روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)

سورة الفيل
مكية وآيها خمس بلا خلاف فيهما، وكأنه لما تضمن الهمز واللمز من الكفرة نوع كيد له عليه الصلاة والسلام عقب ذلك بقصة أصحاب الفيل للإشارة إلى أن عقبى كيدهم في الدنيا تدميرهم فإن عناية الله عز وجل برسوله صلّى الله عليه وسلم أقوى وأتم من عنايته سبحانه بالبيت، فالسورة مشيرة إلى مآلهم في الدنيا إثر بيان مآلهم في الأخرى، ويجوز أن تكون كالاستدلال على ما أشير إليه فيما قبلها من أن المال لا يغني من الله تعالى شيئا، أو على قدرته عز وجل على إنفاذ ما توعد به أولئك الكفرة في قوله سبحانه لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ [الهمزة: 4] إلخ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ الظاهر أن الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم والهمزة لتقرير رؤيته عليه الصلاة والسلام بإنكار عدمها وهي بصرية تجوز بها عن العلم على سبيل الاستعارة التبعية أو المجاز المرسل لأنها سببية، ويجوز جعلها علمية من أول الأمر إلّا أن ذاك أبلغ وعلمه صلّى الله عليه وسلم بذلك لما أنه سمعه متواترا. وكَيْفَ في محل نصب على المصدرية بفعل، والمعنى أي فعل فعل. وقيل على الحالية من الفاعل والكيفية حقيقة للفعل ب أَلَمْ تَرَ لمكان الاستفهام، والجملة سادة مسد المفعولين لتر. وجوز بعضهم نصب كَيْفَ بتر لإنسلاخ معنى الاستفهام عنه كما في شرح المفتاح الشريفي. وصرح أبو حيان بامتناعه لأنه يراعي صدارته إبقاء لحكم أصله وتعليق الرؤية بكيفية فعله تعالى شأنه لا بنفسه بأن يقال ألم تر ما فعل ربك إلخ. لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئة عجيبة دالّة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته وغريبته وشرف رسوله صلّى الله عليه وسلم فإن ذلك كما قال غير واحد من الإرهاصات لما روي أن القصة وقعت في السنة التي ولد فيها النبي صلّى الله عليه وسلم. قال إبراهيم بن المنذر شيخ البخاري: لا يشك في ذلك أحد من العلماء وعليه الإجماع وكل ما خالفه وهم أي من أنها كانت قبل بعشر سنين أو بخمس عشرة سنة أو بثلاث وعشرين سنة أو بثلاثين سنة أو بأربعين سنة أو بسبعين سنة الأقوال المذكورة في كتب السير وعلى الأول

(15/464)


المرجح الذي عليه الجمهور قيل ولادته عليه الصلاة والسلام في اليوم الذي بعث الله تعالى فيه الطير على أصحاب الفيل من ذلك العام وهو المذكور في تاريخ ابن حبان وهو ظاهر قول ابن عباس: ولد عليه الصلاة والسلام يوم الفيل. وذهب السهيلي أنه صلّى الله عليه وسلم ولد بعدها بخمسين يوما وكانت في المحرم والولادة في شهر ربيع الأول. وقال الحافظ الدمياطي: بخمسة وخمسين يوما، وقيل بأربعين، وقيل بشهر. والمشهور ما ذهب إليه السهيلي. وفي قوله تعالى رَبُّكَ نوع رمز إلى الإرهاص وكون ذلك لشرف البيت ودعوة الخليل عليه السلام لا ينافي الإرهاص وكذا لا ينافيه
قوله صلّى الله عليه وسلم في الحديبية لما بركت ناقته وقال الناس: خلأت أي حرنت: «ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل»
إذ لم يدع أن ما كان للإرهاص لا غير ومثل هذه العلل لا يضر تعددها، ويؤيد الإرهاص قصة القرامطة وغيرهم. وتفصيل القصة أن أبرهة الأشرم بن الصباح الحبشي كما قال ابن إسحاق وغيره وهو الذي يكنى بأبي يكسوم بالسين المهملة ولا يأباه التسمية بأبرهة بناء على أن معناه بالحبشة الأبيض الوجه كما لا يخفى. وقيل: إنه الحميري خرج على أرباط ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي- بكسر النون- بعد سنتين من سلطانه فتبارزا وقد أرصد الأشرم خلفه غلامه عتورة فحمل عليه أرباط بحربة فضربه يريد يافوخه فوقعت على جبهته فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته ولذا سمي الأشرم، فحمل عتورة من خلف أبرهة فقتله وملك مكانه، فغضب النجاشي فاسترضاه فرضي فأثبته. ثم إنه بنى بصنعاء كنيسة لم ير مثلها في زمانها سمّاها القليس بقاف مضمومة ولام مفتوحة مشددة كما في ديوان الأدب أو مخففة كما قيل وبعدها ياء مثناة سفلية ثم سين مهملة، وكان ينقل إليها الرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب على ما يقال من قصر بلقيس زوج سليمان عليه السلام، وكتب إلى النجاشي: إنني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب. فلما تحدثت العرب بكتابه ذلك غضب رجل من النساءة أحد بني فقيم بن عدي من كنانة فخرج حتى أتاها فقعد فيها أي أحدث ولطخ قبلتها بحدثه ثم خرج ولحق بأرضه، فأخبر أبرهة، فقال: من صنع هذا؟ فقيل: رجل من أهل هذا البيت الذي تحج إليه العرب بمكة غضب لما سمع قولك أصرف إليها حج العرب ففعل ذلك، فاستشاط أبرهة غضبا وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه. وقيل: أججت رفقة من العرب نارا حولها فحملتها الريح فأحرقتها فغضب لذلك فأمر الحبشة فتهيأت وتجهزت، فخرج في ستين ألفا على ما قيل منهم ومعه فيل اسمه محمود وكان قويا عظيما واثنا عشر فيلا غيره وقيل ثماني وروي ذلك عن الضحاك، وقيل ألف فيل وقيل معه محمود فقط وهو قول الأكثرين الأوفق بظاهر الآية، فسمعت العرب بذلك فأعظموه وقلقوا به ورأوا جهاده حقا عليهم، فخرج إليه رجل من أشراف اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر بمن أطاعه من قومه وسائر العرب فقاتله فهزم وأخذ أسيرا فأراد قتله فقال: أيها الملك لا تقتلني فعسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي، فتركه وحبسه عنده حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي بمن معه من قومه وغيرهم فقاتله فهزم وأخذ أسيرا فهم بقتله فقال نحو ما سبق فخلى سبيله وخرج به يدله حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معيب بن مالك الثقفي في رجال من ثقيف فقال له: أيها الملك إنما نحن عبيدك سماعون لك مطيعون ليس لك عندنا خلاف وليس بيتنا هذا الذي تريد يعنون بيت اللات إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه، فتجاوز عنهم فبعثوا معه أبا رغال فخرج ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمس- كمعظم- موضع بطريق الطائف معروف، فلما نزله مات أبو رغال ودفن هناك فرجمت قبره العرب كما قال ابن إسحاق.
وقيل القبر الذي هناك لأبي رغال رجل من ثمود وهو أبو ثقيف كان بالحرم يدفع عنه فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه

(15/465)


بالمغمس فدفن فيه واختاره صاحب القاموس ذاكرا فيه حديثا رواه أبو داود في سننه وغيره عن ابن عمر مرفوعا
وقال فيما تقدمه بعد نقله عن الجوهري ليس بجيد، وجمع بعض بجواز أن يكون قبران لرجلين كل منهما أبو رغال ثم إن أبرهة بعث وهو بالمغمس رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصور حتى انتهى إلى مكة فساق أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم وأصاب فيها مائتي بعير وقيل أربعمائة بعير لعبد المطلب وكان يومئذ سيد قريش، فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بالحرم بحربه فعرفوا أن لا طاقة لهم به فكفوا. وبعث أبرهة حياطة الحميري إلى مكة وقال: قل لسيد أهل هذا البلد إن الملك يقول: إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يرد حربي فأتني به. فلما دخل حياطة دل على عبد المطلب فقال له ما أمر به فقال عبد المطلب: والله ما نريد حربه وما لنا به طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام فإن يمنعه منه فهو بينه وحرمه، وإن يخل بينه وبينه فو الله ما عندنا دفع عنه. ثم انطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر وكان صديقه فدخل عليه فقال له: هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ فقال: وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوا وعشيا ما عندي غناء في شيء مما نزل بك إلّا أن أنيسا سائس الفيل سأرسل إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقك وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما بدا لك ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك.
فقال: حسبي، فبعث إليه فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عين مكة ويطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال وقد أصاب الملك له مائتي بعير فاستأذن له عليه وأنفعه عنده بما استطعت. فقال:
أفعل. فكلم أبرهة ووصف عبد المطلب بما وصفه به ذو نفر فأذن له، وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم، فلما رآه أكرمه عن أن يجلس تحته وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه فنزل عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه والقول بأنه أعظمه لما رأى من نور النبوة الذي كان في وجهه ضعيف لما فيه من الدلالة على كون القصة قبل ولادة عبد الله وهو خلاف ما علمت من القول المرجح اللهم إلّا أن يقال إنه تجلى فيه ذلك النور وإن كان قد انتقل. ثم قال لترجمانه: قل له ما حاجتك؟ فقال:
حاجتي أن يرد عليّ الملك إبلي. فقال أبرهة لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه فلا تكلمني فيه.
فقال عبد المطلب إني رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه. قال ما كان ليمنع مني قال: أنت وذاك. وفي رواية أنه دخل عليه مع عبد المطلب ثفانة بن عدي سيد بني بكر وخويلد بن واثلة سيد هذيل فعرضا عليه ثلث أموال أهل تهامة على أن يرجع ولا يهدم البيت فأبى فرد الإبل على عبد المطلب فانصرف إلى قريش فأخبرهم الخبر فتحرزوا في شعف الجبال تخوفا من معرة الجيش ثم قام فأخذ بحلقة باب الكعبة ومعه نفر من قريش يدعون الله عز وجل ويستنصرونه فقال وهو آخذ بالحلقة:
لا هم إن المرء يم ... نع رحله فامنع حلالك

وانصر على آل الصلي ... ب وعابديه اليوم آلك

لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك

جروا جموع بلادهم ... والفيل كي يسبوا عيالك

عمدوا حماك بكيدهم ... جهلا وما رقبوا جلالك

(15/466)


إن كنت تاركهم وكعب ... تنا فأمر ما بدا لك
وقال أيضا:
يا رب لا أرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع عنهم حماكا

إن عدو البيت من عاداكا ... امنعهم أن يخربوا فناكا
ثم أرسل الحلقة وانطلق هو ومن معه إلى شعف الجبال ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها، فلما أصبح تهيأ للدخول وعبى جيشه وهيأ الفيل، فلما وجهوه إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنبه فأخذ بأذنه، فقال: ابرك محمود وارجع راشدا من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه فبرك أي سقط وخرج نفيل يشتد حتى أصعد في الجبل فضربوا الفيل وأوجعوه ليقوم فأبى ووجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول إلى الشام ففعل مثل ذلك، فوجهوه إلى مكة فبرك، فسقوه الخمر ليذهب تمييزه فلم ينجع ذلك.
وقيل: إن عبد المطلب هو الذي عرك أذنه وقال له ما ذكر وكان ذلك عند وادي محسر، وأرسل الله تعالى طيرا من البحر قيل سودا وقيل خضرا وقيل بيضا مثل الخطاطيف مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس لا تصيب أحدا منهم إلّا هلك، ويروى أنه يلقيها على رأس أحدهم فتخرج من دبره ويتساقط لحمه، فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاؤوا يسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق إلى اليمن فقال نفيل حين رأى ما نزل بهم:
أين المفر والإله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب
وقال أيضا:
ألا حييت عنا يا ردينا ... نعمناكم عن الإصباح عينا

ردينة لو رأيت ولا تريه ... لدى جنب المحصب ما رأينا

إذا لعذرتني وحمدت أمري ... ولا تأسي على ما فات بينا

فكل القوم تسأل عن نفيل ... كأن عليه للحبشان دينا
وجعلوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون في كل منهل، وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم تسقط أنملة أنملة كلما سقطت أنملة تبعها منه مدة ثم دم وقيح حتى قدموا صنعاء وهو مثل فرح الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه وقد أشار إلى ذلك ابن الزبعرى بقوله من أبيات يذكر فيها مكة:
سائل أمير الحبش عنا ما ترى ... ولسوف ينبي الجاهلين عليمها

ستون ألفا لم يؤوبوا أرضهم ... بل لم يعش بعد الإياب سقيمها
ولهم في ذلك شعر كثير ذكر ابن هشام جملة منه في سيره، وفيها أن الطير لم تصب كلهم وذكر بعضهم أنه لم ينج منهم غير واحد دخل على النجاشي فأخبره الخبر والطير على رأسه، فلما فرغ ألقي عليه الحجر فخرقت البناء ونزلت على رأسه فألحقته بهم. وقيل: إن سائس الفيل وقائده تخلفا في مكة فسلما. فعن عائشة أنها قالت: أدركت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس. وعن عكرمة أن من أصابه الحجر جدرته وهو أول جدري ظهر أي بأرض العرب، فعن يعقوب بن عتبة أنه حدث أن أول ما رئيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام وأنه أول ما رئي بها مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشر ذلك العام أيضا.

(15/467)


ويروى أن عبد المطلب لما ذهب إلى شعف الجبال بمن معه بقي ينتظر ما يفعل القوم وما يفعل بهم، فلما أصبح بعث أحد أولاده على فرس له سريع ينظر ما لقوا فذهب فإذا القوم مشدخين جميعا فرجع رافعا رأسه كاشفا عن فخذه، فلما رأى ذلك أبوه قال: ألا إن ابني أفرس العرب وما كشف عن عورته إلّا بشيرا أو نذيرا، فلما دنا من ناديهم قالوا: ما وراءك؟ قال: هلكوا جميعا فخرج عبد المطلب وأصحابه إليهم فأخذوا أموالهم وقال عبد المطلب:
أنت منعت الحبش والأفيالا ... وقد رعوا بمكة الأحبالا

وقد خشينا منهم القتالا ... وكل أمر منهم معضالا
شكرا وحمدا لك ذا الجلالا هذا ومن أراد استيفاء القصة على أتم مما ذكر فعليه بمطولات كتب السير. وقرأ السلمي «ألم تر» بسكون الراء جدا في إظهار أثر الجازم لأن جزمه بحذف آخره فإسكان ما قبل الآخر للاجتهاد في إظهار أثر الجازم، قيل: والسر فيه هنا الإسراع إلى ذكر ما يهم من الدلالة على أمر الألوهية والنبوة أو الإشارة إلى الحثّ في الإسراع بالرؤية إيماء إلى أن أمرهم على كثرتهم كان كلمح البصر من لم يسارع إلى رؤيته لم يدركه حق إدراكه، وتعقب هذا بأن تقليل البنية يدل على قلة المعنى وهو الرؤية لا على قلة زمانه. وقيل لعل السر فيه الرمز من أول الأمر إلى كثرة الحذف في أولئك القوم فتدبر. وقوله تعالى أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ إلخ بيان إجمالي لما فعل الله تعالى بهم والهمزة للتقرير كما سبق ولذلك عطف على الجملة الاستفهامية ما بعدها كأنه قيل قد جعل كيدهم في تعطيل الكعبة وتخريبها وصرف شرف أهلها لهم في تضييع وإبطال بأن دمرهم أشنع تدمير، وأصل التضليل من ضل عنه إذا ضاع فاستعير هنا للإبطال، ومنه قيل لامرىء القيس الضليل لأنه ضلل ملك أبيه وضيعه. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ أي جماعات جمع إبّالة بكسر الهمزة وتشديد الباء الموحدة، وحكى الفراء إبالة مخففا وهي حزمة الحطب الكبيرة شبهت بها الجماعة من الطير في تضامها وتستعمل أيضا في غيرها ومنه قوله:
كادت تهد من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
وقيل واحده أبول مثل عجول، وقيل إبيل مثل سكين وقيل أبال. وقال أبو عبيدة والفرّاء: لا واحد له من لفظه كعباديد الفرق من الناس الذاهبون في كل وجه، والشماطيط القطع المتفرقة وجاءت هذه الطير على ما روي عن جمع من جهة البحر ولم تكن نجدية ولا تهامية ولا حجازية. وزعم بعض أن حمام الحرم من نسلها ولا يصح ذلك، ومثله ما نقل عن حياة الحيوان من أنها تعشش وتفرخ بين السماء والأرض وقد تقدم الخلاف في لونها. وعن عكرمة كأن وجوهها مثل وجوه السباع لم تر قبل ذلك ولا بعده تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ صفة أخرى لطير، وعبر بالمضارع لحكاية الحال واستحضار تلك الصورة البديعة. وقرأ أبو حنيفة وأبو يعمر وعيسى وطلحة في رواية: «يرميهم» بالياء التحتية والضمير المستتر للطير أيضا والتذكير لأنه اسم جمع وهو على ما حكى الخفاجي لازم التذكير فتأنيثه لتأويله بالجماعة، وقيل يجوز الأمران وهو ظاهر كلام أبي حيان. وقيل الضمير عائد على ربك وليس بذاك، ونسبة القراءة المذكورة لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه حكاها في البحر وعن صاحب النشر أنه رضي الله تعالى عنه لا قراءة له وأن القراءات المنسوبة له موضوعة مِنْ سِجِّيلٍ صفة حجارة أي كائنة من طين متحجر معرب سنك كل وقيل: هو عربي من السجل بالكسر وهو الدلو الكبيرة،

(15/468)


ومعنى كون الحجارة من الدلو أنها متتابعة كثيرة كالماء الذي يصب من الدلو ففيه استعارة مكنية وتخييلية.
وقيل من الإسجال بمعنى الإرسال والمعنى من مثل شيء مرسل، ومِنْ في جميع ذلك ابتدائية وقيل من السجل وهو الكتاب أخذ منه السجين وجعل علما للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار، والمعنى من جملة العذاب المكتوب المدون فمن تبعيضيه. واختلف في حجم تلك الطير وكذا في حجم تلك الحجارة فمر أنها مثل الخطاطيف وأن الحجارة أمثال الحمص والعدس. وأخرج أبو نعيم عن نوفل بن أبي معاوية الديلمي أنه قال: رأيت الحصى التي رمي بها أصحاب الفيل حصى مثل الحمص وأكبر من العدس حمر بحتمة (1) كأنها جزع ظفار. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس أنه قال: حجارة مثل البندق. وفي رواية ابن مردويه عنه مثل بعر الغنم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عبيد بن عمير أنه قال في الاية: هى طير خرجت من قبلة البحر كأنها رجال السند معها حجارة أمثال الإبل البوارك وأصغرها مثل رؤوس الرجال لا تريد أحدا منهم إلا أصابته ولا أصابته إلا قتلته، والمعول عليه أن الطير في الحجم كالخطاطيف، وأن الحجارة منها ما هو كالحمصة ودوينها وفويقها. وروى ابن مردويه وأبو نعيم عن أبي صالح أنه مكتوب على الحجر اسم من رمي به واسم أبيه وأنه رأى ذلك عند أم هانىء فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ كورق زرع وقع فيه الأكال وهو أن يأكله الدود أو أكل حبه فبقى صفرا منه، والكلام على هذا على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أو على الإسناد المجازي والتشبيه بذلك لذهاب أرواحهم وبقاء أجسادهم، أو لأن الحجر بحرارته يحرق أجوافهم. وذهب غير واحد إلى أن المعنى كتبن أكلته الدواب وراثته والمراد كروث إلا أنه لم يذكر بهذا اللفظ لهجنته فجاء على الآداب القرآنية فشبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزاء الروث، ففيه إظهار تشويه حالهم وقيل:
المعنى كتبن تأكله الدواب وتروثه والمراد جعلهم في حكم التبن الذي لا يمنع عنه الدواب أي مبتذلين ضائعين لا يلتفت إليهم أحد ولا يجمعهم ولا يدفنهم كتبن في الصحراء تفعل به الدواب ما شاءت لعدم حافظ له إلّا أنه وضع مأكول موضع أكلته الدواب لحكاية الماضي في صورة الحال وهو كما ترى. وكأنه لما أن مجيئهم لهدم الكعبة ناسب إهلاكهم بالحجارة ولما أن الذي أثار غضبهم عذرة الكناني شبههم فيما فعل سبحانه بهم على القول الأخير بالروث أو لما أن الذي أثاره احتراقها بما حملته الريح من نار العرب على ما سمعت شبههم عز وجل فيما فعل جل شأنه بهم بعصف أكل حبه على ما أشرنا إليه أخيرا. وقرأ أبو الدرداء فيما نقل ابن خالويه «مأكول» بفتح الهمزة اتباعا لحركة الميم وهو شاذ وهذا كما أتبعوا في قولهم «محموم» بفتح الحاء لحركة الميم والله تعالى أعلم.
__________
(1) قوله بحتمة بالضم السواد اه منه. [.....]

(15/469)


لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)

سورة قريش
ويقال سورة لإيلاف قريش، وهي مكية في قول الجمهور مدنية في قول الضحاك وابن السائب، وآيها خمس في الحجازي وأربع في غيره، ومناسبتها لما قبلها أظهر من أن تخفى بل قالت طائفة إنهما سورة واحدة واحتجوا عليه بأن أبيّ بن كعب لم يفصل بينهما في مصحفه بالبسملة بما روي عن عمرو بن ميمون الأزدي قال: صليت المغرب خلف عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقرأ في الركعة الأولى والتين، وفي الثانية ألم تر ولإيلاف قريش من غير أن يفصل بالبسملة، وأجيب بأن جمعا أثبتوا الفصل في مصحف أبيّ والمثبت مقدم على النافي، وبأن خبر ابن ميمون إن سلمت صحته محتمل لعدم سماعه ولعله قرأها سرا، ويدل على كونها سورة مستقلة ما
أخرج البخاري في تاريخه والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الخلافيات عن أم هانىء بنت أبي طالب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «فضل الله تعالى قريشا بسبع خصال لم يعطها أحد قبلهم ولا يعطاها أحد بعدهم: أني فيهم وفي لفظ النبوة فيهم، والخلافة فيهم، والحجابة فيهم، والسقاية فيهم، ونصروا على الفيل، وعبدوا الله تعالى سبع سنين. وفي لفظ عشر سنين لم يعبده سبحانه أحد غيرهم، ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم لإيلاف قريش» . وجاء نحو هذا الأخير في خبرين آخرين أحدهما عن الزبير بن العوام يرفعه والثاني عن سعيد بن المسيب عنه صلّى الله عليه وسلم
ويؤيد الاستقلال كون آيها ليست على نمط آي ما قبلها وأنت تعلم أنه بعد ثبوت تواتر الفصل لا يحتاج إلى شيء مما ذكر.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ الإيلاف على ما قال الخفاجي مصدر ألفت الشيء وآلفته من الإلف وهو كما قال الراغب اجتماع مع التئام. وقال الهروي في الغريبين: الإيلاف عهود بينهم وبين الملوك فكان هاشم يؤالف ملك الشام والمطلب كسرى وعبد شمس ونوفل يؤالفان ملك مصر والحبشة. قال: ومعنى يؤالف يعاهد ويصالح، وفعله آلف على وزن فاعل، ومصدره إلاف بغير ياء بزنة قبال أو ألف الثلاثي ككتب كتابا، ويكون الفعل منه أيضا على وزن أفعل مثل آمن ومصدره إيلاف كإيمان، وحمل الإيلاف على العهود

(15/470)


خلاف ما عليه الجمهور كما لا يخفى على المتتبع. وفي البحر إيلاف مصدر آلف رباعيا وإلاف مصدر ألف ثلاثيا يقال: ألف الرجل الأمر ألفا وآلافا وآلف غيره إياه وقد يأتي آلف متعديا لواحد كألف ومنه قوله:
من المؤلفات الرمل أدماء حرة ... شعاع الضحى في جيدها يتوضح
وسيأتي إن شاء الله تعالى ما في ذلك من القراءات وقريش ولد النضر بن كنانة وهو أصح الأقوال وأثبتها عند القرطبي. قيل: وعليه الفقهاء لظاهر ما
روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل من قريش فقال: «من ولد النضر»
وقيل ولد فهر ابن مالك بن النضر وحكي ذلك عن الأكثرين، بل قال الزبير بن بكار أجمع النسابون من قريش وغيرهم على أن قريشا إنما تفرقت عن فهر واسمه عند غير واحد قريش وفهر لقبه ويكنى بأبي غالب. وقيل ولد مخلد بن النضر وهو ضعيف.
وفي بعض السير أنه لا عقب للنضر بن كنانة إلّا مالك وأضعف من ذلك بل هو قول رافضي يريد به نفي حقية خلافة الشيخين أنهم ولد قصي بن حكيم، وقيل: عروة المشهور بلقبه كلاب لكثرة صيده أو لمكالبته أي مواثبته في الحرب للأعداء. نعم قصي جمع قريشا في الحرم حتى اتخذوه مسكنا بعد أن كانوا متفرقين في غيره وهذا الذي عناه الشاعر بقوله:
أبونا قصي كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر
فلا يدل على ما زعمه أصلا وهو في الأصل تصغير قرش بفتح القاف اسم لدابة في البحر أقوى دوابه تأكل ولا تؤكل وتعلو ولا تعلى وبذلك أجاب ابن عباس معاوية لما سأله: لم سميت قريش قريشا؟ وتلك الدابة تسمى قرشا كما هو المذكور في كلام الحبر، وتسمى قريشا وعليه قول تبع كما حكاه عنه أبو الوليد الأزرقي وأنشده أيضا الحبر لمعاوية إلّا أنه نسبه للجمحي:
وقريش هي التي تسكن البح ... ر بها سميت قريش قريشا

تأكل الغث والسمين ولا تت ... رك يوما لذي جناحين ريشا

هكذا في البلاد حي قريش ... يأكلون البلاد أكلا كميشا

ولهم آخر الزمان نبي ... يكثر القتل فيهم والخموشا
وقال الفرّاء: هو من التقرش بمعنى التكسب، سموا بذلك لتجارتهم. وقيل من التقريش وهو التفتيش ومنه قول الحارث بن حلزة:
أيها الشامت المقرش عنا ... عند عمرو فهل لنا إبقاء
سموا بذلك لأن أباهم كان يفتش عن أرباب الحوائج ليقضي حوائجهم وكذا كانوا هم يفتشون على ذي الخلة من الحاج ليسدوها، وقيل من التقرش وهو التجمع ومنه قوله:
إخوة قرشوا الذنوب علينا ... في حديث من دهرهم وقديم
سموا بذلك لتجمعهم بعد التفرق والتصغير إذا كان من المزيد تصغير ترخيم وإذا كان من ثلاثي مجرد فهو على أصله وأيّا ما كان فهو للتعظيم مثله في قوله:
وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفر منها الأنامل
والنسبة إليه قرشي وقريشي كما في القاموس وأجمعوا على صرفه هنا راعوا فيه معنى الحي، ويجوز منع صرفه ملحوظا فيه معنى القبيلة للعلمية والتأنيث وعليه قوله:
وكفى قريش المعضلات وسادها

(15/471)


وعن سيبويه أنه قال في نحو معد وقريش وثقيف هذه للأحياء أكثر أو إن جعلت أسماء للقبائل فجائز حسن، واللام في لِإِيلافِ للتعليل والجار والمجرور متعلق عند الخليل بقوله لْيَعْبُدُوا
والفاء لما في الكلام من معنى الشرط إذ المعنى أن نعم الله تعالى غير محصورة، فإن لم يعبدوا لسائر نعمه سبحانه فليعبدوا لهذه النعمة الجليلة، ولما لم تكن في جواب شرط محقق كانت في الحقيقية زائدة فلا يمتنع تقديم معمول ما بعدها عليها. وقوله تعالى إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ بدل من (إيلاف) قريش ورِحْلَةَ مفعول به لإيلافهم على تقدير أن يكون من الألفة، أما إذا كان من المؤالفة بمعنى المعاهدة فهو منصوب على نزع الخافض أي معاهدتهم على أو لأجل رحلة إلخ. وإطلاق لإيلاف ثم إبدال المقيد منه للتفخيم. وروي عن الأخفش أن الجار متعلق بمضمر أي فعلنا ما فعلنا من إهلاك أصحاب الفيل لإيلاف قريش. وقال الكسائي والفرّاء كذلك إلّا أنهما قدرا الفعل بدلالة السياق أعجبوا كأنه قيل أعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف وتركهم عبادة الله تعالى الذي أعزهم ورزقهم وآمنهم فلذا أمروا بعبادة ربهم المنعم عليهم بالرزق والأمن عقبه وقرن بالفاء التفريعية: وعن الأخفش أيضا أنه متعلق بجعلهم كعصف في السورة قبله والقرآن كله كالسورة الواحدة فلا يضر الفصل بالبسملة خلافا لجمع. والمعنى أهلك سبحانه من قصدهم من الحبشة ولم يسلطهم عليهم ليبقوا على ما كانوا عليه من إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ أو أهلك عز وجل من قصدهم ليعتبر الناس ولا يجترىء عليهم أحد فيتم لهم الأمن في رحلتهم، ولا ينافي هذا كون إهلاكهم لكفرهم باستهانة البيت لجواز تعليله بأمرين فإن كلّا منهما ليس علة حقيقية ليمتنع التعدد. وقال غير واحد: إن اللام للعاقبة وكان لقريش رحلتان رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى بصرى من أرض الشام كما روي عن ابن عباس، وكانوا في رحلتيهم آمنين لأنهم أهل حرم الله تعالى وولاة بيته العزيز فلا يتعرض لهم والناس بين متخطف ومنهوب. وعن ابن عباس أيضا أنهم كانوا يرحلون في الصيف إلى الطائف حيث الماء والظل، ويرحلون في الشتاء إلى مكة للتجارة وسائر أغراضهم وأفردت الرحلة مع أن المراد رحلتا الشتاء والصيف لأمن اللبس وظهور المعنى ونظيره قوله:
حمامة بطن الواديين ترنمي حيث لم يقل بطني الواديين وقوله:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا ... فإن زمانكم زمن خميص
حيث لم يقل بطونكم بالجمع لذلك. وقول سيبويه إن ذلك لا يجوز إلّا في الضرورة فيه نظر. وقال النقاش: كانت لهم أربع رحل، وتعقبه ابن عطية بأنه قول مردود. وفي البحر: لا ينبغي أن يرد فإن أصحاب الإيلاف كانوا أربعة إخوة وهم: بنو عبد مناف: هاشم كان يؤالف ملك الشام أخذ منه خيلا فأمن به في تجارته إلى الشام، وعبد شمس يؤالف إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس فكان هؤلاء يسمون المتجرين فيختلف تجر قريش بخيل هؤلاء الإخوة فلا يتعرض لهم. قال الأزهري: الإيلاف شبه الإجارة بالخفارة فإن كان كذلك جاز أن يكون لهم رحل أربع باعتبار هذه الأماكن التي كانت التجارة في خفارة هؤلاء الأربعة فيها فيكون رحلة هنا اسم جنس يصلح للواحد وللأكثر، وفي هؤلاء الإخوة يقول الشاعر:
يا أيها الرجل المحول رحله ... هلا نزلت بآل عبد مناف

الآخذون العهد من آفاقها ... والراحلون لرحلة الإيلاف

والرائشون وليس يوجد رائش ... والقائلون هلم للأضياف

والخالطون غنيهم بفقيرهم ... حتى يصير فقيرهم كالكافي

(15/472)


انتهى. وفيه مخالفة لما نقلناه سابقا عن الهروي، ثم إن إرادة ما ذكر من الرحل الأربع غير ظاهرة كما لا يخفى. وقرأ ابن عامر «لإلاف قريش» بلا ياء. ووجه ذلك ما مر. ولم تختلف السبعة في قراءة إِيلافِهِمْ بالياء كما اختلف في قراءة الأول، ومع هذا رسم الأول في المصاحف العثمانية بالياء، ورسم الثاني بغير ياء كما قاله السمين وجعل ذلك أحد الأدلة على أن القراء يتقيدون بالرواية سماعا دون رسم المصحف وذكر في وجه ذلك أنها رسمت في الأول على الأصل، وتركت في الثاني اكتفاء بالأول وهو كما ترى فتدبر. وروي عن أبي بكر عن عاصم أنه قرأ بهمزتين فيهما الثانية ساكنة وهذا شاذ وإن كان الأصل وكأنهم إنما أبدلوا الهمزة التي هي فاء الكلمة لثقل اجتماع همزتين. وروى محمد بن داود النقار عن عاصم «إئيلافهم» بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة ناشئة عن حركة الهمزة الثانية لما أشبعت، والصحيح رجوعه عن القراءة بهمزتين وأنه قرأ كالجماعة. وقرأ أبو جعفر فيما حكى الزمخشري «لإلف قريش» وقرأ فيما حكى ابن عطية إلفهم وحكيت عن عكرمة وابن كثير، وأنشدوا:
زعمتم أن إخوتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلاف
وعن أبي جعفر أيضا وابن عامر «إلافهم» على وزن فعال. وعن أبي جعفر أيضا «ليلاف» بياء ساكنة بعد اللام ووجهه بأنه لما أبدل الثانية ياء حذف الأولى حذفا على غير قياس. وعن عكرمة «لتألف قريش» على صيغة المضارع المنصوب بأن مضمرة بعد اللام ورفع قريش على الفاعلية، وعنه أيضا لتأليف على الأمر وعنه وعن هلال بن فتيان بفتح لام الأمر. والظاهر أن إيلافهم على جميع ذلك منصوب على المصدرية ولم أر من تعرض له. وقرأ أبو السمال «رحلة» بضم الراء وهي حينئذ بمعنى الجهة التي يرحل إليها وأما مكسور الراء فهو مصدر على ما صرح به في البحر. لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
هو الكعبة التي حميت من أصحاب الفيل.
وعن عمر أنه صلى بالناس بمكة عند الكعبة فلما قرألْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
جعل يومي بإصبعه إليها وهو في الصلاة بين يدي الله تعالى الَّذِي أَطْعَمَهُمْ بسبب تينك الرحلتين اللتين تمكنوا منهما بواسطة كونهم من جيرانه مِنْ جُوعٍ شديد كانوا فيه قبلهما وقيل أريد به القحط الذي أكلوا فيه الجيف والعظام وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ عظيم لا يقادر قدره وهو خوف أصحاب الفيل أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم أو خوف الجذام كما أخرج ذلك ابن جرير وغيره عن ابن عباس، فلا يصيبهم في بلدهم فضلا منه تعالى كالطاعون.
وعنه أيضا أنه قال: أطعمهم من جوع بدعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ [إبراهيم:
73] وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ حيث قال إبراهيم عليه السلام رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً [إبراهيم: 53] . ومِنْ قيل تعليلية أي أنعم عليهم وأطعمهم لإزالة الجوع عنهم. ويقدر المضاف لتظهر صحة التعليل أو يقال:
الجوع علة باعثة ولا تقدير. وقيل بدلية مثلها في قوله تعالى أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة: 38] وحكى الكرماني في غرائب التفسير أنه قيل في قوله تعالى وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ أن الخلافة لا تكون إلّا فيهم وهذا من البطلان بمكان كما لا يخفى، وقرأ المسيبي عن نافع «من خوف» بإخفاء النون في الخاء، وحكي ذلك عن سيبويه وكذا إخفاؤها مع العين نحو من على مثلا والله تعالى أعلم.

(15/473)


أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)

سورة الماعون
وتسمى سورة أرأيت والدين والتكذيب. وهي مكية في قول الجمهور وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير كما في الدر المنثور. وفي البحر أنها مدنية في قول ابن عباس وقتادة وحكي ذلك أيضا عن الضحاك. وقال هبة الله المفسر الضرير: نزل نصفها بمكة في العاص بن وائل، ونصفها في المدينة في عبد الله بن أبي المنافق. وآيها سبع في العراقي وست في الباقية. ولما ذكر سبحانه في سورة قريش أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ [قريش: 4] ذم عز وجل هنا من لم يحض على طعام المسكين ولما قال تعالى هناك لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
[قريش: 3] ذم سبحانه هنا من سها عن صلاته أو لما عدد نعمة تعالى على قريش وكانوا لا يؤمنون بالبعث والجزاء أتبع سبحانه امتنانه عليهم بتهديدهم بالجزاء وتخويفهم من عذابه فقال عز قائل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ استفهام أريد به تشويق السامع إلى تعرف المكذب وأن ذلك مما يجب على المتدين ليحترز عنه وعن فعله، وفيه أيضا تعجيب منه والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له، والرؤية بمعنى المعرفة المتعدية لواحد. وقال الحوفي: يجوز أن تكون بصرية، وعلى الوجهين يجوز أن يتجوز بذلك عن الإخبار فيكون المراد بأرأيت أخبرني وحينئذ تكون متعدية لاثنين أولهما الموصول وثانيهما محذوف تقديره من هو أو أليس مستحقا للعذاب. والقول بأنه لا تكون الرؤية المتجوز بها إلّا بصرية فيه نظر وكذا إطلاق القول بأن كاف الخطاب لا تلحق البصرية إذ لا مانع من ذلك بعد التجوز فلا يرجح كونها علمية قراءة عبد الله «أرأيتك» بكاف الخطاب المزيدة لتأكيد التاء. و (الدين) الجزاء وهو أحد معانيه ومنه كما تدين تدان. وفي معناه قول مجاهد الحساب أو الإسلام كما هو الأشهر ولعله مراد من فسره بالقرآن. وكذا من فسره كابن عباس بحكم الله عز وجل. وقرأ الكسائي: أريت بحذف الهمزة كأنه حمل الماضي في حذف همزته على مضارعه المطرد فيه حذفها وهذا كما ألحق تعد بيعد في الإعلال ولعل تصدير الفعل هنا بهمزة الاستفهام

(15/474)


سهل أمر الحذف فيه لمشابهته للفظ المضارع المبدوء بالهمزة ومن هنا كانت هذه القراءة أقوى توجيها مما في قوله:
صاح هل ريت أو سمعت براع ... رد في الضرع ما قرى في العلاب
وقيل: ألحق بعد همزة الاستفهام بأرى ماضي الأفعال لشدة مشابهته به وعدم التفاوت إلّا بفتحة هي لخفتها في حكم السكون وليس بذاك وإن زعم أنه الأوجه. والفاء في قوله تعالى فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ قيل للسببية وما بعدها مسبب عن التشويق الذي دل عليه الكلام السابق. وقيل واقعة في جواب شرط محذوف على أن ذلك مبتدأ والموصول خبره. والمعنى هل عرفت الذي يكذب بالجزاء أو بالإسلام إن لم تعرفه فذلك الذي يكذب بذلك هو الذي يدع اليتيم أي يدفعه دفعا عنيفا ويزجره زجرا قبيحا. ووضع اسم الإشارة موضع الضمير للدلالة على التحقير، وقيل للإشعار بعلة الحكم أيضا وفي الإتيان بالموصول من الدلالة على تحقق الصلة ما لا يخفى. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والحسن وأبو رجاء واليماني «يدع» بالتخفيف أي يترك اليتيم لا يحسن إليه ويجفوه وَلا يَحُضُّ أي ولا يبعث أحدا من أهله وغيرهم من الموسرين عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي بذل طعام المسكين وهو ما يتناول من الغذاء، والتعبير بالطعام دون الإطعام مع احتياجه لتقدير المضاف كما أشرنا إليه للإشعار بأن المسكين كأنه مالك لما يعطى له كما في قوله تعالى فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات: 19] فهو بيان لشدة الاستحقاق. وفيه إشارة للنهي عن الامتنان. وقيل الطعام هنا بمعنى الإطعام وكلام الراغب محتمل لذلك فلا يحتاج إلى تقدير لمضاف. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «لا يحاض» مضارع حاضت وهذه الجملة عطف على جملة الصلة داخلة معها في حيّز التعريف للمكذب، فيكون سبحانه وتعالى قد جعل علامته الإقدام على إيذاء الضعيف وعدم بذل المعروف على معنى أن ذلك من شأنه ولوازم جنسه. فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ أي غافلون غير مبالين بها حتى تفوتهم بالكلية أو يخرج وقتها أو لا يصلونها كما صلاها رسول الله صلّى الله عليه وسلم والسلف ولكن ينقرونها نقرا ولا يخشعون وينجدون فيها ويتهمون وفي كل واد من الأفكار الغير المناسبة لها. يهيمون فيسلم أحدهم منها ولا يدري ما قرأ فيها إلى غير ذلك مما يدل على قلة المبالاة بها. وللسلف أقوال كثيرة في المراد بهذا السهو ولعل كل ذلك من باب التمثيل، فعن أبي العالية هو الالتفات عن اليمين واليسار، وعن قتادة عدم مبالاة المرء أصلى أم لم يصل، وعن ابن عباس وجماعة تأخيرها عن وقتها وفيه حديث أخرجه غير واحد عن سعد بن أبي وقاص مرفوعا وقال الحاكم والبيهقي وقفه أصح، وعن أبي العالية هو أن لا يدري المرء عن كم انصرف عن شفع أو عن وتر. وفسر بعضهم السهو عنها بتركها وقال: المراد بالمصلين المتسمون بسمة أهل الصلاة إن أريد بالترك الترك رأسا وعدم الفعل بالكلية أو المصلون في الجملة إن أريد بالترك الترك أحيانا الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ الناس فيعملون حيث يروا الناس ويرونهم طلبا للثناء علهم
وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ أي الزكاة كما جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه
وابنه محمد بن الحنفية وابن عباس وابن عمر وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة ومنه قول الراعي:
أخليفة الرحمن إنّا معشر ... حنفاء نسجد بكرة وأصيلا

عرب نرى الله من أموالنا ... حق الزكاة منزلا تنزيلا

قوم على الإسلام لما يمنعوا ... ما عونهم ويضيعوا التهليلا

وعن محمد بن كعب والكلبي المعروف كله. وأخرج جماعة عن ابن مسعود تفسيره بما يتعاوره الناس

(15/475)


بينهم من القدر والدلو والفأس ونحوها من متاع البيت وجاء ذلك عن ابن عباس أيضا في خبر رواه عنه الضياء في المختارة والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم ورووا فيه عدة أحاديث مرفوعة، ومنع ذلك قد يكون محظورا في الشريعة كما إذا استعير عن اضطرار وقبيحا في المروءة كما إذا استعير في غير حال الضرورة وهو على ما أخرج ابن أبي شيبة عن الزهري المال بلسان قريش. وقال أبو عبيدة والزجاج والمبرد: هو في الجاهلية كل ما فيه منفعة من قليل أو كثير وأريد به في الإسلام الطاعة. واختلف في أصله فقال قطرب: أصله فاعول من المعن وهو الشيء القليل، وقالوا ما له معنة أي شي قليل. وقيل أصله معونة والألف عوض من الهاء فوزنه مفعل في الأصل كمكرم فتكون الميم زائدة، ووزنه بعد زيادة الألف عوضا ما فعل. وقيل هو اسم مفعول من أعان يعين وأصله معوون فقلب فصارت عينه مكان فائه فصار موعون، ثم قلبت الواو ألفا فصار ماعونا مفعول بتقديم العين على الفاء. والفاء في قوله تعالى فَوَيْلٌ إلخ جزائية والكلام ترق من ذلك المعرف إلى معرف أقوى أي إذا كان دع اليتيم والحض بهذه المثابة فما بال المصلي الذي هو ساه عن صلاته التي هي عماد الدين؟
والفارق بين الإيمان والكفر مركتب للرياء في أعماله الذي هو شعبة من الشرك، ومانع للزكاة التي هي شقيقة الصلاة وقنطرة الإسلام أو مانع لإعارة الشيء الذي تعارف الناس إعارته فضلا عن إخراج الزكاة من ماله فذاك العلم على التكذيب الذي لا يخفى، والمعرف له الذي لا يوفى والغرض التغليظ في أمر هذه الرذائل التي ابتلي بها كثير من الناس وأنها لما كانت من سيماء المكذب بالدين كان على المؤمن المعتقد له أن يبعد عنها بمراحل ويتبين أن أم كل معصية التكذيب بالدين، والمراد بالمكذب على هذا الجنس والإشارة لا تمنع منه كما لا يخفى. وقيل هو أبو جهل وكان وصيا ليتيم فأتاه عريانا يسأله من مال نفسه فدفعه دفعا شنيعا. وقال ابن جريج: هو أبو سفيان نحر جزورا فسأله يتيم لحما فقرعه بعصاه. وقيل الوليد بن المغيرة وقيل العاص بن وائل وقيل عمرو بن عائذ وقيل منافق بخيل، وعلى جميع هذه الأقوال يكون معينا وحينئذ فالقول بأن الساهين عن الصلاة المرائين أيضا معرف. قال صاحب الكشف: غير ملائم بل يكون شبه استطراد مستفاد من الوصف المعرف أعني دع اليتيم على معنى أن الدع إذا كان حاله أنه علم المكذب فما حال السهو عن الصلاة وما عطف عليه وهما أشد من ذلك وأشد؟ وإنما جعل شبه استطراد على ما قال لأن الكلام في التكذيب لا في التحذير من الدع بالأصالة، والمراد الجنس الصادق بالجمع وكون ذلك تكلفا واضحا كما قيل غير واضح فكأنه قيل أخبرني ما تقول فيمن يكذبون بالدين وفيمن يؤذون اليتيم أحسن حالهم وما يصنعون أم قبيح؟
والغرض بت القول بالقبح على أسلوب قوله تعالى فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 91] ثم قيل فويل للمصلين على معنى إذا علم أن حالهم قبيح فويل لهم فوضع المصلين موضع الضمير دلالة على أنهم مع الاتصاف بالتكذيب متصفون بهذه الأشياء أيضا. وجعل بعضهم الفاء في فَوَيْلٌ على العطف المذكور للسببية وهذا الوجه يقتضي اتحاد المصلين والمكذبين، وعليه قيل المراد بهم المنافقون بل روي إطلاق القول بأنهم المرادون عن ابن عباس ومجاهد والإمام مالك. وقال في البحر: يدل عليه الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ ويصح أن يراد بالمصلين على الاتحاد المكلفون بالصلاة ولو كفارا غير منافقين وبسهوهم عن الصلاة تركهم إياها بالكلية، ويلتزم القول بأن الكفار مكلفون بالفروع مطلقا. واعترض أبو حيان ذلك الوجه بأن التركيب عليه تركيب غريب وهو كقولك أكرمت الذي يزورني فذاك الذي يحسن إليّ، والمتبادر إلى الذهن منه أن فَذلِكَ مرفوع بالابتداء وعلى تقدير النصب بالعطف يكون التقدير أكرمت الذي يزورني فأكرمت ذلك الذي يحسن إليّ، واسم الإشارة فيه غير متمكن تمكن ما هو فصيح إذ لا حاجة إليه بل الفصيح أكرمت الذي يزورني فالذي

(15/476)


يحسن إليّ، أو أكرمت الذي يزورني فيحسن إليّ، وقيل إن اسم الإشارة هنا مقحم للإشارة إلى بعد المنزلة في الشر والفساد فتأمل. وجوز أيضا أن يكون العطف عطف ذات على ذات فالاستخبار عن حال المكذبين وحال الداعين أحسن هو أم قبيح على قياس ما مر. وتعقبه في الكشف بأنه لا يلائم المقام رجوع الضمير إلى الطائفتين حتى يوضع موضع المصلين فافهم. وقرأ ابن إسحاق والأشهب «يرؤون» بالقصر وتشديد الهمزة وفي رواية أخرى عن ابن إسحاق أنه قرأ بالقصر وترك التشديد والله تعالى أعلم.

(15/477)


إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)

سورة الكوثر
وتسمى كما قال البقاعي سورة النحر. وهي مكية في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل، ونسب في البحر إلى الجمهور، مدنية في قول الحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد، وفي الإتقان أنه الصواب ورجحه النووي عليه الرحمة في شرح صحيح مسلم لما
أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي في سننه وغيرهم عن أنس بن مالك قال: أغفى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إغفاءة فرفع رأسه متبسما فقال: «إنه أنزل عليّ آنفا سورة» فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ حتى ختمها الحديث.
وفي أخبار سبب النزول ما يقتضي كلّا من القولين وستسمع بعضا منها إن شاء الله تعالى. ومن هنا استشكل أمرها وذكر الخفاجي أن لبعضهم تأليفا صحح فيه أنها نزلت مرتين وحينئذ فلا إشكال. وآيها ثلاث بلا خلاف وليس في القرآن كما أخرج البيهقي عن ابن شبرمة سورة آيها أقل من ذلك بل قد صرحوا بأنها أقصر سورة في القرآن. وقال الإمام: هي كالمقابلة للتي قبلها لأن السابقة وصف الله تعالى فيها المنافق بأربعة أمور البخل وترك الصلاة والرياء ومنع الزكاة فذكر عز وجل في هذه السورة في مقابلة البخل إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1] أي الخير الكثير، وفي مقابلة ترك الصلاة فَصَلِّ [الكوثر: 2] أي دم على الصلاة، وفي مقابلة الرياء لِرَبِّكَ [الكوثر: 2] أي لرضاه لا للناس وفي مقابلة منع الماعون وَانْحَرْ [الكوثر: 3] وأراد به سبحانه التصدق بلحوم الأضاحي. ثم قال: فاعتبر هذه المناسبة العجيبة انتهى فلا تغفل.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ وقرأ الحسن وطلحة وابن محيصن والزعفراني «أنطيناك» بالنون وهي على ما قال التبريزي لغة العرب العرباء من أولى قريش، وذكر غيره أنها لغة بني تميم وأهل اليمن وليست من الإبدال الصناعي في شيء.
ومن كلامه صلّى الله عليه وسلم: «اليد العليا المنطية واليد السفلى المنطاة»
وكتب عليه الصلاة والسلام لوائل: «أنطوا الثبجة- أي الوسط- في الصدقة»
. الْكَوْثَرَ فيه أقوال كثيرة. فذهب أكثر المفسرين إلى أنه نهر في الجنة لقوله صلّى الله عليه وسلم في آخر الحديث المتقدم آنفا المروي
عن الإمام أحمد ومسلم ومن معهما: «هل تدرون ما الكوثر؟» قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم. قال: «هو نهر أعطانيه ربي في الجنة عليه خير كثير ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد الكواكب يختلج العبد منهم فأقول: يا رب إنه من أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدث بعدك»

(15/478)


وقوله عليه الصلاة والسلام على ما أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة وآخرون عن أنس عنه صلّى الله عليه وسلم: «دخلت الجنة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ، فضربت بيدي إلى ما يجري فيه الماء فإذا مسك أذفر، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاكه الله تعالى»
.
وجاء في حديث عن أنس أيضا قال: دخلت على رسول الله فقال: «قد أعطيت الكوثر» قلت: «يا رسول الله وما الكوثر؟ قال: «نهر في الجنة عرضه وطوله ما بين المشرق والمغرب لا يشرب منه أحد فيظمأ ولا يتوضأ منه أحد فيشعث أبدا، لا يشرب منه من أخفر ذمتي ولا من قتل أهل بيتي»
.
وروي عن عائشة أنها قالت: هو نهر في الجنة عمقه سبعون ألف فرسخ ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، شاطئاه الدر والياقوت والزبرجد، خص الله تعالى به نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم من بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقالت: ليس أحد يدخل أصبعيه في أذنيه إلّا سمع خرير ذلك النهر
. وهو على التشبيه البليغ. وقيل: هو حوض له عليه الصلاة والسلام في المحشر. وقول بعضهم الاختلاف في الروايات سببه ملاحظة اختلاف سرعة السير وعدمها وهو قبل الميزان والصراط عند بعض وبعدهما قريبا من باب الجنة حيث يحبس أهلها من أمته صلّى الله عليه وسلم ليتحاللوا من المظالم التي بينهم عند آخرين، ويكون على هذا في الأرض المبدلة. وقيل له صلّى الله عليه وسلم حوضان حوض قبل الصراط وحوض بعده ويسمى كل منهما على ما حكاه القاضي زكريا كوثرا وصحح رحمه الله تعالى أنه بعد الصراط، وأن الكوثر في الجنة وأن ماءه ينصب فيه ولذا يسمى كوثرا وليس هو من خواصه عليه الصلاة والسلام كالنهر السابق بل يكون لسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يرده مؤمنو أممهم.
ففي حديث الترمذي: «إن لكل نبي حوضا وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة، وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردة»
. وهو كما قال حديث حسن غريب. وهذه الحياض لا يجب الإيمان بها كما يجب الإيمان بحوضه عليه الصلاة والسلام عندنا خلافا للمعتزلة النافين له لكون أحاديثه بلغت مبلغ التواتر بخلاف أحاديثها فإنها آحاد بل قيل: لا تكاد تبلغ الصحة. ورأيت في بعض الكتب أن الكوثر هو النهر الذي ذكره أولا وهو الحوض وهو على ظهر ملك عظيم يكون مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم حيث يكون فيكون في المحشر إذ يكون عليه الصلاة والسلام فيه، وفي الجنة إذ يكون عليه الصلاة والسلام فيها، ولا يعجز الله تعالى شيء. وقيل: هو أولاده عليه الصلاة والسلام لأن السورة نزلت ردا على من عابه صلّى الله عليه وسلم وهم والحمد لله تعالى كثيرون قد ملؤوا البسيطة.
وقال أبو بكر بن عباس ويمان بن وثاب: أصحابه وأشياعه صلّى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، وقيل: علماء أمته صلّى الله عليه وسلم وهم أيضا كثيرون في كل قطر وإن كانوا اليوم في بعض الأقطار والأمر لله تعالى أقل قليل. وعن الحسن أنه القرآن وفضائله لا تحصى. وقال الحسين بن الفضل: هو تيسير القرآن وتخفيف الشرائع. وقيل: هو الإسلام. وقال هلال: هو التوحيد. وقال عكرمة: هو النبوة.
وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: هو نور قلبه صلّى الله عليه وسلم
. وقيل هو العلم والحكمة. وقال ابن كيسان: هو الإيثار. وقيل هو الفضائل الكثيرة المتصف بها عليه الصلاة والسلام.
وقيل المقام المحمود وقيل غير ذلك. وقد ذكر في التحرير ستة وعشرين قولا فيه وصحح في البحر قول النهر وجماعة أنه الخير الكثير والنعم الدنيوية والأخروية من الفضائل والفواضل، ورواه ابن جرير وابن عساكر عن مجاهد وهو المشهور عن الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقد أخرج البخاري وابن جرير والحاكم من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: الكوثر الخير الذي أعطاه الله تعالى إياه عليه الصلاة والسلام. قال أبو بشر: قلت لسعيد فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة. قال: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله عز وجل إياه صلّى الله عليه وسلم. وحكي هذا الجواب عن ابن عباس نفسه أيضا وفيه إشارة إلى أن ما صح في الأحاديث من تفسيره صلّى الله عليه وسلم إياه بالنهر من باب التمثيل والتخصيص لنكتة وإلا فبعد أن صح

(15/479)


الحديث في ذلك بل كاد يكون متواترا كيف يعدل عنه إلى تفسير آخر؟ وكذا يقال في سائر ما في الأقوال السابقة وغيرها. وهو فوعل من الكثرة صيغة مبالغة الشيء الكثير كثرة مفرطة. قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر:
بم آب ابنك؟ قالت: بكوثر. وقال الكميت:
وأنت كثير يا ابن مروان طيب ... وكان أبوك ابن العقائل كوثرا
وفي حذف موصوفه ما لا يخفى من المبالغة على ما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وفي إسناد الإعطاء إليه دون الإيتاء إشارة إلى أن ذلك إيتاء على جهة التمليك فإن الإعطاء دونه كثيرا ما يستعمل في ذلك ومنه قوله تعالى لسليمان عليه السلام هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ [ص: 39] بعد قوله هَبْ لِي مُلْكاً [ص: 35] . وقيل فيه إشارة إلى أن المعطى وإن كان كثيرا في نفسه قليل بالنسبة إلى شأنه عليه الصلاة والسلام بناء على أن الإيتاء لا يستعمل إلّا في الشيء العظيم كقوله تعالى وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [البقرة: 251] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا [سبأ: 10] وآتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: 87] والإعطاء يستعمل في القليل والكثير كما قال تعالى أَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى [النجم: 34] ففيه من تعظيمه عليه الصلاة والسلام ما فيه، وقيل التعبير بذلك لأنه بالتفضل أشبه بخلاف الإيتاء فإنه قد يكون واجبا ففيه إشارة إلى الدوام والتزايد أبدا لأن التفضل نتيجة كرم الله تعالى الغير المتناهي. وفي جعل المفعول الأول ضمير المخاطب دون الرسول أو نحوه إشعار بأن الإعطاء غير معلل بل هو من محض الاختيار والمشيئة. وفيه أيضا من تعظيمه عليه الصلاة والسلام بالخطاب ما لا يخفى. وجوز أن يكون في إسناد الإعطاء إلى «نا» إشارة إلى أنه مما سعى فيه الملائكة والأنبياء المتقدمون عليهم السلام، وفي التعبير بالماضي قيل إشارة إلى تحقق الوقوع، وقيل إلى إشارة تعظيم الإعطاء وأنه أمر مرعي لم يترك إلى أن يفعل بعد. وقيل: إشارة إلى بشارة أخرى كأن قيل: إنا هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك في الوجود فكيف نهمل أمرك بعد وجودك واشتغالك بالعبودية؟ وقيل: إشارة إلى أن حكم الله تعالى بالإغناء والإفقار والإسعاد والإشقاء ليس أمرا محدثا بل هو حاصل في الأزل. وبني الفعل على المبتدأ للتأكيد والتقوي، وجوز أن يكون للتخصيص على بعض الأقوال السابقة في الكوثر وفي تأكيد الجملة بأن ما لا يخفى من الاعتناء بشأن الخبر وقيل لرد استبعاد السامع الإعطاء لما أنه لم يعلل والمعطى في غاية الكثرة وجوز أن يكون لرد الإنكار على بعض الأقوال في الكوثر أيضا.
والفاء في قوله تعالى فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن إعطاءه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام ما ذكر من العطية التي لم يعطها أحدا من العالمين مستوجب للمأمور به أي استجاب أي فدم على الصلاة لربك الذي أفاض عليك ما أفاض من الخير خالصا لوجهه عز وجل خلاف الساهين عنها المرائين فيها أداء لحق شكره تعالى على ذلك فإن الصلاة جامعة لجميع أقسام الشكر، ولذا قيل فَصَلِّ دون «فاشكر» وَانْحَرْ البدن التي هي خيار أموال العرب باسمه تعالى وتصدق على المحاويج خلافا لمن يدعهم ويمنع منهم الماعون كذا قيل. وجعل السورة عليه كالمقابلة لما قبلها كما فعل الإمام، ولم يذكروا مقابل التكذيب بالدين. وقال الشهاب الخفاجي: إن الكوثر بمعنى الخير الكثير الشامل للأخروي يقابل ذلك لما فيه من إثباته ضمنا وكذا إذا كان بمعنى النهر والحوض والأمر على تفسيره بالإسلام وتفسير الدين به أيضا في غاية الظهور، والمراد بالصلاة عند أبي مسلم الصلاة المفروضة. وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك وأخرجه الأول وابن المنذر عن ابن عباس، وذهب جمع إلى أنها جنس الصلاة. وقيل: المراد بها صلاة العيد

(15/480)


وبالنحر التضحية.
أخرج ابن جرير وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال: كانت هذه الآية يوم الحديبية أتاه جبريل عليهما الصلاة والسلام فقال انحر وارجع، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم فخطب خطبة الأضحى ثم ركع ركعتين ثم انصرف إلى البدن فنحرها فذلك قوله تعالى فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ

واستدل به على وجوب تقديم الصلاة على التضحية وليس بشيء وأخرج عبد الرزاق وغيره عن مجاهد وعطاء وعكرمة أنهم قالوا: المراد صلاة الصبح بمزدلفة والنحر بمنى والأكثرون على أن المراد بالنحر نحر الأضاحي واستدل به بعضهم على وجوب الأضحية لمكان الأمر مع قوله تعالى فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153، 155] وأجيب بالتخصص
بقوله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث كتبت عليّ ولم تكتب عليكم: الضحى والأضحية والوتر»
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الأحوص أنه قال وَانْحَرْ أي استقبل القبلة بنحرك وإليه ذهب الفرّاء وقال: يقال منازلهم تتناحر أي تتقابل، وأنشد قوله:
أبا حكم هل أنت عم مجالد ... وسيد أهل الأبطح المتناحر
وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: لما نزلت هذه السورة على النبي صلّى الله عليه وسلم إِنَّا أَعْطَيْناكَ إلخ قال رسول الله عليه الصلاة والسلام لجبريل عليه السلام:
«ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي» ؟ فقال: إنها ليست بنحيرة ولكن يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين هم في السماوات السبع، وإن لكل شيء زينة وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة
. وأخرج ابن جرير عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أنه قال في ذلك: ترفع يديك أول ما تكبر في الافتتاح.
وأخرج البخاري في تاريخه والدارقطني في الافراد وآخرون عن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال: ضع يدك اليمنى على ساعد اليسرى ثم ضعهما على صدرك في الصلاة. وأخرج نحوه أبو الشيخ والبيهقي في سننه عن أنس مرفوعا ورواه جماعة عن ابن عباس-
وروي عباس- وروي عن عطاء أن معناه: اقعد بين السجدتين حتى يبدو نحرك. وعن الضحاك وسليمان التيمي أنهما قالا: معناه ارفع يديك عقيب الصلاة عند الدعاء إلى نحرك ولعل في صحة الأحاديث عند الأكثرين مقالا وإلّا فما قالوا الذي قالوا وقد قال الجلال السيوطي في حديث عليّ كرم الله تعالى وجهه الأول أنه أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم في المستدرك بسند ضعيف وقال فيه ابن كثير إنه حديث منكر جدا بل أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات. وقال الجلال في الحديث الآخر عن الأمير كرم الله تعالى وجهه: أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم بسند لا بأس به، ويرجع قول الأكثرين إن لم يصح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم ما يخالفه أن الأشهر استعمال النحر في نحر الإبل دون تلك المعاني وأن سنة القرآن ذكر الزكاة بعد الصلاة وما ذكر بذلك المعنى قريب منها بخلافه على تلك المعاني، وأن ما ذكروه من المعاني يرجع إلى آداب الصلاة أو أبعاضها فيدخل تحت فَصَلِّ لِرَبِّكَ ويبعد عطفه عليه دون ما عليه الأكثر مع أن القوم كانوا يصلون وينحرون للأوثان فالأنسب أن يؤمر صلّى الله عليه وسلم في مقابلتهم بالصلاة والنحر له عز وجل، هذا واعتبار الخلوص في فصل إلخ كما أشرنا إليه لدلالة السياق عليه، وقيل لدلالة لام الاختصاص. وفي الالتفات عن ضمير العظمة إلى خصوص الرب مضافا إلى ضميره عليه الصلاة والسلام تأكيد لترغيبه صلّى الله عليه وسلم في أداء ما أمر به على الوجه الأكمل.
إِنَّ شانِئَكَ أي مبغضك كائنا من كان هُوَ الْأَبْتَرُ الذي لا عقب له حيث لا يبقى منه نسل ولا حسن ذكر، وأما أنت فتبقى ذريتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة ولك في الآخرة ما لا يندرج تحت البيان. وأصل البتر القطع وشاع في قطع الذنب وقيل لمن لا عقب له أبتر على الاستعارة شبه الولد

(15/481)


والأثر الباقي بالذنب لكونه خلفه فكأنه بعده وعدمه بعدمه وفسره قتادة بالحقير الذليل وليس بذاك كما يفصح عنه سبب النزول وفيها عليه دلالة على أن أولاد البنات من الذرية كما قال غير واحد، واسم الفاعل أعني شانىء هاهنا قيل بمعنى الماضي ليكون معرفة بالإضافة فيكون الأبتر خبره ولا يشكل بمن كان يبغضه عليه الصلاة والسلام قبل الإيمان من أكابر الصحابة رضي الله تعالى عنهم ثم هداه الله تعالى للإيمان وذاق حلاوته فكان صلّى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه وأعز عليه من روحه ولم يكن أبتر لما أن الحكم على المشتق يفيد علية مأخذه فيفيد الكلام أن الأبترية معللة بالبغض فتدور معه، وقد زال في أولئك الأكابر رضي الله تعالى عنهم.
واختار بعضهم في دفع ذلك حمل اسم الفاعل على الاستمرار فهم لم يستمروا على البغض والظاهر أنه انقطع نسل كل من كان مبغضا له عليه الصلاة والسلام حقيقة وقيل انقطع حقيقة أو حكما لأن من أسلم من نسل المبغضين انقطع انتفاع أبيه منه بالدعاء ونحوه لأنه لا عصمة بين مسلم وكافر. وما أشرنا إليه من أن هو ضمير فصل هو الأظهر وجوز أن يكون مبتدأ خبره الْأَبْتَرُ والجملة خبر شانِئَكَ وحينئذ يجوز صناعة أن يكون بمعنى الحال أو الاستقبال وحمل شانِئَكَ على الجنس هو الظاهر وخصه بعضهم بمن جاء في سبب النزول واحدا أو متعددا وفيه روايات أخرج ابن سعد وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال:
كان أكبر ولد رسول الله صلّى الله عليه وسلم القاسم ثم زينب ثم عبد الله ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية، فمات القاسم عليه السلام وهو أول ميت من ولده عليه الصلاة والسلام بمكة، ثم مات عبد الله عليه السلام فقال العاص بن وائل السهمي: قد انقطع نسله فهو ابتر فأنزل الله تعالى إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن شمر بن عطية قال: كان عقبة بن أبي معيط يقول إنه لا يبقى للنبي صلّى الله عليه وسلم عقب وهو أبتر، فأنزل الله تعالى فيه إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أيوب قال: لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مشى المشركون بعضهم إلى بعض فقالوا: إن هذا الصابىء قد بتر الليلة، فأنزل الله تعالى إِنَّا أَعْطَيْناكَ السورة. وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عباس أنه قال في الآية هو أبو جهل أي لأنها نزلت فيه وهذا المقدار في الرواية عن ابن عباس لا بأس به،
وحكاية عنه أنه لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج أبو جهل إلى أصحابه فقال: بتر محمد عليه الصلاة والسلام، فأنزل الله تعالى إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ

لا تكاد تصح لأن هلاك اللعين أبي جهل على التحقيق قبل وفاة إبراهيم عليه السلام. وعن عطاء أنها نزلت في أبي لهب والجمهور على نزولها في العاصي بن وائل وأيّا ما كان فلا ريب في ظهور عموم الحكم والجملة كالتعليل لما يفهمه الكلام فكأنه قيل: إنا أعطيناك ما لا يدخل تحت الحصر من النعم فصل وانحر خالصا لوجه ربك ولا تكترث بقول الشانئ الكريه فإنه هو الأبتر لا أنت. وتأكيدها قيل للاعتناء بشأن مضمونها وقيل هو مثله في نحو قوله تعالى وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [المؤمنون: 27] وذلك لمكان فلا تكترث إلخ المفهوم من السياق. وفي التعبير بالأبتر دون المبتور على ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ما لا يخفى من المبالغة وعمم هذا الشيخ عليه الرحمة كلا من جزأي الجملة، فقال: إنه سبحانه يبتر شانىء رسول الله صلّى الله عليه وسلم من كل خير فيبتر أهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة، ويبتر حياته فلا ينتفع بها ولا يتزود فيها صالحا لمعاده، ويبتر قلبه فلا يعي الخير ولا يؤهله لمعرفته تعالى ومحبته والإيمان برسله عليهم السلام، ويبتر أعماله فلا يستعمله سبحانه في طاعته، ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصرا ولا عونا، ويبتره من جميع القرب فلا يذوق لها طعما ولا يجد لها حلاوة وإن باشرها بظاهره فقلبه شارد عنها وهذا جزاء كل من شنأ ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم لأجل هواه كمن تأول آيات الصفات أو أحاديثها على غير مراد الله تعالى ومراد رسوله عليه

(15/482)


الصلاة والسلام أو تمنى أن لا تكون نزلت أو قيلت. ومن أقوى العلامات على شنآنه نفرته عنها إذا سمعها حين يستدل بها السلفي على ما دلت عليه من الحق وأي شنآن للرسول عليه الصلاة والسلام أعظم من ذلك، وكذلك أهل السماع الذين يرقصون على سماع الغناء والدفوف والشبابات فإذا سمعوا القرآن يتلى أو قرىء في مجلسهم استطالوه واستثقلوه، وكذلك من آثر كلام الناس وعلومهم على القرآن والسنة إلى غير ذلك ولكل نصيب من الانتبار على قدر شنآنه انتهى وفي بعضه نظر لا يخفى. وقرأ ابن عباس «شنيك» بغير ألف فقيل مقصور من شاني كما قالوا برد في بارد وبر في بار، وجوز أن يكون بناء على فعل. هذا وأعلم أن هذه السورة الكريمة على قصرها وإيجازها قد اشتملت على ما ينادى على عظيم إعجازها، وقد أطال الإمام فيها الكلام وأتى بكثير مما يستحسنه ذو والأفهام وذكر أن قوله تعالى وَانْحَرْ متضمن الاخبار بالغيب وهو سعة ذات يده صلّى الله عليه وسلم وأمته وقيل مثله في ذلك إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ. وذكر أنه روي أن مسيلمة الكذاب عارضها بقوله إنا أعطيناك الزماجر فصل لربك وهاجر إن مبغضك رجل كافر. ثم بيّن الفرق من عدة أوجه وهو لعمري مثل الصبح ظاهر، ومن أراد الاطلاع على أزيد مما ذكر فليرجع إلى تفسير الإمام والله تعالى ولي التوفيق والإنعام.

(15/483)


سورة الكافرون
وتسمى المقشقشة كما أخرجه ابن أبي حاتم على زرارة بن أوفى وهو من قشقش المريض إذا صح وبرأ أي المبرئة من الشرك والنفاق. وتسمى أيضا كما في جمال القراء سورة العبادة وكذا تسمى سورة الإخلاص وهي عند ابن عباس والجمهور مكية. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير أنها مدنية وحكاه في البحر عن قتادة على خلاف ما في مجمع البيان من أنه قائل بمكيتها وأيّا ما كان فقول الدواني إنها مكية بالاتفاق ليس في محله. وآيها ست بلا خلاف وفيها إعلان ما فهم مما قبلها من الأمر بإخلاص العبادة له عز وجل ويكفي ذلك في المناسبة بينهما. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لجبلة بن حارثة وهو أخو زيد بن حارثة وقد قال له عليه الصلاة والسلام علمني شيئا أقوله عند منامي نحو ذلك كما في حديث أخرجه الإمام أحمد والطبراني في الأوسط، وأمر صلّى الله عليه وسلم أنسا بأن يقرأها عند منامه أيضا معللا لذلك بما ذكر كما أخرجه البيهقي في الشعب وأمر عليه الصلاة والسلام خبابا بذلك أيضا كما في حديث أخرجه البزار وابن مردويه.
وأخرج أبو يعلى والطبراني عن ابن عباس مرفوعا «ألا أدلكم على كلمة تنجيكم من الإشراك بالله تعالى تقرءون قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون:
1] عند منامكم»
.
وروى الديلمي عن عبد الله بن جراد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «المنافق لا يصلي الضحى ولا يقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ

ويسن قراءتها أيضا مع سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] في ركعتي سنة الفجر التي هي عند الأكثرين أفضل السنن الرواتب وكذا في الركعتين بعد المغرب (1) وهي حجة على من قال من الأئمة إنه لا يسن في سنة الفجر ضم سورة إلى الفاتحة.
وجاء في حديث أخرجه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر مرفوعا وفي آخر أخرجه في الصغير عن سعد بن أبي وقاص كذلك أنها تعدل ربع القرآن
ووجه ذلك الإمام بأن القرآن مشتمل على الأمر بالمأمورات والنهي عن المحرمات وكل منهما إما أن يتعلق بالقلب أو بالجوارح فيكون أربعة أقسام وهذه السورة مشتملة على النهي عن المحرمات المتعلقة بالقلب فتكون كربع
__________
(1) قوله وهي حجة الضمير عائد على مضروب عليه في نسخة المؤلف نصه، فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة وابن حبان وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: رمقت النبي صلّى الله عليه وسلم خمسا وعشرين مرة- وفي لفظ شهرا- فكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب ب قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
وفي حديث أخرجه ابن ماجة وابن حبان عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول: «نعم السورتان مما يقرآن في الركعتين قبل الفجر قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ

إلى غير ذلك من الأخبار وهي حجة إلخ اه منه.

(15/484)


قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)

القرآن، وتعقب بأن العبادة أعم من القلبية والقالبية والأمر والنهي المتعلقان بها لا يختصان بالمأمورات والمنهيات القلبية والقالبية، وأن مقاصد القرآن العظيم لا تنحصر في الأمر والنهي المذكورين بل هو مشتمل على مقاصد أخرى كأحوال المبدأ والمعاد ومن هنا قيل لعل الأقرب أن يقال إن مقاصد القرآن التوحيد والأحكام الشرعية وأحوال المعاد والتوحيد عبارة عن تخصيص الله تعالى بالعبادة وهو الذي دعا إليه الأنبياء عليهم السلام أولا بالذات والتخصيص إنما يحصل بنفي عبادة غيره تعالى وعبادة الله عز وجل إذ التخصيص له جزآن النفي عن الغير والإثبات للمخصص به، فصارت المقاصد بهذا الاعتبار أربعة. وهذه السورة تشتمل على ترك عبادة غيره سبحانه والتبري منها فصارت بهذا الاعتبار ربع القرآن ولكونها ليس فيها التصريح بالأمر بعبادة الله عز وجل كما أن فيها التصريح بترك عبادة غيره تعالى لم تكن كنصف القرآن وقيل: إن مقاصد القرآن صفاته تعالى والنبوات والأحكام والمواعظ وهي مشتملة على أساس الأول وهو التوحيد ولذا عدلت ربعه، وذكر بعض أجلّة أحبابي المعاصرين أوجها في ذلك أحسنها فيما أرى أن الدين الذي تضمنه القرآن أربعة أنواع:
عبادات ومعاملات وجنايات ومناكحات، والسورة متضمنة للنوع الأول فكانت ربعا. وتعقب بأنه أراد فكانت ربعا من القرآن فلا نسلم صحة تفريعه على كون الدين الذي تضمنه القرآن أربعة أنواع وإن أراد فكانت ربعا من الدين فليس الكلام فيه إنما الكلام في كونها تعدل ربعا من القرآن إذ هو الذي تشعر به الأخبار على اختلاف ألفاظها والتلازم بينهما غير مسلم على أن المقابلة الحقيقية بين ما ذكر من الأنواع غير تامة. وأجيب باحتمال أنه أراد أن مقاصد القرآن هي تلك الأربعة التي هي الدين ولا يبعد أن يكون ما تضمن واحدا منها عدل القرآن كله مقاصده وغيرها. ولا يرد على الحصر أن من مقاصده أحوال المبدأ والمعاد فبدخول ذلك في العبادات بنوع عناية وعدم التقابل الحقيقي لا يضر إذ يكفي في الغرض عدّ أهل العرف تلك الأمور متقابلة ولو بالاعتبار فتأمل جميع ذلك والله تعالى الهادي لأقوم المسالك.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ قال أجلة المفسرين: المراد بهم كفرة من قريش مخصوصون قد علم الله تعالى أنهم لا يتأتى منهم الإيمان أبدا.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف عن سعيد بن ميناء مولى أبي البختري قال: لقي الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد هلم فلتعبد ما نعبد ونعبد ما تعبد ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظا، وإن كان الذي أنت عليه أصح من الذي نحن عليه كنا قد أخذنا منه حظا، فأنزل الله تعالى قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ حتى انقضت السورة
.
وفي رواية أن رهطا من عتاة قريش قالوا له صلّى الله عليه وسلم: هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة. فقال عليه الصلاة والسلام:
«معاذ الله تعالى أن أشرك بالله سبحانه غيره» . فقالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك، فنزلت فعدا صلّى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام عليه الصلاة والسلام على رؤوسهم فقرأها عليهم فأيسوا
. ولعل نداءهم «بيا

(15/485)


أيها» للمبالغة في طلب إقبالهم لئلا يفوتهم شيء مما يلقى إليهم، «وبالكافرون» دون الذين كفروا لأن الكفر كان دينهم القديم ولم يتجدد لهم، أو لأن الخطاب مع الذين يعلم استمرارهم على الكفر فهو كاللازم لهم أو للمسارعة إلى ذكر ما يقال لهم لشدة الاعتناء به وبه دون المشركين مع أنهم عبدة أصنام والأكثر التعبير عنهم بذلك لأن ما ذكر أنكى لهم فيكون أبلغ في قطع رجائهم الفارغ. وقيل: هذا للإشارة إلى أن الكفر كله ملة واحدة ولا يبعد أن يكون في هذه الإشارة إنكاء لهم أيضا وفي ندائه عليه الصلاة والسلام بذلك في ناديهم ومكان بسطة أيديهم دليل على عدم اكتراثه عليه الصلاة والسلام بهم إذ المعنى قل يا محمد، والمراد حقيقة الأمر خلافا لصاحب التأويلات للكافرين يا أيها الكافرون لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ يتراءى أن فيه تكرارا للتأكيد، فالجملة الثالثة المنفية على ما في البحر توكيد للأولى على وجهه أبلغ لاسمية المؤكدة، والرابعة توكيد للثانية وهو الذي اختاره الطيبي وذهب إليه الفرّاء وقال: إن القرآن نزل بلغة العرب ومن عادتهم تكرار الكلام للتأكيد والإفهام، فيقول المجيب: بلى بلى والممتنع لا لا. وعليه قوله تعالى كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر: 3] وأنشد قوله:
كائن وكم عندي لهم من صنيعة ... أيادي سنوها عليّ وأوجبوا
وقوله:
نعق الغراب ببين ليلى غدوة ... كم كم وكم بفراق ليلى ينعق
وقوله:
هلا سألت جموع كن ... دة يوم ولوا أين أينا
وهو كثير نظما ونثرا، وفائدة التأكيد هاهنا قطع أطماع الكفار وتحقيق أنهم باقون على الكفر أبدا.
واعترض بأن تأكيد الجمل لا يكون مع العاطف إلّا بثم وكأن القائل بذاك قاس الواو على ثم، والظاهر أن من قال بالتأكيد جعل الجملة الرابعة معطوفة على الثالثة، وجعل المجموع معطوفا على مجموع الجملتين الأوليين فهناك مجموعان متعاطفان يؤكد ثانيهما أولهما ولمغايرة الثاني للأول بما فيه من الاستمرار عطف عليه بالواو فلا يرد ما ذكر، ويتضمن ذلك معنى تأكيد الجزء الأول من الثاني للجزء الأول من الأول وتأكيد الجزء الثاني من الثاني للجزء الثاني من الأول، وإلّا فظاهر ما في البحر مما لا يكاد يجوز كما لا يخفى والذي عليه الجمهور أنه لا تكرار فيه لكنهم اختلفوا فقال الزمخشري لا أَعْبُدُ أريد به نفي العبادة فيما يستقبل لأن لا لا تدخل إلّا على مضارع في معنى الاستقبال كما أن ما لا تدخل إلّا على مضارع في معنى الحال، والمعنى لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي، وما كنت عابدا قط فيما سلف ما عبدتم فيه، وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته. والظاهر أنه اعتبر في الجملة الأخيرة استمرار النفي وأنه حمل المضارع فيها على إفادة الاستمرار والتصوير، وفي الثانية استغرق النفي للأزمنة الماضية. وقال الطيبي: إنه جعل القرينتين للأوليين للاستقبال والأخريين للماضي، واعترض عليه بأن الحصرين اللذين ذكرهما في لا وما غير صحيح وإن كانا يشعر بهما ظاهر كلام سيبويه. وقال الخفاجي: ما ذكر أغلبي أو مقيد بعدم القرينة القائمة على ما يخالفه، أو هو كلي ولا حجر في التجوز والحمل على غيره لمقتض كدفع التكرار هنا وإن قيل بتحقق الاستغراب على القول باشتراطه في الحكاية في عابد الأول وعدم ضرر فقده في الثاني لأن النصب به للمشاكلة وقيل: القرينتان الأوليان للاستقبال كما مر،

(15/486)


والأخريان للحال واختاره أبو حيان أي ولست في الحال بعابد معبوديكم، ولا أنتم في الحال بعابدي معبودي.
وقيل بالعكس وعليه كلام الزجاج ومحيي السنة. وقيل الأوليان للماضي والأخريان للمستقبل نقله ابن كثير عن حكاية البخاري وغيره، ونقل أيضا عن شيخ الإسلام ابن تيمية أن المراد بقوله سبحانه لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ نفي الفعل لأنها جملة فعلية وبقوله تعالى وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ نفي قبوله صلّى الله عليه وسلم لذلك بالكلية لأن النفي بالجملة الاسمية آكد فكأنه نفى الفعل وكونه عليه الصلاة والسلام قابلا لذلك ومعناه نفي الوقوع ونفي إمكانه الشرعي، ونوقش في إفادة الجملة الاسمية نفي القبول ولا يبعد أن يقال إن معنى الجملة الفعلية نفي الفعل في زمان معين، والجملة الاسمية معناها نفي الدخول تحت هذا المفهوم مطلقا من غير تعرض للزمان كأنه قيل: أنا ممن لا يصدق عليه هذا المفهوم أصلا وأنتم ممن لا يصدق عليه ذلك المفهوم فتدبر. وقيل: الأوليان لنفي الاعتبار الذي ذكره الكافرون، والأخريان للنفي على العموم أي لا أعبد ما تعبدون رجاء أن تعبدوا الله تعالى، ولا أنتم عابدون رجاء أن أعبد صنمكم. ثم قيل: ولا أنا عابد صنمكم لغرض من الأغراض بوجه من الوجوه، وكذا أنتم لا تعبدون الله تعالى لغرض من الأغراض وإيثار ما في ما أعبد قيل على جميع الأقوال السابقة على من لأن المراد الصفة كأنه قيل ما أعبد من المعبود العظيم الشأن الذي لا يقادر قدر عظمته، وجوز أن يقال لما أطلقت ما على الأصنام أولا وهو إطلاق في محزه أطلقت على المعبود بحق للمشاكلة ومن يقول إن ما يجوز أن تقع على من يعلم ونسب إلى سيبويه لا يحتاج إلى ما ذكر وقال أبو مسلم: ما في الأوليين بمعنى الذي مفعول به، والمقصود المعبود أي لا أعبد الأصنام ولا تعبدون الله تعالى. وفي الأخريين مصدرية أي ولا أنا عابد مثل عبادتكم المبنية على الشك وإن شئت قلت على الشرك المخرج لها عن كونها عبادة حقيقة ولا أنتم عابدون مثل عبادتي المبنية على اليقين وإن شئت قلت على التوحيد والإخلاص، وعليه لا يكون تكرار أيضا.
وقال بعض الأجلّة في هذا المقام إن قوله تعالى لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وقوله سبحانه وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ إما كلاهما نفي الحال أو كلاهما نفي الاستقبال، أو أحدهما للحال والآخر للاستقبال، وعلى التقادير فلفظ ما إما مصدرية في الموضعين وإما موصولة أو موصوفة فيهما، وإما مصدرية في أحدهما وموصولة أو موصوفة في الآخر وهذه ستة احتمالات حاصلة من ضرب الثلاثة في الاثنين. ولم يلتفت إلى تقسيم صورة الاختلاف إلى الفرق بين الأولى والأخرى، ولا إلى الفرق بين الموصولة والموصوفة لتكثر الأقسام لأن صور الاختلاف متساوية الاقدام في دفع التكرار، ومؤدى الموصولة والموصوفة متقاربان فيكتفى بإحداهما وكذا الحال في قوله تعالى وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ في الموضعين ومعلوم أنه لا تكرار في صورة الاختلاف سواء كان باعتبار الحال والاستقبال أو باعتبار كون ما في أحدهما موصولة أو موصوفة وفي الآخر مصدرية ونفي عبادتهم في الحال أو الاستقبال معبوده عليه الصلاة والسلام بناء على عدم الاعتداد بعبادتهم لله تعالى مع الإشراك المحبط لها وجعلها هباء منثورا كما قيل:
إذا صافى صديقك من تعادي ... فقد عاداك وانقطع الكلام
ومن هنا قال بعض الأفاضل في إخراج الآية عن التكرار: يحتمل أن يكون المراد من قوله تعالى لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ نفي عبادة الأصنام، ومن قوله تعالى وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ نفي عبادة الله تعالى من غير تعرض لشيء آخر، ولما كان مظنة أن يقولوا لغفلة عن المراد أو نحوها كيف يسوغ لك أن تنفي عنك عبادة ما نعبد وعنا عبادة ما تعبد ونحن أيضا نعبد الله تعالى غاية ما في الباب أنا نعبد معه غيره، أردف ذلك

(15/487)


بقوله سبحانه وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ إلخ للإشارة إلى أنهم ما عبدوا الله حقيقة وإنما عبدوا شيئا قالوا إنه الله، والله عز وجل وراء ذلك أي ولا أنا عابد في وقت من الأوقات الإله الذي عبدتم لأنكم عبدتم شيئا تخيلتموه وذلك بعنوان ما تخيلتم ليس بالإله الذي أعبده، ولا أنتم عابدون في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته لأني إنما أعبد الإله المتصف بالصفات التي قام البرهان على أنها صفات الإله. النفس الأمري ويعلم منه وجه غير ما تقدم للتعبير بالكافرون دون المشركون وكأنه لم يؤت بالقرينتين الأوليين بهذا المعنى ويكتفى بهما عن الأخريين لأنهما أوفق بجوابهم مع أن هذا الأسلوب أنكى لهم فلا تغفل. ومن الناس من اختار كون ما في القرينتين الأوليين موصولة مفعولا به لما قبلها والمراد بها أولا آلهتهم وثانيا إلهه عليه الصلاة والسلام، والمراد نفي العبادة ملاحظا معها التعلق بما تعلقت به من المفعول بل هو المقصود ومحط النظر كما يقتضي ذلك وقوع القرينتين في الجواب، ويعتبر الاستقبال رعاية للغالب في استعمال لا داخلة على المضارع مع كونه أوفق بالجواب أيضا، ويكون قد تم بهم فكأنه قيل لا أعبد في المستقبل ما تعبدون في الحال من الآلهة أي لا أحدث ذلك حسبما تطلبونه مني وتدعوني إليه، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد في الحال وكونها في الأخريين مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر وقع مفعولا مطلقا لما قبل كما فعل أبو مسلم ليتضمن الكلام الإشارة إلى بيان حال العبادة في نفسها من غير نظر إلى تعلقها بالمفعول وإن كانت لا تخلو عنه في الواقع إثر الإشارة إلى بيان حالها مع ملاحظة تعلقها بالمفعول، ويراد استمرار النفي في كلتيهما كما في قول تعالى لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62 وغيرها] وفي ذلك من إنكائهم ما ليس في الاقتصار على ما تم به الجواب، فكأنه قيل: ولا أنا عابد على الاستمرار عبادة مثل عبادتكم التي أذهبتم بها أعماركم لأن عبادتي مأمور بها وعبادتكم منهي عنها، ولا أنتم عابدون على الاستمرار عبادة مثل عبادتي التي أنا مستمر عليها لأنكم الذين خذلهم الله تعالى وختم على قلوبهم وإني الحبيب المبعوث بالحق، فلا زلتم في عبادة منهي عنها ولا زلت في عبادة مأمور بها ولك أن تعتبر الفرق بين العبادتين بوجه آخر، واعتبار الاستمرار في ما أَعْبُدُ يشعر به العدول عن ما عبدت الذي يقتضيه ما عبدتم قبله إليه، وعن العدول في الثانية إلى ذلك لأن أنواع عبادته عليه الصلاة والسلام لم تكن تامة بعد بل كانت تتجدد لها أنواع أخر فأتى بما يفيد الاستمرار التجددي للإشارة إلى حقية جميع ما يأتي به صلّى الله عليه وسلم من ذلك. وقال الزمخشري: لم يقل ما عبدت كما قيل ما عبدتم لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل البعث وهو عليه الصلاة والسلام لم يكن يعبد الله تعالى في ذلك الوقت، وتعقب بأن فيه نظرا لما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان يتحنث في غار حراء قبل البعثة.
ونص أبو الوفاء على ابن عقيل على أنه صلّى الله عليه وسلم كان متدينا قبل بعثه بما يصح عنه أنه من شريعة إبراهيم عليه السلام، وأما بعد البعث فقال ابن الجوزي في كتاب الوفاء: فيه روايتان عن الإمام أحمد إحداهما أنه كان متعبدا بما صح من شرائع من قبله بطريق الوحي لا من جهتهم ولا نقلهم ولا كتبهم المبدلة، واختارها أبو الحسن التميمي وهو قول أصحاب أبي حنيفة الثانية إن لم يكن متعبد إلّا بما يوحى إليه من شريعته وهو قول المعتزلة والأشعرية، ولأصحاب الشافعي وجهان كالروايتين، والقائلون بأنه عليه الصلاة والسلام متعبد بشرع من قبله اختلفوا في التعيين فقيل: كان متعبدا بشريعة إبراهيم عليه السلام وعليه أصحاب الشافعي، وقيل بشريعة موسى عليه السلام إلا ما نسخ في شرعنا. وظاهر كلام أحمد أنه صلّى الله عليه وسلم كان متعبدا بكل ما صح أنه شريعة لنبي قبله ما لم يثبت نسخه لقوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] وقال ابن قتيبة: لم تزل العرب على بقايا دين إسماعيل عليه السلام كالحج والختان وإيقاع الطلاق الثلاث والدية والغسل من

(15/488)


الجنابة وتحريم المحرم بالقرابة والصهر، وكان عليه الصلاة والسلام على ما كانوا عليه من الإيمان بالله تعالى والعمل بشرائعهم انتهى. والمعتزلة لم يجوزوا ذلك لزعمهم أن فيه مفسدة وهو إيجاب النفرة. نعم من أصولهم وجوب التعبد العقلي بالنظر في آيات الله تعالى وأدلة توحيده سبحانه ومعرفته عز وجل ولا يمكن أن يخلى صلّى الله عليه وسلم بذلك. وفي الكشف العبادة قد تطلق على أعمال الجوارح الواقعة على سبيل القربة فالإيمان والنية والإخلاص شروط ومنه لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد. واختلف أنه عليه الصلاة والسلام كان متعبدا بهذا المعنى قبل نبوته بشر أو لا فميل الإمام فخر الدين وجماعة من الشافعية وأبي الحسين البصري وأتباعه إلى أنه صلّى الله عليه وسلم لم يكن متعبدا، وأجابوا عن الطواف والتحنث وغيرهما من المكارم أنها لا تحرم من غير شرع حتى يقال الآتي بها لا بد أن يكون متعبدا بل هي من اقتضاء العادات المستمرة والمكارم الغريزية دون نظر إلى قربة، والزمخشري اختار ذلك القول وعليه بنى تفسيره. وقد ظهر أنه لم يخالف أصله في وجوب التعبد العقلي بالنظر في الآيات وأدلة التوحيد والمعرفة، ثم قال: والظاهر حمل ما أَعْبُدُ على إفادة الاستمرار والتصوير على أنهم ما كانوا ينكرون ما كان عليه صلّى الله عليه وسلم فيما مضى عبادة كانت أو لا، بل كانوا يعظمونه ويلقبونه بالأمين إنما كان المنكر ما كان عليه بعد النبوة فلذلك قيل ثانيا وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ إذ لو قيل ما عبدت لم يطابق المقام، وفيه أن ما كانوا يتوهمونه من موافقته عليه الصلاة والسلام قبل النبوة لم يكن صحيحا بل إنما كان ذلك لأنه لم يكن صلّى الله عليه وسلم مأمورا بالدعوة انتهى. فتدبره. وزعم بعضهم أن تغاير الأساليب في هذه السورة لتغاير أحوال الفريقين وليس بشيء، وفي تكليف مثل هؤلاء المخاطبين بما ذكر على القول بإفادته الاستمرار على الكفر بالإيمان بحث مذكور في كتب الأصول إن أردته فارجع إليه وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة تبت إشارة ما إلى ذلك.
وقوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ هو عند الأكثرين تقرير لقوله تعالى لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وقوله تعالى وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ كما أن قوله تعالى وَلِيَ دِينِ عندهم تقرير لقوله تعالى وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ والمعنى أن دينكم وهو الإشراك مقصور على الحصول لكم لا يتجاوزه إلى الحصول كما تطمعون فيه فلا تعلقوا به أمانيكم الفارغة فإن ذلك من المحالات، وأن ديني الذي هو التوحيد مقصور على الحصول لي لا يتجاوزه إلى الحصول لكم أيضا لأن الله تعالى قد ختم على قلوبكم لسوء استعدادكم أو لأنكم علقتموه بالمحال الذي هو عبادتي لآلهتكم أو استلامي لها، أو لأن ما وعدتموه عين الإشراك وحيث إن مقصودهم شركة الفريقين في كلتا العبادتين كان القصر المستفاد من تقديم المسند قصر إفراد حتما. وجوز أن يكون هذا تقريرا لقوله تعالى وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ والآية على ما ذكر محكمة غير منسوخة كما لا يخفى أو المراد المتاركة على معنى إني نبي مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة، فإذا لم تقبلوا مني ولم تتبعوني فدعوني كفافا ولا تدعوني إلى الشرك فهي على هذا كما قال غير واحد منسوخة بآية السيف. وفسر الدين بالحساب أي لكم حسابكم ولي حسابي لا يرجع إلى كل منا من عمل صاحبه أثر. وبالجزاء أي لكم جزاؤكم ولي جزائي. قيل: والكلام على الوجهين استئناف بياني كأنه قيل فما يكون إذا بقينا على عبادة آلهتنا وإذا بقيت على عبادة إلهك؟ فقيل لَكُمْ إلخ. والمراد يكون لهم الشر ويكون له عليه الصلاة والسلام الخير، لكن أتى باللام في لَكُمْ للمشاكلة وعليه لا نسخ أيضا، ويحتمل أن يكون المراد غير ذلك مما تكون عليه الآية منسوخة ولعله لا يخفى. وقد يفسر الدين بالحال كما هو أحد معانيه حسبما ذكره القالي في أماليه وغيره

(15/489)


أي لكم حالكم اللائق بكم الذي يقتضيه سوء استعدادكم، ولي حالي اللائق بي الذي يقتضيه حسن استعدادي والجملة عليه كالتعليل لما تضمنه الكلام السابق فلا نسخ. والأولى أن تفسر بما لا تكون عليه منسوخة لأن النسخ خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلّا عند الضرورة وللإمام الرازي أوجه في تفسيرها لا يخلو بعضها عن نظر.
وذكر عليه الرحمة أنه جرت العادة بأن الناس يتمثلون بهذه الآية عند المتاركة وذلك لا يجوز لأن القرآن ما أنزل ليتمثل به بل ليهتدى به، وفيه ميل إلى سد باب الاقتباس والصحيح جوازه فقد وقع في كلامه عليه الصلاة والسلام وكلام كثير من الصحابة والأئمة والتابعين، وللجلال السيوطي رسالة وافية كافية في إزالة الالتباس عن وجه جواز الاقتباس وما ذكر من الدليل فأظهر من أن ينبه على ضعفه. وقرأ سلام ويعقوب «ديني» بياء وصلا ووقفا وحذفها القراء السبعة والله تعالى أعلم.

(15/490)