دلائل الإعجاز ت شاكر الفروق في الخبر
"تقسيمه":
فصل 1: القول على فروق في الخبر
الخبر الذي هو جزء من الجملة والخبر الذي ليس بجزء منها:
179 - أَولُ2 ما ينبغي أن يُعْلَم منه أنَّه يَنقسمُ إلى خَبرٍ
هو جُزءٌ من الجملةِ لا تَتمُّ الفائدةُ دونَه3، وخَبرٍ ليس
بجزءٍ منَ الجملة، ولكنه زيادةٌ في خَبرٍ آخرَ سابقٍ له.
فالأولُ خبرُ المبتدأ، كمُنْطَلِقٌ في قولك: "زيدٌ مُنْطلقٌ"،
والفعلُ كقولك: "خرجَ زيدٌ"، فكلُّ واحدٍ من هذين جزءٌ منَ
الجملة، وهو الأَصْل في الفائدة والثاني هو الحالُ: كقولك:
"جاءني زيدٌ راكباً"، وذاكَ لأنَّ الحالَ خبرٌ في الحقيقة،
مِنْ حيثُ إنك تُثْبتُ بها المعنى لذي الحالِ، كما تثبتُ بخبرِ
المبتدأ للمبتدأ، وبالفِعْل للفاعل4. ألاَ تَراكَ قد أَثبتَّ
"الركوبَ" في قولَك: "جاءني زيدٌ راكباً" لزيدٍ؟ إلاَّ أنَّ
الفَرْقَ أنك جئْتَ به لتزيدَ معنًى في إخباركَ عنه بالمجيءِ،
وهو أن تَجْعلَه بهذه الهيئة في مجيئهِ، ولم تُجرِّدْ إثباتَكَ
للركوب ولم تُباشِرْه، به، بل ابتدأَتَ فأَثبتَّ المجيءَ، ثمَّ
وصلْتَ به الركوبَ فالتبسَ به الإثباتُ على سبيل التَّبَع
للمجيءِ، وبشَرْط أنْ يكونَ في صِلَته. وأمَّا في الخبر المطلق
نحو: "زيد منطلق" و "خرج عمرو"، فإنك مُثْبِتٌ للمعنى إثباتاً
جرَّدْتَه له، وجعلْتَه يُباشِرُه من غيرِ واسطةٍ، ومن غيرِ
أَن تتسبب بغيره إليه، فأعرفه.
__________
1 "فصل"، ليست في "ج" ولا "س".
2 هذه الفقرة رقم: 179، سيأتي بنصها في الفقرة رقم: 241.
3 في المطبوعة وحدها: "أنه يقسم .... ".
4 في المطبوعة وحدها: "كما ثبته".
(1/173)
الفروق في الخبر:
الاسم والفعل في الإثبات
180 - وإذْ قد عرَفْتَ هذا الفرْقَ، فالذي يَليه من فُروق
الخَبَر، وهو الفرْقُ بينَ الإثباتِ إذا كان بالاسم، وبيْنَه
إذا كانَ بالفعلِ. وهو فرقٌ لطيفٌ تَمسُّ الحاجة في علم
البلاغة إليه.
الفرق بين الخبر إذا كان بالاسم، وإذا كان بالفعل، وأمثلتها:
181 - وبيانُه، أنَّ موضوعَ الاسم على أن يُثْبَتَ به المعنى
للشيءِ من غيرِ أن يَقتَضي تجدُّده شيئاً بعْدَ شيء.
182 - وأما الفعلُ فموضوعُه على أنه يقتضي تَجدُّدَ المعنى
المُثْبَت به شيئاً بعْدَ شيء"1.
فإذا قلتَ: "زيدٌ منطلقٌ"، فقد أَثبتَّ الانطلاقَ فعْلاً له،
من غيرِ أن تجعلَه يَتجدَّد ويَحْدُثُ منه شيئاً فشيئاً، بل
يكونُ المعنى فيه كالمعنى في قولك: "زيد طويل"، و "عمرو قصير":
فكما لا تقصد ههنا إلى أن تَجعل الطولَ أو القِصَر يتجدَّد
ويَحدثُ، بل تَوجِبُهما وتُثْبِتُهما فقط، وتَقْضي بوجوِدهما
على الإطلاقِ، كذلك لا تتعرَّضُ في قولك: "زيدٌ منطلقٌ"
لأكْثَرَ مِن إثباتِهِ لِزَيد.
183 - وأمَّا الفعلُ، فإنهُ يُقْصَدُ فيه إلى ذلك، فإذا قلتَ:
"زيدٌ ها هو ذا يَنْطلقُ"، فقد زَعمْتَ أنَّ الانطلاقَ يقعُ
منه جُزءاً فجزءاً، وجعلْتَهُ يُزاوله ويُزَجِّيه.
184 - وإنْ شئتَ أن تُحِسَّ الفرْقَ بينهما مِنْ حيثُ
يَلْطُفُ، فتأملْ هذا البيت:
لا يأْلَفُ الدِّرْهَمُ المَضْرُوبُ خِرقَتَنا، ... لكِنْ
يَمُرُّ عليها وهو منطلق2
__________
1 هذه الفقرة ساقطة من "س".
2 قائلة النضر بن جؤبة، في معاهد التنصيص 1: 207، وشرح الواحدي
على ديوان المتنبي: 157، وفي المطبوعة وحدها "صرتنا".
(1/174)
هذا هو الحُسْنُ اللائقُ بالمعنى، ولو
قلتَه بالفعل: "لكنْ يَمُرُّ عليها وهو ينطلقُ"، لم يحسن.
الفرق بين الخبر صفة مشبهة، والخبر إذا كان فعلا:
185 - وإذا أردت أن تعتبره حيث لا يَخْفى أَنَّ أحدَهما لا
يَصْلُح في موضعِ صاحبهِ1، فانظرْ إلى قولِه تعالى:
{وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف: 18]،
فإنَّ أَحداً لا يَشكُّ في امتناعِ الفعلِ ههنا، وأنَّ قولَنا:
"كَلبُهم يبسُطُ ذراعَيه"، لا يؤدِّي الغرضَ، وليس ذلك إلاَ
لأنَّ الفعلَ يقتضي مزاولةَ وتجدُّدَ الصفةِ في الوقتِ،
ويَقْتضي الاسمُ ثُبوتَ الصفةِ وحُصولها من غيرِ أن يكونَ هناك
مُزاولةٌ وتَزْجيةُ فعلٍ، ومعنىً يَحْدُث شيئاً فشيئاً. ولا
فرْقَ بينَ "وكلبهم باسِطٌ"، وبينَ أن يقولَ: "وكلْبُهم واحدٌ"
مثلاً، في أنك لا تُثْبِتُ مُزاولةً، ولا تَجعل الكَلْبَ يفعل
شيئاً، بل تُثْبتِهُ بصفةٍ هو عليها. فالغرضُ إذن تَأديةُ
هيئةِ الكلبِ.
ومتى اعتبرْتَ الحالَ في الصِّفاتِ المشبَّهةِ وجَدْتَ الفرْقَ
ظاهراً بيِّناً، ولم يَعترضْك الشكُّ في أنَّ أحدَهما لا
يَصْلُح في موضعِ صاحبه. فإذا قلتَ: "زيدٌ طويلٌ"، و "عمرو
قصير": لم يصلح مكانه "يطول" و "يقصر"، وإنما تقول: "يطول" و
"يقصر"، إذا كان الحديثُ عن شيءٍ يَزيد ويَنمو كالشجر والنبات
والصبي ونحو ذلك، ومما يتجدَّدُ فيه الطولُ أو يَحْدثُ فيه
القِصَر. فأمَّا وأنتَ تُحدِّثُ عن هيئةٍ ثابتةٍ، وعن شيءٍ قد
استقرَّ طولُه، ولم يكن ثمَّ تَزايدٌ وتجدُّدٌ، فلا يَصْلُح
فيه إلاَّ الاسْمُ.
__________
1 في المطبوعة: "بحيث لا يخفى".
(1/175)
أمثلة الفرق بين الخبر إذا كان فعلا، وبينه
إذا كان اسما:
186 - وإذا ثبت الفرق بين الشيء والشيء في مواضعَ كثيرةٍ1،
وظهرَ الأمرُ، بأَنْ تَرى أحدَهما لا يصْلُح في موضعِ صاحبهِ،
وجَبَ أنْ تقضيَ بثُبوتِ الفرقِ حيثُ تَرى أَحدَهما قد صلُحَ
في مكانِ الآخَرِ، وتَعْلَم أنَّ المعنى مع أحدِهما غَيرُهُ مع
الآخرِ، كما هو العبرةُ في حَمْل الخَفيِّ على الجليِّ.
وينعكسُ لك هذا الحكمُ أَعني أنك كما وجدْتَ الاسمَ يقَعُ حيثُ
لا يَصلُح الفعلُ مكانه، كذلك نجد الفِعْلَ يَقَعُ ثُم لا
يَصلُحُ الاسمُ مكانَه، ولا يؤدِّي ما كانَ يؤديه.
187 - فمن البَيِّنِ في ذلك قول الأعشى:
لعَمْري لقدْ لاحتْ عيونٌ كثيرةٌ ... إلى ضوءِ نارٍ في يَفاع
تَحَرَّقُ
تُشَبُّ لِمَقْرورَين يَصْطَليانِها ... وبات على النار الندى
والمحلق2
معلوم أن لو قيل: "إلى ضوء نارٍ مُتَحَرِّقة"3، لَنَبا عنه
الطبْعُ وأنكرَتْه النفسُ، ثم لا يكونُ ذاك النبوُّ وذاك
الإنكارُ من أجل القافية وأنها تُفْسَد به، بل من جهةِ أنه لا
يُشْبِهُ الغرَضَ ولا يليقُ بالحال.
188 - وكذلك قوله:
أوَ كُلّما وَرَدَتْ عُكاظَ قبيلةُ ... بَعثُوا إلىَّ
عَريفَهُم يَتَوَسَّمَ4
وذاك لأنَّ المعنى في بيتِ الأعشى على أنَّ هناك مُوقِداً
يتجدَّدُ منه الإلهابُ والإشعالُ حالاً فحالاً، وإذا قيل:
"متحرِّقة"، كان المعنى أن هناك نارًا قد
__________
1 في المطبوعة وحدها: "بين الشيئين".
2 في ديوان الأعشى. و "المحلق" بتشديد اللام وكسرها وبفتحها
أيضًا، واسمه "عبد العزى ابن خثم بن شداد بن ربيعة المجنون بن
عبد الله بن أبي بكر بن كلاب"، وسمى "المخلق". لأن فرسًا عضه
في خده عضة كالحلقة.
3 في "ج" و "س": "محرقة".
4 الشعر لطريف بن تميم العنبري، في "الأصمعيات" رقم: 39.
(1/176)
ثَبُتتْ لها وفيها هذه الصفةُ، وجرَى
مَجْرى أن يقالَ: "إلى ضوءِ نارٍ عظيمةٍ" في أنه لا يفيدُ
فعلاً يُفْعل وكذلك الحالُ في قوله:
بعثوا إليَّ عريفهم بتوسم
وذلك لأنَّ المعنى على توسُّم وتأملٍ ونظرٍ يتجدَّد من العَريف
هناك حالاً فحالاً، وتصفُّحٌ منه للوجوه واحداً بعدَ واحدٍ.
ولو قِيل: "بَعثوا إليَّ عريفَهم متوسِّماً"، لم يُفد ذلك حقَّ
الإفادة.
189 - ومن ذلك قولُه تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ
يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 2]، لو
قيلَ: "هل من خالقٍ غيرُ اللهِ رازقٌ لكم"، لكان المعنى غيرَ
ما أُريدَ.
190 - ولا ينبغي أن يَغُرَّكَ أنَّا إذا تكلَّمْنا في مسائل
المبتدأ والخبر قدَّرْنا الفعلَ في هذا النحو تقدير الاسم، كما
تقول، في "زيدٌ يقومُ"، إنه في موضعِ "زيدٌ قائمٌ"، فإنَّ ذلك
لا يَقْتضي أن يستويَ المعنى فيهما استواءً لا يكون من
بَعْدِهِ افتراقٌ، فإنهما لوِ اسْتويا هذا الاستواءَ، لم يكن
أحدُهما فِعْلاً والآخرُ اسماً، بل كان يَنْبغي أن يكون جميعًا
فعلين، أو يكونا اسمين.
(1/177)
الفروق في الخبر:
التعريف والتنكير في الإثبات
من فروق الخبر في الإثبات، وأمثلته:
191 - ومِنْ فروقِ الإثباتِ أنَّك تقولُ: "زيدٌ منْطَلِقٌ" و
"زيدٌ المنطلقُ" و "المنطلقُ زيدٌ"، فيكون لك في كلِّ واحدٍ من
هذه الأَحْوال غَرضٌ خاصٌّ وفائدةٌ لا تكونُ في الباقي. وأَنا
أفسِّر لك ذلك.
192 - إعلمْ أنك إذا قلتَ: "زيدٌ منطلقٌ"، كانَ كلامُك مع مَنْ
لم يعلَمْ أنَّ انطلاقاً كان، لا مِنْ زَيْد ولا مِنْ عَمْرو،
فأنتَ تُفيدُه ذلك ابتداءً.
وإذا قلتَ: "زيدٌ المنطلقُ" كان كلامُك مع مَنْ عَرَفَ أنَّ
انطلاقاً كان، إا من زَيْد وإمّا من عَمرو، فأنتَ تُعْلِمه أنه
كان من زيدٍ دون غيره.
(1/177)
والنُكتةُ أنك تُثْبِتُ في الأول الذي هو
قولك: "زيدٌ منطلقٌ" فِعْلاً لم يَعْلم السامعُ من أصْله أنه
كان، وتُثبتُ في الثاني الذي هو "زيدٌ المنطلقُ" فعْلاً قد
عَلِمَ السامعُ أنَّه كان، ولكنه لم يَعْلَمهُ لِزَيْدٍ،
فأَفَدْتَهُ ذلك. فقد وافقَ الأولَ في المعنى الذي له كانَ
الخبرُ خبراً، وهو إثباتُ المعنى للشيء. وليس يَقْدَح في ذلك
أنكَ كنْتَ قد علمْتَ أنَّ انطلاقاً كان من أحَدِ الرجلين،
لأنك إذا لم تَصِلْ إلى القَطْع على أنه كان من زيدٍ دون عمرو،
وكان حالُك في الحاجةِ إلى من يُثْبته لزيدٍ1، كحالك إذا لم
تَعْلم أنه كانَ من أَصْله.
193 - وتمامُ التحقيق أنَّ هذا كلامٌ يكونُ معك إذا كنتَ قد
بُلِّغْتَ أنه كانَ مِن إنسانٍ انطلاقٌ مِنْ مَوْضعِ كذا في
وَقْتِ كذا لغرضِ كذا، فجوَّزْتَ أنْ يكونَ ذلك كان مِنْ زيدٍ.
فإذا قيلَ لك: "زيدٌ المنطلقُ"، صار الذي كان معلوماً على جهِة
الجواز، معلوماً على جهةِ الوجوبِ. ثم إنهم إذا أرادوا تأكيدَ
هذا الوجوبِ أدْخلوا الضميرَ المسمَّى "فصْلاً" بين الجزءين
فقالوا: "زيدٌ هو المنطلق".
إذا كان الخبر نكرة، جاز أن تعطف على المبتدأ مبتدأ آخر،
وتفصيل ذلك:
194 - ومن الفرق بين المسئلتين، وهو مما تَمسُّ الحاجةُ إلى
معرفتهِ، أنك إذا نكَّرْتَ الخبرَ جازَ أن تأتيَ بمبتدأ ثانٍ،
على أنْ تُشركه بحرفِ العطفِ في المعنى الذي أخبرْتَ به عن
الأوَّل، وإذا عرَّفتَ لم يَجُزْ ذلك.
تفسيرُ هذا أنك تقول: "زيدٌ منطلق وعمرو"، تريدُ "وعمروٌ
منطلقٌ أيضاً"، ولا تقولُ: "زيدٌ المنطلق وعمرو"، ذلك لأنَّ
المعنى مع التعريفِ على أنك أردْتَ أن تُثبت انطلاقاً مخصوصاً
قد كان من واحدٍ، فإذا أَثْبتَّه لزيدٍ لم يَصِحَّ إثباتُه
لعمرو.
__________
1 في المطبوعة وحدها، " ..... من كان يثبته"، وهي زيادة لا خير
فيها.
(1/178)
ثم إنْ كان قد كان ذلك الانطلاقُ من
اثنينٍ، فإنه ينبغي أن تَجْمَع بينهما في الخبر فتقول: "زيد
وعمرو هما المنطلقان"، لا أن تُفرِّق فتُثْبِتَه أولاً لزيد،
ثم تجيء فتُثْبتَه لعمرو.
ومِنَ الواضح في تمثيلِ هذا النحوِ قولُنا: "هو القائلُ بيتَ
كذا"، كقولك: "جريرٌ هو القائل:
ولَيْسَ لِسَيْفي في العِظَامِ بقيّةٌ1
فأنتَ لو حاولتَ أن تُشْرك في هذا الخبرِ غيرَه، فتقولُ:
"جريرٌ هو القائلُ هذا البيتَ وفلانٌ"، حاولت محالًا، لأنه قول
بعينِه2، فلا يُتصوَّر أن يُشرَكَ جريراً فيه غيره.
__________
1 في ديوان جرير، وتمامه:
وللسيف أشوى وقعة من لسانيا
2 في المطبوعة وحدها: "قوله بعينه".
(1/179)
الفروق في الخبر:
القصر في التعريف
الخبر معرفا بالألف واللام، نحو "زيد هو الشجاع"، وتفصيل فروق
الوجه الأول:
195 - وعلم أنكَ تَجد "الأَلف واللامَ" في الخبرِ على معنى
الجنسِ، ثم تَرى له في ذلك وجوهاً:
أحدهما: أن تَقْصُرَ جنْسَ المعنَى على المُخْبَر عنه لقَصْدِك
المبالغةَ، وذلك قولُك: "زيدٌ هو الجوادُ" و"عمرو هو الشجاعُ"،
تريدُ أنه الكاملُ إلاَّ أنكَ تُخْرجُ الكلامَ في صورةٍ تُوهم
أنَّ الجُودَ أو الشجاعةَ لم تُوجَدْ إلا فيه، وذلك لأنك لم
تَعْتَدَّ بما كان مِنْ غَيْره، لقُصوره عن أن يَبْلغَ
الكمالَ. فهذا.
(1/179)
كالأولِ في امتناع العَطْف عليه للإشراك،
فلو قلت: "زيد هو الجواد وعمرو"، كان خَلْفاً من القول.
معنى الوجه الثاني:
196 - والوجُه الثاني: أن تَقْصُرَ جِنسَ المعنى الذي تُفيدُه
بالخبرِ على المُخْبرَ عنه، لا على معنى المبالغة وتَرْك
الاعتدادِ بوجودهِ في غير المخْبَر عنه، بل على دَعوى أنه لا
يُوجَدُ إلا منه. ولا يكونُ ذلك إلاَّ إذا قيَّدت المعنى بشيءٍ
يُخصِّصُه ويجعلُه في حكمِ نوعٍ برأسهِ، وذلك كنحوِ أن يُقيَّد
بالحالِ والوقْتِ كقولك: "هو الوَفِيُّ حينَ لا تَظُنَّ نفسٌ
بنفسٍ خيراً". وهكذا إذا كان الخبرُ بمعنًى يتعدَّى، ثمَّ
اشترطْتَ له مفعولاً مخصوصًا، كقول الأعشى:
هُوَ الواهِبُ المِئَةَ المُصْطفاةَ، ... إمَّا مِخاضاً وإمَّا
عِشَاراً1
فأنتَ تَجْعلُ الوفاءَ في الوقِت الذي لا يَفي فيهِ أحَدٌ،
نوعاً خاصاً مِنَ الوفاء، وكذلك تجعلُ هِبَة المئة من الإبل
نوعاً خاصاً، وكذا الباقي. ثم إنك تَجعلُ كلَّ هذا خبراً على
معنى الاختصاص، وأنَّه للمذكورِ دونَ مَن عَداهُ.
ألا تَرى أنَّ المعنى في بيتِ الأعشى: أنه لا يَهَبُ هذه
الهبةَ إلا الممدوحُ؟ وربما ظنَّ الظانُّ أنَّ "اللام" في
"هُوَ الواهبُ المِئَة المُصْطفاةَ" بمنزلِتها في نحوِ "زيدٌ
هو المنطلقُ"، من حديث كان القَصْد إلى هبةٍ مخصوصةٍ2، كما كان
القصدُ إلى انطلاقٍ مخصوصٍ. وليس الأمْرُ كذلك، لأنَّ القصدَ
ههنا إلى جنسٍ منَ الهِبة مخصوصٍ، لا إلى هبةٍ مخصوصةٍ بعينها.
يَدُلُّكَ على ذلك أن المعنى على أنه يتكرَّر منه، وعلى أن
يجعلُهُ يهبُ المئةَ مرةً بعدَ أُخرى3، وأما
__________
1 - في ديوانه.
2 في "ج" "إلى مئة مخصوصة"، خطأ.
3 في المطبوعة: "وعلى أنه يجعله".
(1/180)
المعنى في قولك: "زيدٌ هو المنطلقُ"، فعلى
القصد إلى انطلاق كان مرة وادة، لا إلى جنسٍ من الانطلاقِ.
فالتكرُّر هناك غيرُ مُتصوَّر، كيفَ؟ وأنتَ تقولُ: "جريرٌ هو
القائل وَليْسَ لِسَيفي في العِظَامِ بقيةٌ"1، تُريد أن تُثبتَ
له قِيلَ هذا البيتِ وتأليفَه.
فأفْصِلْ بينَ أن تقصِدَ إلى نوعِ فعلٍ، وبينَ أن تقصدَ إلى
فعلٍ واحدٍ متعيَّنٍ، حالهُ في المعاني حال زيد في الجرال، في
أنه ذات بعينها.
الوجه الثالث:
197 - والوجه الثالث: أن لا يَقصد قصْرَ المعنى في جنسِه على
المذكورِ، لا كما كان في "زيدٌ هو الشجاعُ"ـ تُريد أن لا
تعتدَّ بشجاعةِ غيرهِ ولا كما تَرى في قولِه: "هُو الواهبُ
المئةَ المصطفاةَ"، ولكن على وجهٍ ثالثٍ، وهو الذي عليه قولُ
الخنساء:
إذا قَبُحَ البكاءُ على قتيلٍ ... رأَيْتُ بكاءَكَ الحسَنَ
الجَميلا2
لم تُرِدْ أنَّ ما عدا البكاءَ عليه فليس بحَسَنٍ ولا جَميل،
ولم تُقّيِّدِ الحَسَن بشيءٍ فيتُصوَّر أن يُقْصَرَ على
البقاء، كما قَصَرَ الأعشى هبةَ المئةِ على الممدوح، ولكنها
أرادتْ أن تُقِره في جنسِ ما حُسْنُهُ الحُسْنُ الظاهرُ الذي
لا يُنْكرهُ أحدٌ، ولا يَشكُّ فيه شاكُّ.
198 - ومثُله قولُ حسان:
وإنَّ سَنام المَجْدِ مِنْ آلِ هاشمٍ ... بَنُو بنت مخزوم
ووالدك العبد3
__________
1 انظر الفقرة السالفة: 194.
2 في ديوانها.
3 في ديوانه.
(1/181)
الفروق في الخبر:
نكت أخرى للتعريف
الوجه الرابع في الخبر المعرف بالألف واللام وهو مسلك دقيق،
وأمثلته، وهو "الموهوم":
199 - واعلمْ أنَّ للخبر المعُرَّف "بالألفِ واللام" معنًى
غيرَ ما ذكرتُ لك، ولهُ مَسْلكٌ ثَمَّ دقيقٌ ولَمَحَةٌ
كالخَلْسِ، يكونُ المتأمِّلُ عنده كما يقالُ: "يُعرَّفُ
وينكَّرُ"، وذلك قولُك: "هو البطلُ المحامي" و "هو المتقي
المرنجي"، وأنتَ لا تقصدُ شيئاً مما تقَدَّم، فلستَ تشيرُ إلى
معنى قد عَلمَ المخاطَبُ أنه كان، ولم يَعْلَمْ أنه ممَّن كان
كما مضى في قولك: "زيدٌ هو المنطلقُ" ولا تريدُ أن تقصُرَ معنى
عليه على معنى أنه لم يَحصُلْ لغيرهِ على الكَمال، كما كان في
قولك: "زيد هو الشجاعُ" ولا أن تقول: ظاهر أنه بهذهِ الصفة2،
كما كان في قوله: "ووالدُكَ العبْدُ" ولكنَّك تُريد أن تقولَ
لصاحبك: هل سمعتَ بالبطل المحامي؟ وهل خصلت معنى هذه الصفةِ؟
وكيفَ يَنْبغي أن يكونَ الرجلُ حتى يَستحِقَّ أن يُقالَ ذلك له
وفيه؟ فإنْ كنتَ قتلتَه عِلماً، وتصوَّرْتَه حقَّ تصورهِ،
فعليكَ صاحبَك واشدُدْ به يدَك، فهو ضالَّتُكَ وعندَه
بُغْيتُكَ، وطريقُه طريق قولكِ3: "هل سمعتَ بالأَسَد؟ وهل
تعرفُ ما هو؟ فإِن كنتَ تَعرفُه، فَزيدٌ هو هو بعينه".
__________
1 لم أقف على بعد.
2 في المطبوعة: "إنه ظاهر بهذه الصفة"، وفي "س": "ظاهره أنه
.... ".
3 في المطبوعة وحدها "كطريق قولك".
(1/182)
200 - ويزدادُ هذا المعنى ظهوراً بأن تكونَ
الصفةُ التي تريدُ الإخبارَ بها عن المبتدأ مُجْراةً على
موصوف، كقوله ابن الرومي:
هُوَ الرجُلُ المَشْرُوكُ في جُلِّ مالِهِ ... ولكنَّه
بالمَجْد والحَمْد مُفْرَدُ1
تقديرُه، كأنه يقولُ للسامع: فكِّرْ في رجلِ لا يتميزُ عفاتُه
وجيرانُه ومعارِفُه عنْهُ في مالِه وأَخْذ ما شاؤوا منه، فإذا
حصلت صورته في نفسك، فأعلك أنه ذلكَ الرجلُ.
201 - وهذا فنٌّ عجيبُ الشأنِ، وله مكانٌ من الفَخامةِ
والنُبْل، وهو مِنْ سِحْر البيانِ الذي تَقْصُرُ العبارةُ عن
تأديةِ حقِّه. والمُعَوَّلُ فيه على مراجعةِ النفسِ واستقصاءِ
التأمُّلِ، فإذا علمتَ أنه لا يريدُ بقوله: "الرجلُ المشروكُ
في جُلِّ مالهِ" أن يقول: "هو الذي بلغت حديثه، وعرفت من حاله
وقصته أن يُشرَكُ في جُلِّ ماله، على حدِّ قولِكَ: "هو الرجلُ
الذي بلغَكَ أنه أنفقَ كذا، والذي وهبَ المئة المصطفاةَ من
الإبل" ولا أنْ يقولَ إنه على معنى: "هو الكاملُ في هذه
الصفةِ"، حتى كأنَّ ههنا أقواماً يُشركون في جلِّ أموالهم، إلا
أنه في ذلك أكملُ وأتَمُّ، لأنَّ ذلك لا يُتَصوَّر. وذاك أنَّ
كوْنَ الرجل بحيث يُشْرَكُ في جلِّ ماله، ليس بمعنى يَقعُ فيه
تَفاضُلٌ2، كما أن بَذْلَ الرجلِ كَلَّ ما يَملكُ كذلك ولو
قيلَ: "الذي يُشْرَكُ في ماله"، جازَ أن يَتفاوَتَ. وإذا كان
كذلك، علمتَ أنه معنًى ثالثٌ. وليس إلا ما أشرْتَ إليه من أنه
يقولُ
__________
1 ديوانه: 589، وفيه: "ولكنه باخلبر والحمد".
2 في المطبوعة: "ليس معنى"، وفي "س" "وذاك أن إشراك الرجل في
جل ماله، معنى لا يقع فيه تفاضل".
(1/183)
للمخاطب: "ضع في نسك معنى قولك: رجل متشروك
في جُلِّ مالهِ، ثم تأمْل فلاناً، فإنك تَسْتملي هذه الصورةَ
منه، وتَجدهُ يؤدِّيها لك نَصّاً، ويأتيكَ بها كَمَلاً".
202 - وإن أردْتَ أن تسمعَ في هذا المعنى ما تَسْكُن النفسُ
إليه سكونَ الصَّادي إلى بَرْد الماءِ، فاسمعْ قوله:
أن الرجل المدعو عاق فقرِهِ ... إذا لَمْ تُكارِمْني صروفُ
زَمَاني1
وإنْ أردت أعجب من ذلك فقوله:
أهدَى إليَّ أبو الحُسين يَدا ... أَرْجو الثوابَ بها لديه غدا
وكذلك عاداتُ الكَريم إذا ... أَوْلَى يَداً حُسِبَتْ علَيْهِ
يدا
إن كان يحسد نفسه أحد، ... فلأزعمك ذلك الأحد2
فهذا كلُّه على معنى الوْهم والتقدير، وأن يُصَوِّر في خاطرِه
شيئاً لم يَره ولم يَعْلمه، ثم يُجْريه مُجْرى ما عَهِد
وعَلِم.
"الذي" ومجيئها في الخبر الموهوم:
203 - وليس شيءٌ أغلبَ على هذا الضرْبِ المَوْهوم من "الذي"،
فإنه يجيء كثيرًا من أنك تُقدِّر شيئاً في وَهْمك، ثم تُعبِّر
عنه "بالذي"، ومثال ذلك قوله:
أخوك الذي إن تدعه لملمة ... يحبك وإن تغضب إلى السيف يغضب3
__________
1 لم أقف عليه بعد.
2 هو لابن الرومي في دويانه: 786.
3 هو لأبي حوط، حجية بن المضرب الكسوني، والشعر في شرح حماية
التبريزي 3: 98، والمؤتلف والمختلف للآمدي: 183.
(1/184)
وقول الآخر:
أخوك الذي إن ريته قال إنما ... أريت وإن غاتبته لانَ
جانِبُهْ1
فهذا ونحْوُه على أنكَ قدَّرْتَ إنساناً هذه صفتُه وهذا
شأْنُه، وأَحلْتَ السامعَ على من يَعِنُّ في الوهم2، دون أن
يكونَ قد عرفَ جرلًا بهذه الصفةِ فأعلمتَه أن المستحِقَّ لاسمِ
الأُخوَّة هو ذلك الذي عَرَفه، حتى كأنك قلتَ: "أخوك زيدٌ الذي
عرفتَ أنكَ إنْ تدعُه لملمة يحبك".
204 - ولكَوْن هذا الجنسِ معهوداً من طريقِ الوَهم والتخيُّل،
جَرىَ على ما يُوصفُ بالاستحالةِ، كقولكَ للرجل وقد تَمنَّى:
"هذا هو الذي لا يكون"، و "هذا ما لا يدخل في الوجود"، وكقوله:
مالا يَكونُ فلاَ يَكونُ بحيلَةٍ ... أبداً وَمَا هُوَ كائنٌ
سَيُكُونُ3
وَمِنْ لطيفِ هذا الباب قولُه:
وإنِّي لمشتاقٌ إلى ظلِّ صاحبِ ... يَروقُ ويَصْفو إنْ
كَدِرْتُ عليهِ4
قَدْ قدَّر كما تَرى ما لَمْ يعلمْه موجوداً، ولذلك قال
المأمونُ: "خذْ منِّي الخِلافةَ وأعطني هذا الصاحب". فهذا
التعريفُ الذي تَراه في الصاحب لا يَعْرِضُ فيه شك أنه موهوم.
__________
1 هو لشار من يرد في ديوانه.
2 في المطبوعة: "يتعين في الوهم"، خطأ.
3 هو لعبد الله بن محمد بن أبي عيينة، بقوله لذى اليمينين،
الكامل للمبرد 1: 23.
4 هو لأبي العتاهية. ديوانه "بيروت"، الأغاني 11: 346 "الدار"،
كتاب بغداد لطيفور: 332.
(1/185)
الفرق بين: "المنطلق زيد" و"زيد المنطلق"
والمبتدأ والخبر معرفتان
205 - وأمَّا قولُنا: "المنطلقُ زيدٌ"، والفرْقُ بينَه وبينَ
أن تقول: "زيدٌ المنطلقُ"1، فالقولُ في ذلك أنك وإنْ كنتَ تَرى
في الظاهر أنهما سواءٌ من حيثُ كانَ الغرضِ في الحَالَيْن
إثباتَ انطلاقٍ قد سَبَق العلمُ به لزيدٍ2، فليسَ الأمرُ كذلك،
بل بينَ الكلامَيْن فصْلٌ ظاهرٌ.
وبيانُه: أنك إذا قلتَ: "زيدٌ المنطلقِ"، فأنتَ في حديِث
انطلاقٍ قد كان، وعرَفَ السامعُ كونَه، إلاَّ أنه لم يَعْلم
أَمِنْ زيدٍ كان أمْ مِن عَمرو؟ فإذا قلت: "زيدٌ المنطلقُ"،
أزلتَ عنه الشكَّ وجعلْتَه يَقْطعُ بأنه كان مِنْ زيدٍ، بعد أن
كان يَرى ذلك على سَبيل الجَواز.
وليس كذلك إذا قدمت "المنطلقُ" فقلت: "المنطلق زيد"، بلى يكون
المعنى حيئذ على أنك رأَيْتَ إنساناً ينطِلق بالبُعْد منك، فلم
تثبته3، ولم تعلَمْ أزيدٌ هو أمْ عمروٌ، فقال لك صاحبُك:
"المنطلقُ زيدٌ"، أي هذا الشخصُ الذي تراه من بُعْد هو زيدٌ.
وقد تَرى الرجلَ قائِماً بين يديكَ وعليه ثوبُ ديباجٍ، والرجلُ
ممن عرفْتَه قديماً ثم بَعُدَ عَهْدُك به فتناسَيْتَه، فيقالُ
لك: "اللابسُ الديباجَ صاحبُك الذي كان يكونُ عندَك في وقتِ
كذا، أمَا تعرِفُه؟ لَشَدَّ ما نَسِيتَ"، ولا يكون الغرض أن
يثبت له ليس الديباجِ، لاستحالةِ ذلك، من حيثُ إنَّ رؤيتَك
الديباجَ عليه تُغْنيك عن إخبارِ مُخْبر وإثباتِ مثبت لبسه له.
__________
1 في المطبوعة: "بينه وبين زيد المنطلق".
2 في المطبوعة: "من حيث كون الغرض ... ".
3 في المطبوعة وحدها: "فلم تثبت".
(1/186)
فمتى رأيتَ اسمَ فاعلٍ أو صفة منَ الصفات
قد بُدىءَ به، فجُعل مبتدأً، وجُعل الذي هو صاحبُ الصِّفة في
المعنى خبراً، فاعلَمْ أنَّ الغرضَ هناك، غيرُ الغرض إذا كان
اسمُ الفاعل أو الصفةُ خبراً، كقولك: "زيد المنطق".
اختلاف معنى التقديم والتأخير في المعرفتين إذا كانتا مبتدأ
وخبرا:
206 - واعلمْ أنه ربَّما اشتَبهتْ الصورةُ في بعضِ المسائل من
هذا البابِ، حتى يُظنَّ أنَّ المعرفتين إذا وقعتا مبتدأ
وخبراً، لم يختلفِ المعنى فيهما بتقديمٍ وتأخير. ومما يُوهم
ذلك قولُ النحويين في "باب كان": "إذا اجتمعَ معرفتانِ كنتَ
بالخِيار في جعْلِ أيِّهما شئتَ اسماً، والآخر خَبراً، كقولك:
"كان زيدٌ أخاط" و "كان أخوك زيداً"، فيُظَنُّ مِنْ ههنا أنَّ
تكافؤَ الاسمين ي التعريف يقتضي أن لا يَختلِف المعنى بأن نبدأ
بهذا وثنتنى بذاك، وحتى كان الترتيبُ الذي يُدَّعى بينَ
المبتدأ والخبر وما يُوضع لهما من المنزلِة في التقدم والتأخر،
يَسْقطُ ويرتَفِعُ إذا كان الجزآن معاً معرفتين.
207 - ومما يُوهم ذلك أنك تقول: "الأمير زيد"، و "جئتك
والخليفةُ عبدُ الملك"، فيكون المعنى على إثباتِ الإمارة
لزيدٍ، والخلافةِ لعبدِ الملك، كما يكونُ إذا قلت: "زيد
الأمير" و "عبد الملك الخليفةُ"، وتقولهُ لمن لا يُشاهِد1،
ومَنْ هو غائبٌ عن حضرةِ الإمارة ومعْدِن الخلافة.
وهكذا من يتوهم في نحو قوله:
__________
1 في المطبوعة: "تقوله لمن يشاهد"، أسقط "لا"، ففسد الكلام.
(1/187)
أَبُوكِ حُبابٌ سارقُ الضَّيفِ بُرْدَهُ
... وجَدِّيَ يا حَجَّاجُ فارسُ شَمَّرا1
أنه لا فَصْلَ بينه وبينَ أن يقالَ: حبابٌ أبوكَ، وفارسُ شمَّر
جَدِّي". وهو موضِعُ غامض.
والذي يُبيِّن وجهَ الصَّوابِ، ويدلُّ على وجوبِ الفرق بين
المسئلتين: أنك إذا تأملت الكلام وجدت الا يَحْتَمِلُ
التَّسويةَ، وما تجدُ الفرْقَ قائماً فيه قياماً لا سبيلَ إلى
دَفْعه، هو الأَعَمَّ الأكثَر2.
208 - وإن أردتَ أَنْ تعرفَ ذلك، فانظرْ إلى ما قدَّمتُ لك من
قولك: "اللابسُ الديباجَ زيدُ"3، وأنتَ تُشير له إلى رجلٍ بينَ
يديه، ثم انظرْ إلى قولِ العَرب: "ليسَ الطِّيبُ إلاَّ
المِسْك"4، وقولِ جرير:
ألستُمْ خيرَ مَنْ رَكبَ المَطايا5
ونحوِ قولِ المتنبي:
ألست ابن الألى سعدوا وسادوا6
__________
1 هو لجميل في مجموع شعره، وهو في شرح الحماسة للتبريزي 1:
165، واللسان "شمر"، وغيرهما.
2 السياق: "وما تجد الفرق .... هو الأعمم الأكثر".
3 مضى في الفقرة رقم: 205.
4 مشهور عند النحاة، انظر سيبويه 1: 147.
5 في ديوانه: وتمامه:
وأندي العالمين بطون راح
6 في ديوانه، وتمامه:
ولم يلدوا امرءًا إلا نجيبا
(1/188)
وأشباهِ ذلك مما لا يُحصى ولا يُعَدُّ وأرد
المعن على أن يَسْلَمَ لك مع قَلْبِ طَرَفَيْ الجملة1، وقُلْ:
"ليس المسكُ إلا الطيبَ"، و "أليس خيرُ مَنْ ركبَ المطايا
إياكم؟ "، و "أليس ابنُ الألى سعِدوا وسادوا إِيَّاكَ"؟ 2
تعلمْ أنَّ الأمرَ على ما عرَّفْتُك من وجوبِ اختلاف المعنى
بحسب التقديم والتأخير.
المبتدأ مبتدأ لأنه مسند إليه والخبر خبر لأنه مسند تثبت به
وبيان ذلك:
209 - وههنا نكتة جيب القطعُ معها بوجوبِ هذا الفرقِ أبداً،
وهي أنَّ المبتدأَ لم يكُنْ مبتدأً لأنه منطوقٌ به أولًا، ولا
كان الخبر خبرًا لنه مذكورٌ بَعْد المبتدأ، بل كان المبتدأُ
مبتدأً لنه مُسْندٌ إليه ومُثْبَتٌ له المعنى، والخبَرُ خبراً
لأنه مسنَدٌ ومثْبَتٌ به المعنى.
تفْسير ذلك: أنَّك إذا قلتَ: "زيدٌ منطلقٌ" فقد أثبتَّ
الانطلاقَ لزيدٍ وأَسندْتَه إليه، فَزَيدٌ مثبَتٌ له، ومنطلق
مثْبَتٌ به، وأمَّا تقديمُ المبتدأ على الخبرِ لفظاً، فحكْمٌ
واجبٌ من هذِه الجهة، أي من جهِة أنْ كان المبتدأُ هو الذي
يُثْبَتُ له المعنى ويسند إليه، والخبَرُ هو الذي يُثْبَتُ به
المعنى ويُسنَد. ولو كان المبتدأ مبتدأ لنه في اللفظ مقدَّمٌ
مبدوءٌ به، لكان يَنبغي أن يَخْرج عن كونِه مبتدأ بأن يقالَ:
"منطلقٌ زيدٌ"، ولوجَبَ أن يكونَ قولُهم: "إن الخبرَ مقدَّمٌ
في اللفظِ والنيَّةُ به التأخيرُ"، مُحالاً. وإذا كان هذا كذلك
ثم جئتَ بمعرفتين فجعلتهما متبدأ وخبراً فقد وجَبَ وجوباً أن
تكونَ مثبِتاً بالثاني معنى للأول. فإذا قلت: "زيدًا أخوك"،
كنتَ قد أثبتَّ بأخوك معنى لزيدٍ، وإذا قدمت وأخرت فقلت:
__________
1 "وأرد المعنى"، سياقه في اول الفقرة: وإن أردت أن تعرف ذلك،
فانظر ... وأراد المعنى".
2 السياق: "فانظر .... وأرد المعنى ... تعلم".
(1/189)
"أخوك زيد"1، وجب أن تكون مثبتًا يزيد معنى
لأخوك، وإلا كان تسميتك له الآن متبدأ وإذا ذاك خبراً، تغييراً
للاسم عليه مِنْ غيرِ معنى، ولأذى إلى أن لا يكون لقولهم
"المبتدأ والخير" فائدةٌ غيرَ أن يتقدمَ اسمٌ في اللفظ على
اسم، من غير أن ينفدر كل واحد منما بحكْمٍ لا يكون لصاحبهِ.
وذلك مما لا يُشكُّ في سقوطه.
210 - ومما يدلُّ دلالةً واضحةً على اختلافِ المعنى إذا جئتَ
بمعرفتَيْن، ثم جعلتَ هذا مبتدأ وذاك خبراً تارة، وتارة بالعكس
قولهم: "الحبيب أنت"، و "أنت الحبيبُ"، وذاك أنَّ معنى
"الحبيبُ أنتَ"، أنه لا فصْل بينك وبينَ مَنْ تُحبُّه إذا
صدَقَت المحبةُ، وأنَّ مثَل المتحابَّيْنِ مثَلُ نفْسٍ
يقتسمُها شخصان، كما جاء عن بعض الحكماءِ أنه قال: "الحبيبُ
أنتَ إلا أنه غيرُكَ". فهذا كما ترى فوق لطيف وكنكتة شريفةٌ،
ولو حاولتَ أن تُفيدها بقولك: "أنت الحبيبُ"، حاولتَ ما لا
يَصِحُّ، لأنَّ الذي يُعْقَل من قولك "أنتَ الحبيبُ" هو ما
عناه المتنبي في قوله:
أنتَ الحبيبُ ولكنِّي أعوذُ بهِ ... مِنْ أنْ أكون محبصا غيرَ
مَحْبوبِ2
ولا يَخفى بُعْدُ ما بينَ الغرضَيْن. فالمعنى في قولك: "أنتَ
الحبيبُ" أنَّكَ الذي أخْتَصُّه بالمحبة مِنْ بين الناس، وإذا
كان كذلك، عرفتَ أنَّ الفرْقَ واجبٌ، أبداً، وأنه لا يجوزُ أن
يَكون "أخوك زيدٌ" و "زيد اخوك" بمعنى واحد.
__________
1 من أول قوله: "كنت قد أثبت بأخوك" إلى هنا، ساقط في "ج"،
سهوًا من الكاتب.
2 في ديوانه.
(1/190)
211 - وههنا شيءٌ يجبُ النظرُ فيه، وهو
أنَّ قولك: "أنتَ الحبيبُ"، كقولِنا "أنتَ الشجاعُ"، تُريد أنه
الذي كملت فيه الشجاعة أم كقولنا1: "زيدٌ المنطلقُ"، تريد أنه
الذي كان منهُ الانطلاقُ الذي سمِعَ المخاطَبُ به؟ وإذا نظرْنا
وجدناه لا يَحْتمِل أن يكونَ كقولنا: "أنتَ الشجاعُ"، لأنه
يقتضي أن يكونَ المعنى أنَّه لا مَحبَّة في الدنيا إلا ما هو
بهِ حبيبٌ، كما أنَّ المعنى في "هوَ الشجاعُ" أنه لا شجاعَة في
الدنيا إلاَّ ما تَجِِدُه عندَه وما هو شجاعٌ به. وذلك مُحال.
212 - وأمرٌ آخرُ وهو أنَّ الحبيب "فعيل" فمعنى" "مفعول"،
فالمحبة إذن ليست هل له بالحقيقة، وإِنما هي صفةٌ لغيرِه قد
لابَسَتْه وتعلَّقَتْ به تعلُّقَ الفعلِ بالمفعول. والصفةُ إذا
وُصِفَتْ بكمالٍ وُصِفتْ به على أَنْ يَرجِعَ ذلك الكمالُ إلى
مَنْ هي صفةٌ له، دونَ مَن تُلابِسُه ملابسةَ المفعول. وإذا
كان كذلك، يعد أن تَقولَ: "أنتَ المحبوبُ"، على معنى أنتَ
الكاملُ في كونك مَحبوباً، كما أنَّ بعيداً أن يقالَ: "هو
المضروبُ"، على معنى أَنه الكاملُ في كونِه مضروباً.
وإنْ جاء شيءٌ من ذلك جاء على تعسُّفٍ فيهِ وتأويلٍ لا
يُتصوَّر ههنا، وذلك أنْ يقالَ مثلاً: "زيدٌ هو المظلومُ"، على
معنى أنه لم يُصِبْ أحداً ظلمٌ يَبلغُ في الشِّدَةِ والشَّناعة
الظلمَ الذي لَحِقَه، فصار كلُّ ظلمٍ سِواهُ عَدْلاً في
جَنْبهِ ولا يجيءُ هذا التأويلُ في قولنا: "أنتَ الحبيبُ"،
لأنَّا نَعْلم أَّنهم لا يريدون بهذا الكلام أن يقولوا: إنَّ
أحداً لم يُحبَّ أحدًا مجتبى لك، وأن ذلك قد أبطل
__________
1 في المطبوعة: "أو كقولنا".
(1/191)
المحبات كلها حتى صبرت الذي لا يُعْقَلُ
للمحبةِ معنًى إلاَّ فيه. وإنما الذي يريدون أنَّ المحبةَ مني
بجملتها مقصورةٌ عليكَ، وأنه لَيْسَ لأحدٍ غيرَكَ حظٌّ في
محبةٍ منِّي.
213 - وإذا كان كذلك بانَ أَنه لا يكونُ بمنزلةِ "أنتَ
الشجاعُ"، تريدُ الذي يتكامل الوصفُ فيه1، إلا أنه يَنْبغي من
بَعْدُ أن تعْلم أَنَّ بينَ "أنتَ الحبيبُ" وبينَ "زيدٌ
المنطلقٌ" فرقاً، وهو أنَّ لكَ في المحبة التي أَثْبَتَّها
طرفاً من الجنسية، من حيثُ كان المعنى أنَّ المحبَّةَ مني
بجملتها مقصورةٌ عليك، ولم تَعمدْ إلى محبةٍ واحدةٍ من
مَحَبَّاتك. ألا تَرى أنَّك قد أَعطَيْتَ بقولكَ: "أنتَ
الحبيبُ" أنك لا تُحِبُّ غيرَه، وأنْ لا محبةَ لأحدٍ سِواه
عندَك؟ ولا يتصور هذا في "زيد المنطلق"، لأنه وجْهَ هناك
للجنسيةِ، إذْ ليس ثَمَّ إلا انلاطق واحدٌ قد عَرفَ المخاطبُ
أنه كان، واحتاجَ أن يُعيَّن له الذي كان منه ويُنَصَّ له
عليه. فإن قلتَ: "زيدٌ المنطلقُ في حاجتك"، تريدُ الذي من شأنه
أن يَسْعى في حاجَتك، عرَضَ فيه معنى الجنسيةِ حينئذٍ على حدها
في "أنت الحبيب".
أسماء الأجناس والمصادر تتنوع إذا وصفت:
214 - وههنا أصْلٌ يجب أن تُحْكِمَهُ: وهو أنَّ من شأنِ أسماءِ
الأجناسِ كلِّها إذا وُصِفَتْ، أن تَتنوَّعَ بالصفةِ، فيصيرَ
"الرجلُ" الذي هو جنسٌ واحدٌ إذا وصفْتَه فقلتَ: "رجلٌ ظريفٌ"،
و "رجل طويل"، و "رجل قصير"، و "رجل شاعر"، و "رجل كاتبٌ"،
أنواعاً مختلفةً يُعَدُّ كلُّ نوعٍ منها شيئًا على حدة،
وتستأنف في اسم "الرجل" بكلِّ صفةٍ تَقْرِنها إليه جنسية2.
__________
1 في المطبوعة وحدها: "الذي تكامل".
2 "جنسية"، مرفوع بقوله "وتستأنف"، أي: تستأنف بكل صفة جنسية.
(1/192)
215 - وهكذا القول في "المصادر"، تقول:
"العلم" و "الجهل" و "الضرب" و "القتل" و "السير" و "القيام" و
"القعود"، فتجدُ كلَ واحدٍ من هذه المعاني جنساً كالرجل والفرس
والحمارِ. فإذا وصفتَ فقلتَ: "عِلمُ كذا" و "علم كذا" كقولك:
"علم ضروري" و "علم مكتسب"، و "علم جلي" و "علم خفي" و "ضرب
شديد" و "ضرب خفيف" و "سير سريع" و "سير بطيء" وما شاكل ذلك،
آتقسم الجنس منها أقاسامًا، وصار أنواعًا، وكان مثلها مثل
الشيء والمجموع المؤلفِ تَفْرُقُه فِرَقاً وتَشْعَبُه شُعبَا.
وهذا مذهبٌ معروف عندهم، وأصل متعارف فيكل جيل وأمة.
المصادر تتفرق بالصلة، كما تتفرق بالصفة:
216 - ثم إن ههنا أصلاً هو كالمتفرِّع على هذا الأصل أو
كالنظيرِ له، وهو أن مِنْ شأنِ "المصدر" أن يفرَّقَ بالصَّلات
كما يُفرَّقُ بالصِّفات.
ومعنى هذا الكلامِ أنَّك تقولُ "الضربُ"، فتراه جنساً واحداً،
فإذا قلتَ: "الضربُ بالسيف"، صار بتعديتك له إلى السيف1، نوعاً
مَخصوصاً. ألا تراكَ تَقولُ: "الضربُ بالسيف غيرُ الضربِ
بالعصا"، تُريدُ أنهما نوعانِ مختلفانِ، وأنَّ اجتماعَهما في
اسم "الضَّرْب" لا يُوجب اتفاقَهما، لأن الصِّلةَ قد فصلَتْ
بينُهما وفرَّقَتْهما. ومن المثالَ البيِّن في ذلك قول
المتنبي:
وتوهَّمُوا اللعِبَ الوَغى، والطعنُ في الـ ... ـهيجاءِ غير
الطعن في الميدان2
__________
1 في المطبوعة: "تعيتك"، بغير باء.
2 في ديوانه، و "الوغي" و "الهيجاء" الحرب، و "الميدان"، يريد
به ميدان التدريب على استعمال السلاح، وهو أشبه باللعب.
(1/193)
لولا أن اختلاف صلة المصدر تقضي اختلافه في
نفسِه، وأن يَحْدُثَ فيه انقسامٌ وتَنوُّعٌ، لَمَا كان لهذا
الكلامِ معنًى، ولَكانَ في الاستحالة كقولك: و "الطعن غير
الطعن". فقد بان إذْن أنه إنَّما كانَ كلُّ واحدٍ من
الطَّعْنَيْن جِنْساً بَرأْسِهِ غيرَ الآخَر، بأَنْ كان هذا في
الهيجاءِ، وذاك في الميدانِ.
وهكذا الحُكْم في كلِّ شيء تعدَّى إليه "المصْدَرُ" وتعلَّقَ
به. فاختلافُ مفعولَيْ المصدر يقتضي اختلافَه، وأن يكونَ
المتعدِّي إلى هذا المفعولِ غيرَ المتعدِّي إلى ذاك. وعلى ذلك
تقولُ: "ليسَ إعطاؤكَ الكثير كإعطائك القليل"، وهكذا إذا عذبته
إلى الحال كقولك: "ليس إعطاؤه مُعْسِراً كإعطائك مُوسِراً" و
"ليس بذْلُكَ وأنتَ مقل، كبذلك وأنت مكثر".
الاسم المشتق أيضا يتفرق بالصلة:
217 - وإذا قد عرفْتَ هذا مِن حُكْم "المصدِر" فاعتبرْ به
حكْمَ الاسمِ المشتقِّ منه.
وإذا اعتبرْت ذلك علمْتَ أَنَّ قولك: "هو الوفيُّ حين لا يفي
أحد"، و "هو الواهب المئة المصطفاة"، وقوله1:
وهو الضارب الكتيبة، والطعـ ... ـنة تعلو، والضَّربُ أَغْلى
وَأَغْلَى2
واشباهُ ذلك كلُّها أخبارٌ فيها معنى الجنسية، وأنها في نوعِها
الخاصِّ بمنزلِة الجنسِ المُطْلَق إذا جعلْتَه خبَراً فقلتَ:
"أنتَ الشجاعُ".
وكما أنكَ لا تَقْصِد بقولك: "أنتَ الشجاعُ" إلى شجاعة بعينها
قد
__________
1 انظر الفقرة رقم: 196.
2 في ديوان المتنبي، وفي المطبوعة: "أغلى وأغلى"، و "أغلى" من
"الغلاء"، أي الضرب أعز وجودًا من الطعن وأغلى.
(1/194)
كانتْ وعُرِفَتْ من إنسانٍ، وأَردْتَ أن
تَعرفَ ممَّنْ كانت بل تُريد أن تَقْصُرَ جنْسَ الشجاعةِ عليه،
ولا تَجعلُ لأحدٍ غيرهِ فيه حظَّاً، كذلك لا تَقصدُ بقولك:
"أنتَ الوفيُّ حين لا يَفي أحدٌ" إلى وفاءٍ واحدٍ. كيفَ؟ وأنتَ
تقول: "حينَ لا يفي أحدٌ".
وهكذا محال أن تقصد في قولِه: "هُوَ الواهبُ المئةَ
المصطفاةَ"، إلى هبةٍ واحدةٍ، لأنه يَقْتضي أَن يقصِدَ إلى
مِئةٍ منَ الإبلَ قد وَهَبها مرةً، ثم لم يعد لمثلها. ومعلوم
أن خلافُ الغرضِ، لأنَّ المعنى أنه الذي مِنْ شأنِه أن يَهَبَ
المئةَ أبداً، والذي يبلغُ عطاره هذا المبلغَ، كما تقول: "هو
الذي يُعطي مادحة الألف والألفين"، وكقوله:
وحاتمُ الطائيُّ وهَّابُ المِئي1
وذلك أوضَحُ من أن يخفى.
الألف واللام الدالة على الجنسية لها مذهب في الخبر، غيره في
المبتدأ ووجوه هذا المعنى:
218 - وأصْلٌ آخرُ: وهو أن مِنْ حَقِّنا أن نعْلم أنَّ مَذْهَب
الجنسية في الاسم وهو خبر، غير مذهبها وهو مبتدأ.
__________
1 لامرأة من بني عقيل، تفخر بأخوالها من اليمن، وقبله.
حيدة خالي ولقيط وعلي
نوادر أبي زيد: 91، واللساني "مأى" وغيرهاوهو مشهور. وفي هامش
المخطوطة ما نصه:
"مئة تجمع على مئى، ويكون الأصل: مووى ..... ثم تقلب الواو باء
كما يقال مضى في مضى يمضي: والأصل مضوى، كقعود، والمعروف الجمع
بالواو، كقولك: مئة ومئون، مثل رئة ورئون، وثبة وثبون".
(1/195)
تفسيرُ هذا: أنَّا وإنْ قلْنا إنَّ
"اللامَ" في قولك: "أنت الشجاعُ" للجنس، كما هُوَ له في قولهم:
"السجاع موقي، والجبان ملقي"1، فإن الفرق ينهما عظيمٌ. وذلك
أنَّ المعنى في قولك: "الشجاعُ مُوَقَّى"، أنك تُثْبِتُ
الوقايةَ لكلِّ ذاتٍ مِنْ صفتها الشجاعةُ، فهو في معنى قولِك:
الشجعانُ كلُّهم مُوَقَّوْنَ. ولستُ أقولُ إن الشجاعَ كالشجعان
على الإطلاق، وإنْ كان ذلك ظنَّ كثيرٍ من الناس، ولكني أريدُ
أنك تَجعلُ الوقايةَ تستغرق الجنس وتشتمله وتَشِيعُ فيه.
وأمَّا في قولك: "أنت الشجاعُ"، فلا مَعنى فيهِ للاستغراقِ،
إذْ لسْتَ تُريد أن تَقولَ: "أنتَ الشجعانُ كلُّهم" حتى كأنكَ
تَذْهَبُ به مذْهَب قولِهِمْ: "أنتَ الخَلْقُ كلُّهم" و "أنت
العالم"، كما قال:
وليس الله بِمُسْتَنْكَرٍ ... أنْ يَجْمَع العالَمَ في واحدِ2
219 - ولكن لحديث "الجنسية" ههنا مأخذ آخرَ غيرَ ذلك، وهو أنك
تَعْمدُ بها إلى المصدِر المشتقِّ منه الصفةُ وتُوجِّهُها
إليه، لا إلى نفسِ الصِّفَة. ثُم لكَ في تَوْجيهها إليه
مَسْلَكٌ دقيقٌ. وذلك أنَّه ليس القصْدُ أَنْ تأتيَ إلى
شَجاعاتٍ كثيرةٍ فَتجمَعَها له وتُوجِدَها فيه، ولا أنْ تَقول:
إنَّ الشجاعاتِ التي يُتوهَّمُ وجودُها في الموصوفينَ بالشجاعة
هي موجودةٌ فيه لا فيهم هذا كلُّه محالٌ، بل المعنى على أنك
تقولُ: كنَّا عقَلْنا الشجاعةَ وعرَفْنا حقِيقَتَها، وما هي؟
وكيف يَنبغي أن يكون الإنسانُ في إقدامِه وبَطْشه حتى يعلم أنه
شجاع على
__________
1 مثل، انظر كتاب الأمثال لأبي عبيد القاسم بن سلام: 116 رقم:
297. وقائله حنين ابن خشرم السعدي.
2 هو لأبي نواس، في ديوانه. وصدر البيت مكتوب في هامش "ج"،
وليس في "س"، وفي المطبوعة "ليس على الله ... ".
(1/196)
الكمال: واستَقْرَيْنا الناسَ فلم نجدْ في
واحدٍ منهم حقيقةَ ما عرَفْناه، حتى إِذا صِرْنا إلى
المخاطَبِ، وَجدْناه قِد استكمَلَ هذه الصفةَ، واستجمعَ
شرائِطَها، وأخلصَ جوهرَهَا، ورسَخَ فيهِ سِنخُها1. ويُبيِّن
لك أنَّ الأمرَ كذلك اتفاقُ الجميعِ على تفسيِرهم له بمعنى
الكامِل، ولو كان المعنى على أنهُ اسْتغْرق الشجاعاتِ التي
يُتوهَّمُ كونها في الوصوفين بالشجاعة، لَمَا قالوا إنَّه
بمعنى الكامل في الشجاعِة، لأنَّ الكمالَ هو أن تكونَ الصِّفة
على ما يَنْبغي أَن تكونَ عليه، وأنْ لا يخالِطَها ما يَقْدحُ
فيها، وليس الكمالُ أن تجتمعَ آحادُ الجنسِ وينضمَّ بعضُها إلى
بعض. فالغرض إذان بقولنا: "أنتَ الشجاعُ"، هو الغرَضُ بقولهم:
"هذه هيَ الشجاعةُ على الحقيقة، وما عَداها جُبْنٌ" و "هكذا
يكون العلم، وما عداه تخيل"2، و "هذا هو الشعرُ" وما سواهُ
فليس بشيءٍ". وذلك أَظَهرُ من أَنْ يَخفى.
220 - وضربٌ آخرُ منَ الاستدلال في إبطالِ أن يكونَ "أنتَ
الشجاعُ" بمعنى أنكَ كأنكَ جميعُ الشجعانِ، على حَدِّ "أنتَ
الخلْقُ كلُّهم"3، وهو أنك في قولك: "أنت الخلق" و "أنت الناس
كلهم" و "قد جميع العالَم مِنْكَ في واحدٍ"، تدَّعي له جميعَ
المعاني الشريفةِ المتفرقةِ في الناسِ، من غيرِ أن تُبْطِل تلك
المعاني وتَنْفيها عن الناس، بل على أن تَدَّعي له أمْثالَها.
ألا تَرى أنك إذا قلتَ في الرجلِ: "إنه معدود بألف رجل"، فلست
__________
1 "سنخها"، أصلها وجذرها.
2 في "س"، وفي نسخة عهند رشيد رضا: "وهذا هو العلم، وما عداه
جهل".
3 انظر الفقرة رقم: 218.
(1/197)
تعني أنه معدود بألف لا مَعْنى فيهم ولا
فضيلةَ لهم بوجْهٍ1، بل تريدُ أنَّه يُعْطِيكَ من معاني
الشجاعةِ أو العِلْمِ أو كذا أو كذا مجموعاً2، مَّا لا تَجِدُ
مقدارَه مفرَّقاً إلا في ألفِ رجلٍ. وأمَّا في نحوِ "أنتَ
الشجاعُ"، فإنك تدعي له مقدارَه مفرَّقاً إلا في ألفِ رجلٍ.
وأمَّا في نحوِ "أنتَ الشجاعُ"، فإنك تدَّعي له أن قد انفردَ
بحقيقةِ الشجاعةِ، وأنه قد أُوتي فيها مزيَّةً وخاصيَّةً لم
يُؤْتَها أَحدٌ، حتى صار الذي كان يَعدُّه الناسُ شجاعةً غيرَ
شجاعةٍ، وحتى كأَنَّ كلَّ إقدامٍ إحجامٌ، وكلَّ قوةٍ عُرِفَتْ
في الحرب ضَعْفٌ. وعلى ذلك قالوا: "جادَ حتى بَخَلَ كلَّ
جوادٍ، وحتى منَعَ أن يَسْتحِقَّ اسمَ الجوادِ أحَدٌ"، كما
قال:
وإنَّكَ لا تَجود عَلَى جوادٍ ... هِباتُكَ أنْ يُلَقَّبَ
بالجوادِ3
وكما يقالُ: "جادَ حتى كَأَنْ لم يُعْرَف لأحدٍ جودٌ، وحتى
كَأَنْ قد كذب الواصفون الغيث بالجود"، كما قال:
أعطيتَ حتى تَركْتَ الريحَ حاسِرةً ... وَجُدْتَ حتّى كأن
الغيث لم يجد4
__________
1 في نسخة عند رشيد رضا: "ويألف رجل لا غناء فيهم".
2 في المطبوعة: "بل تريد أن تعطيه"، وفي "س": " .... أن
يعطيك".
3 هو للمتنبي في ديوانه، وقبله بيت متصل معناه بمعناه، وهو:
نلومك يا علي لغير ذنب ... لأنك قد زريت على العباد
ومعنى البيت: هباتك لا تجود على أحد باسم الجواد: لأنه لا
يستحق هذا الاسم، مع ما يرى من جودك، وزيادتك عليه، "شرح
الواحدي".
4 هو للبحتري في ديوانه. و "حاشرة" قد أعيت وكلت فضعف هبوبها.
(1/198)
الفروق في الخبر:
التعريف بالذي
هذا فصل في "الذي" خصوصًا:
"الذي"، ومجيئه لوصف المعارف بالجمل، وما تحتها من الأسرار:
211 - إعْلَمْ أنَّ لك في "الذي" عِلماً كثيراً، وأسرار
جمَّةً، وخفايا إذا بحثْتَ عنها وتصوَّرْتَها أطَّلَعْتَ على
فوائدَ تُؤنِسُ النفسَ، وتُثلِجُ الصدرَ، بما يُفْضي بكَ إليه
منَ اليقين، ويُؤدِّيه إليكَ من حُسْن التَّبيين.
والوجْهُ في ذلك أنْ تتأملَ عباراتٍ لهمْ فيه لِمَ وُضِعَ،
ولأيِّ غرَضٍ اجْتُلِبَ، وأشياءَ وصَفُوه بها. فمن ذلك قولهم:
"إن "الذي" اجْتُلِبَ ليكونَ وصْلَةً إلى وصْفِ المعارفِ
بالجُمل، كما اجتُلِب "ذو" ليُتَوصَّل به إلى الوصْف بأسماءِ
الأجناس"، يعنون بذلك أنك تقولُ: "مررتُ بزيدٍ الذي أبوه
منطلِقٌ" و "الرجل الذي كان عندنا أمسي"، فتجدك قد توصلت بـ
"الذي" إلى أن أَبَنْتَ زيداً مِنْ غَيره، بالجملة التي هو
قولُك: "أبوه منطلِقٌ"، ولولا "الذي" لم تَصِلْ إلى ذلك كما
أنك تقولُ: "مررتُ برجلٍ ذي مال" فتتوصل بـ "ذي" إلى أن تبين
الرجلُ من غيرهِ بالمال، ولولا "ذو" لم يتأتَّ لكَ ذلكَ، إذ لا
تستطيعُ أن تقول: "برجل مالي".
222 - فهذه جملةٌ مفهومةٌ؟ إلا أنَّ تحتَهَا خبايا تحتاجُ إلى
الكشفِ عنها. فمِنْ ذلك أنْ تَعلم مِنْ أينَ امتنَعَ أن توصَفَ
المعرفةُ بالجملة، ولِمَ لمْ يكُن حالُها في ذلك حالَ النكرةِ
التي تَصِفُها بها في قولكَ: "مررتُ برجل أبوه منطلق": و "رأيت
إنسانًا تقاد الجنائب بين يديه"1.
__________
1 "الخبائب" جمع "جنيبة"، وهي الدابة تقاد، ويعني أنه أمير أو
سلطان.
(1/199)
وقالوا: إنَّ السببَ في امتناعِ ذلكَ: أنَّ
الجملَ نكراتٌ كلُّها، بدَلالةِ أنها تُستفادُ، وإنما يستفادُ
المجهولُ دونَ المعلوم. قالوا: فلمَّا كانت كذلك، كانت وفق
النكرة1، فجازَ وصْفُها بها، ولم يَجُزْ أن توصَفَ بها
المعرفة، إذا لم تكن وفقًا لها.
"الذي" توصل بجملة سبق من السامع العلم بها:
223 - والقول البين في ذلك أن يقالَ2: إنَّه إنَّما اجتُلِبَ
حتى إذا كان قد عُرِفَ رَجلٌ بقصةٍ وأمْرٍ جَرى له، فتخصَّص
بتلك القِصة وبذلك الأمِر عندَ السَّامعِ، ثم أُريدَ القصْدُ
إليه، ذُكِرَ "الذي".
تفسيرُ هذا أنك لا تَصِلُ "الذي" إلاَّ بجملةٍ من الكلام قد
سَبق مِن السامعِ عِلمٌ بها، وأَمرٌ قد عرَفَه له، نحْوَ أَنْ
تَرى عندَه رجلاً يُنشِدُه شعراً فتقولُ له مِنْ غَدٍ: "ما
فعلَ الرجلُ الذي كانَ عندَك بالأمسِ يُنْشِدُك الشِّعرَ؟ ".
هذا حُكْم الجملةِ بَعْدَ "الذي"، إذا أنتَ وصفْتَ به شيئاً.
فكانَ معنى قولهم: "إنه اجتُلب ليتوَصَّل به إلى وصْف المعارف
بالجمل"، أنه جيءَ به لِيَفْصل بين أن يُراد ذِكْرُ الشيءِ
بجملةٍ قد عرَفها السامعُ له، وبين أن لا يكون الأمر كذلك.
"الذي" تأتي بعدها أيضا جملة غير معلومة للسامع:
224 - فإنْ قلتَ: قد يُؤتى بَعْد "الذي" بالجملة غيرِ المعلومة
للسامع، وذلك حيثُ يكون "الذي" خبراً"، كقولك: "هذا الذي كان
عندَك بالأمسِ" و "هذا الذي قَدِمَ رسولاً من الحَضْرة، أنتَ
في هذا وشَبَهه تُعْلِم المخاطَبَ أمراً لم يَسْبق له بِه
علْمٌ. وتفيدُه في المشارِ إليه شيئاً لم يكنْ عندَه. ولو لم
يَكُنْ كذلكَ، لم يكنِ "الذي" خبراً، إذ كان لا يكونُ الشيءُ
خبراً حتى يُفَادَ به.
__________
1 في المطبوعة: "وفقًا للنكرة".
2 في المطبوعة وحدها: "والقول المبين".
(1/200)
فالقولُ في ذلك: إنَّ الجملةَ في هذا
النحوِ، وإن كان المخاطَبُ لا يَعْلَمها لعينِ مَنْ أشرتَ
إليه، فإنه لا بدَّ مِن أن يكونَ قد عَلِمها على الجملة
وحُدِّثَ بها. فإنك على كلِّ حالٍ لا تقولُ: "هذا الذي قدِمَ
رسولاً"، لمن لم يَعْلم أنَّ رسولاً قَدِم ولم يبلغْه ذلك في
جملةٍ ولا تفصيل وكذا لا تقولُ: "هذا الذي كان عندك أمسِ"، لمن
قد نسيَ أنه كان عندَه إنسانٌ وذهَبَ عن وَهْمه، وإِنما
تَقولُه لمن ذاك على ذكرٍ منه، إلاَّ أنه رأى رجلاً يُقْبل مِن
بعيدٍ، فلا يعلم أنه ذاك، ويظنه إنسانًا عيره.
225 - وعلى الجملة، فكلُّ عاقلٍ يَعلم بَوْنَ ما بينَ الخبرِ
بالجملة مع "الذي" وبينَها معَ غيرِ "الذي"، فليس مِنْ أَحَدٍ
به طِرْقٌ إلاَّ وهو لا يَشكُّ أنْ ليس المعنى في قولك1: "هذا
الذي قدم رسولًا"2، كالمعنى إذا قلتَ: "هذا قدِمَ رسولا مِن
الحضرة" ولا "الذي يَسْكُن في محلَّةِ كذا"، كقولك: "هذا
يَسكنُ محلةَ كذا"، وليس ذاك إلاَّ أنك في قولك: "هذا قَدِم
رسولاً من الحضرة" مبتدئ خبَراً بأَمرٍ لم يَبْلْغِ السامعَ
ولم يبلَّغْهُ ولم يَعلَمْه أصلاً وفي قولكَ: "هذا الذي قدِم
رسولا"، مُعْلِمٌ في أمرٍ قد بلَغَه أن هذا صاحبه3، فلم يحل
إذن منَ الذي بدأنا به في أمْر الجملة مع "الذي"، من أن ينبغي
أن تكونَ جملةً قد سبَقَ مِن السامعِ عِلْمٌ بها فاعرْفه،
فإِنَّه من المسائلِ التي مَن جَهلهَا جَهِلَ كثيراً من
المعاني، ودخلَ عليه الغلطُ في كثيرٍ منَ الأمور، والله
الموفِّق للصواب.
__________
1 "به طرق"، بكسر فسكون: أي قوة، وأصل "الطرق"، السمن والشحم.
2 في المطبوعة و "س" هنا: " ..... رسولًا من الحضرة"، و
"الحضرة يعني حضرة الخلافة.
3 "معلم في امر"، أي مخبر.
(1/201)
الفروق في الحال:
فروق في الحال لها فضلُ تعلّقٍ بالبلاغة:
الحال، ومجيئها جملة مع الواو تارة، وبغير الواو تارة:
226 - إِعْلَمْ أنَّ أوَّل فرْقٍ في الحال أّنَّها تَجيءُ
مفرداً وجملةً، والقصْدُ ههنا إلى الجملة.
وأوَّلُ ما ينبغي أنْ يُضْبَطَ مِن أمِرها أَنَّها تجيءُ تارةً
معَ "الواو" وأُخْرى بغيرِ "الواو"، فمثالُ مَجيئها معَ الواو
قولك: "أتاني وعليه ثوب ديباج"، و "رأيته وعلى كتفه سيف"، و
"لقيت الأمير والجند حواليه"1، و "جاءني زيدٌ وهو متقلِّدٌ
سيفَه" ومثالُ مَجيئها بغيرِ "واو": "جاءني زيدٌ يَسعى غلامُه
بين يَدَيْه" و "أتاني عمرو يَقودُ فَرَسه"، وفي تمييزِ ما
يقتضي "الواوَ" ممَّا لا يَقْتضيه صعوبةٌ.
227 - والقولُ في ذلك أنَّ الجملةَ إذا كانت من مُبتدإ وخبَرٍ،
فالغالبُ عليها أنْ تَجيءَ مع "الواو" كقولكَ: "جاءني زيد
وعمرو أمامه" و "أتاني وسيفُه على كَتِفه"، فإنْ كان المبتدأ
من الجملةِ ضميرَ ذي الحال، لم يَصْلح بغيرِ "الواو" البتَّةَ،
وذلك كقولكَ: "جاءني زيدٌ وهو راكب" و "رأيت زيدًا وهو جالس"،
و "دخلت عليه وهو يملي الحديث" و "انتهيت إلى الأمير وهو يعبئ
الجيشَ"، فلو تركتَ "الواوَ" في شيءٍ من ذلك لم يصْلُح. فلو
قلتَ: "جاءني زيدٌ هو راكب"، و "دخلت عليه هو يُملي الحديثَ"،
لم يكنْ كلاماً.
228 - فإنْ كان الخبرُ في الجملة من المبتدإ والخبر ظرفًا، ثم
كان
__________
1 في هامش "ج" بخطه: "والجيش"، يعني مكان "الجند".
(1/202)
قد قُدِّم على المبتدإ كقولنا: "عليه سيفٌ"
و "في يده سوط"، كَثُر فيها أن تجيءَ بغَيرِ "واوٍ". فمِمَّا
جاء منه كذلك قولُ بشَّار:
إذَا أنْكَرَتْني بَلدةٌ أوْ نَكِرْتُها ... خرجْتُ مَعَ
البازي عليَّ سَوادُ1
يَعْني عليَّ بقيةٌ من الليل، وقول أمية:
فاشْرَبْ هنيئاً عليكَ التاجُ مُرْتَفِقاً ... في رَأْسِ غمدان
دارًا منك محلالا2
قول الآخر:
لَقَدْ صَبَرَتْ لِلذُّلِّ أعوادُ مِنْبَرٍ ... تقوُم عَلَيها
في يديكَ قضيبُ3
كلُّ ذلك في مَوْضعِ الحالِ، وليس فيه "واوٌ" كما ترى، ولا
هُوَ محتمِل لها إذا نظرتَ.
229 - وقد يجيءُ تَرْك "الواو" فيما ليس الخبرُ فيه كذلكَ،
ولكنه لا يَكثُر، فمن ذلك قولهمُ: "كلَّمتُهُ فوهُ إلى فيَّ" و
"رجَع عَوْدُهُ على بَدْئهِ"، في قولِ من رفعَ ومنه بيتُ
"الإصلاح".
نَصَفَ النهارُ، الماءُ غامِرُهُ ... ورَفيقُه بالغَيْبِ لا
يدري4
__________
1 في ديوانه، يعني حروجه في سواد الليل. و "البازي"، الصقر.
2 في ديوان أمية بن أبي الصلت.
3 هو شعر واثلة بن خليفة السدوسي، يهجو عبد الملك بن المهلب بن
أبي صفرة، وهو في البيان والتبيين 1: 291، 292/ 2: 313، وضبطه
في "س": لقد صبرت".
4 هو للمسيب بن علس، خال الأعشى، وهو مجموع شعر الأعشين: 352،
وهو في إصلاح المنطق لابن السكيت: 269، وفيه: "وشريكه بالغيب"
قال فقبله: "نصف النهار ينصف، إذا انتصف"، وقال بعده: "أراد:
أنتصف النهار والماء غامره ولم يخرج. وقال: وذكر غائصًا أنه
غاص، فانتصف النهار، فلم يخرج من الماء"، وهي من جياد القصائد
النوارد. وفي هامش المخطوطة "ج": "أي: والمءا غامره". وضبطت
أنا أبو فهر "النهار" بالنصب أيضًا، لأنه يقال: نصف الشيء
الشيء"، بلغ نصفه، ويقال: "نصفت القرآن، بلغت منه النصف، و
"نصف عمره"، أي بلغ نصفه.
(1/203)
ومن ذلك ما أنشدَه الشيخُ أبو علي في
"الإغفال"1:
ولَوْلا جَنَانُ الليلِ ما آبَ عامرٌ ... إلى جَعْفرٍ،
سِرْبالُه لم يُمَزَّقِ2
230 - وَمِمّا ظاهرُه أنَّه منه قوله:
إذا أتيت أبا مروان نسأله ... وجَدْتَه حاضِراهُ الجودُ
والكَرمُ3
فقولُه: "حاضِراهُ الجودُ"، جملةٌ من المبتدأ والخبر كما تَرى،
وليس فيها "وَاوٌ"، والمَوضِعُ موضعُ حالٍ، ألا تراكَ تقولُ:
"أتيتُه فوجدتُه جالساً"، فيكونُ "جالساً" حالاً، ذاك لأنَّ
"وجدتُ" في مثلِ هذا مِن الكلام لا تكونُ المتعديةَ إلى
مفعولينِ، ولكنْ المتعديةَ إلى مفعولٍ واحدٍ كقولكَ: "وجدْتُ
الضالَّة" إلاَّ أنه ينبغي أن تَعْلم أنَّ لتقديمهِ الخبرَ
الذي هو "حاضراه" تأثيراً في معنى الغِنى عن "الواوِ"، وأنه لو
قالَ: "وجدتُه، الجودُ والكرَمُ حاضراهُ" لم يَحسُنْ حسْنَه
الآنَ، وكان السببُ في حسْنه معَ التقديم، أنَّه يَقْرُبُ في
المعنى مِنْ قولكَ: "وجدتُه حاضرُه الجودُ والكرمُ" أو "حاضراً
عندَه الجوُد والكرمُ".
جملة الحال، والفعل مضارع مثت غير منفي لا تكاد تجيء بالواو:
231 - وإن كانِت الجملةُ من فِعْلٍ وفاعلٍ، والفعلُ مضارعٌ
مُثْبَتٌ غيرُ منفيِّ، لم يكَد يَجيء بالواوِ، بل تَرى الكلامَ
على مَجيئها عاريةً منَ "الواو"، كقولك: "جاءني زيدٌ يَسْعى
غلامُه بين يديه"، وكقوله:
__________
1 "أبو على الفارسي"، وكتابه "الإغفال".
2 الشعر لسلامة بن جندل في ديوانه، وفي الآصمعيات رقم: 42،
واللسان "جنن"، وروايته كما هنا، وأجود الروايتين ما في
الديوان والأصمعيات: "سر بالله لم يحرق"، أي لم تخرقه الرماح
والسهام. و "جنان الليل"، ما يسترك من ظلمته.
3 ينسب للأخطل، وليس في ديوانه.
(1/204)
وَقَدْ عَلَوْتُ قُتُودَ الرحْل يَسْفَعُني
... يومٌ قُدَيَدِيمَة الجوزاء مسموم1
وقوله:
ولقَدْ أَغْتَدِي يُدافِعُ رُكْني ... أَحْوَذِيٌّ ذُو
مَيْعَةٍ إضريجُ2
وكذلك قولُك: "جاءني زيدٌ يُسْرعُ"، لا فصل بين أن يكون الفعل
ذي الحالِ، وبينَ أن يكونَ لمن هو مِنْ سَبَبِه، فإنَّ ذلك
كلَّه يستمرُّ على الغَنى عن "الواوِ"، وعليه التنزيلُ
والكلامُ. ومثالهُ في التنزيل قولُه عزَّ وجلَّ: {وَلا
تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] وقولُه تعالى:
{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ
يَتَزَكَّى} [النمل: 17، 18]، وكقوله عزَّ اسمُه {وَيَذَرُهُمْ
فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186].
مجيء جملة الحال فعلا مضارعا ومعه الواو:
232 - فأما قول ابن همام السلولي:
فلما خشيت أظافيره ... نجوت، وأرهنهم مالكًا3
__________
1 هو شعر علقمة بن عبدة، في ديوانه: و "المفضليات: 120، وسيأتي
أيضًا رقم: 243 و "قنود الرجل"، خشب الرجل وأدواته. و "يسفعني"
يحرقني ويغير لوني من همسة وحره، و "الجوزاء" برج من أبراج
الشمس، يشتد الحر بنزولها فيه. و "مسموم"، شديد السموم، وهي
الريح الحارة. و "قديديمة" تصغير "قدام"، وروايته في الديوان
والمفضليات: "يوم تجيء به الجوزاء".
2 هو لأبي داود، وقد مضى في الفقرة رقم: 82.
3 هو عبد اللهبن همام السلولي، في أنساب الأشراف (القسم
الرابع، الجزء الأول من إحسان عباس": 293، 294، ومعاهد التنصيص
1: 285، يقوله ليزيد بن معاوية، حين أمر ابن زياد، أن يأخذه،
فآخذه، فسأله أن يكلفه عريفه، وكان اسم العريف "مالكًا" ففعل.
ثم هرب ابن همام وأخذ عريفه ولحق بيزيد بن معاوية فاستجار به
فآمنه، فقال له هذا الشعر لما رجع إلى دياره. وفي المطبوعة:
"أظافرهم"، وهو خطأ، والضمير يعود إلى الأسد في البيت قبله،
وهو:
وكرهني أرضكم أنني ... رأيت بها أسدًا شابكًا
و"شابك" مشتبك الأنياب، فهو أشد لفرسه.
(1/205)
في روايةِ مَنْ رَوى "وأرهُنُهم"1، وما
شبَّهوه به من قولهم: "فقمت وأَصُكُّ وجْهَهُ" فليستَ الواو
فيها للحال، وليس المعنى "نجوت راهنًا مالكًا" و "قمت صاكًا
وجهه"، ولكن "أرهن" و "أصك" حكاية حال، مثل قوله:
وَلَقد أَمرُّ عَلَى اللئيمِ يَسُبُّني ... فَمضَيْتُ، ثُمَّتَ
قلْتُ لا يَعْنيني2
فكما أن "أمُرُّ" ههنا في معنى "مررت"، كذلك يكون "أرهن" و
"أصك" هناك في معنى "رهنت" و "صككت".
ويُبيِّن ذلك أنك ترَى "الفاءَ" تَجيء مكانَ "الواوِ" في مثلِ
هذا، وذلك كنَحْو ما في الخَبرَ في حديثِ عبدِ الله بنِ عَتيك
حينَ دخَلَ على أبي رافعٍ اليهوديِّ حصْنَه قال: "فانتهيتُ
إليه، فإذا هو في بَيْتٍ مظلمٍ لا أدري أينَ هوَ منَ البيتَ،
فقلتُ: أبا رافعٍ! فقالَ: منْ هذا؟ فأهويتُ نحوَ الصَّوْتِ،
فأضربُه بالسَّيف وأنا دَهِشٌ"3 فكما أنَّ "أَضرِبُه" مضارعٌ
قد عطَفه بالفاء على ماضٍ، لأنه في المعنى ماضٍ، كذلك يكون
"أرهنُهم" معطوفاً على الماضي قبلَه وكما لا يُشَكُّ في أنَّ
المعنى في الخبر: "فأهويت فضربت"،
__________
1 وذلك لأن الرواية الأخرى: "وأرهنتهم مالكًا".
2 هو من شعر شيمر بن عمرو الحنفي، وقيل: لرجل من بني سلول،
والشعر في الأصمعيات رقم: 38. رواه سيبويه في الكتاب 1: 416،
والخزانة 1: 173، وتفسير الطبري 2: 351، وبعده:
غضبان، ممتلئًا على إهابه ... إني وربك سخطه يرضيني
3 لم أقف عليه بهذا اللفظ من حديث عبد الله بن عتيك رضي الله
عنه.
(1/206)
كذلك يكونُ المعنى في البيت: "نجوتُ
ورهَنْتُ"، إلا أنَّ الغرضَ في أخراجهِ على لفظِ الحالِ، أن
يَحكيَ الحالَ في أحدِ الخبرَيْن، ويدَعَ الآخر على ظاهره، كما
كان ذلك في "ولقد أمرُّ عَلَى اللئيمِ يَسبُّني، فمضيتُ"،
إلاَّ أن الماضي في هذا البيت مؤخَّر معطوفٌ، وفي بيتِ ابن
همَّام وما ذكرناه معه، مقدم معطوف عليه. فاعرفه.
مجيء الحال مضارعا منفيا، يجيء بالواو، كثير:
233 - فإنْ دخَلَ حرفُ نَفْي على المضارع تغيَّر الحكْمُ،
فجاءَ بالواوِ وبِتَرْكِها كثيراً، وذلك مثلُ قولِهم: "كنتُ
ولا أُخَشَّى بالذئبِ"1، وقولِ مسكين الدارمي:
أكْسَبَتْه الوَرِقُ البيضُ أباً ... ولقدْ كانَ ولا يُدعَى
لأَِبْ2
وقولِ مالِك بن رُفَيعٍ، وكان جنى جناية فطلبه مصعب بن الزبير:
يغاني مصعب وبنو أبيه ... فأين أحيد عنهم؟ لا أحيد
__________
1 مثل، وقليلًا ما يرد في كتب الأمثال، وهو في اللسان مادة
"خشى"، و "أخشى"، أخوف.
2 هو في المجموع من شعره، والأغاني 20: 211 "الهيئة"، وغيرها،
يقوله في امرأته، بقول قبله:
من رأى ظبيًا عليه لولؤ ... واضح الخدين مقرونًا بضب
ويقول في آخرها:
لا تلمها، إنها من نسوة ... ملحها موضوعة فوق الركب
"ملحها فوق الركب"، كناية عن سوء خلقها وقلة وفائها. و
"الورق"، الفضة، والضمير في "أكسبته" للظبي، ويعني به امرأته.
(1/207)
أقادُوا مِنْ دَمِي وتَوَعَّدوني ... وكنتُ
وما يُنَهْنِهُنِي الوعيد1
"كان" في هذا كله تامة والجلة الداخلُ عليها "الواوُ" في
موضِعِ الحالِ. ألا ترى أنَّ المعنى: "وُجدْتُ غيرَ خاشٍ
للذئبِ"، و "لقد وجد غير مدعو لأب" و "وجدت غيرَ منَهْنَه
بالوعيد وغيرَ مبالٍ به"، ولا معنى لجعلها ناقصة، وجَعْلٍ
"الواوِ" مزيدة.
234 - وليس مجيءُ الفعل المضارعِ حالاً، على هذا الوجه، بعزيزٍ
في الكلام، ألا تَراك تقولُ: "جعلتُ أمشي وما أدري أين أضع
رجلي" و "جعل يقول ولا يَدري"، وقال أبو الأسود: "يصيب وما
يدري"2، وهو شائع كثير.
مجيء المضارع منفيا حالا، بغير الواو كثيرٌ:
235 - فأمَّا مجيءُ المضارعِ مَنْفياً حالاً مِنْ غَير "الواو"
فيَكْثُر أيضاً ويَحْسُن، فمن ذلك قوله:
ثووا لا يُريدون الرواحَ وغالَهُمْ ... منَ الدَّهرِ أسبابٌ
جرين على قدر3
__________
1 هكذا هنا، وفي الأمالي 3: 127، "مالك بن أبي رفيع الأسدي
.... وكان صعلوكًا، فطلبه مصعب بن الزبير فهرب منه وقال هذا
الشعر، وروايته كما في "س" بغاني مصعب"، وهي أجود الروايتين
فأثبتها. وكان في "ج" والمطبوعة: "أتاني مصعب".
2 هو في صدر بيت لأبي الأسود، بقوله لعبد الله بن فروخ ويقال
قالها للحصين بن أبي الحر العنبري. وأيضًا في صدر البيت نفسه
منسوبًا إلى فرات بن حيان، ويقال إنه أيضًا لأبي سفيان بن
الحارث، والبيت:
يصيب وما يدري، ويخطى وما درى
وكيف يكون النوك إلا كذلك
وفي شعر فرات "إلا كذلكا"، و "النوك"، الحمق. وانظر معجم
الشعراء للمرزباني: 317.
3 هو لعكرشة العبسي، أبي الشغب، يرثي بنيه، وهو في شرح الحماسة
للتبريزي 3: 49، 50، ومجالس ثعلب: 242، والشعر بتمامه في
مقطعات مراث لابن الأعرابي، رقم: 4، ورواية البيت على الصواب
كما أثبته، وفي المطبوعة والمخطوطتين: "مضوا لا يريدون
الرواح".
(1/208)
وقال أرطاةُ بنُ سُهَيَّةَ، وهو لطيفٌ
جداً:
إنْ تَلقَني، لا تَرى غَيري بناظِرةٍ ... تنْسَ السِّلاحَ
وتعْرِفْ جَبْهةَ الأَسدِ1
فقولُه: "لا ترى" في موضعٍ حالٍ. ومثلُه في اللُّطفِ والحُسْن
قولُ أعشى هَمْدان، وصَحِبَ عبَّاد بنَ ورقاءَ إلى أصبهانَ فلم
يَحْمَدْه فقال:
أتَيْنَا أصبهانَ فهزَّلَتْنا ... وكنَّا قَبْل ذلك في نَعيم
وكانَ سَفاهةً منِّي وَجهلاً ... مَسِيري، لا أَسِيرُ إلى
حَميمِ2
قولُه: "لا أسيرُ إلى حَميمٍ"، حالٌ من ضميرِ المتكلمِ الذي هو
"الياء" في "مسير"، وَهُوَ فاعلٌ في المعنى، فكأنه قال: وكان
سَفاهةً مني وجهلاً أَنْ سرتُ غيرَ سائرٍ إلى حَميمٍ، وأنْ
ذهبتُ غيرَ متوجِّهٍ إلى قريب، وقال خالد بن يزويد بن معاوية:
لَو أَنَّ قَوْماً لاِرتفاعِ قَبيلةٍ ... دَخَلُوا السماءَ
دخلتُهَا لا أُحْجَبُ3
وهو كثيرٌ إلا أنه لا يَهْتَدي إلى وضْعِه بالموضع المَرْضِيِّ
إلاَّ من كان صحيح الطبع.
الماضي يجيء حالا بالواو وغير الواو مقرونا مع "قد":
236 - ومما يجيءُ بالواوِ وغيرِ "الواوِ"، الماضي، وهو لا يقعُ
حالاً إلا مع "قد" مُظْهَرةً أو مقدَّرَةً. أما مجيئُها
بالواوِ فالكثيرُ الشائعُ، كقولِكَ: "أتاني وَقَدْ جَهِدَهُ
السيرُ" وأّمَّا بغيرِ "الواو" فكقوله:
__________
1 أبياته في الأغاني 13: 34 "الدار" بقوله لشبيب بن البرصاء،
وكان قال: "وددت أنى جمعني وأين الأمة أرطأة بن سهية يوم قتالي
فأشفي منه غيظي". فبلغ ذلك أرطأة، فقال: "إن تلفني"، الشعر.
2 في مجموع شعر الأعشين: 341، والصحيح أن الأعشى صحب أبا
سليمان خالد بن عتاب بن ورقاء البراحي، انظر الأغاني: 6: 43
"الدار".
3 غير منسوب، في شرح شواهد العيني "الخزانة 13: 191".
(1/209)
مَتَى أَرى الصبْحَ قَدْ لاحَتْ مَخَايلُه
... والليلَ قد مزقت عنه السرابيل1
وقول الآخر:
فآبُوا بالرماحِ مُكَسَّراتٍ ... وأُبْنَا بالسيوفِ قَدِ
انْحِنْينا2
وقال آخر، وهو لطيف جدًا:
يمْشُون قدْ كَسَروا الجُفُونَ إلى الوغَى ... مُتَبَسِّمينَ
وفيهمِ اسْتِبْشارُ3
237 - وممِّا يجيءُ بالواو في الأكثرِ الأَشْيع، ثم يَأتي في
مواضعَ بغيرِ "الواو" فَيْلطُفُ مكانُه ويَدلُّ على البلاغة،
الجملةُ قد دَخلَها "ليس" تقول: "أتاني وليس عليه ثوبٌ" و
"رأيته وليس معه غيرُه"، فهذا هوَ المعروفُ المُسْتعمَل، ثم
جاءَ بغيرِ "الواو" فكانَ من الحُسْن على ما ترى، وهو قول
الأعرابي:
لَنا فتى وحبَّذَا الافْتَاءُ ... تَعْرِفُهُ الأَرسانُ
والدِّلاءُ
إذا جَرىَ في كفِّه الرِّشاءُ ... خُلَّى القَلِيبَ ليس فيه
ماء4
__________
1 الشعر لحندج بن حندج المري، شرح الحماسة للتبريزي 4: 160،
وسيأتي في رقم: 243.
2 هو من النصفة، قصيدة ععبد الشارق بن عبد العزى الجهني، شرح
الحماسة للتبريزي2:
229 - 234
3 في هامش المخطوطة "ج" حاشية نصها: "كسروا الجفون" من قوله:
ومن قبل ما أعييت كاسر عينه ... زيادًا ولم تقدر على حبائله
وهو وصف بدل على ثبات الجاش، وعلى الثقة بالله. قال أبو فهر:
أظن أن كثر الجفون، هو كير جفون السيوف، حتى لا تغمد، وتكون
أبدًا مصلته في الحرب.
4 لم أقف عليه بعد.
(1/210)
مجيء جملة الحال بغير واو:
هذا الباب: أنَّكَ ترَى الجملةَ قد جاءتْ حالاً بغير "واو"
ويَحْسُن ذلك1، ثم تَنظرُ فترَى ذلك إنما حَسُنَ من أجْلِ حرفٍ
دخلَ عليها. مثالُهُ قول الفرزدق:
فَقُلْتُ عَسى أنْ تُبْصريني كأنَّما ... بنِيَّ حَواليَّ
الأسودُ الْحَوَارِدُ2
قولُه: "كأنما بَنيَّ" إلى آخرهِ، في موضعِ الحال من غَيْرِ
شُبْهة، ولو أنك تَرَكْتَ "كأن" فقلتَ: "عسى أن تُبصريني
بَنِيَّ حَواليَّ كالأَسود"، رأيْتَهُ لا يَحْسُنُ حُسْنَه
الآن3، ورأيتَ الكلامَ يقتضي "الواو" كقولكَ: "عسى أن
تُبْصريني وبنيَّ حواليَّ كالأسود الحوارِد".
239 - وشَبيهٌ بهذا أنك تَرى الجملةَ قد جاءتْ حالاً بِعَقِب
مفردٍ، فلَطُفَ مكانُها، ولو أنك أَردْتَ أن تَجْعلها حالاً من
غيرِ أنْ يَتقدَّمها ذلك المفردُ لم يحْسُن، مثالُ ذلك قولُ
ابنِ الرومي:
__________
1 في "س"، "فحسن ذلك"، وفي نسخة عند رشيد رضا: "فيحسن ذلك".
2 في ديوانه، وروايته "الأسود اللوايد"، وهي أصح الرواتين،
وأولاها بهذا الشعر.
ورواية أكثر كتب البلاغة كما هنا، وأيضًا رواية الديوان: "فإني
عسى"، وهي أبيات ثلاثة يقولها الفرزدق لأمرأته طيبة بنت العجاج
المجاشعي، وقالت له: ليس لك ولد، وإن مت ورثك قومك! فقال لها:
تقول: أراه واحدًا طاح أهله ... يومله في الوارثين الأباعد
فإن عسى .................. ... ...................
فإن تميمًا قبل أن يلد الحصى ... أقام زمانًا وهو في الناس
واحد
و"الحوارد"، الغضاب. و "اللوابد" جمع "لابد"، وهو الأسد. و
"اللبدة"، وهو الشعر اللابد على زبرته. و "تميم" هو أبو
القبيلة التي منها الفرزدق، و "الحصى"، العدد الكثير، شبه في
الكبير بالحصى.
وفي هامش المخطوطة "ج"، ذكر البيت الثالث: "فإن تميمًا .... ".
3 في المطبوعة وحدها: "حسنه في الأول".
(1/211)
واللهُ يُبْقيكَ لنا سَالِماً ...
بُرْدَاكَ تَبْجِيلٌ وتعظيمُ1
فقوله: "برادك تبجيلٌ"، في مَوْضِع حالٍ ثانية، ولوْ أَنك
أسقَطْتَ "سالماً" من البيت فقلتَ: "واللهُ يُبقيكَ بُرْداك
تبجيل"، لم يكن شيئاً.
اختلاف الجمل الواقعة حالا، في مجيئها بالواو وبغيرها:
240 - وإذْ قد رأيتَ الجملَ الواقعةَ حالاً قد اختلفَ بها
الحالُ هذا الاختلافَ الظاهرَ، فلا بُدْ من أن يكونَ ذلك
إنَّما كان من أجل علل توجيه وأسبابٍ تقْتضيه، فمُحالٌ أن يكون
ههنا جملةٌ لا تَصْلحُ إلاَّ مع "الواوِ"، وأخرى لا تَصْلحُ
فيها "الواوُ"، وثالثةٌ تَصْلُحُ أن تجيءَ فيهأ "بالواو" وأنْ
تَدَعَها فلا تجيءُ بها، ثم لا يكونُ لذلك سبَبٌ وعلَّة، وفي
الوقوفِ على العلَّة في ذلك إشكالٌ وغُموضٌ، ذلك لأنَّ الطريقَ
إليه غيرُ مسْلوكٍ، والجهةَ التي منها تعرف غير معروفة، وأن
أكتبُ لك أصْلاً في "الخبرِ" إذا عرَفْتَه انفتح لك وجه العلة
في ذلك.
"الخبر" نوعان، جزء من الجملة وخبر ليس بجزء من الجملة:
241 - اعلم2 أنَّ "الخبرَ" يَنقسمُ إلى خَبرٍ هو جُزءٌ من
الجملةِ لا تَتمُّ الفائدةُ دونَه، وخَبرٍ ليس بجزءٍ منَ
الجملة، ولكنه زيادةٌ في خبر آخر، سابق له. فالول خبر المبتدأن
كمُنْطَلِقٌ في قولك: "زيدٌ مُنْطلقٌ"، والفعلُ كقولك: "خرجَ
زيدٌ"، وكلُّ واحدٍ من هذين جزءٌ منَ الجملة، وهو الأَصْل في
الفائدة والثاني هو الحالُ كقولك: "جاءني زيدٌ راكباً"، وذاكَ
لأنَّ الحالَ خبرٌ في الحقيقة، مِنْ حيثُ إنك تُثْبتُ بها
المعنى لذي الحالِ كما ثبت بخبر المبتدأ
__________
1 في ديوانه: 2315.
2 هذه الفقرة رقم: 241، قد سلف بنصها في الفقرة: 179.
(1/212)
للمبتدأ1، وبالفِعْل للفاعل. ألاَ تَراكَ
قد أَثبتَّ الركوبَ في قولَك: "جاءني زيدٌ راكباً" لزيدٍ؟
إلاَّ أنَّ الفَرْقَ أنك جئْتَ به لتزيدَ معنًى في إخباركَ عنه
بالمجيءِ، وهو أن تَجْعلَه بهذه الهيئة في مجيئهِ، ولم
تُجرِّدْ إثباتَك للركوب ولم تُبْاشِرْه به ابتداءً2، بل
بدأْتَ فأَثبتَّ المجيءَ، ثم وَصلْت به الركوبَ، فالتبسَ به
الإثباتُ على سَبيل التَّبَعِ لغيِره، وبشَرْط أنْ يكونَ في
صِلَته, وأمَّا في الخبر المطلق نحو: "زيد منطلق" و "خرج
عمرو"، فإنَّك أثبتَّ المعنى إثباتاً جرَّدْتَه له، وجعلْتَه
يُباشِرُه من غيرِ واسطةٍ3، ومن غيرِ أَن يتسبب بغيره إليه.
جملة الحال وامتناعها من الواو، وتفسير ذلك:
242 - وإذْ قَدْ عَرفْتَ هذا، فاعلمْ أنَّ كلَّ جملةٍ وقعَتْ
حالاً ثم امتنعَتْ منَ "الواو"، فذاك لأَجْل أنَّك عمَدْتَ إلى
الفعل الواقعِ في صدرِها فضَمَمْتَه إلى الفعلِ الأَول في
إثباتٍ واحدٍ، وكلُّ جملةٍ جاءتْ حالاً، ثم اقتضتْ "الواو"،
فذاكَ لأنكَ مستأنِفٌ بها خَبَراً، وغيرُ قاصدٍ إلى أنْ
تَضُمَّها إلى الفعلِ الأولِ في الإثبات.
243 - تفسيرُ هذا: أَنك إذا قلْتَ: "جاءني زيدٌ يُسْرعُ"، كانَ
بمنزلة قَوْلِك: "جاءني زيدٌ مُسرعاً"، في أنك تُثْبِتُ
مَجيئاً فيه إسْراعٌ، وتَصِلُ أَحَد المعنَييْنِ بالآخَرِ،
وتجعلُ الكلامَ خبراً واحداً، وتريدُ أن تقولَ: "جاءني كذلك،
وجاءني بهذه الهيئة"، وهكذا قوله:
__________
1 في المطبوعة: "كما تثبته بالخبر للمبتدأ"، وفينسخة عند رشيد
رضا، كالذي أثبت هنا.
2 "ابتداء" زئادة في هذا الموضع، ولم تكن في رقم: 179.
3 في المطبوعة "مباشرة"، وقال رشيد رضا: "في نسخة: يباشره".
(1/213)
وَقَدْ عَلَوْتُ قُتُودَ الرحْل يَسْفَعُني
... يومٌ قُدَيَدِيمَة الجوزاءِ مسْمُومُ1
كأنه قال: "وقَدْ عَلَوْتُ قُتُودَ الرجل بارزاً للشمس
ضاحياً"، وكذلك قولُه:
مَتَى أَرى الصبحَ قَدْ لاحَتْ مَخايِلهُ2
لأنه في معنى: "متى أرى الصبح باديًا متجلِّياً" وعلى هذا
القياس أبداً. وإذا قلتَ: "جاءني وغلامه يسعى بين يديه" و
"رأيت زيداً وسَيفُه على كتفه"3، كان المعنى على أنك بدأَتَ
فأثبتَّ المجيءَ والرؤْيةَ، ثم استأنَفْتَ خبراً، وابتدأتَ
إثباتاً ثانياً لسعيِ الغلام بِين يديه، ولكونِ السيفِ على
كَتِفه، ولمَّا كان المعنى على استئنافِ الإثباتِ، احْتِيجَ
إلى ما يَربِطُ الجملةَ الثانيةَ بالأُولى، فجيءَ بالواو كما
جيء بها في قولك: "زيدٌ منطلقٌ وعمرو ذاهب" و "العلم حَسَنٌ
والجهلُ قَبيحٌ". وتَسْميتُنا لها" واو حال"، لا يُخْرجها عن
أنْ تكونَ مجْتَلَبةً لِضَمِّ جملةٍ إلى جملةٍ.
ونَظيرُها في هذا "الفاءُ" في جوابِ الشرطِ نحوُ: "إنْ تأتِني
فأَنْتَ مُكْرَم"، فإنها وإنْ لم تكن عاطفةً، فإِن ذلك لا
يُخْرجُها مِنْ أن تكونَ بمنزلة العاطفةِ في أنها جاءتْ
لتَرْبِطَ جملة ليس مِنْ شأنِها أن ترتبِطَ بنفسِها4، فاعرفْ
ذلك ونزَّل الجملةَ في نحوِ: "جاءني زيدٌ يسرعُ" و "قد علوت
قتود
__________
1مضى البيت في رقم: 231، وهو لعلقمة بن عبدة.
2 مضى في رقم: 236، وتمامه:
والليل قد مزقت عنه السرابيل
3 انظر الفقرة رقم: 226.
4 في المطبوعة وحدها: "أن تربط بنفسها".
(1/214)
الرجل يسفعني يومٌ"، مَنْزِلةَ الجزاءِ
الذي يَسْتغني عنِ "الفاء"، لأنَّ مِن شأنِه أن يرتبطَ
بالشَّرط من غير رابط، وهو قولك: "إن تعطيني أَشكُرْك" ونزَّل
الجملةَ في "جاءني زيدٌ وهو راكبٌ"، منزلةَ الجزاءِ الذي ليس
من شأنِه أنْ يَرتَبطَ بنفسهِ، ويحتاجُ إلى "الفاء"، كالجملة
في نحوِ: "إنْ تأتني فأنتَ مُكْرَمٌ"، قياساً سويًا وموازنة
صحيحة1.
بيان دخول الواو على الجملة:
244 - فإنْ قلتَ قد عَلِمْنا أنَّ علَّة دخولِ "الواو" على
الجملة أن تَسْتأنِفَ الإثباتَ، ولا تَصلَ المعنى الثاني
بالأول في إثباتٍ واحدٍ، ولا تُنَزِّلَ الجملةَ منزلةَ المفردِ
ولكنْ بقِيَ أنْ تعلَمَ لِمَ كان بعضُ الجمل، بأنْ يكون
تَقديرُها تقديرَ المفرد في أَنْ لا يُستأْنَفَ بها الإثباتُ،
أوْلى مِنْ بعض؟ 2 وما الذي منَعَ في قولكَ: "جاءني زيدٌ وهو
يسرعُ، أو: وهو مسرع" من أن يَدخُلَ الإسراعُ في صلةِ المجيءِ
ويُضَامَّه في الإثبات، كما كان ذلك حِينَ قلتَ: "جاءني زَيْدٌ
يُسرع"؟
فالجوابُ أن السببَ في ذلك أَنَّ المعنى في قولك: "جاءني زيدٌ
وهو يُسرعُ"، على استئنافِ إثباتٍ للسرعة، ولم يكنْ ذلك في
"جاءني زيدٌ يُسْرعُ". وذلك أنكَ إذا أَعدْتَ ذكْر "زَيدٍ"
فجئْتَ بضميرِه المنفصلِ المرفوع، كانَ بمنزِلِة أنْ تُعيدَ
اسْمَه صريحاً فتقولُ: "جاءني زيدٌ وزَيدٌ يسرعُ" في أّنَّك لا
تَجد سبيلاً إلى أّنْ تُدخِلَ "يسرعُ" في صلةِ المَجيء،
وتَضُمَّه إليه في الإثبات. وذلك أنَّ إعادتَكَ ذكْرَ "زيدٍ"
لا يكون حتى تقصد استئناف الخبر.
__________
1 السياق: "ونزل الجملة .... قياسًا سويًا ... ".
2 السياق: "لم كان بعض الجمل ... أولى من بعض" خبر "كان".
(1/215)
عنه بأنه يُسرعُ، وحتى تَبتدئَ إثباتاً
للسُّرعَة، لأنك إنْ لم تَفْعلْ ذلك، تركْتَ المبتدأ، الذي هو
ضميرُ "زيدٍ" أو اسْمُه الظاهرُ، بمَضِيعةٍ، 1 وجعَلْتَه
لَغُواً في البَيْن2، وجرى مجْرى أن تقول: "جاءني زيدٌ وعمرو
يُسرع أمامه"، ثم تزعُمُ أنك لم تستأنِفْ كلاماً ولم تبتدئ
للسرعة إثباتاً، وأنَّ حالَ "يُسْرعُ" ههنا، حالُه إذا قلتَ:
"جاءني زيدٌ يسرعُ، فجعلْتَ السرعةَ له، ولم تذكُرْ "عَمراً"،
وذلك مُحال.
245 - فإن قلتَ: إنَّما استحالَ في قولك: "جاءني زيدٌ وعمرو
يُسرعُ أمامَه" أَن تَرُدَّ "يُسرع" إلى "زيدٍ" وتُنْزِله
منزلةَ قولكَ: "جاءني زيدٌ يُسرع"، من حيث كان في "يُسرع"
ضميرٌ لعمرو، وَتَضَمُّنُهُ ضميرَ عمرو يَمْنع أن يكونَ لزيدٍ،
وأن يقدَّرَ حالاً له. وليس كذلك: "جاءني زيدٌ وهو يسرعُ"،
لأنَّ السرعةَ هناك لزيدٍ لا محالةَ، فكيفَ ساغ أن تَقيس إحدى
المسئلتين على الأُخرى؟
قيل: ليس المانعُ أن يكون "يُسرع" في قولك: "جاءني زيد وعمرو
يسرع أمامه"؟ حالاً من زيدٍ أنَّه فعلٌ لعمرو، فإنك لو
أخَّرْتَ "عَمراً" فرفَعْتَه "بيُسرع"، وأولَيْتَ "يسرع" زيدًا
فقلت: "جاءني زيد يسرع عمرو أَمامَه" وجدتَه قد صلُح حالاً
لزيدٍ، مع أنه فعْلٌ لعمرو وإنما المانعُ ما عرَّفْتُكَ، مِنْ
أنكَ تدَعُ "عَمراً" بمَضِيعةٍ3، وتجيءُ به مبتدأً، ثم لا
تعطيه خبرًا4.
__________
1 السياق: "تركت المبتدأ ... " بمضيعة".
2 "في البين"، أي بينهما، وقد فسرته آنفًا.
3 انظر الفقرة السالفة: 244.
4 عند هذا الموضع حاشية في "ج"، هي بلا شك من كلام عبد القاهر:
هذا نصها:
(1/216)
ومما يدل على فساد ذلك أن يؤدِّي إلى أن
يكونَ "يُسرع" قد اجتمعَ في موضعِه النصْبُ والرفعُ، وذلك أنَّ
جعْلَه حالاً من "زيدٍ" يَقتضي أن يكونَ في موضع نصب وجعله
خبرًا عن "‘مرو" المرفوعِ بالابتداءِ يَقتضي أَنْ يكونَ في
موضعِ رفعٍ. وذلك بيِّنُ التدافعِ. ولا يَجِبُ هذا التدافعُ
إذا أخَّرْتَ "عمراً" فقلْتَ: "جاءني زيدٌ يسرع عمرو أمامه"،
لأنك ترفعه حينئذ بيسرعُ1، على أنه فاعلٌ له، وإذا ارتفعَ به
لم يوجب في موضعه إعرابًا2،
__________
= "مما يزيد في بيان هذا المسئلة أنك لو قلت: "جاءني زيد وعمرو
مسرع بين يديه"، لم تستطيع أن تنصب "مسرعًا" على أن تجعله
داخلًا في إثبات المجيء، لأن نصبه يخرجه من أن يكون خبرًا عن
"عمرو"، فيبقى "عمرو" مبتدأ لا خبر له. وإذا عرفت هذا في
"مسرع" الذي هو اسم، فقس "يُسرع" في قولك: "جاءني زيد وعمرو
يسرع أمامه" عليه وإذا قلت: "جاءني زيد يسرع عمرو أمامه"،
أمكنك أن تضع الاسم موضع الفعل فتقول: "جاءني زيد مسرعًا عمرو
أمامه"، ويكون لعمرو عامل يعمل فيه ولا يبقى ضائعًا، لأن اسم
الفاعل إذا تقدم، صح أن يرتفع "عمرو" به وإذا تأخر لم يصح،
لأنه إذا تأخر صار "عمرو" مبتدأ، وإذا صار مبتدأ احتاج إلى
خبر، والاسم [لا يكون خبرًا وينصب].
وهذا الذي بين القوسين جاز عليه التصوير، فلم يبق منه إلا
حروف، فهكذا قرأته، والله أعلم.
1 "حينئذ"، ليست في المطبوعة، وأشار رشيد رضا أنها عنده في
نسخة.
2 في المطبوعة بين قوله: "لم يوجب في موضعه إعرابًا"، وقوله:
"فيبقى مفرغًا"، كلام ليس في شيء من الأصول، وقد نبه الشيخ
رشيد رضا في الاستدراك على أنها حاشية، وليست في الأصل وهذا
نصها:
(1/217)
فيبقى مُفْرَغاً لأن يُقدَّرَ فيه النصْبُ
على أَنه حالٌ من "زيدٍ" وجَرَى مجْرى أن تقول "جاءني زيد
مسرعًا عمرو أمامه".
القياس أن لا تَجيءَ جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ إلا مع الواو، وعلة
ترك ذلك:
246 - فإن قلتَ: فقد يَنبغي على هذا الأصلِ أن لا نجيء جملةٌ
مِن مبتدأٍ وخبرٍ حالاً إلاَّ معِ "الواو"، وقد ذكرتُ قبْلُ
أنَّ ذلك قد جاءَ في مواضعَ من كلامهم1.
فالجوابُ أنَّ القياسَ والأصْلَ أن لا تَجيءَ جملةٌ مِن مبتدأٍ
وخبرٍ حالاً إلاَّ مع "الواو"، وأمَّا الذي جاءَ من ذلك
فَسَبيلهُ سبيلُ الشيءِ يَخرجُ عن أَصْله وقياسِه والظاهرِ
فيه، بضربٍ منَ التَّأويل ونوعٍ منَ التشبيه، فقَولُهم:
"كلَّمتُهُ فوهُ إلى فيَّ"2، إنما حَسُن بغيرِ "واو" من أجْل
أنَّ المعنى: كلَّمْتُهُ مشافِهاً له وكذلك قولُهم: "رجعَ
عَوْدُه على بَدْئه"، 2 إنما جاءَ الرفعُ فيه والابتداءُ من
غيرِ "واو"، لأن المعنى: رجَعَ ذاهباً في طريقه الذي جاءَ فيه
وأما قولُه: "وجدتُه حاضراهُ الجودُ والكرمُ"3 فلأَنَّ تقديمَ
الخَبر الذي هو "حاضراهُ"، يجعله.
__________
"أي إن "عمرو" إذا ارتفع بيسرع، فلا يمكن أن يكون عاملًا في
موضع "يسرع" بشيء من الإعراب، فإنه لا يتأتي أن يكون عاملًا
معمولًا لشيء واحد، فيبقى موضع "يسرع" مفرغًا لأن يقدر فيه
النصب على الحالية، بخلاف ما لو كان "يسرع" مؤخرًا عن "عمرو
امامه"، فإنه إن اتصل "يسرغ" بزيد كان محله النصب، مع أن
"عمرو" المبتدأ، عمل في موضعه الرفع، فيأتي التدافع كما سبق".
وبلا ريب البتة، ليس هذا من كلام عبد القاهر.
1 انظر ما سلف من عند الفقرة رقم: 226 وما بعدها.
2 انظر الفقرة: 229.
3 انظر الفقرة: 230.
(1/218)
كأنه قال: "وجدتُه حاضراً عندَهُ الجودُ
والكرمُ".
وليس الحَمْلُ على المعنى، وتَنزيلُ الشيءِ منزلةَ غيرِه،
بعَزيزٍ في كلامِهم، وقَدْ قالوا: "زيدٌ أضرِبْه"، فأجازوا أن
يكونَ مثالُ الأمر في موضعِ الخَبر، لأنَّ المعنى على النَّصب
نحوُ: "اضرب زيد" ووضَعوا الجملةَ، من المبتدأ والخبر موضعِ
الفعل والفاعل في نحوِ قولِهِ تعالى1: {أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ
أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193]، لأنَّ الأصْلَ في
المعادلة أن تكونَ الثانيةُ كالأُولى نحو: "أدعَوْتموهم أم
صَمَتُّمْ".
ويدلُّ على أنْ ليس مجيءُ الجملةِ من المبتدإ والخبر حالاً
بغيرِ "الواو" أصلاً، قلَّتُهُ2، وأنه لا يَجيءُ إلاَّ في
الشيءِ بَعْدَ الشيءِ.
هذا، ويجوزُ أنْ يكونَ ما جاءَ مِن ذلك إنما جاءَ على إرادةِ
"الواو"، كما جاءَ الماضي على إرادة "قد".
247 - واعلمْ أنَّ الوجْهَ فيما كان مثلَ قولِ بشار:
خرجْتُ مَعَ البازي عَلَيَّ سوادُ3
أنْ يُؤخذَ فيه بمذهبِ أبي الحَسنِ الأَخْفش4، فيُرفَعَ
ِ"سواد" بالظرف دون الابتداء، ويجري الظرفُ ههنا مجرْاه إذا
جرَتِ الجملةُ صفةً على النكرة
__________
1 في "س"، وفي نسخة عند رشيد رضا: "ووضح الجملة من المبتدإ
والخبر".
2 "قلته"، فاعل "ويدل".
3 انظر الفقرة السالفة رقم: 228.
4 "الأخفش"، ليس في "ج" ولا "س".
(1/219)
نحوُ: "مررتُ برجلٍ معه صقرٌ صائداً به
غداً"1، وذلك أنَّ صاحبَ الكتاب يُوافق أبا الحسن في هذا
الموضع فيرفع "صقرًا" بما في "معه" من معنى الفعلِ، فلذلكَ
يجوزُ أن يُجْرِيَ الحالَ مَجْرى الصفةِ، فيَرفعَ الظاهرَ
بالظْرف إذا هو جاءَ حالاً، فيكونَ ارتفاعُ "سَوادُ" بما في
"عَلَيَّ" من معنى الفعل، لا بالإبتداءِ.
ثم ينبغي أن يُقدَّر ههنا خصوصاً أن الظرفَ في تقديرِ اسم
فاعلٍ لا فعل، أعني أنْ يكونَ المعنى: "خرجتُ كائناً عَلَيَّ
سوادٌ، وباقياً عَلَيَّ سواد، ولا يقدر: "يكون علي سواد"، و
"يبقى عَلَيَّ سَوادُ"، اللهمَّ إلاَّ أنْ تُقدِّر فيه فعْلاً
ماضياً مع "قد" كقولك: "خرجتُ مع البازي قدْ بقيَ عَلَيَّ
سوادُ"، والأولُ أظهرُ.
248 - وإذا تأملتَ الكلامَ وجدتَ الظرفَ وقَدْ وقَعَ مواقِعَ
لا يستقيمُ فيها إلا أنْ يُقدَّر تقديرَ اسم فاعلٍ، ولذلك قال
أبو بكرِ من السرَّاج في قولِنا2: "زيدٌ في الدار"، إنك
مُخيَّرٌ بَيْنَ أنْ تُقدِّرَ فيه فعلاً فتقولَ: "استقرَّ في
الدارِ"، وبينَ أَن تقدِّرَ اسمَ فاعلٍ فتقولَ: "مستقرٌّ في
الدار"، وإذا عاد الأمرُ إلى هذا، كان الحالُ في تركِ "الواو"
ظاهرة3، وكان "سواد" ي قوله "خرجتُ مع البازي عَلَيَّ سوادُ"،
بمنزلة "قضاء الله" في قوله:
سأَغْسِلُ عَنّي العارَ بالسيفِ جالِباً ... عَلَيَّ قضاءَ
الله ما كان جالبًا4
__________
1 هذا مثال سيبويه في الكتاب 1: 241، ولكن ليس فيه، غدًا"،
فيحقق.
2 "ابن السراج"، ليست "ج" ولا "س".
3 في نسخة عند رشيد رضا: "على ظاهره"؟
4 شعر سعد بن ناشب المازني، شرح الحماسة للتبريزي 1: 35. وفي
"س" أسقط البيت، وساق الكلام هذا: "بمنزلة قضاء الله في كونه
اسمًا ظاهرًا".
(1/220)
في كونِهِ اسماً ظاهراً قد ارتفعَ باسمِ
فاعلٍ قد اعتمَدَ على ذي حالٍ، فعَمِلَ عَملَ الفِعْل.
ويدلُّكَ على أن التقديرَ فيه ما ذكرتُ، وأنه من أجْل ذلك
حَسُنَ1، أنَّكَ تَقول: "جاءني زيدٌ والسيفُ على كَتِفه" و
"خرج والتاجُ عليه"، فتَجِدُه لا يَحْسُن إلا بالواوِ، وتعَلم
أنَّكَ لو قلتَ: "جاءني زيدٌ السيفُ على كتفه" و "خرج التاجُ
عليه"، كان كلاماً نافراً لا يكادُ يقعُ في الاستعمال، وذلك
لأنه بمنزلةِ قولِك: "جاءني وهو متقلد سيفه" و"خرج وهو لابسٌ
التاجَ"، في أنَّ المعنى على أنك استأنفْتَ كلاماً وابتدأْتَ
إثباتاً وأنك لم تُرِدْ: "جاءني كذلكَ" ولكن "جاءني وهُوَ
كذلكَ"، فاعرفه.
__________
1 السياق: "ويدلُّكَ على أن التقديرَ فيه ما ذكرتُ ..... أنك
تقول: "جاءني زيد".
(1/221)
|