دلائل الإعجاز ت شاكر القول في نظم الكلام
ومكان النحو منه:
[القول في "النظم" وبتفسيره] 1:
تفسير "النظم" وأسراره ودقائقه:
74 - واعلم أن ههنا: أسراراً ودقائقَ، لا يُمكن بَيانُها إلاَّ
بَعْد أن تقدم جملةً منَ القول في "النَّظم" وفي تفسيرهِ
والمُراد منه2، وأيِّ شيءٍ هو؟ وما محصولُه ومحصولُ الفضيلةِ
فيه؟ فينبغي لنا أن نأْخُذَ من ذِكْرِه، وبَيان أَمره، وبيانِ
المزيَّةِ التي تُدَّعى له مِنْ أينَ تَأْتيه؟ وكيفَ تَعْرِضُ
فيه؟ وما أَسبابُ ذلك وعِلَلُه؟ وما المُوجِبُ له؟.
وقد عَلمْتَ إطباقَ العُلماءِ على تعظيمِ شأنِ "النظم" وتخيم
قَدْره، والتنويهِ بذكرهِ، وإجماعَهم أنْ لا فضْلَ معَ
عَدَمِه، ولا قَدْر لكلامٍ إِذا هو لم يَستقمْ لَهُ، ولو بلغَ
في غَرابةِ معناهُ ما بَلغَ3 وبَتَّهُمُ الحُكْمَ بأنه الذي لا
تَمامَ دونَه، ولا قِوام إلاَّ بهِ، وأَنه القطُبُ الذي عليه
المَدارُ، والعَمودُ الذي به الاستقلال. وما كانَ بهذا المحلَّ
من الشَرَفِ، وفي هذِه المنزلةِ من الفضلِ، وموضوعاً هذا
المَوْضعَ منَ المزية، وبالغاً هذا المبلغَ منَ الفضيلةِ كان
حَرىّ بأن توقَظَ له الهِمَمُ، وتُوكَلَ به النفوسُ، وتُحرَّكَ
له الأفكارُ، وتُستخدَمَ فيه الخواطرُ4 وكان العاقَلُ جَديراً
أَن لا يَرْضى من نَفْسه بأن يَجد فيهِ سبيلاً إِلى مزيَّة
عِلْم، وفَضْلِ استبانةٍ، وتلخيصٍ حُجَّةٍ5، وتحرير دليل، ثم
يعرض
__________
1 هذا عنوان زدته، لأنه عليه مدار هذا الكتاب.
2 في المطبوعة وجدها: "أن تعد جملة".
3 "وبتهم الحكم"، معطوف على: "إطباق العلماء"، و "بت الحكم"،
قطعه.
4 "وكان العاقل"، معطوف عليه قوله: "كان حرى".
5 "تلخيص الحجة"، شرحها وتفسيرها وبيانها، وانظر مثله في
الفقرة رقم: 26.
(1/80)
عن ذلك صَفْحاً، ويَطْوي دونهُ كَشْحاً1
وأن يَرْبأ بنفسِه، وتَدْخلَ عليه الأَنفَةُ من أن يكونَ في
سبيلِ المُقلِّدِ الذي لا يَبُتُّ حكْماً2، ولا يَقْتُل الشيءَ
عِلْماً، ولا يجدُ ما يُبْرئُ من الشُّبهة3، ويَشفي غليلَ
الشاكِّ، وهو يَستطيعُ أن يَرْتفعَ عن هذه المنزلةِ، ويُباينَ
مَن هو بهذِه الصَّفة، فإنَ ذلك دليلُ ضَعْفِ الرأي وقِصرِ
الهمّةِ ممَّن يختارُه ويعملُ عليه.
"النظم" هو توخي معاني النحو، وبيان ذلك:
75 - إعلم أنْ ليسَ "النظمُ" إِلا أن تضعَ كلامكَ الوضعَ الذي
يَقتضيهِ "علمُ النحو"، وتعملَ على قوانينهِ وأُصولِه، وتعرفَ
مناهجَه التي نُهِجتْ فلا تزيغَ عنها، وتحفَظُ الرُّسومَ التي
رُسمتْ لك4، فلا تُخِلَّ بشيءٍ منها.
وذلك أنَّا لا نَعلم شيئاً يبتغيهِ الناظمُ بنَظْمه غيرَ أنَ
ينظرَ في وُجوهِ كلَّ بابٍ وفُروقهِ، فينظرَ في "الخبرِ" إِلى
الوجوهِ التي تَراها في قولك: "زيدٌ منطلقٌ" و "زيدٌ
يَنطلِقُ"، و "ينطلِقُ زيدٌ" و "منطلِقٌ زيدٌ"، و "زيدٌ
المُنطلِقُ" و "المنطلِقُ زيدٌ" و "زيدٌ هوَ المنطلقُ"، وزيدٌ
هو منطلِقٌ".
وفي "الشرطِ والجزاء" إِلى الوجوه التي تَراها في قولك: "إنْ
تَخْرُجْ أَخرجْ" و "إنْ خرجْتَ خرجْتُ" و "إن تخرجْ فأنا
خارجٌ" و "أنا خارجٌ إن خرجتَ" و "أنا إنْ خرجْتَ خارجٌ".
__________
1 وأن يربأ بنفسه"، معطوف على قوله: "أن لا يرضى من نفسه".
2 في "س": "يثبت حكمًا".
3 في "س": "من الشبه".
4 في المطبوعة: "الذي رسمته".
(1/81)
وفي "الحالِ" إِلى الوجوهِ التي تَراها في
قولك: "جاءني زيد مسرعًا"، وجاءني يسرع"، و "جاءني وهو مسرع أو
وهو يُسرع" و "جاءني قد أَسرَع" و "جاءني وقد أَسْرعَ".
فيَعرفُ لكلِّ من ذلك موضِعَه، ويجيءُ به حيثُ ينبغي له.
وينظرَ1 في "الحروف" التي تَشْتركُ في معنىً، ثم يَنفردُ كلُّ
واحدٍ منها بخصوصيةٍ في ذلك المعنى، فيضع كلًا من ذلك ي خاصِّ
معناهُ، نحْوَ أن يجيءَ بـ "ما" في نفي الحال، بـ "لا" إذا
أراد نفي الاستقبال , بـ "إنْ" فيما يترجَّحُ بينَ أن يكونَ
وأنْ لا يكون، وبـ "إِذا" فيما عُلمَ أنه كائنٌ.
وينظرَ في "الجملِ" التي تُسْرَدُ، فيعرفَ موْضعَ الفصلِ فيها
مِن موضعِ الوَصْل، ثم يعرفَ فيما حقُّه الوصْلُ موضعَ "الواو"
من موْضعِ "الفاء"، وموضعَ "الفاء" ومن موضعِ "ثُمَّ"، وموضعَ
"أو" من موضعِ "أم"، وموضَعَ "لكنْ" من موضعِ "بل".
ويتصرَّفَ في التّعريفِ، والتَّنكيرِ، والتّقديمِ والتأخير، في
الكلام كلِّه2، وفي الحذف، والتكرار والإضمار، والإظهار، فيصيب
بكل من ذلك مكانَه3، ويستعملَه على الصِّحة وعَلَى ما ينبغي
له.
76 - هذا هو السَّبيل، فلستَ بواجدٍ شيئاً يَرجِعُ صوابهُ إِنْ
كان صواباً وخَطؤهُ إِن كانَ خطأ، إِلى "النَّظْم"، ويَدخلُ
تحت هذا الاسم، إلا وهو
__________
1 "وينظر" معطوف على قوله في أول الفقرة: " .... أن ينظر في
وجوه كل باب"، وكذلك ما سيأتي بعده.
2 في نسخة عنه رشيد رضا: وينظر: بدل "يتصرف".
3 في المطبوعة: "فيضع كلًا مكـ"، وعند رشيد رضا في نسخ، كما في
المخطوطتين.
(1/82)
معنىً من معاني النحوِ قد أُصيب به
موضِعُه، وَوُضِعَ في حقه أو عُومِلَ بخلافِ هذه المعاملة،
فأزيلَ عن موضعهِ، واستُعمِل في غيرِ ما ينبغي له، فلا ترى
كلاماً قد وُصف بصحّةِ نظمٍ أو فسادِه، أو وُصف بمزيةٍ وفضلٍ
فيه، إلاَّ وأنت تجدُ مرجعَ تلك الصحَّةِ وذلك الفسادِ وتلكَ
المزيةِ وذلك الفضلِ، إِلى معاني النَّحو وأَحكامه، ووَجْدتَه
يَدْخل في أصلٍ من أصولهِ، ويتَّصلُ ببابٍ من أبوابه.
شواهد على فساد "النظم":
77 - هذه جملةٌ لا تَزْدادُ فيها نظَراً، إِلا ازدَدْتُ لها
تَصوُّراً، وازدادتْ عندكَ صحَّةً، وازدَدْتَ بها ثقةً. وليس
من أَحدٍ تُحرِّكُه لأَنْ يقولَ في أمرِ "النظمِ" شيئاً، إِلا
وجدْتَهُ قد اعترفَ لكَ بها أو ببعضِها، ووافقَ فيها دَرى ذَلك
أو لم يَدْرَ. ويكفيكَ أَنهم قد كشَفوا عن وَجْه ما أَردناه
حيثُ ذكَروا فسادَ "النظمِ"، فليسَ من أَحدٍ يُخالِفُ في نحو
قولِ الفرزدق:
وما مثلُه في الناسِ إِلا مُملَّكاً ... أبُو أمه حي أبوه
يقاربه1
وقول المتبني:
ولذا اسْمُ أغطيةِ العُيونِ جفونُها ... منْ أنها عَمَلَ
السيُّوفِ عَوامِلُ2
وقوله:
الطيبُ أنتَ إِذا أصابَكَ طِيبُه، ... والماءَ أنتَ إِذا
اغْتَسلتَ الغاسِلُ
وقوله:
وفَاؤكُما كالرَّبعِ أَشْجَاهُ طاسِمُهْ ... بأن تُسعِدا،
والدمعُ أشفاه ساجمه
__________
1 في دويانه.
2 الشعر الآتي كله في ديوانه.
(1/83)
وقوله أبي تمام:
ثانيهِ في كبدِ السماءِ، ولم يكُنْ ... كاثْنَيْنِ ثان إذا هما
في الغار1
وقوله:
يَدي لِمَنْ شَاءَ رَهْنٌ لم يَذُقُ جُرَعاً ... مِنْ
راحَتيْكَ دَرى ما الصَّابُ والعَسَلُ
2 وفي نظائِر ذلكَ ممَّا وَصفوه بفَساد النظْم، وعابوُه من
جهةِ سوءِ التأليف، أَنَّ الفسادَ والخللَ كانا من أن تعاطى
الشعر ما تَعاطاهُ من هذا الشأنِ على غيرِ الصَّواب، وصنَعَ في
تقديم أو تأخيرٍ، أو حذف وإضمار، أو غير ذلك مما ليس له أن
يَصْنعَه، وما لا يَسوغُ ولا يصحُّ على أُصولِ هذا العلم.
وإِذا ثبت أن سبب فساد النظم واختلاله، وأن لا يُعملَ بقوانينِ
هذا الشأنِ، ثبَتَ أنَّ سببَ صِحَّتِهِ أنْ يَعملَ عليها ثم
إِذا ثبَتَ أنَّ مستَنْبَطَ صِحَّتِهِ وفسادِه من هذا العلمِ،
ثبَتَ أنَّ الحكْم كذلك في مزيَّتِه والفضيلةِ التي تعرضُ فيه،
وإِذا ثبتَ جميعُ ذلك، ثبتَ أنْ ليس هو شَيئاً غيرَ تَوخِّي
معاني هذا العِلْمِ وأحكامِه فيما بينَ الكلم"3 والله الموفق
للصواب.
شواهد على محاسن "النظم":
78 - وإذا قد عرفْتَ ذلك، فاعمَدْ إِلى ما تَواصَفُوه بالحسن4،
__________
1 الشعر كله في ديوانه.
2 سياق الكلام: "فليسَ من أَحدٍ يُخالِفُ في نحوِ قولِ الفرزدق
... وي نظائر ذلك مما وصفوه .... أن الفساد والخلل".
3 من أول قوله: "وإذا ثبت جميع ذلك .... " إلى هنا، ساقط من
"س".
4 في "ج": "تواصفه"، سهو ناسخ.
(1/84)
وتَشاهَدوا له بالفضْل، ثم جَعلوه كذلك من
أجلِ "النظْم" خصوصاً، دونَ غيرهِ مما يُستحسَنُ له الشعرُ أو
غيرُ الشعر، من معنى لطيفٍ أو حكمةٍ أو ادبٍ أو استعارةٍ أو
تجنيسٍ أو غيرِ ذَلك مما لا يَدخلُ في النَّظم، وتأَمَّلهْ1،
فإِذا رأيتَكَ قدِ ارتحْتَ واهتززْتَ واستحسنْتَ، فانظرْ إِلى
حرَكات الأريحيَّةِ ممَّ كانتْ؟ وعندَ ماذا ظهرَتْ؟ فإِنك تَرى
عِياناً أَنَّ الذي قلتُ لك كما قلتُ. اعمد إلى قول البحتري:
بَلَوْنا ضَرائبَ مَنْ قد نَرى ... فَما إنْ رأَينا لِفتح
ضَريبا
هُوَ المرءُ أَبْدتْ له الحادِثاتُ ... عَزْما وَشِيكا ورأيا
صَليبا
تنقَّلَ في خْلُقَيْ سُؤْدُدٍ ... سَماحاً مُرجَّى وبَأساً
مَهيبا
فكالسَّيفِ إنْ جئتَه صارِخاً ... وكالبَحْر إِن جئتَه
مُسْتثيباً2
فإِذا رأيتَها قد راقَتْك وكثرتْ عندك، ووَجدْتَ لها اهتزازاً
في نفسك، فعُدْ فانظرْ في السَّببِ واستقْصِ في النَّظر، فإِنك
تَعلمُ ضرورةً أنْ ليس إلاَّ أَنه قدَّم وأخَّر، وعرَّف
ونَكَّر، وحذفَ وأضمرَ، وأعادَ وكرَّر، وتوخَّى على الجُملةِ
وجْهاً منَ الوُجوهِ التي يَقْتضيها "علْمُ النحو"، فأصاب في
ذلك كلِّه، ثم لَطُفَ مَوضعُ صَوابه، وأتى مأتًى يُوجِبُ
الفضيلةَ.
أفلا تَرى أنَّ أولَ شيءٍ يَروقُك منها قولُه: "هو المرء أبدت
لها الحادثات" ثم قولُه: "تنقَّل في خُلْقَيْ سؤددِ" بتنكير
"السؤدد" وإضافة "الخُلُقين".
__________
1 - السياق: "فاعمد إلى ما تواصفوه .... وتأمله".
2 في ديوانه، في الفتح بن خاقان، "الضرائب" جمع "ضريبة"، وهي
الطيبعة والخلق.
و"الضريب"، المثيل والشبيه. و "المستثيب" طالب الثواب.
(1/85)
إِليه ثم قولُه: "فكالسَّيف" وعطفُه بالفاء
مع حَذفهِ المبتدأَ، لأنَّ المعنى لا محالةَ: فهو كالسَّيف ثم
تكريرُهُ "الكاف" في قولِه: "وكالبحر" ثم أنْ قرَنَ إِلى كلَّ
واحدٍ منَ التَّشبيهين شرطاً جوابُه فيه ثم أَنْ أخرجَ من كلَّ
واحدٍ منَ الشَّرطين حالاً على مثالِ ما أخرَجَ مِن الآخرِ،
وذلك قولهُ "صارخًا" هناك "ومستثيبًا" ههنا؟ لا تَرى حُسْناً
تَنسِبُه إِلى النَّظمِ ليس سَببُهَ ما عددتُ، أو ما هو في
حُكْم ما عددتُ، فاعْرفْ ذلك.
79 - وإِن أردتَ أَظْهرَ أمراً في هذا المعنى، فانظره إِلى
قولِ إِبراهيمَ بنِ العَبّاس:
فلَوْ إذْ نَبَا دَهرٌ، وأَنْكَرَ صاحبٌ، ... وسُلِّطَ أعداءٌ،
وغابَ نَصيرُ
تكونُ عنِ الأهوازِ داري بنَجْوةٍ، ... ولكنْ مَقَاديرٌ جَرَتْ
وأُمورُ
وإِنّي لأَرْجو بَعْدَ هذا محمَّداً ... لأِفضَلِ ما يُرجى أخٌ
ووَزيرُ1
فإِنك تَرى ما ترى من الرَّوْنَقِ والطَّلاوة، ومن الحسن
والحلاوة، ثم "إذْ نَبَا" على عاملهِ الذي هو "تكونُ"، وأَنْ
لم يَقُلْ: فلو تكونُ عن الأهوازِ داري بنجوةِ إِذْ نبا دهرٌ
ثم أَنْ قال: "تكونُ"، ولم يقُلْ "كان" ثم أَنْ أنكر الدهر ولم
يقل: "إِذ نبا الدَّهرُ" = ثمَّ أنْ ساقَ هذا التنكيرَ في
جميعِ ما أَتى به مِن بَعْد ثم أَنْ قال وأَنْكَرَ صاحبٌ ولم
يقل وأنكرتُ صاحباً لا تَرى في البيتين الأَولين شيئاً غيرَ
الذي عدَدْتُه لك تجعلُه حَسْناً في "النَّظم"، وكلُّه من
معاني النَّحو كما ترى. وهكذا السبيلُ أبداً في كل حُسْنٍ
ومَزيَّة رأيتَهما قد نُسبا إِلى "النظمِ"، وفَضْلٍ وشَرفٍ
أُحِيلَ فيهما عليه.
__________
1 في ديوانه "الطرائف الأدبية": 132، بقوله للوزير محمد بن عبد
الملك الزيات.
(1/86)
مزايا النظم بحسب
المعاني والأغراض:
فصل: [في أن هذه المزايا في النظم، بحسب المعاني والأغراض التي
تؤم] 1
بيان محاسن النظم:
80 - وإِذ قد عرفْتَ أنَّ مدارَ أمرِ "النظْم" على مَعاني
النحو، وعلى الوجُوهِ والفُروق التي من شأْنها أَنْ تكونَ فيه،
فاعلمْ أنَّ الفروقَ والوجوهَ كثيرةٌ ليسَ لها غايةٌ تقفُ
عندها، ونهاية لا تجد لهال ازدياداً بَعْدها ثم اعْلَمْ أنْ
ليستِ المزيةُ بواجبةٍ لها في أنْفُسِها، ومِنْ حيثُ هي على
الإِطلاق، ولكنْ تعرضُ بسببِ المعاني والأغراضِ التي يُوضعُ
لها الكلامُ، ثم بحَسَبِ موقعِ بعضِها من بعضٍ، واستعمالِ
بعضِها معَ بعضٍ.
تفسيرُ هذا: أنَّه ليسَ إِذا راقَكَ التنكيرُ في "سؤددٍ" من
قولِه: "تنقَّلَ في خلقَيْ سؤددِ"2 وفي "دهرٌ" من قوله: "فلو
إذْ نَبا دهرٌ"3، فإِنه يَجبُ أنْ يروقَكَ أبداً وفي كلَّ شيء
ولا إِذا استحسنْتَ لفظَ ما لم يُسمَّ فاعلُه في قوله "وأنكرَ
صاحبٌ"3، فإِنه ينبغي أَن لا تراهُ في مكان إلا أعطيته مثل
استحسانك ههنا بل ليسَ مِنْ فضلٍ ومزيةٍ إلاَّ بحسَبِ الموضع،
وبحَسبِ المعنى الذي تُريدُ والغرض الذي تؤُمُّ. وإِنّما سبيلُ
هذه المعاني سبيلُ الأَصباغِ التي تُعملُ منها الصورُ
والنقوشُ، فكما أَنك ترَى الرجلَ قد تَهدَّى في الأصباغ التي
عَمِلَ منها الصورةَ والنّقشَ في ثوبِه الذي نسج، إلى ضرب من
التخير
__________
1 هذا السطر كله، ليس في "ج"، ولا "س".
2 انظر الفقرة رقم: 78.
3 انظر الفقرة رقم: 79.
(1/87)
والتدبُّر في أَنفس الأَصباغِ وفي مواقِعها
ومقاديرِها وكيفيّةِ مَزْجه لها وتَرتيبه إِياها، إِلى ما لم
يتَهدَّ إِليه صاحبُه1، فجاء نَقشُه من أجْل ذلك أَعجَبَ،
وصورتُه أغرَبَ، كذلك حالُ الشاعرِ والشاعرِ في توخِّيهما
مَعاني النَّحو ووجوهِه التي علمت أنها محصول "النظم".
صفة "النظْم":
81 - واعلمْ أنَّ مِن الكلام ما أنتَ تَرى المزيَّةَ في نَظْمه
والحُسْنَ، كالآجزاءِ من الصِّبْغ تَتلاَحقُ وينْضَمُّ بعضُها
إِلى بعض حتى تَكْثُرَ في العين، فأنتَ لذلك لا تُكْبِرُ شأْنَ
صاحبهِ، ولا تَقْضِي له بالحِذْق والاستاذيَّة وسَعَةِ
الذَّرْع وشدَّةِ المُنَّة2، حتى تَستوفي القطعةَ وتأتيَ على
عدّةِ أبياتٍ. وذلك ما كانَ مِن الشعر في طبقةِ ما أنشدْتُكَ
من أبياتِ البُحتريَّ3 ومنْهُ ما أَنْتَ تَرى الحُسْنَ يَهجُمُ
عليك منه دفعةً، ويأتيكَ منه ما يملأُ العينَ ضَرْبَةً4 حتى
تعرفَ منَ البيت الواحد مكانَ الرَّجُلِ منَ الفضْل، وموضعَه
منَ الحذْق، وتشْهَدَ له بفضلِ المُنَّة وطولِ الباع، وحتى
تَعْلَم، إنْ لم تَعْلَم القائلَ، أنَّه مِنْ قِبَل شاعرٍ
فحلٍ5، وأنه خرجَ من تحتِ يَدٍ صَنَاعٍ، وذلك ما إذا
أنْشَدْتَهُ وضعتَ فيه اليدَ على شيءٍ فقلتَ: هذا، هذا! وما
كان كذلك فهو الشعر
__________
1 في "س"، وفي نسخة عند رشيد رضا: "إلى ما لم يكن يهتدي إليه".
2 "المنة"، القوة والضبط.
3 انظر رقم: 78.
4 في المطبوعة: "غرابة"، وفي المخطوطتين، ونسخة أخرى عند رشيد
رضا، كما أثبت و "ضربة"، دفعة واحدة.
5 في المطبوعة: "من قبل".
(1/88)
الشاعرُ1، والكلامُ الفاخر، والنمطُ العالي
الشريفُ والذي لا تَجده إلاَّ في شعْر الفحولِ البُزْلِ2، ثم
المطبوعين الذين يلهمون القول إلهامًا.
شواهد من محاسن النظم:
82 - ثم إِنّك تحتاجُ إِلى أن تستقريَ عدَّة قصائدَ، بل أن
تَفْليَ ديواناً من الشعر3، حتى تَجْمعَ منه عدَّةَ أبياتٍ.
وذلك ما كانَ مثْلَ قولِ الأَوّلِ، وتَمثَّل به أبو بكرِ
الصّديقُ رضوانُ اللهِ عليه حين أَتاه كتاب خالد بالفتح في
هزيمة الأعاجم:
تَمنَّانا ليَلْقانا بقومٍ ... تخالُ بياضَ لأْمِهمُ
السَرَابا4
فقد لاقيْتَنا فرأيْتَ حَرْباً ... عَواناً تمنعُ الشيخَ
الشَرَابا5
أُنظرْ إِلى موضعِ "الفاء" في قولهِ:
فقد لاقيتنا فرأيت حربًا
__________
1 في المطبوعة: "فهو شعر الشاعر"، وليس لشيء.
2 "البزل" جمع "بازل"، وهو البعير بنشق نابه ويبزل عند دخوله
في السنة التاسعة، وتستحكم قوته.
3 مستعار للتفتيش والتنقيب، من "فلي الشعر"، بحثًا عن القمل
الدقيق وصئبانه.
4 هذا من شعر الصحابي زياد بن حنظلة التميمي الذي بعثه رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم إلى قيس بن عاصم والزبرقان بن بدر
ليتاونا على مسيلمة وطليحة والأسود، وشهد مع أبي بكر حرب مانعي
الزكاة يوم الأبرق، فقال زياد:
ويوم بالأبارق قد شهدنا ... على ذبيان يلتهب التهابًا
أتيناهم بداهية نسوف ... مع الصديق إذا ترك العتابا
والخبر كله في تاريخ الطبري 3: 222 - 225، وفيه البيتان اللذان
ذكرتهما آنفًا. أما الذي أنشده عبد القاهر فقد أنسيت مكانه
ومكان أبيات زياد بن حنظلة.
5 "اللأم"، جمع "لأمة"، وهي أداة الحرب من درع وبيضة وسلاح.
(1/89)
ومثل قول العباس بن الأحنف:
قَالُوا خراسانُ أَقصى ما يُرادُ بِنا، ... ثُمَّ القفولُ، فقد
جئْنا خُراسانا1
أنظرْ إِلى موضعِ "الفاء" و "ثم" قبلها.
ومثلُ قولِ ابنِ الدمينة2:
أبينى أفي يمنى يديك جعلتني ... فأقرح، أمْ صَيِّرْتِني في
شِمالِكِ
أَبِيتُ كأَنّي بين شِقَّيْنِ من عَصَا ... حِذارَ الرَّدى، أو
خيفة من زيالِكِ
تَعَالَلْتِ كيْ أشْجى، وما بكِ علَّةٌ ... تُريدينَ قَتْلِي
قد ظفْرتِ بذلكِ3
انظر إِلى الفصْل والاستئنافِ في قوله:
تُريدين قتلي، قد ظفرتِ بذلك
ومثلُ قولِ أبي حَفْصٍ الشَّطرنجيَّ، وقاله على لسانِ
عُلَيَّةَ أُختِ الرَّشيد، وقد كان الرَّشيدُ عتبَ عليها:
لو كانَ يمنَعُ حسْنُ الفعْلِ صاحبَهُ ... مِنْ أنْ يكونَ له
ذنبٌ إِلى أَحَدِ
كانتْ عليه أبرى الناس كلهم ... من أن نكافا بسوء آخر الأبد
ما أعجب الشيء نرجوه فتحرمه ... قد كنت أحسب أني ملأت يدي4
__________
1 في ديوانه: حين خرج مع الرشيد إلى خراسان، وفي هامش "ج"
حاشية خفية الخط لم أحسن قراءتها.
2 في "ج"، "ابن دمينة"، غير معرف.
3 في ديوانه، و "الزيال"، الفراق، "زايله مزايلة وزيالا"،
فارقه.
4 أبو حفص الشطرنجي، شاعر علية بنت المهدي، والشعر في الأغاني
"الهيئة" 22: 48، وأسقط الشيخ رحمه الله بيتًا يقوم عليه معنى
البيت الرابع، وهو:
مالي إذا غبت لم أذكر بواحدة ... وإن سقمت فطال السقم لم أعد
(1/90)
انظرْ إِلى قولهِ: "قد كنتُ أَحسبُ" وإِلى
مكان هذا الاستئناف.
ومثل قول أبي داود:
ولقَدْ أَغْتَدِي يُدافِعُ رُكْني ... أَحْوَذِيٌّ ذُو
مَيْعَةٍ إضْريجُ
سَلهبٌ شَرْجبٌ كأنَّ رِماحاً ... حَمَلتْهُ وَفِي السَّراةِ
دُموجُ1
انظرْ إلى التنكيرِ في قولِه "كأن رماحًا".
ومثل قول ابن البواب:
أَتيتُكَ عائذاً بكَ مِنْـ ... ـكَ لمَّا ضاقَتِ الحِيَلُ
وصَيَّرني هواكَ وبي ... لَحَيْني يُضْرَبُ المَثَلُ
فإنْ سَلِمتْ لكُمْ نَفْسي ... فَما لاقَيْتُهُ جَلَلُ
وإنْ قَتل الهوى رجُلاً ... فإِني ذلك الرَّجُلُ2
أُنُظرْ إِلى الإِشارةِ والتعريفِ في قولهِ: "فإِني ذلك
الرَّجُل".
ومثل قولِ عبدِ الصمد:
مكْتَئِبٌ ذُو كَبدٍ حَرَّى ... تَبْكي عليهِ مُقلَةٌ عَبْرى
يَرْفعُ يُمنْاهُ إِلى رَبِّه ... يَدْعو وفوقَ الكبد اليسرى3
__________
1 في ديوانه "دراسات في الأدب العربي": 299، يصف فرسًا،
"أحوذي"، خفيف سريع العدو، "ذو ميعة"، ذو نشاط في حضره وعدوه،
"إضريج"، جواد كثير العرق، وهو مما يحمد في الخيل. "سلهب"،
طويل على وجه الأرض. و "شرجب"، طويل القوائم عاري أعالي
العظام. و "السراة"، الظهر. و "دموج" ملاسة واجتماع وإحكام.
2 نسبه هنا لابن البواب، ونسبه في الأغاني 6: 168، 169
"الدار". لسليم بن سلام الكوفي المغني صاحب إبراهيم الموصلي،
ونسبه المرزباني في نور القبس: 87 إلى اليزيدي "عبد الله بن
يحيىبن المبارك".
3 هو "عبد الصمد بن المعذل"، والشعر في ديوانه المجموع، وهي في
الزهرة 1: 24، منسوبًا إلى ماني، أربعة أبيات، هذان ثم بعدهما:
(1/91)
انظر إلى لفظة: "يدعو" وإِلى موقعها.
ومثلُ قولِ جرير:
لِمَن الديارُ ببُرقة الرَّوَحانِ ... إِذ لا نَبيعُ زمانَنا
بزمانِ
صَدعَ الغَواني إِذْ رَمَيْنَ، فؤادَهُ ... صَدْعَ الزجاجة
مالذاك تَدانِ1
أُنظرْ إِلى قوله: "ما لذاك تدانِ"، وتأَمَّلْ حالَ هذا
الاستئناف.
ليس من بصيرٍ عارفٍ بجوهر الكلام، حسَّاس مُتفهِّم لسرِّ هذا
الشأنِ، يُنْشِدُ أو يَقرأ هذه الأبياتَ، إلاَّ لم يلبثْ أَنْ
يضَعَ يدَه في كلَّ بيتٍ منها على الموضِع الذي أشرتُ إليه،
يَعْجَبُ ويُعَجِّب ويُكْبِر شأنَ المزيةِ فيه والفضْلَ.
__________
يبقى إذا كلمته باهتًا ... ونفسه مما به سكرى
تحسبه مستمعًا ناصتًا ... وقلبه في أمة أخرى
1 في ديوانه.
(1/92)
في النظم يتحد في الوضع، ويدق فيه الصنع:
فصل: "في النظم يتحد في الوضع، ويدق فيه الصنع" 1
شواهد أخرى على دقة النظم:
83 - واعلمْ أنَّ ممَّا هو أَصلٌ في أنَ يدِقَّ النظرُ،
ويَغْمُضَ المَسْلكُ، في توخِّي المعاني التي عرفتَ: أنْ
تتَّحِدَ أجزاءُ الكلامِ ويَدخلَ بعضُها في بعضٍ، ويشتدَّ
ارتباطُ ثانٍ منها بأول، وأن تحتاج في الجِملة إِلى أن تضَعَها
في النفس وضعًا واحد ًا، وأن يكونَ حالُكَ فيها حالَ الباني
يَضعُ بيمينه ههنا في حالِ ما يَضَعُ بيَسارِه هناك. نَعم، وفي
حالِ ما يُبْصر مكانَ ثالثٍ ورابعٍ يَضعُهما بَعْدَ
الأَوَّلَيْن. وليس لِما شأْنهُ أن يجيءَ على هذا الوصفِ حَدٌّ
يَحْصرُه، وقانونٌ يُحيطُ به، فإِنه يجيءُ على وجوهٍ شتَّى،
وأنحاءَ مختلفةٍ.
فمن ذلك أن تُزاوِجَ بينَ معنيينِ في الشرط والجزاء معاً، كقول
البحتري:
إِذا ما نَهى النّاهِي فلجَّ بيَ الهوى، ... أصاختْ إِلى
الوَاشِي فلجَّ بها الهجرُ2
وقوله:
إذا احتريت يومًا ففاضت دماؤها، ... تذكره القرى ففاضتْ
دموعُها
فهذا نوعٌ.
ونوعٌ منه آخرُ، قول سليمان بن داود القضاعي:
__________
1 هذا السطر ليس في المخطوطتين "ج"، و "س".
2 الشعر والذي بعده في ديوانه.
(1/93)
فبينا المرءُ في علياءَ أَهْوى ...
ومُنْحطِّ أُتيحَ له اعتلاء
وبينا نعمة إذا حال بوس ... وبوس إذا تَعقَّبَه ثَراءُ1
ونوعُ ثالثٌ وهو ما كانَ كقول كثير:
وإِنّي وتَهيامي بعَزّة بعدما ... تخلَّيْتُ مما بَيْنَنا
وتخلَّتِ
لَكالْمُرْتَجي ظلَّ الغمامةِ كلمَّا ... تَبَوَّأَ مِنها
لِلْمَقيلِ اضْمَحلَّتِ2
وكقول البحتري:
لعَمرُكَ إنَّا والزمانُ كما جَنَتْ ... على الأَضْعفِ الموهون
عاديةُ الأَقْوى3
ومنه "التقسيمُ"، وخُصوصاً إِذا قسمت ثم جمعت، كقول حسان:
قَومٌ إِذا حارَبوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمُ ... أوْ حاوَلوا
النفْعَ في أَشياعِهمْ نَفْعوا
سَجِيَّةٌ تلك منهمْ غيرُ مُحْدَثةٍ ... إنَّ الخلائقَ،
فاعْلمْ، شرُّها البِدَعُ4
ومن ذلك، وهو شيءٌ في غايةِ الحُسْن، قول القائل:
لو أنَّ ما أنتمُ فيهِ يدَومُ لكُمْ ... ظنَنْتُ ما أنا فيهِ
دائِماً أَبدا
لكنْ رأيتُ اللَّيالي غيرَ تاركةٍ ... ما سَرَّ مِنْ حادثٍ أوْ
ساءَ مُطَّرِدا
فقد سكَنْتُ إِلى أني وأنكم ... سنستجد خلاف الحالتين غدا5
__________
1 لا أعرف الشاعر.
2 في ديوانه.
3 في ديوانه. في المطبوعة، وفي المخطوطتين "حنت"، وتحت الحاء
حاء صغيرة دلالة على الإهمال، والصواب ما في الديوان.
4 في ديوانه، وفي "س": "تلك فيهم".
5 لم أعرف بعد قائله "على شهرة الشعر".
(1/94)
قوله: "سنستجد خلاف الحالتين غدًا"، جميع
فيما قسَمَ لطيفٌ، وقد ازدادَ لُطفاً بحُسنِ ما بَناه عليه،
ولُطْفِ ما توصَّل به إِليه من قولِه: "فقد سكنتُ إِلى أنَّي
وأنكم".
84 - وإذْ قد عرفتَ هذا النمطَ منَ الكلام، وهو ما تتَّحِدُ
أَجزاؤه حتى يُوضَعَ وَضْعاً واحداً، فاعلمْ أَنه النمطُ
العالي والبابُ الأَعْظم، والذي لا تَرى سلطانَ المزيةِ
يَعْظُم في شيءٍ كَعِظَمه فيه.
وممَّا نَدرَ منه ولطُفَ مأْخذُه، ودقَّ نظرُ واضعِه، وجلَّى
لكَ عن شأوٍ قد تحسر دونه العِتاقُ، وغايةٍ يعيى من قبلها
المذاكي الفرح1 الأبيات المشهورة في تشبيه شيئين بشيئين، كبيت
امرئ القيس:
كأنَّ قُلوبَ الطيرِ رَطْباً ويابساً ... لَدى وَكْرِها العناب
والحشف البالي2
وبيت الفرزدق:
والشيبُ يَنْهضُ في الشَّبابِ كأنَّهُ ... ليَلٌ يَصِيحُ
بجانبيه نهار3
__________
1 "العتاق" يعني الخيل العتاق، و "المذاكي" جمع "المذكى"، وهي
من الخيل الجياد التي بغلت الذكاء، وهي سن القروح، و "القرح"،
جمع "قارح"، وهو من الخيل ما بلغ خمس سنين، وتم تمامه.
2 في ديوانه، وفي المطبوعة: "بيت امرئ القيس" وفي "س": "كقول
امرئ القيس"، والذي أثبته أرجح وأمضى في السياق.
3 في ديوانه، وفي هامش المخطوطة "ج"، "يصبح، أي يطرده من كلا
جانبين [كقوله]:
فدع عنك نهبًا صيح في حجراته
"على هذا المعنى نفسه، فقال .... فلافت بصحراء ... " الكلام
متآكل.
(1/95)
وبيت بشار:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنَا، لَيْلٌ تَهَاوى
كواكِبُهْ1
ومِمّا أَتى في هذا الباب مأْتىً أَعْجَبَ مِمّا مَضَى كله،
قوله زياد الأعجم:
وإِنّا وما تُلقِي لَنا إنْ هجَوْتَنا ... لَكالبحر مَهْما
يُلْقَ في البَحْرِ يَغْرقِ2
وإِنَّما كان أعجبَ، لأنَّ عمله أدقُّ، وطريقَه أغمضُ، ووجهَ
المُشابكةِ فيه أغربُ3.
85 - واعلمْ أنَّ مِن الكلام ما أنتَ تَعلمُ إِذا تدبَّرْتَهُ
أنْ لم يحتجْ واضعُه إِلى فكْرٍ ورويّةٍ حتى انتظَمَ، بل ترى
سبيلَه في ضمِّ بعضِه إِلى بعضٍ، سبيلَ مَنْ عمدَ إِلى لآلٍ
فخرَطَها في سلك، لا يبغي أكثر من يَمْنعَها التفرُّقَ5،
وكمَنْ نَضَدَ أشياءَ بعضُها على بعضٍ، لا يُريد في نَضَده
ذلكَ أن تجيء له منه
__________
1 في ديوانه.
2 الأغاني 15: 392 "الدار"، وذلك حين أخبره الفرزدق أنه هم أن
يهجو قومع عبد القيس، فاسمهله زياد وقال له: كما أنت، حتى
أسمعك شيئًا، فقال:
وما تركالهاجون لي إن هجوته ... مصحًا أراه في أديم الفرزدق
وإنا وما تهدي لنا إن هجوتنا ... .......................
فقال له الفرزدق: حسبك، هلم نتتارك. قال زياد: ذاك إليك!
3 في المطبوعة، "ووجه المشابهة"، وليست بشيء.
4 "له" ساقطة في المطبوعة.
5 في المطبوعة: "لا ينبغي"، وهو خطأ ظاهر.
(1/96)
هيئةٌ أو صورةٌ، بل ليس إلاَّ أنْ تكونَ
مجموعةً في رأْي العينِ. وذلك إِذا كان معناك، معنى لا تحتاج
أن تَصْنَعَ فيه شيئاً غيرَ أنْ تَعْطِفَ لفَظاً عَلَى مثلهِ،
كقولِ الجاحظ:
"جنّبَكَ اللهُ الشبهةَ، وعصَمَكَ منَ الحَيْرة، وجعَلَ بينكَ
وبينَ المعرفةِ نَسَباً، وبينَ الصِّدْق سَبَباً، وحبَّبَ
إِليك التثبُّتَ، وزَيَّن في عينكَ الإنصافَ، وأذاقَكَ حلاوةَ
التَّقوى، وأشْعَرَ قلبَكَ عزَّ الحقِ، وأوْدَعَ صدْرَكَ برْد
اليقينِ، وطردَ عنك ذُلَّ اليأسِ، وعرَّفَكَ ما في الباطلِ منَ
الذَّلَّة، وما في الجهل من القِلَّة"1.
وكقولِ بعضِهم: "للهِ دَرُّ خطيبٍ قامَ عندكَ، يا أميرَ
المؤمنين، ما أفصحَ لسانَه، وأحسَنَ بيانَه، وأَمضى جَنانَه،
وأَبلَّ ريقَه، وأسهلَ طريقَة".
ومثلِ قولِ النابغةِ في الثّناءِ المسجوع: "أيفاخِرُك الملكُ
اللخميُّ، فواللهِ لقَفاكَ خيرٌ من وجَهْهِ، ولَشِمالُكَ خيرٌ
من يَمينه، ولأَخْمَصُكَ خيرٌ من رأْسه، ولَخَطَؤكَ خيرٌ من
صَوابه، ولَعِيُّك خيرٌ من كلامه، ولَخَدَمُكَ خيرٌ من
قَوْمه".
وكقولِ بعضِ البلغاء في وصف اللسانِ: "اللسانُ أداةٌ يظَهر بها
حُسْنُ البيان، وظاهرٌ يُخْبِر عنِ الضمير، وشاهدٌ يُنبئكَ عن
غائبٍ، وحاكِم يُفْصَل بهِ الخِطابُ، وواعظٌ يَنْهى عن
القَبيحِ، ومُزَيِّنٌ يَدعو إِلى الحُسْن، وزارعٌ يَحْرثُ
المودَّة، وحاصدٌ يحصِدُ الضَّغينة، ومُلْهٍ يُونِق الأسماع".
__________
1 مقدمة كتاب الحيوان للجاحظ 1: 3.
(1/97)
فما كانَ من هذا وشَبَهه لم يَجِبْ به
فضْلٌ إِذا وجَبَ، إلاَّ بمعناهُ أو بمُتون أَلفاظِه، دونَ
نَظْمه وتأليفه، وذلك لأنه لا فضيلةَ حتى تَرى في الأمرِ
مَصْنعاً، وحتى تَجدَ إِلى التخيُّر سبيلاً، وحتى تكونَ قد
استدركْتَ صَواباً.
86 - فإِن قلْتَ: أفلَيْسَ هو كلاماً قد اطَّرد على الصَّواب،
وسَلِم من العَيْب؟ أَفَما يكونُ في كثرةِ الصوابِ فضيلةٌ؟
قيلَ: أَمّا والصوابُ كما تَرى فَلاَ. لأنَّا لَسْنا في ذكْر
تقويمِ الِلسان، والتحرُّز منَ اللحن وزيغ الإعراب، فتعتد
بمثلِ هذا الصَّواب. وإِنما نحن في أمورٍ تُدرَك بالفِكَر
اللطيفةِ، ودقائقَ يُوصلُ إِليها بثاقِب الفهم، فليس درك صواب
دركًا يما نحنُ فيه حتى يَشْرُفَ موضعُه، ويَصعُبَ الوصولُ
إِليه وكذلك لا يكونُ تَرْكُ خطأٍ تَرْكاً حتى يُحتاجَ في
التحفُّظِ منه إِلى لُطْف نظَرٍ، وفَضْل رويةٍ، وقوةِ ذهنٍ،
وشدةِ تيقظٍ. وهذا بابٌ يَنبغي أَن تُراعِيَه وأن تُعْنى به،
حتى إِذا وازنْتَ بينَ كلامٍ وكلامٍ ودريتَ كيفَ تَصْنعُ،
فضمَمْتَ إِلى كلَّ شَكْلٍ شكْلَه، وقابلْته بما هو نظيرٌ له،
وميَّزْتَ ما الصَّنعةُ منه لفي لفظه، مما هو منه في نظمه.
المزية في اللفظ والمزية في النظم كيف تشتبه:
87 - واعلمْ أنَّ هذا أعني الفرقَ بينَ أن تكونَ المزيةُ في
اللفظِ، وبينَ أن تكونَ في النظم بابٌ يَكْثُر فيه الغَلطُ،
فلا تزَالُ تَرى مُستحسِناً قد أخطأَ بالاستحسانِ موضعَه،
فينَحَلُ اللفظَ ما ليسَ له، ولا تزالُ تَرى الشُّبهةَ قد
دخلتْ عليك في الكلامِ قد حَسُنَ من لفظِه ونظمهِ، فظننْتَ
أنَّ حُسْنه ذلك كلَّه لِلَّفظِ منه دونَ النظْم.
88 - مثالُ ذلك، أن تنظرَ إِلى قولِ ابن المعتز:
وإني على إشفاق عيني من العِدى ... لتجمح مني نظرة ثم أطرق1
__________
1 في ديوانه، "باب الغزل".
(1/98)
فترى أنَّ هذه الطُلاَوةَ وهذا الظَّرْفَ،
إِنَّما هو لأنْ جعلَ النظرَ "يجمحُ" وليس هو لذلك، بل لأَنْ
قالَ في أول البيت "وإنِّي" حتى دخلَ اللامُ في قولِه "لتجمحُ"
ثم قولُه: "مني" ثم لأنْ قالَ "نظرةٌ" ولم يقل "النَّظرُ"
مثلاً ثم لمكانِ "ثمَّ" في قولِه: "ثم أُطرق" وللطيفةِ أخرى
نصرتْ هذه اللطائفَ، وهي اعتراضُهُ بينَ اسم "إنَّ" وخبرها
بقوله: "على إشفاق عيني من العدي".
89 - وإِنْ أردتَ أعجبَ من ذلك فيما ذكرتُ لك، فانظرْ إِلى
قولِه وقد تقدَّم إِنشادُه قَبْلُ:
سالتْ عَلَيْهِ شِعابُ الحيِّ حينَ دَعا ... أَنْصَارَهُ
بوجوهٍ كالدنانيرِ1
فإنَّكَ تَرى هذه الاستعارة، على لُطْفها وغَرابتها، إِنَّما
تَمَّ لها الحسْنُ وانتهى إِلى حيثُ انتهى، بما تُوخِّيَ في
وضْع الكلامِ من التقديمِ والتأخيرِ، وتَجدُها قد مَلُحَتْ
ولَطُفتْ بمعاونةِ ذلك ومؤازرتِه لها. وإن شكَكْتَ فاعمدْ إِلى
الجارَّيْن والظَّرْف، فأَزِلْ كلآ منها عن مكانِه الذي وضَعَه
الشاعرُ فيه، فقلْ: "سالتْ شعابُ الحيَّ بوجوهٍ كالدَّنانير
عليه حين دعا أنصارَهُ"، ثم انظرْ كيفَ يكونُ الحالُ، وكيف
يَذهبُ الحسْنُ والحلاوةُ؟ وكيف تَعْدَم أرْيَحِيَّتَكَ التي
كانت؟ وكيف تَذْهب النشوةُ التي كُنتَ تجدُها؟
90 - وجُملُة الأمر أن ههنا كلاماً حُسْنُه لِلَّفظ دونَ
النظمِ، وآخرَ حُسْنُه للنَّظمِ دونَ اللفظِ، وثالثاً قد أتاهُ
الحسنُ من الجهتين2، ووجبت له
__________
1 مضى في رقم: 68، والذي هنا يوهم أن الشعر لابن المعتز.
2 في المطبوعة "قرى الحسن" جمعه، والذي أثبته هو من "س"، ونسخة
عند رشيد رضا، وفي "ج": "قد الحسن" أسقط "أتاه".
(1/99)
المزيةُ بكلا الأمرينِ. والإِشكالُ في هذا
الثالثِ، وهو الذي لا تَزالُ تَرى الغلَطَ قد عارضَك فيه،
وتَراكَ قَد حِفْتَ فيه على النَّظم1، فتركْتَه وطمحْتَ
ببصرِكَ إِلى اللفظِ، وقدَّرْتَ في حُسْنٍ كان به وباللفظِ،
أَنه لِلَّفظِ خاصَّة. وهذا هوَ الذي أردتُ حين قلتُ لك: "إنَّ
في الاستعارةِ ما لا يُمكنُ بَيانُه إلاَّ مِنْ بَعد العلمِ
بالنظْم والوقوفِ على حقيقته".
مثال على ما تقع الشبهة فيه بين اللفظ والنظم:
91 - ومن دقيقِ ذلك وخَفِيِّه، أنكَ ترى الناسَ إِذا ذَكَروا
قولَه تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4]، لم
يَزيدوا فيه على ذِكْرِ الاستعارةِ، ولم ينسبوا الشرف لا
إِليها، ولم يَرَوا لِلمزيَّة مُوجِباً سِواها، هكذا ترى الأمر
في ظ اهر كلامِهمْ. وليس الأَمرُ على ذلك، ولا هذا الشَّرفُ
العظيمُ، ولا هذه المزيةُ الجليلةُ، وهذه الرَّوعةُ التي تدخلُ
على النُّفوس عند هذا الكلامِ لمجرَّدِ الاستعارة، ولكن لأنْ
سُلِك بالكلام طريقُ ما يسندُ الفعْلُ فيه إِلى الشيءِ2، وهو
لِما هو من سَبَبِهِ، فيُرفعُ به ما يُسند إِليه، ويُؤتى بالذي
الفعلُ له في المعنى منصوباً بَعده، مبيناً أنَّ ذلك الإِسنادَ
وتلك النسبةَ إِلى ذلك الأولِ، إِنَّما كانا من أجلِ هذا
الثاني، ولما بينَه وبينَه منَ الاتَّصالِ والملابسةِ، كقولهم:
"طابَ زيدٌ نفساً"، و "قر عمرو عينًا"، و "تصبب عرقًا"، و "كرم
أصلًا"، و "حسن وجْهاً" وأشباهِ ذلك مما تَجِد الفعلَ فيه
منقولاً عن الشيء إِلى ما ذلك الشيءُ من سببهِ.
وذلك أَنَّا نَعلم أَنَّ "اشتعل" للشيبِ في المعنى، وإنْ كانَ
هو للرأسِ في اللفظ، كما أنَّ "طاب" للنفس، و "قر" للعين، و
"تصبب" للعرق، وإن
__________
1 "حاف عليه"، جار عليه وظلمه.
2 في المطبوعة: "لأن يسلك"، وهي لا شيء.
(1/100)
أُسِند إِلى ما أُسنِد إِليه. يُبَيِّنُ
أنَّ الشرَفَ كان لأَن سُلِكَ فيه هَذا المسلكُ، وتُوُخَّيَ به
هذا المذهبُ أنْ تَدَع هذا الطريقَ فيه1، وتأخذَ اللفظَ
فتُسنِده إِلى الشَّيب صريحاً فتقول: "اشتعلَ شَيبُ الرأسِ"،
أو "الشيبُ في الرأس"، ثم تنظر هل تَجدُ ذلك الحُسْنَ وتلك
الفخامَة؟ وهل تَرى الروعةَ التي كنتَ تَراها؟
92 - فإِن قلْتَ: فما السببُ في أَنْ كان "اشتعلَ" إِذا
استُعيرَ للشَّيْب على هَذا الوجهِ، كان لهُ الفضْلُ؟ ولمَ
بانَ بالمزيَّةِ منَ الوَجهِ الآخرِ هذه البَيْنُونَة؟
فإنَّ السببَ أَنَّه يُفيدُ، معَ لمَعانِ الشيبِ في الرأسِ
الذي هو أَصْلُ المعنى، الشُّمولَ2، وأَنَّه قد شاعَ فيه،
وأَخذَه من نواحيهِ، وأنه قد استغرقه وعمَّ جُمْلَتَه3، حتى لم
يَبْقَ من السَّوادِ شيءٌ، أوْ لم يبْقَ منه إلاَّ ما لا
يُعْتَدُّ به. وهذا ما لا يكونُ إِذا قيلَ: "اشتعلَ شَيبُ
الرأسِ، أو الشيبُ في الرأس"، بل لا يُوجِبُ اللفظُ حينئذٍ
أكثرَ مِنْ ظهورهِ فيه على الجُملة. وَوِزانُ هذا أنك تقولُ:
"اشتعلَ البيْتُ ناراً"، فيكونُ المعنى: أنَّ النارَ قد
وقَعَتْ فيه وُقوع الشُّمولِ، وأنَّها قد استولَتْ عليه
وأخذَتْ في طرفَيْه ووَسَطِه. وتقولُ: "اشتعلتِ النارُ في
البيت"، فلا يُفيد ذلك، بل لا يُقْتضَى أكثرُ من وقوعِها فيه،
وإِصابتها جانباً منه. فأمَّا الشُّمول. وأنْ تكونَ قد استولتَ
على البيت وابتزته، فلا يعقل من اللفظ البتة.
__________
1 "أن تدع" فاعل "يبين" أي يبين ذلك أن تترك هذا الطريق.
2 السياق: ..... أنه يفيد .... الشمول".
3 في المطبوعة: "استقر به"، وفي نسخة عند رشيد رضا: "استعر
فهي"، وكلاهما لا شيء.
(1/101)
93 - ونَظيرُ هذا في التَّنزيلِ قولُه عزَّ
وجَلَّ: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} [القمر: 12]،
"التفجيرُ" للعيون في المعنى، وأَوْقَعُ على الأرضِ في اللفظ،
كما أُسنِد هناك الاشتعالُ إِلى الرأس، وقد حصَلَ بذلك منْ
معنى الشُّمول ههنا، مثْلُ الذي حصلَ هناك. وذلك أَنَّه قد
أَفادَ أنَّ الأرضَ قد كانت صارتْ عُيوناً كلُّها، وأنَّ
الماءَ قد كان يَفُور مِنْ كلَّ مكانٍ منها. ولو أُجريَ اللفظُ
على ظاهرهِ فقيلَ: "وفجَّرْنا عيونَ الأرضِ، أو العيونَ في
الأرض"، لم يُفِد ذلك ولم يَدُلَّ عليه، ولَكانَ المفهومُ منه
أنَّ الماءَ قد كان فارَ من عيونٍ متفرقةٍ في الأرض، وَتَبجَّس
مِن أماكنَ منها.
واعلمْ أَنَّ في الآيةِ الأُولى شيئاً آخرَ من جنْس "النظّم"،
وهو تَعريفُ الرأسِ" بالأَلِف واللاَّم، وإفادةُ معنى الإضافةِ
من غَيْر إضافةٍ، وهو أَحدُ ما أوجبَ المزيَّةَ. ولو قيل:
"واشتعلَ رأسي"، فصُرَّحَ بالإضافة، لذهب بعض الحسن، فاعرفه.
مثال آخر لذلك في الاستعارة:
94 - وأنا أكتبُ لك شيئاً مما سَبيلُ "الاستعارةِ" فِيه هذا
السبيلُ، ليَستحْكِمَ هذا البابُ في نفسِك، ولِتأْنَسَ به.
فمِن عجيبِ ذلك قولُ بعض الأعراب:
اللَّيْلُ داجٍ كَنَفا جِلْبابِهِ ... والبَيْنُ مَحْجورٌ على
غُرَابهْ1
ليس كلُّ ما تَرى منَ الملاحَةِ لأنْ جعلَ لِلَّيل جلباباً،
وحَجَر على الغرابِ، ولكنْ في أنْ وضعَ الكلامَ الذي تَرى،
فَجعلَ "الليلَ" مبتدأ، وجعل "داجٍ" خبراً له وفعلاً لما بعده
وهو "الكنفانُ"، وأضافَ "الجلبابَ" إلى
__________
1 في "ج"، "والليل محجور"، كأنه سهور من الناسخ.
(1/102)
ضميرِ "الليل"، ولأنْ جعلَ كذلك "البينُ"
مبتدأ، وأجرى محْجوراً خبراً عنه1، وأنْ أخرجَ اللفظَ عَلَى
"مفعولٍ". يُبيِّنُ ذلك أَنَّكَ لو قلْتَ:
"وغرابُ البينِ محجورٌ عليه، أو: قد حُجرَ على غُرابِ البين"،
لم تجد لههذه المَلاحة. وكذلك لو قلتَ: "قد دَجا كَنَفَا
جلبابِ اللَّيل"، لم يكنْ شيئاً.
95 - ومن النَّادِر فيه قول المتنبي:
غَصَبَ الدهرَ والملوكَ عَلَيْها ... فَبنَاها في وَجْنة
الدَّهرِ خَالا2
قد تَرى في أَول الأمرِ أنَّ حُسْنه أَجْمَع في أنْ جَعلَ
للدَّهرِ "وَجْنةً"، وجَعَلَ البُنيَّة "خالاً" في الوجنة3،
وليسَ الأَمرُ على ذلك، فإنَّ مَوْضعَ الأُعجوبةِ في أنْ
أَخْرج الكلام مخْرجَهُ الذي تَرى، وأَنْ أَتَى "بالخالِ"
منصوباً على الحال من قوله "فَبنَاها". أفَلاَ ترى أَنك لو
قُلْتَ: "وهي خالٌ في وَجْنة الدَّهر"، لوجدْتَ الصورة غيرَ ما
تَرى؟ وشبيهٌ بذلك أنَّ ابنَ المعتزَّ قال:
يا مِسْكةَ العطَّارِ ... وخالَ وَجْهِ النهارِ4
وكانت المَلاحَةُ في الإِضافةِ بعد الإضافة، لا في استعارةِ
لفظةِ "الخالِ" إذْ معلومٌ أَنه لو قالَ: "يا خالا في وجهِ
النهار" أو "يا مَنْ هو خالٌ في وجْه النهار"، لم يكن شيئًا.
__________
1 في "ج": "خبرًا عليه".
2 في ديوانه.
3 "البنية"، البناء، يعني قلعة الحدث التي بناها سيف الدولة،
وهو يقاتل الروم في سنة 344 هـ.
4 في ديوانه، "باب الأوصاف والذم والملح"، بقوله لجارية سوداء.
(1/103)
ما يقال في تتابع الإضافات:
96 - ومِنْ شأنِ هذا الضربِ أن يَدْخلَه الاستكراهُ، قال
الصاحبُ: "إياكَ والإضافاتِ المُتَداخلةَ1، فإنَّ ذلك لا
يَحْسُن"، وذكَر أَنَّه يُستعملُ في الهجاء كقول القائل:
يا عليُّ بنُ حمزةَ بنِ عمارَةْ ... أنتَ والله ثلجة في خياره2
ولا شبهة فيثقل ذلك في الأَكثر، ولكنه إِذا سَلِمَ منَ
الاستكراهِ لطُفَ ومْلحَ.
ومما حَسُنَ فيه قولُ ابن المعتز أيضًا؟
وظَلَّتْ تُديرُ الراحَ أَيْدي جآذرٍ ... عتاقِ دَنانيرِ
الوجوهِ مِلاحِ3
ومما جاءَ منه حَسَناً جميلاً قول الخالدي في صفة غلام له:
ويَعرِفُ الشِّعْرَ مثْلَ مَعْرِفَتي ... وهْو عَلَى أنْ يزيد
مجتهد
وصيرفي القريض، وزان دينار المـ ... ـعاني الدقاق، منتقد4
ومنه قول أبي تمام:
خُذْها ابْنَةَ الفكْرِ المهذَّب في الدُّجى ... والليلُ
أَسْوَدُ رُقْعَةِ الجِلْبابِ5
97 - ومما أكثرُ الحُسْنِ فيه بسبب النظم، قول المتنبى:
__________
1 في المطبوعة وحدها: "المتداخلة".
2 "علي بن حمزة بن عمارة الأصفهاني"، له ترجمة في معجم الأدباء
لياقوت.
3 في ديوانه، "باب الشراب"، وفي "ج": "يدير الكأس".
4 ديوان: الخالدين: 122، من شعر له في غلامه "رشأ"، و
"الخالدي" هو أحد الأخوين: "أبو عثمان سعيد بن هاشم الخالدي".
5 في ديوانه.
(1/104)
وقَيَّدتُ نَفْسي في ذَرَاك مَحَبةً ...
ومَنْ وَجَدَ الإِحسانَ قَيْداً تَقيَّدا1
الاستعارةُ في أصْلها مُبْتذلة معروفةٌ، فإنَّك ترَى العاميَّ
يقولُ للرجل يَكْثُر إحسانُه إِليه وَبرُّهُ له، حتى يألَفَه
ويختارَ المقامَ عنده: "قد قيَّدني بكثرةِ إِحسانِه إليَّ،
وجميلِ فِعْله معي، حتى صارتْ نَفسي لا تُطاوِعُني على الخروجِ
من عنْدِه"، وإِنّما كان ما تَرى منَ الحُسْن، بالمَسْلك الذي
سلَكَ في النظم والتأليف.
(1/105)
|