روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ
الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ
تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ
أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ
بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
سورة التّين
ويقال لها سورة التين بلا واو مكية في قول الجمهور. وعن قتادة
أنها مدنية وكذا عن ابن عباس على ما في البحر ومجمع البيان
برواية المعدل. وأخرج عنه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه
والبيهقي ما يوافق قول الجمهور ويؤيده إشارة الحضور في قوله
تعالى وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التين: 3] فإن المراد به
مكة بإجماع المفسرين فيما نعلم. وآيها ثمان آيات في قولهم
جميعا. ولما ذكر سبحانه في السورة السابقة حال أكمل النوع
الإنساني بالاتفاق بل أكمل خلق الله عز وجل على الإطلاق صلّى
الله عليه وسلم ذكر عز وجل في هذه السورة حال النوع وما ينتهي
إليه أمره وما أعد سبحانه لمن آمن منه. بذلك الفرد الأكمل وفخر
هذا النوع المفضل صلّى الله عليه وسلم وشرف وعظم وكرم فقال عز
قائلا:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ
إقسام ببقاع مباركة شريفة على ما ذهب إليه كثير، فأما البلد
الأمين فمكة حماها الله تعالى بلا خلاف. وجاء في حديث مرفوع
«وهو مكان البيت الذي هو هدى للعالمين» ومولد رسول الله صلّى
الله عليه وسلم ومبعثه والْأَمِينِ فعيل إما بمعنى فاعل أي
الآمن من أمن الرجل- بضم الميم- أمانة فهو أمين، وجاء أمان
أيضا كما جاء كريم وكرام ولم يسمع آمن اسم فاعل وسمع على معنى
النسب كما في قوله تعالى حَرَماً آمِناً [القصص: 57، العنكبوت:
67] بمعنى ذي أمن، وأمانته أن يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما
يؤتمن عليه ففيه تشبيه بالرجل الأمين وإما بمعنى مفعول أي
المأمون من أمنه أي لم يخفه.
ونسبته إلى البلد مجازية. والمأمون حقيقة الناس أي لا تخاف
غوائلهم فيه أو الكلام على الحذف والإيصال أي المأمون فيه من
الغوائل. وإقحام اسم الإشارة للتعظيم. وأما طُورِ سِينِينَ
فالجبل الذي كلم الله تعالى شأنه موسى عليه السلام ويقال له
طور سيناء- بكسر السين والمد وبفتحها والمد- وقد قرأ بالأول
هنا بدل سِينِينَ عمر بن الخطاب وعبد الله وطلحة والحسن
وبالثاني عمر أيضا وزيد بن علي و «طور سينين» بفتح السين وهي
لغة بكر وتميم
(15/393)
وقد قرأ بها ابن أبي إسحاق وعمرو بن ميمون
وأبو رجاء. وفي البحر أنه لم يختلف في أنه جبل بالشام وتعقبه
الشهاب بأنه خلاف المشهور فإن المعروف اليوم بطور سينا ما هو
بقرب التيه بين مصر والعقبة. وسِينِينَ قيل اسم للبقعة التي
فيها الجبل أضيف إليه الطور ويعامل في الإعراب معاملة بيرون
ونحوه فيعرب بالواو والياء ويقر على الياء وتحرك النون بحركات
الإعراب. وقال الأخفش سِينِينَ جمع بمعنى شجر واحدته سينة،
فكأنه قيل طور الأشجار. وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر وعبد
بن حميد عن ابن عباس أن قال سِينِينَ هو الحسن. وأخرج عبد بن
حميد نحوه عن الضحاك وكذلك أخرج هو وجماعة عن عكرمة بزيادة
بلسان الحبشة. وأخرج هو أيضا وابن جرير وابن عساكر وغيرهما عن
قتادة أنه قال سينين مبارك حسن ذو شجر، والإضافة على ما ذكر من
إضافة الصفة إلى الموصوف. وأما التِّينِ وَالزَّيْتُونِ فروى
جماعة عن قتادة أن الأول منهما الجبل الذي عليه دمشق، والثاني
الجبل الذي عليه بيت المقدس. ويقال على ما أخرج سعيد بن منصور
وابن أبي حاتم عن أبي حبيب الحارث بن محمد للأول طور تينا،
وللثاني طور زيتا، وذلك لأنهما منبتا التين والزيتون وكان
الكلام على هذا إما على حذف مضاف أو على التجوز بأن يكون قد
تجوز التين والزيتون عن منبتيهما وشاع ذلك. وأخرج عبد بن حميد
عن أبي عبد الله الفارسي أن التين مسجد دمشق والزيتون بيت
المقدس، ولعل إطلاقهما عليهما لأن فيهما شجرا من جنسهما. وعن
كعب الأحبار أنهما دمشق وإيلياء بلد بيت المقدس وكأن تسميتها
بذلك من تسمية المحل باسم الحال فيه. وأخرج عبد بن حميد وابن
أبي حاتم عن محمد بن كعب أنهما مسجد أصحاب الكهف ومسجد إيلياء.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنهما مسجد نوح عليه
السلام الذي بني على الجودي وبيت المقدس. وعن شهر بن حوشب
أنهما الكوفة والشام وتعقب بأن الكوفة بلدة إسلامية مصرها سعد
بن أبي وقاص في أيام أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه
ولعله أراد الأرض التي تسمى اليوم بالكوفة فقد كانت كما في
القاموس وغيره منزل نوح عليه السلام. وقال بعضهم: إن الكوفة
بلد كانت قبل لكنها خربت فجددت في أيام عمر رضي الله تعالى
عنه، وقيل هما جبال ما بين حلوان وهمذان وجبال الشام لأنهما
منابتهما وأيّا ما كان فالمتعاطفات متناسبة في أن المراد بها
أماكن مخصوصة. وقيل المراد بهما الشجران المعروفان. وأخرج ابن
أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس أن قال التِّينِ
وَالزَّيْتُونِ الفاكهة التي يأكلها الناس.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن مجاهد نحوه وحكاه في
البحر أيضا عن إبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد
ومقاتل والكلبي وعكرمة والحسن وخصهما الله تعالى على هذا القول
بالإقسام بهما من بين الثمار لاختصاصهما بخواص جليلة، فإن
التين فاكهة طيبة لا فضل لها وغذاء لطيف سريع الانهضام بل قيل
إنه أصح الفواكه غذاء إذا أكل على الخلاء ولم يتبع بشيء وهو
دواء كثير النفع يفتح السدد ويقوي الكبد ويذهب الطحال وعسر
البول وهزال الكلى والخفقان والربو وعسر النفس والسعال وأوجاع
الصدر وخشونة القصبة إلى غير ذلك. وعن علي الرضا بن موسى
الكاظم على جدهما وعليهما السلام أنه يزيل نكهة الفم ويطول
الشعر وهو أمان من الفالج.
وروى أبو ذر أنه أهدى إلى النبي صلّى الله عليه وسلم طبق من
تين فأكل منه وقال لأصحابه: «كلوا فلو قلت إن فاكهة نزلت من
الجنة لقلت هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع
البواسير وتنفع من النقرس»
. ولم أقف للمحدثين على شيء في هذا الحديث لكن قال داود الطبيب
بعد سرد نبذة من خواص التين وفي نفعه من البواسير حديث حسن،
وذكر أن نفعه من النقرس إذا دق مع دقيق الشعير أو القمح أو
الحلبة وذكر أنه حينئذ ينفع من الأورام الغليظة وأوجاع المفاصل
وله مفردا ومركبا خواص أخرى كثيرة وكذا لشجرته كما لا يخفى على
من راجع كتب الطب وما أشبه شجرته بمؤثر على نفسه وبكريم يفعل
ولا يقول. وأما الزيتون فهو إدام ودواء وفاكهة فيما قيل،
وقالوا إن المكلس منه لا شيء مثله
(15/394)
في الهضم والتسمين وتقوية الأعضاء ويكفيه
فضلا دهنه الذي عم الاصطباح به في المساجد ونحوها مع ما فيه من
المنافع كتحسين الألوان وتصفية الأخلاط وشد الأعصاب وكفتح
السدد وإخراج الدود والإدرار وتفتيت الحصى وإصلاح الكلى شربا
بالماء الحار وكقلع البياض وتقوية البصر اكتحالا إلى غير ذلك،
وشجرته من الشجرة المباركة المشهود لها في التنزيل وإذا تتبعت
خواص أجزائها ظهر لك أنها أجدى من تفاريق العصا.
وعن معاذ بن جبل أنه مر بشجرة زيتون فأخذ منها سواكا فاستاك به
وقال: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلم يقول: «نعم السواك
الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفرة» . وسمعته
عليه الصلاة والسلام يقول: «هو سواكي وسواك الأنبياء عليهم
السلام قبلي» .
وقال بعضهم: إن تفسيرهما بما ذكر هو الصحيح وكأن المراد عليه
تين تلك الأماكن المقدسة وزيتونها، والغرض من القسم بتلك
الأشياء الإبانة عن شرف البقاع المباركة وما ظهر فيها من الخير
والبركة، ويرجع إلى القسم بالأرض المباركة وبالبلد الأمين،
وفيه رمز إلى فضل البلد كما يشعر به كلام صاحب الكشاف وبيّن
ذلك في الكشف بقوله:
وذلك أنه فصل بركتي الأرض المقدسة الدنيوية والدينية بذكر
الشجرتين أو تمرتيهما، والطور الذي نودي منه موسى عليه السلام
وناب المجموع مناب والأرض المباركة على سبيل الكناية، فظهر
التناسب في العطف على وجه بين إذ عطف البلد على مجموع الثلاثة
لأنها كالفرد بهذا الاعتبار كأنه قيل: والأرض التي باركنا فيها
دينا ودنيا، والبلد الآمن من دخله في الدارين وذلك بركة يتضاءل
دونها كل بركة، ويتضمن ذلك أن شرف تلك البقاع بمناجاة موسى
عليه السلام ربه عز وجل أياما معدودة، وكم نوجيت في البلد
الأمين ثم قال: والحمل على الظاهر أريد (1) المنابت أو الشجر
أن يفوته المناسبة بين الأولين والبلد الأمين لأن مناسبة طور
سينين للبلد غير مناسبته لهما، والكلام مسوق للأول انتهى فتأمل
فإنه دقيق. وأيّا ما كان فجواب القسم قوله تعالى لَقَدْ
خَلَقْنَا الْإِنْسانَ إلخ وأريد بالإنسان الجنس فهو شامل
للمؤمن والكافر لا مخصوص بالثاني، واستدل عليه بصحة الاستثناء
وأن الأصل فيه الاتصال. وقوله تعالى فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ في
موضع الحال من الإنسان أي كائنا في تقويم أحسن تقويم والتقويم
التثقيف والتعديل وهو فعل الله عز وجل، فمعنى كون الإنسان
كائنا في ذلك على ما قيل إنه ملتبس به نظير قولك فلان في رضا
زيد بمعنى أنه مرضي عنه. وقال الخفاجي: هو مؤول بمعنى القوام
أو المقوم، وفيه مضاف مقدر أي قوام أحسن تقويم أو في زائدة وما
بعدها في موضع المفعول المطلق وقد ناب فيه عن المصدر صفته.
والتقدير قومناه تقويما أحسن تقويم والمراد بذلك جعله على أحسن
ما يكون صورة ومعنى فيشمل ما له من انتصاب القامة وحسن الصورة
والإحساس وجودة العقل وغير ذلك. ومن أمعن نظره في أمره وأجال
فكره في دقائق ظاهره وسره رآه كما قال بعض الأجلّة مجمع الغيب
والشهادة ومطلع نيري فلكي الإفادة والاستفادة والنسخة الجامعة
لما في رسائل إخوان الصفا وسائر المتون والشارح بطور طروس
العجائب الإلهية المودعة فيه لما كان وسيكون وظهر له صدق ما
قيل ونسب لعلي كرم الله تعالى وجهه:
دواؤك فيك ولا تشعر ... وداؤك منك وما تبصر
وتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر
ومما يدل على أحسنية تقويمه أن الله تعالى رسم فيه من الصفات
ما تذكره صفاته عز وجل وتدلّه عليها فجعله عالما مريدا قادرا
إلى غير ذلك.
وقال تعالى: «تخلقوا بأخلاق الله لئلا يتوهم أن ما للسيد على
العبد حرام» .
ويكفي في هذا الباب وهو القول الفصل أن الله تعالى خلقه بيديه
وأمر سبحانه ملائكته عليهم السلام بالسجود له وهم المكرمون
__________
(1) قوله والحمل على إلخ كذا في النسخ ولعله على الظاهر إذا
أريد أو حيث اه.
(15/395)
لديه.
وجاء أن الله تعالى خلق آدم على صورته
وفي رواية على صورة الرحمن
وهي تأبى احتمال عود الضمير على آدم على معنى خلقه غير متنقل
في الأطوار كبنيه ولكونه النسخة الجامعة. قال يحيى بن معاذ
الرازي: من عرف نفسه فقد عرف ربه. والناس يزعمونه حديثا وليس
كما قال النووي بثابت. وعن يحيى بن أكثم وبعض الحنفية أنهما
أفتيا من قال لزوجته: إن لم تكوني أحسن من القمر فأنت طالق
بعدم وقوع الطلاق، واستدلا بهذه الآية في قصة مشهورة. وللشعراء
في تفضيل معشوقهم على القمر ليلة تمه ما يضيق عنه نطاق الحصر
والحق أن الفرق مثل الصبح ظاهر. وثم في قوله تعالى ثُمَّ
رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ للتراخي الزماني أو الرتبي
والرد إما بمعنى الجعل فينصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر
كما في قوله:
فرد شعورهن السود بيضا ... ورد وجوههن البيض سودا
فأسفل مفعول ثان له هنا والمعنى ثم جعلناه من أهل النار الذين
هم أقبح من كل قبيح، وأسفل من كل سافل خلقا وتركيبا لعدم جريه
على موجب ما خلقناه عليه من الصفات. وجوز أن يكون المراد بالرد
تغيير الحال فهو متعد لواحدة. وأَسْفَلَ حال من المفعول أي
رددناه حال كونه أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة وهم أصحاب
النار، وأن يكون الرد بمعناه المعروف وأَسْفَلَ منصوب بنزع
الخافض وجعل الأسفل عليه صفة لمكان. وأريد بالسافلين الأمكنة
السافلة أي رددناه إلى مكان أسفل الأمكنة السافلة وهو جهنم أو
الدرك الأسفل من النار، ويعكر على هذا جمعها جمع العقلاء وكونه
للفاصلة أو التنزيل منزلة العقلاء ليس مما يهتش له. ولعل
الأولى على ذلك أن يراد إلى أسفل من سفل من أهل الدركات. وقال
عكرمة والضحاك والنخعي وقتادة في رواية: المراد بذلك رده إلى
الهرم وضعف القوى الظاهرة والباطنة أي ثم رددناه بعد ذلك
التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل حيث نكسناه
في خلقه فقوس ظهره بعد اعتداله، وابيض شعره بعد سواده، وتشنن
جلده وكان بضا، وكلّ سمعه وبصره وكانا حديدين، وتغير كل شيء
منه فمشيه دليف وصوته خفات وقوته ضعف وشهامته خرف. والآية على
هذا نظير قوله تعالى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ
الْعُمُرِ [النحل: 70، الحج: 5] وقوله سبحانه وَمَنْ
نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ [يس: 68] وهو باعتبار
الجنس فلا يلزم أن يكون كل الإنسان. كذلك. وفي إعراب أَسْفَلَ
قيل الأوجه السابقة والأوجه منه غير خفي ثم المتبادر من السياق
الإشارة إلى حال الكافر يوم القيامة وأنه يكون على أقبح صورة
وأبشعها بعد أن كان على أحسن صورة وأبدعها لعدم شكره تلك
النعمة، وعمله بموجبها وإرادة ما ذكر لا يلائمه ومن هنا قيل:
إنه خلاف الظاهر والظاهر ما لاءم ذلك كما هو المروي عن الحسن
ومجاهد وأبي العالية وابن زيد وقتادة أيضا.
وقرأ عبد الله «السافلين» مقرونا بأل.
وقوله تعالى إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
على ما تقدم استثناء متصل من ضمير رددناه العائد على الإنسان
فإنه في معنى الجمع فالمؤمنون لا يردون أسفل سافلين يوم
القيامة ولا تقبح صورهم بل يزدادون بهجة إلى بهجتهم وحسنا إلى
حسنهم. وقوله تعالى فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي غير
مقطوع أو غير ممنون به عليهم مقرر لما يفيده الاستثناء من
خروجهم عن حكم الردّ ومبين لكيفية حالهم وعلى الأخير الاستثناء
منقطع والموصول مبتدأ وجملة لهم أَجْرٌ خبره والفاء لتضمن
المبتدأ معنى الشرط والكلام على معنى الاستدراك كأنه قيل: لكن
الذين آمنوا لهم أجر إلخ. وهو لدفع ما يتوهم من أن التساوي في
أرذل العمر يقتضي التساوي في غيره فلا يرد أنه كيف يكون
منقطعا، والمؤمنون داخلون في المردودين إلى أرذل العمر غير
مخالفين لغيرهم
(15/396)
في الحكم. وقال بعض المحققين: الانقطاع
لأنه لم يقصد إخراجهم من الحكم وهو مدار الاتصال والانقطاع كما
صرح به في الأصول لا الخروج والدخول فلا تغفل. وحمل غير واحد
هؤلاء المؤمنين على الصالحين من الهرمى كأنه قيل: لكن الذين
كانوا صالحين من الهرمى لهم ثواب دائم غير منقطع أو غير ممنون
به عليهم لصبرهم على ما ابتلوا به من الهرم والشيخوخة المانعين
إياهم عن النهوض لأداء وظائفهم من العبادة.
أخرج أحمد والبخاري وابن حبان عن أبي موسى قال: قال رسول الله
صلّى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبد أو سافر كتب الله تعالى
له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحا مقيما»
.
وفي رواية عنه ثم قرأ صلّى الله عليه وسلم فَلَهُمْ أَجْرٌ
غَيْرُ مَمْنُونٍ
أخرج الطبراني عن شداد بن أوس قال: سمعت رسول الله صلّى الله
عليه وسلم يقول: «إن الله تبارك وتعالى يقول إذا ابتليت عبدا
من عبادي مؤمنا فحمدني على ما ابتليته فإنه يقوم من مضجعه
كيقوم ولدته أمه من الخطايا ويقول الرب عز وجل إني أنا قيدت
عبدي هذا وابتليته فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك» .
وهو صحيح. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية:
إذا كبر العبد وضعف عن العمل كتب له أجر ما كان يعمل في
شبيبته، ومن الناس من حملهم على قراء القرآن وجعل الاستثناء
متصلا مخرجا لهم عن حكم الرد إلى أرذل العمر بناء على ما أخرج
الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن الحبر قال: من قرأ القرآن
لم يرد إلى أرذل العمر وذلك قوله تعالى ثُمَّ رَدَدْناهُ
أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا قال: إلا الذين
قرؤوا القرآن. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة نحوه وفيه
أنه لا ينزل تلك المنزلة يعني الهرم كي لا يعلم من بعد علم
شيئا أحد من قراء القرآن ولا يخفى أن تخصيص الَّذِينَ آمَنُوا
بما خصص به خلاف الظاهر. وفي كون أحد من القراء لا يرد إلى
أرذل العمر توقف فليتتبع.
والخطاب في قوله تعالى فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ عند
الجمهور للإنسان على طريقة الالتفات لتشديد التوبيخ والتبكيت،
والفاء لتفريع التوبيخ عن البيان السابق، والباء للسببية.
والمراد بالدين الجزاء بعد البعث أي فما يجعلك كاذبا بسبب
الجزاء وإنكاره بعد هذا الدليل، والمعنى أن خلق الإنسان من
نطفة وتقويمه على وجه يبهر الأذهان ويضيق عنه نطاق البيان أو
هذا مع تحويله من حال إلى حال من أوضح الدلائل على قدرة الله
عز وجل على البعث والجزاء فأي شيء يضطرك أيها الإنسان بعد هذا
الدليل القاطع إلى أن تكون كاذبا بسبب تكذيبه، فإن كل مكذب
بالحق فهو كاذب. وقال قتادة والأخفش والفراء: الخطاب للرسول
صلّى الله عليه وسلم أي فأي شيء يكذبك بالجزاء بعد ظهور دليله،
وهو من باب الإلهاب والتعريض بالمكذبين أي أنه لا يكذبك شيء ما
بعد هذا البيان بالجزاء لا كهؤلاء الذين لا يبالون بآيات الله
تعالى ولا يرفعون بها رأسا فالاستفهام لنفي التكذيب وإفادة أنه
عليه الصلاة والسلام لاستمرار الدلائل وتعاضدها مستمر على ما
هو عليه من عدم التكذيب. وفيه من اللطف ما ليس في الأول. وجوز
على هذا الوجه كون الباء بمعنى في وكونها للسببية وتقدير مضاف
عليهما والمعنى أي شيء ينسبك إلى الكذب في إخبارك بالجزاء أو
بسبب إخبارك به بعد هذا الدليل، وكونها صلة التكذيب والدين
بمعناه والمعنى أي شيء يجعلك مكذبا بدين الإسلام، وروي هذا عن
مجاهد وقتادة والاستفهام على ما سمعت وجوز كون الدين بمعناه
على الوجه الأول أيضا وبعض من ذهب إلى كون الخطاب لسيد
المخاطبين صلّى الله عليه وسلم جعل ما بمعنى من لأن المعنى
عليه أظهر، وضعف بأنه خلاف المعروف في ما فلا ينبغي ارتكابه مع
صحة بقائها على المعروف فيها. أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ
الْحاكِمِينَ أي أليس الذي فعل ما ذكر بأحكم الحاكمين صنعا
وتدبيرا حتى يتوهم عدم الإعادة والجزاء وحيث استحال عدم كونه
سبحانه
(15/397)
أحكم الحاكمين تعين الإعادة والجزاء.
والجملة تقرير لما قبلها وقيل الحكم بمعنى القضاء فهي وعيد
للكفار وأنه عز وجل يحكم عليهم بما هم أهله من العذاب وأيّا ما
كان فالاستفهام على ما قيل تقرير بما بعد النفي ويدل على ذلك
ما
أخرجه الترمذي وأبو داود وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ منكم والتين والزيتون
فانتهى إلى قوله تعالى أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ
الْحاكِمِينَ فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين»
.
وجاء في بعض الروايات «أنه صلّى الله عليه وسلم كان يقول إذا
أتى على هذه الآية: سبحانك فبلى»
وقد تقدم ما يتعلق بهذا في تفسير سورة لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ
الْقِيامَةِ [القيامة: 1] فتذكر.
(15/398)
سورة العلق
وتسمى سورة اقرأ، لا خلاف في مكيتها وإنما الخلاف في عدد آيها
ففي الحجازي عشرون آية، وفي العراقي تسع عشرة، وفي الشامي
ثماني عشرة، وفي أنها أول نازل أو لا فذهب كثير إلى أنها أول
نازل، فقد أخرج الطبراني في الكبير بسنده على شرط الصحيح عن
أبي رجاء العطاردي قال: كان أبو موسى الأشعري يقرئنا فيجلسنا
حلقا عليه ثوبان أبيضان فإذا تلا هذه السورة اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ [العلق: 1] قال: هذه أول سورة أنزلت على محمد رسول
الله صلّى الله عليه وسلم. وقد أخرج الحاكم في المستدرك
والبيهقي في الدلائل وصححاه عن عائشة نحوه.
وأخرج غير واحد عن مجاهد قال: أول ما نزل من القرآن اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ ثم ن وَالْقَلَمِ [القلم: 1] وروى الشيخان عن
أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت جابر بن عبد الله أي القرآن
أنزل أولا؟
قال: يا أيها المدثر، قلت: يقولون اقرأ باسم ربك قال: أحدثكم
بما حدثنا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم
، فساق الحديث مستدلا به على ما ادعاه وأجاب عنه الأولون بعدة
أجوبة مر ذكرها وقيل الفاتحة. واحتج له بحديث مرسل رجاله ثقات
أخرجه البيهقي في الدلائل والواحدي من طريق يونس بن بكير عن
يونس بن عمر عن أبيه عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل، وأجيب عنه
بأن ما فيه يحتمل أن يكون خبرا عما نزل بعد اقرأ ويا أيها
المدثر، مع أن غيره أقوى منه رواية وجزم جابر بن زيد بأن أول
ما نزل اقرأ، ثم ن، ثم يا أيها المزمل، ثم يا أيها المدثر، ثم
الفاتحة. وقيل أول ما نزل صدرها إلى ما لم يعلم في غار حراء ثم
نزل آخرها بعد ذلك بما شاء الله تعالى وهو ظاهر ما
أخرجه الإمام أحمد والشيخان وعبد بن حميد وعبد الرزاق وغيرهم
من طريق ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة في حديث بدء
الوحي، وفيه: «فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم
أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ
الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ
يَعْلَمْ» فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ترجف بوادره
إلى أن قالت: ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي
،
وفي آخر ما رووا قال ابن شهاب: وأخبرني أبو سلمة عن جابر بن
عبد الله الأنصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه:
«بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك
الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه
فرجعت، فقلت: زملوني زملوني، فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ
فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر: 1- 5] فحمي الوحي
وتتابع» .
ويعلم منه ضعف الاستدلال على كون سورة المدثر أول نازل من
القرآن على الإطلاق بما روي أولا عن جابر المذكور كما لا يخفى
على الواقف عليه، وقد ذكرناه صدر الكلام في سورة المدثر لقوله
فيه وهو يحدث عن فترة الوحي
وقوله: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء»
وقوله «فحمي الوحي وتتابع»
أي بعد فترته
(15/399)
اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ
(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ
اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ
الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ
إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12)
أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ
بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ
لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ
خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ
الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ
وَاقْتَرِبْ (19)
وبالجملة الصحيح كما قال البعض وهو الذي
أختاره أن صدر هذه السورة الكريمة هو أول ما نزل من القرآن على
الإطلاق كيف
وقد ورد حديث بدء الوحي المروي عن عائشة من أصح الأحاديث وفيه
فجاءه الملك فقال اقرأ فقال قلت «ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني
حتى بلغ مني الجهد»
إلخ. والظاهر أن ما فيه نافية بل قال النووي هو الصواب وذلك
إنما يتصور أولا وإلّا لكان الامتناع من أشد المعاصي ويطابقه
ما ذكره الأئمة في باب تأخير البيان وسنشير إليه إن شاء الله
تعالى. وفي الكشف الوجه حمل قول جابر على السورة الكاملة وفي
شرح صحيح مسلم الصواب أن أول ما نزل اقْرَأْ أي مطلقا، وأول ما
نزل بعد فترة الوحي يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وأما قول من قال
من المفسرين أول ما نزل الفاتحة فبطلانه أظهر من أن يذكر
انتهى. وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله والله تعالى
أعلم. ولما ذكر سبحانه في سورة التين خلق الإنسان في أحسن
تقويم بيّن عز وجل هنا أنه تعالى خلق الإنسان من علق فكان ما
تقدم كالبيان للعلة الصورية، وهذا كالبيان للعلة المادية. وذكر
سبحانه هنا أيضا من أحواله في الآخرة ما هو أبسط مما ذكره عز
وجل هناك فقال سبحانه وتعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ أي ما يوحى إليك
من القرآن فالمفعول مقدّر بقرينة المقام كما قيل وليس الفعل
منزلا منزلة اللازم ولا أن مفعوله قوله تعالى بِاسْمِ رَبِّكَ
على أن الباء زائدة كما قال أبو عبيدة وزعم أن المعنى اذكر
ربك، بل هي أصلية ومعناها الملابسة وهي متعلقة بما عندها أو
بمحذوف وقع حالا كما روي عن قتادة. والمعنى اقْرَأْ مبتدئا أو
مفتتحا بِاسْمِ رَبِّكَ أي قل بسم الله ثم اقرأ وهو ظاهر في
أنه لو افتتح بغير اسمه عز وجل لم يكن ممتثلا، واستدل بذلك على
أن البسملة جزء من كل سورة وفيه بحث وكذا الاستدلال به على
أنها ليست من القرآن للمقابلة إذ لقائل أن يقول إنها تخصص
القرآن المقدر مفعولا بغيرها. وبعضهم استدل على أنها ليست
بقرآن في أوائل السور بأنها لم تذكر فيما صح من أخبار بدء
الوحي الحاكية لكيفية نزول هذه الآيات كذا أفاده النووي عليه
الرحمة، ثم قال: وجواب المثبتين أنها لم تنزل أولا بل نزلت في
وقت آخر كما نزل باقي السورة كذلك وهذا خلاف ما أخرج الواحدي
عن عكرمة والحسن أنهما قالا: أول ما نزل من القرآن بسم الله
الرحمن الرحيم، وأول سورة اقرأ. وكذا خلاف ما
أخرجه ابن جرير وغيره من طريق الضحاك عن ابن عباس أنه قال: أول
ما نزل جبريل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلم قال:
يا محمد استعذ. ثم قل بسم الله الرحمن الرحيم، وقد عد القول
بأنها أول ما نزل أحد الأقوال في تعيين أول منزل من القرآن
. وقال الجلال السيوطي: إن هذا القول لا يعد عندي قولا برأسه
فإنه من ضرورة نزول السورة نزول
(15/400)
البسملة معها فهي أول آية نزلت على الإطلاق
وفيه منع ظاهر كما لا يخفى. وجوز كون الباء للاستعانة متعلقة
بما عندها أو بمحذوف وقع حالا ورجحت الملابسة بسلامتها عن
إيهام كون اسمه تعالى آلة لغيره وقد تقدم ما يتعلق بذلك أول
الكتاب. ثم إنه ليس في الأمر المذكور تكليف بما لا يطاق سواء
دل الأمر على الفور أم لا لأنه صلّى الله عليه وسلم علم أن ما
أوحى قرآن فهو المكلف بقراءته عليه الصلاة والسلام ولا محذور
في كون اقرأ إلخ مأمورا بقراءته لصدق المأمور بقراءته عليه،
وهذا كما تقول لشخص: اسمع ما أقول لك، فإنه مأمور بسماع هذا
اللفظ أيضا. وقد ذكر جمع من الأصوليين أن هذا بيان للمأمور به
في قول جبريل عليه السلام اقْرَأْ المذكور في حديث بدء الوحي
المتفق عليه. قال الآمدي عند ذكر أدلة جواز تأخير البيان عن
وقت الخطاب الذي ذهب إليه جماعة من الحنفية وغيرهم: ومن الأدلة
ما
روي أن جبريل عليه السلام قال للنبيّ صلّى الله عليه وسلم
اقْرَأْ قال: «وما اقرأ» ؟ كرر عليه ثلاث مرات ثم قال له
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ
فأخر بيان ما أمره به أولا مع إجماله إلى ما بعد ثلاث مرات من
أمر جبريل عليه السلام وسؤال النبي صلّى الله عليه وسلم مع
إمكان بيانه أولا وذلك دليل جواز التأخير إلى آخر ما قال سؤالا
وجوابا لا يتعلق بهما غرضنا، ولا يخفى أن يكون هذا بيانا
للمراد على الوجه الذي ذكرناه ظاهر وكونه كذلك بجعل اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ إلى آخر ما نزل أو بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ اقْرَأْ إلخ ما ادعاه الجلال معمولا لاقرأ المكرر
في كلام جبريل عليه السلام مما لا أظن أن أصوليا يقول به،
ومثله كونه كذلك بحمل الآية على ما سمعت عن أبي عبيدة. وأما
بناء الاستدلال على ما
في بعض الآثار من أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلّى
الله عليه وسلم وهو بحراء بنمط من ديباج مكتوب فيه اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ- إلى- ما لَمْ يَعْلَمْ فقال له: اقرأ فقال
عليه الصلاة السلام «ما أنا بقارئ» قال: اقرأ باسم ربك
بأن يكون اقرأ إلخ بيانا وتلاوة من جبريل عليه السلام لما في
النمط المنزل لعدم العلم بما فيه وإن كان مشاهدا منزلة المجمل
الغير المعلوم فلا يخفى حاله فتأمل. ثم إن في كلام الآمدي من
حيث رواية الخبر ما فيه فلا تغفل. والتعرض لعنوان الربوبية
المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال اللائق شيئا فشيئا مع
الإضافة إلى ضميره صلّى الله عليه وسلم للإشعار بتبليغه عليه
الصلاة والسلام إلى الغاية القاصية من الكمالات البشرية بإنزال
الوحي المتواتر.
ووصف الرب بقوله تعالى الَّذِي خَلَقَ لتذكيره عليه الصلاة
والسلام أول النعماء الفائضة عليه صلّى الله عليه وسلم منه
سبحانه مع ما في ذلك من التنبيه على قدرته تعالى على تعليم
القراءة بألطف وجه، وقيل: لتأكيد عدم إرادة غيره تعالى من الرب
فإن العرب كانت تسمي الأصنام أربابا لكنهم لا ينسبون الخلق
إليها والفعل إما منزل اللازم أي الذي له الخلق، أو مقدر
مفعوله عاما أي الذي خلق كل شيء. والأول يفيد العموم أيضا فعلى
الوجهين يكون وجه تخصيص الإنسان بالذكر في قوله تعالى خَلَقَ
الْإِنْسانَ أنه أشرف المخلوقات وفيه من بدائع الصنع والتدبير
ما فيه فهو أدل على وجوب العبادة المقصودة من القراءة مع أن
التنزيل إليه، ويجوز أن يراد خلق الإنسان إلّا أنه لم يذكر
أولا وذكر ثانيا قصدا لتفخيمه بالإبهام ثم التفسير. وعن
الزمخشري أن المناسب أن يراد خلق الإنسان بعد الأمر بقراءة
القرآن تنبيها على أنه تعالى خلقه للقراءة والدراية كما أن ذكر
خلق الإنسان عقيب تعليم القرآن أول سورة الرحمن لنحو ذلك.
وقوله تعالى مِنْ عَلَقٍ أي دم جامد لبيان كمال قدرته تعالى
بإظهار ما بين حالتيه الأولى والآخرة من التباين البين، وأتى
به دالا على الجمع لأن الإنسان مراد به الجنس فهو في معنى
الجمع فأتى بما خلق منه كذلك ليطابقه مع ما في ذلك من رعاية
الفواصل، ولعله على ما قيل السر في تخصيص هذا الطور من بين
سائر أطوار الفطرة الإنسانية من كون النطفة والتراب
(15/401)
أدل على كمال القدرة لكونهما أبعد منه
بالنسبة إلى الإنسانية. وفي البحر لم يذكر سبحانه مادة الأصل
آدم يعني آدم عليه السلام وهو التراب لأن خلقه من ذلك لم يكن
متقررا عند الكفار فذكر مادة الفرع وخلقه منها وترك مادة أصل
الخلقة تقريبا لإفهامهم وهو على ما فيه لا يحسم مادة السؤال.
وقيل: خص هذا الطور تذكيرا له عليه الصلاة والسلام لما وقع من
شرح الصدر قبل النبوة وإخراج العلق منه ليتهيأ تهيئا تاما لما
يكون له بعد فكأنه قيل الذي خلق الإنسان من جنس ما أخرجه من
صدرك الشريف ليهيئك بذلك لمثل ما يلقى إليك الآن وبهذا تقوى
مناسبة هذه السورة لسورة الشرح قبلها أتم مناسبة لا سيما على
تفسير الشرح بالشق فتدبره. ومن الناس من زعم أن المراد
بالإنسان آدم عليه السلام وأن المعنى خلق آدم من طين يعلق
باليد وهو مما لا تعلق به يد القبول، ولما كان خلق الإنسان أول
النعم الفائضة عليه منه تعالى وأقدم الدلائل الدالّة على وجوده
عز وجل وكمال قدرته وعلمه وحكمته سبحانه وصف ذاته تعالى بذلك
أولا ليستشهد عليه الصلاة والسلام به على تمكينه تعالى له من
القراءة.
ثم كرر جل وعلا الأمر بقوله تعالى اقْرَأْ أي افعل ما أمرت به
تأكيدا للإيجاب وتمهيدا لما يعقبه من قوله تعالى: وَرَبُّكَ
الْأَكْرَمُ إلخ فإنه كلام مستأنف وأراد لإزاحة ما بيّنه صلّى
الله عليه وسلم من العذر
بقوله عليه السلام لجبريل عليه الصلاة والسلام حين قال له اقرأ
فقال: «ما أنا بقارئ»
يريد أن القراءة شأن من يكتب ويقرأ وأنا أمي فقيل وَرَبُّكَ
الذي أمرك بالقراءة مفتتحا ومبتدأ باسمه الْأَكْرَمُ الَّذِي
عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي علم ما علم بواسطة القلم لا غيره
تعالى، فكما علم سبحانه القارئ بواسطة الكتابة بالقلم يعلمك
بدونها. وحقيقة الكرم إعطاء ما ينبغي لا لغرض فهو صفة لا
يشاركه تعالى في إطلاقها أحد فافعل للمبالغة وجوز أن لا يكون
اقرأ هذا تأكيدا للأول وإنما ذكر ليوصل به ما يزيح العذر.
فجملة وَرَبُّكَ إلخ في موضع الحال من الضمير المستتر فيه.
وقوله تعالى عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ بدل اشتمال
من علم بالقلم أي علمه به وبدونه من الأمور الكلية والجزئية
والجلية والخفية ما لم يخطر بباله، في حذف المفعول أولا
وإيراده بعنوان عدم المعلومية ثانيا من الدلالة على كمال قدرته
تعالى وكمال كرمه عز وجل والإشعار بأنه تعالى يعلمه عليه
الصلاة والسلام من العلوم ما لا يحيط به العقول ما لا يخفى
قاله في الإرشاد. وقدر بعضهم مفعول علم الخط وجعل بالقلم
متعلقا به وأيد بقراءة ابن الزبير الذي علم الخط بالقلم حيث
صرح فيها بذلك وقال الجبائي إن اقْرَأْ الأول أمر بالقراءة
لنفسه وقيل مطلقا والثاني أمر بالقراءة للتبليغ، وقيل في
الصلاة المشار إليها فيما بعد. وجملة وَرَبُّكَ إلخ تحتمل
الحالية والاستئنافية، وحاصل المعنى على إرادة القراءة للتبليغ
في قول بلغ قومك وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الذي يثيبك على عملك
بما يقتضيه كرمه ويقويك على حفظ القرآن لتبلغه. وأولى الأوجه
وأظهرها التأكيد وأبعد بعضهم جدا فزعم أن بسم في البسملة متعلق
باقرأ الأول، وباسم ربك متعلق باقرأ الثاني ليفيد التقديم
اختصاص اسم الله تعالى بالابتداء. وجوز أيضا أن يبقى باسم الله
على ما هو المشهور فيه واقرأ أمر بإحداث القراءة وباسم ربك
متعلق باقرأ الثاني لذلك ولا يخفى أن الظاهر تعلق باسم ربك بما
عنده وتقديم الفعل هاهنا أوقع لأن السورة المذكورة على ما سبق
من التصحيح أول سورة نزلت فالقراءة فيها أهم نظرا للمقام. وقيل
إنه لو سلم كون غيرها نازلا قبلها لا يضر في حسن تقديم الفعل
لأن المعنى كما سمعت عن قتادة اقرأ مفتتحا باسم ربك أي قل باسم
الله ثم اقرأ فلو افتتح بغير البسملة لم يكن ممتثلا فضلا عن أن
يفتتح بما يضادها من أسماء الأصنام، ولو قدم أفاد معنى آخر وهو
أن المطلوب عند القراءة أن يكون الافتتاح باسم
(15/402)
الله تعالى لا باسم الأصنام ولا تكون
القراءة في نفسها مطلوبة لما علم أن مقتضى التقديم أن يكون أصل
الفعل مسلما على ما هو عليه من زمان طلبا كان أو خبرا. وأجاب
من علق الجار بالثاني بأن مطلوبية القراءة في نفسها استفيدت من
اقرأ الأول فلا تغفل. والظاهر أن المعلم بالقلم غير معين وقيل
هو كل نبي كتب. وقال الضحاك هو إدريس عليه السلام وهو أول من
خط. وقال كعب: هو آدم عليه السلام وهو أول من كتب. وقد نسبوا
لآدم وإدريس عليهما السلام نقوشا مخصوصة في كتابة حروف الهجاء
الذي يغلب على الظن عدم صحة ذلك، وقد أدمج سبحانه وتعالى
التنبيه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة ونيل
الرتب الفخيمة ولولاه لم يقم دين ولم يصلح عيش ولو لم يكن على
دقيق حكمة الله تعالى ولطيف تدبيره سبحانه دليل إلّا أمر القلم
والخط لكفى به وقد قيل فيه:
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأري الجنى اشتارته أيد عواسل
ومما نسبه الزمخشري في ذلك لبعضهم وعنى على ما قيل نفسه:
ورواقم رقش كمثل أراقم ... قطف الخطى نيالة أقصى المدى
سود القوائم ما يجد مسيرها ... إلّا إذا لعبت بها بيض المدى
ولهم في هذا الباب كلام فصل يضيق عنه الكتاب، وظاهر الآثار أن
الكتابة في الأمم غير العرب قديمة وفيهم حادثة لا سيما في أهل
الحجاز، وذكر غير واحد أن الكتابة نقلت إليهم من أهل الحيرة
وأنهم أخذوها من أهل الأنبار، وذكر الكلبي والهيثم بن عدي أن
الناقل للخط العربي من العراق إلى الحجاز حرب بن أمية وكان قد
قدم الحيرة فعاد إلى مكة به، وأنه قيل لابنه أبي سفيان ممن أخذ
أبوك هذا الخط؟ فقال: من أسلم بن أسدرة. وقال: سألت أسلم ممن
أخذت هذا الخط؟ فقال: من واضعه مرامر بن مرة. وقيل: كان لحمير
كتابة يسمونها المسند منفصلة غير متصلة وكان لها شأن عندهم فلا
يتعاطاها إلّا من أذن له في تعلمها، وأصناف الكتابة كثيرة.
وزعم بعضهم أن جل كتابات الأمم اثنا عشر صنفا العربية
والحميرية والفارسية والعبرانية واليونانية والرومية والقبطية
والبربرية والأندلسية والهندية والصينية والسريانية ولعل هذا
إن صح باعتبار الأصول وإلّا فالفروع توشك أن لا يحصيها قلم كما
لا يخفى والله تعالى أعلم ولم ير بعض العلماء من الأدب وصف
غيره تعالى بالأكرم كما يفعله كثير من الناس في رسائلهم
فيكتبون إلى فلان الأكرم ومع هذا يعدونه وصفا نازلا ويستهجنونه
بالنسبة للملوك ونحوهم من الأكابر وقد يصفون به اليهودي
والنصراني ونحوهما مع أنه تعالى يقول وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ
فعلى العبد أن يراعي الأدب مع مولاه شاكرا كرمه الذي أولاه.
كَلَّا ردع لمن كفر من جنس الإنسان بنعمة الله تعالى عليه
بطغيانه وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه وذلك لأن مفتتح السورة
إلى هذا المقطع يدل على عظيم منته تعالى على الإنسان فإذا قيل
كَلَّا كان ردعا للإنسان الذي قابل تلك النعم الحلائل بالكفران
وبالطغيان، وكذلك التعليل بقوله تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ
لَيَطْغى أي ليتجاوز الحد في المعصية واتباع هوى النفس ويستكبر
على ربه عز وجل. وقال الكلبي: أي ليرتفع عن منزلة إلى منزلة في
اللباس والطعام وغيرهما وليس بذاك، وقدر بعضهم بعد قوله تعالى
ما لَمْ يَعْلَمْ ليشكر تلك النعم الجليلة فطغى وكفر كَلَّا
وقيل كلا بمعنى حقا لعدم ما يتوجه إليه الردع والزجر ظاهرا
فقوله سبحانه إِنَّ الْإِنْسانَ إلخ بيان لما أريد إحقاقه وهذا
إلى آخر السورة قيل نزل في أبي جهل بعد زمان من نزول الآيات
السابقة وهو الظاهر، ومع نزوله في ذلك اللعين المراد بالإنسان
الجنس. وقوله سبحانه أَنْ رَآهُ
(15/403)
اسْتَغْنى
مفعولا من أجله أي يطغى لأن رأى نفسه مستغنيا على أن جملة
اسْتَغْنى مفعول ثان لرأى لأنه بمعنى علم ولذلك ساغ كون فاعله
ومفعوله ضميري واحد نحو علمتني فقد قالوا إن ذلك لا يكون في
غير أفعال القلوب وفقد وعدم، وذهب جماعة إلى أن رأى البصرية قد
تعطى حكم القلبية في ذلك وجعلوا منه قول عائشة: لقد رأيتنا مع
رسول الله صلّى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلّا الأسودان.
وأنشدوا:
ولقد أراني للرماح دريئة ... من عن يميني تارة وأمامي
فإذا جعلت رأى هنا بصرية فالجملة في موضع الحال، وتعليل طغيانه
برؤيته لا بنفس الاستغناء كما ينبىء عنه قوله تعالى وَلَوْ
بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ
[الشورى: 27] للإيذان بأن مدار طغيانه زعمه الفاسد على الأول
ومجرد رؤيته ظاهر الحال من غير روية وتأمل في حقيقته على
الثاني، وعلى الوجهين المراد بالاستغناء الغنى بالمال أعني
مقابل الفقر المعروف. وقيل المراد أن رأى نفسه مستغنيا عن ربه
سبحانه بعشيرته وأمواله وقوته وهو خلاف الظاهر، ويبعده ظاهر ما
روي أن أبا جهل قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: أتزعم أن
من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة ذهبا وفضة لعلنا نأخذ منها
فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك. فنزل جبريل عليه السلام فقال: إن
شئت فعلنا ذلك ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب
المائدة، فكف رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الدعاء إبقاء
عليهم. وقرأ قنبل بخلاف عنه «أن رأه» بحذف الألف التي بعد
الهمزة وهي لام الفعل وروى ذلك عنه ابن مجاهد وغلطه فيه وقال:
إن ذلك حذف لا يجوز وفي البحر ينبغي أن لا يغلطه بل يتطلب له
وجها وقد حذفت الألف في نحو من هذا قال:
وصاني العجاج فيمن وصني يريد وصاني فحذف الألف وهي لام الفعل
وقد حذفت في مضارع رأى في قولهم أصاب الناس جهد لو تر أهل مكة،
وهو حذف لا ينقاس لكن إذا صحت الرواية وجب القبول فالقراءات
جاءت على لغة العرب قياسها وشاذها. وقوله تعالى إِنَّ إِلى
رَبِّكَ الرُّجْعى
تهديد للطاغي وتحذير له من عاقبة الطغيان، والخطاب قيل للإنسان
والالتفات للتشديد في التهديد وجوز أن يكون الخطاب لسيد
المخاطبين صلّى الله عليه وسلم. والمراد أيضا تهديد الطاغي
وتحذيره ولعله الأظهر نظرا إلى الخطابات قبله والرجعى مصدر
بمعنى الرجوع كالبشرى والألف فيها للتأنيث، وتقديم الجار
والمجرور عليه للقصر أي إن إلى ربك رجوع الكل بالموت والبعث لا
إلى غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا فترى حينئذ عاقبة
الطغيان. وفي هذه الآيات على ما قيل إدماج التنبيه على مذمة
المال كما أن في الآيات الأول إدماج التنبيه على مدح العلم
وكفى ذلك مرغبا في الدين والعلم ومنفرا عن الدنيا والمال.
وقوله تعالى أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى
ذكر لبعض آثار الطغيان ووعيد عليها. ولم يختلف المفسرون كما
قال ابن عطية في أن العبد المصلي هو رسول الله صلّى الله عليه
وسلم، والناهي هو اللعين أبو جهل.
فقد أخرج أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة أن أبا جهل
حلف باللات والعزى لئن رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي
ليطأن على رقبته وليعفرن وجهه، فأتى رسول الله عليه الصلاة
والسلام وهو يصلي ليفعل فما فجأهم منه إلّا وهو ينكص على عقبيه
ويتقي بيديه، فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقا من
نار وهولا وأجنحة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لو
دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا» وأنزل الله تعالى كَلَّا
إِنَّ الْإِنْسانَ إلى آخر السورة
. وقول الحسن هو أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة لا يكاد
يصح لأنه لا خلاف في أن إسلام سلمان رضي الله تعالى عنه كان
بالمدنية بعد الهجرة كما أنه لا خلاف في أن السورة
(15/404)
مكية. نعم حكم الآية عام فإن كان ما حكي عن
أمية واقعا فحكمها شامل له والصلاة التي أشارت إليها الآية
كانت على ما حكى أبو حيان صلاة الظهر، وحكى أيضا أنها كانت
تصلى جماعة وهي أول جماعة أقيمت في الإسلام وأنه كان معه عليه
الصلاة والسلام أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما فمر أبو
طالب ومعه ابنه جعفر فقال له: يا بني صل جناح ابن عمك، وانصرف
مسرورا وأنشأ يقول:
إن عليا وجعفرا ثقتي ... عند ملم الزمان والكرب
والله لا أخذل النبي ولا ... يخذله من يكون من حسبي
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما ... أخي لأمي من بينهم وأبي
وفي هذا نظر لأن الصلاة فرضت ليلة الإسراء بلا خلاف، وادعى ابن
حزم الإجماع على أنه كان قبل الهجرة بسنة، وجزم ابن فارس بأنه
كان قبلها بسنة وثلاثة أشهر، وقال السدي بسنة وخمسة أشهر، وموت
أبي طالب كان قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين لأنه كان قبل وفاة
خديجة بثلاثة وقيل بخمسة أيام، وكانت وفاتها بعد البعثة بعشر
سنين على الصحيح، فأبو طالب على هذا لم يدرك فرضية الصلاة. نعم
حكى القاضي عياض عن الزهري ورجحه النووي والقرطبي أن الإسراء
كان بعد البعث بخمس سنين لكن قيل عليه ما قيل فليراجع.
والنهي قيل بمعنى المنع وعبر به إشارة إلى عدم اقتدار اللعين
على غير ذلك. وفي بعض الأخبار ما ظاهره أنه حصل منه نهي لفظي،
فقد أخرج أحمد والترمذي وصححه وغيرهما عن ابن عباس قال: كان
النبي صلّى الله عليه وسلم يصلي فجاء أبو جهل فقال: ألم أنهك
عن هذا؟ ألم أنهك عن هذا الحديث والتعبير بما يفيد الاستقبال
لاستحضار الصورة الماضية لنوع غرابة والرؤية قيل قلبية وكذا في
قوله تعالى أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ
بِالتَّقْوى وقوله عز وجل: أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى
والمفعول الأول للأول الموصول وللثاني والثالث محذوف وهو ضمير
يعود عليه أو اسم إشارة يشار به إليه، والمفعول الثاني للثالث
قوله سبحانه أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى والأولان
متوجهان إليه أيضا وهو مقدر عندهما، وترك إظهاره اختصارا ونظير
ذلك أخبرني عن زيد إن وفدت عليه، أخبرني عنه إن استخبرته،
أخبرني عنه إن توسلت إليه أما يوجب حقي وليس ذلك من التنازع
لأن الجمل لا يصح إضمارها وإنما هو من الطلب المعنوي والحذف في
غير التنازع، وجواب الشرط في الجملتين محذوف لدلالة ألم يعلم
عليه ويقدر حسبما تقتضيه الصناعة، وقيل يدل عليه أَرَأَيْتَ
مرادا به ما سيذكر قريبا إن شاء الله تعالى ويقدر كذلك،
والكلام عليه أيضا نظير ما مر آنفا، والضمائر المستترة في كان
وما بعد من الأفعال للناهي والمراد من أَرَأَيْتَ أخبرني فإن
الرؤية لما كانت سببا للعلم أجرى الاستفهام عنها مجرى
الاستخبار عن متعلقها والاستفهام الواقع موقع المفعول الثاني
هو متعلق الاستخبار هنا وهذا الإجراء على ما يفهم من كلام بعض
الأئمة يكون مع الرؤية البصرية والرؤية القلبية وللنحاة فيه
قولان، والخطاب في الكل على ما اختاره جمع لكل من يصلح أن يكون
مخاطبا ممن له مسكة وقيل للإنسان كالخطاب في إِلى رَبِّكَ
وتنوين عَبْداً على ما هو ظاهر كلام البعض للتنكير، وتقييد
النهي بالظرف يشعر بأن النهي عن الصلاة حال التلبس بها وفصل
بين الجمل للاعتناء بأمر التشنيع والوعيد حيث أشعر أن كل جملة
مقصودة على حيالها فشنع سبحانه على الناهي أولا بنهيه عن
الصلاة، وأوعد عليه مطلقا بقوله تعالى أَرَأَيْتَ الَّذِي إلخ
أي أخبرني يا من له أدنى تمييز أو أيها الإنسان عمن ينهى عن
الصلاة بعض عباد الله تعالى ألم يعلم بأن الله تعالى يرى ويطلع
فيجازيه على ذلك النهي. وشنع سبحانه عليه ثانيا بنهيه عن ذلك
وأوعده عليه أيضا على تقدير أنه على
(15/405)
زعمه على هدى ورشد في نفس النهي أو أنه أمر
بواسطته بالتقوى لأن النهي عن الشيء أمر بضده أو مستلزم له
فقال تعالى شأنه أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ إلخ أي أخبرني عن ذلك
الناهي ألم يعلم أن الله يطلع فيجازيه إن كان على هدى ورشد في
نفس النهي أو كان أمرا بواسطته بالتقوى كما يزعم. وشنع جل شأنه
عليه ثالثا بذلك وأوعده عليه أيضا على تقدير أنه في نفس الأمر
وفيما يقوله تعالى مكذبا بحقية الصلاة متوليا عنها معرضا عن
فعلها بقوله تعالى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ إلخ أي أخبرني عن
ذلك الناهي ألم يعلم بأن الله تعالى يطلع على أحواله إن كذب
بحقية ما نهى عنه وأعرض عن فعله على ما نقوله نحن، والحاصل أنه
تعالى شنع وأوعد على النهي عن الصلاة بدون تعرض لحال الناهي
الزعمي أو الحقيقي، ثم شنع وأوعد جل وعلا عليه مع التعرض لحاله
الزعمي، ثم شنع عز وجل وأوعد عليه مع التعرض لحاله الحقيقي
وهذا كالترقي في التشنيع. والجمهور على عدم تقييد ما في حيّز
الشرطيتين بما ذكرنا حيث قالوا: إن كان على طريقة سديدة فيما
ينهى عنه من عبادة الله تعالى أو كان أمرا بالمعروف والتقوى
فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يزعم أو كان مكذبا للحق
ومتوليا عن الصواب كما نقول، وذكر أن الشرط الثاني تكرار للأول
لأن معنى الأول أنه ليس على الهدى، وأوضح بأن إدخال حرف الشرط
في الأول لإرخاء العنان صورة والتهكم حقيقة إذ لا يكون في
النهي عن عبادته تعالى والأمر بعبادة الأصنام هدى البتة، وفي
الثاني لذلك والتهكم على عكس الأول إذ لا شك أنه مكذب متولّ
فما لهما إلى واحد. وقيل: إن الرؤية في الجملة
الأولى بصرية فلا تحتاج إلى مفعول ثان، وفي الثانية والثالثة
قلبية والمفعول الأول على ما تقدم والمفعول الثاني سد مسده
الجملة الشرطية الأولى بجوابها وهو في الأخيرة أَلَمْ يَعْلَمْ
إلخ لمذكور وفيما قبلها محذوف دل هو عليه، ولم تعطف الأخيرة
على ما قبلها للإيذان باستقلالها بالوقوع في نفس الأمر
وباستتباع الوعيد الذي ينطق به الجواب، وأما قبلها فأمر الشرط
فيه ليس إلّا لتوسيع الدائرة وهو السر في تجريده عن الجواب
والإحالة به على جواب الشرطية بعده، والخطاب في الكل لمن يصلح
له والتنوين في عَبْداً لتفخيمه عليه الصلاة والسلام واستعظام
النهي وتأكيد التعجيب منه والمعنى أخبرني عن ذلك الناهي إن كان
على الهدى فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى إلخ ما ذكر آنفا
ألم يعلم أن الله يرى ويطلع على أحواله فيجازيه بها حتى اجترأ
على ما فعل. وقيل إن أَرَأَيْتَ في الجمل الثلاث من الرؤية
القلبية، والمفعول الأول للأولى الموصول، ومفعولها الثاني
الجملة الشرطية الأولى بجوابها المحذوف اكتفاء عنه بجواب
الشرطية الثانية إذ علم من ضرورة التقابل. وأَ رَأَيْتَ
الثانية تكرارا للأولى، وأَ رَأَيْتَ الثالثة ومفعولها الأول
محذوف للقرينة مستقلة لأنها تقابل الأولى للتقابل بين الشرطين
يعني قوله تعالى إِنْ كانَ إلخ، وقوله سبحانه إِنْ كَذَّبَ
إلخ. وفي الإتيان بالجملة الأخيرة من دون العطف ترشيح للكلام
المبكت وتنبيه على حقية الشرط، ولهذا صرح بجوابه ليتمحض وعيدا
والخطاب على ما تقدم أولا والكلام من قبيل الكلام المنصف
وإرخاء العنان ولذا قيل عَبْداً ولم يقل نبيا مجتبى فكأنه قيل
أخبرني يا من له أدنى تمييز عن حال هذا الذي ينهى بعض عباد
الله تعالى فضلا عن النبي المجتبى عن صلاته إن كان ذلك الناهي
على هدى فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى أو كان آمرا
بالتقوى فيما يأمر به من عبادة الأصنام كما يزعم، وكذلك إن كان
على التكذيب للحق والتولي عن الدين الصحيح كما تقول أَلَمْ
يَعْلَمْ إلخ. وقيل أَرَأَيْتَ في الجملتين الثانية والثالثة
تكرار للأولى والشرطيتان بجوابهما سادتان مسد المفعول الثاني
للأولى، وأَ لَمْ يَعْلَمْ إلخ جواب الشرط الثاني وجواب الأول
محذوف لدلالته عليه ولم يقل أو إن كذب إلخ لأنه ليس بقسيم لما
قبله على ما قيل. والمعنى على نحو ما سمعت وأورد على جميع هذه
الأقوال أن في تجويز
(15/406)
الإتيان بالاستفهام في جزاء الشرط من غير
الفاء وإن صرح به الزمخشري في كشافه وارتضاه الرضي واستشهد له
بقوله تعالى قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ
بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ
الظَّالِمُونَ [الأنعام: 47] بحثا لأن ظاهر نقل الزمخشري نفسه
في المفصل ونقل غيره وجوب الفاء إذا كان الجزاء جملة إنشائية
والاستفهام وإن لم يبق على الحقيقة لم يخرج على ما في الكشف من
الإنشاء. وقال أبو حيان: إن وقوع جملة الاستفهام جوابا للشرط
بغير فاء لا أعلم أحدا أجازه بل نصوا على وجوب الفاء في كل ما
اقتضى طلبا بوجه ما ولا يجوز حذفها إلّا في ضرورة أو شعر. وقال
الدماميني في شرح التسهيل: إن جعل هل يهلك جزاء مشكل لعدم
اقترانه بالفاء والاقتران بها في مثل ذلك واجب. واعترض أيضا
جعل الجملة الشرطية في موضع المفعول الثاني لأرأيت بأن مفعولها
الثاني لا يكون إلّا جملة استفهامية كما نص عليه أبو حيان
وجماعة، أو قسمية كما في الإرشاد. وقال الخفاجي: إن جعل
الشرطية في موقع المفعول والجملة الاستفهامية في موقع جواب
الشرط إما على ظاهره أو على أنهما لدلالتهما على ذلك جعلا
كأنهما كذلك لسدهما مسد المفعول والجواب وبما ذكر صرح الرضي
والدماميني في شرح التسهيل في باب اسم الإشارة فما قيل من أن
المفعول الثاني لأرأيت لا يكون جملة استفهامية مخالف لما صرحوا
بأنه مختار سيبويه فلا يلتفت إليه، ولم يجعلوا فيما ذكر الخطاب
للنبي صلّى الله عليه وسلم ولا للكافر الناهي لأن السياق مقتض
لخروج الناهي والمنهي عن مورد الخطاب. واستظهر في البحر جعله
للنبي وجوز غيره جعله للكافر. والمراد تصوير الحال بعنوان كلي
وهو كما ترى.
وقيل الضميران في إِنْ كانَ وأَمَرَ للعبد المصلي والضمائر في
كَذَّبَ وَتَوَلَّى ويَعْلَمْ للذي ينهى. وحاصل المعنى على ما
قال الفراء أرأيت الذي ينهى عبدا يصلي والمنهي على الهدى وآمر
بالتقوى والناهي مكذب متول فما أعجب من ذا. والظاهر أن جواب
الشرط عليه محذوف وهو فما أعجب من ذا بقرينة أَرَأَيْتَ فإنه
يفيد التعجب والرؤية فيه قيل علمية، والمفعول الثاني محذوف نحو
هذا الجواب وقيل بصرية وأَ لَمْ يَعْلَمْ إلخ جملة مستأنفة
لتقرير ما قبلها وتأكيده، وأو تقسيمية بمعنى الواو. وقيل
الخطاب في أَرَأَيْتَ الثانية للكافر وفي الثانية للنبي صلّى
الله عليه وسلم فهو عز وجل كالحاكم الذي حضر الخصمان يخاطب هذا
مرة والآخر أخرى وكأنه سبحانه قال: يا كافر أخبرني إن كانت
صلاته هدى ودعاؤه إلى الله تعالى أمرا بالتقوى أتنهاه، وأخبرني
أيها الرسول إن كان الناهي مكذبا بالحق متوليا عن الدين الصحيح
ألم يعلم بأن الله تعالى يجازيه. وسكت هذا القائل عن الخطاب في
أَرَأَيْتَ الأول فقيل: لكل من يصلح له وقيل للإنسان، وقيل
للنبي صلّى الله عليه وسلم كالخطاب في الثالث. وقوله أتنهاه
يحتمل أنه جعله مفعولا لرأيت، ويحتمل أنه جواب الشرط أو كما في
سابقه ولعل ذكر الأمر بالتقوى في الجملة الثانية لأن النهي على
ما قيل كان عن الصلاة والأمر بها وكان الظاهر عليه أن يذكر في
الجملة الأولى أيضا بأن يقال أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أو
أمر بالتقوى لكنه حذف اكتفاء بذكره في الثانية، واقتصر على ذكر
الصلاة ولم يعكس لأن الأمر بالتقوى دعوة قولية، والصلاة دعوة
فعلية والفعل أقوى من القول. وإنما كانت دعوة وأمرا لأن
المقتدى به إذا فعل فعلا كان في قوة قوله افعلوا هذا. وقيل
المذكور أولا ليس النهي عن الصلاة بل النهي حين الصلاة وهو
محتمل أن يكون لها أو لغيرها، وعامة أحوال الصلاة لما انحصرت
في تكميل نفس المصلي بالعبادة وتكميل غيره بالدعوة فنهيه في
تلك الحالة يكون عن الصلاة والدعوة معا فلذا ذكر في الجملة
الثانية انتهى. فلا تغفل.
وجوز الإمام كون الخطاب في الكل له عليه الصلاة والسلام وقال
في بيان معنى أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ
(15/407)
إلخ أرأيت إن صار على الهدى واشتغل بأمر
نفسه، أما كان يليق به ذلك إذ هو رجل عاقل ذو ثروة، فلو اختار
الرأي الصائب والاهتداء والأمر بالتقوى أما كان ذلك خيرا له من
الكفر بالله تعالى والنهي عن خدمته سبحانه وطاعته عز وجل؟ كأنه
تعالى يقول: تلهف عليه كيف فوت على نفسه المراتب العلية وقنع
بالمراتب الردية.
واعتبر عصام الدين هذه الجملة توبيخا على تفويت ما ينفع وما
بعدها توبيخا على كسب ما يضر فقال: إن قوله تعالى أَرَأَيْتَ
الَّذِي إلخ استشهاد لطغيان الإنسان إن رآه مستغنيا والرؤية
بمعنى الإبصار، أي أشاهدت الذي ينهى عبدا إذا صلى وعرفت طغيان
الإنسان المستغني وأنه لا يكفي بكفرانه ويتجاوز إلى تكليف
العبد الذي أرسل للمنع عن الكفران بالكفران. وقوله سبحانه
أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ إلخ توبيخ له على فوت ما لا يعلم كنهه
بفوت الهدى والأمر بالتقوى، يعني أعلمت أنه على أي فور إن كان
على الهدى أو أمر بالتقوى وقوله عز وجل أَرَأَيْتَ إِنْ
كَذَّبَ إلخ توبيخ له بما كسب من استحقاق العذاب والبعد عن رب
الأرباب أي أعلمت أنه على أي عقوبة ومؤاخذة. وقوله تعالى
أَلَمْ يَعْلَمْ إلخ تهديد ووعيد شديد بعد التوبيخ على كسب حال
الشقي وفوت حال السعيد انتهى. وهو كما ترى فتأمل جميع ما تقدم
والله تعالى بمراده أعلم. ثم إن الآية وإن نزلت في أبي جهل
عليه اللعنة لكن كل من نهى عن الصلاة ومنع منها فهو شريكه في
الوعيد ولا يلزم على ذلك المنع عن النهي عن الصلاة في الدار
المغصوبة والأوقات المكروهة لأن المنهي عنه في الحقيقة ليس عن
الصلاة نفسها بل عن وصفها المقارن وأشهد الاحتياط تحاشي بعضهم
عن النهي مطلقا
فروي عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه رأى في المصلى
أقواما يصلون قبل صلاة العيد، فقال: ما رأيت رسول الله صلّى
الله عليه وسلم يفعل ذلك، فقيل له رضي الله تعالى عنه: ألا
تنهاهم؟ فقال رضي الله تعالى عنه: أخشى أن أدخل تحت وعيد قوله
تعالى أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى وفي
رواية لا أحب أن أنهى عبدا إذا صلى، ولكن أحدثهم بما رأيت من
رسول الله صلّى الله عليه وسلم
وقد سلك نحو هذا المسلك أبو حنيفة عليه الرحمة فقد روي أن أبا
يوسف قال له:
أيقول المصلي حين يرفع رأسه من الركوع اللهم اغفر لي؟ فقال:
يقول ربنا لك الحمد ويسجد. ولم يصرح بالنهي ويقاس على النهي عن
الصلاة النهي عن غيرها من أنواع العبادة، ولا فرق بين النهي
القالي والنهي الحالي، ومنه أن يشغل المرء المرء عن ذلك وقد
ابتلي به كثير من الناس.
كَلَّا ردع للناهي اللعين وزجر له. واللام في قوله تعالى
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ موطئة للقسم أي والله لئن لم ينته عما هو
عليه ولم ينزجر لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ أي لنأخذن بناصيته
ولنسحبنه بها إلى النار يوم القيامة والسفع قال المبرد الجذب
بشدة وسفع بناصية فرسه جذب. قال عمرو بن معد يكرب:
قوم إذ كثر الصياح رأيتهم ... ما بين ملجم مهره أو سافع
وقال مؤرج: السفع الأخذ بلغة قريش. والناصية شعر الجبهة وتطلق
على مكان الشعر وأل فيها للعهد، واكتفي بها عن الإضافة وهو
معنى كونها عوضا عن المضاف إليه في مثله والكلام كناية عن سحبه
إلى النار وقول أبي حيان إنه عبر بالناصية عن جميع الشخص لا
يخفى ما فيه وقيل: المراد لنسحبنه على وجهه في الدنيا يوم بدر
وفيه بشارة بأنه تعالى يمكن المسلمين من ناصيته حتى يجروه إن
لم ينته وقد فعل عز وجل
فقد روي أنه لما نزلت سورة الرحمن قال صلّى الله عليه وسلم:
«من يقرؤها على رؤساء قريش» ؟ فقام ابن مسعود وقال: أنا يا
رسول الله، فلم يأذن له عليه الصلاة والسلام لضعفه وصغر جثته
حتى قالها ثلاثا وفي كل مرة كان ابن مسعود يقول: أنا يا رسول
الله، فأذن له صلّى الله عليه وسلم فأتاهم وهم مجتمعون حول
الكعبة فشرع في القراءة فقام أبو جهل فلطمه وشق أذنه وأدماه،
فرجع وعيناه تدمعان فنزل جبريل عليه السلام ضاحكا
(15/408)
فقال له صلّى الله عليه وسلم في ذلك، فقال
عليه السلام «ستعلم» فلما كان يوم بدر قال عليه الصلاة
والسلام: التمسوا أبا جهل في القتلى فرآه ابن مسعود مصروعا
يخور فارتقى على صدره ففتح عينه فعرفه، فقال: لقد ارتقيت مرتقى
صعبا يا رويعي الغنم، فقال ابن مسعود: الإسلام يعلو ولا يعلى
عليه. فعالج قطع رأسه فقال اللعين: دونك فاقطعه بسيفي. فقطعه
ولم يقدر على حمله فشق أذنه وجعل فيها خيطا وجعل يجره حتى جاء
به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجاء جبريل عليه السلام
يضحك ويقول: يا رسول الله أذن بأذن
والرأس زيادة، وكأن تخصيص الناصية بالذكر لأن اللعين كان شديد
الاهتمام بترجيلها وتطييبها، أو لأن السفع بها غاية الإذلال
عند العرب إذ لا يكون إلّا مع مزيد التمكن والاستيلاء ولأن
عادتهم ذلك في البهائم. وقرأ محبوب وهارون كلاهما عن أبي عمرو
«لنسفعنّ» بالنون الشديدة. وقرأ ابن مسعود «لأسفعن» كذلك مع
إسناد الفعل إلى ضمير المتكلم وحده، وكتبت النون الخفيفة في
قراءة الجمهور ألفا اعتبارا بحال الوقف فإنه يوقف عليها بالألف
تشبيها لها بالتنوين وقاعدة الكتابة مبنية على حال الوقف
والابتداء ومن ذلك قوله:
ومهما تشأ منه فزارة تمنعا وقوله:
يحسبه الجاهل ما لم يعلما وقوله تعالى ناصِيَةٍ بدل من الناصية
وجاز إبدالها عن المعرفة وهي نكرة لأنها وصفت بقوله سبحانه
كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ فاستقلت بالإفادة وقد ذكر البصريون أنه
يشترط لإبدال النكرة من المعرفة الإفادة لا غير، ومذهب
الكوفيين أنها تبدل منها بشرطين اتحاد اللفظ ووصف النكرة
وليشمل بظاهره كل ناصية هذه صفتها وهذا مما يتأتى على سائر
المذاهب، ووصف الناصية بما ذكر مع أنه صفة صاحبها للمبالغة حيث
يدل على وصفه بالكذب والخطأ بطريق الأولى، ويفيد أنه لشدة كذبه
وخطئه كأن كل جزء من أجزائه يكذب ويخطأ وهو كقوله تعالى تَصِفُ
أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ [النحل: 116] وقولهم وجهها يصف
الجمال. فالإسناد مجازي من إسناد ما للكل إلى الجزء، وقرأ أبو
حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي «ناصية كاذبة خاطئة» بنصب
الثلاثة على الشتم والكسائي في رواية برفعها أي هي ناصية إلخ
فَلْيَدْعُ نادِيَهُ النادي المجلس الذي ينتدي فيه القوم أي
يجتمعون للحديث ويجمع على أندية، والكلام على تقدير المضاف أي
فليدع أهل ناديه أو الإسناد فيه مجازي أو أطلق اسم المحل على
من حل فيه ومثله في هذا المجلس ونحوه كما قال جرير أو ذو
الرمة:
لهم مجلس صهب السبال أذلة ... سواسية أحرارها وعبيدها
وقال زهير:
وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل
وهذا إشارة إلى ما صح من أن أبا جهل مر برسول الله صلّى الله
عليه وسلم وهو يصلي فقال: ألم أنهك فأغلظ عليه الصلاة والسلام
له، فقال: أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا والأمر على ما
في البحر للتعجيز والإشارة إلى أنه لا يقدر على شيء سَنَدْعُ
الزَّبانِيَةَ أي ملائكة العذاب ليجروه إلى النار وهو في الأصل
الشرط أي أعوان الولاة. واختلف فيه فقيل جمع لا واحد له من
لفظه كعباديد. وقال أبو عبيدة: واحده زبنية- بكسر فسكون-
كعفرية. وقال الكسائي: واحده زبنى- بالكسر- كأنه نسب إلى
الزبن- بالفتح- وهو الدفع ثم غير للنسب، وكسر أوله كإنسي وأصل
الجمع زبانى فقيل زبانية بحذف إحدى ياءيه وتعويض التاء عنها.
وقال عيسى بن عمر والأخفش واحده زابن والعرب قد تطلق هذا الاسم
على من اشتد بطشه وإن لم يكن من أعوان الولاة ومنه
(15/409)
قوله:
مطاعم في القصوى مطاعين في الوغى ... زبانية غلب عظام حلومها
وسمي ملائكة العذاب بذلك لدفعهم من يعذبونه إلى النار. وهذا
الدعاء في الدنيا بناء على ما روي من أنه لو دعا ناديه لأخذته
الزبانية عيانا والظاهر أن سَنَدْعُ مرفوع لتجرده عن الناصب
والجازم ورسم في المصاحف بدون واو لاتباع الرسم للفظ فإنها
محذوفة فيه عن الوصل لالتقاء الساكنين أو لمشاكلة فَلْيَدْعُ
وقيل إنه مجزوم في جواب الأمر وفيه نظر. وقرأ ابن أبي عبلة
«سيدعى» الزبانية بالبناء للمفعول ورفع «الزبانية» كَلَّا ردع
لذلك اللعين بعد ردع وزجر له إثر زجر لا تُطِعْهُ أي دم على ما
أنت عليه من معاصاته وَاسْجُدْ وواظب غير مكترث به على سجودك
وهو على ظاهره أو مجاز عن الصلاة وَاقْتَرِبْ وتقرب بذلك إلى
ربك.
وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعا: «أقرب ما يكون
العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء»
.
وفي الصحيح وغيره أيضا من حديث ثوبان مرفوعا: «عليك بكثرة
السجود فإنه لا تسجد لله تعالى سجدة إلّا رفعك الله تعالى بها
درجة وحط عنك بها خطيئة»
. ولهذه الأخبار ونحوها ذهب غير واحد إلى أن السجود أفضل أركان
الصلاة، ومن الغريب أن العز بن عبد السلام من أجلّة أئمة
الشافعية قال بوجوب الدعاء فيه
وفي البحر ثبت في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام سجد في
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ
[الانشقاق:
1] وفي هذه السورة وهي من العزائم عند علي كرم الله تعالى
وجهه، وكان مالك يسجد فيها في خاصة نفسه والله تعالى الموفق.
(15/410)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ
الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ
(3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ
رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ
الْفَجْرِ (5)
سورة القدر
قال أبو حيان مدنية في قول الأكثر، وحكى الماوردي عكسه، وذكر
الواحدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة. وقال الجلال في الإتقان:
فيها قولان والأكثر على أنها مكية، ويستدل لكونها مدنية بما
أخرجه الترمذي والحاكم عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما
أن النبي صلّى الله عليه وسلم أري بني أمية على منبره فساءه
ذلك. فنزلت إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1] ونزلت
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] الحديث
وهو كما قال المزني حديث منكر انتهى. وقد أخرج الجلال هذا
الحديث في الدر المنثور عن ابن جرير والطبراني وابن مردويه
والبيهقي في الدلائل أيضا من رواية يوسف بن سعد، وذكر فيه أن
الترمذي أخرجه وضعفه، وأن الخطيب أخرج عن ابن عباس نحوه وكذا
عن ابن المسيب بلفظ قال نبي الله صلّى الله عليه وسلم: «أريت
بني أمية يصعدون منبري فشق ذلك عليّ» فأنزلت إِنَّا
أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
ففي قول المزني هو منكر تردد عندي وأيّا ما كان فقد استشكل وجه
دلالته على كون السورة مدنية وأجيب بأنه يحتمل أن يكون ذلك
لقوله فيه على منبره.
والظاهر أن يكون المنبر موجودا زمن الرؤيا وهو لم يتخذ إلّا في
المدينة وآيها ست في المكي والشامي وخمس فيما عداهما.
وجاء في حديث أخرجه محمد بن نصر عن أنس مرفوعا «أنها تعدل ربع
القرآن»
وذكر غير واحد من الشافعية أنه يسن قراءتها بعد الوضوء. وقال
بعض أئمتهم ثلاثا ووجه مناسبتها قبلها أنها كالتعليل للأمر
بقراءة القرآن المتقدم فيه كأنه قيل: اقرأ القرآن لأن قدره
عظيم وشأنه فخيم. وقال الخطابي: المراد بالكتابة في قوله تعالى
فيها إِنَّا أَنْزَلْناهُ الإشارة إلى قوله تعالى اقْرَأْ
[العلق: 1] ولذا وضعت بعد وارتضاه القاضي أبو بكر بن العربي
وقال: هذا بديع جدا والظاهر أنه أراد أن الضمير المنصوب. في
ذاك لاقرأ إلخ على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى. وكونه أراد
أنه للمقروء المفهوم من اقرأ فيكون في معنى رجوعه للقرآن خلاف
الظاهر فلا تغفل.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي
لَيْلَةِ الْقَدْرِ الضمير عند الجمهور للقرآن وادعى الإمام
فيه
(15/411)
إجماع المفسرين وكأنه لم يعتد بقول من قال
منهم برجوعه لجبريل عليه السلام أو غيره لضعفه، قالوا: وفي
التعبير عنه بضمير الغائب مع عدم تقدم ذكره تعظيم له أي تعظيم
لما أنه يشعر بأنه لعلو شأنه كأنه حاضر عند كل أحد فهو في قوة
المذكور وكذا في إسناد إنزاله إلى نون العظمة مرتين وتأكيد
الجملة. وأشار الزمخشري إلى إفادة الجملة اختصاص الإنزال به
سبحانه بناء على أنها من باب أنا سعيت في حاجتك مما قدم فيه
الفاعل المعنوي على الفعل، وتعقب بأن ما ذكروه في الضمير
المنفصل دون المتصل كما في اسم إن هنا نعم الاختصاص يفهم من
سياق الكلام. وفيه أنهم لم يصرحوا باشتراط ما ذكر في تفخيم وقت
إنزاله بقوله تعالى وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لما
فيه من الدلالة على أن علوها خارج عن دائرة دراية الخلق لا
يعلم ذلك ولا يعلم به إلّا علام الغيوب كما يشعر به قوله
سبحانه لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فإنه
بيان إجمالي لشأنها أثر تشويقه عليه الصلاة والسلام إلى
درايتها فإن ذلك معرب عن الوعد بادرائها. وعن سفيان بن عيينة
أن كل ما في القرآن من قوله تعالى ما أَدْراكَ [الانفطار: 17
وغيرها] أعلم الله تعالى به نبيه صلّى الله عليه وسلم وما فيه
من قوله سبحانه وَما يُدْرِيكَ [الأحزاب: 63، الشورى: 17، عبس:
3] لم يعلمه عز وجل به. وقد مر بيان كيفية إعراب الجملتين وفي
إظهار ليلة القدر في الموضعين من تأكيد التعظيم والتفخيم ما لا
يخفى. والمراد بإنزاله فيها إنزاله كله جملة واحدة من اللوح
المحفوظ إلى السماء الدنيا، فقد صح عن ابن عباس أنه قال: أنزل
القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى السماء الدنيا وكان
بمواقع النجوم. وكان الله تعالى ينزله على رسوله صلّى الله
عليه وسلم بعضه في أثر بعض. وفي رواية بدل وكان بمواقع إلخ ثم
نزل بعد ذلك في عشرين سنة، وفي رواية أخرى عنه أيضا أنزل
القرآن جملة واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء ونزل به
جبريل عليه السلام على محمد صلّى الله عليه وسلم بجواب كلام
العباد وأعمالهم. وفي أخرى أنه أنزل في رمضان ليلة القدر جملة
واحدة ثم أنزل على مواقع النجوم رسلا في الشهور والأيام. وكون
النزول بعد في عشرين سنة قول لهم وقال بعضهم وهو الأشهر في
ثلاث وعشرين. وقال آخر: في خمس وعشرين وهذا للخلاف في مدة
إقامته صلّى الله عليه وسلم بمكة بعد البعث. وقال الشعبي:
المراد ابتدأنا بإنزاله فيها. والمشهور أن أول ما نزل من
الآيات اقْرَأْ وأنه كان نزولها بحراء نهارا.
نعم في البحر روى أن نزول الملك في حراء كان في العشر الأواخر
من رمضان، فإن صح وكان المراد كان ليلا فذاك وإلّا فظاهر كلام
الشعبي غير مستقيم اللهم إلّا أن يقال إنه أراد ابتداء إنزاله
إلى السماء الدنيا فيها ولا يلزم أن يتحد ذلك، وابتداء إنزاله
عليه صلّى الله عليه وسلم في الزمان ثم إن في أَنْزَلْناهُ على
ما ذكر تجوزا في الإسناد لأنه أسند فيه ما للجزء إلى الكل أو
مجازا الطرف أو تضمينا. وقيل: المراد إنزاله من اللوح إلى
السماء الدنيا مفرقا في ليالي قدر على أن المراد بليلة الجنس
فقد قيل إن القرآن أنزل إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر
أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين، وكان ينزل في كل ليلة ما يقدر
الله تعالى إنزاله في كل السنة ثم ينزله سبحانه منجما في جميع
السنة. وهذا القول ذكره الإمام احتمالا ونقله القرطبي كما قال
ابن كثير عن مقاتل لكنه مما لا يعول عليه، والصحيح المعتمد
عليه كما قال ابن حجر في شرح البخاري أنه أنزل جملة واحدة من
اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا بل حكى بعضهم
الإجماع عليه. نعم لا يبعد القول بأن السفرة هناك نجموه لجبريل
عليه السلام في الليالي المذكورة. وأجاب السيد عيسى الصفوي
بأنه محذور في ذلك بناء على جواز مثل أتكلم مخبرا به عن التكلم
بقولك أتكلم، وفي ذلك اختلاف بين الدواني وغيره ذكره في رسالته
التي ألفها في الجواب عن مسألة الحذر الأصم، أو يقال يرجع
الضمير للقرآن باعتبار جملته وقطع النظر عن أجزائه فيخبر عن
الجملة بإنّا أنزلناه وإن كان من جملته إِنَّا أَنْزَلْناهُ
المندرج في جملته من غير
(15/412)
نظير له بخصوصه. وقد ذكروا أن الجزء من حيث
هو مستقل مغاير له من حيث هو في ضمن الكل وفي الإتقان عن أبي
شامة فإن قلت إنا أنزلناه إن لم يكن من جملة القرآن الذي نزل
جملة فما نزل جملة، وإن كان من الجملة فما وجه هذه العبارة؟
قلت لها وجهان أحدهما أن يكون المعنى إنّا حكمنا بإنزاله في
ليلة القدر وقضينا به وقدّرناه في الأزل والثاني أن لفظ
أنزلناه ماض ومعناه على الاستقبال أي تنزله جملة في ليلة القدر
انتهى. ولم يظهر لي في كلا وجهيه رحمه الله تعالى شامة حسن
فأجل في ذلك نظرا فلعلك ترى. وقيل المعنى: إنّا أنزلناه في فضل
ليلة القدر أو في شأنها وحقها، فالكلام على تقدير مضاف أو
الظرفية مجازية كما في قول عمر رضي الله تعالى عنه: خشيت أن
ينزل فيّ قرآن، وقول عائشة رضي الله تعالى عنها: لأنا أحقر في
نفسي من أن ينزل فيّ قرآن. وجعل بعضهم في ذلك للسبية والضمير
قيل للقرآن بالمعنى الدائر بين الكل والجزء. وقيل بمعنى السورة
ولا يأباه كون إنا أنزلناه فيها لما مر آنفا فلا حاجة إلى أن
يقال المراد بها ما عدا إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ
الْقَدْرِ وقيل: يجوز أن يراد به المجموع لاشتماله على ذلك
وأيّا ما كان فحمل الآية على هذا المعنى غير معول عليه وإنما
المعول عليه ما تقدم. والمراد بالإنزال إظهار القرآن من عالم
الغيب إلى عالم الشهادة أو إثباته لدى السفرة هناك أو نحو ذلك
مما لا يشكل نسبته إلى القرآن.
واختلفوا في تلك الليلة فقيل إنها لخبر في ذلك وهو كما قال
الكرماني غلط لأن آخر الخبر يرده والمراد برفع تعيينها فيه.
وعن عكرمة أنها ليلة النصف من شعبان وهو قول شاذ غريب كما في
تحفة المحتاج. وظاهر ما هنا مع ظاهر قوله تعالى شَهْرُ
رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 185]
يرده وعن ابن مسعود أنها تنتقل في ليالي السنة فتكون في كل سنة
في ليلة، ونسبه النووي إلى أبي حنيفة وصاحبيه والأكثرون على
أنها في شهر رمضان. فعن ابن رزين أنها الليلة الأولى منه. وعن
الحسن البصري السابعة عشرة لأن وقعة بدر كانت في صبيحتها. وحكي
عن زيد بن أرقم وابن مسعود أيضا
وعن أنس مرفوعا التاسعة عشرة.
وحكي موقوفا على ابن مسعود أيضا وعن محمد بن إسحاق الحادية
والعشرون لما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري أنه
عليه الصلاة والسلام قال: «قد رأيت هذه الليلة- يعني ليلة
القدر- ثم نسيتها، وقد رأيتني أسجد من صبيحتها في ماء وطين»
. قال أبو سعيد: فمطرت السماء من تلك الليلة فوكف المسجد
فأبصرت عيناي رسول الله على جبهته وأنفه أثر الماء والطين من
صبيحة إحدى وعشرين. وفي مسلم من صبيحة ثلاث وعشرين، ومنه مع ما
قبله مال الشافعي عليه الرحمة إلى أنها الليلة الحادية أو
الثالثة والعشرون.
وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن أنيس أنه سئل عن ليلة
القدر فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
«التمسوها الليلة» وتلك الليلة ليلة ثلاث وعشرين.
وأخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وغيرهم عن بلال قال: قال رسول
الله صلّى الله عليه وسلم: «ليلة القدر ليلة أربع وعشرين» .
وفي الإتقان وغيره أنها الليلة التي أنزل فيها القرآن.
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي ذر أنه سئل عن ليلة القدر فقال: كان
عمر وحذيفة وناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا
يشكون أنها ليلة سبع وعشرين.
وأخرج ابن نصر وابن جرير في تهذيبه عن معاوية قال: قال رسول
الله صلّى الله عليه وسلم: «التمسوا ليلة القدر في آخر ليلة من
رمضان» .
وفي رواية أحمد عن أبي هريرة مرفوعا أنه آخر ليلة.
وقيل: هي في العشر الأوسط تنتقل فيه قيل في أوتاره وقيل في
أشفاعه.
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن عائشة قالت: قال رسول
الله صلّى الله عليه وسلم: «تحروا ليلة القدر في الوتر من
العشر الأواخر من شهر رمضان» .
وفي حديث أخرجه أحمد وجماعة عن عبادة ابن الصامت مرفوعا
وحديثين أخرجهما ابن جرير وغيره
(15/413)
عن جابر بن سمرة وعن عبد الله بن جابر كذلك
ما يدل على ما ذكر أيضا بل الأخبار الصحيحة الدالة عليه كثيرة،
وبالجملة الأقوال فيها مختلفة جدا إلا أن الأكثرين على أنها في
العشر الأواخر لكثرة الأحاديث الصحيحة في ذلك، وأكثرهم على
أنها في أوتارها لذلك أيضا وكثير منهم ذهب إلى أنها الليلة
السابعة من تلك الأوتار.
وصح من رواية الإمام أحمد ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي
وابن حبان وغيرهم أن زر بن حبيش سأل أبيّ بن كعب عنها فحلف لا
يستثني أنها ليلة سبع وعشرين فقال له: بم تقول ذلك يا أبا
المنذر؟
فقال: بالآية والعلامة التي قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم
«إنها تصبح من ذلك اليوم تطلع الشمس ليس لها شعاع»
وبعض الأخبار عن ابن عباس ظاهرة في ذلك، وفي بعض الاستئناس له
بما يدل على جلالة شأن السبعة التي قالوا فيها إنها عدد تام من
كون السماوات سبعا والأرضين سبعا والأيام سبعا والجمار سبعا
والطواف بالبيت سبعا والسجود على سبع إلى غير ذلك مما ذكره لما
علمت من الأخبار الصحيحة المتضافرة وهو زمان ضعف البدن وفيه
يزيد أجر العمل ووقت قوة الاستعداد للتجليات لمزيد التصفية
وأنها في الأوتار أرجى للأحاديث أيضا مع أن الله تعالى وتر يحب
الوتر. وقال ابن حجر الهيتمي: اختار جمع أنها لا تلزم ليلة
بعينها من العشر الأواخر بل تنتقل في لياليه فعاما أو أعواما
تكون وترا إحدى أو ثلاثا أو غيرهما، وعاما أو أعواما تكون شفعا
اثنتين أو أربعا أو غيرهما قالوا: ولا تجتمع الأحاديث
المتعارضة فيها إلّا بذلك. وكلام الشافعي رضي الله تعالى عنه
في الجمع بين الأحاديث يقتضيه انتهى. ولا يخفى أن الجمع بذلك
بين الأحاديث المتعارضة فيها مطلقا مما لا يتسنى وإنما يتسنى
الجمع بذلك بين الأحاديث المتعارضة فيها بالنظر إلى العشر،
وقيل في الجمع مطلقا أنها تنتقل وما صح من التعيين في الجملة
أو على التحقيق محمول على ليلة قدر في شهر رمضان مخصوص بأن
يكون قد علم صلّى الله عليه وسلم أنها في أول شهر رمضان فرض
ليلة كذا.
فقال عليه الصلاة والسلام: «هي ليلة كذا» .
أي في هذا الشهر رمضان المخصوص، وعلم عليه الصلاة والسلام أنها
في شهر رمضان بعده ليلة كذا غير تلك الليلة التي ذكرها قبل
فقال صلّى الله عليه وسلم: «هي ليلة كذا»
وعلم صلّى الله عليه وسلم أنها في آخره في العشر الأخير منه
فقال: «هي في العشر الأخير»
أي من هذا الشهر المخصوص وهكذا وهو كما ترى. وعلى القول
بانتقالها ادعى بعضهم أنه إذا كان أول الشهر ليلة كذا فهي
الليلة السابعة والعشرون، وإن كانت ليلة كذا فهي الليلة
الحادية والعشرون إلى آخر ما قال. وقد ذكرناه مع نظمه في
الطراز المذهب وليس في ذلك ما يقوم حجة على الغير.
وفي بعض الأخبار ذكر علامات لها ففي حديث الإمام أحمد والبيهقي
وغيرهما عن عبادة بن الصامت من أماراتها أنها ليلة بلجة صافية
ساكنة لا حارة ولا باردة كأن فيها قمرا ساطعا، لا يرمى فيها
بنجم حتى الصباح. وأخرج نحوا منه ابن جرير في تهذيبه وابن
مردويه عن جابر بن عبد الله مرفوعا وحمل ذلك إن صح على ليلة
قدر من شهر رمضان مخصوص كالمتعين لعدم اطراده ولا أغلبيته فيما
يظهر والحكمة في إخفائها أن يجتهد من يطلبها في العبادة في
غيرها ليصادفها كأن يحيي ليالي شهر رمضان كلها كما كان دأب
السلف، وللإمام في هذا المقام كلام يجلّ مثله عن التكلم بمثله
ولعمري لقد سها فيه سهوا بينا وأتى فيه بما يوشك أن يدل على
جهله ومعنى ليلة القدر ليلة التقدير وسميت بذلك لما روي عن ابن
عباس وغيره أنه يقدر فيها ويقضي ما يكون في تلك السنة من مطر
ورزق وإحياء وإماتة إلى السنة القابلة، والمراد إظهار تقديره
تعالى ذلك للملائكة عليهم السلام المأمورين بالحوادث الكونية
وإلّا فتقديره تعالى جميع الأشياء أزلي قبل خلق السماوات
والأرض لكن قال بعض الأجلّة كون التقدير في هذه الليلة يشكل
عليه قول كثير أنه ليلة النصف من شعبان
(15/414)
وهي المراد بالليلة، والمباركة التي قال
الله تعالى فيها فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:
4] وأجاب بأن هاهنا ثلاثة أشياء الأول نفس تقدير الأمور أي
تعيين مقاديرها وأوقاتها، وذلك في الأزل، والثاني إظهار تلك
المقادير للملائكة عليهم السلام بأن تكتب في اللوح المحفوظ
وذلك في ليلة النصف من شعبان، والثالث إثبات تلك المقادير في
نسخ وتسليمها إلى أربابها من المدبرات فتدفع نسخة الأرزاق
والنباتات والأمطار إلى ميكائيل عليه السلام ونسخة الحروب
والرياح والجنود والزلازل والصواعق والخسف إلى جبريل عليه
السلام، ونسخة الأعمال إلى إسرافيل عليه السلام، ونسخة المصائب
إلى ملك الموت وذلك في ليلة القدر. وقيل يقدر في ليلة النصف
الآجال والأرزاق، وفي ليلة القدر الأمور التي فيها الخير
والبركة والسلامة. وقيل: يقدر في هذه ما يتعلق به إعزاز الدين
وما فيه النفع العظيم للمسلمين وفي ليلة النصف يكتب أسماء من
يموت ويسلم إلى ملك الموت والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وقال
الزهري: المعنى ليلة العظمة والشرف من قولهم: رجل له قدر عند
فلان أي منزلة وشرف. وسميت بذلك لأن من أتى بفعل الطاعات فيها
صار ذا قدر وشرف عند الله عز وجل أو لأن الطاعات لها فيها ذلك.
وقيل لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر بواسطة ملك ذي قدر على رسول
الله ذي قدر لأمة ذات قدر. وقيل لأنه يتنزل فيها ملائكة ذوات
قدر. وقال الخليل بن أحمد: المعنى ليلة الضيق من قدر عليه رزقه
ضيق وسميت بذلك لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة عليهم السلام
وخيريتها من ألف شهر باعتبار العبادة عند الأكثرين على معنى أن
العبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر، ولا يعلم مقدار
خيريتها منها إلّا هو سبحانه وتعالى وهذا تفضل منه تعالى وله
عز وجل أن يخص ما شاء بما شاء، ورب عمل قليل خير من عمل كثير.
ولا ينافي هذا قاعدة أن كل ما كثر وشق كان أفضل
لخبر مسلم أنه صلّى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله تعالى
عنها: «أجرك على قدر نصبك»
لأنها أغلبية على ما قال غير واحد، ولا شك أن العمل القليل قد
يفضل الكثير باعتبار الزمان وباعتبار المكان وباعتبار كيفية
الأداء كصلاة واحدة أديت بجماعة فإنها تعدل خمسا وعشرين مرة
صلاة مثلها أديت على الانفراد إلى غير ذلك. نعم هذه الأفضلية
قد تعقل في بعض وقد لا كما فيما نحن فيه ولا حجر على الله عز
وجل ولا يعلم ما عنده سبحانه إلّا هو جل شأنه. وتخصيص الألف
بالذكر قيل إما للتكثير كما في قوله تعالى يَوَدُّ أَحَدُهُمْ
لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [البقرة: 96] وكثيرا ما يراد
بالأعداد ذلك. وفي البحر حكاية أن المعنى عليه خير من الدهر
كله، أو لما
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن مجاهد أن
النبي صلّى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح
في سبيل الله تعالى ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك وتقاصرت
إليهم أعمالهم فأنزل الله تعالى السورة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن علي بن عروة قال: ذكر رسول الله صلّى
الله عليه وسلم يوما أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله تعالى
ثمانين عاما لم يعصوه طرفة عين فذكر أيوب وزكريا وحزقيل بن
العجوز ويوشع بن نون، فعجب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه
وسلم من ذلك، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد عجبت أمتك
من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة فقد أنزل الله تعالى عليك
خيرا من ذلك. فقرأ عليه إِنَّا أَنْزَلْناهُ إلخ ثم قال: هذا
أفضل مما عجبت أنت وأمتك منه فسرّ بذلك رسول الله صلّى الله
عليه وسلم
. وقيل: إن الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتى يعبد الله
تعالى ألف شهر فأعطوا ليلة إن أحيوها كانوا أحق بأن يسموا
عابدين من أولئك العباد. وقال أبو بكر الوراق: كان ملك كل من
سليمان وذي القرنين خمسمائة شهر فجعل الله تعالى العمل في هذه
الليلة لمن أدركها خيرا من ملكهما، وفي هذا نظر لأنه إن أريد
بذي القرنين الأول فهو على القول به قد ملك أكثر من ذلك بكثير،
وإن أريد به الثاني أعني قاتل دارا فهو قد ملك أقل من ذلك
بكثير. وقيل: أري صلّى الله عليه وسلم أعمار الأمم كافة
فاستقصر أعمار أمته فخاف عليه
(15/415)
الصلاة والسلام أن لا يبلغوا من العمل مثل
ما بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله تعالى ليلة القدر
وجعلها خيرا من ألف شهر لسائر الأمم وذكره الإمام مالك في
الموطأ وقد سمعت ما يدل على أن الألف إشارة إلى ملك بني أمية
وكان على ما قال القاسم بن الفضل ألف شهر لا يزيد يوم ولا ينقص
يوم على ما قيل ثمانين سنة وهي ألف شهر تقريبا لأنها ثلاثة
وثمانون سنة وأربعة أشهر، ولا يعكر على ذلك ملكهم في جزيرة
الأندلس بعد لأنه ملك يسير في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة
العرب ولذا لم يعد من ملك منهم هناك من خلفائهم.
وقالوا بانقراضهم بهلاك مروان الحمار. وطعن القاضي عبد الجبار
في كون الآية إشارة لما ذكر بأن أيام بني أمية كانت مذمومة أي
باعتبار الغالب فيبعد أن يقال في شأن تلك الليلة إنها خير من
ألف شهر مذمومة:
ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل إن السيف خير من العصا
وأجيب بأن تلك الأيام كانت عظيمة بحسب السعادات الدنيوية فلا
يبعد أن يقول الله تعالى: أعطيتك ليلة في السعادات الدينية
أفضل من تلك في السعادات الدنيوية فلا تبقى فائدة، واختلف في
أن تلك الليلة تستتبع يومها أم لا. فقال الشعبي: نعم يومها
مثلها، وقيل لعل الوجه فيه أن ذكر الليالي يستتبع الأيام ومنه
إذا نذر اعتكاف ليلتين لزمتاه بيوميهما والكثير لا لكن قيل يسن
الاجتهاد في يومها كما يسن فيها. ولذا جاء في وصفها أن الشمس
تطلع صبيحتها وليس لها شعاع كما تقدم أي لعظم أنوار الملائكة
الصاعدين والنازلين فيها فإنه لا فائدة فيه سوى معرفة يومها
ولا فائدة فيها لو لم يسن الاجتهاد فيه. ومنع بأنه يجوز أن
تكون الفائدة معرفتها نفسها ليجتهد فيها من قابل بناء على أنها
لا تنتقل، وظاهر الآية أنها أفضل من ليلة الجمعة والمسألة
خلافية وأكثر الأئمة على أنها أفضل منها للآية، ولأن الله
تعالى أنزل فيها القرآن وهو هو ولم ينزله في غيرها، ولأنه
سبحانه أمر بطلبها. فعن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى
وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة: 187] ليلة
القدر ولأنه عز وجل جعلها ليلة الفرق والحكم فقال جل شأنه
فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان: 4] وسماها جل
وعلا ليلة القدر أي التقدير ولما روي عن كعب أنه قال: إن الله
تعالى اختار الساعات فاختار ساعات أوقات الصلاة، واختار الأيام
فاختار يوم الجمعة، واختار الشهور فاختار شهر رمضان، واختار
الليالي فاختار ليلة القدر فهي أفضل ليلة في أفضل شهر، ولأنه
صلّى الله عليه وسلم حثّ على العمل فيها
فقد صح: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من
ذنبه» . وفي رواية «وما تأخر»
ونهي عليه الصلاة والسلام أن يخص ليلة الجمعة بقيام ويومها
بصيام ولأنه سبحانه وتعالى أخفاها ولم يعينها كما أخفى سبحانه
أعظم أسمائه عز وجل، وكما أخفى جل شأنه أفضل الصلوات وهي
الصلاة الوسطى إلى غير ذلك. وذهب أكثر الحنابلة كأبي الحسن
الجزري وعبد الله بن بطة وأبي حفص البرمكي وغيرهم إلى أن ليلة
الجمعة أفضل لما
أخرج مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى
الله عليه وسلم: «يغفر الله تعالى ليلة الجمعة لأهل الإسلام
أجمعين، وهذه فضيلة لم تجىء لغيرها»
. ونحوه ما
روي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما
من ليلة جمعة إلّا وينظر الله تعالى إلى خلقه ثلاث مرات فيغفر
لمن لا يشرك بالله تعالى شيئا
ولأنه
روى ابن بشكوال في كتابه القربة إلى رب العالمين بسنده إلى عمر
رضي الله تعالى عنه أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «أكثروا
الصلاة عليّ في الليلة الغرّاء واليوم الأزهر ليلة الجمعة ويوم
الجمعة»
والغرة من الشيء خياره ولأنه قد روى كثيرون منهم الإمام أحمد
أن يومها سيد الأيام وأعظمها وأعظم عند الله تعالى من يوم
الفطر ويوم الأضحى،
وصحح ابن حبان خبر: «لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من
يوم الجمعة»
. فهي لذلك سيدة الليالي وأعظمها وأفضلها ولأنها معينة
(15/416)
مشهودة يشهدها الخاص والعام من ذكر وأنثى
وصغير وكبير بصير وضرري، وتصل بركتها إلى الأحياء والأموات
وليلة القدر غير معينة فلا ينتفع بها إلّا قليل إلى غير ذلك.
وأجاب هؤلاء عن الآية بأنه لما أريد فيها أنها خير من ألف شهر
ليس فيها ليلة القدر كما قال قتادة وغيره فليرد أيضا أنها خير
من ألف شهر ليس فيها ليلة جمعة، ويدل للأمرين أن أكثر أسباب
النزول السابقة تدل على أن المراد بالشهور شهور من تقدمنا وهي
ليس فيها ليلة قدر ولا ليلة جمعة. وعن سائر المستندات بأن
بعضها معارض وبعضها لا يدل على أكثر من فضلها وهو ما لم ينكره
أحد والأولون أجابوا عن مستنداتهم بنحو ما أجابوا وللتعارض قال
أحمد بن الحسين بن يعقوب بن قاسم المقري من الحنابلة: إن
القولين في المسألة قولان شائعان بين الأصحاب ولكل دلائل تدل
على صوابيته فلا ينبغي لأحد أن يطلق الخطأ على قائل كل منهما،
وأنت بعد التأمل في أدلة الطرفين والوقوف على أحوالها يتعين
عندك أفضلية ليلة القدر وتعين ليلة الجمعة، وهاهنا قول متوسط
بين القولين حكى القاضي أبو يعلى أن أبا الحسن التميمي من
الحنابلة أيضا كان يقول: ليلة القدر التي أنزل فيها القرآن
أفضل من ليلة الجمعة لما حصل فيها من الخير الكثير الذي لم
يحصل في غيرها، فأما أمثالها من ليالي القدر فليلة الجمعة أفضل
منها، وقيل نظيره في ليلة المعراج مع ليلة الجمعة ونحوها. ثم
إن ظاهر كلام بعض الحنفية كصاحب الجوهرة أن ليلة النحر أفضل من
ليلة القدر وسائر ليالي السنة، ويرد عليه ظاهر الآية أيضا
ولعله يجيب بنحو ما سبق آنفا. ونقل الطحاوي عليه الرحمة في
حواشي المختار عن بعض الشافعية أن أفضل الليالي ليلة مولده
عليه الصلاة والسلام ثم ليلة القدر ثم ليلة الإسراء والمعراج
ثم ليلة عرفة ثم ليلة الجمعة ثم ليلة النصف من شعبان ثم ليلة
العيد وأنا لا أرى أن له ما يعول عليه في ذلك والله تعالى أعلم
وما أشير إليه من كونها من خصائص هذه الأمة هو الذي يقتضيه
أكثر الأخبار الواردة في سبب النزول وصرح به الهيتمي وغيره.
وقال القسطلاني: إنه معترض
بحديث أبي ذر عند النسائي حيث قال فيه: يا رسول الله أتكون مع
الأنبياء فإذا ماتوا رفعت؟ قال: «بل هي باقية»
. ثم ذكر أن عمدة القائلين بذلك الخبر الذي قدمناه في سبب
النزول من رؤيته صلّى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته عن
أعمار الأمم وتعقبه بقوله: هذا محتمل للتأويل فلا يدفع الصريح
في حديث أبي ذر كما قاله الحافظان ابن كثير في تفسيره وابن حجر
في فتح الباري انتهى. والحق الأول والصراحة في حيّز المنع.
وقد أخرج الديلمي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال:
«إن الله تعالى وهب لأمتي ليلة القدر لم يعطها من كان قبلهم»
. فتأمل ولا تغفل.
وقوله تعالى تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها استئناف
مبين لمناط فضلها على تلك المدة المديدة فضمير فيها لليلة وزعم
بعضهم أن الجملة صفة لألف شهر والضمير لها وليس بشيء، وجوّز
بعضهم كون الضمير للملائكة على أن الرُّوحُ مبتدأ لا معطوف على
الْمَلائِكَةُ وفِيها خبره لا متعلق ب تَنَزَّلُ والجملة حال
من الْمَلائِكَةُ وهو خلاف الظاهر. والروح عند الجمهور هو
جبريل عليه السلام، وخص بالذكر لزيادة شرفه مع أنه النازل
بالذكر. وقيل ملك عظيم لو التقم السماوات والأرض كان ذلك له
لقمة واحدة، وذكر في التيسير من وصفه ما يبهر العقول والله
تعالى أعلم بصحة الخبر. وقال كعب ومقاتل: الروح طائفة من
الملائكة لا تراهم الملائكة إلّا تلك الليلة كالزهاد الذين لا
نراهم إلّا يوم العيد أو الجمعة. وقيل:
حفظة على الملائكة كالملائكة الحفظة علينا. وقيل: خلق من خلق
الله تعالى يأكلون ويلبسون ليسوا من الملائكة ولا من الإنس
ويخلق ما لا تعلمون وما يعلم جنود ربك إلا هو ولعلهم على ما
قيل خدم أهل الجنة.
(15/417)
وقيل: هو عيسى عليه السلام ينزل لمطالعة
هذه الأمة وليزور النبي صلّى الله عليه وسلم وقيل: أرواح
المؤمنين ينزلون لزيارة أهليهم. وقيل: الرحمة كما قرىء لا
تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف: 87] بالضم وعلى الأول
المعول والظاهر الذي تشهد له الأخبار أن التنزل إلى الأرض،
فقيل: إن ذلك لما ذكر الله تعالى بعد وسيأتي إن شاء الله تعالى
الكلام فيه وقيل ينزلون إليها للتسليم على المؤمنين. وقيل: لأن
الله تعالى جعل فضيلة هذه الليلة في الاشتغال بطاعته في الأرض
فهم ينزلون إليها لتصير طاعاتهم أكثر ثوابا كما أن الرجل منا
يذهب إلى مكة لتصير طاعته كذلك فيكون المقصود من الإخبار بذلك
ترغيب الإنسان في الطاعة. وقال عصام الدين: يحتمل أن يكون
تنزلهم لإدراكها إذ ليس في السماء ليل، والجملة حينئذ مقررة
لما سبق لا مبينة لمناط الفضل وفيه نظر لا يخفى. وقيل غير ذلك
مما سنشير إليه إن شاء الله تعالى. وقيل: المراد تنزلهم إلى
السماء الدنيا وهو خلاف المتبادر وأنزل منه بكثير كون المراد
بتنزلهم تنزلهم عن مراتبهم العلية من الاشتغال بالله تعالى
والاستغراق بمطالعة جلاله عز وجل ليسلموا على المؤمنين.
واستظهر أن المراد بالملائكة عليهم السلام جميعهم واستشكل بأن
لهم كثرة عظيمة لا تتحملها الأرض وكذا السماء الدنيا لأنها قبل
نزولهم مملوءة «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم
إلّا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم» . وأجيب بأنهم ينزلون
فوجا فوجا فمن نازل وصاعد كالحجاج فإنهم على كثرتهم يدخلون
الكعبة مثلا بأسرهم لكن لا على وجه الاجتماع بل هم بين داخل
وخارج. وفي التعبير بتنزل المفيد للتدريج دون نزل رمز إليه
وقيل إنهم لكونهم أنوارا لا تزاحم بينهم فالنور إذا ملأ حجرة
مثلا لا يمنع من إدخال ألف نور عليه وهو كما ترى. ومن الناس من
خصّ الملائكة ببعض فرقهم وهم سكان سدرة المنتهى أو بعض منهم.
وفي الغنية للقطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: إذا كان ليلة القدر يأمر
الله تعالى جبريل عليه السلام أن ينزل إلى الأرض ومعه سكان
سدرة المنتهى سبعون ألف ملك، ومعهم ألوية من نور فإذا هبطوا
إلى الأرض ركّز جبريل عليه السلام لواءه والملائكة عليهم
السلام ألويتهم في أربعة مواطن عند الكعبة وقبر النبي صلّى
الله عليه وسلم ومسجد بيت المقدس ومسجد طور سيناء، ثم يقول
جبريل عليه السلام: تفرقوا فيتفرقون ولا يبقى دار ولا حجر ولا
بيت ولا سفينة فيها مؤمن أو مؤمنة إلّا دخلته الملائكة عليهم
السلام إلّا بيتا فيه كلب أو خنزير أو خمر أو جنب من حرام أو
صورة تماثيل فيسبحون ويقدسون ويهللون ويستغفرون لأمة محمد صلّى
الله عليه وسلم حتى إذا كان وقت الفجر ثم يصعدون إلى السماء
فيستقبلهم سكان سماء الدنيا فيقولون لهم: من أين أقبلتم؟
فيقولون: كنا في الدنيا لأن الليلة ليلة القدر لأمة محمد صلّى
الله عليه وسلم، فيقول سكان السماء الدنيا: ما فعل الله تعالى
بحوائج أمة محمد صلّى الله عليه وسلم؟ فيقول جبريل عليه
السلام: إن الله تعالى غفر لصالحهم وشفعهم في طالحهم. فترفع
ملائكة سماء الدنيا أصواتهم بالتسبيح والتقديس والثناء على رب
العالمين شكرا لما أعطى الله تعالى هذه الأمة من المغفرة
والرضوان، ثم تشيعهم ملائكة السماء الدنيا إلى الثانية كذلك
وهكذا إلى السابعة، ثم يقول جبريل عليه السلام: يا سكان
السماوات ارجعوا. فيرجع ملائكة كل سماء إلى مواضعهم فإذا وصلوا
إلى سدرة المنتهى يقول لهم سكانها: أين كنتم؟ فيجيبونهم مثل ما
أجابوا أهل السماوات، فيرفع سكان سدرة المنتهى أصواتهم
بالتسبيح والتهليل والثناء فتسمع جنة المأوى ثم جنة النعيم
وجنة عدن والفردوس، ويسمع عرش الرحمن فيرفع العرش صوته
بالتسبيح والتهليل والثناء على رب العالمين شكرا لما أعطى هذه
الأمة. ويقول: إلهي بلغني عنك أنك غفرت البارحة لصالحي أمة
محمد صلّى الله عليه وسلم وشفعت
(15/418)
صالحها. فيقول الله عز وجل: صدقت يا عرشي
ولأمة محمد عليه الصلاة والسلام عندي من الكرامة ما لا عين رأت
ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
.
وفي رواية عن كعب: نزول جميع ملائكة سدرة المنتهى مع جبريل
عليهم السلام ولا يعلم عددهم إلّا الله تعالى وأن جبريل عليه
السلام لا يدع أحدا من الناس إلّا صافحه.
وفي رواية لا يدع مؤمنا ولا مؤمنة إلّا سلم عليه إلّا مدمن
الخمر وآكل لحم الخنزير والمتضمخ بالزعفران، وإن علامة مصافحته
عليه السلام اقشعرار الجلد ورقة القلب ودمع العينين.
وروي في نزوله مع الملائكة عليهم السلام وعروجه معهم غير ذلك،
وقد ذكر بعضا من ذلك الإمام وغيره ونسأل الله تعالى صحة
الأخبار.
وذكر بعضهم أن جبريل عليه السلام يقسم تلك الليلة ما ينزل من
رحمة الله تعالى يستغرق أحياء المؤمنين فيقول: يا رب بقي من
الرحمة كثير فما أصنع به؟ فيقول الله عز وجل: قسم على أموات
أمة محمد صلّى الله عليه وسلم. فيقسم حتى يستغرقهم فيقول: يا
رب بقي من الرحمة كثير فما أصنع به؟ فيقول سبحانه وتعالى قسمه
على الكفار فيقسمه عليهم فمن أصابه منهم شيء من تلك الرحمة مات
على الإيمان.
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ متعلق بتنزل أو بمحذوف هو حال من فاعله أي
ملتبسين بإذن ربهم أي بأمره عز وجل، والتقييد بذلك لتعظيم أمر
تنزلهم. وقيل الإشارة إلى أنهم يرغبون في أهل الأرض من
المؤمنين ويشتاقون إليهم فيستأذنون فيؤذن لهم وفيه نوع ترغيب
في الاجتهاد في الطاعة. واستشكل أمر هذه الرغبة مع كثرة
المعاصي، وأجيب بأنهم غير واقفين على تفاصيلها أو لم يعتبروها
مانعة من ذلك لأنهم يرون من أنواع الطاعات ما لا يرونه في
السماء، أو ليسمعوا أنين العصاة التائبين.
ففي الحديث القدسي: «لأنين المذنبين أحب إليّ من زجل المسبحين»
.
أو ليجتمعوا مع من بينه وبينهم مناسبة من الصديقين أداء لمراسم
المحبة فإن أرواح الصديقين المتجردة عن جلابيب الأبدان لم تزل
تزور الملائكة عليهم السلام في مواضعهم بعروجها إليهم، فناسب
أن تزورهم ولملائكة عليهم السلام في زواياهم وإن اقتضى ذلك
الاجتماع مع غيرهم ممن ليسوا كذلك فإنه أمر تبعي.
ولأجل عين ألف عين تكرم مِنْ كُلِّ أَمْرٍ أي من أجل كل أمر
تعلق به التقدير في تلك السنة إلى قابل، وأظهره سبحانه وتعالى
لهم قاله غير واحد فمن بمعنى اللام التعليلية متعلقة بتنزل.
قال عصام الدين: فإن قلت المقدرات لا تفعل في تلك الليلة بل في
تمام السنة فلماذا تنزل الملائكة عليهم السلام فيها لأجل تلك
الأمور؟ قلت: لعل تنزلهم لتعيين إنفاذ تلك الأمور لهم وتنزلهم
لأجل كل أمر ليس على معنى تنزل كل واحد لأجل كل أمر، ولا تنزل
كل واحد لأمر بل على معنى تنزل الجميع لأجل جميع الأمور حتى
يكون في الكلام تقسيم العلل على المعلولات، انتهى. وأقول: يمكن
أن يكون تنزلهم لإعداد القوابل لقبول ما أمروا به، وأشار بما
ذكره من التقسيم إلى أنه يجوز أن يكون نزول الواحد منهم لعدة
أمور وقولهم من أجل كل أمر تعلق إلخ قد تقدم ما فيه من البحث
فتذكر. وقال أبو حاتم: مِنْ بمعنى الباء أي تنزل بكل أمر،
فقيل: أي من الخير والبركة، وقيل: من الخير والشر. وجعلت الباء
عليه للسببية فيرجع المعنى إلى نحو ما مرّ. ومنهم من جعلها
للملابسة والمراد بملابستهم له ملابستهم للأمر به فكأنه قيل:
تنزل الملائكة وهم مأمورون بكل أمر يكون في السنة، وكونهم
يتنزلون وهم كذلك لا يستدعي فعلهم جميع ما أمروا به في تلك
الليلة والظاهر على ما قالوا أن المراد بالملائكة المدبرات إذ
غيرهم لا تعلق له في الأمور التي تعلق بها التقدير ليتنزلوا
لأجلها على المعنى السابق
(15/419)
وهو خلاف ما تدل عليه الآثار من عدم
اختصاصهم بالمدبرات فتدبر وكأنه لذلك قيل إن مِنْ كُلِّ أَمْرٍ
متعلق بقوله تعالى سَلامٌ وهو مصدر بمعنى السلامة خبر مقدم.
وقوله تعالى هِيَ مبتدأ أي هي سلام من كل أمر مخوف وتعلقه بذلك
على التوسع في الظرف وإلّا فمعمول المصدر لا يتقدم عليه في
المشهور. وقيل:
هو متعلق بمحذوف مقدم يفسره المذكور من وقف على كلام العلامة
التفتازاني في أوائل شرح التلخيص في مثل ذلك استغن عما ذكر.
وقيل مِنْ كُلِّ أَمْرٍ متعلق ب تَنَزَّلُ لكن على معنى تنزل
إلى الأرض منفصلة من كل أمر لها في السماء وتاركة له. وفيه
إشارة إلى مزيد الاهتمام بالتنزل إلى الأرض. وفيه من البعد ما
فيه.
وتقديم الخبر للحصر كما في تميمي أنا والأخبار بالمصدر
للمبالغة أي ما هي إلّا سالمة جدا حتى كأنه عين السلامة قال
الضحاك في معنى ذلك إنه تعالى لا يقدّر ولا يقضي فيها إلّا
السلامة، قيل: أي لا ينفذ تقديره تعالى ويتعلق قضاؤه إلّا
بذلك. وحاصله لا يوجد إلّا ذلك. وقال مجاهد: إنها سالمة من
الشيطان وأذاه. وروي أن الشيطان لا يخرج في ليلة القدر حتى
يضيء فجرها ولا يستطيع أن يصيب فيها أحدا بخبل أو داء أو ضرب
من ضروب الفساد ولا ينفذ فيها سحر ساحر. ولعل ما يصدر من
المعاصي على هذا من النفس الأمّارة بالسوء لا بواسطة الشيطان.
واستشكل كلام الضحاك بناء على ما قيل فيه بأنه لا تخلو ليلة من
الشر والأمر المخوف ولا موجد إلّا الله عز وجل، فلعله أراد ما
تقدم نقله غير بعيد من أن الله تعالى إنما يقدر في هذه الليلة
السلامة والخير أي لا يظهر سبحانه للملائكة عليهم السلام إلّا
تقديره عز وجل وقيل ما هي إلّا سلامة على نحو: ما رسول الله
صلّى الله عليه وسلم إلّا رحمة والمراد أنها سبب تام للسلامة
والنجاة من المهالك يوم القيامة حيث إن من قامها إيمانا
واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. وقيل السلام مصدر بمعنى
التسليم أي ما هي إلّا تسليم لكثرة التسليم والمسلمين من
الملائكة على المؤمنين فيها. وروي ذلك عن الشعبي ومنصور وجعلها
عين التسليم للمبالغة أيضا.
وقوله تعالى حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ غاية تبين تعميم
السلامة أو التسليم كل الليلة فالجار متعلق ب سَلامٌ ومَطْلَعِ
اسم زمان وقد صرحوا أنه من يفعل، ويفعل بفتح العين وضمها على
مفعل مفتوح العين وجوز كونه مصدرا ميميا بمعنى الطلوع ويحتاج
إلى تقدير مضاف قبله هو وقت أو ما في معناه لتتحد الغاية
والمغيا فيكونان من جنس واحد. وصح تعلق الجار بذلك مع الفصل
لأنه ليس بمصدر نظرا للحقيقة. وأفاد الطبرسي وغيره أنه لا بد
من تأويله بسالمة أو مسلمة ليصح التعلق أما لو أبقى على
مصدريته فلا يصح للزوم الفصل بين الصلة والموصول. وذهب بعضهم
إلى أن الفصل بين المصدر ومعموله بالمبتدأ مغتفر، وجوز أن
تتعلق الغاية بتنزل على معنى أنه لا ينقطع تنزلهم فوجا بعد فوج
إلى وقت طلوع الفجر، وتعقب بأنه تعسف لأن سَلامٌ هي أجنبي وليس
باعتراض فلا يحسن الفصل به وجعله حالا من الضمير المجرور في
قوله تعالى فِيها أي ذات سلامة أو سلام لا يخفى حاله. وقيل
يجوز أن يكون الوقف على سَلامٌ وهو خبر لمحذوف ومِنْ كُلِّ
أَمْرٍ متعلق به وهِيَ مبتدأ وحَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ خبره.
ولم يجوز ذلك الطيبي والطبرسي وغيرهما قالوا: لعدم الفائدة
بالأخبار عنها بأنها حتى مطلع الفجر إذ كل ليلة بهذه الصفة.
وأجيب بأنه لما أخبر عنها بأنها خير من ألف شهر وفهم أنها
مخالفة لسائر الليالي في الصفة وكان ذلك مظنة توهم أن ذاتها في
المقدار مغايرة لذوات الليالي فيه أيضا دفع ذلك بقوله تعالى هي
حتى مطلع الفجر، أي لم تخالف سائر الليالي في ذلك وإن خالفتها
في الفضل والخيرية.
(15/420)
وقرأ ابن عباس وعكرمة والكلبي «من كل امرئ»
بهمز في آخره أي تنزل من أجل كل إنسان أي من أجل ما يتعلق به
مما قدر في تلك الليلة، ويرجع إلى نحو ما تقدم أو من أجل
مصلحته من الاستغفار له ونحوه على أن المراد بذلك كل امرئ مؤمن
على ما قيل. وقيل الجار متعلق ب سَلامٌ والمراد «بكل امرئ»
الملائكة عليهم السلام أي سلام وتحية هي على المؤمنين من كل
ملك، وأنكر كما قال ابن جني هذه القراءة أبو حاتم وقرأ أبو
رجاء والأعمش وابن وثاب وطلحة وابن محيصن والكسائي وأبو عمرو
بخلاف عنه «مطلع» بكسر اللام على أنه مصدر كالمرجع ويقدر مضاف
كما سمعت أو اسم زمان على غير قياس كالمشرق فإن مفعلا بالكسر
قياس يفعل مكسور العين. وفي البحر قيل «مطلع ومطلع» بالفتح
والكسر مصدران في لغة تميم. وقيل: المصدر بالفتح وموضع الطلوع
بالكسر عند أهل الحجاز انتهى. وإرادة الموضع هاهنا لا موضع لها
كما لا يخفى هذا. واعلم أنه يسن الدعاء في هذه الليلة المباركة
وهي أحد أوقات الإجابة.
وأخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وغيرهم
عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت: يا رسول الله إن
وافقت ليلة القدر فما أقول؟ قال: «قولي اللهم إنك عفو تحب
العفو فاعف عني»
. ويجتهد فيها بأنواع العبادات من صلاة وغيرها. وقال سفيان
الثوري: الدعاء في تلك الليلة أحبّ من الصلاة، ثم أفاد أنه إذا
قرأ ودعا كان حسنا وكان صلّى الله عليه وسلم يجتهد في ليالي
شهر رمضان ويقرأ فيها قراءة مرتلة لا يمر بآية رحمة إلّا سأل
ولا بآية عذاب إلّا تعوذ. وذكر ابن رجب أن الأكمل الجمع بين
الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر، وقد كان عليه الصلاة والسلام
يفعل ذلك كله لا سيما في العشر الأواخر ويحصل قيامها على ما
قال البعض بصلاة التراويح.
وأخرج البيهقي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله
عليه وسلم: «من صلى المغرب والعشاء في جماعة حتى ينقضي شهر
رمضان فقد أصاب من ليلة القدر بحظ وافر»
.
وأخرج مالك وابن شيبة وابن زنجويه والبيهقي عن سعيد بن المسيب
قال: «من شهد العشاء ليلة القدر في جماعة فقد أخذ بحظه منها.
وفي تحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي عليه الرحمة يسن لرائيها
كتمها ولا ينال فضلها أي كماله إلا من أطلعه الله تعالى عليها
انتهى. والظاهر أنه عنى برؤيتها رؤية ما يحصل به العلم له بها
مما خصت به من الأنوار وتنزل الملائكة عليهم السلام أو نحوا من
الكشف المفيد للعلم مما لا يعرف حقيقته إلّا أهله وهو كالنص في
أنها يراها من شاء الله تعالى من عباده. وقال أبو حفص بن شاهين
على ما حكاه ابن رجب: إن الله تعالى لم يكشفها لأحد من الأولين
والآخرين ولا النبيين والمرسلين في يوم ولا ليلة إلّا نبينا
صلّى الله عليه وسلم فإنه لما أنزلها عليه وعرفه قدرها أراه
عليه الصلاة والسلام إياها في منامه وعرفه في أي ليلة تكون
فأصبح عالما بها، وأراد أن يخبر بها الناس لسروره فتلاحى بين
يديه رجلان فأنسيها صلّى الله عليه وسلم وأمر بطلبها في ليالي
العشر الأواخر لأنهم لا يرونها مكاشفة أبدا ولا يراها أحد بعده
صلّى الله عليه وسلم أصلا فأمروا بذلك ليلتمس فضلها في الليالي
المسماة انتهى. وحديث أنه صلّى الله عليه وسلم رآها ونسيها قد
رواه الإمام مالك والإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم وهو مما
لا تردد في صحته، لكن في دلالته على أنه لم يعلم عليه الصلاة
والسلام بها ولم يرها بعد ولا يراها أحد من أمته صلّى الله
عليه وسلم أبدا ترددا، ولعل الأمر بالتماسه في العشر الأواخر
مثلا يشير إلى رجاء رؤيتها فيها إذا ما لا يرجى في زمان أو
مكان لا يحسن أن يؤمر أحد بالتماسها فيه عادة وفي بعض الأخبار
ما يدل على أن رؤيتها مناما وقعت لغيره صلّى الله عليه وسلم
ففي صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رجالا
من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام
في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أرى
رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها
في السبع الأواخر»
وحكي نحو قول ابن شاهين عن غيره أيضا وغلط. ففي شرح الصحيح
للنووي:
(15/421)
اعلم أن ليلة القدر موجودة وأنها ترى
ويتحققها من شاء الله تعالى من بني آدم كل سنة في رمضان كما
تظاهرت عليه الأحاديث وأخبار الصالحين بها، ورؤيتهم لها أكثر
من أن تحصى. وأما قول القاضي عياض عن المهلب بن أبي صفرة لا
يمكن رؤيتها حقيقة فغلط فاحش نبهت عليه لئلا يغتر به انتهى.
بقي في الكلام على هذه الليلة بحث مهم وهو أنه على قول
المعتبرين لاختلاف المطالع يلزم القول بتعددها في رمضان وكونها
وترا من لياليه عند قوم وشفعا عند آخرين فلا يصح إطلاق القول
بأحدهما وكذا لا يصح إطلاق القول بأنها ليلة كذا كليلة السابع
والعشرين أو الحادي والعشرين مثلا من الشهر على ذلك أيضا.
بل لا يصح إطلاق القول بأن وقت التقدير وتنزل الملائكة ليلة
فالليلة عند قوم نهار في الجهة المسامتة لأقدامهم وهي قد تكون
مسكونة ولو بواسطة سفينة تمر فيها، وربما يكون زمان الليل عند
قوم بعضه ليلا وبعضه نهارا عند آخرين كأهل بعض العروض البعيدة
عن خط الاستواء، بل قد تنقضي أشهر بليل ونهار على قوم ولم ينقض
يوم واحد في بعض العروض بل لا يصح أيضا إطلاق القول بأنها في
رمضان وأنها الليلة الأولى أو الأخيرة منه إذ الشهر دخولا
وخروجا مختلف بالنسبة إلى سكان البسيطة وأجاب بعض بالتزام أن
ما أطلق من القول فيها ليس على إطلاقه فيكون القول بوتريتها
بالنسبة إلى قوم وبشفعيتها بالنسبة إلى آخرين وهكذا القول
بأنها ليلة كذا من الشهر وبالتزام أنها ليلة بالنسبة إلى قوم
نهار بالنسبة إلى آخرين، وإن التعبير بالليلة لرعاية مكان
المنزل عليه القرآن عليه الصلاة والسلام وغالب المؤمنين به كأن
ما هو سمت أقدامهم مما ليلهم نهاره لم يعمر بالمسلمين بل لا
يكاد يعمر بهم حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. وقال: إنها
حيث كانت نهارا عند قوم لا يبعد أن يعطي الله تعالى أجرها من
اجتهد من غيرهم في ليلة ذلك النهار وأن يعطي سبحانه ذلك أيضا
من اجتهد منهم ليلا وهي عندهم نهار وعلى نحو هذا يقال في الصور
التي ذكرت في البحث.
وادعى أن هذا نوع من الجمع بين الأحاديث المتعارضة وأن في
قولهم يسن الاجتهاد في يومها رمز إما لشيء من ذلك وهو كما ترى.
وأجاب آخر بما يستحي القلم من ذكره ويرى تركه هو الحري بقدره.
وسمعت من بعض أحبابي أن الشيخ إسماعيل العجلوني عليه الرحمة
تعرض فيما شرح من صحيح البخاري لشيء من هذا البحث والجواب عنه
ولم أقف عليه، وعندي أن البحث قوي والأمر مما لا مجال لعقلي
فيه ومثل ليل القدر فيما ذكر وقت نزوله سبحانه وتعالى إلى
السماء الدنيا من الليل كما صحت به الأخبار وكذا ساعة الإجابة
من يوم الجمعة إلى أمثال أخر. وللشيخ ابن تيمية رحمه الله
تعالى كلام طويل في الأول لم يحضرني منه الآن ما يروي الغليل،
ولغيره كابن حجر كلام مختصر في الثاني وهو مشهور وربما يقال
إنها لكل قوم ليلتهم وإن اختلفت دخولا وخروجا بالنسبة إلى
آفاقهم كسائر لياليهم فتدخل الليلة مطلقا في بغداد مثلا عند
غروب الشمس فيها وبعد نصف ساعة منه تدخل في إستامبول مثلا وذلك
أول وقت الغروب فيها وهكذا، والخروج على عكس ذلك فكأن الليلة
راكب يسير إلى جهة فيصل إلى كل منزل في وقت ويلتزم أن تنزل
الملائكة حسب سيرها ولا يبعد أن يتنزل عند كل قوم ما شاء الله
تعالى منهم عند أول دخولها عندهم ويعرجون عند مطلع فجرها عندهم
أيضا أو يبقى المتنزل منهم هناك إلى أن تنقضي الليلة في جميع
المعمورة فيعرجون معا عند انقضائها ويلتزم القول بتعدد التقدير
حسب السير أيضا بأن يقدر الله تعالى في أي جزء شاء سبحانه منها
بالنسبة إلى من هي عندهم أمورا تتعلق بهم، ومناط الفضل لكل قوم
تحققها بالنسبة إليهم وقيامهم فيها ومثل هذه الليلة فيما ذكر
سائر أوقات العبادة كوقت الظهر والعصر وغيرهما وهذا غاية ما
يخطر بالبال فيما يتعلق
(15/422)
بهذا الإشكال وأمر ما يعكر عليه من أخبار
الآحاد سهل على أن الكثير منها في صحته مقال فتأمل في ذاك
والله عز وجل يتولى هداك. ثم إن ليلة القدر عند السادة الصوفية
ليلة يختص فيها السالك بتجل خاص يعرف به قدره ورتبته بالنسبة
إلى محبوبه وهي وقت ابتداء وصول السالك إلى عين الجمع ومقام
البالغين في المعرفة، وما ألطف قول الشيخ عمر بن الفارض قدس
سره:
وكل الليالي ليلة القدر إن دنت ... كما كل أيام اللقا يوم جمعة
هذا والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(15/423)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ
مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ
مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ
قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا
أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا
الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ
جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ
الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ
رَبَّهُ (8)
سورة البيّنة
وتسمى سورة القيامة وسورة البلد وسورة المنفكين وسورة البرية
وسورة لم يكن. قال في البحر: مكية في قول الجمهور. وقال ابن
الزبير وعطاء بن يسار: مدنية قاله ابن عطية، وفي كتاب التحرير
مدنية وهو قول الجمهور، وروى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية
واختاره يحيى بن سلام انتهى. وقال ابن الفرس: الأشهر أنها مكية
ورواه ابن مردويه عن عائشة وجزم ابن كثير بأنها مدنية، واستدل
على ذلك بما
أخرجه الإمام أحمد وابن قانع في معجم الصحابة والطبراني وابن
مردويه عن أبي خيثمة البدري قال: لما نزلت لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إلى آخرها قال جبريل
عليه السلام: يا رسول الله إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيا فقال
النبي صلّى الله عليه وسلم لأبي رضي الله تعالى عنه: «إن جبريل
عليه السلام أمرني أن أقرئك هذه السورة» فقال أبي: أو قد ذكرت
ثم يا رسول الله؟ قال: «نعم» فبكى
وهذا هو الأصح. وآيها تسع في البصري وثمان في غيره.
وجاء في فضلها ما أخرجه أبو موسى المديني في المعرفة عن
إسماعيل بن أبي حكيم عن مطر المزني أو المدني عن النبي صلّى
الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يسمع قراءة لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ كَفَرُوا فيقول: أبشر عبدي فوعزتي لا أسألك على حال
من أحوال الدنيا والآخرة ولأمكنن لك في الجنة حتى ترضى» .
ووجه مناسبتها لما قبلها أن قوله تعالى فيها لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ إلخ كالتعليل لإنزال القرآن كأنه قيل: إنّا أنزلناه
لأنه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى يأتيهم رسول يتلو
صحفا مطهرة وهي ذلك المنزل فلا تغفل.
(15/424)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَمْ
يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي اليهود
والنصارى وإيرادهم بذلك العنوان قيل لإعظام شناعة كفرهم، وقيل:
للإشعار بعلة ما نسب إليهم من الوعد باتباع الحق فإن مناط ذلك
وجدانهم له في كتابهم وهو مبني على وجه يأتي إن شاء الله تعالى
في الآية بعد. وإيراد الصلة فعلا لما أن كفرهم حادث بعد
أنبيائهم عليهم السلام بالآحاد في صفات الله عز وجل ومن
للتبعيض كما قال علم الهدى الشيخ أبو منصور الماتريدي في
التأويلات لا للتبيين لأن منهم من لم يكفر بعد نبيه وكان على
الاعتقاد الحق حتى توفاه الله تعالى، وعد من ذلك الملكانية من
النصارى فقيل إنهم كانوا على الحق قبل بعثة رسول الله صلّى
الله عليه وسلم والتبيين يقتضي كفر جميعهم قبل البعث والظاهر
خلافه. وأيد إرادة التبعيض بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما من أن المراد بأهل الكتاب اليهود الذين كانوا بأطراف
المدينة من بني قريظة والنضير وبني قينقاع، وقال بعض: لا نسلم
أن التبيين يقتضي كفر جميعهم قبل البعث لجواز أن يكون التعبير
عنهم بالذين كفروا باعتبار حالهم بعد البعثة كأنه قيل لم يكن
هؤلاء الكفرة وبينوا بأهل الكتاب. وَالْمُشْرِكِينَ وهم من
اعتقدوا لله سبحانه شريكا صنما أو غيره، وخصهم بعض بعبدة
الأصنام لأن مشركي العرب الذين بمكة والمدينة وما حولهما كانوا
كذلك وهم المقصودون هنا على ما روي عن الحبر. وأيّا ما كان
فالعطف على أهل الكتاب ولا يلزم على التبعيض أن لا يكون بعضهم
كافرين ليجب العدول عنه للتبيين لأنهم بعض من المجموع كما
أفاده بعض الأجلّة. واحتمال أن يراد بالمشركين أهل الكتاب
وشركهم لقولهم المسيح ابن الله وعزير ابن الله تعالى الله عن
ذلك علوا كبيرا. والعطف لمغايرة العنوان ليس بشيء. وقرىء
«والمشركون» بالرفع عطفا على الموصول وحمل قراءة الجمهور على
ذلك واعتبار أو الجر للجوار لا يخفى حاله. والجار والمجرور في
موضع الحال من ضمير كَفَرُوا وقوله تعالى مُنْفَكِّينَ خبر يكن
والانفكاك في الأصل افتراق الأمور الملتحمة بنوع مزايلة وأريد
به المفارقة لما كانوا عليه مما ستعرفه إن شاء الله تعالى
فالوصف اسم فاعل من انفك التامة دون الناقصة الداخلة على
المبتدأ والخبر. وزعم بعض النحاة أنه وصف منها والخبر محذوف أي
واعدين اتباع الحق أو نحوه. وتعقب مع كونه خلاف الظاهر بأن خبر
كان وأخواتها لا يجوز حذفه في السعة لا اقتصارا وحين ليس مجير
أي في الدنيا ضرورة. وقوله تعالى حَتَّى تَأْتِيَهُمُ
الْبَيِّنَةُ متعلق بمنفكين والبينة صفة بمعنى اسم الفاعل أي
المبين للحق أو هي بمعناها المعروف وهو الحجة المثبتة للمدعي
ويراد بها المعجز وعلى الوجهين. فقوله تعالى رَسُولٌ بدل منها
بدل كل من كل أو خبر لمقدر أي هي رسول وتنوينه للتفخيم والمراد
به نبينا صلّى الله عليه وسلم وقوله سبحانه مِنَ اللَّهِ في
موضع الصفة له مفيد للفخامة الإضافية فهو مؤكد لما أفاده
التنوين من الفخامة الذاتية. وقوله تعالى يَتْلُوا صُحُفاً
مُطَهَّرَةً صفة أخرى له أو حال من الضمير في صفته الأولى كما
أن قوله سبحانه فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ صفة ثانية ل صُحُفاً أو
حال من الضمير في صفتها الأولى أعني مُطَهَّرَةً ويجوز أن يكون
الصفة أو الحال هنا الجار والمجرور فقط وكتب مرتفعا على
الفاعلية وإطلاق البينة عليه عليه الصلاة والسلام على المعنى
الأول ظاهر، وعلى المعنى الأخير باعتبار أن أخلاقه وصفاته صلّى
الله عليه وسلم كانت بالغة حد الإعجاز كما قال الغزالي في
المنقذ من الضلال. وأشار إليه البوصيري بقوله:
كفاك بالعلم في الأمي معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم
ويعلم منه حكمة جعله عليه الصلاة والسلام يتيما أو باعتبار
كثرة معجزاته صلّى الله عليه وسلم غير ما ذكر وظهورها.
وجوز أن يراد بالبينة القرآن لأنه مبين للحق أو معجز مثبت
للمدعى، وروي ذلك عن قتادة وابن زيد، و
(15/425)
رَسُولٌ عليه قيل بدل اشتمال أو بدل كل من
كل أيضا بتقدير مضاف أي بينة أو وحي أو معجز أو كتاب رسول أو
هو خبر مبتدأ مقدر أي هي رسول ويقدر معه مضاف كما سمعت، وجوز
أن يكون رَسُولٌ مبتدأ لوصفه وخبره جملة يَتْلُوا إلخ. وجملة
المبتدأ وخبره مفسرة للبينة. وقيل اعتراض لمدحها وقيل صفة لها
مرادا بها القرآن ويراد بالصحف المطهرة البينة وقد وضعت موضع
ضميرها فكانت الرابط. وقرأ أبي وعبد الله «رسولا» بالنصب على
الحالية من البينة، والصحف جمع صحيفة وكذا الصحاف القراطيس
التي يكتب فيها وأصلها المبسوط من الشيء، والمراد بتطهيرها
تنزيهها عن الباطل على سبيل الاستعارة المصرحة. ويجوز أن يكون
في الكلام استعارة مكنية أو تطهير من يمسها على التجوز في
النسبة فكأنه قيل صحفا لا يمسها إلّا المطهرون والمراد بالكتب
المكتوبات وبالقيمة المستقيمة واستقامتها نطقة بالحق. وفي
التيسير هي كتب الأنبياء عليهم السلام والقرآن مصدق لها فكأنها
فيه ووصفه عليه الصلاة والسلام بتلاوة الصحف المذكورة بناء على
المشهور من أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يقرأ الكتاب كما
أنه صلّى الله عليه وسلم لم يكن يكتب من باب التجوز في النسبة
إلى المفعول لأنه صلّى الله عليه وسلم لما قرأ ما فيها فكأنه
قرأها. وقيل على تقدير مضاف أي مثل صحف وقيل في ضمير استعارة
مكنية بتشبيهه عليه الصلاة والسلام لتلاوته مثل ما فيها
بتاليها أو الصحف مجاز عما فيها بعلاقة الحلول. ففي ضمير فِيها
استخدام لعوده على الصحف بالمعنى الحقيقي. وقيل المراد بالرسول
جبريل عليه السلام، وبالصحف صحف الملائكة عليهم السلام
المنتسخة من اللوح المحفوظ، وبتطهيرها ما سبق، والمراد بتلاوته
عليه الصلاة والسلام إياها ظاهر وجعلها مجازا عن وحيه إياها
غير وجيه والأولى حمل الرسول على النبي صلّى الله عليه وسلم
وهو المروي عن ابن عباس ومقاتل وغيرهما. وقد اختلفوا في المعنى
المراد بالآية اختلافا كثيرا حتى قال الواحدي في كتاب البسيط:
إنها من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرا وبيّن ذلك بناء على أن
الكفر وصف لكل من الفريقين قبل البعثة بأن الظاهر أن المعنى لم
يكن الذين كفروا من الفريقين منفكين عما هم عليه من الكفر حتى
يأتيهم الرسول صلّى الله عليه وسلم، وحَتَّى لانتهاء الغاية
فتقتضي أنهم انفكوا عن كفرهم عند إتيان الرسول صلّى الله عليه
وسلم وهو خلاف الواقع ويناقضه قوله تعالى وَما تَفَرَّقَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ
الْبَيِّنَةُ فإنه ظاهر في أن كفرهم قد زاد عند ذلك فقال جار
الله: كان الكفار من الفريقين يقولون قبل المبعث لا ننفك عما
نحن فيه من ديننا حتى يبعث الله تعالى النبي الموعود الذي هو
مكتوب في التوراة والإنجيل وهو محمد صلّى الله عليه وسلم فحكى
الله تعالى ما كانوا يقولونه، ثم قال سبحانه وَما تَفَرَّقَ
إلخ يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق
إذا جاءهم الرسول ثم ما فرقهم عن الحق وأقرهم على الكفر إلّا
مجيئه ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه: لست
بمنفك مما أنا فيه حتى يرزقني الله تعالى الغنى فيرزقه الله عز
وجل ذلك فيزداد فسقا، فيقول واعظه: لم تكن منفكا عن الفسق حتى
توسر وما غمست رأسك في الفسق إلّا بعد اليسار يذكره ما كان
يقوله توبيخا وإلزاما. وحاصله أن الأول من باب الحكاية لزعمهم
وقوله سبحانه وَما تَفَرَّقَ إلخ إلزام عليهم حكى الله تعالى
كلامهم على سبيل التوبيخ والتعيير فقال: هذا هو الثمرة. وظاهره
أنه أراد بتفرقهم عن الحق وحمل على الكفر والباطل لاستلزامه
إياه وعدم التعرض للمشركين في قوله تعالى وَما تَفَرَّقَ إلخ
لعلم حالهم من حال الذين أوتوا الكتاب بالأولى. وقيل وهو قريب
من ذاك من وجه وفيه إيضاح له من وجه أي لم يكونوا منفكين عما
كانوا عليه من الوعد باتباع الحق والإيمان بالرسول المبعوث في
آخر الزمان إلى أن أتاهم ما جعلوه ميقاتا للاجتماع والاتفاق
فاجعلوه ميقاتا للانفكاك والافتراق كما قال سبحانه وَما
تَفَرَّقَ إلخ. وفي التعبير ب مُنْفَكِّينَ إشارة إلى وكادة
وعدهم
وهو
(15/426)
من أهل الكتاب مشهور حتى أنهم كانوا
يستفتحون ويقولون: اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي المبعوث في
آخر الزمان، ويقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظل زمان نبي
يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم.
ومن المشركين لعله وقع من متأخريهم بعد ما شاع من أهل الكتاب
واعتقدوا صحته مما شاهدوا مثلا من بعض من يوثق به بينهم من
قومهم كزيد بن عمرو بن نفيل فقد كان يتطلب نبيا من العرب
ويقول: قد أظل زمانه وإنه من قريش بل من بني هاشم بل من بني
عبد المطلب، ويشهد لذلك أنهم قبيل بعثته عليه الصلاة والسلام
سمى منهم غير واحد ولده بمحمد رجاء أن يكون النبي المبعوث
والله أعلم حيث يجعل رسالته. والتعبير عن إتيانه بصيغة المضارع
باعتبار حال المحكي لا باعتبار حال الحكاية كما في قوله تعالى
وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ [البقرة: 102] أي تلت.
وقوله تعالى وَما تَفَرَّقَ إلخ كلام مسوق لمزيد التشنيع على
أهل الكتاب خاصة ببيان أن ما نسب إليهم من الانفكاك لم يكن
لاشتباه في الأمر بل بعد وضوح الحق وتبين الحال وانقطاع
الأعذار بالكلية وهو السر في وصفهم بإيتاء الكتاب المنبئ عن
كمال تمكنهم من مطالعته والإحاطة بما في تضاعيفه من الأحكام
والأخبار التي من جملتها ما يتعلق بالنبي عليه الصلاة والسلام
وصحة بعثته بعد ذكرهم فيما سبق بما هو جار مجرى اسم الجنس
للطائفتين.
ولما كان هؤلاء والمشركون باعتبار اتفاقهم على الرأي المذكور
في حكم فريق واحد عبّر عما صدر منهم عقيب الاتفاق عند الإخبار
بوقوعه بالانفكاك، وعند بيان كيفية وقوعه بالتفرق اعتبار
الاستقلال كل من فريقي أهل الكتاب وإيذانا بأن انفكاكهم عن
الرأي المذكور ليس بطريق الاتفاق على رأي آخر بل بطريق
الاختلاف القديم. وتعقب التقريران بأنه ليس في الكلام ما يدل
على أنه حكاية إلّا على إرادة منفكين عن الوعد باتباع الحق.
وقال القاضي عبد الجبار: المعنى لم يكن الذين كفروا منفكين عن
كفرهم وإن جاءتهم البينة وتعقبه الإمام بأن تفسير لفظ حتى بما
ذكر ليس من اللغة في شيء، ولعله أراد أن المراد استمرار النفي
وأن في الكلام حذفا أي لم يكونوا منفكين عن كفرهم في وقت من
الأوقات حتى وقت أن تأتيهم البينة إلّا أنه عبّر بما ذكر لأنه
أخصر، وفيه أيضا ما لا يخفى. وقيل: المعنى لم يكونوا منفكين عن
ذكر الرسول صلّى الله عليه وسلم بالمناقب والفضائل إلى أن
أتاهم فحينئذ تفرقوا فيه وقال كل منهم فيه عليه الصلاة والسلام
قولا زورا، وتعقب بأنه لا دلالة على إرادة ما قدر متعلق
الانفكاك. وقيل المعنى لم يكونوا منفكين عن كفرهم إلى وقت مجيء
الرسول صلّى الله عليه وسلم، فلما جاءهم تفرقوا فمنهم من آمن
ومنهم من أصرّ على كفره ويكفي ذلك في العمل بموجب حتى.
وتعقب بأن ظاهر وَما تَفَرَّقَ إلخ ذمّ لجميعهم وتشنيع عليهم
ويؤيده قوله سبحانه بعد إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ إلخ ويبعد ذلك على حمل التفرق على إيمان بعض وإصرار
بعض. وقيل: المعنى لم يكونوا منفكين عن كفرهم بأن يترددوا فيه
بل كانوا جازمين به معتقدين حقيته إلى أن أتاهم رسول الله صلّى
الله عليه وسلم فعند ذلك اضطربت خواطرهم وأفكارهم وتشكك كل في
دينه ومقالته وفيه ما لا يخفى. وقيل: معنى مُنْفَكِّينَ هالكين
من قولهم انفك صلا المرأة عند الولادة وهو أن ينفصل فلا يلتئم،
والمعنى لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلّا بعد قيام الحجة
علهيم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وقريب منه معنى ما قيل لم
يكونوا منفكين عن الحياة بأن يموتوا ويهلكوا حتى تأتيهم البينة
وهو كما ترى. وقيل المراد أنهم لم ينفكوا عن دينهم حقيقة إلى
مجيء الرسول التالي للصحف المبينة نسخه وبطلانه ولما جاء وتبين
ذلك انفكوا عنه حقيقة وإن بقوا عليه صورة وفيه ما فيه. وقال
أبو حيان: الظاهر أن المعنى لم يكونوا منفكين أي منفصلا بعضهم
عن بعض بل كان كل منهم
(15/427)
مقرا الآخر على ما هو عليه مما اختاره
لنفسه هذا من اعتقاده بشريعته وهذا من اعتقاده بأصنامه، وحاصله
أنه اتصلت مودتهم واجتمعت كلمتهم إلى أن أتتهم البينة وَما
تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا أي من المشركين وانفصل بعضهم من
بعض فقال كل ما يدل عنده على صحة قوله إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما
جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وكان يقتضي عند مجيئها أن يجتمعوا على
اتباعها ولا يخفى أن قوله (بل كان كل منهم) إلخ في حيّز المنع.
وأيضا حمل وَما تَفَرَّقَ على ما حمله عليه غير ظاهر. وقال ابن
عطية: هاهنا وجه بارع المعنى وذلك أن يكون المراد لم يكن هؤلاء
القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره سبحانه حتى يبعث
عز وجل إليهم رسولا منذرا يقيم تعالى عليهم به الحجة ويتم على
من آمن به النعمة فكأنه قال: ما كانوا ليتركوا سدى ولهذا نظائر
في كتاب الله جل جلاله هذا ما ظفرنا به سؤالا وجوابا وجرحا
وتعديلا. ثم إني أقول ما تقدم في تقرير الإشكال مبني على مذهب
القائلين بمفهوم الغاية وهم أكثر الفقهاء وجماعة من المتكلمين
كالقاضي أبي بكر والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري وغيرهم
دون مذهب الغير القائلين به وهم أصحاب الإمام أبي حنيفة وجماعة
من الفقهاء والمتكلمين، واختاره الآمدي واستدل عليه بما استدل
ورد ما يعارضه من أدلة المخالف وعليه يمكن أن يقال إنه سبحانه
وتعالى بيّن أولا حال الذين كفروا من الفريقين إلى وقت إتيان
الرسول صلّى الله عليه وسلم بقوله عز وجل لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ
مُنْفَكِّينَ أي عما هم عليه من الدين حسب اعتقادهم فيه إلى أن
يأتيهم الرسول، ولما لم يتعرض في ذلك على ذلك المذهب لحالهم
بعد إتيان الرسول عليه الصلاة والسلام بيّنه سبحانه بقوله جل
وعلا وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إلخ أي وما
تفرقوا فعرف بعض منهم الحق وآمن وعرفه بعض آخر منهم وعاند فلم
يؤمن في وقت من الأوقات إلّا من بعد ما جاءتهم البينة. وطوى
سبحانه ذكر حال المشركين لعلمه بالأولى من حالهم ثم إنه تعالى
ذكر بعد حال كل من الفريقين المؤمن والكافر وما له في الآخرة
بقوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إلخ وقوله تعالى إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا إلخ والذي أميل إليه مما تقدم كون الانفكاك
عن الوعد باتباع الحق، ولعل القرينة على اعتباره حالية ويحتمل
نحوا آخر من التوجيه وذلك بأن يجعل الكلام من باب الأعمال
فيقال: إن مُنْفَكِّينَ يقتضي متعلقا هو المنفك عنه
وتَأْتِيَهُمُ يقتضي فاعلا وليس في الكلام سوى البينة فكل
منهما يقتضيه فأعمل فيه تَأْتِيَهُمُ وحذف معمول مُنْفَكِّينَ
لدلالته عليه فكأنه قيل: لم يكن الذين كفروا من الفريقين
منفكين عن البينة حتى تأتيهم البينة، وحيث كان المراد بالبينة
الرسول كان الكلام في قوة لم يكونوا منفكين عن الرسول حتى
يأتيهم. ويراد بعدم الانفكاك عن الرسول حيث لم يكن موجودا إذ
ذاك عدم الانفكاك عن ذكره والوعد باتباعه ويكون باقي الكلام في
الآية على نحو ما سبق على تقدير إرادة
مُنْفَكِّينَ عما كانوا عليه من الوعد باتباع الحق وإن شئت قلت
في قوله تعالى وَما تَفَرَّقَ إلخ أنه على معنى وما تفرق الذين
أوتوا الكتاب عن الرسول وما انفكوا عنه بالإصرار على الكفر
إلّا من بعد ما جاءهم فتأمل جميع ما أتيناك به والله تعالى
أعلم بأسرار كتابه.
وقوله تعالى وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ جملة
حالية مفيدة لغاية قبح ما فعلوا والمراد بالأمر مطلق التكليف
ومتعلقه محذوف واللام للتعليل، والكلام في تعليل أفعاله تعالى
شهير والاستثناء مفرغ من أعم العلل أي والحال أنهم ما كلفوا في
كتابهم بما كلفوا به لشيء من الأشياء إلا لأجل عبادة الله
تعالى. وقال الفرّاء:
العرب تجعل اللام موضع أن في الأمر كأمرنا لنسلم وكذا في
الإرادة كيريد الله ليبين لكم فهي هنا بمعنى أن
(15/428)
أي إلّا بأن يعبدوا الله وأيّد بقراءة عبد
الله إلّا أن يعبدوا فيكون عبادة الله تعالى هي المأمور بها
والأمر على ظاهره والأول هو الأظهر وعليه قال علم الهدى أبو
منصور الماتريدي: هذه الآية علم منها معنى قوله تعالى وَما
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
[الذاريات: 56] أي إلا لأمرهم بالعبادة فيعلم المطيع من العاصي
وهو كما قال الشهاب كلام حسن دقيق. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
أي جاعلين دينهم خالصا له تعالى فلا يشركون به عز وجل فالدين
مفعول لمخلصين، وجوز أن يكون نصبا على إسقاط الخافض ومفعول
مُخْلِصِينَ محذوف أي جاعلين أنفسهم خالصة له تعالى في الدين.
وقرأ الحسن «مخلصين» بفتح اللام وحينئذ يتعين هذا الوجه في
الدين ولا يتسنى الأول. نعم جوز أن يكون نصبا على المصدر
والعامل لِيَعْبُدُوا أي ليدينوا الله تعالى بالعبادة الدين
حُنَفاءَ أي مائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى الإسلام وفيه
من تأكيد الإخلاص ما فيه، فالحنف الميل إلى الاستقامة وسمي
مائل الرجل إلى الاعوجاج أحنف للتفاؤل أو مجاز مرسل بمرتبتين.
وعن ابن عباس تفسير حنفاء هنا بحجاجا. وعن قتادة بمختتنين
محرمين لنكاح الأم والمحارم وعن أبي قلابة بمؤمنين بجميع الرسل
عليهم السلام. وعن مجاهد بمتبعين دين إبراهيم عليه السلام، وعن
الربيع بن أنس بمستقبلين القبلة بالصلاة وعن بعض بجامعين كل
الدين وحال الأقوال لا يخفى وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا
الزَّكاةَ إن أريد بهما ما في شريعتهم من الصلاة والزكاة
فالأمر بهما ظاهر وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في
كتابهم أن أمرهم باتباع شريعتنا أمر لهم بجميع أحكامها التي
هما من جملتها وَذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من عبادة الله تعالى
بالإخلاص وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وما فيه من البعد
للإشعار بعلو رتبته وبعد منزلته في الشرف دِينُ الْقَيِّمَةِ
أي الكتب القيمة فأل للعهد إشارة إلى ما تقدم في قوله تعالى
فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وإليه ذهب محمد بن الأشعث الطالقاني.
وقال الزجاج: أي الأمة القيمة أي المستقيمة. وقال غير واحد: أي
الملة القيمة والتغاير الاعتباري بين الدين والملة يصحح
الإضافة، وبعضهم لم يقدر موصوفا ويجعل الْقَيِّمَةِ بمعنى
الملة وقيل أي الحجج القيمة. وقرأ عبد الله رضي الله تعالى عنه
«الدين القيمة» فقيل التأنيث على تأويل الدين بالملة وقيل
الهاء للمبالغة.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ قيل بيان لحال الفريقين
في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا، وذكر المشركين لئلا يتوهم
اختصاص الحكم بأهل الكتاب حسب اختصاص مشاهدة شواهد النبوة في
الكتاب بهم، فالمراد بهؤلاء الذين كفروا هم المتقدمون في صدر
السورة وفي ذلك احتمال أشرنا إليه فلا تغفل. ومعنى كونهم في
نار جهنم أنهم يصيرون إليها يوم القيامة لكن لتحقق ذلك لم يصرح
به. وجيء بالجملة اسمية أو يقدر متعلق الجار بمعنى المستقبل أو
أنهم فيها الآن على إطلاق نار جهنم على ما يوجبها من الكفر
مجازا مرسلا بإطلاق اسم المسبب على السبب. وجوزت الاستعارة
وقيل إن ما هم فيه من الكفر والمعاصي عين النار إلّا أنها ظهرت
في هذه النشأة بصورة عرضية وستخلعها في النشأة الآخرة وتظهر
بصورتها الحقيقية وقد مر نظيره غير مرة خالِدِينَ فِيها حال من
المستكن في الخبر واشتراك الفريقين في دخول النار بطريق الخلود
لا ينافي تفاوت عذابهما في الكيفية فإن جهنم والعياذ بالله
تعالى دركات وعذابها ألوان، فيعذب أهل الكتاب في درك منها نوعا
من العذاب، والمشركون في درك أسفل منه بعذاب أشد لأن كفرهم أشد
من كفر أهل الكتاب، وكون أهل الكتاب كفروا بالرسول الله صلّى
الله عليه وسلم مع علمهم بنعوته الشريفة وصحة رسالته من كتابهم
ولم يكن للمشركين علم بذلك كعلمهم لا يوجب كون عذابهم أشد من
عذاب
(15/429)
المشركين ولا مساويا له فإن الشرك ظلم
عظيم. وقد انضم إليه من أنواع الكفر في المشركين مما ليس عند
أهل الكتاب وقد استدل بالآية على خلود الكفار مطلقا في النار
أُولئِكَ إشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما هم فيه من القبائح
المذكورة وما فيه من معنى البعد لبعد منزلتهم في الشر أي أولئك
البعداء المذكورون هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ أي الخلقية وقيل أي
البشر، والمراد قيل هم شر البرية أعمالا فتكون الجملة في حيّز
التعليل لخلودهم في النار. وقيل شرها مقاما ومصيرا فتكون
تأكيدا لفظاعة حالهم، ورجح الأول بأنه الموافق لما سيأتي إن
شاء الله تعالى في حق المؤمنين. وأيّا ما كان فالعموم على ما
قيل مشكل فإن إبليس وجنوده شر منهم أعمالا ومقاما وكذا
المشركون والمنافقون حيث ضموا إلى الشرك النفاق وقد قال سبحانه
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ
[النساء: 145] وقال بعض: لا يبعد أن يكون في كفار الأمم من هو
شر منهم كفرعون وعاقر الناقة. وأجاب بأن المراد بالبرية
المعاصرون لهم ولا يخفى أنه يبقى معه الإشكال بإبليس ونحوه.
وأجيب بأن ذلك إذا كان الحصر حقيقيا وأما إذا كان إضافيا
بالنسبة إلى المؤمنين بحسب زعمهم فلا إشكال إذ يكون المعنى
أولئك هم شر البرية لا غيرهم من المؤمنين كما يزعمون مآلا أو
حالا. وقيل: يراد بالبرية البشر. ويراد بشريتهم شريتهم بحسب
الأعمال ولا يبعد أن يكونوا بحسب ذلك هم شر جميع البرية لما أن
كفرهم مع العلم بصحة رسالته عليه الصلاة والسلام ومشاهدة
معجزاته الذاتية والخارجية ووعد الإيمان به عليه الصلاة
والسلام ومع إدخالهم به الشبهة في قلوب من يأتي بعدهم وتسببهم
به ضلال كثير من الناس إلى غير ذلك مما تضمنه واستلزمه من
القبائح شر كفر وأقبحه لا يتسنى مثله لأحد من البشر إلى يوم
القيامة، وكذا سائر أعمالهم من تحريف الكلم عن مواضعه وصد
الناس عنه صلّى الله عليه وسلم ومحاربتهم إياه عليه الصلاة
والسلام، وكون كفر فرعون وعاقر الناقة وفعلهما بتلك المثابة
غير مسلم ويلتزم دخول المنافقين في عموم الذين كفروا أو كون
كفرهم وأعمالهم دون كفر وأعمال المذكورين وفيه شيء لا يخفى
فتأمل. وقيل: ليس المراد بأولئك الذين كفروا أقواما مخصوصين
وهم المحدث عنهم أولا بل الأعم الشامل لهم ولغيرهم من سالف
الدهر إلى آخره وهو على ما فيه لا يتم بدون حمل البرية على
البشر فلا تغفل. وقرأ الأعرج وابن عامر ونافع «البريئة» هنا
وفيما بعد بالهمزة فقيل هو الأصل من برأهم الله تعالى بمعنى
ابتدأهم واخترع خلقهم فهي فعيلة بمعنى مفعولة، لكن عامة العرب
إلّا أهل مكة التزموا تسهيل الهمزة بالإبدال والإدغام فقالوا:
البرية كما قالوا الذرية والخابية. وقيل: ليس بالأصل وإنما
البرية بغير همز من البرى المقصور يعني التراب فهو أصل
برأسه والقراءتان مختلفتان أصلا ومادة ومتفقتان معنى في رأي
وهو أن يكون المراد عليهما البشر، ومختلفان فيه أيضا في رأي
آخر وهو أن يكون المراد بالمهموز الخليفة الشاملة للملائكة
والجن كالبشر، وبغير المهموز البشر المخلوقون من التراب فقط
وأيّا ما كان فليست القراءة بالهمز خطأ كيف وقد نقلت عمن ثبتت
عصمته مع أن الهمز لغة قوم من أنزل عليه الكتاب صلّى الله عليه
وسلم.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بيان لمحاسن
أحوال المؤمنين إثر بيان سوء حال الكفرة جريا على السنة
القرآنية من شفع الترهيب بالترغيب أو هو على ما أشرنا إليه
سابقا. وقال عصام الدين: إن قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا إلخ كالتأكيد لقوله تعالى ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ
إذا لا تحقيق لكونها الملة القيمة فوق أن يكون جزاء المعرض هذا
وجزاء الممتثل ذلك إلّا أن ذلك اقتضى قوله تعالى إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا إلخ وكأنه فصل لتخييل عدم المناسبة بين
الجملتين لا في المسند إليه ولا في المسند أُولئِكَ أي
المنعوتون بما هو
(15/430)
الغاية القاصية من الشرف والفضيلة من
الإيمان والطاعة هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ وقرأ حميد وعامر بن
عبد الواحد «هم خيار البرية» وهو جمع خير كجياد وجيد
جَزاؤُهُمْ بمقابلة ما لهم من الإيمان والطاعات عِنْدَ
رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها أَبَداً تقدمت نظائره. وفي تقديم مدحهم بخير
البرية وذكر الجزاء المؤذن يكون ما منح في مقابلة ما وصفوا به
وبيان كونه من عنده تعالى والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن
التربية والتبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرهم وجمع
الجنات وتقييدها بالإضافة وبما يزيدها نعيما، وتأكيد الخلود
بالأبد من الدلالة على غاية حسن حالهم ما لا يخفى. والظاهر أن
جملة هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ خبر اسم الإشارة وكذا ما بعد
وزعم بعض الأجلّة أن الأنسب بالعديل السابق أن تجعل معترضة
ويكون الخبر ما بعدها وفيه نظر. وقوله تعالى رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ استئناف نحوي وإخبار عمل تفضل عز وجل به زيادة على ما
ذكر من أجزية أعمالهم، ويجوز أن يكون بيانيا جوابا لمن يقول
ألهم فوق ذلك أمر آخر وجوز أن يكون خبرا بعد خبر أو حالا
بتقدير قد أو بدونه، وجوز أن يكون دعاء لهم من ربهم وهو مجاز
عن الإيجاد مع زيادة التكريم وهو خلاف الظاهر ويبعده عطف قوله
تعالى وَرَضُوا عَنْهُ عليه وعلل رضاهم بأنهم بلغوا من المطالب
قاصيتها ومن المآرب ناصيتها، وأتيح لهم ما لا عين رأت ولا أذن
سمعت ولا خطر على قلب بشر ذلِكَ أي ما ذكره من الجزاء والرضوان
لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ فإن الخشية ملاك السعادة الحقيقية
والفوز بالمراتب العلية إذ لولاها لم تترك المناهي والمعاصي
ولا استعد ليوم يؤخذ فيه بالأقدام والنواصي. وفيه إشارة إلى أن
مجرد الإيمان والعمل الصالح ليس موصلا إلى أقصى المراتب ورضوان
من الله أكبر، بل الموصل له خشية الله تعالى وإِنَّما يَخْشَى
اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] ولذا قال الجنيد
قدس سره: الرضا على قدر قوة العلم والرسوخ في المعرفة وقال
عصام الدين: الأظهر أن ذلك إشارة إلى ما يترتب عليه الجزاء
والرضوان من الإيمان والعمل الصالح، وتعقب بأن فيه غفلة عما
ذكر وعن أنه لا يكون حينئذ لقوله تعالى ذلِكَ إلخ كبير فائدة
والتعرض لعنوان الربوبية المعربة عن المالكية والتربية للإشعار
بعلة الخشية والتحذير من الاغترار بالتربية. واستدل بقوله
تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ على أن البشر أفضل من الملك
لظهور أن المراد بالذين آمنوا المؤمنون من البشر، وفي الآثار
ما يدل على ذلك.
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعا: «أتعجبون لمنزلة
الملائكة من الله تعالى والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن
عند الله تعالى يوم القيامة أعظم من منزلة الملك واقرؤوا إن
شئتم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله من أكرم
الخلق على الله تعالى؟ قال: يا عائشة أما تقرئين إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ
خَيْرُ الْبَرِيَّةِ»
وأنت تعلم أن هذا ظاهر في أن المراد بالبرية الخليقة مطلقا
ليتم الاستدلال ثم إنه يحتاج أيضا إلى إدخال الأنبياء عليهم
السلام في عموم الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن لا يراد بهم
قوم بخصوصهم إذ لو لم يدخلوا لزم تفضيل عوام البشر أي الذين
ليسوا بأنبياء منهم على خواص الملائكة أعني رسلهم عليهم السلام
وذلك مما لم يذهب إليه أحد من أهل السنة بل هم يكفرون من يقول
به فليتفطن. والإمام قد ضعف الاستدلال في تفسيره بما لا يخلو
عن بحث، ولعل الأبعد عن القيل والقال جعل الحصر إضافيا بالنسبة
إلى ما يزعمه أهل الكتاب والمشركون قالا أو حالا من أنهم هم
خير البرية وكذا يجعل الحصر السابق بالنسبة إلى ما يزعمونه من
أن المؤمنين هم شر البرية وصحة ما سبق من الآثار في حيّز
المنع. ثم الظاهر أن المراد ب الَّذِينَ آمَنُوا إلخ مقابل
الَّذِينَ كَفَرُوا والأقوم من الذين
(15/431)
أنصفوا بما في حيّز الصلة بخصوصهم وزعم
بعضهم أنهم مخصوصون.
فقد أخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: قال لي
رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألم تسمع قول الله تعالى
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ
هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ؟ هم أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض
إذا جثت الأمم للحساب يدعون غرا محجلين» وروى نحوه الإمامية عن
يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب الأمير كرم الله تعالى وجهه
. وفيه أنه عليه الصلاة والسلام قال ذلك له عند الوفاة ورأسه
الشريف على صدره رضي الله تعالى عنه.
وأخرج ابن مردويه أيضا عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ قال رسول الله صلّى الله عليه
وسلم لعلي رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه: «هو أنت وشيعتك يوم
القيامة راضين مرضيين»
. وذلك ظاهر في التخصيص وكذا ما ذكره الطبرسي الإمامي في مجمع
البيان عن مقاتل ابن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال في
الآية: نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه وأهل بيته. وهذا إن
سلمت صحته لا محذور فيه إذ لا يستدعي التخصيص بل الدخول في
العموم وهم بلا شبهة داخلون فيه دخولا أوليا وأما ما تقدم فلا
تسلم صحته فإنه يلزم عليه أن يكون علي كرم الله تعالى وجهه
خيرا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم والإمامية وإن قالوا
إنه رضي الله تعالى عنه خير من الأنبياء حتى أولي العزم عليهم
السلام ومن الملائكة حتى المقربين عليهم السلام لا يقولون
بخيريته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإن قالوا بأن
البرية على ذلك مخصوصة بمن عداه عليه الصلاة والسلام للدليل
الدال على أنه صلّى الله عليه وسلم خير منه كرم الله تعالى
وجهه قيل إنها مخصوصة أيضا بمن عدا الأنبياء والملائكة ومن قال
أهل السنة بخيريته للدليل الدال على خيرتيهم. وبالجملة لا
ينبغي أن يرتاب في عدم تخصيص الذين آمنوا وعملوا الصالحات
بالأمير كرم الله تعالى وجهه وشيعته ولا به رضي الله تعالى عنه
وأهل بيته وإن دون إثبات صحة تلك الأخبار خرط القتاد والله
تعالى أعلم.
ثم إن الروايات في أن هذه السورة قد نسخ منها كثير كثيرة منها
أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححه عن أبيّ أن رسول الله
صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك
القرآن» فقرأ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ فقرأ فيها: «ولو أن ابن آدم
سأل واديا من مال فأعطيه يسأل ثانيا، ولو سأل ثانيا فأعطيه
يسأل ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ويتوب الله على
من تاب وإن الدين عند الله الحنيفية غير المشركة ولا اليهودية
ولا النصرانية ومن يفعل ذلك فلن يكفره»
.
وفي بعض الآثار أن النبي صلّى الله عليه وسلم اقرأه هكذا ما
كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم
البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة إن أقوم
الدين الحنيفية مسلمة غير مشركة ولا يهودية ولا نصرانية ومن
يعمل صالحا فلن يكفره وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلّا من
بعد ما جاءتهم البينة إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله
وفارقوا الكتاب لما جاءهم أولئك عند الله شر البرية ما كان
الناس إلّا أمة واحدة ثم أرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين
يأمرون الناس يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويعبدون الله وحده
أولئك عند الله خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من
تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك
لمن خشي ربه
. أخرج ذلك ابن مردويه عن أبيّ رضي الله تعالى عنه وهو مخالف
لما صح عنه فلا يعول عليه كما لا يخفى على العارف بعلم الحديث.
(15/432)
إِذَا زُلْزِلَتِ
الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ
أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3)
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ
أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا
لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ (8)
سورة الزّلزلة
ويقال سورة إذا زلزلت وهي مكية في قول ابن عباس ومجاهد وعطاء،
ومدنية في قول قتادة ومقاتل.
واستدل له في الإتقان بما
أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه،
قال: لما نزلت فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [الزلزلة: 7]
إلخ قلت: يا رسول الله إني لراء عملي؟ قال: «نعم» قلت: تلك
الكبار الكبار؟ قال: «نعم» قلت: الصغار الصغار؟ قال: «نعم» .
قلت: وا تكل أمي؟ قال: «أبشر يا أبا سعيد فإن الحسنة بعشر
أمثالها» الحديث
. وأبو سعيد لم يكن إلّا بالمدينة ولم يبلغ إلا بعد أحد. وآيها
ثمان في الكوفي والمدني الأول وتسع في الباقية
وصح في حديث الترمذي والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس مرفوعا:
«إذا زلزلت تعدل نصف القرآن»
. وجاء في حديث آخر تسميتها ربعا ووجه ما في الأول بأن أحكام
القرآن تنقسم إلى أحكام الدنيا وأحكام الآخرة وهذه السورة
تشتمل على أحكام الآخرة إجمالا وزادت على القارعة بإخراج
الأثقال وبحديث الأخبار وما في الآخر بأن الإيمان بالبعث الذي
قررته هذه السورة ربع الإيمان
في الحديث الذي رواه الترمذي: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع:
يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن
بالموت، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر» .
وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بهذا المقام، وكأنه لما ذكر
عز وجل في السورة السابقة جزاء الفريقين المؤمنين والكافرين
كان ذلك كالمحرك للسؤال عن وقته فبينه جل شأنه في هذه السورة
فقال عز من قائل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا زُلْزِلَتِ
الْأَرْضُ أي حركت تحريكا عنيفا متداركا متكررا زِلْزالَها أي
الزلزال المخصوص بها الذي تقتضيه بحسب المشيئة الإلهية للبنية
على الحكم البالغة وهو الزلزال الشديد الذي ليس بعده زلزال
فكأن ما سواه ليس زلزالا بالنسبة إليه أو زلزالها العجيب الذي
لا يقادر قدره، فالاضافة على الوجهين للعهد،. ويجوز أن يراد
الاستغراق لأن زلزالا مصدر مضاف فيعم أي زلزالها كله وهو
استغراق
(15/433)
عرفي قصد به المبالغة وهو مراد من قال أي
زلزالها الداخل في حيّز الإمكان أو عنى بذلك العهد أيضا. وقرأ
الجحدري وعيسى «زلزالها» بفتح الزاي وهو عند ابن عطية مصدر
كالزلزال بالكسر. وقال الزمخشري المكسور مصدر والمفتوح اسم
للحركة المعروفة، وانتصب هاهنا على المصدر تجوزا لسده مسد
المصدر. وقال أيضا:
ليس في الأبنية فعلال بالفتح إلّا في المضاعف وذكروا أنه يجوز
في ذلك الفتح والكسر إلّا أن الأغلب فيه إذا فتح أن يكون بمعنى
اسم الفاعل كصلصال بمعنى مصلصل وقضقاض بمعنى مقضقض ووسواس
بمعنى موسوس وليس مصدرا عند ابن مالك، وأما في غير المضاعف فلم
يسمع إلّا نادرا سواء كان صفة أو اسما جامدا، وبهرام وبسطام
معربان إن قيل بصحة الفتح فيهما ومن النادر خزعال بمعجمتين وهو
الناقة التي بها ظلع ولم يثبت بعضهم غيره. وزاد ثعلب قهقازا
وهو الحجر الصلب، وقيل: هو جمع وقيل هو لغة ضعيفة والفصيحة
قهقر بتشديد الراء. وزاد آخر قسطالا وهو الغبار وهذا الزلزال
على ما ذهب إليه جمع عند النفخة الثانية لقوله تعالى:
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها فقد قال ابن عباس: أي
موتاها. وقال النقاش والزجاج ومنذر بن سعيد: أي كنوزها
وموتاها. وروي عن ابن عباس أيضا: وهذه الكنوز على هذا القول
غير الكنوز التي تخرج أيام الدجال على ما وردت به الأخبار وذلك
بأن تخرج بعضا في أيامه وبعضا عند النفخة الثانية ولا بعد في
أن تكون بعد الدجال كنوز أيضا فتخرجها مع ما كان قد بقي يومئذ.
وقيل: هو عند النفخة الأولى وأثقالها ما في جوفها من الكنوز أو
منها ومن الأموات ويعتبر الوقت ممتدا وقيل: يحتمل أن يكون
إخراج الموتى كالكنوز عند النفخة الأولى وإحياؤها في النفخة
الثانية وتكون على وجه الأرض بين النفختين، وأنت تعلم أنه خلاف
ما تدل عليه النصوص وقيل إنها تزلزل عند النفخة الأولى فتخرج
كنوزها وتزلزل عند الثانية فتخرج موتاها. وأريد هنا بوقت
الزلزال ما يعم الوقتين. واقتصر بعضهم على تفسير الأثقال
بالكنوز مع كون المراد بالوقت وقت النفخة الثانية وقال: تخرج
الأرض كنوزها يوم القيامة ليراها أهل الموقف فيتحسر العصاة إذا
نظروا إليها حيث عصوا الله تعالى فيها ثم تركوها لا تغني عنهم
شيئا. وفي الحديث تلقي الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوانات من
الذهب والفضة فيجيء القاتل فيقول: في هذا قتلت ويجيء القاطع
فيقول: في هذا قطعت رحمي ويجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدي
ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا وقيل إن ذلك لتكوى بها جباه
الذين كنزوا وجنوبهم وظهورهم. وأيّا ما كان فالأثقال جمع ثقل
بالتحريك وهو على ما في القاموس متاع المسافر وكل نفيس مصون،
وتجوز به هاهنا على سبيل الاستعارة عن الثاني ويجوز أن يكون
جمع ثقل بكسر فسكون بمعنى حمل البطن على التشبيه والاستعارة
أيضا كما قال الشريف المرتضى في الدرر، وأشار إلى أنه لا يطلق
على ما ذكر إلّا بطريق الاستعارة ومنهم من فسر الأثقال هاهنا
بالأسرار وهو مع مخالفته للمأثور بعيد وإظهار الأرض في موقع
الإضمار لزيادة التقرير وقيل للإيماء إلى تبديل الأرض غير
الأرض، أو لأن إخراج الأرض حال بعض أجزائها. والظاهر أن
إخراجها ذلك مسبب عن الزلزال كما ينفض البساط ليخرج ما فيه من
الغبار ونحوه وإنما اختيرت الواو على الفاء تفويضا لذهن السامع
كذا قيل. ولعل الظاهر أنه لم ترد السببية والمسببية بل ذكر كل
مما ذكر من الحوادث من غير تعرض لتسبب شيء منها على الآخر.
وَقالَ الْإِنْسانُ أي كل فرد من أفراد الإنسان لما يبهرهم من
الطامة التامة ويدهمهم من الداهية العامة ما لَها وزلزلت هذه
المرتبة من الزلزال وأخرجت ما فيها من الأثقال استعظاما لما
شاهدوه من الأمر الهائل وقد سيرت الجبال في الجو وصيرت هباء.
وذهب غير واحد إلى أن المراد بالإنسان الكافر غير المؤمن
بالبعث
(15/434)
والأظهر هو الأول على أن المؤمن يقول ذلك
بطريق الاستعظام والكافر بطريق التعجب يَوْمَئِذٍ بدل من إذا
وقوله تعالى تُحَدِّثُ أَخْبارَها أي الأرض واحتمال كون الفاعل
المخاطب كما زعم الطبرسي لا وجه له عامل فيهما. وقيل: العامل
مضمر يدل عليه مضمون الجمل بعد والتقدير يحشرون إذا زلزلت
ويَوْمَئِذٍ متعلق ب تُحَدِّثُ وإِذا عليه لمجرد الظرفية. وقيل
هي نصب على المفعولية لا ذكر محذوفا أي اذكر ذلك الوقت فليست
ظرفية ولا شرطية، وجوز أن تكون شرطية منصوب بجواب مقدر أي يكون
ما لا يدرك كنهه أو نحوه والمراد يوم إذا زلزلت زلزالها وأخرجت
أثقالها وقال الإنسان ما لها تحدث الخلق ما عندها من الأخبار
وذلك بأن يخلق الله تعالى فيها حياة وإدراكا وتتكلم حقيقة
فتشهد بما عمل عليها من طاعة أو معصية وهو قول ابن مسعود
والثوري وغيرهما ويشهد له الحديث الحسن الصحيح الغريب.
أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله
صلّى الله عليه وسلم هذه الآية يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ
أَخْبارَها ثم قال: «أتدرون ما أخبارها» ؟ قالوا:
الله ورسوله أعلم. قال: «فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة
بما عمل على ظهرها تقول عمل يوم كذا كذا فهذه أخبارها»
والباء في قوله تعالى بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها للسببية أي
تحدث بسبب إيحاء ربك لها وأمره سبحانه إياها بالتحديث واللام
بمعنى إلى أي أوحى إليها لأن المعروف تعدي الوحي بها كقوله
تعالى وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل: 68] لكن قد
يتعدى باللام كما في قول العجاج يصف الأرض:
أوحى لها القرار فاستقرّت ... وشدها بالراسيات الثّبّت
ولعل اختيارها لمراعاة الفواصل. وجوز أن تكون اللام للتعليل أو
المنفعة لأن الأرض بتحديثها بعمل العصاة يحصل لها تشف منهم
بفضحها إياهم بذكر قبائحهم والموحى إليه هي أيضا، والوحي يحتمل
أن يكون وحي إلهام وأن يكون وحي إرسال بأن يرسل سبحانه إليها
رسولا من الملائكة بذلك. وقال الطبري وقوم:
التحديث استعارة أو مجاز مرسل لمطلق دلالة حالها والإيحاء
إحداث ما تدل به فيحدث عز وجل فيها من الأحوال ما يكون به
دلالة تقوم مقام التحديث باللسان حتى ينظر من يقول ما لها إلى
تلك الأحوال فيعلم لم زلزلت ولم لفظت الأموات وإن هذا ما كانت
الأنبياء عليهم السلام ينذرونه ويحذرون منه وما يعلم هو
أخبارها.
وقيل: الإيحاء على تقدير كون التحديث حقيقيا أيضا مجاز عن
إحداث حالة ينطقها سبحانه بها كإيجاد الحياة وقوة التكلم
والإخبار على ما سمعت آنفا. وقال يحيى بن سلام: تحدث بما أخرجت
من أثقالها ويشهد له ما
في حديث ابن ماجة في سننه: «تقول الأرض يوم القيامة يا رب هذا
ما استودعتني»
. وعن ابن مسعود تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان ما لها
فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى وأمر الآخرة قد أتى فيكون ذلك
جوابا لهم عند سؤالهم. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون المعنى
تحدث بتحديث أن ربك أوحى لها أخبارها على أن تحديثها بأن ربك
أوحى لها تحديث بإخبارها كما تقول نصحتني كل نصيحة بأن نصحتني
في الدين فأخبارها عليه هو أن ربك أوحى لها والباء تجريدية
مثلها في قولك لئن لقيت فلانا لتلقين به رجلا متناهيا في
الخير.
وكان الظاهر تحدث بخبرها بالإفراد وكذا على ما قبله من الوجهين
لكن جمع للمبالغة كما يشير إليه المثال ونحوه قول الشاعر:
فأنالني كلّ المنى بزيارة ... كانت مخالسة كخطفة طائر
فلو استطعت خلعت على الدّجى ... لتطول ليلتنا- سواد الناظر
ولا يخفى بعده. وبالغ أبو حيان في الحط عليه، فقال: هو عفش
ينزه القرآن عنه. وأراد بالعفش- بعين
(15/435)
مهملة وفاء وشين معجمة- ما يدنس المنزل من
الكناسة وهي كلمة تستعملها في ذلك عوام أهل المغرب وليس كما
قال. وجوز أيضا أن يكون بِأَنَّ رَبَّكَ إلخ بدلا من
أَخْبارَها كأنه قيل يومئذ تحدث بأن ربك أوحى لها لأنك تقول
حدثته كذا وحدثته بكذا فيصح إبدال بِأَنَّ إلخ من أَخْبارَها
وأن أحدهما مجرور والآخر منصوب لأنه يحل محله في بعض
الاستعمالات وليس ذلك في الامتناع خلافا لأبي حيان كاستغفرت
الذنب العظيم بنصب الذنب وجر العظيم على أنه نعت له باعتبار
قولهم: استغفرت من الذنب لأن البدل هو المقصود فهو في قوة عامل
آخر بخلاف النعت. نعم هو أيضا خلاف الظاهر وبعد كل ذلك اللائق
أن لا يعدل عن المأثور لا سيما إذا صح عن رسول الله صلّى الله
عليه وسلم بقي هاهنا بحث وهو أنهم اختلفوا في نحو:
حدثت هل هو متعد إلى مفعول واحد أو إلى أكثر؟ فذهب الزمخشري
وغيره ونقل عن سيبويه إلى الثاني وهو عندهم ملحق بأفعال القلوب
فينصب مفعولين كحدثت زيدا الخبر، أو ثلاثة كحدثته عمرا قائما
فأخبارها عليه هو المفعول الثاني والمفعول الأول محذوف كما
أشرنا إليه ولم يذكر لأنه لا يتعلق بذكره غرض إذا الغرض تهويل
اليوم وأنه مما ينطق فيه الجماد بقطع النظر عن المحدث كائنا من
كان. وقال الشيخ ابن الحاجب:
إنما هو متعدّ لواحد وما جاء بعده لتعين المفعول المطلق فعمرا
قائما في حدثت زيدا عمرا قائما منصوب لوقوعه موقع المصدر لا
لكونه مفعولا ثانيا وثالثا ولا يقال كيف يصح أن يقع ما ليس
بفعل في المعنى أعني عمرا قائما مصدرا لأنه لم يكن مصدرا
باعتبار كونه عمرا قائما ولكن باعتبار كونه حديثا مخصوصا
فالوجه الذي صحح الإخبار به عن الحديث إذا قلت: حديث زيد عمرو
قائم هو الذي صحح وقوعه مصدرا فإخبارها عليه في موقع المفعول
والمفعول به محذوف لما تقدم، بل قال بعضهم: إنك إذا قلت حدثته
حديثا أو خبرا فلا نزاع في أنه مفعول مطلق، والظاهر أن الإخبار
في زعمه كذلك وتعقب ذلك في الكشف بأن ما ذكره الشيخ غير مسلم
فإنه لم يفرق بين التحديث والحديث والأول هو المفعول المطلق
كيف وهو يجر بالباء فتقول: حدثته الخبر وبالخبر ومعلوم أن ما
دخل عليه الباء لا يجوز أن يكون مفعولا مطلقا وقد يقال كون
الشيخ لم يفرق في حيّز المنع وكيف يخفى مثل ذلك على مثله لكنه
قائل بأن أثر المصدر ومتعلقه قد سدّ مسده فيما ذكر كما سد مسده
آلته في نحو ضربته سوطا ولعل ما قرره في غير ما دخلته الباء.
وقال الطيبي:
يمكن أن يقال إن حدث وأخواتها متعديات إلى مفعول واحد حقيقة
وجعلها متعديات إلى ثلاثة أو إلى اثنين تجوز أو تضمين لمعنى
الإعلام واستأنس له بكلام نقله عن المفصل وكلام نقله عن صاحب
الإقليد فتأمل. وقرأ ابن مسعود «تنبىء أخبارها» وسعيد بن جبير
«تنبىء» بالتخفيف.
يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ ما ذكر وهو يقع ظرفا لقوله تعالى
يَصْدُرُ النَّاسُ يخرجون من قبورهم بعد أن دفنوا فيها إلى
موقف الحساب أَشْتاتاً متفرقين بحسب طبقاتهم بيض الوجوه آمنين
وسود الوجود فزعين وراكبين وماشين ومقيدين بالسلاسل وغير
مقيدين. وعن بعض السلف متفرقين إلى سعيد وأسعد وشقي وأشقى.
وقيل: إلى مؤمن وكافر وعن ابن عباس: أهل الإيمان على حدة وأهل
كل دين على حدة وجوز أن يكون المراد كل واحد وحده لا ناصر له
ولا عاضد كقوله تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى [الأنعام:
94] وقيل متفرقين بحسب الأقطار لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ أي
ليبصروا جزاء أعمالهم خيرا كان أو شرا فالرؤية بصيرية والكلام
على حذف مضاف أو على أنه تجوز بالأعمال عما يتسبب عنها من
الجزاء وقدر بعضهم كتب أو صحائف وقال آخر: لا حاجة إلى التأويل
والأعمال تجسم نورانية وظلمانية بل يجوز رؤيتها مع عرضيتها وهو
كما ترى.
وقيل المراد ليعرفوا أعمالهم ويوقفوا عليها تفصيلا عند الحساب
فلا يحتاج إلى ما ذكر أيضا. وقال النقاش
(15/436)
الصدور مقابل الورود فيردون المحشر ويصدرون
منه متفرقين فقوم إلى الجنة وقوم إلى النار ليروا جزاء أعمالهم
من الجنة والنار وليس بذاك. وأيّا ما كان فقوله تعالى
لِيُرَوْا متعلق ب يَصْدُرُ وقيل: هو متعلق ب أَوْحى لَها وما
بينهما اعتراض. وقرأ الحسن والأعرج وقتادة وحماد بن سلمة
والزهري وأبو حيوة وعيسى ونافع في رواية «ليروا» بفتح الياء.
وقوله تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ تفصيل ليروا
والذرة نملة صغيرة حمراء رقيقة ويقال إنها تجري إذا مضى لها
حول وهي علم في القلة. قال امرؤ القيس.
من القاصرات الطرف لو دب محول ... من الذر فوق الإتب منها
لأثرا
وقيل: الذر ما يرى في شعاع الشمس من الهباء. وأخرج هناد عن ابن
عباس أنه أدخل يده في التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها. وقال: كل
واحدة من هؤلاء مثقال ذرة وانتصاب خَيْراً وشَرًّا على التمييز
لأن مثقال ذرة مقدار. وقيل على البدلية من مِثْقالَ والظاهر أن
مَنْ في الموضعين عامة للمؤمن والكافر وأن المراد من رؤية ما
يعادل مثقال ذرة من خير أو شر مشاهدة جزائه بأن يحصل له ذلك.
واستشكل بأن ذلك يقتضي إثابة الكافر بحسناته وما يفعله من
الخير مع أنهم قالوا: أعمال الكفرة محبطة وادعى في شرح المقاصد
الإجماع على ذلك كيف وقد قال سبحانه وَقَدِمْنا إِلى ما
عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً
[الفرقان: 23] وقال عز وجل أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ
فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها
وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [هود: 16] وقال تعالى مَثَلُ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ الآية.
[إبراهيم: 18] وكون خيرهم الذي يرونه تخفيف العذاب يدفعه قوله
تعالى فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ [البقرة: 86، النحل:
85] وقوله سبحانه زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما
كانُوا يُفْسِدُونَ [النحل: 88] ويقتضي أيضا عقاب المؤمن
بصغائره إذا اجتنب الكبائر مع أنهم قالوا إنها مكفرة حينئذ
لقوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ
نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النساء: 31] وقول ابن
المنير: إن الاجتناب لا يوجب التكفير عند الجماعة بل التوبة أو
مشيئة الله تعالى ليس بشيء لأن التوبة والاجتناب سواء في حكم
النص ومشيئة الله تعالى هي السبب الأصيل فالتزم بعضهم كون
المراد بمن الأولى السعداء، وبمن الثانية الأشقياء بناء على أن
فَمَنْ يَعْمَلْ إلخ تفصيل ل يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً وكان
مفسرا بما حاصله فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي
السَّعِيرِ [الشورى: 70] فالمناسب أن يرجع كل فقرة إلى فرقة
لتطابق المفصل المجمل ولأن الظاهر قوله سبحانه فَمَنْ يَعْمَلْ
وَمَنْ يَعْمَلْ بتكرير أداة الشرط يقتضي التغاير بين العاملين
وقال آخرون بالعموم إلّا أن منهم من قال: في الكلام قيد مقدر
ترك لظهوره والعلم به من آيات أخر. فالتقدير: فمن يعمل مثقال
ذرة خيرا يره إن لم يحبط ومن يعلم مثقال ذرة شرا يره إن لم
يكفر. ومنهم من جعل الرؤية أعم مما تكون في الدنيا وما تكون في
الآخرة، فالكافر يرى جزاء خيره في الدنيا وجزاء شره في الآخرة
والمؤمن يرى جزاء شره في الدنيا وجزاء خيره في الآخرة فقد روى
البغوي وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن محمد بن كعب القرظي
أنه قال: فمن يعمل مثقال ذرة من خير وهو كافر فإنه يرى ثواب
ذلك في الدنيا في نفسه وأهله وماله حتى يبلغ الآخرة وليس عليه
فيها خير، ومن يعمل مثقال ذرة من شر وهو مؤمن كوفىء ذلك في
الدنيا في نفسه وأهله وماله حتى يبلغ الآخرة وليس عليه فيها
شر.
وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب وابن أبي حاتم
وجماعة عن أنس قال: بينما أبو بكر
(15/437)
الصديق رضي الله تعالى عنه يأكل مع النبي
صلّى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ
ذَرَّةٍ الآية فرفع أبو بكر يده وقال: يا رسول الله إني لراء
ما عملت من مثقال ذرة من شر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «يا
أبا بكر أرأيت ما ترى في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر
ويدخر لك مثاقيل ذر الخير حتى توفاه يوم القيامة» .
وفي رواية ابن مردويه عن أبي أيوب أنه صلّى الله عليه وسلم قال
له إذ رفع يده: «من عمل منكم خيرا فجزاؤه في الآخرة، ومن عمل
منكم شرا يره في الدنيا مصيبات وأمراضا، ومن يكن فيه مثقال ذرة
من خير دخل الجنة»
. ومنهم من قال:
المراد من رؤية ما يعادل ذلك من الخير والشر مشاهدة نفسه عن
غير أن يعتبر معه الجزاء ولا عدمه بل يفوض كل منهما إلى سائر
الدلائل الناطقة بعفو صغائر المؤمن المجتذب عن الكبائر وإثباته
بجميع حسناته وبحبوط حسنات الكافر ومعاقبته بجميع معاصيه وبه
يشعر ما أخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث عن ابن
عباس من قوله في الآية ليس مؤمن ولا كافر عمل خيرا وشرا في
الدنيا إلّا أراه الله تعالى إياه فأما المؤمن فيرى حسناته
وسيئاته فيغفر له من سيئاته ويثيبه بحسناته، وأما الكافر فيريه
حسناته وسيئاته فيردّ حسناته ويعذبه بسيئاته.
واختار هذا الطيبي فقال إنه يساعده النظم والمعنى والأسلوب أما
النظم فإن قوله تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ إلخ تفصيل لما عقب به من
قوله سبحانه يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا
أَعْمالَهُمْ فيجب التوافق والأعمال جمع مضاف يفيد الشمول
والاستغراق ويصدر الناس مقيد بقوله عز وجل أَشْتاتاً فيفيد
أنهم على طرائق شتى للنزول في منازلهم من الجنة والنار بحسب
أعمالهم المختلفة ومن ثم كانت الجنة ذات درجات والنار ذات
دركات. وأما المعنى فإنها وردت لبيان الاستقصاء في عرض الأعمال
والجزاء عليها كقوله تعالى وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ
لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ
كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى
بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء: 47] وأما الأسلوب فإنها من الجوامع
الحاوية لفوائد الدين أصلا وفرعا
روينا عن البخاري ومسلم عن أبي هريرة سئل رسول الله صلّى الله
عليه وسلم عن الحمر أي عن صدقتها قال: «لم ينزل عليّ فيها شيء
إلّا هذه الآية الجامعة الفاذة»
أي المتفردة في معناها فتلاها عليه الصلاة والسلام.
وروى الإمام أحمد عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق أنه أتى النبي
صلّى الله عليه وسلم فقرأ عليه الآية فقال: «حسبي لا أبالي أن
لا أسمع من القرآن غيرها»
انتهى. وأقول الظاهر عموم من وكون المراد رؤية الجزاء كما تقدم
وكذا الظاهر كون ذلك في الآخرة ولا إشكال وذلك لأن الفقرة
الأولى وعد والثانية وعيد، ومذهبنا أن الوعد لازم الوقوع تفضلا
وكرما والوعيد ليس كذلك فيفوض أمر الشر في الثانية على الدلائل
وهي ناطقة بأنه إن كان كفرا لا يغفر وإن كان صغيرة من مؤمن
مجتنب الكبائر يكفر، وإن كان كبيرة من مؤمن أو صغيرة منه وهو
غير مجتنب الكبائر فتحت المشيئة. وخبرا أنس وأبي أيوب السابقان
لا يأبيان ذلك بعد التأمل ولا يبعد فيما أرى أن يكون ما عدا
الكفر من الكافر كذلك. وأما أمر الخير فباق على ما يقتضيه
الظاهر وهو بالنسبة إلى المؤمن ظاهر، وأما بالنسبة إلى الكافر
فتخفيف العذاب للأحاديث الصحيحة فقد ورد أن حاتما يخفف الله
تعالى عنه لكرمه، وأن أبا لهب كذلك لسروره بولادة النبي صلّى
الله عليه وسلم وإعتاقه لجاريته ثويبة حين بشرته بذلك، والحديث
في تخفيف عذاب أبي طالب مشهور وما يدل على عدم تخفيف العذاب
فالعذاب فيه محمول على عذاب الكفر بحسب مراتبه فهو الذي لا
يخفف، والعذاب الذي دلت الأخبار على تخفيفه غير ذلك، ومعنى
إحباط أعمال الكفار أنها لا تنجيهم من العذاب المخلد كأعمال
غيرهم وهو معنى كونها سرابا وهباء. ودعوى الإجماع على إحباطها
بالكلية غير تامة كيف وهم مخاطبون بالتكاليف في المعاملات
والجنايات اتفاقا. والخلاف إنما هو في خطابهم في غيرها من
الفروع ولا شك أنه لا معنى للخطاب بها إلا عقاب تاركها وثواب
فاعلها. وأقله التخفيف وإلى هذا ذهب العلامة شهاب الدين
(15/438)
الخفاجي عليه الرحمة ثم قال: وما في
التبصرة وشرح المشارق وتفسير الثعلبي من أن أعمال الكفرة
الحسنة التي لا يشترط فيها الإيمان كإنجاء الغريق وإطفاء
الحريق وإطعام ابن السبيل يجزون عليها في الدنيا ولا تدخر لهم
في الآخرة كالمؤمنين بالإجماع للتصريح به في الأحاديث، فإن عمل
أحدهم في كفره حسنات ثم أسلم اختلف فيه هل يثاب عليها في
الآخرة أم لا بناء على أن اشتراط الإيمان في الاعتداد بالأعمال
وعدم إحباطها هل هو بمعنى وجود الإيمان عند العمل أو وجوده ولو
بعد
لقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث: «أسلمت على ما سلف لك من
خير»
غير مسلم ودعوى الإجماع فيه غير صحيحة لأن كون وقوع جزائهم في
الدنيا دون الآخرة كالمؤمنين مذهب لبعضهم، وذهب آخرون إلى
الجزاء بالتخفيف وقال الكرماني: إن التخفيف واقع لكنه ليس بسبب
عملهم بل لأمر آخر كشفاعة النبي صلّى الله عليه وسلم ورجائه
ومنه ما يكون لأبي لهب كما قال الزركشي انتهى.
ولقائل أن يقول إن الشفاعة من آثار عمل المشفوع الخير أيضا
فتأمل.
وسبب نزول الآية على ما أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه
لما نزل وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ [الإنسان: 8]
كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه
فيجيء المسكين إلى أبوابهم فيستقلون أن يعطوه التمرة والبسرة
فيردونه ويقولون: ما هذا بشيء إنما نؤجر على ما نعطي ونحن
نحبه، وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير الكذبة
والنظرة والغيبة وأشباه ذلك ويقولون إنما وعد الله تعالى النار
على الكبائر فنزلت الآية ترغبهم في القليل من الخير أن يعملوه،
وتحذرهم اليسير من الشر أن يعملوه. وفيها من دلالة الخطاب ما
لا يخفى وقد كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعدها يتصدقون
بما قل وكثر. فقد روي أن عائشة رضي الله تعالى عنها بعث إليها
ابن الزبير بمائة ألف وثمانين ألف درهم في غرارتين فدعت بطبق
وجعلت تقسمها بين الناس فلما أمست قالت جاريتها: هلمي وكانت
صائمة، فجاءت بخبز وزيت فقالت: ما أمسكت لنا درهما نشتري به
لحما نفطر عليه. فقالت: لو ذكرتيني لفعلت. وجاء في عدة روايات
أنها أعطت سائلا يوما حبة من عنب، فقيل لها في ذلك. فقالت: هذه
أثقل من ذر كثير ثم قرأت الآية. وروي نحو هذا عن عمر وعبد
الرحمن بن عوف وسعد بن مالك رضي الله تعالى عنهم وكان غرضهم
تعليم الناس أنه لا بأس بالتصدق بالقليل ولهم بذلك أسوة برسول
الله صلّى الله عليه وسلم.
فقد أخرج الزجاجي في أماليه عن أنس بن مالك أن سائلا أتى النبي
صلّى الله عليه وسلم فأعطاه تمرة، فقال السائل: نبي من
الأنبياء تصدق بتمرة. فقال عليه الصلاة والسلام:
«أما علمت فيها مثاقيل ذر كثيرة»
وجاء أنه عليه الصلاة والسلام قال: «اتقوا النار ولو بشق تمرة»
ثم قرأ الآية.
وتقديم عمل الخير لأنه أشرف القسمين والمقصود بالأصالة لا يخفى
حسن موقعه ويعلم منه أن هذا الإحصاء لا ينافي كرمه عز وجل
المطلق وما يحكى من أن أعرابيا أخر خيرا يره فقيل له قدمت
وأخرت فقال:
خذا بطن هرشى أو قفاها فإنه ... كلا جانبي هرشى لهن طريق
فغفل عن اللطائف القرآنية أو لعله أراد أنه فيما يتعلق بالعمل
لا بأس به قدم أو أخر لا أن القراءة به جائزة. وقرأ الحسين بن
علي على جده وعليهما الصلاة والسلام وابن عباس رضي الله تعالى
عنهما وعبد الله بن مسلم وزيد بن علي وأبو حيوة والكلبي وخليد
بن نشيط وأبان عن عاصم والكسائي في رواية حميد بن الربيع عنه
«يره» بضم الياء في الموضعين. وقرأ هشام وأبو بكر «يره» بسكون
الهاء فيها وأبو عمرو بضمها مشبعة وباقي السبعة بالإشباع في
الأول والسكون في الثاني والإسكان في الوصل لغة حكاها الأخفش
ولم يحكها سيبويه وحكاها الكسائي أيضا عن بني كلاب وبني عقيل.
وقرأ عكرمة «يراه» بالألف فيهما وذلك على لغة من
(15/439)
يرى الجزم بحذف الحركة المقدرة على حرف
العلة كما حكى الأخفش أو على ما يقال في غير القرآن من توهم أن
من موصولة لا شرطية كما قيل في قوله تعالى إِنَّهُ مَنْ
يَتَّقِ وَيَصْبِرْ [يوسف: 9] في قراءة من أثبت ياء يتق وجزم
يصبر. وجوز أن تكون الألف للإشباع والوجه الأول أولى والله
تعالى أعلم.
(15/440)
|