حجة القراءات

سُورَة فَاتِحَة الْكتاب
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم رب يسر
1 - الْفَاتِحَة
{مَالك يَوْم الدّين} 4
قَرَأَ عَاصِم وَالْكسَائِيّ {مَالك يَوْم الدّين} بِأَلف
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِغَيْر ألف وحجتهم {الْملك القدوس} و {ملك النَّاس} فتعالى الله الْملك الْحق وَكَانَ أَبُو عَمْرو يَقُول أَولا تَقولُونَ {فتعالى الله الْملك الْحق}
وَحجَّة أُخْرَى ذكرهَا أَبُو عبيد وَهِي أَن كل ملك فَهُوَ مَالك

(1/77)


وَلَيْسَ كل مَالك ملكا لِأَن الرجل قد يملك الدَّار وَالثَّوْب وَغير ذَلِك فَلَا يُسمى ملكا وَهُوَ مَالك وَكَانَ أَبُو عَمْرو يَقُول ملك تجمع مَالِكًا وَمَالك لَا يجمع ملكا
وَحجَّة أُخْرَى وَهِي أَن وَصفه بِالْملكِ أبلغ فِي الْمَدْح من وَصفه بِالْملكِ وَبِه وصف نَفسه فَقَالَ {لمن الْملك الْيَوْم} فامتدح بِملك ذَلِك وانفراده بِهِ يَوْمئِذٍ فمدحه بِمَا امتدح بِهِ أَحَق وَأولى من غَيره وَالْملك إِنَّمَا هُوَ من ملك لَا من مَالك لِأَنَّهُ لَو كَانَ من مَالك لقيل لمن الْملك بِكَسْر الْمِيم والمصدر من الْملك الْملك يُقَال هَذَا ملك عَظِيم الْملك وَالِاسْم من الْمَالِك الْملك يُقَال هَذَا مَالك صَحِيح الْملك بِكَسْر الْمِيم
وَحجَّة من قَرَأَ مَالك هِيَ أَن مَالِكًا يحوي الْملك ويشتمل عَلَيْهِ وَيصير الْملك مَمْلُوكا لقَوْله جلّ وَعز قل {اللَّهُمَّ مَالك الْملك} فقد جعل الْملك للْمَالِك فَصَارَ مَالك أمدح وَإِن كَانَ يشْتَمل على مَا يشْتَمل عَلَيْهِ الْملك وعَلى ملكه سوى مَا يتلوه 1 / 2 من زِيَادَة الْألف الَّتِي هِيَ حَسَنَة قد ضمن عَنْهَا عشر حَسَنَات وَالدَّلِيل على هَذَا أَن شَاعِرًا جَاءَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يشكو امْرَأَته فَقَالَ
يَا مَالك الْملك وديان الْعَرَب

(1/78)


فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَه ذَلِك الله
وَحجَّة أُخْرَى وَهِي قَوْله {يَوْم لَا تملك نفس لنَفس شَيْئا} فقد أخبر أَنه وَإِذا كَانَ يملك فَهُوَ مَالك
وَحجَّة أُخْرَى ذكرهَا الْأَخْفَش وَهِي أَن مَالِكًا يُضَاف فِي اللَّفْظ إِلَى سَائِر الْمَخْلُوقَات فَيُقَال هُوَ مَالك النَّاس وَالْجِنّ وَالْحَيَوَان وَمَالك الرِّيَاح وَمَالك الطير وَسَائِر الْأَشْيَاء وَلَا يُقَال هُوَ ملك الرّيح وَالْحَيَوَان فَلَمَّا كَانَ ذَلِك كَذَلِك كَانَ الْوَصْف بِالْملكِ أَعم من الْوَصْف بِالْملكِ لِأَنَّهُ يملك جَمِيع مَا ذكرنَا وتحيط بِهِ قدرته وَيحكم يَوْم الدّين بَين خلقه دون سَائِر خلقه
قَالَ عُلَمَاؤُنَا إِنَّمَا يكون الْملك أبلغ فِي الْمَدْح من مَالك فِي صفة المخلوقين لِأَن أحدهم يملك شَيْئا دون شَيْء وَالله يملك كل شَيْء

(1/79)


{اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم} 5 و 6
قَرَأَ ابْن كثير فِي رِوَايَة القواس السراط وسراط بِالسِّين وحجته هِيَ أَن السِّين الأَصْل وَلَا ينْتَقل عَن الأَصْل إِلَى مَا لَيْسَ بِأَصْل وَرُوِيَ ان ابْن عَبَّاس كَانَ يقْرؤهَا بِالسِّين
وَقَرَأَ حَمْزَة بإشمام الزَّاي وَرُوِيَ عَنهُ بالزاي وَهِي لُغَة للْعَرَب
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بالصَّاد وحجتهم أَنَّهَا كتبت فِي جَمِيع الْمَصَاحِف بالصَّاد قَالَ الْكسَائي هما لُغَتَانِ

{صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين}
قَرَأَ حَمْزَة عَلَيْهِم وإليهم ولديهم بِضَم الْهَاء قَرَأَ ابْن كثير وَنَافِع فِي رِوَايَة القَاضِي عَن قالون عَنهُ عليهمو وإليهمو

(1/80)


بِكَسْر الْهَاء وَضم الْمِيم وَيصلونَ بواو فِي اللَّفْظ
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْر الْهَاء وَسُكُون الْمِيم
وَاعْلَم أَن الأَصْل فِي عَلَيْهِم عَلَيْهِم بِضَم الْهَاء وَالْمِيم وَالْوَاو الَّتِي بعد الْمِيم وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن هَذِه الْهَاء للمذكر تضم وتشبع ضمتها فيتولد مِنْهَا الْوَاو نَحْو ضَربته وَإِذا فتحت كَانَت للمؤنث نَحْو رَأَيْتهَا وَهَذِه أَيْضا وَإِن فتحت فأصلها الضَّم بِدلَالَة قَوْلك للاثنين رأيتهما وللجماعة رأيتهن وعلامة الْجمع فِي الْمُذكر إِلَى هَذِه الْهَاء هِيَ الْمِيم المضمومة الَّتِي بعْدهَا وَاو كَمَا هِيَ فِي قَوْلكُم ضربتكم وَأَصله ضربتكمو يتَبَيَّن لَك ذَلِك إِذا اتَّصل بِهِ مُضْمر آخر ترد مَعَه الْوَاو نَحْو ضربتكموه وَلَا تَقول ضربتكمه وَمِنْه قَول الله عز وَجل {أنلزمكموها} فَهَذَا مِمَّا يبين لَك أَن الأَصْل عليهمو بِضَمَّتَيْنِ وواو
وَحجَّة من قَرَأَ عَلَيْهِم بِضَم الْهَاء وَسُكُون الْمِيم أَن أَصْلهَا الضَّم فأجري على أصل حركتها وَطلب الخفة بِحَذْف الْوَاو والضمة فَأتى بِأَصْل هُوَ ضم الْهَاء وَترك أصلا هُوَ إِثْبَات الْوَاو وَضم الْمِيم وَأما من قَرَأَ عَلَيْهِم فَإِنَّهُ استثقل ضمة الْهَاء بعد الْيَاء فَكسر الْهَاء لتَكون الْهَاء مَحْمُولَة على الْيَاء الَّتِي قبلهَا وَالْمِيم مَضْمُومَة للواو الَّتِي بعْدهَا فَحمل كل حرف على مَا يَلِيهِ وَهُوَ أقرب إِلَيْهِ

(1/81)


وَحجَّة البَاقِينَ أَن الْهَاء إِذا وَقعت بعد يَاء أَو كسرة كسرت نَحْو بِهِ وَإِلَيْهِ وَعَلِيهِ وَإِنَّمَا اختير الْكسر على الضَّم الَّذِي هُوَ الأَصْل لاستثقال الضمة بعد الكسرة أَلا ترى أَنه قد رفض فِي أصل الْبناء فَلم يجِئ بِنَاء على فعل مَضْمُومَة الْعين بعد كسر الْفَاء وَأما حذف الْوَاو فَلِأَن الْمِيم استغني بهَا عَن الْوَاو وَالْوَاو أَيْضا تثقل على ألسنتهم فَإِذا لقِيت الْمِيم ألف وَلَام فَإِنَّهُم مُخْتَلفُونَ مثل {عَلَيْهِم الذلة} وبهم الْأَسْبَاب فَقَرَأَ أَبُو عَمْرو بِكَسْر الْهَاء وَالْمِيم وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ بضمهما وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْر الْهَاء وَضم الْمِيم وَإِنَّمَا كسروا الْهَاء لمجاورة الْيَاء والكسرة وَإِنَّمَا رفعوا الْمِيم لأَنهم لما احتاجوا إِلَى تحريكها من أجل السَّاكِن الَّذِي لَقيته رد عَلَيْهَا الْحَرَكَة الَّتِي كَانَت لَهَا فِي الأَصْل وَهِي الضَّم لِأَن أصل الْمِيم الضَّم وَقد بَينا فِيمَا تقدم
وَأما أَبُو عَمْرو فَإِنَّهُ لما غير الْهَاء عَن أَصْلهَا كَرَاهِيَة الثّقل فعل ذَلِك فِي الْمِيم حِين أَرَادَ تحريكها للساكن بعْدهَا فأتبع الْمِيم كسر مَا قبلهَا كَرَاهِيَة أَن يخرج من كسر إِلَى ضم فأتبع الْكسر الْكسر ليؤلف بَين الحركات عِنْد حَاجته إِلَى تَحْرِيك الْمِيم
وَحجَّة من ضم الْهَاء وَالْمِيم هِيَ أَن الْمِيم لما احْتِيجَ إِلَى تحريكها من أجل السَّاكِن رد عَلَيْهَا الْحَرَكَة الَّتِي كَانَت فِي الأَصْل وَهِي الضَّم فَلَمَّا انضمت الْمِيم غلبت على الْهَاء وأخرجتها فِي حيّز مَا قبلهَا من الْكسر فَرَجَعت الْهَاء إِلَى أَصْلهَا

(1/82)