دلائل الإعجاز ت شاكر التقديم والتأخير:
فصل 1: "القول في التقديم والتأخير"
98 - هو بابٌ كثيرُ الفوائد، جَمُّ المَحاسن، واسعُ التصرُّف،
بعيدُ الغاية، لا يَزالُ يَفْتَرُّ لك عن بديعةٍ، ويُفْضي بكَ
إِلى لَطيفة، ولا تَزال تَرى شِعراً يروقُك مسْمَعُه، ويَلْطُف
لديك موقعُه، ثم تنظرُ فتجدُ سببَ أَنْ راقكَ ولطفَ عندك، أن
قُدِّم فيه شيءٌ، وحُوِّل اللفظُ عن مكانٍ إلى مكان.
99 - واعلمْ أَنَّ تقديمَ الشيء على وجهينِ2:
تقديمٌ يُقال إِنه على نيَّةِ التأخير، وذلك في كلَّ شيءٍ
أًَقرَرْتَه معَ التقديمِ على حُكْمِه الذي كان عليه، وفي
جنسهِ الذي كانَ فيه، كخبرِ المبتدأ إِذا قدَّمْتَه على
المبتدأ، والمفعولِ إِذا قدَّمتَه على الفاعل كقولك: "منطلق
زيد" و "ضرب عمرًا زيد"، معلوم أن "منطلق" و "عمرًا" لم
يَخْرجا بالتقديم عمَّا كانا عليه، من كونِ هذا خبرَ مبتدأ
ومرفوعاً بذلك، وكونَ ذلك مفعولاً ومنْصوباً من أجله كما يكونُ
إِذا أَخَّرْتَ.
وتقديمٌ لا على نيَّةِ التأخيرِ، ولكنْ على أنْ تَنقُلَ الشيءَ
عن حُكْمٍ إِلى حكمٍ، وتجعلَ له بابا غيرَ بابهِ3، وإِعراباً
غيرَ إِعرابهِ، وذلك أَن تجيءَ إلى اسمين
__________
1 "فصل"، ليس من المخطوطتين.
2 في "س": "تقديم الشيء على الشيء".
3 في المطبوعة: "وتجعله بابًا".
(1/106)
يُحتملُ كلُّ واحدٍ منهما أَنْ يكونَ
مبتدأً ويكونُ الآخرُ خبراً له، فتُقَدِّمُ تارةً هذا على ذاك،
وأخرى ذاكَ على هذا. ومثالُه ما تَصْنعه بزيدٍ والمنطلقِ، حيث
تقولُ مرة: "زيدٌ المنطلقُ"، وأُخرى، "المنطلقُ زيدٌ"، فأنتَ
في هذا لم تُقدِّمْ "المنطلقَ" على أن يكونَ مَتروكاً على
حُكْمه الذي كان عليه معَ التأخير، فيكونَ خبرَ مبتدأ كما
كانَ، بل على أَنْ تَنْقلَه عن كَونه خبراً إِلى كونهِ مبتدأً،
وكذلك لم تؤخِّر "زيداً" على أن يكون مُبتدأ كما كان، بل على
أن تُخرجَه عن كونِه مبتدأً إلى كونِه خبراً.
وأَظهرُ من هذا قولُنا: "ضَربتُ زيداً" و "زيد ضربتُه"، لم
تُقدِّم "زيداً" على أن يكون مفعولاً منصوباً بالفعل كما كان،
ولكن على أن تَرْفَعه بالابتداءِ، وتشغلَ الفعلَ بضميرِه،
وتجعلَه في موضع الخبر له. وإذا قد عرفتَ هذا التقسيمَ، فإِني
أُتبعه بجملةٍ من الشرح.
التقديم للعناية والاهتمام:
100 - واعلمْ أَنَّا لم نَجدْهُم اعْتَمدوا فيه شيئاً يَجري
مَجرى الأَصْل، غيرَ العنايةِ والاهتمامِ. قال صاحبُ الكتاب،
وهو يَذكُر الفاعلَ والمفعولَ1: "كأنَّهم يقدمون الذي بيانه
أهم لهم، وهم ببيانه أَعْنى، وإِن كانا جميعاً يُهمَّانِهم
ويَعْنيانِهم" ولم يَذْكر في ذلك مثالاً.
وقال النحويون: إنَّ معنى ذلك أَنه قد يكونُ من أغراضُ الناس
في فعلٍ ما أنْ يَقَع بإنسانٍ بعينهِ، ولا يُبالون مَنْ
أَوْقَعَه، كَمِثل ما يُعلمُ مِنْ حالِهم في حالِ الخارجيَّ
يَخْرُج فيعيثُ ويُفْسِد، ويَكْثُرُ به الأذى، أَنهم يُريدون
قتله،
__________
1 فيه هامش "ج": "يعني به شيخ النحو سيبويه"، والنص في الكتاب
1: 14، 15، وفي المطبوعة و "ج"، "بشأنه أعني"، وأثبت ما في
سيبويه، وفي "س".
(1/107)
ولا يُبالون مَنْ كانَ القتلُ منه، ولا
يَعْنيهم منه شيءٌ. فإِذا قُتل، وأرادَ مُريدٌ الإِخبارَ بذلك،
فإِنه يُقدَّم ذكرَ الخارجيَّ فيقول: "قَتَلَ الخارجيَّ زيدٌ"،
ولا يقولْ: "قتلَ زيدٌ الخارجيَّ"، لأنه يعلم أنْ ليس للناسِ
في أنْ يعلموا أنَّ القاتلَ له "زيدٌ" جَدْوى وفائدةٌ،
فيَعْنيهم ذكْرُه ويهمُّهُمْ ويتَّصلُ بمسَّرتِهم ويَعْلم مِن
حالِهم أَنَّ الذي هم متوقِّعون له ومُتَطلّعون إِليه متى
يكونُ، وقوعُ القتلِ بِالخارجي المُفْسِد، وأَنهم قد كفُّوا
شرَّه وتخلَّصوا منه.
ثم قالوا: فإِن كان رجلٌ ليس له بأسٌ ولا يقَدَّرُ فيه أنه
يَقتُلُ، فقَتلَ رجلاً، وأراد المخبر أن يخبر بذلك، فإن
يُقدِّم ذكرَ القاتلِ فيقول: "قتلَ زيدٌ رجلاً"، ذاك لأَنَّ
الذي يَعْنيه ويَعْني الناسَ مِن شأنِ هذا القتلِ، طرافَتُه
وموضعُ الندْرةِ فيه، وبُعدُه كان منَ الظنِّ. ومعلومٌ أَنه لم
يكنْ نادراً وبعيداً من حيثُ كان واقعاً بالذي وَقَع به، ولكنْ
من حيثُ كان واقعاً مِنَ الذي وقعَ منه.
فهذا جيِّد بالغٌ، إِلاّ أن الشأنَ في أَنه يَنبغي أن يُعرَفَ
في كلَّ شيءٍ قُدِّمَ في موضعٍ من الكلامِ مثلُ هذا المعنى،
ويُفسَّر وجهُ العنايةِ فيه هذا التفسير.
لا يكفي أن يقال قدم للعناية:
101 - وقد وَقعَ في ظنونِ الناسِ أَنَّه يكفي أنْ يقالَ: "إِنه
قُدِّم للعناية، ولأنَّ ذكْرَه أَهمُّ"، مِنْ غير أن يُذْكَر،
مِنْ أين كانت تلك العنايةُ؟ وبمَ كانَ أهمَّ؟ 1 ولِتخيُّلهِم
ذلك، قد صَغُر أمرُ "التقديمِ والتأخيرِ" في نفوسهم، وهَوَّنوا
الخَطْبَ فيه، حتى إِنك لتَرى أكثرَهم يَرى تَتبُّعَه والنظرَ
فيه ضرباً من التكلُّف. ولم ترَ ظنّاً أَزرى على صاحبهِ من هذا
وشبهه2.
__________
1 في "س" والمطبوعة: "ولم كان".
2 في "س": "أردى على صاحبه".
(1/108)
مواضع التقديم
والتأخير:
102 - وكذلك صَنعوا في سائرِ الأبواب، فجعلوا لا ينظرون في
"الحذف والتكرار" و "الإظهار والإضمار"، و "الفصل والوصلِ"،
ولا في نَوْع من أنواعِ الفُروق والوجوه إِلا نَظَرُك فيما
غيرُه أهمُّ لك، بل فيما إِنْ لم تعلَمْه لم يَضُرَّك.
لا جَرَمَ أَنَّ ذلك قد ذَهَبَ بهم عن معرفةِ البلاغةِ،
ومنَعَهم أن يَعرفوا مقاديَرها، وصد بأوجههم عن الجهةِ التي هي
فيها1، والشِّقِّ الذي يَحْويها. والمَداخِلُ التي تَدخُلُ
منها الآفةُ على الناس في شأنِ العلم، ويَبْلُغ الشيطانُ
مُرادهَ منهم في الصدِّ عن طَلبهِ وإِحراز فضيلتهِ كثيرة، وهذه
من أعجبها، وإن وجَدْتَ متعجِّباً.
وليتَ شِعْري، إِن كانت هذه أموراً هيِّنة، وكان المدى فيها
قريباً والجَدى يسيراً2، من أينَ كانَ نَظْمٌ أشرَفَ من نَظمٍ؟
وبِمَ عَظُمَ التفاوتُ، واشتدَّ التباينُ، وتَرقَّى الأمرُ
إِلى الإِعجازِ، وإِلى أن يَقْهر أعناقَ الجبابرة؟ أو ههنا
أمورٌ أُخَرٌ نُحيلُ في المزيّةِ عليها، ونَجْعلُ الإعجازُ كان
بها، فتكونَ تلكَ الحوالةُ لنا عذْراً في تركِ النَّظرِ في
هذهِ التي معنا، والإعراضِ عنها، وقلَّة المبالاةِ بها؟ أَوَ
ليس هذا التهاونُ، إنْ نَظَر العاقلُ، خِيانةً منه لِعقله
ودينهِ، ودخُولاً فيما يُزري بذي الخَطَر، ويغضُّ من قَدْر
ذَوي القَدر؟ وهل يكون أضعفُ رأياً، وأبعدُ من حُسْن التدبُّر،
منك إِذا أهمَّك أن تعرفَ الوجوهَ في "أأنذرتهم"3، والإِمالة
في "رأى القمر" وتعرفَ "الصَّرَاطَ"
__________
1 في المطبوعة: "وصد أو جههم".
2 "الجدى"، النفع.
3 في المطبوعة: "إذا همك"، وفي "س": "إذا أهمك".
(1/109)
و "الزراط"1، وأشباهَ ذلك مما لا يَعْدُو
عِلْمُك فيه اللفظَ وجَرْسَ الصوت، ولا يَمنعُكَ إنْ لم
تَعلمْه بلاغةً2، ولا يَدْفعُكَ عن بيانٍ، ولا يُدخِلُ عليك
شَكّاً، ولا يُغْلق دونَكَ بابَ معرفةٍ، ولا يُفْضى بك إِلى
تحريفٍ وتبديلٍ، وإِلى الخطإ في تأويلٍ، وإِلى ما يَعظُمُ فيه
المَعابُ عليكَ، ويُطيلُ لسانَ القادحِ فيك3 ولا يَعْنيكَ ولا
يَهُمُّك أنْ تَعرف ما إِذا جهلْتَه عرَّضْتَ نفسَك لكلَّ ذلك،
وحصلْتَ فيما هنالك، وكان أكثرُ كلامِك في التفسيرِ، وحيثُ
تخوضُ في التأويل، كلامَ مَنْ لا يينى الشيءَ على أصلِه، ولا
يأخذُهُ من مَأْخذه، ومَنْ ربَّما وَقَعَ في الفَاحش من الخطإ
الذي يَبقى عارُه، وتَشنُع آثارُه. ونَسأل اللهَ العِصْمةَ من
الزلَلِ، والتوفيقَ لما هو أقربُ إلى رضاه من القول والعمل.
الخطأ في تقسيم التقديم والتأخير، إلى مفيد وغير مفيد:
103 - واعلمْ أَنَّ مِن الخطإ أَنْ يُقْسَم الأَمرُ في تقديمِ
الشيءِ وتأخيرهِ قسميْن، فيُجْعَلَ مفيداً في بعضِ الكلامِ،
وغيرَ مفيدٍ في بعضٍ وأَنْ يُعلَّل تَارةً بالعناية، وأخرى
بأنه تَوْسِعةٌ على الشاعرِ، والكاتب، حتى تَطَّردَ لهذا
قَوافيهِ ولِذاكَ سجعُهُ. ذاك لأنَّ منَ البعيد أَنْ يكونَ في
جملةِ النظْم ما يدلُّ تارةً ولا يَدلُّ أُخْرى. فمتى ثبتَ في
تقديمِ المفعولِ مَثلاً على الفِعل في كثيرٍ من الكلامِ،
أَنَّه قد اخْتُصَّ بفائدةٍ لا تكونُ تلك الفائدةُ معَ
التأخيرِ، فقد وَجَب أن تكونَ تلك قضيةً في كلَّ شيءٍ وكلِّ
حالٍ. ومِنْ سبيلِ مَنْ يجعلُ التقديمَ وتركَ التقديم سواء،
__________
1 هذه الأحرف إشارة إلى القراءات في الآيات التي فيها هذه
الألفاظ.
2 في "ج": "لم تمنعه"، سهو من الناسخ.
3 معطوف على قوله قبل: "إذا أهمك أن تعرف الوجوه ... ".
(1/110)
أنْ يدَّعي أنه كذلك في عمومِ الأحوال،
فأما أن يجعله شريجين1، فيزعُمُ أنه للفائدةِ في بعضِها،
وللتصرُف في اللفظِ مِنْ غيرِ معنًى في بعض، فمما ينبغي أن
يَرْغَبَ عن القولِ به.
104 - وهذه مسائلُ لا يَستطِيع أحدٌ أن يَمتنِعَ من التَّفرقةِ
بينَ تقديمِ ما قُدِّمَ فيها وتَرْكِ تقديمه.
مسائل الاستفهام بالهمزة والفعل ماض:
ومِنْ أَبْيَن شيءٍ في ذلك "الاستفهامُ بالهمزةِ"، فإنَّ موضعَ
الكلام على أَنك إِّذا قلتَ: "أَفَعلْتَ؟ "، فبدأتَ بالفعل،
كان الشكُّ في الفِعل نَفْسِه، وكان غَرضُكَ مِن استفهامِك أنْ
تَعْلم وُجودَه.
وإِذا قلتَ: "أأَنْتَ فعلتَ؟ "، فبدأْتَ بالاسمِ، كان الشكُّ
في الفاعِل مَنْ هوَ، وكان التردُّدُ فيه. ومثالُ ذلك أَنَّك
تقولُ: "أَبَنَيْتَ الدارَ التي كنتَ على أنْ تَبْنِيهَا؟ "،
"أَقُلْتَ الشِّعرَ الذي كان في نفسكَ أنْ تقولَهُ؟ "، "أفرغت
من الكتائب الذي كنتَ تَكتُبُه؟ "، تبدأ في هذا ونحْوهِ
بالفعل، لأنَّ السؤالَ عنِ الفعلِ نفْسهِ والشكَّ فيه، لأنَّك
في جميع ذلك متردِّدٌّ في وجودِ الفعل وانتفائه، مُجوِّزٌ أَنْ
يكونَ. قد كانَ، وأنْ يكونَ لم يَكُنْ.
وتقولُ: "أأَنْتَ بَنَيْتَ هذهِ الدارَ؟ "، "أأنْتَ قلتَ هذا
الشعرَ؟ "، "أأَنتَ كتبْتَ هذا الكتابَ؟ "، فتَبْدأ في ذلك كله
بالاسم، ذاك لأنك لم تَشُكَّ في الفعل أنه كانَ. كيفَ؟ وقد
أشرْتَ إلى الدارِ مَبْنية، والشِّعر مَقُولاً، والكتابِ
مكتوباً، وإِنما شكَكْتَ في الفاعل مَن هو؟
__________
1 في المطبوعة "أن يجعله بين بين"، و "شريحان"، لونان مختلفان
في كل شيء، يعني قسمين متساويين.
(1/111)
فهذا منَ الفَرْق لا يَدْفعُه دافعٌ، ولا
يَشكُّ فيه شاكٌّ، ولا يَخْفى فسادُ أحدِهما في موضع الآخر.
فلو قلتَ: "أأَنْتَ بَنيتَ الدارَ التي كنتَ على أنْ تَبنيها؟
"، "أَأَنْتَ قلتَ الشعرَ الذي كان في نفسِك أن تَقولَه؟ "،
"أأَنْتَ فرغْتَ منَ الكِتاب الذي كنتَ تكْتُبه؟ "، خرَجْتَ
منِ كلام الناس. وكذلك لو قلْتَ: "أبَنَيْتَ هذه الدارَ؟ "،
"أَقلت هذا الشعرَ؟ "، "أَكتبتَ هذا الكتابَ؟ "، قلْتَ ما ليس
بقولِ. ذاكَ لِفَساد أنْ تقولَ في الشيء المُشَاهَدِ الذي هو
نُصْبُ عينيكَ أَموجودٌ أم لا؟
ومما يُعلَمُ به ضرورةً أنه لا تكونُ البدايةُ بالفعل كالبداية
بِالاسم أَنك تقولُ: "أقلتَ شعراً قط؟ "، "أرأيتَ اليومَ
إِنساناً؟ "، فيكونُ كلاماً مستقيماً. ولَو قلتَ: "أأنتَ قلت
شعرًا قط؟ "، "أأنت رأيت إنسانًا"، أحلت1، وذاك أَنه لا مَعْنى
للسؤالِ عن الفاعلِ مَنْ هو في مثلِ هذا، لأنَّ ذلك إِنما
يُتَصوَّر إِذا كانتِ الإشارةُ إِلى فعلٍ مخصوصٍ نَحْوَ أَنْ
تقولُ: "مَنْ قال هذا الشعر؟ "، و "من بنى هذا الدار؟ " و "من
أتاك اليوم؟ "، و "من أذن لك من الذي فعلتَ؟ "، وما أشبَه ذلك
مما يُمكنُ أن يُنَصَّ فيه على مُعَيَّنٍ. فأمَّا قيلُ شعرٍ
على الجملة، ورؤيةُ إنسانٍ على الإِطلاق، فمُحَالٌ ذلك فيه،
لأَنه ليس مما يُخْتصُّ بهذا دون ذاكَ حتى يُسْأَلَ عن عينِ
فاعلهِ.
ولو كان تقديمُ الاسم لا يُوجب ما ذكَرْنا، من أنْ يكونَ
السؤالُ عن
__________
1 في المطبوعة: "أخطأت"، وقال إنها أثبتها مكان "أحلت"، وهو
خطأ منه. و "أحلت"، أتيت بالمحال.
(1/112)
الفاعل مَنْ هو؟ وكان يَصِحُّ أن يكونَ
سؤالاً عن الفعلِ أكانَ أمْ لم يكُنْ؟ لكانَ ينبغي أَنْ
يستقيمَ ذلك1.
105 - واعلمْ أَنَّ هذا الذي ذكرتُ لك في "الهمزة وهي
للاستفهام" قائمٌ فيها إِذا هيَ كانت للتقرير. فإِذا قلتَ:
"أَأَنْتَ فعلتَ ذاك؟ "، كان غرضك أن تقرره بأنه الفاعل.
الاستفهام للتقرير:
يُبَيِّنُ ذلكَ قولُه تعالى، حكايةً عن قَوْل نمروذ2:
{أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيم}
[الأنبياء: 62] لا شبْهةَ في أنَّهم لم يقولوا ذلك له عليه
السلامُ وهم يُريدون أنْ يُقِرَّ لهم بأَنَّ كَسْرَ الأصنام قد
كانَ، ولكنْ أن يقر بأنه منه كان، وكيف؟ 3 وقد أشاروا له إِلى
الفِعل في قولهم: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا}، وقال هو عليه
السلام في الجواب4: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}
[الأنبياء: 63]، ولو كان التقريرُ بالفعلِ لَكانَ الجوابُ:
"فَعلْتُ، أوْ: لم أَفْعَل".
فإِن قلتَ: أوَ ليسَ إِذا قال "أَفَعَلْتَ؟ " فهو يريدُ أيضاً
أن يُقرِّره بأَنَّ الفعلَ كان منه5، لا بأنه كان على الجملة،
فأيُّ فَرْقٍ بينَ الحالَيْنِ؟
__________
1 أسقط كاتب "س" فكتب: "أن يكون السؤال عن الفاعل أكان أم لم
يكن".
2 "حكاية عن قول نمرود"، ليس في "س".
3 "كيف"، ليس في المطبوعة، ولا في "ج"، وهي من "س"، وأسقط "ج":
"كان" التي قبلها.
4 في "س": قال عليه السلام، بل فعله".
5 في "ج": "أن يقرره بالفعل".
(1/113)
فإِنَّه إِذا قال1: "أَفَعَلْتَ؟ " فهو
يقرره بالفعلِ مِنْ غيرِ أن يُردِّدَه بينَه وبينَ غيرهِ2،
وكان كلامُه كلامَ مَنْ يُوهِمُ أنه لا يَدْري أنَّ ذلك الفعلَ
كان على الحقيقةِ وإِذا قال: "أأنت فعلتَ؟ "، كان قد ردَّدَ
الفعلَ بينهُ وبين غيره، ولم يكُنْ منهُ في نفيِ الفعلِ
تردُّدٌ3، ولم يكنْ كلامُه كلامَ مَنْ يُوهم أنه لا يَدْري
أَكانَ الفعلُ أمْ لم يَكُنْ، بدلالةِ أَنك تقولُ لك والفعلُ
ظاهرٌ موجودٌ مشارٌ إِليهِ، كما رأيْتَ في الآية.
106 - واعلمْ أنَّ "الهمزةَ" فيما ذكرنا تَقريرٌ بفعلٍ قد كان،
وإنكارٌ له لِمَ كان، وتوبيخٌ لفاعِلِه عليه.
ولها مذهبٌ آخَرُ، وهو أن يكون الإنكار أَنْ يكونَ الفعلُ قد
كانَ مِنْ أَصْله. ومثالُه قولُه تعالى {أَفَأَصْفَاكُمْ
رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ
إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء:
40]، وقولُه: عزَّ وجلَّ: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى
الْبَنِين، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات: 153،
154]، فهذا رَدٌّ على المشركينَ وتكذيبٌ لهم في قولِهم ما
يُؤَدِّي إِلى هذا الجهلِ العظيم، وإذا قدم الاسم فيهذا صارَ
الإنكارُ في الفاعل. ومثالُه قولُكَ للرجل قد انْتَحلَ شِعراً:
"أأَنْتَ قلتَ هذا الشعرَ؟ كذبتَ، لسْتَ ممنْ يُحْسِن مِثلَه"،
أَنْكَرْتَ أنْ يكون القائل ولم تنكر الشعر.
__________
1 "فإنه"، جواب قوله: "فإن قلت".
2 في "ج" فوق: "يردده" ما نصه: "أي الفعل"، يعني أن الضمير
يعود إلى، "الفعل" لا إلى المسئول.
3 في "ج" أسقط جملة: "ولم يكن ..... تردد".
(1/114)
وقد يكون أن يُرادُ إنكارُ الفعلِ من
أَصْله1، ثم يُخرَجُ اللفظُ مخرجَه إِذا كان الإِنكار في
الفاعل. مثالُ ذلك قولُه تعالى: {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ}
[يونس: 59]، "الإذْنُ" راجعٌ إِلى قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ
حَرَامًا وَحَلالًا} [يونس: 59]، ومعلومٌ أَنَّ المعنى على
إِنكارِ أنْ يكونَ قد كانَ منَ الله تعالى إذْنٌ فيما قالوه،
من غيرِ أن يكونَ هذا الإذْنُ قد كانَ من غيرِ الله، فأضافوه
إِلى الله، إلاَّ أَنَّ اللفظَ أُخرجَ مخرَجَهُ إِذا كانَ
الأمرُ كذلك، لأنْ يُجعَلوا في صورةٍ مَنْ غَلِطَ فأضافَ إِلى
الله تعالى إذْناً كان من غير الله، فإذا حقق عليها ارتدع.
ومثال ذاك قولُكَ للرجلِ يَدَّعي أنَّ قولاً كان ممَّن تَعْلَم
أنه لا يقولُه: "أهوَ قالَ ذاك بالحقيقةِ أم أنتَ تَغْلَطُ؟ "،
تضَعُ الكلامَ وضْعهَ إِذا كنتَ علمتَ أنَّ ذلك القولَ قد كان
مِنْ قائلٍ، لينصرِفَ الإنكارُ إِلى الفاعل، فيكونَ أَشَدَّ
لنفيِ ذلك وإِبطالِه.
ونظيرُ هذا قولُه تعالى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ
الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ
الْأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 143]، أُخرجَ اللفظُ مَخْرجَه إِذا
كان قد ثبتَ تحريمٌ في أحدِ أشياءَ، ثم أُريدَ معرفةُ عينِ
المحرَّم، معَ أنَّ المُرادَ إنكارُ التَّحريم مِنْ أصلهِ،
ونَفْيُ أنْ يكونَ قد حُرم شيءٌ مما ذكروا أنه محرَّم. وذلك
أنْ الكلامُ وُضعَ على أن يُجعلَ التحريمُ كأنه قد كانَ2، ثم
يُقال لهم: "أَخْبِرونا عن هذا التَّحريم الذي زعمتُمْ، فيمَ
هو؟ أفي هذا أم ذاك أم في الثالث؟ " ليتبيَّنَ بُطْلانُ
قولِهمْ، ويَظْهَرَ مكانُ الفِرْية مِنهم على الله تعالى.
__________
1 في المطبوعة وحدها: "إذ يراد"، فاضطربت الجملة.
2 في المطبوعة: "وذلك أن كلام الكلام"، وفي "س": "وذلك لأن
الكلام".
(1/115)
ومثلُ ذلك قولُكَ للرجلِ يدَّعي أمراً
وأنتَ تُنْكِره1: "متى كان هذا؟ أفي ليلٍ أم نهار؟ " وتضع
الكلامَ وضْعَ مَنْ سَلَّم أنَّ ذلك قد كانَ، ثم تُطالبه
ببيانِ وقتهِ، لكي يَتَبيَّنَ كذبَهُ إِذا لم يَقْدر أن
يَذكُرَ له وقتاً ويُفتضَح. ومثلُهُ قولُكَ: "مَنْ أَمرَكَ
بهذا مِنَّا؟ وأَيُّنا أَذِنَ لكَ فيه؟ "، وأنتَ لا تَعني أنَّ
أَمْراً قد كانَ بذلك مِنْ واحدٍ منكمِ، إِلاّ أنَّكَ تَضَعُ
الكلامَ هذا الوضْعَ لكي تُضيِّقَ عليه، ولِيَظْهَر كَذِبُه
حينَ لا يَستطيعُ أنْ يقولُ: "فلانٌ"، وأَنْ يُحيلَ على واحد2.
تقديم الفعل وتقديم الاسم والفعل مضارع في الاستفهام:
107 - وإِذ قد بينَّا الفَرْقَ بينَ تَقديمِ الفعلِ وتقديم
الاسم، والفعلُ ماضٍ، فينبغي أن تنظر فيه والفعلُ مضارعٌ.
والقولُ في ذلك أَنك إِذا قلت: "أَتفَعلُ؟ " و "أَأَنْتَ
تَفعل؟ " لم يَخْلُ من أن تُريدَ الحالَ أوِ الاستقبالَ. فإِنْ
أردتَ الحالَ كان المعنى شَبيهاً بما مَضى في الماضي، فإِذا
قلتَ: "أتفعلُ؟ " كان المعنى على أنكَ أردتَ أن تُقرِّره بفعلٍ
هو يفعلُه، وكنتَ كمَن يُوهِمِ أنه لا يَعلمُ بالحقيقةِ أنَّ
الفعلَ كائنٌ وإِذا قلتَ: "أأَنتَ تَفْعل؟ "، كان المعنى على
أنك تريدُ أن تُقرِّره بأنه الفاعلُ، وكانَ أمْرُ الفعلِ في
وجودِه ظاهراً، وبحيثُ لا يُحتاج إِلى الإِقرارِ بأنه كائن
وإِن أردتَ بـ "تَفْعلُ" المستقبلَ، كان المعنى إِذا بدأْتَ
بالفعلِ على أنك تَعْمد بالإِنكارِ إِلى الفعل نفسه، وتَزعم
أنه لا يكونُ، أو أنَّه لا ينبغي أن يكون، فمثال الأول:
__________
1 في "ج": "قول الرجل"، سهو منه.
2 في "س": "على أحد".
(1/116)
أَيقتُلُني والمَشْرَفيُّ مُضَاجِعي ...
وَمَسْنونةٌ زُرْقٌ كأَنيابِ أغوالِ؟ 1
فهذا تكذيبٌ منه لإنسانٍ تهَدَّدَهُ بالقتل2، وإنكارٌ أن
يَقْدر على ذلك ويَستطيعَه. ومثْلُه أن يَطمعَ طامعٌ في أمرٍ
لا يكونُ مثْلَهُ، فتُجهِّلَه في طمعهِ فتقولَ: "أيرضِى عنكَ
فلانٌ وأنتَ مقيمٌ على ما يَكرهُ؟ أتَجِدُ عندَه ما تُحبُّ وقد
فَعلتَ وصنَعْت؟ "، وعلى ذلك قولُه تعالى: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا
وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28].
ومثال الثاني، قولك لرجل يركَب الخطرَ: "أتَخرجُ في هذا
الوقتِ؟ أتذْهَبُ في غير الطريق؟ أتغرر بنفسك" وقولك لرجل
يُضيعُ الحقَّ: "أَتنسى قديمَ إحسانِ فلانٍ؟ أتترْكُ صُحبتَه
وتَتغيرُ عن حالك معَهُ لأنْ تغيَّر الزمان؟ " كما قال:
أأتركُ أنْ قلَّتْ دراهمُ خالدٍ ... زيارتَه إِنّي إذا للئيم3
تفسير تقديم الفعل المضارع:
108 - وجملةُ الأمر أَنك تَنْحو بالإِنكارِ نَحْوَ الفعلِ،
فإنْ بدأتَ بالاسمِ فقلتَ: "أأنتَ تَفعلِ؟ " أو قلتَ" "أهوَ
يفعلُ؟ "، كنتَ وجَّهْتَ الإنكارَ إِلى نفسِ المذكورِ، وأبيْتَ
أن تكونَ بموضعِ أَنْ يجيءَ منه الفعلُ وممن يجيءُ منه، وأن
يكونَ بتلك المثابة.
__________
1 شعر امرئ القيس، في ديوانه.
2 في "س": "يهدده".
3 كامل المبرد1: 183، وفي مجموع شعر عمارة بن عقيل: 75، بقوله
في خالد بن يزيد ابن مزيد الشيباني.
(1/117)
تفسير ذلك، أنك إذا قلت: "أأنت تمنعي؟ "،
"أأنتَ تأخذُ على يدي؟ "، صرتَ كأنك قلتَ: إنَّ غيرَك الذي
يستطيعُ منْعي والأخْذَ على يدي، ولستَ بذاك، ولقد وضعتَ نفسَك
في غيرِ موضعِك هذا، إِذا جعلْتَه لا يكونُ منه الفعلُ
للعَجْز، ولأنه ليس في وُسْعه.
وقد يكونُ أن تجعلَه لا يجيءُ منه، لأنه لا يَختارُه ولا
يَرْتضيه، وأنَّ نفْسَه نفسٌ تَأْبى مثلَه وتَكْرَهُه.
ومثالُهُ أن تَقول: "أَهو يسأَل فلاناً؟ هو أَرفعُ همَّةً من
ذلك"، "أَهو يمَنعُ الناسَ حقوقَهم؟ هو أكرمُ من ذاك".
وقد يكونُ أن تَجعله لا يَفْعله لصِغَر قدْره وقِصَر همَّته،
وأَنَّ نفْسَه نَفسٌ لا تَسمو. وذلك قولُك: "أهوَ يَسْمح بمثلِ
هذا؟ أهوَ يرتاحُ للجميل؟ هو أقصرهمة من ذلك1، وأَقلُّ رغبةً
في الخيرِ مما تظن".
__________
1 "من ذلك"، ساقطة من "س".
(1/118)
مواضع التقديم
والتأخير: الاستفهام
تفسير تقديم الاسم والفعل مضارع:
109 - وجملةُ الأَمرِ أنَ تقديَم الاسمِ يَقْتضي أنَّك عَمَدتَ
بالإِنكارِ إِلى ذاتِ مَنْ قيلَ "إِنَّه يَفْعل" أو قالَ هو
"إني أفعلُ"، وأردتَ ما تُريدُه إِذا قلتَ: "ليسَ هوَ بالذي
يفعلُ، وليس مثلُه يَفعل" ولا يكونُ هذا المعنى إِذا بدأتَ
بالفعل فقلتَ: "أَتفعل؟ ". أَلا ترى أن من المُحالَ أنْ تَزعم
أنَّ المعنى في قولِ الرجلِ لصاحبهِ: "أتَخْرجُ في هذا الوقتِ؟
أتغرِّرُ بنفسكَ؟ أتمضي في غيرِ الطريق؟ "، أنَّه أَنكَرَ أنْ
يكونَ بمثابةِ مَن يفعلُ ذلك، وبموْضعِ من يجيء منه ذاكَ؛
لأنَّ العِلمَ مُحيطٌ بأنَّ الناسَ لا يُريدونه، وأنَّه لا
يَليقُ بالحالِ التي يُستعملُ فيها هذا الكلامُ. وكذلك مُحالٌ
أن يكونَ المعنى في قولِهِ جلَّ وعلاَ: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا
وَأَنْتُمْ لَهَا
(1/118)
كَارِهُونَ} [هود: 28]، أنَّا لسْنا
بمثابةِ مَنْ يجيءُ منه هذا الإلزامُ، وأَنَّ غيرَنا مَنْ
يَفعله، جلَّ الله تعالى.
وقد يَتوهَّمُ المتوهمُ في الشيءِ مِن ذلك أنه يحتملُ، فإِذا
نَظَر لم يَحْتمل، فمِنْ ذلك قولُه:
أيقتلُني والمشرفيُّ مُضاجِعي1
وقد يَظنُّ الظانُّ أنه يَجوز أن يكونَ في معنى أنه ليس بالذي
يَجيء منه أن يَقْتلَ مثْلي، ويَتعلَّق بأنه قالَ قَبْلُ:
يَغِطُّ غَطيطَ البَكر شُدَّ خِنَاقُهُ ... لِيَقْتُلَنِي
والمرءُ ليسَ بقتَّالِ
ولكنهُ إِذا نظَر عَلِمَ أنَّه لا يَجوز، وذاكَ لأنه قالَ:
"والمشرفيُّ مضاجِعي" فذكَرَ ما يكونُ مَنْعاً منَ الفعل،
ومحالٌ أن يقولَ: "هو ممَّنْ لا يَجيءُ منه الفعلُ"، ثم يقولُ:
"إِني أَمنعُهُ"، لأنَّ المَنْعَ يُتَصَوَّر فيمن يَجيءُ منه
الفعلُ، ومَع مَنْ يَصِحُّ منه، لا مَنْ هو منه مُحالٌ، ومَن
هو نفسه عنه عاجز، فاعرفه.
تفسير الاستفهام الدال على الإنكار:
110 - واعلمْ أَنَّا وإِنّ كنَّا نُفَسِّر "الاستفهامَ" في
مثلِ هذا بالإِنكار فإنَّ الذي هو مَحْضُ المعنى: أَنه
لِيَتَنَبَّه السامعُ حتى يَرجعَ إِلى نفسِه فيخجلَ ويرتدعَ
ويعيي بالجواب2، إمَّا لأنه قدِ ادَّعَى القدرةَ عَلَى فِعْلٍ
لا يَقدرُ عليه، فإِذا ثبتَ على دَعْواه قيل له: "فافْعَلْ"،
فيَفْضحُه ذلك3 وإمَّا لأنه هم
__________
1 انظر البيت في رقم: 107.
2 في "س": "لقيته السامع"، وأسقط "ليرتدع".
3 في "ج": "ففضحه".
(1/119)
بأنْ يفعلَ ما لا يَسْتصوِبُ فِعْلَه،
فإِذا رُوجع فيه تنبَّه وعرَفَ الخطأَ وإِمّا لأَنه جوَّزَ
وجودَ أمرٍ لا يُوجَدُ مثلُه، فإِذا ثبت على تجويزه قبح على
نفسه1، وقيلَ له: "فأَرِناهُ في موضعٍ وفي حالٍ، وأقِمْ شاهداً
على أنَّه كان في وقْت".
ولو كانَ يكونُ للإِنكار، وكان المعنى فيه مِنْ بَدْء الأمر2،
لكان يَنْبغي أَنْ لا يَجيءَ فيما لا يَقولُ عاقلٌ إنه يكونُ،
حتى يُنْكَرَ عليه، كَقَولهم: "أَتصعدُ إِلى السماء؟ "،
"أتستطيعُ أن تَنْقلَ الجبالَ؟ "، "أَإِلى رَدِّ ما مضَى
سبيلٌ؟ ".
111 - وإذْ قد عرفْتَ ذلك، فإِنَّه لا يُقرِّر بالمُحال، وبما
لا يقولُ أَحدٌ إِنه يكونُ، إلاَّ على سبيلِ التمثيلِ، وعلى
أنْ يُقالَ له: "إنَّكَ في دَعْواك ما ادَّعَيْتَ بمنزلةِ مَنْ
يَدَّعي هذا المُحال، وإنكَ في طَمَعك في الذي طمعْتَ فيه
بمنزلةِ مَنْ يَطْمعُ في الممتنع".
112 - وإِذ قد عَرَفْتَ هذا، فَمِمَّا هو مِنْ هذا الضربِ
قولُه تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي
الْعُمْيَ} [الزخرف: 40]، ليس سماع الصُّم مما يدَّعيه أَحدٌ
فيكون ذلك للإِنكار3، وإِنَّما المعنى فيه التمثيلُ
والتَّشبيهُ، وأَنْ يُنْزَّل الذي يُظَنُّ بهم أنهم يَسْمعون،
أو أنه يستطيعُ إسماعِهم، مَنْزلةَ مَنْ يَرى أنه يُسْمِعُ
الصمَّ ويَهدي العُمْيَ ثمَّ المعنى في تَقديم الاسمِ وأَنْ لم
يُقَلْ: "أَتُسمع الصمَّ"، هو أن يُقال للنبيِّ صلى الله عليه
وسلم: "أأنت خصوصًا قد أوتيت
__________
1 في المطبوعة: "وبخ على تعنته"، وأثبت ما في المخطوطتين.
2 في هامش "ج" ما نصه: أي: وكان الإنكار المعنى، بمعنى أنه في
"كان"، ضمير الإنكار".
3 في "س": "ليس إسماعهم مما يدعيه".
(1/120)
أنْ تُسمِعَ الصمَّ؟ " وأن يُجْعَل في
ظَنَّه أنَّه يستطيعُ إِسماعَهم، بمثابةِ مَنْ يَظُنُّ أنَّه
قد أُوتيَ قدرةً على إِسماعِ الصُّمَّ.
ومن لطيف ذلك قول ابن أبي عيينة1:
فدَع الوعيدَ فَما وعيدُكَ ضائري ... أَطنِينُ أجنحةِ
الذُّبَابِ يَضيرُ2؟
جعلَه كَأنه قد ظَنَّ أنَّ طنينَ أجنحةِ الذبابِ بمثابةِ ما
يَضيرُ، حتى ظن أن وعيده يضير.
تفسير تقديم المفعول على المضارع، وهو فعل لم يكن:
113 - واعلمْ أنَّ حالَ المفعولِ فيما ذكرنا كحالِ الفاعلِ،
أعني تقديمَ إسمِ المفعول يَقتضي أنْ يكونَ الإنكارُ في طريق
الإِحالة والمنعِ مِنْ أن يكونَ3، بمثابةِ أَنَّ يُوقَع به
مثلُ ذلك الفعلُ، فإِذا قلْتَ: "أزيداً تضربُ؟ "، كنتَ قد
أَنكرْتَ أن يكونَ "زيدٌ" بمثابة أن يُضرَبَ، أَو بموضعٍ أن
يُجْترأَ عليه ويُسْتَجازَ ذلك فيه، ومِن أَجْل ذلك قُدِّمَ
"غير" في قولهِ تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ
وَلِيًّا} [الأنعام: 14] وقولهِ عزَّ وَجَلَ: {قُلْ
أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ
أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} [الأنعام:
40]، وكان له من الحُسْن والمزيَّة والفخامة، ما تَعلمُ أنه لا
يكونُ لو أُخِّرَ فقيلَ: "قلْ أأتخذ غير الله وليًا".
__________
1 في "س": "ابن عيينة": وهو خطأ، هو: "عبد اللهبن محمد بن أبي
عيينة".
2 من شعره، في كامل المبرد 1: 248. يقوله لعلي بن محمد بن جعفر
بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان دعاه إلى
نصرته حين ظهرت المبيضة، فلم يجبه، فتوعده علي بن محمد، فقال
له هذا الشعر:
أعلى إنك جاهل مغرور ... لا ظلمة لك ولا لك نور
3 في المطبوعة: "أعني تقدم الاسم المفعول".
(1/121)
و "أتدعون غيرَ الله؟ "1 وذلك لأنه قد حصَل
بالتقديم معنى قولك: "أيكون غير الله بمثابة أن يتخذ ولياً؟
وأَيرْضى عاقلٌ مِنْ نفسهِ أنْ يفعلَ ذلك؟ وأيكونُ جهلٌ أجهلَ
وعمّى أعمى من ذلك؟ "، ولا يكونُ شيءٌ مِن ذلك إِذا قيلَ:
"أأتَّخِذُ غيرَ الله ولياً". وذلك لأنَّه حينئذٍ يَتَناولُ
الفعلَ أن يكونَ فقط، ولا يَزيد على ذلك، فاعرفْه.
114 - وكذلك الحكْمُ في قولِهِ تَعالى: {فَقَالُوا أَبَشَرًا
مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} [القمر: 24] 2، وذلك لأنهم
كُفْرَهم على أَنَّ مَنْ كان مثْلَهم بَشَراً، لم يكُن بمثابةِ
أنْ يُتَّبع ويُطاع، ويُنْتَهَى إِلى ما يَأْمر، ويُصدَّقَ
أَنه مبعوثٌ منَ الله تعالى، وأنهم مأمورون بطاعتهِ، كما جاء
في الأُخرى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا
تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا} [إبراهيم: 10]، وكقوله عزَّ
وجلَّ {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ
يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ
مَلائِكَةً} [المؤنون: 24].
فهذا هو القولُ في الضَّربِ الأَول، وهو أن يكونَ "يَفْعلُ"
بَعد الهمزة لِفعلٍ لم يكن.
معنى التقديم والفعل موجود:
115 - وأما الضربُ الثاني، وهو أن يكونَ "يَفْعَل" لفعلٍ
موجودٍ، فإنَّ تقديمَ الاسم يَقتضي شَبَهاً بما اقتضاهُ في
"الماضي"3، منَ الأخذ بأن يُقرَّ أنه الفاعلُ، أو الإِنكارُ
أنَ يكونَ الفاعل.
__________
1 في هامش "ج" هنا حاشية لم أستطع أن أقرأها.
2 في المطبوعة و "ج": {قالوا أبشرًا}، وفي "س": "وقالوا"،
والتلاوة ما أثبت.
3 في المطبوعة: "شبهًا"، وكذلك في نسخة عند "س".
(1/122)
فمثالُ الأوَّلِ قولُك للرجل يَبْغي
ويَظْلِمُ: "أَأنت تجيءُ إلى الضَّعيف فتغضبُ مالَه؟ "، "أأنتَ
تَزْعُم أنَّ الأمرَ كَيْتَ وكَيتَ؟ " وعلى ذلك قولُه تعالى:
{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين}
[يونس: 99].
ومثال الثاني: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف:
32].
(1/123)
مواضع التقديم
والتأخير: النفي
فصل- التقديم والتأخير في النفي:
116 - وإذا قد عرَفْتَ هذه المسائلَ في "الاستفهام"، فهذهِ
مسائلِ في "النَّفي".
إذا قلْتَ: "ما فعلتُ"، كنْتَ نَفَيْتَ عنك فِعْلاً لم يَثْبتْ
أَنه مفعولٌ وإِذا قلتَ: "ما أنا فعلْتُ"، كنتَ نفيت عنك فعلا
يثبت أَنه مفْعُولٌ1.
تفسيرُ ذلك: أَنك إذا قلتَ: "ما قلتُ هذا"، كنتَ نَفيتَ أن
تكونَ قد قلْتَ ذاك، وكنتَ نُوظرْتَ في شيءٍ لم يَثْبُتْ أنه
مَقُولٌ؟
وإِذا قلتَ: "ما أنا قلتُ هذا"، كنتَ نفَيْتَ أن تكون القائلَ
له، وكانتِ المناظرةُ في شيءٍ ثَبَتَ أنه مقُولٌ. وكذلك إذا
قلتَ: "ما ضربتُ زيداً"، كنتَ نفيتَ عنكَ ضَرْبَه، ولم يَجِبْ
أن يكونَ قد ضُرِبَ، بل يَجوزُ أن يكون ضَرَبَه غَيرُك، وأنْ
لا يكونَ قد ضُرِبَ أصْلاً. وإِذا قلتَ: "ما أنا ضربْتُ
زيداً"، لم تَقلْه إلاَّ وزَيدٌ مضروبٌ، وكان القصْدُ أن
تَنْفي أنْ تكونَ أنتَ الضاربَ.
ومن أَجْل ذلك صَلُحَ في الوجهِ الأولِ أن يكونَ المَنْفيُّ
عامّاً كقولك: "ما قلتُ شعراً قط"، و "ما أكلت اليوم شيئًا" و
"ما أنا قلت شعرًا قط", "ما أنا أكلت اليوم شيئًا" و "ما أنا
رأيت أحدًا من الناس"، وذلك أنه يقتضي المحال، وهو أن يكون
ههنا إنسانٌ قد قالَ كلَّ شعرٍ في الدُّنيا، وأكلَ كلَّ شيءٍ
يؤكلُ، ورأى كلَّ أحدٍ من الناس، فنفيت أن تكونه.
__________
1 في المطبوعة: "ثبت أنه"، وفي "س": "نثبت" مشكولة.
(1/124)
117 - ومما هو مثالٌ بيِّن في أنَّ تقديمَ
الاسم يقتضي وجود الفعل قوله:
ومَا أنا أَسقَمْتُ جِسْمي بهِ ... وَلا أنا أَضرمتُ في القلبِ
ناراً1
المَعنى، كما لا يَخفي، على أن السُّقمَ ثابتٌ موجودٌ، وليس
القصدُ بالنفي إليه، ولكنْ إلى أن يكونَ هو الجالبَ له، ويكونَ
قد جرَّه إلى نفسه.
ومثله في الوضوح قوله:
وما أنا وَحدي قلتُ ذا الشعرَ كلَّهُ2
"الشعرُ" مَقولٌ على القَطْع، والنفَّي لأنْ يكونَ هو وحده
القائل له.
118 - وههنا أَمران يَرتفعُ معهُما الشكُّ في وجوبِ هذا
الفَرْق، ويَصيرُ العِلمُ به كالضَّرورة.
أحَدُهما: أنه يَصِحُّ لكَ أن تقولَ: "ما قلتُ هذا، ولا قاله
أحد من الناس"، و "ما ضربتُ زيداً، ولا ضَرَبَه أحدٌ سوِاي"،
ولا يصحُّ ذلك في الوجهِ الآخر. فلو قلتَ: "نما أنا قلتُ هذا،
ولا قالَه أحدٌ من الناس" و "ما أنا ضَربتُ زيداً، ولا ضرَبَهُ
أَحدٌ سواي"، كان خلفًا من القول3، وكان من التَّناقضِ بمنزلةِ
أن تقولَ: "لستُ الضاربَ زيداً أمس"، فتثبت أنه قد ضرب،
__________
1 هو شعر المتنبي في ديوانه.
2 هو من شعر المتنبي، في ديوانه، وتتمة البيت:
ولكن لشعري فيك من نفسه شعر
3 "الخلف"، بفتح الخاء وسكون اللام، الردئ من القول، يقال في
المثل: "سكت ألفًا، وتطلق خلفًا".
(1/125)
ثم يقول مِنْ بَعدهِ: "وما ضَرَبَه أحدٌ
مِن الناس"، و "لست القائلَ ذلك"، فتُثبِتَ أنه قد قيلَ، ثم
تجيء فتقول و "ما قالَه أَحدٌ من الناس".
والثاني منَ الأمرين أَنك تقولُ: "ما ضربتُ إلاَّ زيداً"،
فيكونُ كلاماً مسْتقيماً، ولو قلتَ: "ما أنا ضربتُ إلا زيدًا"،
كان لغو من القول، وذلك لأن نقض النفي بـ "إلا" يَقْتضي أن
تكونَ ضربْتَ زيداً وتقديمُكَ ضميرَك وإيِلاؤه حَرْفَ النفْي،
يقتضي نَفْي أن تكونَ ضربته، فهما يتدافعان1.فاعرفه.
تقديم المفعول وتأخيره في النفي:
119 - ويجيءُ لك هذا الفرقُ على وَجْهه في تقديمِ المفعولِ
وتأخيرِه.
فإِذا قلتَ: "ما ضربتُ زيداً"، فقدَّمْتَ الفعلَ، كان المعنى
أَنك قد نَفيْتَ أن يكونَ قد وقَع ضَرْبٌ منك على زيدٍ، ولم
تَعرِضْ في أَمرٍ غَيرهِ لنفيٍ ولا إثباتٍ، وتركْتَه مُبْهَماً
محتمَلاً.
وإذِا قلتَ: "ما زيداً ضربتُ"، فقدَّمْتَ المفعولَ، كان المعنى
على أنَّ ضرْباً وقعَ منكَ على إنسانٍ، وظُنَّ أنَّ ذلك
الإنسانَ زيدٌ، فنفيتَ أَن يكون إيَّاه.
فلكَ أن تقولَ في الوجهِ الأول: "ما ضربتُ زيداً ولا أحداً من
الناس"، وليس لك [ذلك] في الوجه الثاني2. فلو قلتَ: "ما زيداً
ضربتُ ولا أحداً من الناس"، كان فاسداً على ما مضى في الفاعل.
__________
1 "يتدافعان"، أي يدفع أحدهما الآخر ويبعده، وينفيه.
2 "ذلك"، زيادة من "س".
(1/126)
120 - ومما ينبغي أن تَعلمه1، أنه يَصحُّ
لك أن تقولَ: "ما ضربتُ زيداً، ولكني أكْرمتُه"، فُتعْقِبَ
الفعلَ المنفيَّ بإثباتِ فعلٍ هو ضدُّه ولا يصحُّ أن تقولَ:
"ما زيداً ضربتُ، ولكني أكرمتُه"2 وذاك أنكَ لم تُرِد أن
تقولَ: لم يكن الفعلُ هذا ولكنْ ذاك، ولكنَّك أردتَ أنه لم يكن
المفعولُ هذا، ولكنْ ذاك. فالواجب إذن أن تقولَ: "ما زيداً
ضربتُ ولكنْ عمراً".
وحكْمُ الجارِّ مع المجرور في جميع ما ذَكرنا حكْم المنصوبِ،
فإِذا قلتَ: "ما أمَرْتُك بهذا"، كان المعنى على نفْيِ أن
تكونَ قد أمرتَه بذلك، ولم يَجبْ أن تكونَ قد أمرتَه بشيءٍ
آخرَ وإِذا قلتَ: "ما بهذا أمرْتُك"، كنتَ قد أمرتَه بشيءٍ
غيرِه.
__________
1 في "ج": "أن تعلمه إياه"، "إياه" زيادة مفسدة للكلام.
2 سقط من "س" هذه الجملة: "فتعقب الفعل .... ولكني أكرمته".
(1/127)
مواضع التقديم
والتأخير: الخبر
فصل 1: التقديم والتأخير في الخبر المثبت وهو قسمان:
121 - واعلم أن الذي بان لك في "الاستفهام" و "النفي" منَ
المعنى في التقديمِ، قائمٌ مثْلُه في "الخَبَر المُثْبَت".
فإِذا عمدْتَ إلى الذي أردتَ أن تحدث عنه فعل فقدَّمْتَ
ذِكرَه، ثُمَّ بنيتَ الفعلَ عليه فقلتَ: "زيد قد فعل" و "أنا
فعلت"، و "أنت فعلْتَ"، اقتضى ذلك أن يكونَ القصدُ إلى
الفاعلِ، إلاَّ أنَّ المعنى في هذا القصدِ ينقسم قسمين:
القسم الجلي:
أَحدُهما جليٌّ لا يُشْكِلُ: وهو أن يكون الفعلُ فِعْلاً قد
أردتَ أن تَنُصَّ فيه على واحدٍ فتجعلَه له، وتزعمُ أنه فاعلُه
دونَ واحدٍ آخرَ، أو دونَ كلِّ أحدٍ.
ومثالُ ذلك أن تقولَ "أنا كتبتُ في معنى فلانٍ وأنا شفعتُ في
بابه"2، تُريد أن تَدَّعِيَ الانفرادَ بذلك والاستبدادَ به،
وتُزيلَ الاشتباهَ فيه، وتردَّ على من زَعم أنَّ ذلك كان مِنْ
غيرِك، أو أَنَّ غيرَكَ قد كتَب فيه كما كتبتَ. ومن البيِّن في
ذلك قولُهم في المثَل "أَتُعْلِمُنِي بِضَبٍّ أنا حرشته"3.
القسم الثاني وتفسيره:
والقسمُ الثاني: أن لا يكونَ القصْدُ إلى الفاعلِ على هذا
المعنى، ولكنْ على أنك أردتَ أن تُحقِّق على السامع أَنه قد
فعل، وتمنعه من الشك، فأنت
__________
1 "فصل"، في "ج" و "س"، وليس في المطبوعة.
2 معنى "معنى فلان"، "باب فلان"، أي: في شأنه وأمره.
3 المثل مشهور، في الميداني 1: 109، وجمهرة الأمثال 1: 76، و
"حرش الضباب"، صديها، بأن يحرك يده عند جحر الضب حتى يظنه الضب
حية فيخرج ذنبه ليضربها فيأخذه الحارش. وقوله: "أتعلمن"، أي
أتخبرني.
(1/128)
لذلك تبدأ بذِكْره، وتَوَقُّعِه أوّلاً
ومِنْ قَبْلِ أن تَذكر الفعلَ في نفسه1، لكي تُباعِدَه بذلك من
الشُّبْهة، وتَمْنعَه من الإِنكار، أَوْ مِنْ أن يُظَنَّ بك
الغَلطُ أو التزيُّدُ. ومثالُه قولُك: "هو يعطي الجزيل"، و "هو
يُحبُّ الثناءَ"، لا تُريد أن تَزعم أنه ليس هنا مَنْ يُعطي
الجزيلَ ويُحِبُّ الثناءَ غيرَهُ، ولا أن تُعرِّض بإنسانٍ
وتحطَّه عنه، وتجعلَه لا يُعطي كما يُعْطي، ولا يَرْغَبُ كما
يَرغب2، ولكنكَ تريدُ أن تُحقِّق على السامعِ أنَّ إعطاءَ
الجزيل وحُبَّ الثناءِ دأْبُهُ، وأن تُمكِّن ذلك في نفسه.
121 - ومثاله في الشعر:
همُ يفْرِشُونَ اللِّبدَ كلَّ طمِرَّةٍ ... وأَجْردَ سَبَّاحٍ
يَبُذُّ المُغَالِبَا3
لم يُرِدْ أنْ يدَّعي لهم هذه الصفةَ دَعْوى مَنْ يُفرِدُهم
بها، ويَنصُّ عليهم فيها، حتى كأنهُ يَعرِّضُ بقومٍ آخرين،
فينْفي أن يكونوا أصحابَها. هذا مُحال. وإِنَّما أرادَ أن
يصِفَهم بأنهم فرسانٌ يَمتهِدون صَهَواتِ الخيلِ، وأنهم
يَقْتعدون الجِيادَ منها4، وأنَّ ذلك دأبُهُم، من غير أن
يَعْرض لِنفْيه عن غَيرهم، إلاَّ أنه بدأَ بذكرِهم لِيُنبِّه
السامعَ لهم، ويُعْلِمَ بَدِيّاً قصْدَه إليهم بما في نفسهِ من
الصفة5،
__________
1 السياق: "وتوقعه أولًا .... في نفسه".
2 يعني: يرغب في الثناء.
3 "اللبد" الصوف أو الشعر المتلبد وقد جرت العادة بوضع قطعة
منه على ظهر الفرس تحت السرج للينه. و "الطمرة" أنثى الطمر وهو
الفرس الجواد أو المتجمع المتداخل الخلق كأنه متهيئ للوئب
دائمًا. و "الأجرد" الفرس القصير الشعر. و "السباح" الذي يشبه
عدوه السباحة. و "يبذ" يغلب "رشيد".
4 عند رشيد رضا في نسخة: "يعتقدون"، أي يملكونها.
5 "بديًا"، أي ابتداء من أول الأمر.
(1/129)
ليمنَعَه بذلك من الشكَّ، ومِنْ توهُّم أن
يكونَ قد وصفَهم بصفةٍ ليستْ هي لهم، أو أن يكونَ قد أرادَ
غيرَهم فغَلِط إليه.
123 - وعلى ذلك قول الآخر:
هُمُ يَضْرِبونَ الكَبْشَ يَبْرُقُ بَيْضُه، ... عَلى وَجْهِهِ
مِنَ الدِّماءِ سَبَائِبُ1
لم يُرد أن يدَّعيَ لهم الانفرادَ، ويَجْعلَ هذا الضربَ لا
يكونُ إلاَّ منهم، ولكنْ أراد الذي ذكرتُ لك، مِنْ تَنبيهِ
السَّامع لِقَصْدهم بالحديثِ من قَبْل ذِكْر الحديثِ، ليُحقِّق
الأَمرَ ويؤكِّدَه.
124 - ومن البَيِّنِ فيه قولُ عروةَ بنِ أذينة:
سليمى أزمعت بينا ... فأين نقولها أَينا2
وذلك أنه ظاهرٌ معلومٌ أَنه لم يُرد أن يجعلَ هذا الإزْماعَ
لها خاصة، ويجعلَها من جماعةٍ لم يُزْمِع البينَ منهُم أحدٌ
سِواها. هذا محالٌ، ولكنه أرادَ أنْ
__________
1 الشعر للأخنس بن شهاب التغلبي، الجاهل القديم، من قصيدته في
المفضليات رقم: 41، "الكبش"، قائد القوم. و "سبائب" جمع
"سببية"، يعني على وجهه طرائق من الدم. وفي "ج": "هم يترقون
الكبش"، سهو وخطأ.
2 في ديوان شعره: 397 - 400، وفي هامش المخطوطة، ما نصه:
"وبعده:
وقد قالت لأتراب ... لها زهر تلافينا
تعالين، فقد طاب ... لنا العيش تعالينا
وغاب البرم الليـ ... ـلة، والعين فلا عينا
إلى مثل مهاة الرمـ ... ـل تكسو المجلس الزنيا
تمنين مناهن ... فكنا ما تمنينا
(1/130)
يُحقِّق الأمرَ ويؤكدَه. فأَوقَعَ ذِكرَها
في سَمْعِ الذي كلم ابتداء من أَول الأمر.
ليعلَم قَبْل هذا الحديث أنه أرادَها بالحديث، فيكون ذلك أبعدَ
له من الشك.
125 - ومثله في الوضوح قوله:
هُمَا يلْبسان المجْدَ أَحْسَن لِبْسةٍ ... شَحيحانِ ما
اسْطاعا عليهِ كلاهُما1
لا شُبْهة في أنه لم يُرد أن يَقْصُر هذه الصفةَ عليهما، ولكن
نَبَّه لهما قبْلَ الحديثِ عنهما.
126 - وأَبْيَنُ من الجميع قولُه تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}
[الفرقان: 3]، وقوله عز وجل: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا
آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا
بِهِ} [المائدة: 61].
تقديم المحدث عنه يفيد التنبيه والتحقيق:
127 - وهذا الذي قد ذكرتُ من أنَّ تقديمَ ذكرِ المحدِّث عنه
يفيدُ التنبيهَ له، قد ذكَرَه صاحبُ الكتاب في المفعولِ إذا
قُدِّم فرُفِع بالابتداءِ، وبُنيَ الفعلُ الناصبُ كانَ له
عليه2 وعُدِّيَ إِلى ضميرهِ فشُغِلَ به. كقولنا في "ضربت عبد
الله": "عبد الله ضربته"، فقال: و "إنما" قلتُ: "عبدُ اللَّه"،
فنبَّهْتُه له، ثم بَنيتُ عليه الفعل، ورفعته بالابتداء"3.
__________
1 الشعر لعمرة الخثعمية، ترثى ابنها، وقال أبو رياش: هو لدرماء
بنت سيار بن عبعبة الخثعمية، شرح الحماسة للتبريزي 3: 60 - 64.
2 معنى العبارة: وبنى الفعل الذي كان له ناصبًا، عليه.
3 ما بين القوسين نص كلام سيبويه في الكتاب 1: 41، وسيأتي
أيضًا بعد قليل، في آخر رقم: 141.
(1/131)
128 - فإِن قلتَ: فمِن أينَ وجَبَ أن يكونَ
تقديمُ ذِكْر المحدِّثِ عنه بالفعلِ، آكَدَ لإِثباتِ ذلك
الفعلِ له، وأن يكونَ قولُه: "هما يَلبسان المجْدَ"1، أبلغَ فى
جعلِهما يلبسانهِ من أن يقال: "يلبسانِ المجد"؟
فإنِّ2 ذلك من أَجْل أنه لا يُؤتى بالاسم مُعَرَّى منَ العوامل
إلاَّ لحديثٍ قد نُويَ إسنادُه إليه، وإِذا كان كذلك، فإن قلت:
"عبد الله"، فقد أشعرت قبله بذلك أنك قد أردتَ الحديثَ عنه،
فإِذا جئتَ بالحديث فقلت مثلاً: "قامَ" أو قلتَ: "خرجَ"، أو
قلتَ: "قَدِمَ" فقد عُلم ما جئتَ به وقد وطَّأْتَ له وقدَّمتَ
الإِعلام فيه، فدخلَ على القلب دُخولَ المأنوسِ به، وقلبه قبول
المهيأ له المطمئن إليه، ولك لا محالة أشد لثبوته، وأتقى
للشُّبهة، وأَمنعُ للشكَّ، وأدخلُ في التَّحقيق.
129 - وجملةُ الأمر أنه ليس إعلامُك الشيءَ بغتةً غفلًا، مثْلَ
إعلامِك له بعْدَ التنبيهِ عليه والتقدمةِ له، لأنَّ ذلك
يَجْري مَجْرى تكريرِ الإِعلام في التأكيد والإحكام. ومن ههنا
قالوا: إنَّ الشيءَ إذا أُضْمِر ثمَّ فُسِّر، كان ذلك أفخمَ له
مِنْ أن يُذكَر من غير تقدمة إضمار3.
ويدل على صحة ما قالوه أننعلم ضرورةً في قوله تعالى:
{فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ} [الحج: 46] فخامةً
وشرفاً وروعةً، لا نَجد منها شيئاً في قولنا: "فإن
__________
1 انظر الفقرة رقم: 125
2 "فإن ذلك" جواب قوله آنفًا: "فمن أين وجب". وفي نسخة عند
رشيد رضا: "قلت: ذلك من أجل ... ".
3 في المطبوعة وحدها: "تقدم إضمار".
(1/132)
الأبصارَ لا تَعْمى"، وكذلك السبيلُ أبداً
في كلَّ كلامٍ كان فيه ضميرُ قصة. فقولُه تعالى: {إِنَّهُ لاَ
يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117]، يُفيد من القوةً في
نفيِ الفَلاحِ عنِ الكافرين، ما لو قيل: "إنَّ الكافرين لا
يفلحون"، لم يستفد ذلك. ولم يكن ذلك كذلك إلا أنك تُعلمه إياهُ
مِنْ بعدِ تقدمةٍ وتنبيهٍ، أنتَ به في حكْم مَنْ بدأَ وأعادَ
ووطَّد، ثم بنى ولوَّح ثم صرَّح1. ولا يَخفى مكانُ المزيةِ
فيما طريقه هذا الطريق.
تقديم المحدث عنه يقتضي تأكيد الخبر:
130 - ويَشْهد لِما قلنا مِنْ أنَّ تقديمَ المحدَّثِ عنه
يَقْتضي تأكيدَ الخبرِ وتحقيقَه له، أنَّا إذا تأَملْنا
وجَدْنا هذا الضَّرْبَ منَ الكلام يجيءُ فيما سبقَ فيه إنكارٌ
من مُنْكِرٍ، نحوُ أنْ يقولَ الرجلُ: "ليس لي علمٌ بالذي تقول"
فتقولُ له: "أنتَ تَعْلم أنَّ الأمرَ على ما أَقولُ، ولكنك
تَميل إلى خصمي" وكقول الناس: "هو يَعلمُ ذاك وإنْ أَنْكَرَ،
وهو يَعلمُ الكَذِبَ فيما قالَ وإنْ حلفَ عليه" وكقوله تعالى:
{وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
[آل عمران: 75، 78]، فهذا من أَبْيَنِ شيءٍ. وذاكَ أنَّ
الكاذبَ، لا سيَّما في الدِّين، لا يَعْترف بأنه كاذبٌ، وإِذا
لم يعترفْ بأنه كاذبٌ، كان أبْعَدَ مِن ذلك أنْ يعترِفَ
بالعِلْم بأنه كاذبٌ.
أوْ يَجيء فيما اعترضَ فيه شكٌّ، نحوُ أَنْ يقولَ الرجلُ:
"كأنَّك لا تعلمُ ما صَنعَ فلانٌ ولم يُبْلِغْك"، فيقولُ: "أنا
أعلمُ، ولكني أداريه".
__________
1 في المطبوعة وحدها "ثم بين"، ويريد أنه يبنى على الاسم ثم
يأتي بالخبر.
2 عطف على قوله في أول الفقرة: " .... وجدنا هذا الضرب من
الكلام يجيء .... ".
(1/133)
أوْ في تكذيبِ مُدَّعٍ كقولهِ عزَّ وجلَّ:
{وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا
بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} [المائدة: 61]، وذلك
أنَّ قولَهم: "آمنَّا"، دعْوى منهم أَنَّهم لم يَخْرجوا
بالكُفْر كما دَخلوا به، فالمَوضعُ موضعُ تكذيب.
أو1 فيما القياسُ في مِثْله أنْ لا يكونَ، كقولهِ تعالى:
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا
وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان: 3]، وذلك أنَّ عبادتَهم لها
تَقْتضي أنْ لا تكونَ مخلوقة.
وكذلك في كلَّ شيءٍ كان خبَراً على خلافِ العادةِ، وعما
يُسْتَغرب من الأمر نحو أن تقول: "ألا تَعْجَبُ من فلان؟
يَدَّعي العظيمَ، وهو يَعْيى باليسيرِ، ويَزْعمُ انّهُ شُجاعٌ،
وهو يَفْزَع من أدنى شيء".
وجوه تقديم المحدث عنه، ومعانيها:
131 - ومِمّا يَحْسنُ ذلك فيه ويَكْثُر، الوعدُ والضمانُ،
كقولِ الرجل: "أنا أُعطيك، أنا أَكفيك، أنا أَقومُ بهذا
الأمر"، وذلك أنَّ مِن شأنِ مَنْ تَعِدُهُ وتَضْمَنُ له، أن
يَعْترضَه الشكُّ في تمامِ الوعدِ وفي الوفاءِ به، فهو مِنْ
أَحْوج شيءٍ إلى التَّأكيد.
وكذلك يَكْثُر في المدحِ، كقولك: "أنت تُعطي الجزيلَ، أنتَ
تَقْري في المَحْلِ، أنتَ تَجودُ حينَ لا يجود أحد"، وكما قال:
ولأنت تقري ما خلَقْتَ وبَعْـ ... ـضُ القَومِ يَخْلُقُ ثُمَّ
لا يفري2
__________
1 معطوف على أول الفقرة السابقة.
2 هو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه. وهذا البيت ليس في "س".
(1/134)
وكقول الآخر:
نَحْنُ في المَشْتاةِ نَدْعُو الجفَلى1
وذلك أنَّ مِن شأنِ المادِح أنْ يَمْنعَ السَّامعينَ منَ
الشَكَّ فيما يَمدح به، ويباعدَهُم مِن الشُّبهة، وكذلك
المفتخر.
تقديم المحدث عنه بعد واو الحال:
132 - ويَزيدُكَ بَياناً أَنه إذا كان الفعلُ مما لا يُشَكُّ
فيه ولا يُنْكَر بحالٍ، لم يَكَدْ يجيءُ على هذا الوجه، ولكنْ
يُؤتى به غيرَ مبنيٍّ على اسمٍ، فإِذا أَخبرْتَ بالخروج مثلاً
عن رَجلٍ من عادته أَنْ يَخْرج في كلَّ غداةٍ قلتَ: "قد خرجَ"،
ولم تَحتَجْ إلى أن تقولَ: "هو قد خرَجَ"، ذاك لأنه ليسَ بشيءٍ
يَشُكُّ فيه السامعُ2، فتحتاجُ أن تُحقِّقه، وإلى أن تُقدِّم
فيه ذكْرَ المحدَّثِ عنه. وكذلك إذا علمَ السامعُ من حالِ رجلٍ
أنه على نيَّة الركوبِ والمضيِّ إلى موضعٍ، ولم يكن شَكٌّ
وتردُّدٌ أنه يَرْكَب أو لا يَركَبُ، كان خَبَّركَ فيه أن
تقولَ: "قد رَكِبَ"، ولا تقولُ3: "هو قد ركبَ". فإِن جئتَ
بمثلِ هذا في صلةِ كلامٍ، ووضعْتَه بَعْدَ واوِ الحال، حسُنَ
حينئذٍ، وذلك قولُك: "جئتُه وهو قد ركبَ"، وذاك أنَّ الحكْم
يتغيرُ إذا صارتِ الجملةُ فيمثل هذا الموضع، ويصير الأمر بمعرض
__________
1 هو من شعر طرفة، في ديوانه، وتمامه:
لا ترى الآدب فينا ينتقر
و"المشتاة"، زمن الشتاء والجدب، و "الجفلي"، الدعوة العامة، و
"التقري"، الدعوة الخاصة، يختار من يدعوهم وينتقرهم.
2 من أول قوله هنا: "فتحتاج"، إلى قوله بعد قليل "علم" ساقط في
"ج" سهوًا.
3 في "س": "ولم تقل".
(1/135)
الشكِّ، وذاك أنه إِنما يَقولُ هذا مَنْ
ظَنَّ أنه يصادفه في منزله، وأنه يَصل إليه مِنْ قَبْل أنْ
يَرْكَب1.
فإِن قُلْتَ: فإنكَ قد تقولُ: "جئتُه وقد رَكبَ" بهذا المعنى،
ومع هذا الشكِّ.
2 فإنَّ الشكَّ لا يَقْوى حينئذٍ قوَّتَه في الوجهِ الأول،
أَفلا تَرى أَنكَ إِذا استبطأْتَ إنساناً فقلْتَ: "أتانا
والشمسُ قد طلعَتْ"، كان ذلك أبلغَ في استبطائكَ له من أن
تقولَ: "أتانا وقد طلعتِ الشمسُ؟ " وعكسُ هذا أَنكَ إذا قلتَ:
"أتَى والشمسُ لم تَطْلعْ"، كان أقوى في وصفك له بالعَجَلة
والمَجيء قَبْل الوقتِ الذي ظُنَّ أنه يَجيءُ فيه، من أن تقول:
"أَتى ولم تَطْلع الشمسُ بعدُ".
هذا، وهو كلامٌ لا يكادُ يَجيءُ إلاَّ نابياً، وإنَّما الكلامُ
البليغُ هو أنْ تبدأَ بالاسم وتَبني الفعلَ عليه كقوله:
قد أغتدي والطيرُ لم تَكَلَّمِ3
فإِذا كانَ الفعلُ فيما بعْدَ هذهِ الواوِ التي يُراد بها
الحالُ، مضارِعاً، لم يَصْلحُ إلا مبنياً على اسم كقولك:
"رأيتُه وهو يكْتُبُ"، و "دخلْتُ عليه وهو يملي الحديث"4،
وكقوله:
__________
1 في المطبوعة: "أن يصادفه .... وأن يصل".
2 "فإن الشك" جواب قوله قبل: "فإن قلت ..... ".
3 لم أقف عليه بهذا اللفظ.
4 في المطبوعة: "وهو على الحديث".
(1/136)
تمزرنها والدين يَدعو صَبَاحَهُ ... إذا ما
بَنُو نَعْشٍ دَنَوْا فَتَصَوَّبُوا1
ليس يَصلحُ شيءٌ من ذلك إلاَّ على ما تراهُ، لو قلتَ: "رأيتُه
ويكتبُ" و "دخلت عليه ويملي الحديث"، و "تمززتها ويدْعو الديكُ
صباحَه"، لم يكن شيئاً.
133 - ومما هو بهذهِ المنزلةِ في أنك تَجِدُ المعنى لا يستقيمُ
إلاَّ على ما جاءَ عليه من بناءِ الفعلِ على الاسم قولُه
تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ
وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196]، وقولُه
تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا
فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5]،
وقولُه تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ
الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:
17]، فإِنَّه لا يَخْفى على مَنْ له ذوقٌ أَنه لاو جيءَ في ذلك
بالفِعْل غيْرَ مَبْنيِّ على الاسم فقيلَ: {إِنَّ وَلِيِّيَ
اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى
الصَّالِحِينَ}، و {اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ}، و
{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ
وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}، لوَجِدَ اللفظُ قد نَبَا عنِ
المعنى، والمعنى قد زالَ عن صورتِه والحالِ التي يَنْبغي أن
يكون عليها.
__________
1 النابغة الجعدي في ديوانه، والضمير في "تمززتها" في البيت
قبله: وهو:
وصهباء لا تخفي القذى وهي دونه ... تصفق في راووقها ثم تقطب
و"صفق الخمر" حولها من إناء إلى إناء لتصفو. و "الراووق"، الذي
يصفي به الشرابو "تقطب" تمزج بالماء. و "تمززتها"، تمصصتها
شيئًا بعد شيء. و "بنو نعش" يريد "بنات نعش" كواكب في منازل
القمر الثمانية والعشرين. و "تصوبوا"، مالوا إلى الغروب عند
الأفق.
(1/137)
تقديم المحدث عنه في الخبر المنفي:
134 - واعلمْ أَنَّ هذا الصنيعَ يقتضي في الفعل المنفيِّ ما
اقتضاهُ في المُثْبَت، فإِذا قلتَ: "أنتَ لا تُحْسِن هذا"، كان
أشَدَّ لنَفْي إحسانِ ذلك عنه من أن تقول: "لا تحسن هذا"،
ويكون الكلام في الأول مَن هو أَشدُّ إعجاباً بنفسهِ، وأَعرَضُ
دَعْوى في أنه يُحْسنُ، حتى إنك لو أتيتَ بـ "أنْتَ" فيما بعدَ
"تُحسِن" فقلتَ: "لا تُحسِنُ أنتَ"، لم يكن له تلك القوة.
وكذلك قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لاَ
يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 59]، يفيدُ مِنَ التأكيد في نَفْي
الإِشراك عنهم، ما لو قيل: "والذين لا يُشْركون بربَّهم، أو:
بربَّهم لا يشركون" لم يُفِدْ ذلك. وكذا قولُه تعالى: {لَقَدْ
حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}
[يس: 7] وقولُه تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ
يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُون} [القصص: 66]، و {إِنَّ
شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ
لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 55].
(1/138)
مواضع التقديم
والتأخير: مثل وغير
تقديم "مثل" و"غير" كالأمر اللازم:
135 - ومما يُرى تقديمُ الاسم فيه كاللازم: "مثْل"، و "غير"،
في نحو قوله:
مثلك يثني الحزن عن صَوْبِه ... ويَسْتَرِدُّ الدَّمعَ عَنْ
غَرْبِهِ1
وقولِ النَّاسِ: "مِثْلُكَ رَعى الحقَّ والحُرْمَةَ"، وكقولِ
الذي قال لهُ الحَجَّاجُ: "لأَحْمِلَنَّكَ على الأَدْهمِ"،
يريد القَيْد، فقال على سبيلِ المغالَطةِ: "ومِثْلُ الأميرِ
يَحْمِلُ على الأَدهم والأشْهب"2، وما أشبهَ ذلك مما لا يقصد
فيه
__________
1 المتنبي، في ديوانه، وفي المطبوعة: "يثني المزن"، وهو خطأ
صرف.
2 يعني الأدهم والأشهب من جياد الخيل.
(1/138)
بـ "مثْل" إلى إنسانٍ سِوَى الذي أُضيفَ
إِليه، ولكنَّهم يَعْنون أَنَّ كلَّ مَنْ كان مِثْلَه في
الحالِ والصفةِ، كانَ مِن مُقْتَضى القياس ومُوجِب العُرْفِ
والعادة أنْ يَفْعلَ ما ذكرَ، أوْ أن يلا يفعل. ومن أجل أن كان
المعنى كذلك قال1:
ولَمْ أَقُلْ مثْلُكَ، أَعني به ... سِوَاك، يا فَرْداً بلا
مُشْبِهِ2
136 - وكذلك حكمُ "غَيْر" إذا سُلِكَ به هذا المسْلَكَ فقيل:
"غَيْري يفعل ذلك"، على معنى أني لا أفعلُه، لا أن يومئ بـ
"غير" إلى إنسانٍ فيُخبر عنه بأن يفعلَ، كما قال:
غَيْرِي بأَكْثَرِ هذا الناسِ يَنْخَدِعُ3
وذاك أنَّه معلومٌ أنَّه لم يُرد أن يُعرِّضَ بواحدٍ كان هناك
فيستنقصُه ويصفُه بأنَّه مَضعوفٌ يُغَرُّ ويُخْدَع، بل لم
يُردْ إلاَّ أن يقول: إني لَستُ ممن يَنْخَدِعُ وَيَغْتَرُّ.
وكذلك لم يرد أبو تمام بقوله:
وغَيُري يَأكُلُ المَعْرُوفَ سُحْتاً ... وتَشْحُبُ عِنْدَه
بِيضُ الأَيادي4
أَنْ يُعَرِّضَ مثلاً بشاعرٍ سِواه، فَيزعُم أنَّ الذي قرِفَ
به عندَ الممدوح من أنه هجاهُ، كان من ذلك الشاعرُ لا منه.
هذَا محالٌ، بل ليس إلاَّ أَنه نَفى عن نفسهِ أن يكونَ ممَّن
يَكْفُر النعمة ويلؤم.
__________
1 في المطبوعة: "أن المعنى كذلك".
2 هو آخر قصيدة المتني التي سلف بيتها قبل قليل.
3 هو المتبني، في ديوانه، والمصراع الثاني:
إن قاتلوا جبنوا، أو حدثوا شجعوا
4 في ديوانه.
(1/139)
واستعمال "مثل" و "غير" على هذا السببيل
شيءٌ مركوزٌ في الطباع، وهو جارٍ في عادةِ كلِّ قومٍ. فأنتَ
الآن إذا تصفَّحْتَ الكلامَ وجدْتَ هذين الاسمين يُقدِّمان
أبداً على الفعل إذا نُحِيَ بهما هذا النحوُ الذي ذكرتُ لك،
وترى هذا المعنى لا يَسْتقيم فيهما إذا لم يُقدَّما. أفلا تَرى
أَنك لو قلت: "يثني الحزن عن صوبه مثلك"1 و "رعى الحق والحرمة
مثلك"، و "يحمل على الأدهم والأشهب مثل الأمير"، و "ينخدع غيري
بأكثر هذا الناس"، و "يأكل غيري المعروفَ سُحْتاً"، رأيتَ
كلاماً مقلوباً عن جهتهِ، ومُغيَّراً عن صورتِه، ورأيتَ اللفظَ
قد نَبَا عن معناهُ، ورأيتَ الطبْعَ يأبى أن يرضاه.
__________
1 في المطبوعة: "يثني المزن".
(1/140)
مواضع التقديم
والتأخير: قاعدة عامة
دستور في التقديم والتأخير في الاستفهام والخبر:
137 - واعلمْ أنَّ معَكَ دُستوراً لك فيه، إنْ تأملت، غني عن
كل سِواهُ1، وهو أَنه لا يَجوز أن يكونَ لِنَظْم الكلامِ
وتَرتيبِ أَجزائه في "الاستفهام" معنًى لا يكونُ لهُ ذلكَ
المعنى في "الخبر". وذاكَ أنَّ "الاستفهامَ" استخبارٌ،
والاستخبارَ هوُ طَلبٌ منَ المُخاطَب أن يُخْبرك. فإِذا كان
كذلك، كان مُحالاً أن يَفْترِقَ الحالُ بينَ تقديمِ الاسمِ
وتأخيرهِ في "الاستفهامِ"، فيكونُ المعنى إذا قلتَ: "أزيدٌ
قام؟ " غيرَهُ إذا قلتَ: "أقامَ زيدٌ؟ "، ثم لا يكونُ هذا
الافتراقُ في الخَبر، ويكونُ قولُك: "زيدٌ قام" و "قامَ زيدٌ"
سواءً، ذاكَ لأنه يؤدِّي إلى أَنْ تستعملَه أمراً لا سبيلَ فيه
إلى جوابٍ، وأن تَسْتَثْبِتَه المعنى على وجهٍ ليس عنده عبارةٌ
يثبتُه لكَ بها على ذلك الوجه.
__________
1 في هامش "ج" حاشية جار التصوير على أواخر أسطرها، فلا تستبين
قراءتها.
(1/140)
وجملةُ الأَمر، أنَّ المعنى في إدخالِكَ
"حرْفَ الاستفهام" على الجملة من الكلام، وهو أنك تطلبأن
يَقِفَكَ في معنى تلك الجملة ومَؤَدَّاها على إثباتِ أو نَفْي.
فإِذا قلتَ: "أزيدٌ منطلقٌ؟ "، فأنتَ تطلب أنْ يقولَ لك:
"نَعمْ، هو مُنطلِقٌ" أو يقولَ: "لا، ما هو مُنْطَلِقٌ". وإذا
كان ذلك كذلك، كان مُحالاً أن تكونَ الجملةُ إذا دخلَتْها
همزةُ الاستفهام استخباراً عنِ المعنى على وجهٍ، لا تكونُ هي
إذا نُزِعَتْ منها الهمزةُ إخباراً به على ذلك الوجه، فاعرفه1.
__________
1 السياق: "لا تكون هي ..... إخبارًا به على ذلك الوجه".
(1/141)
تقديم النكرة على
الفعل وعكسه:
فصل: "هذا كلام في النَّكِرة إذا قُدِّمتْ على الفعل، أو قدم
الفعل عليها"
النكرة وتقديمها على الفعل في الاستفهام:
138 - إِذا قلتَ: "أجاءَك رجلٌ؟ "، فأنتَ تُريد أن تسأله هل
كان مجيء من واحد من الرجالِ إليه1، فإنْ قدّمتَ الاسمَ فقلتَ:
"أرجلٌ جاءك؟ "، فأنتَ تسألُه عن جنسِ مَنْ جاءه، أرجلٌ هو أم
امرأةٌ؟ ويكونُ هذا منكَ إِذا كنتَ عَلمتَ أنه قد أتاه آتٍ،
ولكنَّكَ لم تعلمْ جنْسَ ذلك الآتي، فسَبيلُكَ في ذلك سَبيلُك
إذا أردتَ أن تَعْرفَ عينَ الآتي فقلتَ: "أزيدٌ جاءك أم عمرو؟
".
ولا يجوز تقديم الاسم في المسئلة الأولى2، لأنَّ تقديمَ الاسمِ
يكون إِذا كان السؤالُ عن الفاعل، والسؤالُ عَنِ الفاعل يكونُ
إمَّا عن عَيْنه أو عَن جِنْسه، ولا ثالثَ. وإِذا كان كذلك،
كان مُحالاً أن تُقَدِّم الاسمَ النكرةَ وأنتَ لا تُريد
السؤالَ عن الجنس، لأَنَّه لا يكونُ لسؤالك حينئذٍ مُتَعلَّقٌ،
من حيثُ لا يَبقى بَعْد الجنسِ إلا العَيْنُ. والنكرةُ لا
تدلُّ على عينِ شيءٍ فيُسْأَل بها عنه.
فإنْ قلتَ: "أَرجلٌ طويلٌ جاءَكَ أم قصيرٌ؟ "، كان السؤالُ عن
أن الجائي كان3، مِنْ جنسِ طِوالِ الرجالِ أم قِصارِهم؟ فإِن
وصفْتَ النكرةَ بالجملة فقلتَ: "أرجلٌ كنتَ عرفتَه من قَبْلُ
أعطاكَ هذا أم رجلٌ لم تعرفه"،
__________
1 في المطبوعة وحدها: "أحد من الرجال".
2 يعني قولك: "أجاءك رجل"، أن تقدم وأنت تريد المعنى الذي ذكره
لها.
3 "كان"، زيادة من "س".
(1/142)
كان السؤالُ عن المُعْطي، أكان ممن عرَفَه
قبلُ، أم كان إنساناً لم تتقدَّمْ منه معرفة له1.
تقديم النكرة في الخبر ومعناه:
139 - وإذْ قد عرفتَ الحكْم في الابتداءِ بالنَكرةِ في
"الاستفهام" فأين "الخَبرَ" عليه. فإِذا قلتَ: "رجلٌ جاءَني":
لم يَصْلُح حتى تُريدَ أَن تُعلِمَه أنَّ الذي جاءك رجلٌ لا
امرأة، ويكونُ كلامُكَ مع مَن قد عَرَف أنْ قد أتاكَ آتٍ. فإِن
لم تُرد ذاك، كان الواجبُ أن تقولَ: "جاءَني رجلٌ"، فَتقَدِّمَ
الفعلَ.
وكذلك إنْ قلتَ: "رجلٌ طويلٌ جاءَني" لم يستَقِمْ حتى يكونَ
السامعُ قد ظَنَّ أنه قد أتاك قصيرٌ، أو نزَّلْتَه منزلة من ظن
ذلك.
تفسير قولهم: "شر أهر ذاناب":
140 - وقولههم "شراهر ذَا نابٍ"2، إنَّما قُدِّمَ فيه "شرٌّ"،
لأنَّ المرادَ أن يُعلم أنَّ الذي أهرَّ ذا النابِ هو مِن
جِنْسِ الشرِّ لا جِنْسِ الخير، فَجَرى مَجْرى أن تقولَ: "رجلٌ
جاءني" تريدُ أنه رجلٌ لا امرأة، وقولُ العلماءِ إنه إنَّما
يصلحُ،3 لأَنَّه بمعنى "ما أهَرَّ ذا نابٍ إلاَّ شرٌّ".
بَيانٌ لذلك: ألا تَرى أنَّك لا تَقول: "ما أتاني إلا رجلٌ"،
إلا حيثُ يَتَوهَّمُ السامعُ أنه قد أتتك امرأة، ذاك لأن الخبر
ينقض النفي يكون حيث يراد
__________
1 "له"، ليست في المطبوعة.
2 أمثال الميداني 1: 326، وهو مثل يضرب عند ظهور أمارات الشر
ومخايله، و "أهر" حمله على "الهرير"، وهو أن يكثر السبع عن
أنيابه ويصوت إذا رأى ما يفزعه. و "ذو الناب"، السبع.
3 يعني: إنما يصلح في الابتداء بالنكرة.
(1/143)
أن يُقْصَر الفعلُ على شيءٍ1، ويُنْفى
عمَّا عدَاهُ. فإِذا قلتَ: "ما جاءني إلاَّ زيدٌ"، كان المعنى
أنكَ قد قَصَرْتَ المجيءَ على زيدٍ، ونفَيْتَه عن كُلِّ مَنْ
عَدَاهُ. وإنَّما يُتَصَّورُ قَصْرُ الفعلِ على معلومِ، ومتى
لم يُرَدْ بالنكرةِ الجنسُ، لم يَقفْ منها السامعُ على معلوم،
حتى تزعم أَنِّي أقصُر له الفعلَ عليه، وأُخبِرُه أنه كان منه
دونَ غيرهِ.
141 - واعلمْ أنَّا لم نُرِدْ بما قلناهُ2، من أنه إنَّما
حَسُنَ الابتداءُ بالنكرةِ في قولهم: "شَرٌّ أهرَّ ذا ناب"،
لأنه أُريد به الجنسُ، أَنَّ معنى "شرٌّ" و "الشرُّ" سواءٌ3،
وإنَّما أردنا أَنَّ الغرضَ من الكلام أن نُبيِّنَ أنَّ الذي
أَهرَّ ذا النابِ هو مِن جِنْسِ الشرِّ لا جنسِ الخير، كما
أنَّا إذا قلنا فِي قولهم: "أرجلٌ أتاك أم المرأةُ أتاكَ"
ولكنَّا نعني أنَّ المعنى عَلَى أنك سألْتَ عن الآتي أهو مِنْ
جنس الرجال أم جنس النساء؟ فالنكرةُ إذنْ على أصلها منكونها
لواحدٍ من الجنسِ، إلاَّ أنَّ القصْدَ منكَ لم يقعْ إلى كونهِ
واحداً، وإنَّما وقعَ إلى كونهِ من جنسِ الرجالِ.
وعكْسُ هذا أنك إذا قلتَ: "أرَجلُ أتاك أم رجلان؟ "، كان
القصدُ منك إلى كونِه واحداً، دونَ كونِه رجلاً، فاعرِفْ ذلك
أصْلاً، وهو أنه قد يكون في
__________
1 في المطبوعة: "بنقض النفي".
2 في المطبوعة: "واعلم أن لم نرد"، والصواب ما في المخطوطتين.
3 يعني "شر" نكرة، و "الشر" معرفة.
(1/144)
اللفظ دليلٌ على أمرينِ، ثم يَقعُ القصْدُ
إلى أَحدِهما دُون الآخرِ، فيصيرُ ذلك الآخَرُ بأنْ لم يَدْخلْ
في القصدِ كأنَّه لم يَدْخُل في دلالةِ اللفظ.
وإذا اعتبرتَ ما قدمته من قول صاحب الكتاب: "إنما قلتُ: "عبدُ
اللَّه" فنبَّهْتُه له، ثم بَنيتُ عليه الفعل"1، وجدْتَه
يطابقُ هذا. وذاكَ أَنَّ التنبيهَ لا يكونُ إلاَّ على معلومٍ،
كما أنَّ قَصْرَ الفعل لا يكونُ إلاَّ على معلوم، فإِذا بدأتَ
بالنكرة فقلتَ: "رجلٌ"، وأنت لا تقَصدُ بها الجنسَ، وأن تُعْلم
السامعَ أنَّ الذي أردتَ بالحديثِ رَجلٌ لا امرأةٌ، كان
مُحالاً أن تقول: "إني قدَّمتُه لأُنَبِّهَ المخاطَبَ له"،
لأنه يَخرجُ بك إلى أن تقول: إني أردتُ أن أُنبه السامعَ
لِشيءٍ لا يَعْلمه في جملةٍ ولا تفصيلٍ. وذلك ما لا يُشَكُّ في
استحالته، فاعرفه.
__________
1 يعني قول سيبويه، الذي رواه فيما سلف رقم: 127.
(1/145)
|