حجة القراءات

16 - سُورَة النَّحْل
{أَتَى أَمر الله فَلَا تستعجلوه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ}
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ / سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا تشركون / بِالتَّاءِ وَكَذَلِكَ

(1/384)


الَّذِي بعده وحجتهما قَوْله {فَلَا تستعجلوه} رد الْخطاب الثَّانِي على الأول
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ على الِابْتِدَاء لَا يردون على أول الْكَلَام وَلَهُم حجتان إِحْدَاهمَا أَن سعيد بن جُبَير قَرَأَ / أَتَى أَمر الله فَلَا يستعجلوه / بِالْيَاءِ وَالثَّانيَِة أَن الله تَعَالَى أنزل الْقُرْآن على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ فَقَالَ مُحَمَّد تَنْزِيها لله {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ}

{ينزل الْمَلَائِكَة بِالروحِ}
قَرَأَ أَبُو بكر فِي رِوَايَة الْكسَائي {تنزل} بِالتَّاءِ مَضْمُومَة وَفتح الزَّاي {الْمَلَائِكَة} رفع على مَا لم يسم فَاعله وحجته قَوْله {وَنزل الْمَلَائِكَة}
وَقَرَأَ روح {تنزل الْمَلَائِكَة} بِفَتْح التَّاء وحجته قَوْله {تنزل الْمَلَائِكَة وَالروح فِيهَا}
وَقَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرو {ينزل الْمَلَائِكَة} أَي الله ينزلها وحجتهم قَوْله {وَلَو أننا نزلنَا إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة} وحجتهم فِي التَّخْفِيف {وأنزلنا إِلَيْك الذّكر}

(1/385)


وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ وحجتهم قَوْله {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر}

{ينْبت لكم بِهِ الزَّرْع}
قَرَأَ أَبُو بكر / ننبت لكم بِهِ الزَّرْع / بالنُّون الله أخبر عَن نَفسه بِلَفْظ الْمُلُوك كَمَا قَالَ {نَحن قسمنا}
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ أَي ينْبت الله وحجتهم قَوْله قبلهَا {هُوَ الَّذِي أنزل من السَّمَاء مَاء}

{وسخر لكم اللَّيْل وَالنَّهَار وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم مسخرات بأَمْره}
قَرَأَ ابْن عَامر {وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم مسخرات} بِالرَّفْع فيهمَا لِأَنَّهُ لَا يصلح أَن تَقول وسخر النُّجُوم مسخرات فقطعها عَمَّا قبلهَا وَجعل {والنجوم} ابْتِدَاء و {مسخرات} خَبرا
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ جَمِيع ذَلِك بِالنّصب نسقا على مَا قبله فَإِن قيل فَكيف جَازَ المتصرفة المخلوقة على {سخر} فَإِن تِلْكَ جَاءَ {مسخرات} بعْدهَا هَذِه الْأَشْيَاء المنصوبة المنسوقة على ذَلِك قيل فَإِن ذَلِك لَا يمْتَنع لِأَن الْحَال تكون مُؤَكدَة كَقَوْلِه {وَهُوَ الْحق مُصدقا} و

(1/386)


أَنا ابْن دارة مَعْرُوفا بهَا نسبي ... كفى بالنأي من أَسمَاء كَاف
وحجتهم قَوْله {وسخر لكم الشَّمْس وَالْقَمَر} وكما حمل هَا هُنَا على التسخير كَذَلِك فِي الْأُخْرَى وَكَذَلِكَ {النُّجُوم} فِي قَوْله و {وَهُوَ الَّذِي جعل لكم النُّجُوم}

{وَالَّذين يدعونَ من دون الله لَا يخلقون شَيْئا وهم يخلقون}
قَرَأَ عَاصِم {وَالَّذين يدعونَ من دون الله} بِالْيَاءِ إِخْبَارًا عَن الْمُشْركين وَقَرَأَ الْبَاقُونَ / وَالَّذين تدعون من دون الله / وحجتهم مَا تقدم وماتأخر فَمَا تقدم {وَإِن تعدوا نعْمَة الله} وَمَا تَأَخّر {إِلَهكُم إِلَه وَاحِد}

(1/387)


{أَيْن شركائي الَّذين كُنْتُم تشاقون فيهم}
قَرَأَ نَافِع {تشاقون فيهم} بِكَسْر النُّون أَرَادَ تشاقونني أَي تعادونني فَحذف إِحْدَى النونين استثقالا للْجمع بَينهمَا وَحذف الْيَاء اجتزاء بالكسرة
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {تشاقون} بِفَتْح النُّون لَا يجعلونه مُضَافا إِلَى النَّفس وَالنُّون فِي هَذ الْقِرَاءَة عَلامَة الرّفْع وَالنُّون مَعَ الْيَاء المحذوفة فِي قِرَاءَة نَافِع فِي مَوضِع النصب

{الَّذين تَوَفَّاهُم الْمَلَائِكَة ظالمي أنفسهم}
قَرَأَ حَمْزَة / الَّذين يتوفاهم الْمَلَائِكَة / بِالْيَاءِ وَكَذَلِكَ الَّذِي بعده وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ
اعْلَم أَن فعل الْجَمِيع إِذا تقدم يذكر وَيُؤَنث فَإِن ذكرته أردْت جمع الْمَلَائِكَة وَإِذا أنثته أردْت جمَاعَة الْمَلَائِكَة وَحجَّة التَّاء قَوْله تَعَالَى {وَإِذ قَالَت الْمَلَائِكَة}

{هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن تأتيهم الْمَلَائِكَة}
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ / إِلَّا ان يَأْتِيهم الْمَلَائِكَة / بِالْيَاءِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ قد تقدم القَوْل فِي هَذَا وَنَحْوه

{إِن تحرص على هدَاهُم فَإِن الله لَا يهدي من يضل}
قَرَأَ حَمْزَة وَعَاصِم وَالْكسَائِيّ {فَإِن الله لَا يهدي} بِفَتْح الْيَاء

(1/388)


وَكسر الدَّال قَالَ الْكسَائي فِيهِ وَجْهَان أَن الله إِذا كتب عبدا شقيا فَإِنَّهُ لَا يهديه كَقَوْلِه {وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} وَكَانَ مُجَاهِد رَحمَه الله يَقُول أَرْبَعَة أَشْيَاء لَا تغير الشَّقَاء والسعادة والحياة وَالْمَوْت وَالْوَجْه الآخر أَن الله جلّ وَعز من يضل لَا يهدي أَي لَا يَهْتَدِي وَالْعرب تَقول هداه الله فهدى واهتدى لُغَتَانِ بِمَعْنى وَاحِد ف من فِي مَوضِع رفع على هَذَا الْوَجْه وعَلى القَوْل الأول نصب
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {فَإِن الله لَا يهدي} بِضَم الْيَاء وَفتح الدَّال على مَا لم يسم فَاعله أَي من أضلّهُ الله لَا يهديه أحد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ قيل لَهُ فَإِن الله لَا يهدي من يضل قَالَ من أضلّهُ الله لَا يهدى وحجتهم قِرَاءَة أبي / لَا هادي لمن أضلّهُ الله / مثل لَا يهان من أكْرمه الله وَمن فِي مَوضِع رفع لِأَنَّهُ لم يسم فَاعله

{أَن نقُول لَهُ كن فَيكون}
قَرَأَ ابْن عَامر وَالْكسَائِيّ {أَن نقُول لَهُ كن فَيكون} بِالنّصب وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْع

(1/389)


فالنصب على ضَرْبَيْنِ أَحدهمَا أَن يكون قَوْله {فَيكون} عطفا على {أَن يَقُول} الْمَعْنى أَن يَقُول فَيكون وَالْوَجْه الثَّانِي أَن يكون نصبا على جَوَاب {كن} وَالرَّفْع على فَهُوَ يكون على معنى مَا أَرَادَ الله فَهُوَ يكون

{وَمَا أرسلنَا من قبلك إِلَّا رجَالًا نوحي إِلَيْهِم}
قَرَأَ حَفْص {إِلَّا رجَالًا نوحي} بالنُّون وَكسر الْحَاء إِخْبَار الله عَن نَفسه وحجته مَا تقدم وَهُوَ قَوْله {وَمَا أرسلنَا} وَفِي التَّنْزِيل {إِنَّا أَوْحَينَا إِلَيْك كَمَا أَوْحَينَا إِلَى نوح}
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {يُوحى} بِضَم الْيَاء على مَا لم يسم فَاعله وحجتهم قَوْله {وأوحي إِلَى نوح} و {قل أُوحِي إِلَيّ}

{أَو يَأْخُذهُمْ على تخوف فَإِن ربكُم لرؤوف رَحِيم أَو لم يرَوا إِلَى مَا خلق الله من شَيْء يتفيأ ظلاله عَن الْيَمين وَالشَّمَائِل} 47 و 48
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ / أَو لم تروا إِلَى مَا خلق الله / بِالتَّاءِ على الْخطاب وحجتهما قَوْله قبلهَا / فَإِن ربكُم لرؤوف رَحِيم ألم تروا /

(1/390)


وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ إِخْبَارًا عَن غيب وتوبيخا لَهُم وحجتهم قَوْله قبلهَا {أَو يَأْخُذهُمْ على تخوف}
قَرَأَ أَبُو عَمْرو / تتفيأ ظلاله / بِالتَّاءِ وحجته أَن كل جمع خَالف الآدمين فَهُوَ مؤنث تَقول هَذِه الْمَسَاجِد وَهَذِه الظلال
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {يتفيأ} وحجتهم أَن الْفِعْل إِذا تقدم جَازَ التَّذْكِير مِنْهُ

{لَا جرم أَن لَهُم النَّار وَأَنَّهُمْ مفرطون}
قَرَأَ نَافِع {وَأَنَّهُمْ مفرطون} بِكَسْر الرَّاء أَي مسرفون مكثرون من الْمعاصِي كَمَا تَقول أفرط فلَان فِي كَذَا إِذا تجَاوز الْحَد وأسرف
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {مفرطون} بِفَتْح الرَّاء أَي متروكون فِي النَّار منسيون فِيهَا كَذَا قَالَ ابْن عَبَّاس وَقَالَ ابْن جُبَير مبعدون وَعَن أبي عَمْرو معجلون مقدمون فِي الْعَذَاب

{وَإِن لكم فِي الْأَنْعَام لعبرة نسقيكم مِمَّا فِي بطونه}
قَرَأَ نَافِع وَابْن عَامر وَأَبُو بكر {وَإِن لكم فِي الْأَنْعَام لعبرة نسقيكم} بِفَتْح النُّون وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْع
قَالَ الْخَلِيل سقيته كَقَوْلِك ناولته فَشرب وأسقيته جعلت لَهُ سقيا وَقَالَ الْفراء الْعَرَب تَقول كل مَا كَانَ من بطُون الْأَنْعَام وَمن مَاء السَّمَاء أَو نهر أسقيت وَفِي الْفرْقَان {ونسقيه مِمَّا خلقنَا أنعاما} وَتقول سقيته إِذا ناولته مَاء يشربه لَا يَقُولُونَ غَيره قَالَ الله

(1/391)


تَعَالَى {وسقاهم رَبهم} فَمن قَرَأَ بِالرَّفْع فَإِنَّهُ يُرِيد أَنا جعلنَا فِي كثرته وإدامته كالسقيا كَقَوْلِك أسقيته نَهرا قَالَ الله تَعَالَى {وأسقيناكم مَاء فراتا} أَي جَعَلْنَاهُ سقيا لكم وَأما من فتح النُّون فَإِنَّهُ لما كَانَ للشفة فتح النُّون
وَقَالَ آخَرُونَ سقى وأسقى لُغَتَانِ قَالَ الشَّاعِر ... سقى قومِي بني مجد وأسقى ... نميرا والقبائل من هِلَال ...

{اتخذي من الْجبَال بُيُوتًا وَمن الشّجر وَمِمَّا يعرشون}
قَرَأَ ابْن عَامر وَأَبُو بكر {يعرشون} بِضَم الرَّاء وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ وهما لُغَتَانِ يُقَال عرش يعرش ويعرش
{أفبنعمة الله يجحدون}
قَرَأَ أَبُو بكر / أفبنعمة الله تجحدون / بِالتَّاءِ أَي قل لَهُم يَا مُحَمَّد أفبنعمة الله أَي بِهَذِهِ الْأَشْيَاء الَّتِي ذكرهَا تجحدون وحجته قَوْله أول الْآيَة {وَالله فضل بَعْضكُم على بعض}
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {يجحدون} بِالْيَاءِ الله وبخهم على جحودهم وَيُقَوِّي الْيَاء قَوْله تَعَالَى بعْدهَا {وبنعمة الله هم يكفرون}

{ألم يرَوا إِلَى الطير مسخرات فِي جو السَّمَاء}

(1/392)


قَرَأَ ابْن عَامر وَحَمْزَة / ألم تروا إِلَى الطير / بِالتَّاءِ على الْخطاب وحجتهما أَن المخاطبة لاصقة بقوله قبلهَا {وَالله أخرجكم من بطُون أُمَّهَاتكُم لَا تعلمُونَ شَيْئا وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تشكرون} 78 فَكَذَلِك / ألم تروا إِلَى الطير /
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {ألم يرَوا} بِالْيَاءِ وَكَانَ أَبُو عَمْرو يرد الْيَاء إِلَى قَوْله قبل آيَات {ويعبدون من دون الله مَا لَا يملك لَهُم رزقا} ألم ير هَؤُلَاءِ إِلَى تسخير الطير

{وَجعل لكم من جُلُود الْأَنْعَام بُيُوتًا تستخفونها يَوْم ظعنكم وَيَوْم إقامتكم}
قَرَأَ نَافِع وَابْن كثير وَأَبُو عَمْرو {يَوْم ظعنكم} بِفَتْح الْعين وَقَرَأَ الْبَاقُونَ سَاكِنة الْعين وهما لُغَتَانِ مثل النَّهر وَالنّهر تَقول ظعن وظعنا وَحجَّة الإسكان فِي قَوْله {سرا وجهرا} وَالْهَاء أَحَق أَن تفتح لخفائها فَلَمَّا كَانُوا قد أَجمعُوا على إسكانها ردوا مَا اخْتلفُوا فِيهِ إِلَى مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ

{مَا عنْدكُمْ ينْفد وَمَا عِنْد الله بَاقٍ ولنجزين الَّذين صَبَرُوا أجرهم}
قَرَأَ ابْن كثير وَعَاصِم وَابْن عَامر {ولنجزين} بالنُّون أخبر جلّ وَعز عَن نَفسه وحجتهم إِجْمَاعهم على قَوْله فِي الْآيَة بعْدهَا {ولنجزينهم} بالنُّون
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ / وليجزين / بِالْيَاءِ إِخْبَارًا عَن الله جلّ وَعز

(1/393)


وحجتهم ذكر الله قبله وَهُوَ قَوْله / وَمَا عِنْد الله بَاقٍ وليجزين / فَإِذا عطفت الْآيَة على مثلهَا كَانَ أحسن من أَن تقطع مِمَّا قبلهَا {لِسَان الَّذِي يلحدون إِلَيْهِ أعجمي}
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ {لِسَان الَّذِي يلحدون} بِفَتْح الْيَاء والحاء من لحد يلْحد إِذا مَال
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {يلحدون} بِضَم الْيَاء يُقَال ألحد يلْحد إلحادا وحجتهم قَوْله {وَمن يرد فِيهِ بإلحاد بظُلْم}
قَالَ الْكسَائي إِن كل وَاحِد من لحدت وألحدت يَأْتِي بِمَعْنى غير معنى الآخر وَذَلِكَ أَن ألحد يلْحد مَعْنَاهُ اعْترض وَأَن لحد يلْحد مَعْنَاهُ مَال وَعدل فَلَمَّا ولي ألحد مَا يَلِي الِاعْتِرَاض الَّذِي هُوَ بِمَعْنَاهُ قَرَأَ بِأَلف فَقَالَ {وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ} و {إِن الَّذين يلحدون فِي آيَاتنَا} بِمَعْنى يعترضون فِي آيَاتنَا إِذْ كَانَ من عَادَة فِي أَن تصْحَب الِاعْتِرَاض الَّذِي بِمَعْنى الْإِلْحَاد فَلَمَّا ولي الْفِعْل مَا لَيْسَ من عَادَة الِاعْتِرَاض أَن يَلِيهِ وَهُوَ إِلَى دلّ على أَن مَعْنَاهُ غير معنى الِاعْتِرَاض وَأَنه بِمَعْنى الْميل فقرأه يلحدون بِفَتْح الْيَاء إِذْ كَانَت بِمَعْنى يميلون فَحسن ذَلِك وَكَانَ ذَلِك مَشْهُورا من كَلَام الْعَرَب لحد فلَان إِلَى كَذَا إِذا مَال إِلَيْهِ

{ثمَّ إِن رَبك للَّذين هَاجرُوا من بعد مَا فتنُوا}

(1/394)


قَرَأَ ابْن عَامر / من بَعْدَمَا فتنُوا / بِفَتْح الْفَاء وَالتَّاء جعل الْفِعْل لَهُم يُقَال فتنت الشَّيْء إِذا امتحنته وفتنت الذَّهَب إِذا امتحنته فَعرفت جيده من رديئه فَمَعْنَى الْقِرَاءَة أَنهم هجروا أوطانهم وَقد عرفُوا مَا فِي ذَلِك من الشدَّة
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {فتنُوا} بِضَم الْفَاء على مَا لم يسم فَاعله أَي من بَعْدَمَا فتنهم الله وحجتهم {فَإنَّا قد فتنا قَوْمك من بعْدك}

{وَلَا تَكُ فِي ضيق مِمَّا يمكرون}
قَرَأَ ابْن كثير {وَلَا تَكُ فِي ضيق} بِكَسْر الضَّاد وَفِي النَّمْل مثله وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْح

(1/395)


قَالَ أَبُو عبيد ضيق تَخْفيف ضيق يُقَال أَمر ضيق وضيق وَالْأَصْل ضييق فيعل ثمَّ حذفوا الْيَاء فَصَارَ ضيق على وزن فيل مثل هَين وهين قَالَ الْأَخْفَش الضّيق والضيق لُغَتَانِ وَقَالَ أَبُو عَمْرو الضّيق بِالْفَتْح الْغم والضيق بِالْكَسْرِ الشدَّة قوم الضّيق بِالْفَتْح مصدر والضيق اسْم ووزنه على هَذَا القَوْل فعل لم يحذف مِنْهُ شَيْء
17 - سُورَة سُبْحَانَ
{وآتينا مُوسَى الْكتاب وجعلناه هدى لبني إِسْرَائِيل أَلا تَتَّخِذُوا من دوني وَكيلا}
قَرَأَ أَبُو عَمْرو / أَلا يتخذوا / بِالْيَاءِ وحجته أَن الْفِعْل قرب من الْخَبَر عَن بني إِسْرَائِيل فَجعل الْفِعْل مُسْندًا إِلَيْهِم إِذْ قَالَ {وجعلناه هدى لبني إِسْرَائِيل} الْمَعْنى جَعَلْنَاهُ هدى لبني إِسْرَائِيل لِئَلَّا يتخذوا من دوني وَكيلا
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {أَلا تَتَّخِذُوا} بِالتَّاءِ على الْخطاب وحجتهم فِي الِانْصِرَاف إِلَى الْخطاب بعد الْغَيْبَة قَوْله {الْحَمد لله رب الْعَالمين} ثمَّ قَالَ {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} فَالضَّمِير فِي {تَتَّخِذُوا} وَإِن كَانَ على لفظ الْخطاب فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الْغَيْب فِي الْمَعْنى وَيجوز أَن تكون أَن بِمَعْنى أَي الَّتِي هِيَ للتفسير على هَذَا التَّأْوِيل لِأَنَّهُ انْصَرف الْكَلَام من الْغَيْبَة إِلَى الْخطاب وَيجوز أَن تكون زائده وتضمر القَوْل

(1/396)


الْمَعْنى وجعلناه هدى لبني إِسْرَائِيل وَقُلْنَا لَهُم لَا تَتَّخِذُوا من دوني وَكيلا وَيجوز أَن تكون الناصبة للْفِعْل فَيكون الْمَعْنى وجعلناه هدى كَرَاهَة أَن تَتَّخِذُوا من دوني وَكيلا أَو بِأَن لَا تَتَّخِذُوا

{فَإِذا جَاءَ وعد الْآخِرَة ليسوؤوا وُجُوهكُم وليدخلوا الْمَسْجِد كَمَا دَخَلُوهُ أول مرّة وليتبروا مَا علوا تتبيرا}
قَرَأَ نَافِع وَابْن كثير وَأَبُو عَمْرو وَحَفْص {ليسوؤوا وُجُوهكُم} بِالْيَاءِ على الْجمع وحجتهم ذكرهَا اليزيدي فَقَالَ وَالْألف تدل على أَنَّهَا جمع وَلَو كَانَت ليسوء على وَاحِد أَو لتسوء لم يكن فِيهَا ألف وَحجَّة أُخْرَى وَهِي أَن مَا قبله وَمَا بعده جَاءَ بِلَفْظ الْجمع فَالَّذِي قبله {بعثنَا عَلَيْكُم عبادا} وَالَّذِي بعده {وليدخلوا الْمَسْجِد} {وليتبروا} قَوْله {ليسوؤوا} إِخْبَار عَن قَوْله {بعثنَا عَلَيْكُم عبادا} وَجَوَاب إِذا مَحْذُوف الْمَعْنى فَإِذا جَاءَ وعد الْآخِرَة بعثنَا عَلَيْكُم عبادا لنا ليسوؤوا وُجُوهكُم أَي ليسوء الْعباد وُجُوهكُم
وَقَرَأَ ابْن عَامر وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ / ليسوء / بِالْيَاءِ وَفتح الْهمزَة فَاعل / ليسوء / يجوز أَن يكون أحد شَيْئَيْنِ أَحدهمَا أَن يكون اسْم الله تَعَالَى أَي ليسوء الله وُجُوهكُم وَالْآخر أَن يكون الْعَذَاب أَي ليسوء الْعَذَاب وُجُوهكُم وَيجوز أَن يكون الْوَعْد وَجَوَاب إِذا مَحْذُوف الْمَعْنى فَإِذا جَاءَ وعد الْآخِرَة جَاءَ ليسوء وُجُوهكُم وَمن وَجه تَأْوِيله إِلَى ليسوء الله كَانَ أَيْضا فِي الْكَلَام مَحْذُوف غير أَنه سوى

(1/397)


جَاءَ وَيكون معنى الْكَلَام فَإِذا جَاءَ وعد الْآخِرَة بعثناهم ليسوء الله وُجُوهكُم
قَرَأَ الْكسَائي / لتسوء / بالنُّون وَفتح الْهمزَة أخبر جلّ وَعز عَن نَفسه وحجته أَن الْكَلَام أَتَى عقيب قَوْله {بعثنَا عَلَيْكُم} {ثمَّ رددنا لكم الكرة عَلَيْهِم وأمددناكم} وَبعده {وَإِن عدتم عدنا} وأعتدنا لَهُم فَكَانَ حكم مَا توَسط الْكَلَامَيْنِ الخارجين بِلَفْظ الْجمع أَن يجْرِي على لَفْظهمَا أولى من صرفه إِلَى الْعباد وَإِذا قرئَ بالنُّون اسْتعْمل على الْمعَانِي كلهَا لِأَن الله تَعَالَى هُوَ الْفَاعِل لذَلِك فِي الْحَقِيقَة فَإِذا أسْند الْفِعْل فِي اللَّفْظ إِلَيْهِ جَازَ أَن يسوء وُجُوههم بالوعد وَجَاز أَن يسوءها بالعباد

{وكل إِنْسَان ألزمناه طَائِره فِي عُنُقه وَنخرج لَهُ يَوْم الْقِيَامَة كتابا يلقاه منشورا}
قَرَأَ ابْن عَامر {كتابا يلقاه منشورا} بِضَم الْيَاء وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْقَاف جعل الْفِعْل لغير الْإِنْسَان أَي الْمَلَائِكَة تتلقاه بكتابه الَّذِي فِيهِ نُسْخَة عمله وَهُوَ من قَوْلك لقِيت الْكتاب فَإِذا ضعفت قلت لقانيه زيد فيتعدى الْفِعْل بِتَضْعِيف الْعين إِلَى مفعولين بَعْدَمَا كَانَ يتَعَدَّى بِغَيْر التَّضْعِيف إِلَى مفعول وَاحِد وَيُقَوِّي هَذَا قَوْله {ولقاهم نَضرة}
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {يلقاه} بِفَتْح الْيَاء جعلُوا الْفِعْل للْإنْسَان لِأَن الله تَعَالَى إِذا ألزمهُ طَائِره لَقِي هُوَ الْكتاب كَمَا قَالَ تَعَالَى {يلق أثاما}

(1/398)


{وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما} وَلم يقل يلق أثاما وَهَذَا بَين وَاضح مَتى بني الْفِعْل للْمَفْعُول بِهِ نقص مفعول من المفعولين لِأَن أَحدهمَا يقوم مقَام الْفَاعِل فِي إِسْنَاده إِلَيْهِ فَيبقى مُتَعَدِّيا إِلَى مفعول وَاحِد

{وَقضى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه وبالوالدين إحسانا إِمَّا يبلغن عنْدك الْكبر أَحدهمَا أَو كِلَاهُمَا فَلَا تقل لَهما أُفٍّ}
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ / إِمَّا يبلغان / على الِاثْنَيْنِ وحجتهما أَن الْوَالِدين تقدم ذكرهمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وبالوالدين إحسانا} فأخرجا الْفِعْل على عددهما مثنى فَإِن قيل فَبِمَ يرْتَفع {أَحدهمَا أَو كِلَاهُمَا} قيل فِي ذَلِك وَجْهَان أَحدهمَا أَن يكون بَدَلا من الضَّمِير فِي يبلغان وَالْوَجْه الآخر أَن يرفعهُ بِفعل مُجَدد تَقْدِيره إِمَّا يبلغان عنْدك الْكبر يبلغهُ أَحدهمَا أَو كِلَاهُمَا
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {إِمَّا يبلغن} على وَاحِد وحجتهم أَن الْفِعْل إِذا تقدم لم يثن وَلم يجمع ويرتفع {أَحدهمَا} بِفِعْلِهِ وَهُوَ {يبلغن}
قَرَأَ ابْن كثير وَابْن عَامر {أُفٍّ} بِفَتْح الْفَاء وَقَرَأَ نَافِع وَحَفْص أُفٍّ بِالتَّنْوِينِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {أُفٍّ} خفضا بِغَيْر تَنْوِين
قَالَ أَبُو عبيد من خفض بِغَيْر تَنْوِين قَالَ إِنَّمَا يحْتَاج إِلَى تَنْوِين فِي الْأَصْوَات النَّاقِصَة الَّتِي على حرفين مثل مَه وصه لِأَنَّهَا قلت فتمموها بالنُّون وأف على ثَلَاثَة أحرف قَالُوا فَمَا حاجتنا إِلَى التَّنْوِين وَلَكنَّا إِنَّمَا خفضنا لِئَلَّا نجمع بَين ساكنين وَمن قَرَأَ أُفٍّ بِالْفَتْح فَهُوَ

(1/399)


مَبْنِيّ على الْفَتْح وَإِنَّمَا بني على الْفَتْح لالتقاء الساكنين وَالْفَتْح مَعَ التَّضْعِيف حسن لخفة الفتحة وَثقل التَّضْعِيف وَمن نون {أُفٍّ} فَإِنَّهُ فِي الْبناء على الْكسر مَعَ التَّنْوِين مثل الْبناء على الْفَتْح إِلَّا أَنه بِدُخُول التَّنْوِين دلّ على التنكير مثل صه ومه
وَقَالَ الزّجاج {أُفٍّ} غير مُتَمَكن بِمَنْزِلَة الْأَصْوَات فَإِذا لم ينون فَهُوَ معرفَة وَإِذا نون فَهُوَ نكرَة بِمَنْزِلَة غاق وعاق فِي الصَّوْت وَهَذِه الْكَلِمَة يكني بهَا عَن الْكَلَام الْقَبِيح لِأَن الأف وسخ الْأَظْفَار والتف الشَّيْء الحقير

{إِن قَتلهمْ كَانَ خطأ كَبِيرا}
قَرَأَ ابْن عَامر {إِن قَتلهمْ كَانَ خطأ كَبِيرا} بِفَتْح الْخَاء والطاء وَهُوَ ضد الْعمد وحجته قَوْله {أَن يقتل مُؤمنا إِلَّا خطأ}
قَالَ الزّجاج خطأ لَهُ تأويلات احدها مَعْنَاهُ إِن قَتلهمْ كَانَ غير صَوَاب يُقَال أَخطَأ يُخطئ إخطاء وَخطأ وَالْخَطَأ الِاسْم من هَذَا لَا الْمصدر وَقد يكون الْخَطَأ من خطئَ يخطأ خطأ إِذا لم يصب مثل فزع يفزع فَزعًا
قَرَأَ ابْن كثير / خطاء / بِكَسْر الْخَاء وَفتح الطَّاء وَهُوَ مصدر

(1/400)


خطئَ يخطأ {خطأ} وخطاء إِذا لم يصب كَمَا تَقول سفد الطَّائِر يسفد سفادا
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ خطأ بِكَسْر الْخَاء وَإِسْكَان الطَّاء مَعْنَاهُ إِثْمًا كَبِيرا وَهُوَ مصدر ل خطئَ الرجل يخطأ خطئا مثل أَثم يَأْثَم إِثْمًا فَهُوَ آثم قَالَ الشَّاعِر ... عِبَادك يخطؤون وَأَنت رب ... بكفيك المنايا لَا تَمُوت ...

وَالْفَاعِل مِنْهُ خاطئ وَقد جَاءَ الْوَعيد فِيهِ فِي قَوْله تَعَالَى {لَا يَأْكُلهُ إِلَّا الخاطئون} أَي الآثمون

(1/401)


{وَمن قتل مَظْلُوما فقد جعلنَا لوَلِيِّه سُلْطَانا فَلَا يسرف فِي الْقَتْل إِنَّه كَانَ منصورا}
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ / فَلَا تسرف فِي الْقَتْل / بِالتَّاءِ على الْخطاب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْمرَاد بِهِ هُوَ وَالْأَئِمَّة من بعده يَقُول لَا تقتل بالمقتول ظلما غير قَاتله وحجتهما أَنَّهَا فِي حرف عبد الله / فَلَا تسرفوا فِي الْقَتْل / فَدلَّ هَذَا على أَن ذَلِك وَجه النَّهْي للمواجهة
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {فَلَا يسرف} بِالْيَاءِ وحجتهم أَن هَذَا الْكَلَام أَتَى عقيب خبر عَن غَائِب وَهُوَ قَوْله {وَمن قتل مَظْلُوما فقد جعلنَا لوَلِيِّه سُلْطَانا} فَكَأَنَّهُ قَالَ فَلَا يسرف الْوَلِيّ فِي الْقَتْل وفاعل {يسرف} يجوز أَن يكون أحد شَيْئَيْنِ أَحدهمَا أَن يكون الْقَاتِل الأول كَذَا قَالَ مُجَاهِد وَيكون التَّقْدِير فَلَا يسرف الْقَاتِل فِي الْقَتْل فَيكون بقتْله مُسْرِفًا وَالْآخر أَن يكون فِي {يسرف} ضمير الْوَلِيّ أَي فَلَا يسرف الْوَلِيّ فِي الْقَتْل والإسراف فِي الْقَتْل قد اخْتلف فِيهِ قَالَ أَكثر النَّاس الْإِسْرَاف أَن يقتل غير قَاتل صَاحبه وَقيل الْإِسْرَاف أَن يقتل هُوَ الْقَاتِل دون السُّلْطَان وَقيل أَن يقتل جمَاعَة بِوَاحِد

{وأوفوا الْكَيْل إِذا كلتم وزنوا بالقسطاس الْمُسْتَقيم ذَلِك خير وَأحسن تَأْوِيلا}
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَحَفْص {وزنوا بالقسطاس} بِكَسْر الْقَاف وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالضَّمِّ وهما لُغَتَانِ مثل القرطاس والقرطاس

{كل ذَلِك كَانَ سيئه عِنْد رَبك مَكْرُوها}

(1/402)


قَرَأَ نَافِع وَابْن كثير وَأَبُو عَمْرو {كل ذَلِك كَانَ سيئه} منونة وحجتهم ذكرهَا اليزيدي فَقَالَ يَعْنِي كل مَا نهى الله عَنهُ مِمَّا وصف فِي هَذِه الْآيَات كَانَ سَيِّئَة وَكَانَ مَكْرُوها قَالَ أَبُو عَمْرو وَلَا يكون فِيمَا نهى الله عَنهُ شَيْء حسن فَيكون سيئه مَكْرُوها
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {كل ذَلِك كَانَ سيئه} مُضَافا وحجتهم قَوْله {مَكْرُوها} بالتذكير وَلَو كَانَ سيئه غير مُضَاف للَزِمَ أَن يكون مَكْرُوهَة بالتأنيث لِأَنَّهُ وصف للسيئة وَأُخْرَى وَهِي أَنه ذكر فِي هَذِه الْآيَات من لدن قَوْله {وَقضى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه} حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى قَوْله {كل ذَلِك كَانَ سيئه عِنْد رَبك مَكْرُوها} بعضه طَاعَة مَأْمُور بِهِ وَبَعضه مَعْصِيّة مَنْهِيّ عَنهُ فالمأمور بِهِ قَوْله {واخفض لَهما جنَاح الذل} وَقَوله {وَآت ذَا الْقُرْبَى حَقه} والمنهي عَنهُ {وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم} {وَلَا تقربُوا الزِّنَى} {وَلَا تقتلُوا النَّفس الَّتِي حرم الله} {وَلَا تقربُوا مَال الْيَتِيم} فقد أمروا بِبَعْض هَؤُلَاءِ الْآيَات ونهوا فِي بَعْضهَا فَقَالَ {كل ذَلِك كَانَ سيئه عِنْد رَبك مَكْرُوها} لِأَن فِيهَا ذكر الْحسن والسيء والسيء هُوَ الْمَكْرُوه دون الْحسن

{وَلَقَد صرفنَا فِي هَذَا الْقُرْآن لِيذكرُوا وَمَا يزيدهم إِلَّا نفورا}
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ {وَلَقَد صرفنَا فِي هَذَا الْقُرْآن لِيذكرُوا} بِالتَّخْفِيفِ

(1/403)


وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {لِيذكرُوا} بِالتَّشْدِيدِ أَي ليدبروا ويتعظوا وَالْأَصْل ليتذكورا فأدغموا التَّاء فِي الذَّال وحجتهم أَن تذكر أبلغ فِي الْوَصْف من ذكر لِأَن أَكثر مَا يُقَال ذكر يذكر إِذا نسي شَيْئا ثمَّ ذكره وَإِذا قيل تذكر فَمَعْنَاه تفكر قَالَ تبَارك وَتَعَالَى {وليتذكر أولُوا الْأَلْبَاب}
وَحجَّة التَّخْفِيف أَن الْوَجْهَيْنِ متقاربان يُقَال ذكرت مَا صنعت وتذكرت مَا صنعت وَفِي التَّنْزِيل {كلا إِنَّه تذكرة فَمن شَاءَ ذكره وَمَا يذكرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء الله} فَهَذَا بِمَعْنى التفكر والاتعاظ

{قل لَو كَانَ مَعَه آلِهَة كَمَا يَقُولُونَ إِذا لابتغوا إِلَى ذِي الْعَرْش سَبِيلا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ علوا كَبِيرا} 42 و 43
قَرَأَ نَافِع وَابْن عَامر وَأَبُو عَمْرو وَأَبُو بكر / قل لَو كَانَ مَعَه آلِهَة كَمَا تَقولُونَ / بِالتَّاءِ {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ} بِالْيَاءِ الْحَرْف الأول قرؤوه بِالتَّاءِ على مُخَاطبَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُم أَي قل يَا مُحَمَّد للَّذين أشركوا لَو كَانَ مَعَه آلِهَة كَمَا تَقولُونَ إِذا لابتغوا إِلَى ذِي الْعَرْش سَبِيلا ثمَّ قَالَ جلّ وَعز مستأنفا بتنزيه نَفسه لَا على مخاطبتهم {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ علوا كَبِيرا} وَيجوز أَن تحمله على القَوْل كَأَنَّهُ يَقُول الله جلّ وَعز لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ قل أَنْت يَا مُحَمَّد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ
وَقَرَأَ ابْن كثير وَحَفْص جَمِيعًا بِالْيَاءِ قَوْله {قل لَو كَانَ مَعَه آلِهَة كَمَا يَقُولُونَ}

(1/404)


خطاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ للْمُؤْمِنين يخاطبهم بِمَا يَقُول الْمُشْركُونَ ثمَّ عطف عَلَيْهِ بقوله {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ}
وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ / كَمَا تَقولُونَ / بِالتَّاءِ / عَمَّا تَقولُونَ / بِالتَّاءِ أَيْضا قيل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ قل للَّذين أشركوا لَو كَانَ مَعَه آلِهَة كَمَا تَقولُونَ ثمَّ عطف عَلَيْهِ قَوْله / سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا تَقولُونَ / على مُخَاطبَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إيَّاهُم وَحجَّة التَّاء قَوْله قبلهَا {أفأصفاكم ربكُم بالبنين}

{تسبح لَهُ السَّمَاوَات السَّبع وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ}
قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَحَفْص {تسبح لَهُ السَّمَاوَات السَّبع} بِالتَّاءِ وحجتهم قِرَاءَة أبي / سبحت لَهُ السَّمَاوَات / وَأُخْرَى أَن السَّمَاوَات مُؤَنّثَة
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ وحجتهم أَن فعل الْجمع إِذا تقدم يذكر وَيُؤَنث فَمن ذكر ذهب إِلَى جمع السَّمَوَات وَمن أنث ذهب إِلَى جمَاعَة السَّمَاوَات وَأُخْرَى أَن ابْن مَسْعُود قَالَ إِذا اختلفتم فِي الْيَاء وَالتَّاء فاجعلوها يَاء

{وأجلب عَلَيْهِم بخيلك ورجلك}
قَرَأَ حَفْص {وأجلب عَلَيْهِم بخيلك ورجلك} بِكَسْر الْجِيم هَذِه لُغَة للْعَرَب يُقَال رجل وَرجل يَقُول الْعَرَب قصر وَقصر قَالَ الشَّاعِر

(1/405)


.. أضْرب بِالسَّيْفِ وَسعد فِي الْقصر ...

وَقَالَ بعض أهل الْبَصْرَة إِنَّمَا كسرت الْجِيم إتباعا لكسرة اللَّام وَاللَّام كسرت عَلامَة للجر كَمَا قَرَأَ الْحسن الْبَصْرِيّ {الْحَمد لله}
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {ورجلك} بِإِسْكَان الْجِيم جمع راجل تَقول راجل وَرجل مثل صَاحب وَصَحب وتاجر وتجر

{أفأمنتم أَن يخسف بكم جَانب الْبر أَو يُرْسل عَلَيْكُم حاصبا ثمَّ لَا تَجدوا لكم وَكيلا أم أمنتم أَن يعيدكم فِيهِ تَارَة أُخْرَى فَيُرْسل عَلَيْكُم قاصفا من الرّيح فيغرقكم بِمَا كَفرْتُمْ ثمَّ لَا تَجدوا لكم علينا بِهِ تبيعا} 68 و 69
قَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرو / أفأمنتم أَن نخسف بكم أَو نرسل أَو نعيدكم فنرسل فنغرقكم / كلهَا بالنُّون يخبر الله جلّ وَعز عَن نَفسه وحجتهما ذكرهَا اليزيدي فَقَالَ لقَوْله {ثمَّ لَا تَجدوا لكم علينا بِهِ تبيعا} كَأَنَّهُ لما أَتَى الْكَلَام عَقِيبه بِلَفْظ الْجمع جعل مَا قبله على لَفظه ليأتلف نظام الْكَلَام على لفظ وَاحِد
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ إِخْبَارًا عَن الله وحجتهم أَن الْكَلَام ابتدئ بِهِ بالْخبر عَن الله بِلَفْظ التَّوْحِيد فَقَالَ {الَّذِي يزجي لكم الْفلك} وَقَالَ {ضل من تدعون إِلَّا إِيَّاه} فَجعلُوا مَا أَتَى عَقِيبه من

(1/406)


الْكَلَام جَارِيا على مَعْنَاهُ لِأَن الْقِصَّة وَاحِدَة وَالْكَلَام يتبع بعضه بَعْضًا {وَمن كَانَ فِي هَذِه أعمى فَهُوَ فِي الْآخِرَة أعمى وأضل سَبِيلا}
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَأَبُو بكر {وَمن كَانَ فِي هَذِه أعمى فَهُوَ فِي الْآخِرَة أعمى} بِكَسْر الْمِيم فيهمَا وحجتهم أَن الْألف تنْقَلب إِلَى الْيَاء إِذا قلت أعميان فالإمالة فيهمَا حَسَنَة
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {أعمى} {أعمى} بِغَيْر إمالة وحجتهم أَن الْيَاء فيهمَا قد صَارَت ألفا لانفتاح مَا قبلهَا وَالْأَصْل {وَمن كَانَ فِي هَذِه أعمى} بِفَتْح الْيَاء {فَهُوَ فِي الْآخِرَة أعمى} بِضَم الْيَاء فقلبت الْيَاء ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا
وَكَانَ أَبُو عَمْرو أحذقهم فَفرق بَين اللَّفْظَيْنِ لاخْتِلَاف الْمَعْنيين فَقَرَأَ {وَمن كَانَ فِي هَذِه أعمى} بالإمالة {فَهُوَ فِي الْآخِرَة أعمى} بِالْفَتْح فَجعل الأول صفة بِمَنْزِلَة أَحْمَر وأصفر وَالثَّانِي بِمَنْزِلَة أفعل مِنْك أَي أعمى قلبا
قَالَ ابْن كثير من عمي فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يرى من آيَات الله وعبره فَهُوَ عَمَّا لم ير من الْآخِرَة أعمى واضل سَبِيلا
قَالَ أَبُو عبيد وَكَانَ أَبُو عَمْرو يقْرَأ هَذَا الْحَرْف على تَأْوِيل ابْن كثير {فَهُوَ فِي الْآخِرَة أعمى} يَعْنِي أَشد عمى وأضل سَبِيلا وَحجَّة من أمال هِيَ أَن الإمالة وَالْفَتْح لَا يأتيان على الْمعَانِي بل الإمالة تقريب من الْيَاء وَإِن كَانَ بِمَعْنى أفعل فَلَا يمْنَع من الإمالة

(1/407)


كَمَا لَا يمْتَنع {الَّذِي هُوَ أدنى} {وَإِذا لَا يلبثُونَ خِلافك إِلَّا قَلِيلا}
قَرَأَ نَافِع وَابْن كثير وَأَبُو عَمْرو وَأَبُو بكر / وَإِذا لَا يلبون خَلفك / بِغَيْر ألف أَي بعْدك كَمَا قَالَ جلّ وَعز {نكالا لما بَين يَديهَا وَمَا خلفهَا} أَي بعْدهَا
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ خلاخل بِالْألف أَي مخالفتك قَالَ ذَلِك الْفراء يَقُول لَو أَنَّك خرجت وَلم يُؤمنُوا لنزل بهم الْعَذَاب وحجتهم إِجْمَاع الْجَمِيع على قَوْله {فَرح الْمُخَلفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خلاف رَسُول الله} فَردُّوا مَا اخْتلفُوا فِيهِ إِلَى مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ

{وَإِذا أنعمنا على الْإِنْسَان أعرض ونأى بجانبه}
قَرَأَ ابْن عَامر / وناء بجانبه / مثل ناع وَهَذَا على الْقلب وَتَقْدِيره فلع وَمثل هَذَا فِي الْقلب قَوْلهم رأى وَرَاء قَالَ الشَّاعِر ... وكل خَلِيل راءني فَهُوَ قَائِل ... من اجلك هَذَا هَامة الْيَوْم أَو غَد ...

وَقَالَ قوم من ناء أَي نَهَضَ كَمَا قَالَ {مَا إِن مفاتحه لتنوء بالعصبة} أَي تنهض وَالْأَصْل نوأ فَانْقَلَبت الْوَاو ألفا لتحركها

(1/408)


وانفتاح مَا قبلهَا ومددت الْألف تمكينا للهمزة
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ {ونأى} بإمالة الْألف بعد الْهمزَة وكسرة النُّون وحجتهما أَن الْألف منقلبة عَن الْيَاء الَّتِي فِي النأي فتبعتها هَذِه الْألف فَأَرَادَ أَن ينحو نَحْوهَا فَأَما الْألف بعد الْهمزَة فتبعت الْهمزَة وَكسر النُّون قبل الْهمزَة إتباعا لكسرة الْهمزَة
قَرَأَ أَبُو بكر وخلاد عَن حَمْزَة {ونأى} بِفَتْح النُّون وَكسر الْهمزَة وَلم يكسرا فَتْحة النُّون لأجل كسرة الْهمزَة بل تركا النُّون على حَالهَا كَمَا تَقول رمي بِفَتْح الرَّاء
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ / نأى / بِفَتْح النُّون والهمزة أَي بعد وَتَنَحَّى وَترك الإمالة هُوَ الأَصْل لِأَن الْيَاء قد انقلبت ألفا

{وَقَالُوا لن نؤمن لَك حَتَّى تفجر لنا من الأَرْض ينبوعا}
قَرَأَ عَاصِم وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ {حَتَّى تفجر لنا} بِفَتْح التَّاء وَسُكُون الْفَاء وحجتهم قَوْله {ينبوعا} والينبوع وَاحِد وَالتَّشْدِيد إِنَّمَا يكون للتكثير مرّة بعد مرّة فَلَا يحسن سعه فعل لما كَانَ الينبوع وَاحِدًا

(1/409)


وَيدل على هَذَا أَنهم قرؤوا {فتفجر الْأَنْهَار} بِالتَّشْدِيدِ لِأَنَّهَا جمَاعَة يكثر مَعهَا الْفِعْل
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {حَتَّى تفجر لنا} بِالتَّشْدِيدِ وحجتهم إِجْمَاع الْجَمِيع على التَّشْدِيد فِي قَوْله {وفجرنا خلالهما نَهرا} وَالنّهر وَاحِد كالينبوع فشددوا فِي فعل الْوَاحِد لتكرر الانفجار مِنْهُ مرّة بعد مرّة

{أَو تسْقط السَّمَاء كَمَا زعمت علينا كسفا}
قَرَأَ نَافِع وَابْن عَامر وَعَاصِم {كسفا} متحركة السِّين قَالَ أَبُو عبيد كسفا متحركة السِّين جمع كسفة مثل قِطْعَة وَقطع وكسرة وَكسر
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {كسفا} سَاكِنة السِّين جمع كسفة كَمَا تَقول بسرة وَبسر الْفرق بَين الْوَاحِد وَالْجمع طرح الْهَاء وَلَيْسَ بِجمع تكسير

{قل سُبْحَانَ رَبِّي هَل كنت إِلَّا بشرا رَسُولا}
قَرَأَ ابْن كثير وَابْن عَامر / قَالَ سُبْحَانَ رَبِّي / على الْخَبَر وحجتهما أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ قَالَ عِنْد اقتراحهم هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي لَيست فِي طَاقَة الْبشر أَن يفعها فَقَالَ {سُبْحَانَ رَبِّي هَل كنت إِلَّا بشرا رَسُولا}
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {قل} على الْأَمر وحجتهم مَا تقدم من المخاطبة

(1/410)


للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ {وَقَالُوا لن نؤمن لَك حَتَّى تفجر لنا} {أَو يكون لَك} 90 و 93 كَذَا إِلَى أَن قَالَ الله لَهُ {قل سُبْحَانَ رَبِّي هَل كنت إِلَّا بشرا رَسُولا} وَيُقَوِّي هَذَا مَا بعده {قل لَو كَانَ فِي الأَرْض مَلَائِكَة} و {قل كفى بِاللَّه شَهِيدا} {قَالَ لقد علمت مَا أنزل هَؤُلَاءِ إِلَّا رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض}
قَرَأَ الْكسَائي {قَالَ لقد علمت} بِرَفْع التَّاء وحجته مَا رُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب صلوَات الله عَلَيْهِ قَالَ {لقد علمت} قَالَ وَالله مَا علم عَدو الله إِنَّمَا علم مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وقراها بِالرَّفْع
مَسْأَلَة فَإِن قلت كَيفَ يَصح الِاحْتِجَاج عَلَيْهِ بِعِلْمِهِ وَعلمه لَا يكون حجَّة على فِرْعَوْن إِنَّمَا يكون علم فِرْعَوْن مَا علمه من صِحَة أَمر مُوسَى حجَّة عَلَيْهِ فَالْقَوْل فِيهِ إِنَّه لما قيل لَهُ {إِن رَسُولكُم الَّذِي أرسل إِلَيْكُم لمَجْنُون} كَانَ ذَلِك قدحا فِي علمه لِأَن الْمَجْنُون لَا يعلم فَكَأَنَّهُ نفى ذَلِك وَدفع عَن نَفسه فَقَالَ لقد علمت صِحَة مَا أتيت بِهِ علما صَحِيحا كعلم الْفُضَلَاء فَصَارَت الْحجَّة عَلَيْهِ من هَذَا الْوَجْه
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {قَالَ لقد علمت} بِفَتْح التَّاء على المخاطبة عَن مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ لفرعون وحجتهم فِي ذَلِك أَن فِرْعَوْن وَمن كَانَ تبعه قد علمُوا صِحَة أَمر مُوسَى بِدلَالَة قَوْله تَعَالَى {لَئِن كشفت عَنَّا الرجز لنؤمنن لَك} وَقَوله {وجحدوا بهَا واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} يَعْنِي أَن فِرْعَوْن كَانَ عَالما بِأَن مَا أنزل هَؤُلَاءِ الْآيَات إِلَّا الله وَلَكِن جحد مَا كَانَ يعرف حَقِيقَته وَهُوَ عَالم بِأَن الله هُوَ ربه

(1/411)


18 - سُورَة الْكَهْف
{قيمًا لينذر بَأْسا شَدِيدا من لَدنه}
قَرَأَ أَبُو بكر / من لدنهي / بِإِسْكَان الدَّال وإشمام الضَّم وَكسر وَالنُّون وَالْهَاء وَوصل الْهَاء بِالْيَاءِ الأَصْل لدن بِضَم الدَّال ثمَّ إِنَّه أسكن الدَّال استثقالا للضمة كَمَا تَقول عضد فَلَمَّا أسكن الدَّال التقى ساكنان النُّون وَالدَّال فَكسر النُّون لالتقاء الساكنين وَكسر الْهَاء لمجاورة حرف مكسور وَوَصلهَا بياء كَمَا تَقول مَرَرْت بِهِ ي يَا فَتى وَأما إشمام الضمة فِي الدَّال ف ليعلم أَن الأَصْل كَانَ فِي الْكَلِمَة الضمة وَمثل ذَلِك قيل وَجِيء فاعرفه فَإِنَّهُ حسن
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {من لَدنه} بِضَم الدَّال وَسُكُون النُّون وَضم الْهَاء على أصل الْكَلِمَة كَقَوْلِه {من لدن حَكِيم عليم}

{فأووا إِلَى الْكَهْف ينشر لكم ربكُم من رَحمته ويهيئ لكم من أَمركُم مرفقا}
قَرَأَ نَافِع وَابْن عَامر {من أَمركُم مرفقا} بِفَتْح الْمِيم وَكسر الْفَاء وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {مرفقا} بِكَسْر الْمِيم وَفتح الْفَاء
قَالَ أَبُو عَمْرو مرفق الْيَد بِكَسْر الْمِيم وَفتح الْفَاء وَكَذَلِكَ مرفق الْأَمر مثل مرفق الْيَد سَوَاء وَكَذَا قَالَ أَيْضا أَبُو الْحسن الْأَخْفَش

(1/412)


قَالَ هما لُغَتَانِ لَا فرق بَينهمَا وَقَالَ الْفراء فَكَأَن الَّذين فتحُوا الْمِيم أَرَادوا أَن يفرقُوا بَين الْمرْفق من الْأَمر والمرفق من الْإِنْسَان وَأكْثر الْعَرَب على كسر الْمِيم فِي الْأَمر وَفِي الْمرْفق من الْإِنْسَان وَقد تفتح الْعَرَب أَيْضا الْمِيم من مرفق الْإِنْسَان وهما لُغَتَانِ فِي هَذَا وَفِي هَذَا

{وَترى الشَّمْس إِذا طلعت تزاور عَن كهفهم ذَات الْيَمين}
قَرَأَ ابْن عَامر / تزور عَن كهفهم / مثل تحمر وَتَصْفَر وَمَعْنَاهُ تعدل وتميل
وَقَرَأَ نَافِع وَابْن كثير وَأَبُو عَمْرو {تزاور} بِالتَّشْدِيدِ وَقَرَأَ أهل الْكُوفَة بِالتَّخْفِيفِ من شدد أَرَادَ تتزاور فأدغمت التَّاء فِي الزَّاي وَمن خفف حذف إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَهِي الثَّانِيَة

{لَو اطَّلَعت عَلَيْهِم لَوَلَّيْت مِنْهُم فِرَارًا وَلَمُلئت مِنْهُم رعْبًا}
قَرَأَ نَافِع وَابْن كثير {وَلَمُلئت مِنْهُم} بِالتَّشْدِيدِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وهما لُغَتَانِ يُقَال ملئ فلَان رعْبًا فَهُوَ مَمْلُوء وملئ فَهُوَ مملأ

{فَابْعَثُوا أحدكُم بورقكم هَذِه إِلَى الْمَدِينَة}
قَرَأَ أَبُو بكر وَحَمْزَة وَأَبُو عَمْرو {بورقكم} سَاكِنة الرَّاء وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْر الرَّاء على أصل الْكَلِمَة من سكن الرَّاء طلب التَّخْفِيف بِإِسْكَان الرَّاء لِأَن الرَّاء ب تكررها بِمَنْزِلَة حرفين

(1/413)


{وَلَبِثُوا فِي كهفهم ثَلَاث مائَة سِنِين وازدادوا تسعا}
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ / وَلَبِثُوا فِي كهفهم ثلثمِائة سِنِين / مُضَافا بِغَيْر تَنْوِين قَالَ قوم لَيست هَذِه الْقِرَاءَة مختارة لِأَن الْعَرَب غذ أضافت هَذَا الْجِنْس أفردت فَيَقُولُونَ عِنْدِي ثلثمِائة دِينَار وَلَا يَقُولُونَ ثلثمِائة دَنَانِير وَلَا يَقُولُونَ هَؤُلَاءِ ثلثمِائة رجال إِنَّمَا يَقُولُونَ ثلثمِائة رجل بل هَذِه الْقِرَاءَة مختارة وحجتهما أَنَّهُمَا أَتَيَا بِالْجمعِ بعد قَوْله ثلثمِائة على الأَصْل لِأَن الْمَعْنى فِي ذَلِك هُوَ الْجمع وَذَلِكَ أَنَّك إِذا قلت عِنْدِي مئة دِرْهَم فَالْمَعْنى مئة من الدَّرَاهِم وَالْجمع هُوَ المُرَاد من الْكَلَام وَالْوَاحد إِنَّمَا اكْتفي بِهِ من الْجمع إِذا قيل ثلثمِائة سنة وثلثمائة رجل لِأَن الْوَاحِد هَا هُنَا يُؤَدِّي على معنى الْجمع بِذكر الْعدَد قبله فعاملوا الأَصْل الَّذِي هُوَ مُرَاد الْمُتَكَلّم وَلم يكتفيا بِالْوَاحِدِ من الْجمع هَذَا مَذْهَب قطرب قَالَ الْكسَائي الْعَرَب تَقول أَقمت عِنْده مئة سنة ومئة سِنِين
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ / ثلثمِائة سِنِين / منونا أوقعوا اللباث على السنين ثمَّ بينوا عَددهَا بعد فَقَالُوا وَلَبِثُوا فِي كهفهم سِنِين ثلثمِائة قَوْله {سِنِين} بدل من {ثَلَاث}
قَالَ الزّجاج {سِنِين} جَائِز أَن يكون نصبا وَجَائِز أَن يكون جرا فَأَما النصب فعلى معنى وَلَبِثُوا فِي كهفهم سِنِين ثلثمِائة وَيكون على تَقْدِير الْعَرَبيَّة سِنِين مَعْطُوفًا على مَعْطُوفًا على ثَلَاث عطف الْبَيَان والتوكيد وَجَائِز أَن يكون سِنِين من نعت المئة وَهُوَ رَاجع فِي الْمَعْنى إِلَى ثَلَاث

{مَا لَهُم من دونه من ولي وَلَا يُشْرك فِي حكمه أحدا}

(1/414)


قَرَأَ ابْن عَامر / وَلَا تشرك فِي حكمه أحدا / بِالتَّاءِ والجزم على النَّهْي أَي لَا تنسبن أحدا إِلَى علم الْغَيْب فالخطاب لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَالْمرَاد غَيره وَيُقَوِّي التَّاء مَا بعده وَهُوَ قَوْله {واتل مَا أُوحِي} قَالَ الْفراء وَهُوَ وَجه غير مَدْفُوع كَمَا قَالَ {وَلَا تدع مَعَ الله إِلَهًا آخر}
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {وَلَا يُشْرك} بِالْيَاءِ وَضم الْكَاف على الْخَبَر الْمَعْنى وَلَا يُشْرك الله فِي حكمه أحدا
قَالَ الزّجاج قد جرى ذكر علمه وَقدرته فَأعْلم جلّ وَعز أَنه لَا يُشْرك فِي حكمه مِمَّا يخبر بِهِ من الْغَيْب أحدا كَمَا قَالَ جلّ وَعز {عَالم الْغَيْب فَلَا يظْهر على غيبه أحدا} وَكَانَ السّديّ يَقُول {وَلَا يُشْرك فِي حكمه أحدا} أَي لَا يشاور فِي أمره وقضائه أحدا

{يدعونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ والعشي}
قَرَأَ ابْن عَامر / بالغدوة والعشي / بِضَم الْغَيْن وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْح وحجتهم أَن غَدَاة نكرَة تعرف بِالْألف وَاللَّام وغدوة معرفَة فَلَا يجوز دُخُول تَعْرِيف على تَعْرِيف كَمَا لَا يُقَال مَرَرْت بالزيد
وَحجَّة ابْن عَامر هِيَ أَن الْعَرَب تدخل الْألف وَاللَّام على الْمعرفَة

(1/415)


إِذا جَاوَرت مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام ليزدوج الْكَلَام كَمَا قَالَ الشَّاعِر ... وجدنَا الْوَلِيد بن اليزيد مُبَارَكًا ... شَدِيدا بأحناء الْخلَافَة كَاهِله ...

{وَكَانَ لَهُ ثَمَر} {وأحيط بثمره} 34 و 42
قَرَأَ عَاصِم {وَكَانَ لَهُ ثَمَر} و {وأحيط بثمره} بِفَتْح الثَّاء وَالْمِيم فِي الحرفين جمع ثَمَرَة وثمر ك بقرة وبقر الْفرق بَين الْوَاحِد وَالْجمع إِسْقَاط الْهَاء وحجته قَوْله قبلهَا {كلتا الجنتين آتت أكلهَا} يَعْنِي ثَمَرهَا
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو {ثَمَر} و / أحيط بثمره / بِضَم الثَّاء وَسُكُون الْمِيم جمع ثَمَرَة ك بَدَنَة وبدن وخشبة وخشب وَثَمَرَة وثمر وَيجوز أَن يكون جمع ثمار كَمَا يُخَفف كتب وَيجوز أَن يكون ثَمَر وَاحِدَة ك عنق وطنب فعلى أَي هَذِه الْوُجُوه جَازَ إسكان الْعين مِنْهُ
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {ثَمَر} بِضَم الثَّاء وَالْمِيم جمع ثمار وثمر كَقَوْلِك كتاب وَكتب وحمار وحمر

{وَلَئِن رددت إِلَى رَبِّي لأجدن خيرا مِنْهَا منقلبا}
قَرَأَ نَافِع وَابْن كثير وَابْن عَامر / لأجدن خيرا مِنْهُمَا منقلبا / بِزِيَادَة مِيم وَكَذَلِكَ فِي مصاحفهم وحجتهم قَوْله قبلهَا {جعلنَا لأَحَدهمَا جنتين}

(1/416)


فَذكر جنتين فَكَذَلِك / مِنْهُمَا منقلبا /
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {مِنْهَا منقلبا} بِغَيْر مِيم وحجتهم قَوْله {وَدخل جنته وَهُوَ ظَالِم لنَفسِهِ}

{لَكِن هُوَ الله رَبِّي وَلَا أشرك بربي أحدا}
قَرَأَ نَافِع فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل وَابْن عَامر / لَكنا هُوَ الله رَبِّي / بِإِثْبَات الْألف فِي الْوَصْل
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {لَكِن} بِغَيْر ألف فِي الْوَصْل وَأَجْمعُوا كلهم على الْوَقْف بِالْألف
أصل الْكَلِمَة لَكِن أَنا أَقُول هُوَ الله رَبِّي فطرحت الْهمزَة على النُّون فتحركت بِالْفَتْح فَصَارَ لكننا فَاجْتمع حرفان من جنس وَاحِد فأدغمت النُّون الأولى فِي الثَّانِيَة فَصَارَ / لَكنا هُوَ الله /
حجَّة من لم يثبت الْألف فِي الْوَصْل قَوْلك أَن قلت محذوفة الْألف فَإِذا وقفت عَلَيْهَا أثبت الْألف فَقلت أَنا وتحذف فِي الْوَصْل فِي أَجود اللُّغَات نَحْو أَن قُمْت بِغَيْر ألف وَيجوز أَنا قُمْت بِإِثْبَات الْألف وَهُوَ ضَعِيف وَمن قَرَأَ {لَكنا} بِإِثْبَات الْألف فِي الْوَصْل ف على لُغَة من قَالَ أَنا قُمْت قَالَ الشَّاعِر ... أَنا شيخ الْعَشِيرَة فاعرفوني ... حميدا قد تذريت السناما ...

(1/417)


فَكَذَلِك لَكنا تحذف الْألف فِي الْوَصْل وتثبتها فِي الْوَقْف لأَنهم زادوا الْألف للْوَقْف فَإِذا أدرجوا الْقِرَاءَة طرحوها لزوَال السَّبَب الَّذِي من أَجله زادوها وَمن أثبت الْألف فِي الْوَصْل أجْرى الْوَصْل مجْرى الْوَقْف
قَالَ الزّجاج إِثْبَات الْألف جيد لِأَن الْهمزَة قد حذفت من أَنا فَصَارَ إِثْبَات الْألف عوضا من الْهمزَة

{وَلم تكن لَهُ فِئَة ينصرونه من دون الله}
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ / وَلم يكن لَهُ فِئَة / بِالْيَاءِ وحجتهما قَوْله {ينصرونه} وَلم يقل تنصره كَمَا قَالَ فِي مَوضِع آخر {فِئَة تقَاتل فِي سَبِيل الله} وَكَانَ تذكير مَا تقدم من فعلهم من أجل تذكير مَا تَأَخّر من فعلهم أولى ليأتلف الفعلان على لفظ وَاحِد وَقيل إِنَّه قد حيل بَين الْفِعْل وَالِاسْم بِحَائِل وَهُوَ قَوْله لَهُ والحائل صَار كالعوض من التَّأْنِيث
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ وَلم تكن بِالتَّاءِ لتأنيث الفئة وَقد سقط السُّؤَال

{هُنَالك الْولَايَة لله الْحق هُوَ خير ثَوابًا وَخير عقبا}
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ {هُنَالك الْولَايَة} بِكَسْر الْوَاو أَي السُّلْطَان وَالْقُدْرَة لله
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {هُنَالك الْولَايَة} بِالْفَتْح أَي النُّصْرَة لله
قَالَ الْفراء من فتح الْوَاو يَقُول النُّصْرَة يُقَال هم أهل ولَايَة عَلَيْك أَي متناصرون عَلَيْك وَكَانَ تَأْوِيل الْكَلَام هُنَالك النُّصْرَة

(1/418)


لله جلّ وَعز ينصر أولياءه ويعزه ويكرمهم وهما مصدران فالكسر مصدر الْوَالِي تَقول وليت الشَّيْء ولَايَة وَهُوَ بَين الْولَايَة والمفتوح مصدر للْوَلِيّ تَقول هَذَا ولي بَين الْولَايَة
قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَالْكسَائِيّ {هُنَالك الْولَايَة لله الْحق} بِالضَّمِّ جعلا الْحق نعتا للولاية أَي الْولَايَة الْحق لله أَي لَا يَسْتَحِقهَا غَيره
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {لله الْحق} بِالْكَسْرِ جعلُوا نعتا لله وَهُوَ مصدر كَمَا وَصفه بِالْعَدْلِ وَالسَّلَام وَالْمعْنَى ذُو الْحق وَذُو السَّلَام وَكَذَلِكَ الْإِلَه مَعْنَاهُ ذُو الْعِبَادَة وحجتهم قَوْله {ثمَّ ردوا إِلَى الله مَوْلَاهُم الْحق}
قَرَأَ عَاصِم وَحَمْزَة {وَخير عقبا} سَاكِنة الْقَاف وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بضَمهَا وهما لُغَتَانِ وَبِمَعْنى الْعَاقِبَة

{وَيَوْم نسير الْجبَال وَترى الأَرْض بارزة وحشرناهم فَلم نغادر مِنْهُم أحدا}
قَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرو وَابْن عَامر وَيَوْم تسير الْجبَال بِضَم التَّاء وَفتح السِّين {الْجبَال} رفع على مَا لم يسم فَاعله وحجتهم قَوْله {وسيرت الْجبَال فَكَانَت سرابا} فَردُّوا مَا اخْتلفُوا فِيهِ إِلَى مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {نسير} بالنُّون {الْجبَال} بِالنّصب الله أخبر عَن نَفسه و {الْجبَال} نصب مفعول بهَا

(1/419)


وحجتهم قَوْله {وحشرناهم فَلم نغادر مِنْهُم أحدا} وَلم يقل وحشروا فَكَانَ إِلْحَاق الْكَلَام بِمَا أَتَى عَقِيبه ليأتلف على نظام وَاحِد أولى

{وَمَا كنت متخذ المضلين عضدا وَيَوْم يَقُول نادوا شركائي الَّذين زعمتم فدعوهم فَلم يَسْتَجِيبُوا لَهُم وَجَعَلنَا بَينهم موبقا} 51 و 52
قَرَأَ حَمْزَة / وَيَوْم نقُول نادوا شركائي / الله أخبر عَن نَفسه وحجته مَا تقدم وَمَا تَأَخّر فَأَما مَا تقدم فَقَوله {وَمَا كنت متخذ المضلين عضدا} فَكَمَا أَن {كنت} للتكلم كَذَلِك {تَقول} وَأما مَا تَأَخّر فَقَوله {وَجَعَلنَا بَينهم موبقا}
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {وَيَوْم يَقُول} بِالْيَاءِ أَي قل يَا مُحَمَّد يَوْم يَقُول الله تَعَالَى وحجتهم قَوْله {نادوا شركائي الَّذين زعمتم} وَلم يقل شركاءنا {أَو يَأْتِيهم الْعَذَاب قبلا}
قَرَأَ عَاصِم وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ {أَو يَأْتِيهم الْعَذَاب قبلا} بِالضَّمِّ جمع قبيل مثل سَبِيل وسبل الْمَعْنى أَو يَأْتِيهم الْعَذَاب صنفا صنفا أَي أنواعا من الْعَذَاب وَقَالَ الزّجاج {قبلا} بِمَعْنى من قبل أَي مِمَّا يقابلهم وَمن قبل وُجُوههم وَفِي التَّنْزِيل {إِن كَانَ قَمِيصه قد من قبل} أَي من قبل وَجهه
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {قبلا} بِالْكَسْرِ أَي عيَانًا مُوَاجهَة قَالَ أَبُو زيد لقِيت فلَانا قبلا ومقابلة وقبلا وقبلا كُله وَاحِد

(1/420)


{وَجَعَلنَا لمهلكهم موعدا}
قَرَأَ أَبُو بكر عَن عَاصِم {وَجَعَلنَا لمهلكهم موعدا} بِفَتْح الْمِيم وَاللَّام أَي جعلنَا لهلاكهم موعدا جعله مصدرا ل هلك يهْلك مهْلكا وكل مَا كَانَ على فعل يفعل فاسم الْمَكَان مِنْهُ على مفعل والمصدر على مفعل بِفَتْح الْعين
وَقَرَأَ حَفْص {لمهلكهم} بِفَتْح الْمِيم وَكسر اللَّام أَي لوقت هلاكهم
قَالَ الزّجاج مهلك اسْم للزمان على هلك يهْلك وَهَذَا زمن مهلكه مثل جلس يجلس فَإِذا أردْت الْمصدر قلت مهلك بِفَتْح اللَّام كَقَوْلِك مجْلِس فَإِذا أردْت الْمَكَان قلت مجْلِس بِكَسْر اللَّام حكى سِيبَوَيْهٍ عَن الْعَرَب أَنهم يَقُولُونَ أَتَت النَّاقة على مضربها أَي على وَقت ضرابها
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {لمهلكهم} بِضَم الْمِيم وَفتح اللَّام أَي جعلنَا لإهلاكنا إيَّاهُم موعدا
قَالَ أهل الْبَصْرَة تَأْوِيل المهلك على ضَرْبَيْنِ على الْمصدر وعَلى الْوَقْت فَمَعْنَى الْمصدر لإهلاكهم وَمعنى الْوَقْت لوقت إهلاكهم قَالُوا وَهُوَ الِاخْتِيَار لِأَن الْمصدر من أفعل فِي الْمَكَان

(1/421)


وَالزَّمَان يَجِيء على مفعل كَقَوْلِه {وَقل رب أدخلني مدْخل صدق وأخرجني مخرج صدق}

{وَمَا أنسانيه إِلَّا الشَّيْطَان أَن أذكرهُ} 63
قَرَأَ حَفْص عَن عَاصِم {وَمَا أنسانيه} بِضَم الْهَاء على أصل الْكَلِمَة واصلها الضَّم وَإِنَّمَا عدل عَن كسر الْهَاء إِلَى الضَّم لما رأى الكسرات من {أنسانيه} وَكَانَت الْهَاء أَصْلهَا الضَّم رأى الْعُدُول إِلَى الضَّم ليَكُون أخف على اللِّسَان من الِاسْتِمْرَار على الكسرات وَمن كسر فلمجاورة الْيَاء كَمَا تَقول فِيهِ عَلَيْهِ
قَرَأَ الْكسَائي {أنسانيه} بإمالة الْألف وأنما أمال لِأَن الْألف مبدلة من يَاء وَبعد الْألف كسرة وَالْعرب تميل كل ألف بعْدهَا كسرة نَحْو عَابِد وعالم

{قَالَ لَهُ مُوسَى هَل أتبعك على أَن تعلمن مِمَّا علمت رشدا}
قَرَأَ أَبُو عَمْرو {مِمَّا علمت رشدا} بِفَتْح الرَّاء والشين وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {رشدا} بِإِسْكَان الشين وَضم الرَّاء وهما لُغَتَانِ مثل الْحزن والحزن وَقَالَ آخَرُونَ الرشد الصّلاح كَقَوْلِه {فَإِن آنستم مِنْهُم رشدا} والرشد فِي الدّين وأجود الْوَجْهَيْنِ الرشد بِضَم الرَّاء وَإِنَّمَا قلت ذَلِك لتوفيق مَا بَينه وَبَين مَا قبله وَمَا بعده من أَوَاخِر الْآي وَذَلِكَ أَن الْآي قبلهَا وَبعدهَا أَتَت بِسُكُون الْحَرْف الْأَوْسَط من الْكَلِمَة وَهُوَ قَوْله {وعلمناه من لدنا علما} {معي صبرا}

(1/422)


67 - و 72 {مَا لم تحط بِهِ خَبرا} فَكَانَ الْوَجْه فِيمَا توَسط أَن يجْرِي بِلَفْظ مَا تقدم وَمَا تَأَخّر إِذْ كَانَ فِي سِيَاقه فَكَانَ أولى من مُخَالفَة مَا بَينهَا ليأتلف رُؤُوس الْآيَات على نظام وَاحِد

{قَالَ فَإِن اتبعتني فَلَا تَسْأَلنِي عَن شَيْء حَتَّى أحدث لَك مِنْهُ ذكرا} 70
قَرَأَ العجمي عَن ابْن عَامر / فَلَا تسألن عَن شَيْء / بِفَتْح النُّون وَالتَّشْدِيد وَقَرَأَ نَافِع وَابْن عَامر {فَلَا تَسْأَلنِي} بِكَسْر النُّون وَالتَّشْدِيد وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {فَلَا تَسْأَلنِي} سَاكِنة اللَّام وَقد بيّنت فِي سُورَة هود

{قَالَ أخرقتها لتغرق أَهلهَا لقد جِئْت شَيْئا إمرا}
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ / ليغرق / بِفَتْح الْيَاء وَالرَّاء {أَهلهَا} رفع جعلا الْفِعْل لَهُم كَأَنَّهُ قَالَ أخرقت السَّفِينَة لترسو فِي الْبَحْر فيغرق فِيهِ أَهلهَا
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {لتغرق} بِالتَّاءِ {أَهلهَا} نصبا وحجتهم قَوْله تَعَالَى {أخرقتها} فَجعلُوا الْفِعْل الثَّانِي مثل الأول وَيُقَوِّي هَذَا قَوْله {لقد جِئْت شَيْئا إمرا}

{قَالَ أقتلت نفسا زكية بِغَيْر نفس لقد جِئْت شَيْئا نكرا}

(1/423)


قَرَأَ نَافِع وَابْن كثير وَأَبُو عَمْرو / زاكية / بِالْألف وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {زكية} بِغَيْر ألف
قَالَ أَبُو عَمْرو الزاكية الَّتِي لم تذنب قطّ والزكية الَّتِي أذنبت ثمَّ غفر لَهَا وَإِنَّمَا قتل الْخضر صَغِيرا لم يبلغ الْحِنْث وَقَالَ آخَرُونَ زاكية أَي طَاهِرَة وَقَالَ قَتَادَة نامية وزكية تقية دينة وَقَالَ الْحسن بريئة وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُم الْكسَائي هما لُغَتَانِ مثل عَالم وَعَلِيم وسامع وَسميع إِلَّا أَن فعيلا أبلغ فِي الْوَصْف والمدح من فَاعل وَيُقَوِّي التَّشْدِيد قَوْله {غُلَاما زكيا}
قَرَأَ نَافِع وَابْن عَامر وَأَبُو بكر {نكرا} بِضَم الْكَاف فِي جَمِيع الْقُرْآن
وَقَرَأَ إِسْمَاعِيل عَن نَافِع {نكرا} سَاكِنة الْكَاف وَبِه قَرَأَ الْآخرُونَ وهما لُغَتَانِ مثل الرعب والرعب والسفل والسفل
{قد بلغت من لدني عذرا}
قَرَأَ نَافِع وَأَبُو بكر {من لدني عذرا} بإشمام الدَّال وَتَخْفِيف النُّون وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {من لدني عذرا} بِضَم الدَّال وَتَشْديد النُّون
الأَصْل لدن بِإِسْكَان النُّون فَإِذا أضفتها إِلَى نَفسك زِدْت

(1/424)


نونا ليسلم سُكُون النُّون الأولى تَقول لدن زيد فتسكن النُّون ثمَّ تضيف إِلَى نَفسك فَتَقول لدني فتدغم النُّون فِي النُّون كَمَا تَقول عني وَمن خفف النُّون كره اجْتِمَاع النونين فَحذف وَاحِدَة وَهِي الثَّانِيَة لِأَنَّهَا زَائِدَة كَمَا حذف من قَوْله {تأمروني} وكما حذفت من قدني وقدي قَالَ الشَّاعِر ... قدني من ذكر الخبيبين قدي ...

وَأما إشمام الدَّال فَإِنَّهُ علام على أَن الدَّال كَانَت مَضْمُومَة

{قَالَ لَو شِئْت لاتخذت عَلَيْهِ أجرا} 77
قَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرو / لتخذت / بتَخْفِيف التَّاء وَكسر الْخَاء وحجتهما أَن أصل هَذَا الْفِعْل من تخذ يتَّخذ تخذا فالتاء فَاء الْفِعْل مثل تبع يتبع وَأنْشد أَبُو عَمْرو

(1/425)


.. وَقد تخذت رجْلي إِلَى جنب غرزها ...

فَقَرَأَ أَبُو عَمْرو على أصل بنية الْفِعْل من غير زِيَادَة
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {لاتخذت} بِفَتْح الْخَاء على افتعلت فِي هَذِه الْقِرَاءَة قَولَانِ أَحدهمَا أَن تكون التَّاء الأولى أَصْلِيَّة وَالتَّاء الثَّانِيَة تَاء زَائِدَة فِي افتعل زَائِدَة وَالْأَصْل تخذ يتَّخذ فَلَا نظر فِيهِ أَنه افتعل مِنْهُ وَالْقَوْل الثَّانِي أَن يكون اتخذ مأخوذا من أَخذ وَالْفَاء همزَة فَإِذا بني مِنْهُ افتعل شابه افتعل من وعد فَيصير ائتخذ يأتخذ ائتخاذا كَمَا تَقول ايتعد ياتعد ايتعادا فَهُوَ موتعد ثمَّ تَقول اتعد يَتَعَدَّ اتعادا كَذَلِك اتخذ يتَّخذ اتخاذا فأبدلوا من مَكَان الْهمزَة تَاء كَمَا جرت مجْرى الْوَاو فِي التثقيل وَالْأَصْل إأتخذ فَاجْتمع همزتان فقلبت الثَّانِيَة يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا فَصَارَت إيتخذ ثمَّ أبدلوا من الْيَاء تَاء ثمَّ أدغموا فِي التَّاء الَّتِي بعْدهَا فَقَالُوا اتخذ يتَّخذ فَهُوَ متخذ

(1/426)


{فأردنا أَن يبدلهما ربهما خيرا مِنْهُ زَكَاة وَأقرب رحما} 81
قَرَأَ نَافِع وَأَبُو عَمْرو {فأردنا أَن يبدلهما} بِالتَّشْدِيدِ فِي جَمِيع الْقُرْآن وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وهما لُغَتَانِ تَقول بدل وأبدل مثل نزل وَأنزل
وَحجَّة التَّشْدِيد قَوْله {وَإِذا بدلنا آيَة} وَقَالَ {لَا تَبْدِيل لكلمات الله} وَلم يقل لَا إِبْدَال
وَحجَّة التَّخْفِيف قَوْله {وَإِن أردتم استبدال زوج} فَهَذَا قد يكون بِمَعْنى الْإِبْدَال كَمَا أَن قَوْله
فَلم يستجبه عِنْد ذَاك مُجيب
بِمَعْنى لم يجبهُ
قَرَأَ ابْن عَامر {وَأقرب رحما} بِضَم الْحَاء وحجته قَول الشَّاعِر
وَكَيف بظُلْم جَارِيَة ... وَمِنْهَا اللين وَالرحم
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {رحما} وهما لُغَتَانِ مثل الرعب والرعب

(1/427)


{فأتبع سَببا}
وَقَرَأَ نَافِع وَابْن كثير وَأَبُو عَمْرو {فأتبع سَببا} بِالتَّشْدِيدِ وحجتهما فِي ذَلِك أَن الْمَشْهُور فِي كَلَام الْعَرَب أَن يُقَال اتبع فلَان أثر فلَان إِذا سلك طَرِيقه وَسَار بعده وَاتَّبَعت الرجل إِذا لحقته وَمَعْلُوم أَن الله أخبر عَن مسير ذِي القرنين فِي الأَرْض الَّتِي مكن لَهُ فِيهَا
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {فأتبع} بِالتَّخْفِيفِ أَي لحق سَببا تَقول اتبعت الرجل إِذا سرت من وَرَائه وأتبعت الرجل ألحقته خيرا أَو شرا كَقَوْلِه تَعَالَى {فَأتبعهُ شهَاب ثاقب}
قَالَ أَبُو زيد رَأَيْت الْقَوْم فأتبعتهم بِالتَّخْفِيفِ إتباعا إِذا سبقوك فأسرعت نحوهم ومروا عَليّ فاتبعتهم اتبَاعا بِالتَّشْدِيدِ إِذا ذهبت مَعَهم وَلم يسبقوك
قَالَ أَبُو عبيد الْقِرَاءَة عِنْدِي {فأتبع} بِالتَّشْدِيدِ لِأَنَّهَا من الْمسير إِنَّمَا هُوَ افتعل وَأما الإتباع فَإِن مَعْنَاهُ اللحاق كَقَوْلِه {فأتبعوهم مشرقين} وَقَالَ قوم لُغَتَانِ أتبع يتبع وَاتبع يتبع افتعل

{وجدهَا تغرب فِي عين حمئة}
قَرَأَ ابْن عَامر وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَأَبُو بكر / فِي عين حامية / بِالْألف أَي حارة من حميت تحمى فَهِيَ حامية قَالَ تَعَالَى {تصلى نَارا حامية} أَي حارة وحجتهم مَا رُوِيَ عَن أبي ذَر رَحمَه

(1/428)


الله قَالَ كنت ردف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَهُوَ على حمَار وَالشَّمْس عِنْد غُرُوبهَا فَقَالَ
يَا أَبَا ذَر هَل تَدْرِي أَيْن تغرب هَذِه قلت الله وَرَسُوله أعلم قَالَ
إِنَّهَا تغرب فِي عين حامية
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {فِي عين حمئة} مهموزا فالحمأة الطين المنتن الْمُتَغَيّر اللَّوْن والطعم وحجتهم مَا رُوِيَ فِي حَدِيث ذِي القرنين أَنه رأى مغيب الشَّمْس عِنْد غُرُوبهَا فِي مَاء وطين تغرب قَالَ الشَّاعِر ... فِي عين ذِي خلب وثأط حرمد ...

فالخلب الطين والثأط الحمأة والحرمد الْأسود

قَالَ ابْن عَبَّاس كنت عِنْد مُعَاوِيَة فَقَرَأَ / تغرب فِي عين حامية / فَقلت مَا نقرؤها إِلَّا {حمئة} فَقَالَ لعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ كَيفَ تقرؤها فَقَالَ كَمَا قرأتها يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ ابْن عَبَّاس فَقلت فِي بَيْتِي نزل الْقُرْآن فَأرْسل مُعَاوِيَة إِلَى كَعْب أَيْن تَجِد الشَّمْس تغرب فِي التَّوْرَاة فَقَالَ أما الْعَرَبيَّة فَأنْتم أعلم بهَا وَأما أَنا فأجد الشَّمْس فِي التَّوْرَاة تغرب فِي مَاء وطين أَرَادَ أَنَّهَا تغرب فِي عين ذَات حمئة وَهَذَا القَوْل لَيْسَ يَنْفِي قَول من قَرَأَهَا حامية إِذا كَانَ جَائِزا أَن تكون الْعين الَّتِي تغرب الشَّمْس فِيهَا حارة

(1/429)


وَقد تكون حارة وَذَات حمأة وطينة سَوْدَاء فَتكون مَوْصُوفَة بالحرارة وَهِي ذَات حمأة

{فَلهُ جَزَاء الْحسنى}
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَحَفْص {فَلهُ جَزَاء الْحسنى} منونا مَنْصُوبًا الْمَعْنى فَلهُ الْحسنى جَزَاء وَجَزَاء مصدر مَنْصُوب فِي مَوضِع الْحَال وَالْمعْنَى فَلهُ الْحسنى مجزيا بهَا جَزَاء فالنصب على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {فَلهُ جَزَاء الْحسنى} بِالرَّفْع وَالْإِضَافَة فالحسنى على هَذِه الْقِرَاءَة تحْتَمل أَن تكون الطَّاعَة الْمَعْنى فَلهُ جَزَاء إحسانه أَي لَهُ جَزَاء الْأَعْمَال الْحسنى وَيحْتَمل أَن يَجْعَل {الْحسنى} الْجنَّة وَيكون الْجَزَاء مُضَافا إِلَيْهَا وَهُوَ لاخْتِلَاف اللَّفْظَيْنِ كَمَا قَالَ {لَهو حق الْيَقِين} و {ولدار الْآخِرَة} يُضَاف الِاسْم إِلَى نَفسه إِذا اخْتلف لفظ الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ وَهُوَ هُوَ فِي الْحَقِيقَة

{حَتَّى إِذا بلغ بَين السدين وجد من دونهمَا قوما لَا يكادون يفقهُونَ قولا}
قَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرو {بَين السدين} و {وَبينهمْ سدا} 94 بِالْفَتْح وَفِي يس {سدا} بِالرَّفْع قَالَ أَبُو عَمْرو السد الشَّيْء الحاجز بَيْنك وَبَين الشَّيْء والسد فِي الْعين وَالْعرب تَقول بِعَيْنِه سدة بِالرَّفْع وَاسْتدلَّ على ذَلِك بقوله {فأغشيناهم فهم لَا يبصرون}

(1/430)


أَي جعلنَا على أَبْصَارهم غشاوة فهم لَا يبصرون طَرِيق الْهدى وَالْحق
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ {بَين السدين} بِالرَّفْع {وَبينهمْ سدا} بِالْفَتْح وَكَذَلِكَ فِي يس
قَالَ أَبُو عبيد كل شَيْء وجدته الْعَرَب من فعل الله من الْجبَال والشعاب فَهُوَ سد بِالضَّمِّ وَمَا بناه الآدميون فَهُوَ سد بِالْفَتْح وَكَذَا قَالَ أَيْضا عِكْرِمَة فَذهب حَمْزَة وَالْكسَائِيّ فِي قَوْله {أَن تجْعَل بَيْننَا وَبينهمْ سدا} أَنه من صنع النَّاس وَفِي يس إِلَى الْمَعْنى وَذَلِكَ أَنه يجوز أَن يكون الْفَتْح فيهمَا على معنى الْمصدر الَّذِي صدر عَن غير لفظ الْفِعْل لِأَنَّهُ لما قَالَ {وَجَعَلنَا من بَين أَيْديهم سدا} كَأَنَّهُ قَالَ وسددنا ثمَّ أخرج الْمصدر على معنى الْجعل إِذا كَانَ مَعْلُوما أَنه لم يرد بقوله فِي يس {سدا} مَا أُرِيد بِهِ فِي قَوْله {بَين السدين} لِأَنَّهُمَا جبلان وَهِي هَا هُنَا عَارض فِي الْعين
قَرَأَ نَافِع وَابْن عَامر وَأَبُو بكر جَمِيع ذَلِك بِالرَّفْع وَقَرَأَ حَفْص جَمِيع ذَلِك بِالنّصب
وحجتهم أَنَّهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنى وَاحِد كالضعف والضعف والفقر والفقر

(1/431)


قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ {لَا يكادون يفقهُونَ} بِضَم الْيَاء أَي لَا يفقهُونَ غَيرهم إِذا كلموهم تَقول أفقهني مَا تَقول أَي أفهمني
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {لَا يكادون يفقهُونَ} بِالْفَتْح أَي لَا يفهمون مَا يُقَال لَهُم كَمَا تَقول كَلمته وَلم يفقه أَي لم يفهم
وَاعْلَم أَن فقهت فعل يتَعَدَّى إِلَى مفعول تَقول فقهت السّنة فَإِذا نقلته بِالْهَمْزَةِ تعدى إِلَى مفعولين فَالْمَعْنى فِيمَن ضم لَا يكادون يفقهُونَ أحدا قولا فَحذف أحد المفعولين كَمَا حذف من قَوْله {لينذر بَأْسا شَدِيدا}

{قَالُوا يَا ذَا القرنين إِن يَأْجُوج وَمَأْجُوج مفسدون فِي الأَرْض فَهَل نجْعَل لَك خرجا على أَن تجْعَل بَيْننَا وَبينهمْ سدا}
قَرَأَ عَاصِم {إِن يَأْجُوج وَمَأْجُوج} بِالْهَمْز وَفِي الْأَنْبِيَاء مثله جعله من أجه الْحر وَمن قَوْله {ملح أجاج} وأجة الْحر شدته وتوقده وَمن هَذَا قَوْلهم أججت النَّار وَيكون التَّقْدِير فِي يَأْجُوج

(1/432)


يفعول نَحْو يَرْبُوع وَفِي مأجوج مفعول وامتنعا من الصّرْف على هَذَا للتأنيث والتعريف كَأَنَّهُ اسْم الْقَبِيلَة
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {يَأْجُوج وَمَأْجُوج} ياجوج فاعول وماجوج فاعول أَيْضا الْيَاء فَاء الْفِعْل
قَالَ النحويون وَهُوَ الِاخْتِيَار لِأَن الْأَسْمَاء الأعجمية سوى هَذَا الْحَرْف غير مَهْمُوزَة نَحْو طالوت وجالوت وحاروت وماروت
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ / فَهَل نجْعَل لَك خراجا / بِالْألف وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِغَيْر ألف
قَالَ الزّجاج الخرج الْفَيْء وَالْخَرَاج الضريبة وَقيل الْجِزْيَة قَالَ وَالْخَرَاج عِنْد النَّحْوِيين الِاسْم لما يخرج من الْفَرَائِض فِي الْأَمْوَال والخرج الْمصدر وَقَالَ غَيره {خرجا} أَي عَطِيَّة نخرجهُ إِلَيْك من أَمْوَالنَا وَأما الْمَضْرُوب على الأَرْض فالخراج وَيدل على الْعَطِيَّة قَوْله فِي جَوَابه لَهُم {مَا مكني فِيهِ رَبِّي خير}

{قَالَ مَا مكني فِيهِ رَبِّي خير فَأَعِينُونِي بِقُوَّة أجعَل بَيْنكُم وَبينهمْ ردما آتوني زبر الْحَدِيد حَتَّى إِذا سَاوَى بَين الصدفين قَالَ انفخوا حَتَّى إِذا جعله نَارا قَالَ آتوني أفرغ عَلَيْهِ قطرا} 95 و 96
قَرَأَ ابْن كثير / مَا مكنني فِيهِ رَبِّي خير / بنونين إِنَّمَا أظهر النونين لِأَنَّهُمَا من كَلِمَتَيْنِ الأولى لَام الْفِعْل أَصْلِيَّة وَالثَّانيَِة تدخل مَعَ الِاسْم لتسلم فَتْحة النُّون الأولى وَالنُّون الثَّانِيَة مَعَ الْيَاء فِي مَوضِع نصب

(1/433)


وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {مكني} بِالتَّشْدِيدِ أدغموا النُّون فِي النُّون لاجتماعهما وَمَا بِمَعْنى الَّذِي وصلته {مكني} و {خير} خبر الِابْتِدَاء الْمَعْنى الَّذِي مكني فِيهِ رَبِّي خير لي مَا يجمعُونَ لي من الْخراج
قَرَأَ أَبُو بكر / ردما ايتوني / بوصل الْألف جعله من الْإِتْيَان أَي جيئوني يُقَال أَتَيْته أَي جِئْته وَالْعرب تَقول خُذ بالخطام وَخذ الخطام وحجته فِي قَوْله / ردما ايتوني / لِأَن إيتوتي أشبه بقوله فَأَعِينُونِي لِأَنَّهُ كلفهم المعونة على عمل السد وَلم يقبل الخرج الَّذِي بذلوه لَهُ فَقَوله / إيتوني / مَعْنَاهُ جيئوني بِمَا هُوَ مَعُونَة على مَا يفهم من قَوْله {فَأَعِينُونِي بِقُوَّة}
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {آتوني} ممدودة أَي أعطوني وَالْأَصْل آتيوني فاستثقلوا الضمة على الْيَاء فحذفوها فَالتقى ساكنان الْوَاو وَالْيَاء فحذفوا الْيَاء لالتقاء الساكنين
قَرَأَ أَبُو بكر {بَين الصدفين} بِإِسْكَان الدَّال وَضم الصَّاد كَأَنَّهُ استثقل الضمتين وَسكن الدَّال
قَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرو وَابْن عَامر {الصدفين} بِضَم الصَّاد وَالدَّال وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْح الصَّاد وَالدَّال وهما لُغَتَانِ
قَرَأَ حَمْزَة وَأَبُو بكر / قَالَ إيتوني قطرا / أَي جيئوني بِهِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {آتوني} أَي أعطوني

(1/434)


قَالَ أَبُو عَمْرو كَيفَ يَقُول لَهُم جيئوني وهم مَعَه يكلمونه ويخاصمونه

{فَمَا اسطاعوا أَن يظهروه وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نقبا} 97
قَرَأَ حَمْزَة {فَمَا اسطاعوا} بتَشْديد الطَّاء أَرَادَ فَمَا اسْتَطَاعُوا فأدغم التَّاء فِي الطَّاء لِأَنَّهُمَا أختَان
وحجته قِرَاءَة الْأَعْمَش {فَمَا اسْتَطَاعُوا} بِالتَّاءِ
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {فَمَا اسطاعوا} بتَخْفِيف الطَّاء وَالْأَصْل فَمَا اسْتَطَاعُوا فحذفوا التَّاء كَرَاهَة الْإِدْغَام وَالْجمع بَين حرفين متقاربي الْمخْرج

{فَإِذا جَاءَ وعد رَبِّي جعله دكاء}
قَرَأَ حَمْزَة وَعَاصِم وَالْكسَائِيّ {جعله دكاء} بِالْمدِّ والهمز أَي جعله مثل دكاء ثمَّ حذف الْمُضَاف وَأقَام الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه وَتقول الْعَرَب نَاقَة دكاء أَي لَا سَنَام لَهَا ولابد من تَقْدِير الْحَذف لِأَن الْجَبَل مُذَكّر فَلَا يُوصف بدكاء لِأَنَّهَا من وصف الْمُؤَنَّث وَقَالَ قطرب قَوْله {دكاء} صفة التَّقْدِير جعله أَرضًا دكاء أَي ملساء فأقيمت الصّفة مقَام الْمَوْصُوف وَحذف الْمَوْصُوف كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ {وَقُولُوا للنَّاس حسنا} أَي قولا حسنا

(1/435)


وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {دكا} منونا غير مَمْدُود وَفِي هَذِه الْقِرَاءَة وَجْهَان أَحدهمَا أَن تجْعَل دكا بِمَعْنى مدكوكة دكا فمقام الْمصدر مقَام الْمَفْعُول وَالْعرب تجْعَل الْمصدر بِمَعْنى الْمَفْعُول فَيَقُولُونَ هَذَا دِرْهَم ضرب الْأَمِير أَي مَضْرُوب الْأَمِير وَالْوَجْه الآخر أَن يكون مَعْنَاهُ دكه دكا فتجعل دكا مصدرا عَن معنى الْفِعْل لَا عَن لَفظه

{أفحسب الَّذين كفرُوا أَن يتخذوا عبَادي من دوني أَوْلِيَاء}
قَرَأَ الْأَعْشَى عَن أبي بكر {أفحسب الَّذين كفرُوا} بِرَفْع الْبَاء وَسُكُون السِّين وتأويله أفيكفيهم أَن يتخذوا الْعباد أَوْلِيَاء من دون الله وَمَوْضِع {أَن يتخذوا} رفع بِفِعْلِهِ
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {أفحسب الَّذين كفرُوا} أَي أفحسبوا أَن يَنْفَعهُمْ اتخاذهم عبَادي أَوْلِيَاء وَمَوْضِع أَن نصب بِوُقُوع الظَّن عَلَيْهِ

{لنفد الْبَحْر قبل أَن تنفد كَلِمَات رَبِّي}
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ / قبل أَن ينْفد كَلِمَات رَبِّي / بِالْيَاءِ ذَهَبا بالكلمات إِلَى معنى الْمصدر فَكَأَنَّهُ قَالَ كَلَام رَبِّي فذكرا لتذكير الْكَلَام
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {قبل أَن تنفد} بِالتَّاءِ أخرجُوا الْفِعْل على لفظ الْأَسْمَاء المؤنثة إِذْ لم يحل بَين الِاسْم وَالْفِعْل حَائِل

(1/436)