائم إنما كانت بعد الهجرة وقيل المراد قنعك وأغنى
قبلك فإن غنى القلب هو الغنى، وقد قيل من عدم القناعة لم
يفده المال غنى، وقيل أغناك به عز وجل عما سواه وهذا الغنى
بالافتقار إليه تعالى.
وفي الحديث «اللهم أغنني بالافتقار إليك ولا تفقرني
بالاستغناء عنك»
وبهذا ألمّ بعض الشعراء فقال:
ويعجبني فقري إليك ولم يكن ... ليعجبني لولا محبتك الفقر
وشاع
حديث «الفقر فخري»
وحمل الفقر فيه على هذا المعنى وهو على ما قال ابن حجر
باطل موضوع وأشد منه وضعا وبطلانا ما يذكره بعض المتصوفة
إذا تمّ الفقر فهو الله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا
كبيرا وقد خاضوا في بيان المراد به بما لا يدفع بشاعته بل
لا يقتضي استقامته. وقيل عائِلًا أي ذا عيال من عال يعول
عولا وعيالة كثير عياله، ويحتمل المعنيين قول جرير:
الله نزل في الكتاب فريضة ... لابن السبيل وللفقير العائل
ولعل الثاني فيه أظهر ورجح الأول في الآية بقراءة ابن
مسعود «عديما» وأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن ذا عيال في
أول أمره صلّى الله عليه وسلم. وقرأ اليماني «عيلا» كسيدا
بشدا الياء المكسورة هذا وذكر عصام الدين في هذه الآيات
أنه يحتمل أن يراد باليتيم فاقد المعلم فإن الآباء ثلاثة
من علمك ومن زوجك ومن ولدك، ويناسبه حمل الضلال على الضلال
عن العلم، وحمل العيال أي على تفسير عائِلًا بذا عيال على
عيال الأمة الطالبة منه معرفة مصالح الدين مع احتياجه إلى
المعرفة فأغناه الله تعالى بالوحي إليه عليه الصلاة
والسلام ولا يخفى ما فيه. وحذف المفعول في الأفعال الثلاثة
لظهور المراد مع رعاية الفواصل. وقيل: ليدل على سعة الكرم
والمراد آواك وآوى لك وبك وهداك ولك وبك وأغناك ولك وبك
وظاهر الفاء مع تلك الأفعال تأبى ذلك. وأطال الإمام الكلام
في الآيات وأتى فيها بغث وسمين ولولا خشية الملل لذكرنا ما
فيه.
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ فلا تستذله كما قال ابن
سلام وقريب منه قول مجاهد لا تحتقر. وقال سفيان:
لا تظلمه بتضييع ماله وفي معناه ما قيل لا تغلبه على ماله،
ولعل التقييد لمراعاة الغالب والأولى حمل القهر
(15/382)
على الغلبة والتذليل معابان يراد التسلط
بما يؤذي أو باستعمال المشترك في معنييه على القول بجوازه
وفي مفردات الراغب القهر الغلبة والتذليل معا ويستعمل في
كل واحد منهما، وقرأ ابن مسعود والشعبي وإبراهيم التيمي
«فلا تكهر» بالكاف بدل القاف ومعناه على ما في البحر فلا
تقهر. وفي تهذيب الأزهري الكهر القهر والكهر عبوس الوجه
والكهر الشتم واختار بعضهم هنا أوسطها فالمعنى فلا تعبس في
وجهه وهو نهي عن الشتم والقهر على ما سمعت من معناه من باب
الأولى وأيّا ما كان ففي الآية دلالة على الاعتناء بشأن
اليتيم.
وعن ابن مسعود مرفوعا «من مسح على رأس يتيم كان له بكل
شعرة تمر عليها يده نور يوم القيامة»
وعن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعا أيضا «إن اليتيم إذا
بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن فيقول الله تعالى لملائكته: يا
ملائكتي من أبكى هذا اليتيم الذي غيب أبوه في التراب؟
فيقول الملائكة: أنت أعلم. فيقول الله تعالى: يا ملائكتي
إني أشهدكم أن عليّ لمن أسكته وأرضاه أن أرضيه يوم
القيامة»
فكان عمر رضي الله تعالى عنه إذا رأى يتيما مسح رأسه
وأعطاه شيئا ولم يصح في كيفية مسحه شيء والرواية عن ابن
عباس في ذلك قد قيل فيها ما قيل.
وروي عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا وكافل اليتيم
كهاتين إذا اتقى الله عز وجل» وأشار بالسبابة والوسطى
إلى غير ذلك من الأخبار.
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ أي فلا تزجره ولكن تفضل
عليه بشيء أورده بقول جميل وأريد به عند جمع السائل
المستجدي الطالب لشيء من الدنيا، وتدل الآية على الاعتناء
بشأنه أيضا وعن إبراهيم بن أدهم نعم القوم السؤّال يحملون
زادنا إلى الآخرة. وعن إبراهيم النخعي: السائل يريد الآخرة
يجيء إلى باب أحدكم فيقول: أتبعثون إلى أهليكم بشيء وشاع
حديث «للسائل حق وإن جاء على فرس»
وقد قال فيه الإمام أحمد كما في تمييز الطيب من الخبيث لا
أصل له وأخرجه أبو داود عن الحسين بن علي رضي الله تعالى
عنهما موقوفا وسكت عنه، وقال العراقي سنده جيد وتبعه غيره،
وقال ابن عبد البر إنه ليس بالقوي وعوّل كثير على ما قال
الإمام أحمد وفي معناه احتمالان كل منهما يؤذن بالاهتمام
بأمر السائل. وروي من طرق عن عائشة وغيرها: لو صدق السائل
ما أفلح من رده. وهو أيضا على ما قال ابن المديني لا أصل
له، وقال ابن عبد البر جميع أسانيده ليست بالقوية. نعم
أخرج الطبراني في الكبير عن أبي أمامة مرفوعا ما يقرب منه
وهو «لولا أن المساكين يكذبون ما أفلح من ردهم»
ولم أقف على من تعقبه. ثم النهي على النهر على ما قالوا
إذا لم يلح في السؤال فإن ألح ولم ينفع الرد اللين فلا بأس
بالزجر. وقال أبو الدرداء والحسن وسفيان وغيرهم: المراد
بالسائل هنا السائل عن العلم والدين لا سائل المال ولعل
النهي عن زجره على القول الأول يعلم بالأولى ويشهد
للأولوية أنه لا وعيد على ترك إعطاء المستجدي لمن يجد ما
يستجديه بخلاف ترك جواب سائل العلم لمن يعلم ففي الحديث
«من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار» وسيأتي إن شاء
الله تعالى ما قيل من أن الظاهر الثاني من القولين.
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ فإن التحدث بها شكر
لها كما قال عمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة والفضيل بن
عياض.
وأخرج البخاري في الأدب وأبو داود والترمذي وحسنه وأبو
يعلى وابن حبان والبيهقي والضياء عن جابر بن عبد الله
مرفوعا: «من أعطي عطاء فوجد فليجز به فإن لم يجد فليثن به
فمن أثنى به فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره، ومن تحلى بما لم
يعط كان كلابس ثوبي زور»
ولذا استحب بعض السلف التحدث بما عمله من الخير إذ لم يرد
به الرياء والافتخار وعلم الاقتداء به بل بعض أهل البيت
رضي الله تعالى
(15/383)
عنهم حمل الآية على ذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقسم قال: لقيت الحسن بن عليّ بن
أبي طالب رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما فقلت أخبرني عن
قول الله تعالى وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ
فقال: الرجل المؤمن يعمل عملا صالحا فيخبر به أهل بيته.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال فيها
إذا أصبت خيرا فحدث إخوانك والظاهر أن المراد بالنعمة ما
أفاضه الله تعالى على نبيه صلّى الله عليه وسلم من فنون
النعم التي من جملتها ما تقدم. وأخرج ابن المنذر وغيره عن
مجاهد تفسيرها بالنبوة ورووا عنه أيضا تفسيرها بالقرآن
ووافقه في الأول محمد بن إسحاق وفي الثاني الكلبي، وعليهما
المراد بالتحديث التبليغ ولا يخفى أن كلا التفسيرين غير
مناسب لما قبل وهذه الجمل الثلاث مرتبة على ما قبلها فقيل
على اللف والنشر المشوش وحاصل المعنى أنك كنت يتيما وضالا
وعائلا فآواك وهداك وأغناك فمهما يكن من شيء فلا تنس نعمة
الله تعالى عليك في هذه الثلاث واقتد بالله تعالى فتعطف
على اليتيم وترحم على السائل فقد ذقت اليتم والفقر. وقوله
تعالى وَأَمَّا بِنِعْمَةِ إلخ في مقابلة قوله سبحانه
وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى لعمومه وشموله لهدايته عليه
الصلاة والسلام من الضلال بتعليم الشرائع وغير ذلك من
النعم، ولم يراع الترتيب لتقديم حقوق العباد على حقه عز
وجل فإنه سبحانه وتعالى غني عن العالمين، وقيل لتقديم
التخلية على التحلية أو للترقي أو لمراعاة الفواصل ونظر في
كل ذلك. وقال الطيبي: الظاهر أن المراد بالسائل طالب العلم
لا المستجدي وعليه لا مانع من كون التفصيل على الترتيب
فيقال إنه تعالى ذكر أحواله صلّى الله عليه وسلم على وفق
الترتيب الخارجي بأن يراد بهدايته عليه الصلاة والسلام ما
يعم توفيقه للنظر الصحيح في صباه فقد كان صلّى الله عليه
وسلم موفقا لذلك ولذا لم يعبد عليه الصلاة والسلام صنما أو
يراد بإغنائه ما كان بعد البعثة ثم فصّل سبحانه على ذلك
الترتيب فجعل عدم قهر اليتيم في مقابلة إيوائه تعالى له
عليه الصلاة والسلام في يتمه، وعدم زجر السائل طالب العلم
والمتعلم منه في مقابلة هدايته له، والتحدث بالنعمة في
مقابلة الغنى وإن كانت النعمة شاملة له ولغيره. وآثر
سبحانه فَحَدِّثْ على «فخبر» قيل ليكون ذكر النعمة عليه
الصلاة والسلام حديثا لا ينساه ويوجده ساعة غب ساعة والله
تعالى أعلم. وندب التكبير عند خاتمة هذه السورة الكريمة
وكذا ما بعدها إلى آخر القرآن العظيم فقد أخرج الحاكم
وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طريق أبي الحسن
البزي المقري قال: سمعت عكرمة بن سليمان يقول: قرأت على
إسماعيل بن قسطنطين فلما بلغت وَالضُّحى قال: كبّر عند
خاتمة كل سورة حتى تختم فإني قرأت على عبد الله بن كثير
فلما بلغت وَالضُّحى قال: كبّر حتى تختم، وأخبره عبد الله
بن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك وأخبره أن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما أمره بذلك وأخبره أن أبيّ بن كعب رضي
الله تعالى عنه أمره بذلك، وأخبره أن النبي صلّى الله عليه
وسلم أمره بذلك وكان ذلك منه عليه الصلاة والسلام فرحا
بنزول الوحي بعد تأخره وبطئه حتى قيل ما قيل هذا وعلى ذلك
عمل الناس اليوم والحمد لله رب العالمين.
(15/384)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ
صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي
أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ
يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى
رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
سورة الشرح
وتسمى سورة الشرح وهي كما روي عن ابن الزبير وعائشة مكية،
وأخرج ذلك ابن الضريس والنحاس والبيهقي وابن مردويه عن ابن
عباس. وفي رواية عنه زيادة نزلت بعد الضحى وزعم البقاعي
أنها عنده مدنية، وفي حديث طويل أخرجه ابن مردويه عن جابر
بن عبد الله ما هو ظاهر في أن قوله تعالى فيها فَإِنَّ
مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً
[الشرح: 5، 6] نزل بالمدينة لكن في صحة الحديث توقف. وآيها
ثمان بالاتفاق وهي شديدة الاتصال بسورة الضحى حتى أنه روي
عن طاوس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقولان هما سورة
واحدة، وكانا يقرآنهما في الركعة الواحدة وما كانا يفصلان
بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم وعلى ذلك الشيعة كما حكاه
الطبرسي منهم. قال الإمام: والذي دعا إلى ذلك هو أن قوله
تعالى أَلَمْ نَشْرَحْ [الشرح: 1] كالعطف على قوله تعالى
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً [الضحى: 6] وليس كذلك لأن الأول
كان عند اغتمام الرسول صلّى الله عليه وسلم من إيذائه
الكفرة وكانت الحالة حال محنة وضيق صدر، والثاني يقتضي أن
يكون حال النزول منشرح الصدر طيب القلب فأنى يجتمعان وفيه
نظر، والحق أن مدار مثل ذلك الرواية لا الدارية والمتواتر
كونهما سورتين والفصل بينهما بالبسملة. نعم هما متصلتان
معنى جدا ويدل عليه ما
في حديث الإسراء الذي أخرجه ابن أبي حاتم أن الله تعالى
قال له عليه الصلاة والسلام: «يا محمد ألم أجدك يتيما
فآويت، وضالا فهديت، وعائلا فأغنيت، وشرحت لك صدرك، وحططت
عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلّا ذكرت معي» الحديث.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ
لَكَ صَدْرَكَ الشرح في الأصل الفسح والتوسعة وشاع
استعماله في الإيضاح، ومنه: شرح الكتاب إذا أوضحه لما أن
فسح الشيء وبسطه مستلزم لإظهار باطنه وما خفي منه، وكذا
شاع في سرور النفس حتى لو قيل إنه حقيقة عرفية فيه لم يبعد
وذلك إذا تعلق بالقلب كان قيل شرح قلبه بكذا أي سره به لما
أن القلب كالمنزل للنفس، ويلزم عادة من فسح المنزل وتوسعته
سرور
(15/385)
النازل فيه وكذا إذا تعلق بالصدر الذي هو
محل القلب وربما يؤذن ذلك بسعة القلب لما أن العادة
كالمطردة في أن توسعة ما حوالى المنزل إنما تكون إذا كان
المنزل واسعا فيوسع ما حواليه لتحصيل زيادة بهجة ونحوها
فيه فينتقل منه إلى سرور النفس بالواسطة. وقد يراد به إذا
تعلق بالقلب أو الصدر أيضا تكثير ما فيه من المعلومات
فقيل: يتخيل أنها تحتاج إلى فضاء تكون فيه وأن ذلك محل
لها، فمتى كانت كثيرة اقتضت أن يكون محلها واسعا ليسعها.
وقد يراد بها تكثير ما في النفس من ذلك فقيل أيضا بتخيل أن
تكثير معلوماتها يستدعي توسيعها وتوسيعها يستدعي توسيع ذلك
لتنزيله منزلة محلها، وقد يراد به تأييد النفس بقوة قدسية
وأنوار إلهية بحيث تكون ميدانا لمواكب المعلومات، وسماء
لكواكب الملكات، وعرشا لأنواع التجليات، وفرشا لسوائم
الواردات، فلا يشغله شأن عن شأن، ويستوي لديه يكون وكائن
وكان. ووجه نسبته إلى الصدر على نحو ما مر وإرادة القلب من
الصدر والنفس من القلب بعلاقة المحلية ونحوها مما لا تميل
إليه النفس وإرادة كل مما ذكر بقرينة المقام والأنسب بمقام
الامتنان هنا إرادة هذا المعنى الأخير. وجوز غيره فالمعنى
ألم نفسح صدرك حتى حوى عالمي الغيب والشهادة وجمع بين
ملكتي الاستفادة والإفادة فما صدك الملابسة بالعلائق
الجسمانية عن اقتباس أنوار الملكات الروحانية، وما عاقك
التعلق بمصالح الخلق عن الاستغراق في شؤون الحق. وقيل
المعنى ألم نزل همك وغمك باطلاعك على حقائق الأمور وحقارة
الدنيا فهان عليك احتمال المكاره في الدعاء إلى الله
تعالى. ونقل عن الجمهور أن المعنى ألم نفسحه بالحكمة
وتوسعه بتيسيرنا لك تلقي ما يوحى إليك بعد ما كان يشق
عليك. وعن ابن عباس وجماعة أنه إشارة إلى شق صدره الشريف
في صباه عليه الصلاة والسلام وقد وقع هذا الشق على ما في
بعض الأخبار وهو عند مرضعته حليمة
فقد روي عنها أنها قالت في شأنه عليه الصلاة والسلام: لم
نزل نتعرف من الله تعالى الزيادة والخير حتى مضت سنتاه
وفصلته فكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه
حتى كان غلاما جفرا، فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على
بقائه عندنا لما نرى من بركته، فقلنا لأمه: لو تركتيه
عندنا حتى يغلظ فإنّا نخشى عليه وباء مكة، فلم نزل بها حتى
ردته معنا فرجعنا به، فو الله إنه لبعد مقدمنا به بشهر أو
ثلاثة مع أخيه من الرضاعة لغي بهم لنا خلف بيوتنا جاء أخوه
يشتد فقال: ذاك أخي القرشي قد جاءه رجلان عليهما ثياب بيض
فأضجعاه وشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه فوجدناه
قائما منتقعا لونه فاعتنقه أبوه وقال: أي بني ما شأنك؟
قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني فشقا بطني ثم
استخرجا منه شيئا، فطرحاه ثم رداه كما كان فرجعنا به معنا.
فقال أبوه: يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني قد أصيب
فانطلقي فرديه إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوفه، قالت:
فاحتملناه إلى أمه، فقالت: ما رد كما به فقد كنتما حريصين
عليه؟ قلنا: نخشى الاختلاف والأحداث. فقالت ما ذاك بكما
فأصدقاني شأنكما؟ فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره. فقالت:
أخشيتما عليه الشيطان لا والله ما للشيطان عليه سبيل، وإنه
لكائن لابني هذا شأن فدعاه عند كما.
وفي حديث لأبي يعلى وأبي نعيم وابن عساكر ما يدل على تكرر
وقوع ذلك له عليه الصلاة والسلام وهو عند حليمة وقد وقع له
صلّى الله عليه وسلم أيضا بعد بلوغه صلّى الله عليه وسلم
ففي الدر المنثور أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند
عن أبيّ بن كعب أن أبا هريرة قال: يا رسول الله، ما أول ما
رأيت من أمر النبوة؟ فاستوى رسول الله صلّى الله عليه وسلم
جالسا، وقال: «لقد سألت أبا هريرة إني لفي صحراء ابن عشرين
سنة وأشهر إذا بكلام فوق رأسي وإذا رجل يقول لرجل: أهو هو،
فاستقبلاني بوجوه لم أرها بخلق قط، وأرواح لم أجدها من خلق
قط، وثياب لم
(15/386)
أجدها على أحد قط، فأقبلا إليّ يمشيان حتى
إذا دنيا أخذ كل واحد منهما بعضدي لا أجد لأخذهما مسا،
فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، فهوى أحدهما إلى صدري
ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع، فقال له:
أخرج الغل والحسد، فأخرج شيئا كهيئة العلقة ثم نبذها، فقال
له: أدخل الرأفة والرحمة، فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة،
ثم حز إبهام رجلي اليمنى وقال: اغد واسلم، فرجعت أغدو بها
رأفة على الصغير ورحمة على الكبير»
. والذي رأيته
في شرح الهمزية لابن حجر المكي رواية هذا الخبر بلفظ آخر
وفيه «إني لفي صحراء واسعة ابن عشر حجج إذا أنا برجلين فوق
رأسي يقول أحدهما لصاحبه: أهو هو»
إلى آخر ما فيه فيكون الشق عليه قبل البلوغ أيضا والله
تعالى أعلم. ثم إنه على الروايتين ليس نصا على نفي وقوع شق
قبله لجواز أن يكون الذي استشعر منه النبوة هو هذا لا ما
قبله، ووقع له عليه الصلاة والسلام أيضا عند مجيء جبريل
عليه السلام بالوحي في غار حراء وممن روى ذلك الطيالسي
والحارث في مسنديهما وكذا أبو نعيم ولفظه أن جبريل
وميكائيل عليهما السلام شقا صدره وغسلاه ثم قال اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] الآيات ووقع أيضا مرة أخرى
تواترات بها الروايات خلافا لمن أنكرها ليلة الإسراء به
صلّى الله عليه وسلم
روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن قتادة قال: حدثنا
أنس ابن مالك عن مالك بن صعصعة عن النبي صلّى الله عليه
وسلم قال: «بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان فأتيت
بطست من ذهب فيها ماء زمزم، فشرح صدري إلى كذا وكذا» قال
قتادة: قلت- يعني لأنس- ما تعني قال إلى أسفل بطني؟ قال:
«فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم ثم أعيد مكانه ثم حشي إيمانا
وحكمة، ثم أتي بدابة دون البغل وفوق الحمار البراق فانطلقت
مع جبريل عليه السلام حتى أتينا السماء الدنيا» الحديث.
وطعن القاضي عبد الجبار في ذلك بما حاصله أنه يلزم على
وقوعه في الصغر وقبل النبوة تقدم المعجزة على النبوة وهو
لا يجوز ووقوعه بعد النبوة وإن لم يلزم عليه ما ذكر إلّا
أن ما ذكر معه من حديث الغسل وإدخال الرأفة والرحمة وحشو
الإيمان والحكمة يرد عليه أن الغسل مما لا أثر له في
التكميل الروحاني وإنما هو لإزالة أمر جسماني، وأنه لا يصح
إدخال ما ذكر وحشوه فإنما هو شيء يخلقه الله تعالى في
القلب وليس بشيء فإن تقدم الخارق على النبوة جائز عندنا
ونسميه إرهاصا، والأخبار كثيرة في وقوعه له عليه الصلاة
والسلام قبل النبوة، والغسل بالماء كان لإزالة أمر جسماني
ولا يبعد أن يكون أزاله وغسل المحل بماء مخصوص كماء زمزم
على ما صح في بعض الروايات ولذا قال البلقيني: إنه أفضل من
ماء الكوثر موجبا لتبديل المزاج وهو مما له دخل في التكميل
الروحاني ولذا يأمر المشايخ السالكين لديهم بالرياضة التي
يحصل بها تبديل المزاج ويرشد إلى ذلك تغير أحوال النفس
وأخلاقها صبا وكهولة وشيخوخة.
والمراد من إدخال الرأفة وحشو الإيمان مثلا إدخال ما به
يحصل كمال ذلك وكثيرا ما يسمى المسبب باسم السبب مجازا،
ويحتمل أن يكون على حقيقته وتجسم المعاني جائز. وقال
العارف بن أبي جمرة كما في المواهب اللدنية للعسقلاني ما
حاصله: إن ما دل كلام النبي صلّى الله عليه وسلم على
جوهريته وجسميته من أعيان المخلوقات التي ليس للحواس إلى
إدراكها سبيل هو كما دل عليه كلامه عليه الصلاة والسلام في
نفس الأمر، وأن الحكم من المتكلم أو نحوه عليها بالعرضية
إنما هو باعتبار ما ظهر له بعقله، وللعقل حر يقف عنده
والحقيقة في الحقيقة ما دلّ عليه خبر الشارع المؤيد بالوحي
الإلهي والنور القدسي المحلق بجناحيهما في جو الحقائق إلى
حيث لا يسمع لنحلة العقل دندنة ولا للرواة عنه عنعنة
فالإيمان والحكمة ونحوهما مما دل عليه كلام النبي صلّى
الله عليه وسلم على جوهريتها جواهر محسوسة لا معان وإن
حسبها من حسبها كذلك انتهى. والأمر فيه
(15/387)
اعتقادا وإنكارا إليك ولا ألزمك الاعتقاد
فما أريد أن أشق عليك. وقال بعض الأجلّة: لعل ذلك من باب
التمثيل إذ تمثيل المعاني قد وقع كثيرا كما مثل له عليه
الصلاة والسلام الجنة والنار في عرض حائط مسجده الشريف،
وفائدته كشف المعنوي بالمحسوس وهو ميل إلى عدم الوقوع
حقيقة. وقد قال غير واحد: جميع ما ورد من الشرق وإخراج
القلب وغيرهما يجب الإيمان به وإن كان خارقا للعادة ولا
يجوز تأويله لصلاحية القدرة له، ومن زعم ذلك وقع في هوة
المعتزلة في تأويلهم نصوص سؤال الملكين وعذاب القبر ووزن
الأعمال والصراط وغير ذلك بالتشهي، وأما حكمة ذلك مع إمكان
إيجاد ما ترتب عليه بدونه فقد أطالوا الكلام في بأنها في
موضعه. نعم حمل الشرح في الآية على ذلك الشق ضعيف عند
المحققين والتعبير عن ثبوت الشرح بالاستفهام الإنكاري عن
انتفائه للإيذان بأن ثبوته من الظهور بحيث لا يقدر أحد أن
يجيب عنه بغير بلى، وإسناد الفعل إلى ضمير العظمة للإيذان
بعظمته وجلالة قدره وزيادة الجار والمجرور مع توسيطه بين
الفعل ومفعوله للإيذان من أول الأمر بأن الشرح من منافعه
عليه الصلاة والسلام ومصالحه مسارعة إلى إدخال المسرة في
قلبه الشريف صلّى الله عليه وسلم وتشويقا له عليه الصلاة
والسلام إلى ما يعقبه ليتمكن عنده وقت وروده فضل تمكن.
وقرأ أبو جعفر المنصور «ألم نشرح» بفتح الحاء وخرجه ابن
عطية وجماعة على أن الأصل «ألم نشرحن» بنون التأكيد
الخفيفة فأبدل من النون ألفا ثم حذفها تخفيفا كما في قوله:
اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسيف قونس الفرس
ولا يخفى أن الحذف هنا أضعف مما في البيت لأن ذلك في الأمر
وهذا في النفي، ولهذا روى ابن جني في المنتفى عن أبي مجاهد
أنه غير جائز أصلا فنون التوكيد أشبه شيء به الإسهاب
والإطناب لا الإيجاز والاختصار، والبيت يقال إنه مصنوع
والأولى في التمثيل ما أنشده أبو زيد في نوادره:
من أي يومي من الموت أفر ... أيوم لم يقدر أم يوم قدر
وقال غير واحد: لعل أبا جعفر بيّن الحاء وأشبعها في مخرجها
فظن السامع أنه فتحها. وفي البحر أن لهذه القراءة تخريجا
أحسن مما ذكر وهو أن الفتح على لغة بعض العرب من النصب
بلم، فقد حكى اللحياني في نوادره أن منهم من ينصب بها
ويجزم بلن عكس المعروف عند الناس، وعلى ذلك قول عائشة بنت
الأعجم تمدح المختار بن أبي عبيد:
في كل ما همّ أمضى رأيه قدما ... ولم يشاور في الأمر الذي
فعلا
وخرجها بعضهم على أن الفتح لمحاورة ما بعدها كالكسر في
قراءة الحمد لله بالجر وهو لا يتأتى في بيت عائشة ويتأتى
فيما عداه مما مر. وقوله تعالى وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ
عطف على ما أشير إليه من مدلول الجملة السابقة كأنه قيل قد
شرحنا لك صدرك ووضعنا إلخ. وعَنْكَ متعلق ب وَضَعْنا
وتقديمه على المفعول الصريح لما مر من القصد إلى تعجيل
المسرة والتشويق إلى المؤخر، ولما أن في وصفه نوع طول
فتأخير الجار والمجرور عنه مخل بتجاوب أطراف النظم الكريم،
والوزر الحمل الثقيل أي وحططنا عنك حملك الثقيل الَّذِي
أَنْقَضَ ظَهْرَكَ أي حمله على النقيض وهو صوت الانتقاض
والانفكاك أعني الصرير ولا يختص بصوت المحامل والرجال بل
يضاف إلى المفاصل فيقال: نقيض المفاصل ويراد صوتها فنقيض
الظهر ما يسمع من مفاصله من الصوت لثقل الحمل وعليه قول
عباس بن مرداس:
وأنقض ظهري ما تطويت منهم ... وكنت عليهم مشفقا متحننا
(15/388)
وإسناد الإنقاض للحمل إسناد للسبب الحامل
مجازا والمراد بالحمل المنقض هنا ما صدر منه صلّى الله
عليه وسلم قبل البعثة مما يشق عليه صلّى الله عليه وسلم
تذكره لكونه في نظره العالي دون ما هو عليه الصلاة والسلام
بعد، أو غفلته عن الشرائع ونحوها مما لا يدرك إلّا بالوحي
مع تطلبه صلّى الله عليه وسلم له أو حيرته عليه الصلاة
والسلام في بعض الأمور كأداء حق الرسالة أو الوحي وتلقيه
فقد كان يثقل صلّى الله عليه وسلم في ابتداء أمره جدا أو
ما كان يرى صلّى الله عليه وسلم من ضلال قومه مع العجز عن
إرشادهم لعدم طاعتهم له وإذعانهم للحق، أو ما كان يرى من
تعديهم في إيذائه عليه الصلاة والسلام أو همه عليه الصلاة
والسلام من وفاة أبي طالب وخديجة بناء على نزول السورة بعد
وفاتهما، ويراد بوضعه على الأول مغفرته، وعلى الثاني
إزالته غفلته عليه الصلاة والسلام عنه بتعليمه إياه بالوحي
ونحوه، وعلى الثالث إزالة ما يؤدي للحيرة، وعلى الرابع
تيسيره له صلّى الله عليه وسلم بتدربه واعتياده له، وعلى
الخامس توفيق بعضهم للإسلام كحمزة وعمر وغيرهما، وعلى
السادس تقويته صلّى الله عليه وسلم على التحمل، وعلى
السابع إزالة ذلك برفعه إلى السماء حتى لقيه كل ملك وحياه
وفوزه بمشاهدة محبوبة الأعظم ومولاه عز وجل. وأيّا ما كان
ففي الكلام استعارة تمثيلية والوضع ترشيح لها وليس فيه
دليل لنا في العصمة كما لا يخفى. واختار أبو حيان كون وضع
الوزر كناية عن عصمته صلّى الله عليه وسلم عن الذنوب
وتطهيره من الأدناس. عبر عن ذلك بالوضع على سبيل المبالغة
في انتفاء ذلك كما يقول القائل: رفعت عنك مشقة الزيارة لمن
لم يصدر منه زيارة على طريق المبالغة في انتفاء الزيارة
منه له والتمثيل عليه بحاله على ما قيل. وقيل المراد وزر
أمتك وإنما أضيف إليه صلّى الله عليه وسلم لاهتمامه بشأنه
وتفكره في أمره، والمراد بوضعه رفع غائلته في الدنيا من
العذاب العاجل ما دام صلّى الله عليه وسلم فيهم وما داموا
يستغفرون فقد قال سبحانه وَما كانَ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: 33] ولا
يخفى بعد هذا الوجه. وقرأ أنس «وحططنا» و «حللنا» مكان
وَضَعْنا. وقرأ ابن مسعود «وحللنا عنك وقرك» .
وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ بالنبوة وغيرها وأي رفع مثل أن
قرن اسمه عليه الصلاة والسلام باسمه عز وجل في كلمتي
الشهادة، وجعل طاعته طاعته، وصلى عليه في ملائكته، وأمر
المؤمنين بالصلاة عليه، وخاطبه بالألقاب ك يا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ [المدثر: 1] يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ
[المزمل: 1] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال: 64 وغيرها]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة: 41، 67] وذكره سبحانه في
كتب الأولين، وأخذ على الأنبياء عليهم السلام وأممهم أن
يؤمنوا به صلّى الله عليه وسلم. وروي عن مجاهد وقتادة
ومحمد بن كعب والضحاك والحسن وغيرهم أنهم قالوا في ذلك:
«لا أذكر إلا ذكرت معي» .
وفيه حديث مرفوع أخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن
أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أتاني
جبريل عليه السلام، فقال: إن ربك يقول: أتدري كيف رفعت
ذكرك؟ قلت: الله تعالى أعلم، قال: إذا ذكرت ذكرت معي» .
وكان ذلك من الاقتصار على ما هو أعظم قدرا من إفراد رفع
الذكر، ويشير إلى عظم قدره قول حسان:
أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله مشهود يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن
أشهد
ولا يخفى لطف ذكر الرفع بعد الوضع والكلام في العطف وزيادة
لَكَ كالذي سلف، والفاء في قوله عز وجل فَإِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْراً على ما في الكشاف فصيحة. والكلام وعد له
صلّى الله عليه وسلم مسوق للتسلية والتنفيس. قال: كان
المشركون يعيرون رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين
بالفقر والضيقة حتى سبق إلى ذهنه الشريف عليه الصلاة
والسلام أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله واحتقارهم،
فذكره سبحانه ما أنعم به عليه من جلائل
(15/389)
النعم ثم قال تعالى شأنه إِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْراً كأنه قال سبحانه: خولناك ما خولناك فلا
تيأس من فضل الله تعالى فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسرا
وهو ظاهر في أن أل في العسر للعهد، وأما التنوين في يسرا
فللتفخيم كأنه قيل إن مع العسر يسرا عظيما، وأي يسر
والمراد به ما تيسر لهم من الفتوح في أيام رسول الله صلّى
الله عليه وسلم أو يسر الدنيا مطلقا. وقوله تعالى إِنَّ
مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً يحتمل أن يكون تكريرا للجملة
السابقة لتقرير معناها في النفوس وتمكينها في القلوب كما
هو شأن التكرير ويحتمل أن يكون وعدا مستأنفا وأل والتنوين
على ما سبق بيد أن المراد باليسر هنا ما تيسر لهم في أيام
الخلفاء أو يسر الآخرة. واحتمال الاستئناف هو الراجح لما
علم من فضل التأسيس على التأكيد كيف وكلام الله تعالى
محمول على أبلغ الاحتمالين وأوفاهما والمقام كما تقدم مقام
التسلية والتنفيس والاستئناف نحوي وتجرده عن الواو أكثر من
أن يحصى، ولا يحتاج إلى بيان نكتة لأنه الأصل، وقال عصام
الدين: لا يبعد أن تكون نكتة الفصل كونه في صورة التكرير
فاحفظه فإنه من البدائع وتعقب بنحو ما ذكرنا وكان الظاهر
على ما سمعت من المراد باليسر تعريفه إلّا أنه أوثر
التنكير للتفخيم. وقد يقال: إن فائدته الظهور في التأسيس
لأن النكرة المعادة ظاهرها التغاير والإشعار بالفرق بين
العسر واليسر، ويظهر مما ذكر وجه ما
أخرجه عبد الرزاق وابن جرير والحاكم والبيهقي عن الحسن
قال: خرج رسول الله عليه الصلاة والسلام فرحا مسرورا وهو
يضحك ويقول: «لن يغلب عسر يسرين إن مع العسر يسرا إن مع
العسر يسرا»
وأفاد بعض الأجلّة أن الكلام تقرير لما قبله وعدة له صلّى
الله عليه وسلم بتيسير كل عسير. فالفاء قيل سببية ودخلت
على السبب وإن تعارف دخولها على المسبب لتسبب ذكره عن ذكره
فإن ذكر أحدهما يستدعي ذكر الآخر، وأل في العسر للاستغراق
فيدخل فيه سبب النزول. والتنوين في يُسْراً على ما سبق
كأنه قيل: فعلنا لك كذا وكذا لأن مع كل عسر كضيق الصدر
والوزر المنقض للظهر والخمول يسرا عظيما كالشرح والوضع
ورفع الذكر فلا تيأس من روح الله تعالى إذا عراك ما يغمك.
وقال بعضهم: الفاء للتفريع وهو من قبيل تفريع الحكم على
الدليل في صورة الاستدلال بالجزئي على الكلي وذلك كما
تقول: أما ترى إلى الإنسان والفرس والغنم كلها تحرك الفك
الأسفل عند المضغ، فاعلم بذلك أن كل حيوان يفعل كذلك
فتدبر. وفي الجملة الثانية الاحتمالان السابقان والاستئناف
أيضا هو الراجح لما تقدم. وعلى اتحاد العسر وتعدد اليسر
يكون الحاصل من الجملتين أن مع كل عسر يسرين عظيمين،
والظاهر أن المراد بذينك اليسرين يسر دنيوي ويسر أخروي.
وقيل:
الظاهر أن الجملة الثانية تكرير للأولى وتأكيد لها فاليسر
فيها عين اليسر في الأولى كما أن العسر كذلك، والكلام نظير
قولك إن مع الفارس رمحا إن مع الفارس رمحا وهو ظاهر في
وحدة الفارس والرمح «ولن يغلب عسر يسرين» ليس نصا في الحمل
على الاستئناف إذ يصح على التأكيد أيضا بأن يكون مبنيا على
كون التنوين في يُسْراً للتفخيم فحمل لقوة الرجاء على يسر
الدارين وذلك يسران في الحقيقة، ويشهد لذلك أنه ليس في
مصحف ابن مسعود الجملة الثانية مع أنه جاء عنه أيضا: «لن
يغلب عسر يسرين» وقيل يمكن أن يحمل الخبر على أنه لن يغلب
فرد من أفراد العسر ذكر اليسر مرتين وتكريره في مقام الوعد
وهو كما ترى. والمشهور على جميع الأوجه أنه شبه التقارب
بالتقارن فاستعير لفظ مَعَ لمعنى بعد وذلك للمبالغة في
معاقبة اليسر العسر واتصاله به. واستشكل أمر الاستغراق بأن
من العسر ما لا يعقبه يسر دنيوي كالفقر والمرض الدائمين
إلى الموت ولا أراك ترضى القول بأن الموت يسر دنيوي وإن من
العسر ما لا يعقبه يسر أخروي أيضا كعسر الكافر والجواب بأن
الحكم بالنسبة للمؤمنين كما يقتضيه مقام التسلية والتنفيس
ويشعر به ما رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم قال: كتب
أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يذكر له جموعا
من الروم وما
(15/390)
يتخوف منهم فكتب إليه عمر رضي الله تعالى
عنه: أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن شدة يجعل الله
تعالى بعده فرجا ولن يغلب عسر يسرين، لا يحسم الإشكال إذ
يبقى معه أن من عسر المؤمن ما لا يعقبه يسر دنيوي كما هو
ظاهر بل منه ما لا يعقبه يسر أخروي أيضا وذلك كعسر المؤمن
الجازع فإنه لا يثاب عليه في الآخرة.
والظاهر من اليسر الأخروي هو الثواب فيها على ذلك العسر
وإرادة المؤمن الصابر يبقى معها أن من عسره أيضا ما لا
يعقبه اليسر الدنيوي وأجاب بعض على الوجه التأكيد بأن
الاستغراق عرفي، ويكفي فيه أن العسر في الغالب يعقبه يسر.
وعلى وجه التأسيس بهذا مع كون الحكم بالنسبة للمؤمنين
الصابر وآخر بأن الحكم مشروط بمشيئته تعالى وأن لم تذكر
قيل: ويشعر بذلك ما
أخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية قال: ذكر
لنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بشر بهذه الآية
أصحابه فقال عليه الصلاة والسلام: «لن يغلب عسر إن شاء
الله تعالى يسرين» .
ويفهم من كلام بعض الأفاضل أنه يجوز على وجه التأكيد أن
يكون مع على ظاهرها والتنوين في يُسْراً للنوعية ولا إشكال
في الاستغراق إذ لا يخلو المرء في حال العسر عن نوع من
اليسر وأقله دفع ما هو أعظم مما أصابه عنه. ويجوز أن يكون
التنوين للتفخيم أيضا ويكون اليسر العظيم المقارن للعسر هو
دفع ذلك الأعظم وما من عسر إلّا وعند الله تعالى أعظم منه
وأعظم وأنه لا يأبى ذلك لن يغلب عسر يسرين، إما لأن المعنى
لن يغلب فرد من أفراد العسر ذكر اليسر مرتين في مقام
التسلية، أو لأن الآية أفادت أن مع العسر يسرا وقد علم أن
بعده آخر على ما جرت به العادة الغالبة أو فهم من قوله
تعالى سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق:
7] إن كان نزوله متقدما. وذكر بعضهم أن المعية على حقيقتها
عند الخاصة على معنى أن كل ما فعل المحبوب محبوب كما يشير
إليه قول الشيخ عمر بن الفارض قدس سره:
وتعذيبكم عذب لديّ وجوركم ... عليّ بما يقضي الهوى لكم عدل
وقول الآخر:
بر جانم از تو هر جه رسد جاي منت است ... گر ناوك جفاست
وگر خنجر ستم
وتسمية ذلك عسرا لأنه في نفسه وعند العامة كذلك لا بالنسبة
إلى من أصابه من المحبين المستعذبين له والكل كما ترى، ثم
إنه يبعد إرادة المعية الحقيقية ما
أخرج البزار وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم
والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلّى
الله عليه وسلم جالسا وحياله حجر فقال عليه الصلاة
والسلام: «لو جاء العسر فدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى
يدخل عليه فيخرجه» . فأنزل الله تعالى إِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْراً إلخ. ولفظ الطبراني وتلا رسول الله صلّى
الله عليه وسلم فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً
وإرادة العهد أسلم من القيل والقال، وكأن من اختاره اختاره
لذلك مع الاستئناس له بسبب النزول، لكن الذي يقتضيه
الظواهر ومقاماتها الخطابية الاستغراق فإذا قيل به فلا بد
من التقييد بكون من أصابه العسر واثقا بالله تعالى حسن
الرجاء به عز وجل منقطعا إليه سبحانه أو بنحو ذلك من
القيود فتدبر والله تعالى الميسر لكل ما يتعسر. وقرأ ابن
وثاب وأبو جعفر وعيسى «العسر» و «يسرا» في الموضعين بضم
السين. فَإِذا فَرَغْتَ أي من عبادة كتبليغ الوحي
فَانْصَبْ فاتعب في عبادة أخرى شكرا لما عددنا عليك من
النعم السالفة ووعدناك من الآلاء الآنفة كأنه عز وجل لما
عدد عليه ما عدد ووعده صلّى الله عليه وسلم بما وعد بعثه
على الشكر والاجتهاد في العبادة وأن لا يخلي وقتا من
أوقاته منها فإذا فرغ من عبادة أتبعها بأخرى وَإِلى
رَبِّكَ وحده فَارْغَبْ فاحرص بالسؤال ولا
(15/391)
تسأل غيره تعالى فإنه القادر على الإسعاف
لا غيره عز وجل. وأخرج ابن جرير وغيره من طرق عن ابن عباس
أن قال أي إذا فَرَغْتَ من الصلاة فَانْصَبْ في الدعاء
وروي نحوه عن الضحاك وقتادة. وأخرج ابن المنذر عن ابن
مسعود أي إذا فَرَغْتَ من الفرائض فَانْصَبْ في قيام
الليل. وعن الحسن أي إذا فَرَغْتَ من الغزو فاجتهد في
العبادة. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم نحوه، وأخرج
ابن نصر وجماعة عن مجاهد أي إذا فرغت من أسباب نفسك وفي
لفظ من دنياك فصلّ، وفي رواية أخرى عنه نحو ما روي عن ابن
عباس والأنسب حمل الآية على ما تقدم. وأما قول ابن عباس
ومن معه فهو تخصيص لبعض العبادات فراغا وشغلا إما مثالا
لأن اللفظ خاص وهو الأظهر وكذا يقال فيما روي عن ابن
مسعود، وإما لأن الصلاة أم العبادات البدنية والدعاء مخ
العبادة فهما هما. وقول الحسن فيه ما شاع من
قوله صلّى الله عليه وسلم: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى
الجهاد الأكبر»
وهو قريب إلّا أنه قيل عليه أن السورة مكية والأمر بالجهاد
بعد الهجرة ولعله يقول بمدنيتها أو مدنية هذه الآية أو
أنها مما تأخر حكمه عن نزوله كآيات أخر. وقول مجاهد نظر
فيه إلى أن الفراغ أكثر ما يستعمل في الخلو عن الأشغال
الدنيوية كما في
قوله صلّى الله عليه وسلم: «اغتنم فراغك قبل شغلك»
. وهو أضعف الأقوال لبعده عما يقتضيه السياق وتؤذن به
الفاء. وقال عصام الدين: الأنسب أن يراد فَإِذا فَرَغْتَ
من يسر فَانْصَبْ بعسر آخر طلبا لليسرين، فإذا كنت كذلك
فكن راغبا إلى ربك يعني لا تتحمل عسر الدنيا طمعا في يسرين
فيها، بل تحمل عسر طلب الرب وقربه جل شأنه لليسرين انتهى.
ولعمري إنه خلاف ما يفهمه من لا سقم في ذهنه من اللفظ.
وأشعرت الآية بأن اللائق بحال العبد أن يستغرق أوقاته
بالعبادة أو بأن يفرغ إلى العبادة بعد أن يفرغ من أمور
دنياه على ما سمعت من قول مجاهد فيها، وذكروا أن قعود
الرجل فارغا من غير شغل أو اشتغاله بما لا يعنيه في دينه
أو دنياه من سفه الرأي وسخافة العقل واستيلاء الغفلة. وعن
عمر رضي الله تعالى عنه: إني لأكره أن أرى أحدكم فارغا
سبهللا لا في عمل دنياه ولا في عمل آخرته. وروي أن شريكا
مرّ برجلين يصطرعان فقال: ما بهذا أمر الفارغ. وقرأ أبو
السمال «فرغت» بكسر الراء وهي لغة قال الزمخشري ليست
بفصيحة. وقرأ قوم «فانصبّ» بشد الباء مفتوحة من الانصباب،
والمراد فتوجه إلى عبادة أخرى كل التوجه. ونسب إلى بعض
الإمامية أنه قرأ «فانصب» بكسر الصاد فقيل أي فَإِذا
فَرَغْتَ من النبوة فَانْصَبْ عليا للإمامة، وليس في الآية
دليل على خصوصية الفعول فللسني أن يقدره أبا بكر رضي الله
تعالى عنه فإن احتج الإمامي بما وقع في غدير خم منع السني
دلالته على ما ثبت عنده على النصب وصحته على ما يرويه
الإمامي. واحتج لما قدره
بقوله صلّى الله عليه وسلم: «مروا أبا بكر فليصل بالناس»
وقال إنه أوفق بإذا فرغت لما أنه صدر منه عليه الصلاة
والسلام في مرض وفاته قبل وفاته صلّى الله عليه وسلم بخلاف
ما كان في الغدير فإنه لا يظهر أن زمانه فراغ من النبوة
ظهور كون زمان الأمر كذلك وإن رجع. وقال: المراد فَإِذا
فَرَغْتَ من الحج فَانْصَبْ عليا ورد عليه أمر مكية السورة
مع ما لا يخفى. وقال في الكشاف: لو صح ذلك للرافضي لصح
للناصبي أن يقرأ هكذا ويجعله أمرا بالنصب الذي هو بغض عليّ
كرم الله تعالى وجهه وعداوته وفيه نظر. ومن الناس من قدر
المفعول خليفة والأمر فيه هين.
وقال ابن عطية: إن هذه القراءة شاذة ضعيفة المعنى لم تثبت
عن عالم. وقرأ زيد بن عليّ وابن أبي عبلة «فرغّب» أمر من
رغب بشد الغين أي فرغب الناس إلى طلب ما عنده عز وجل.
(15/392)
|