جامع البيان في القراءات السبع

المقدمة [من المحقق]
الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلّم.
أما بعد:
فإن علم القراءات واحد من علوم الإسلام المتعددة، التي شغف بها سلفنا الصالح، وأفنوا أعمارهم فيها: شطرا في الطلب والتحصيل، وشطرا في التدريس والإملاء والكتابة والتصنيف، نشرا للعلم وقياما بحقه، وأداء لأمانة يرجون فيها ثواب الدار الآخرة، فأورثونا، ونعم الإرث، تراثا عظيما غنيا وأصيلا في شتى ميادين المعرفة.
على حين خلف من بعدهم خلف قعدوا عن التأسي بأجدادهم، وفرطوا بتركة آبائهم، فناموا طويلا في سبات عميق، وما انتبهوا إلا بعد ما انتهبوا، فتراكضوا يجمعون ميراثهم، وينشرون كتب آبائهم، بعد أن تشتتت في مشارق الأرض ومغاربها.
غير أن مخطوطات علم القراءات لم تنل حقها من عناية الباحثين المسلمين المعاصرين، حيث إن هذه النفائس، ما عدا النزر اليسير، ما زالت حبيسة الخزائن في شتى مكتبات العالم، بل إن بعض أفاضل العلماء يجادل في فائدة نشر هذه المصنفات، وفي جدوى فائدة علم القراءات في هذا الزمان، على أن المستشرقين فطنوا إلى أهمية هذا العلم فبادروا إلى نشر تراثه وكتابة البحوث في مسائله وموضوعاته، وهدف كثير منهم النيل من كتاب الإسلام، والكيد لأتباعه.
فما أحرانا أن نشمّر عن سواعد الجدّ للعمل في ميدان هذا العلم الجليل، ندرأ الخطر، ونكشف الشبهات، وطوبى لمن جعله الله سببا لحفظ كتابه الكريم من التغيير والتبديل.

(1/3)


وكان حقّ علم القراءات أن نعنى به أشدّ عناية، كما عني به سلفنا الصالح، لأنه من أوثق العلوم صلة بكتاب الله تعالى. وشرف العلم من شرف موضوعه، وأنه به يعرف تاريخ هذا القرآن الكريم، وتواتر نقله جيلا بعد جيل، وبه يعرف الصحيح من الشاذ، وما تصح به الصلاة وما لا تصح من القراءة.
هذا وقد وردت الأحاديث الشريفة تحث على الاشتغال بالقرآن وترغّب في قراءته وإقرائه، وتعلّمه وتعليمه، منها ما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجة والحاكم عن أنس
رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إن لله أهلين من الناس، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصّته» «1».
ومنها ما أخرجه الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «خيركم من قرأ القرآن وأقرأه» «2».
ومنها ما أخرجه البخاري، واللفظ له، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه». قال وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج، قال: وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا «3».
ثم إن علم القراءات سند لكثير من استنباطات الفقهاء وحجة العديد من فروع الفقه وقضاياه، حيث إنه باختلاف القراءات يظهر الاختلاف في الأحكام، ولهذا بنى الفقهاء نقض وضوء الملموس وعدمه على اختلاف القراءات في لامستم ولامستم «4» [النساء: 43] وكذلك جواز وطء الحائض عند الانقطاع وعدمه إلى الغسل على اختلافهم في حتّى يطهرن «5» [البقرة: 222].
__________
(1) انظر: مسند الإمام أحمد 3/ 127، 128، 242، وسنن ابن ماجة: المقدمة باب فضل من تعلم القرآن وعلمه. قال محمد فؤاد عبد الباقي في الزوائد: إسناده صحيح. وانظر: مستدرك الحاكم 1/ 156. وحسّن الحافظ العراقي إسناد الحديث. انظر: فيض القدير للمناوي 3/ 67.
(2) بإسناد جيد. انظر: النشر 1/ 3.
(3) انظر: صحيح البخاري، فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، وسنن أبي داود:
الصلاة، باب في ثواب قراءة القرآن، وجامع الترمذي: فضائل القرآن، باب ما جاء في تعليم القرآن، وسنن ابن ماجة، المقدمة، فضل من تعلم القرآن وعلمه.
(4) ينظر: اختلاف القراء فيها في النشر 2/ 252، واختلاف المفسرين والفقهاء في تفسير الطبري 1/ 101، والمغني لابن قدامة 1/ 186.
(5) انظر: اختلاف القراء فيها في النشر 2/ 227، واختلاف المفسرين والفقهاء في تفسير الطبري 2/ 386، والمغني 1/ 353.

(1/4)


وعلم القراءات بعد ذلك من العلوم التي يحتاج المفسر إلى إتقانها والأخذ بحظ وافر منها قبل أن يقدم على تفسير كتاب الله تعالى، حيث إنه يتعرّف بالقراءات على (اختلاف الألفاظ بزيادة أو نقص، أو تغير حركة، أو إتيان لفظ بدل لفظ، وذلك بتواتر وآحاد) «1». كما أنه بالقراءات يترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض «2».
وأخيرا فبين علم القراءات واللغة العربية صلة وثقى، ووشيجة كبرى، حيث (تعتبر روايات القراءات القرآنية، مشهورها وشاذها هي أوثق الشواهد على ما كانت عليه ظواهرها الصوتية والصرفية، والنحوية واللغوية بعامة في مختلف الألسنة واللهجات، وإن من الممكن القول: بأن القراءات الشاذة هي أغنى مأثورات التراث، بالمادة اللغوية التي تصلح أساسا للدراسات الحديثة التي يلمح فيها المرء صورة تاريخ هذه اللغة الخالدة) «3».
وقد قدّمت القراءات للغة العربية خدمة كبرى حيث" إن البحث في مخارج الحروف والاهتمام بضبطها على وجوهها الصحيحة، كان من أبلغ العوامل في عناية الأمة بدقائق اللغة العربية الفصحى وأسرارها، وكانت ثمرة هذا الاهتمام والجهد أن القراء تشرّبوا مزايا اللغة العربية وقواعدها ودقائقها، ومما يؤيد ذلك أن الكثيرين من قدماء النحويين كالفراء كانوا مبرّزين في علم القراءات، كما كان الكثيرون من أئمة القراء كأبي عمرو والكسائي بارعين في علم النحو" «4».
وختاما فبسبب من شرف هذا العلم وفضله وأهميته وخطورته وعزوف الباحثين عنه في هذا الزمان، بادرنا إلى تحقيق هذا الكتاب النفيس، لما له من قيمة علمية كبيرة، ولما لمؤلفه من مكانة علمية بين جهابذة هذا الفن، وهو أمر سنبينه فيما بعد إن شاء الله.
اللهم اجعل عملنا هذا خالصا لوجهك، واجعلنا من أهلك وخاصتك، إنّك أكرم مسئول، وأفضل مأمول، وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) البحر المحيط لأبي حيان 1/ 7.
(2) الإتقان للسيوطي 2/ 181.
(3) القراءات القرآنية في ضوء علم اللغة الحديث، لعبد الصبور شاهين 7، بتصرف يسير.
(4) مقدمة أوتبرتزل لكتاب التيسير في القراءات السبع ص/ ج، بتصرف يسير.

(1/5)