دلائل الإعجاز ت شاكر

باب الفصل والوصل:
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في الفصل والوصل:
248م- اعلمْ أنَّ العلمَ بما ينبغي أن يُصْنَعَ في الجملِ من عطفِ بعضها على بعضٍ، أو تركِ العطفِ فيها والمجيءَ بها منثورة، تُسْتَأْنَفُ واحدةٌ منها بعد أخرى1 من أسرارِ البلاغة، ومما لا يتأتَّى لتمامِ الصَّوابِ فيه إلاَّ الأعرابُ الخُلَّص2، والإَّ قَوْمٌ طُبِعُوا على البلاغة3، وأوتوا فنَّاً مِنَ المعرفة في ذوقِ الكلامِ هم بها أفرادٌ. وقد بلغَ من قوة الأمر في ذلك أنَّهم جعلوهُ حَدّاً للبلاغة، فقد جاء عَنْ بعضهم أنه سُئِل عنها فقال: "مَعْرِفَةُ الفَصلِ منَ الوصلِ"4، ذاك لغموضِه ودقِة مَسْلكِه، وأّنَّه لا يَكْمُلُ لإِحرازِ الفضيلة فيه أحدٌ، إلاَّ كَمَلَ لسائِر معاني البلاغة.
249 - واعلم أنَّ سبيلَنا أن ننظَر إلى فائدةِ العطف في المُفْرد، ثم نَعودَ إلى الجملة فننظرَ فيها ونتعرفَ حالَها.
ومعلومٌ أن فائدَةَ العطف في المُفردِ أن يُشْرِكَ الثاني في إِعراب الأول، وأنه إذا أَشْرَكَه في إِعرابه فقد أَشْرَكَه في حُكْمِ ذلك الإِعرابِ، نحو أن المعطوف على
__________
1 السياق: "اعلم أن العلم بما ينبغي .... من أسرار البلاغة".
2 في المطبوعة وحدها: "ما لا يأتي".
3 في المطبوعة وحدها" "والأقوام طبعوا ... ".
4 في هامش "ج" هنا حاشية: إنما سئل عن ذلك أبو تمام الطائي، وفي البيان والتبيين14: 87: "قيل للفارسي: ما البلاغة؟ قال: معرفة الفصل من الوصل".

(1/222)


المرفوع بأنه فاعلٌ مثلُه، والمعطوفَ على المنصوبِ بأنَّه مفعولٌ به أو فيه أوْ لُه شريكٌ له في ذلك.
وإذا كان هذا أصلَه في المفرد، فإِنَّ الجملَ المعطوفَ بعضُها على بعضٍ على ضربين:
أحدُهما: أن يكونَ للمعطوفِ عليها موضعٌ من الإِعراب، وإذا كانت كذلك، كان حكمها حكم المفرد، إذ لا يكون للجملة موضع من الإعراب حتى تكونَ واقعة موقعَ المفرد، وإذا كانت الجملةُ الأولى واقعة موقعَ المُفْرَدِ، كان عطفُ الثانية عليها جارياً مجرى عطف المفرد على المفرد1، وكان وجهُ الحاجة إلى "الواو" ظاهراً، والإِشراكُ بها في الحُكْمِ موجوداً، فإذا قلتَ: "مررتُ برجلٍ خُلُقهُ حَسَنٌ وخَلْقه قبيحٌ" كنتَ قد أشركتَ الجملَة الثانيةَ في حُكمِ الأُولى، وذلك الحكمُ كونُها في موضع جرٍّ بأَنَّها صفةٌ للنكرة. ونظائرُ ذلك تَكْثُر، والأمرُ فيها يَسْهُلُ.
والذي يشكلُ أمُره هو الضربُ الثاني، وذلك أن تَعطِفَ على الجملةِ العاريةِ الموضعِ من الإِعرابِ جملة أخرى، كقولك: "زيد قائم، وعمرو قاعد" و "العلم حسنٌ، والجهلُ قبيحٌ"، لا سبيلَ لنا إلى أن ندَّعيَ أن "الواوَ" أشركتِ الثانيةَ في إعراب قد وجب للأولى بوجه من الوجه. وإذا كان كذلك، فينبغي أنْ تعلمَ المطلوبَ مِنْ هذا العطفِ والمغْزى منه، ولمَ لَمْ يَسْتَوِ الحالُ بينَ أن تعطِفَ وبَيْنَ أن تَدَعَ العطفَ فتقولَ: "زيدٌ قائمٌ، عمروٌ قاعدٌ"، بعد أن لا يكونَ هنا أمرٌ معقولٌ يؤتَى بالعاطفِ ليُشْرِكَ بين الأولى والثانيةِ فيه؟
__________
1 في "ج": " .... واقعة موقوع المفرد، وكان وجه الحاجة ... "، وأسقط كلمات، وفي المطبوعة: " .... مجرى عطف المفرد، وكان وجه الحاجة"، أسقط "على المفرد".

(1/223)


معاني العطف بالواو والفاء وثم:
250 - واعلمْ أنه إنما يَعْرِضُ الإِشكالُ في "الوِاو" دونَ غيرِها مِنْ حروفِ العطفِ، وذاك لأَن تلكَ تفيدُ مع الإِشراكِ معانَي، مثلَ أنَّ "الفاء" توجب الترتيب من غير تراخ، و "ثم" توجيه مَع تراخٍ، و "أوْ" تردِّدُ الفعلَ بينَ شيئين وتجعلُهُ لأّحِدهما لا بِعَيْنِه، فإِذا عطفتَ بواحدة منها الجملةَ على الجملةَ، ظهرتِ الفائدةُ، فإذا قلت: "أعطاني فشكرته"، ظهرَ بالفاءِ أنَّ الشكرَ كان مُعْقَباً على العطاءِ ومسبَّباً عنه وإذا قلتَ: "خرجتُ ثم خرجَ زيدٌ"، أفادتْ "ثم" أن خروجَه كان بَعْدَ خروجِكَ، وأن مُهْلَةً وقعتْ بينهما وإذا قلتَ: "يعطيكَ أو يكسوكَ"، دلَّتْ "أو" على أنه يفعلُ واحداً منهما لا بِعَيْنِه.
وليس "للواو" معنى سوى الإشراكِ في الحكمِ الذي يَقْتَضيهِ الإعرابُ الذي أتبعتَ فيه الثانيَ الأولَ. فإذا قلت: "جاءني زيد وعمرو" لم تقد بالواو شيئاً أكثر من إشراك عمرو في المجيء الذي أثبتَّه لزيدٍ، والجمْعِ بينُه وبينَه، ولا يُتَصوَّرُ إشراكٌ بينَ شيئين حتَّى يكونَ هناك معنى يقعُ ذلك الإِشراكُ فيه. وإذا كانَ ذلك كذلكَ، ولم يكن مَعَنا في قولنا: "زيد قائم وعمرو قاعدٌ" معنى تزعمُ أن "الواو" أشركتْ بَينَ هاتين الجملتين فيه، ثبت إشكال المسئلة.
251 - ثم إن الذي يوجِبُه النظرُ والتأملُ أّنْ يقال في ذلك: إن اوإن كنا إذا قلنا: "زيد قائم وعمرو قاعد"، فإنا لا نرى ههنا حكماً نزعمُ أنَّ "الواو" جاءتْ للجمعِ بين الجملتين فيه، فإنا نرى أمراً آخرَ نحصُلُ معه على معنى الجمعِ. وذلك أَنّا لا نقول: "زيد قائم وعمرو قاعد"، حتى يكون عمرو بسبب من زيدٍ، وحتى يكونا كالنَّظيرينِ والشريكَيْنِ، وبحيث إذا عرفَ السامُع حالَ الأّوَّل عناه أن يعرفَ حالَ الثاني. يدلُّكَ على ذلكَ أنَّكَ إنْ جئتَ فعطفتَ على الأَوَّل شيئاً ليس منه بسببٍ، ولا هُوَ مما يُذْكَرُ بذكرِه ويتَّصِلُ حديثُه.

(1/224)


بحديِثه، لم يستقْم. فلو قلتَ: "خرجتُ اليومَ من داري"، ثم قلتَ: "وأحسنُ الذي يقولُ بيتَ كذا"، قلتَ ما يُضْحَكُ منه. ومن ههنا عابوا أبا تمام في قوله:
لا والذي هُوَ عالِمٌ أنَّ النَّوَى ... صَبِرٌ وأنَّ أبا الحُسَيْنِ كريمُ1
وذلك لأنه لا مناسبةَ بينَ كَرَمِ أبي الحسين ومرارِة النَّوى، ولا تعلُّقَ لأَحِدهما بالآخرِ، وليس يقتضي الحديثُ بهذا الحديثُ بذاك.
252 - واعلمْ أنه كما يجبُ أن يكونَ المحدَّثُ عنه في إحدى الجملتين بسببٍ من المحدَّثِ عنه في الأخرى، كذلكَ ينبغي أنْ يكونَ الخبرُ عن الثاني مما يَجْرِي مَجْرى الشبيهِ والنظيرِ أو النَّقيضِ للخبر عن الأولِ. فلو قلتَ: "زيدٌ طويلُ القامة وعمرو شاعرٌ"، كان خُلْقاً، لأنه لا مُشاكلَةَ ولا تعلُّق بينَ طولِ القامةِ وبين الشعرِ، وإنما الواجب أن يقال: "زيد كاتب وعمرو شاعر"، و "زيد طويل القامة وعمرو قصيرٌ".
وجملةُ الأمِر أنها لا تجيءُ حتى يكونَ المَعْنى في هذِهِ الجملة لَفْقاً للمعنى في الأخرى ومُضَامَّاً له، مثل أن "زيداً" و"عمرًا" إذا كانا أخوَيْن أو نظيرين أو مُشتبكَيِ الأحوالِ على الجملة، كانتِ الحالُ التي يكونُ عليها أحدُهما، من قيامٍ أو قعودٍ أو ما شاكَلَ ذَلكَ، مضمومة في النَّفسِ إلى الحالِ التي عليها الآخَرُ من غَير شَكٍ2. وكذا السبيل أبدًا.
__________
1 في ديوانه.
2 في "ج": "كانت الحال التي كون عليها الآخر من غير شك"، أسقط ما بين الكلامين سهوًا.

(1/225)


والمعاني في ذلك كالأَشخاصِ، فإنما قلتَ مثلاً: "العلمُ حسنُ والجهلُ قبيحٌ"، لأنَّ كونَ العلم حَسَناً مضمومٌ في العقولِ إلى كونِ الجهلِ قبيحًا.
عطف الجمل بالواو:
253 - واعلمْ أنَّه إذا كان المخَبرُ عنه في الجملتين واحداً كقولنا: "هو يقولُ ويفعلُ، ويَضُرُّ ويَنْفَعَ، ويُسيءُ ويُحْسِنُ، ويأمُرُ ويَنْهى، ويَحُلُّ ويْعقِد، ويأخُذُ ويُعْطي، ويَبيعُ ويَشْتَري، ويأكُلُ ويشرَبُ" وأشباه ذلك، ازدادَ معنى الجمعِ في "الواو" قوة وظهوراً، وكان الأمْرُ حينئذٍ صريحاً.
وذلكَ أنَّك إذا قلتَ: "هو يَضُرُّ وينفعُ"، كنتَ قد أفدتَ "بالواو" أنكَ أوجبتَ له الفعلينِ جميعاً، وجعلَته يفعلُهما معاً، ولو قلتَ: "يَضرُّ ينفعُ": من غير "واو" لم يجبْ ذلك، بل قد يجوزُ أن يكونَ قولُكَ "ينفعُ"، رجوعاً من قولك "يضرٌّ" وإبطالاً له.
254 - وإذا وقعَ الفعلانِ في مثل هذه في الصِّلة، ازدادَ الاشتباكُ والاقترانُ حتى لا يتصوَّرُ تقديرُ إفرادٍ في أحدِهما عن الآخِر، وذلك في مثلِ قولَك: "العَجَبُ من أني أحسنت وأسأت" و "يكفيك ما قلت وسمعت" و"أيحسن أن تنهَى عن شيءٍ وتأتَي مثلَه؟ "، وذلك أنه لا يشتبه على عاقلٍ أنَّ المعنى على جعلِ الفِعْلَين في حكمِ فعلٍ واحد. ومِنَ البيِّن في ذلك قولُه:
لا تَطْمَعُوا أَنْ تُهِينُونَا ونُكْرِمَكُمْ ... وأن نَكُفَّ الأّذَى عَنْكُمْ وتُؤْذُونا1
المعنى: لا تطمعوا أن تروا إكرامنا قد وجد مع إهانتكم، وجامعها في الحصول.
__________
1 شعر الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب، شرح الحماسة للتبريزي 1: 121.

(1/226)


وممَّا له مأخذٌ لطيفٌ في هذا البابِ قول أبي تمام:
لَهانَ عَلَيْنا أنْ نقولَ وتَفْعلا ... ونَذْكُرَ بَعْضَ الفضل منك وتفضلا1
الصفة والتأكيد لا تحتاج إلى شيء يصلها بالموصوف أو المؤكد:
255 - واعلم أنه كماكان من الأسماءِ ما يَصِلهُ معناهُ بالاسم قبلَه، فيستغني بصلة له عن واصلٍ يصلُه ورابطٍ يربِطُه وذلك كالصِّفِة التي لا تحتاجُ في اتِّصالِها بالموصوفِ إلى شيء يصلها به، وكالتأكيد الذي لا يَفتقِرُ كذلك إلى ما يِصلُه بالمؤكَّد2 كذلك يكونُ في الجملِ ما تتصلُ من ذاتِ نفسها بالتي قَبلها، وتَستغني بربطِ معناها لها عن حَرْفِ عطفٍ يربُطها، وهي كلُّ جملةٍ كانت مؤكِّدةً للتي قبلها ومبينِّةً لها، وكانت إذا حُصِّلتْ لم تكن شيئاً سِواها، كما لا تكونُ الصفةُ غيرَ الموصوفِ، والتأكيدُ غيرَ المؤكد. فإذا قلت: "جاءني زيد الظريف"، و "جاءني القوم كلهم"، لم يكن "الظريف" و "كلهم" غير زيد وغير القوم.
الجملة المؤكدة لا تحتاج إلى عاطف وأمثلة ذلك:
256 - ومثالُ ما هو من الجمل كذلك قوله تعالى: {آلم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1، 2] قوله: "لا ريب فيه"، بيان وتوكيد وتحقيق لقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ}، وزيادةُ تَثْبيتٍ له، وبمنزلِة أنْ تقولَ: "هو ذلك الكتابُ، هو ذلك الكتابُ"، فتعيدُه مرة ثانية لتثبته، وليس يثبت الخبرِ غيرَ الخبرِ، ولا شَيءَ يتميّزُ به عنه فيحتاجُ إلى ضامٍّ يَضُمُّه إليه، وعاطفٍ يعطفه عليه.
__________
1 في ديوانه، والرواية فيه "بعض الفضل عنك".
2 السياق: "وأعلمْ أنه كما كان في الأسماءِ ما يصله .... كذلك يكون في الجمل".

(1/227)


257 - ومثلُ ذلك قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 6، 7] قولُه تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ}، تأكيدٌ لقولِه: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ}، وقولُه: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ}، تأكيدٌ ثانِ أبلغُ من الأول، لأنَّ مَن كان حالُه إذا أنذر مثل حاله إذا لم يندر، كانَ في غايِة الجَهْل، وكان مطبوعاً على قَلْبِه لا محالةَ.
258 - وكذلكَ قولُهُ عَزَّ وجَلَّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [البقرة: 8، 9] إنما قال "يخادعون" ولم يقل: "ويخادعون" لأنه هذه المخادعةَ ليست شيئاً غيرَ قولِهم: "آمنا"، من غير أن يكونوا مؤمنين، فهو إذن كلامٌ أَكَّدَ به كلامٌ آخرُ هو في معناه، وليس شيئاً سواه.
259 - وهكذا قولُه عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]، وذلك لن معنى قولهم: "إنّا معكُم": أّنا لم نؤمنْ بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم نترك اليهودية. وقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} خبرٌ بهذا المعنى بعينه، لأنَّه لا فَرْقَ بين أن يقولوا: "إن لم نَقُل ما قُلْناه من أنَّا آمنا إلا استهزاء"، وبين أن يقولوا: "إن لم نَخْرُجْ من دينكِم وإنَّا معكم"، بل هما في حُكْم الشيءِ الواحد، فصار كأنهم قالوا: "إن معكم لم تفارقكم" فكما لا يكون "إنا لم نفارقْكم" شيئاً غيرَ {إِنَّا مَعَكُمْ}، كذلك لا يكون {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} غيرَه، فاعرِفْه.
260 - ومن الواضحِ البَيِّنِ في هذا المعنى قولُه تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} [لقمان: 7]، لم يأت معطوفًا.

(1/228)


نحو: {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} لأنَّ المقصودَ من التشبيه بِمَنْ في أذنيه وقْرٌ، هُوَ بعينه المقصودُ من التشيبه بمن في أذنيه وقر، وهو بعينه المقصودُ مِنَ التشبيه بِمَنْ لم يسمع، إلاَّ أنَّ الثاني أبلغُ وأكَدُ في الذي أُرِيدَ.
وذلك أنَّ المعنى في التشبيهين جميعاً أنْ يَنْفِيَ أن يكونَ لتلاوةِ ما تُلِيَ عليه من الآياتِ فائدَةٌ معه، ويكونَ لها تأثيرٌ فيه، وأنْ يجعلَ حالَه إذا تُلِيتْ عليه كحالِه إذا لم تُتْلَ. ولا شبهةَ في أن التشبيه بِمَنْ في أذنيه وقرٌ ابلغُ وآكَدُ في جعلِه كذلكَ، مِنْ حيثُ كان مَنْ لا يصحُّ منه السَّمْعُ وإن ارادَ ذلكَ، أبعدَ مِنْ أنْ يكونَ لتلاوةِ ما يُتْلَى عليه فائدةٌ، مِنَ الذي يصحُّ منه السَّمْعُ إلا أنه لا يسمعُ، إما اتفاقاً وإما قصداً إلى أنْ لا يسمعَ. فاعرفْه وأحسِنْ تدبُّره.
261 - ومنَ اللطيف في ذلك قولُه تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 21]، وذلك أن قوله: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}، مشابِكٌ لقولِهِ: {مَا هَذَا بَشَرًا} ومُداخلٌ في ضِمْنه من ثلاثة أوجهٍ1: وجهان هو فيهما شبيهٌ بالتأكيدِ، ووجهٌ هو فيه شبيهٌ بالصفةِ.
فأحدُ وجهَيْ كونِه شبيهاً بالتأكيدِ، هو أنه إذا كان مَلكاً لم يكن بشراً، وإذا كان كذلك كان، إثباتُ كونِهِ ملكاً تحقيقاً لا محالَة، وتأكيداً لنفي أنْ يكونَ بشراً.
والوجهُ الثاني أن الجاريَ في العرِف والعادةِ أنه إذا قيلَ: ما هذا بشراً وما هذا بآدميٍّ" والحال حالُ تعظيمٍ وتعجُّبٍ مما يُشَاهَدُ في الإِنسانُ مِنْ حُسْنِ خلْقٍ أو خُلُق2 أن يكونَ الغرضُ والمرادُ من الكلام أن يقال إنه ملك،
__________
1 في "س"، ونسخة عند رشيد رضا: "وداخل في ضمنه".
2 السياق: " ..... أنه إذا قيل .... أن يكون الغرض .... ".

(1/229)


وأنه يُكْنَى به عن ذلك، حتى إنَّه يكون مفهومَ اللفظ1، وإذا كان مفهوماً مِنَ اللفظ قَبْلَ أن يُذْكَر، كان ذكرهُ إذا ذُكِرَ تأكيداً لا محالَة، لأنَّ حَدَّ "التأكيدِ" أنْ تحقِّقَ باللفظِ مَعْنًى قَد فُهِمَ مِنَ لَفْظٍ آخرَ قَدْ سَبَقَ منَكَ. أفلا ترى: أنه إنما كان "كلُّهم" في قولَك: "جاءني القوم كلُّهم" تأكيداً من حَيْثُ كانَ الذي فُهِمَ منه، وَهُوَ الشُّمولُ، قد فُهم بديئاً من ظاهِرِ لفظِ "القومِ"، ولو أنَّه لم يكن فُهِم الشمولُ من لفظِ "القومِ"، ولا كانَ هو مِنْ موجبه، لم يكن "كلٌّ" تأكيداً، ولكان المشمول مُستفاداً من "كلِّ" ابتداء.
وأما الوجه الثالث الذي هو فيه شبيهٌ بالصِّفة، فهو أنه إذا نُفَيَ أن يكونَ بَشراً، فقد أثبتَّ له جنسَ سِواه، إذْ منَ المُحالِ أن يخرُجَ من جنسِ البشرِ، ثم لا يدخُلُ في جنسٍ آخرَ. وإذا كانَ الأمُر كذلكَ، كان إثباتُه "مَلَكاً" تبييناً وتعييناً لذلك الجنسِ الذي أريدَ إدخالُه فيه، وإغناء عن أن تحتاجَ إلى أن تسألَ فتقولَ: "فإنْ لم يكنْ بشراً، فما هُوَ؟ وما جنسُه؟ " كما أنك إذا قلتَ: "مررتُ بزيدٍ الظريفِ" كان "الظريفُ" تَبييناً وتعييناً للذي اردتَ مِنْ بينَ مَنْ له هذا الاسمُ، وكنتَ قد أغنيتَ المخاطَبَ عن الحاجةِ إلى أن يقول: "أيَّ الزيدين أردت؟ ".
الإثبات والتأكيد بإن وإلا:
262 - ومما جاءَ فيه الإِثباتُ "بإنْ وإلا" على هذا الحد قوله عز وجل: {مَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس: 69] وقولُه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] أفلا ترى أنَ الإِثباتَ في الآيتين جميعاً تأكيدٌ وتثبيتٌ لنَفي ما نُفِيَ؟ فإِثباتُ ما عُلِّمَه
__________
1 عند هذا الموضع حاشية في "ج" نصها: "معناه أنه إذا كان الحال حال تعظيم، لم يحتمل قولك: "ما هو بآدمي"، و "ما هو بشرًا"، إلا أن تقول: إنه ملك".

(1/230)


النبي صلى الله عليه وسلم إليه ذِكراً وقرآناً، تأكيدٌ وتثبيتٌ لنَفي أن يكونَ قد عُلِّم الشعرَ وكذلك إثباتُ ما يتلوهُ عليهم وحياً مِنَ الله تعالى1، تأكيدٌ وتقريرٌ لنفيِ أن يكون نُطِق به عَنْ هوى2.
263 - وأعلمْ أنَّه ما من عِلْمٍ من علوم البلاغة أنت تقول فيه: "إنه خَفيٌّ غامضٌ، ودقيقُ صَعْبٌ" إلاّ وعِلْمُ هذا البابِ أغمضُ وأخفى وأدقُّ وأصعبُ. وقد قِنَعَ الناسُ فيه بأنْ يقولوا إذا رأوا جملة قد تُرِكَ فيها العطفُ: "إنَّ الكلامَ قد استؤنفَ وقُطِعَ عما قبله"، لا تطلبُ أنفسُهم منه زيادة على ذلك. ولقد غَفِلوا غَفْلةً شديدة.
الجملة يظهر فيها وجوب العطف، ثم يترك العطف لعارض:
264 - وممَا هو أصلٌ في هذا الباب أنَّك قد ترى الجملةَ وحالُها معَ التي قبلها حالُ ما يُعْطَفُ ويُقْرَنُ إلى ما قبلَه، ثم ثراها قَدْ وجبَ فيها تركُ العطفِ، لأمرٍ عرضَ فيها صارت به أجنبية مما قبلها.
مثال ذلك قولهُ تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 14]، وذلك أنه ليس بأجنبي مِنْه، بل هو نظيرُ ما جاءَ معطوفاً من قولهِ تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه} [آل عمران: 54]، وما أشبهَ ذلك مما يُرَدُّ فيه العَجُزُ على الصَّدر، ثم إنك تجدهُ قد جاءَ غير معطوف، وذلك لأمر أوجب أن
__________
1 تحت قوله "وحيًا" في هامش "ج" ما نصه: "نصب على الحال".
2 في "س" والمطبوعة: "تقرير لنفي"، ولم يذكر "تأكيد".

(1/231)


لا يُعطَفَ، وهو أنَّ قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}، حكاية عنهم أنهم قالوا، وليس يخبر من الله تعالى وقولُه تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}، خبرٌ منَ الله تعالى أنه يجازيهم على كُفْرِهم واستهزائِهم. وإذا كان كذلك، كانَ العطفُ مُمتنعاً، لاستحالةِ أن يكونَ الذي هو خَبَرٌ منَ الله تعالى، معطوفاً على ما هو حكاية عنهم، ولإيجاب ذلك أنْ يخرجَ من كونِه خبراً مِنَ الله تعالى، إلى كونِه حكاية عنهم، وإلى أنْ يكونوا قد شَهِدوا على أنفسهِم بأنَّهم مؤاخدون، وأن الله تعالى معاقبهم عليه1.
وليس كذلك الحالُ في قولهِ تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}، و {مَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه}، لأن الأوَّلَ من الكلامَيْنِ فيهما كالثاني، في أنه خَبَرٌ مِنَ الله تعالى ولَيْسَ بحكايةٍ. وهذا هُوَ العِّلةُ في قولِه تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11، 12] إنما جاء {إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} مُستأنفاً مُفتتحاً "بأَلا"، لأنَّه خبرٌ من الله تعالى بأنهم كذلك والذي قبله من قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، حكاية عنهم. فلو عطف لَلَزِم عليه مثلُ الذي قدَّمتُ ذكرَه منَ الدخولِ في الحكايةِ، ولصارَ خبراً مِنَ اليهودِ ووصفاً مِنْهم لأنفسهم بأنه مُفْسِدون، ولصار كأنه قِيلَ: قالوا: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، وقالوا إنهم المفسِدون، وذلك ما لا يُشَكُّ في فسادِه.
وكذلك قولهُ تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13] ولو
__________
1 في المطبوعة: و "من": "يعاقبهم عليه".

(1/232)


عطف: {إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} على ما قَبْلَه، لكان يَكونُ قد أُدْخِلَ في الحكايةِ، ولصار حديثاً مِنهم عن أنفسهم بأنهم هُمُ السفهاءُ، من بَعْدِ أن زَعموا أنهم إنَما تُركوا أن يؤمِنوا لئلا يكونوا من السفهاء.
لا يعطف الخبر على الاستفهام:
265 - على أن في هذا أمر آخر، وهو أن قوله: {أَنُؤْمنُ} استفهام، لا يُعْطَفُ الخبرُ على الاستفهام.
فإِن قلت: هَلْ كان يجوزُ أن يُعْطَف قولُه تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على "قالوا" من قولِه: {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} لا على ما بعد، وكذلك كان يعفل في {إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ}، و {إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ}، وكان يكونُ نظيرَ قولِه تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ} [الأنعام: 8] وذلك أن قوله: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا} معطوف، من غير شك، على "قالوا" دون ما بعده؟
قيل: إن حكم العطف على "قالوا" فيما نحنُ فيه1، مخالفٌ لحكمه في الآية التي كذرت. وذلك أن "قالوا" ههنا جوابُ شرطٍ، فلو عُطِف قولُه: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} عليه، لَلزِمَ إدخالُه في حُكْمِه مِنْ كونه جوابًا، وذلك لا يصح.
بيان العطف على جواب الشرط:
وذاك أنه متى عُطِف على جوابِ الشرطِ شيءٌ "بالواو" كان ذلك على ضربينِ: أحدُهما: أن يكونا شيئين يتصوَّرُ وجودُ كلِّ واحدٍ منهما دُونَ الآخر، ومثالُه قولكَ "إن تأتِني أكرمك أعطك وأكسك"2 والثاني: أن يكون
__________
1 في المطبوعة: "إن حكم المعطوف على قالوا"، وفي "ج": "إن حكم" قالوا "فيما نحن فيه".
2 "أكرمك"، ليست في "ج".

(1/233)


المعطوفُ شيئاً لا يكونُ حتى يكونَ المعطوفُ عليه، ويكونَ الشرطُ لذلك سبباً فيه بوساطةِ كونه سبباً للأول1، ومثالُه قولُك: "إذا رجَع الأَميرُ إلى الدار استأذنتهُ وخرجتُ"، فالخروجُ لا يكونُ حتى يكون الاستئذانُ، وقد صارَ "الرجوعُ" سَبباً في الخروج، من أجلِ كونِه سبباً في الاستئذان، فيكونُ المعنى في مثلِ هذا على كلامين، نحوُ: "إذا رجَع الأميرُ استأذنتُ، وإذا استأذنت خرجتُ".
وإذا قد عرفْتُ ذلك، فإِنه لو عُطِفَ قولُه تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على "قالوا" كما زعمتَ، كان الذي يتصوَّرُ فيه أن يكونَ من هذا الضربِ الثاني، وأن يكونَ المعنى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}، فإِذا قالوا ذلك استهزأَ اللهُ بهم ومدَّهم في طُغْيانِهم يَعْمَهون.
وهذا وإن كان يُرَى أنه يَسْتَقيمُ، فليس هو بمستقيمٍ. وذلك أنَّ الجزاءَ إنَّما هو على نَفْس الاستهزاءِ وفِعْلِهم له وإرادتهم إياه في قولهم: "آمنا"، لا على أنهم حدثوا على أنفسهم بأنه مستهزؤون والعَطْفُ على "قالوا" يَقْتضي أَنْ يكونَ الجزاءُ على حديثهم عَنْ أنفسِهم بالاستهزاء، لا عليه نفسِه.
ويبيِّنُ ما ذكرناه مِنْ أنَّ الجزاءَ يَنْبغي أن يكونَ على قَصْدِهم الاستهزاءَ وفِعلهم له، لا على حديثهم عن أنفسهم بأن مستهزؤون2 أنَّهم لو كانوا قالوا لكُبرائهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} وهُم يريدونَ بذلكَ دَفْعَهم عَن أنفسِهم بهذا الكلام3، وأنت يَسْلَموا من شَرِّهم، وأنْ يوهموهُم أَنَّهم مِنْهم وإن
__________
1 في المطبوعة وحدها: "بواسطة".
2 السياق: "وبين ما ذكرناه .... أنهم لو كانوا .. ".
3 في "ج": "دفعًا عن أنفسهم".

(1/234)


لم يكونوا كذلك1 لكان لا يكونُ عليهم مؤاخذةٌ فيما قالوه، من حَيْثُ كانت المؤاخذةُ تكونُ على اعتقادِ الاستهزاءِ والخديعةِ في إظهار الإيمان، لا في قول: "إنا استهزأنا" من غير أن يقتر بذلك القول اعتقاد ونية.
ما يوجب الاستئناف وترك العطف وأمثلته:
هذا، وههنا أمرٌ سِوَى ما مضَىَ يوجِبُ الاستئنافَ وتركَ العطفِ، وهو أنَّ الحكايةَ عنهم بأنهم قالوا كيتَ وكيتَ، تحرِّكُ السامعين لأن يعلموا مصيرَ أمرهم وما يصنع بهم، وأننزل بِهِمُ النِّقْمةُ عاجلاً أم لا تنزلُ ويُمْهلَونَ2 وتوقع في أنفسهم التمني لأنْ يتبيَّنَ لهم ذلك. وإِذا كان كذلك، كانَ هذا الكلامُ الذي هو قولُه: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}، فيم عنى ما صدر جوابًا عن هذا المقدر مبتدأ غيرَ معطوف، ليكونَ في صورتِهِ إذا قيل: "فإِنْ سألتم قِيلَ لكم": {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون}.
266 - وإذا استقريتَ وجدتَ هذا الذي ذكرتُ لك، من تنزيلِهم الكلام إذا جاء يعقب ما يقتضي سؤالًا3، منزلته إذا صريح بذلك السؤالِ4 كثيراً، فمن لطيفِ ذلك قولهُ:
زعم العوال أَنَّنِي في غَمْرَةٍ، ... صَدَقُوا، ولكِنْ غَمْرَتِي لا تنجلي5
__________
1 السياق: "أنهم لو كانوا قالوا لكبرائهم ... لكان لا يكون عليهم".
2 السياق: "تحرك السامعين لأن يعلموا ... وتوقع في أنفسهم التمني".
3 السياق: "من تنزيلهم الكلام ... منزلته ... ".
4 السياق: وإذا استقريت وجدت هذا .... كثيرًا".
5 هو في المغني، باب الجمل التي لا محل لها من الإعراب، وفي شرح شواهد للسيوطي: 270، ومعاهد التنصيص 1: 280.

(1/235)


لمَّا حَكَى عن العواذِلِ أنَّهم قالوا: "هُوَ في غَمْرَةٍ"، وكان ذلك مما يحرِّك السامعَ لأنَّ يسألهَ فيقولَ: "فما قولُكَ في ذلكَ، وما جوابُك عَنْه؟ "، أَخْرَجَ الكلامَ مُخْرَجَهُ إِذا كان ذلكَ قَدْ قِيل له، وصارَ كأنَّه قال: "أقول: صَدَقُوا، أنَّا كما قالوا، ولكنْ لا مَطْمَعَ لهم في فلاحِي"، ولو قالَ: "زعمَ العواذلُ أنني في غَمْرةٍ وصَدَقُوا"، لكانَ يكون لم يصنع في نفسه أنه مسئول1، وأن كلامَه كلامُ مجيبٍ.
267 - ومثْلُه قولُ الآخَرِ في الحماسة:
زَعَمَ العَواذِل أنَّ ناقَةَ جُنْدَبٍ ... بجَنوبِ خَبْتٍ عُرّيَتْ وأُجِمَّتِ
كَذَبَ العَواذِلُ لو رأَيْنَ مُنَاخَنا ... بالقادسية فلن لج نووذلت2
وقد زادَ هذا أمرَ القطعِ والاستئنافِ وتقديرَ الجواب، تأكيد بأنْ وضَعَ الظاهِرَ موضعَ المُضْمر، فقال: "كذَب العواذلُ": ولم يَقُلْ "كَذَبْنَ"، وذلك أنَّه لمَا أعادَ ذِكْرَ "العواذلِ" ظاهراً، كان ذلك أَبْيَنَ وأقوىَ، لكونِه كلاماً مستأَنفاً مِنْ حَيْثُ وَضَعَه وضعًا لا يحتاج فيه إل ىما قبله، وأتى به مأتَى ما لَيْس قبلَه كلامٌ.
268 - وممَّا هُوَ على ذلك قول الآخر:
زعمتم إن إخوانكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلاف3
__________
1 في المطبوعة وحدها: "لم يصح في نفسه".
2 هو في شرح الحماسة للتبريزي 1: 162، ـ و "جندب"، هو الشاعر، ونسبه في معاهد التنصيص 1: 392، وقال "جندب بن عمار". و "خبت" ماء لكلب. و "عريت" الناقة من رحلها. و "أجمت"، أريحت من الركوب والسير. و "لج" جندب في السير والتابعد، و "ذلت" الناقة من طول السفر.
3 شعر مساور بن هند بن قيس بن زهير بن جذيمة العبسي، يهجو بني أسد شرح الحماسة للتبريزي 4: 12، وكان مساور يهاجي المرار بن سعيد الفقعسي الأسدي، "أسد" هو "أسد بن خزيمة ابن مدركة"، وقريش من ولد أخيه كنانة بن خزيمة بن مدكة، فمن هنا وغيره قالت بنو أسد: نحو إخوةى قريش، فكذبهم مساور بن هند، وقال: لقريش رحلة الشتاء والصيف، وهي "الإلاف"، وليس لكم مثله، وبعد البيت:
أولئك أومنوا جوعًا وخوفًا ... وقد جاعت بنو أسد وخافوا

(1/236)


وذلك أن قولَه: "لهم إلفٌ" تكذيبٌ لدعواهُم أنهم من قريش، فهو إذن بمنزلةِ أن يقولَ: "كذبتُم، لهم إلفٌ، وليس لكم ذلك": ولو قال: "زعمتم أن إخوانكم قريشٌ ولهم إلفٌ وليس لكم إلافٌ"، لصارَ ممنزلة أن يقول: "زعمتم أن إخواتكم قريش وكذبتم"، في أنه كان خيرج عن أن يكون موضوعاً على أنه جوابُ سائلٍ يقولُ له: "فماذا تقولُ في زعمتم ذلك في دعواهم؟ " فاعرِفْه.
واعلمْ أنه لو أظهرَ "كذَبتْمُ"، لكان يجوزُ له أن يَعْطِفَ هذا الكلامِ الذي هو قولُه: "لهم إلفٌ" عليه بالفاء، فيقول: "كَذَبْتُم فلهم إلفٌ، وليس لكم ذلك" فأما الآنَ فلا مَسَاغَ لدخولِ الفاءِ البتَّةَ، لأنَّه يصيرُ حينئذٍ معطوفاً بالفاء على قولِه: "زَعَمْتُم أن إخوانكم قريش"، وذلك يخرج إلى المجال، مِنْ حيثُ يصير كأَنه يستشهدُ بقوله: "لهم إلفٌ"، على أنَّ هذا الزعمَ كان منهم، كما أنك إذا قلت: "كذبتم فهلم إلفٌ"، كنتَ قد استشهدتَ بذلكَ على أنهمْ كذبوا، فاعرِفْ ذلك.
269 - ومن اللطيفِ في الاستئناف، على معنى جعلِ الكلامِ جواباً في التقديرِ، قول اليزيدي:
مَلَّكْتُهُ حَبْلي ولكنَّهُ ... أَلْقَاهُ من زُهْدٍ عَلى غارِبي
وقالَ إِنّي في الهَوى كاذِبٌ ... انْتَقَمَ الله من الكاذب1
__________
1 "اليزيدي"، هو "أبو محمد"، "يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوي"، والبيتان غير منسوبين في الأغاني 22: 168 "الهيئة".

(1/237)


استأنفَ قولَه: "انتقمَ اللهُ من الكاذبِ"، لأَنه جعلَ نفسَه كأنه يجيبُ سائلاً قالَ له: "فما تقولُ فيما اتَّهمكَ به مِن أنَّك كاذبٌ؟ " فقال أقولُ: "انتقمَ اللهُ منَ الكاذبِ".
270 - ومن النادرِ أيضاً في ذلك قولُ الآخَرِ:
قالَ لي كيْفَ أَنْتَ قُلْتُ عَليلٌ ... سَهَرٌ دائمٌ وحُزْنٌ طَوِيْلُ1
لِما كانَ في العادةِ إذا قيلَ للرجلِ: "كيفَ أنتَ؟ " فقالَ: "عليلٌ"، أن يسألَ ثانياً فيقالَ: "ما بكَ؟ وما علَّتُك؟ "، قَدَّر كأنه قد قيلَ له ذلكَ، فأَتَى بقولِه: "سهرٌ دائمٌ" جواباً عَنْ هذا السؤالِ المفهوم مِن فحوى الحالِ، فاعرفهْ:
271 - ومن الحسن البين في ذلك قول المتنبي:
وما عقب الرياح له محلًا، ... عفاه من دا بِهِمُ وَساقا2
لمَّا نَفَى أن يكونَ الذي يُرى به منَ الدُّروسِ والعَفاءِ منَ الرياحِ، وأن تكونَ التي فعلتْ ذلك، وكان في العادةِ إذا نُفِيَ الفعلُ الموجودُ الحاصلُ عن واحدٍ فقيلَ: "لم يفعلْه فلانٌ"، أن يقالَ: "فمَنْ فعلَه؟ " قدَّر كأنَّ قائلاً قال: "قد زعمتَ أنَّ الرياحَ لم تَعْفُ له مَحلاً، فما عفاه إذن؟ "، فقالَ مجيباً له: "عفاهُ مَنْ حَدا بِهم وساقا".
272 - ومثله قوله الوليد بن يزيد:
عَرفْتُ المَنْزلَ الخالي ... عَفا مِنَ بَعْدِ أحَوْالِ
__________
1 مشهور غير منسوب.
2 في دويانه.

(1/238)


عفاه كل حنان ... عسوف الويل هَطّالِ1
لما قالَ: "عفا من بعدِ أحوالِ"، قَدَّرَ كأنه قيلَ له: "فما عفاهُ؟ " فقالَ: "عفاه كلُّ حنَّان".
273 - واعلمْ أن السؤالَ إِذا كانَ ظاهراً مذكوراً في مثلِ هذا، كان الأكثرُ أنْ لا يُذكرَ الفعلُ في الجوابِ، ويُقْتَصرَ على الاسمِ وحدهَ. فأما مع الإِضمار فلا يجوزُ إلاَّ أن يُذْكرَ الفعلُ
تفسيرُ هذا: أنه يجوز لك إِذا قيلَ: "إنْ كانتِ الرياحُ لم تَعْفُه فما عفاهُ؟ " أن تقول: "من حدابهم وسَاقا" ولا تقولَ: "عفاهُ مَن حدا"، كما تقولُ في جوابِ من يقولُ: "مَنْ فعلَ هذا؟ ": زيدٌ ولا يجبُ أن تقولَ: "فعلَه زيدٌ".
وأما إذا لم يكنِ السُّؤالُ مذكوراً كالذي عليه البيتُ، فإِنَّه لا يجوزُ أن يُتْرَكَ ذكرُ الفعلِ. فلو قلتَ مثلا: "وما عفت الرياح له محلًا، من حدابهم وساقًا" تزعم أنك أردت "عفاه من حدابهم"، ثم ترك ذكرَ الفعلِ، أَحَلْتَ2، لأنه إنَّما يجوزُ تركُه حيثُ يكونُ السؤالُ مذكوراً، لأَن ذكرَه فيه يدلُّ على إرادتِه في الجوابِ، فإِذا لم يوت بالسُّؤالِ لم يكن إلى العلم بهِ سبيلٌ، فاعرف ذلك.
__________
1 في شعره المجموع، والأغاني: 32، "الدار"، و "الحنان" من صفة السحاب الذي يسمع رعده كحنين الإبل. و "عسوف"، مطره شديد العسف، و "الويل" المطر الشديد، و "هطال" متتابع الودق.
2 السياق: "فلو قت مثلًا .... تزعم أنك أردت .... أحلت"، أي جئت بالمحال.

(1/239)


ما جاء في التنزيل "قال" غير معطوف وأمثلته:
274 - واعلم أنَّ الذى تراهُ في التنزيلِ من لفظِ "قال" مَفصولاً غيرَ معطوف، هذا هو التقديرُ فيه، واللهُ أعلم. أعني مثلَ قولِه تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ، فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ، فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ} [الذاريات: 24 - 28]، جاء على ما يقعُ في أنفسِ المخلوقين منَ السُّؤال. فلما كان في العُرفِ والعادةِ فيما بينَ المخلوقينَ إذا قيل لهم: "دخلَ قوم على فلان فقالوا كذا"، أخرجَ الكلامَ ذلك المُخْرجَ1، لأنَ الناسَ خوطبوا بما يتعارفونه، وسلك باللظف معهم المَسْلكُ الذي يَسْلُكُونه.
وكذلك قولُه: {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ}، وذلك أن قولَه: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ}، يقتضي أن يُتْبعَ هذا الفعلُ بقولٍ: فكأنه قِيل واللهُ أعلمُ: "فما قال حينَ وَضَعَ الطعامَ بين أيديهم؟ "، فأتى قولُه: {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} جواباً عن ذلك.
وكذا: {قَالُوا لا تَخَفْ}، لأنَّ قولَه: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً}، يقتضي أن يكونَ من الملائكةِ كلامٌ في تأنيسِه وتَسكينه مما خامَره، فكأنه قيلَ: "فما قالوا حينَ رأوه وقد تغيَّرَ ودخلتْه الخيفةُ؟ " فقيل: "قالوا لا تَخفْ".
275 - وذلك، واللهُ أعلم، المعنى في جميع ما يجيءُ منه على كثرتِه، كالذي يجيءُ في قِصَّةِ فرعونَ عليه اللعنةُ، وفي رَدِّ موسى عليه السلام عليه كقولِه: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ
__________
1 السياق: "فلما كان في العرف والعادة .... أخرج الكلام".

(1/240)


كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ، قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ، قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 23 - 31]، جاء ذلك كلُّه، واللهُ أعلمُ، على تقديرِ السؤال والجوابِ كالذي جرتْ به العادةُ فيما بين المخلوقين، فلما كان السامع منا إِذا سَمِع الخبرَ عن فرعونَ بأنه قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}، وقعَ في نفسه أن يقول: "فما قال موسى له؟ " أتى قوله: {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، مأتى الجوابِ مبتدأ مفصولاً غيرَ معطوف. وهكذا التقديرُ والتفسيرُ أبداً في كل ما جاءَ فيه لفظُ "قال" هذا المجيء، وقد يكونُ الأمرُ في بعضِ ذلك اشدَّ وضوحاً.
276 - فمما هَوَ في غاية الوضوح قولُهُ تعالى {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ، قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الحجر: 57، 58]، وذلك أنَّه لا يَخْفى على عاقلٍ أنه جاء على معنى الجواب، وعلى أن نزل السامعون كأنهم قالوا: "فما قالَ له الملائكةُ؟ "، فقيل: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ}.
277 - وكذلك قولُه عزَّ وجلَّ في سورة يس {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ، قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ، وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ، قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ

(1/241)


مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ، وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 13 - 21]، التقدير الذي قدرناه من معنى السؤل والجواب بين ظاهر في ذلكَ كلِّه، ونسألُ الله التوفيقَ للصَّواب، والعصمة من الزلل.

(1/242)


فصل:
278 - وإذْ قد عَرْفت هذه الأصولَ والقوانينَ في شأنِ فَصْل الجُملِ ووَصْلها، فاعلمْ أنَّا قد حصَلْنا من ذلك على أنَّ الجُمَل على ثلاث أضربِ:
جملةٌ حالُها مع التي قبلَها حالُ الصفةِ معَ الموصوفِ والتأكيدِ مع المؤكَّدِ، فلا يكونُ فيها العطفُ البتَّةَ، لِشبْهِ العَطْفِ فيها، لو عُطِفَتْ، بعَطْفِ الشيءِ على نَفْسِه.
وجملةٌ حالها مع التي قبْلها حالُ الاسمِ يكونُ غيرَ الذي قَبْله، إلاَّ أَنه يُشارِكُهُ في حكْم، ويدخلُ معه في معنًى، مثْلَ أن يكونِ كِلا الاسْمَيْن فاعلاً أو مفعولاً أو مضافاً إليه، فيكون حقُّها العطفَ.
وجملةٌ ليستْ في شيء مِنَ الحالين، بل سبيلُها مع التي قبْلَها سبيلُ الاسم مع الاسم لا يكونُ منه في شيءٍ، فلا يكونُ إيَّاه ولا مشارِكاً له في معنى، بل هو شيء إذا ذُكِرَ لم يُذْكَر إلا بأمرٍ يَنفردُ به، ويكونُ ذكْرُ الذي قبلَه وتَرْكُ الذكْر سواءٌ في حالِه، لعدم التعلُّق بينَهُ وبينَهُ رأساً. وحقُّ هذا تَرْكُ العطفِ البتَّةَ.
فَتْركُ العطفِ يكونُ إمَّا للاتصالِ إلى الغاية أوِ الانفصال إلى الغايةِ والعطفُ لما هو واسطةٌ بينَ الأمرينِ، وكانَ له حالٌ بينَ حاليَنْ، فاعرفْه.

(1/243)


فصل: بيان دقيق في شأن عطف الجمل:
279 - هَذا فنٌّ من القَول خاصُّ دقيقٌ. إعلَمْ أنَّ مما يَقِلُّ نظَرُ الناسِ فيه من أَمْر "العطفِ" أنَّه قد يُؤْتى بالجملة فلا تعطف على ما يليها، لوكن تُعْطَفُ على جملةٍ بينها وبينَ هذه التي تُعْطفُ جملةٌ أو جملتانِ، مثالُ ذلك قولُ المتنبي:
تَولَّوْا بغْتَةً فكأَنَّ بيْناً ... تَهَيَّبني فَفاجَأَني اغْتيالا
فكانَ مَسِيرُ عِيسِهِمُ ذَميلاً ... وسيرُ الدمعِ إثْرَهُمُ انْهِمالا1
قولُه: "فكان مَسيرُ عيسهِم"، معطوفٌ على "تولَّوا بَغتةً"، دونَ ما يليهِ من قولِه: "ففاجأني"، لأنَّا إنْ عطفناه على هذا الذي يليه أفسَدْنا المعنى، من حيثُ إنه يدخلُ في معنى "كأَنَّ"، وذلك يؤدِّي إلى أن لا يكونَ مسيرُ عيسهِم حقيقةً، ويكونَ مُتَوهَّماً، كما كان تهيُّبُ البينِ كذلك.
280 - وهذا أصْلٌ كبيرٌ. والسببُ في ذلك أن الجملةَ المتوسِّطةَ بين هذه المعطوفةِ أخيراً، وبين المعطوفِ عليها الأولى، تَرتبطُ في معناها بتلك الأولى، كالذي ترى أن قوله: "فكأن بيننا تهيَّبني"، مرتبطٌ بقوله: "تَولَّوا بَغتة"، وذلك أنَّ الثانية مسبَّبٌ والأُولى سبَبٌ. ألا ترَى أنَّ المعنى: "تولوا بغتة فتوهمت أن بيتًا تهيبني؟ " ولا شكَّ أنَّ هذا التوهُّم كان بسببِ أنْ كان التوليِّ بغتةً. وإِذا كان كذلك، كانتْ مع الأولى كالشيءِ الواحدِ، وكان منزلتُها منها منزلة المعفعول والظرفِ وسائرِ ما يجيءُ بعدَ تمام الجملةِ من مَعْمولاتِ الفعل، مما لا يمكنُ إفرادُه عن الجملة2، وأن يعتد كلامًا على جدته.
__________
1 في ديوانه.
2 في المطبوعة و "ج": "على الجملة".

(1/244)


281 - وههنا شيء ىخر دقيقٌ، وهو أنَّك إذا نظرْتَ إلى قوله: "فكان مسير عسهم ذميلا"، وجدْتَه لم يُعْطَف هو وحدَه على ما عُطِفَ عليه، ولكنْ تجدُ العطْفَ قد تناولَ جملةَ البيتِ مربوطاً آخرُه بأَوَّلِهِ. ألا تَرى أنَّ الغرضَ من هذا الكلام أن يَجْعل تولِّيهم بغتةً، وعلى الوجه الذي توهَّم من أجلِه أنَّ البينَ تهيَّبه، مُسْتدعياً بكاءه1، وموجباً أنْ يَنْهملَ دمعُه، فلم يَعْنهِ أنْ يذكر ذملان العيس إلا لليذكر هَمَلانَ الدمعِ، وأن يوفِّق بينهما.
وكذلكَ الحكْمُ في الأول، فنحن وإن كنَّا قلْنا إنَّ العطْفَ على "تَولوا بغتة"، فإنَّا لا نَعْني أن العطُفَ عليه وحَده مقطوعاً عمَّا بَعْدَه، بل العطفُ عليه مَضموماً إليه ما بَعْدَه إلى أخرهِ، وإِنما أردْنا بقولنا "إِنَّ العطفَ عليه"، أن تعلمك أنه الأصْلُ والقاعدةُ، وأن نَصْرفَك عن أن تَطْرَحَه، وتَجْعلَ العطْفَ على ما يَلي هذا الذي تعْطِفُه، فتزعُمَ أنَّ قولَه: "فكانَ مَسِيرُ عيسِهم" معطوفٌ على "فاجأني"، فتَقعُ في الخطأَ كالذي أريناك.
فامر العطف إذ، موضوعٌ على أنَّك تَعْطِفُ تارةً جملةً على جملةٍ، وتَعْمِد أخرى إلى جُملتين أو جملٍ بعضاً على بعضٍ، ثم تعْطفُ مجموعَ هذي على مجموع تلك.
بيان في العطف في الشرط والجزاء:
282 - ويَنْبغي أنْ يُجْعَل ما يُصْنَعُ في الشرطِ والجزاءِ من هذا المعنى أصلاً يُعْتَبرُ به.
وذلك أَنَّك تَرى، متى شئتَ، جملتين قد عطفت إحداهما على الأخرى،
__________
1 السياق: "أن يجعل توليهم بغتة .... مستدعيا بكاءه".

(1/245)


ثم جَعلنا بمجموعِهِما شرْطاً1، ومثالُ ذلك قولُه تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 112]، الشرطُ كما لا يخفَى في مجموعِ الجملتين لا في كلِّ واحدةٍ منهما على الانفراد، ولا في واحدةٍ دونَ الأخرى، لأنَّا إنْ قلنا إنه في كل واحدة منهما على الانفرادِ، جعلناهُما شَرْطين، وإذا جعلناهُما شرطينِ اقتضَتا جَزَاءَيْن، وليس منه إشراكُ ما ليس بشرطٍ في الجزم بالشرط، وذلك ما لا يخفى فسَادُه.
ثم إنا نعلم من طريق المعنى أن الجزء الذي هو احتمالُ البهتانِ والإِثمِ المبينِ، أمرٌ يتعلَّقُ إيجابُه لمجموعِ ما حصلَ منَ الجملتين، فليس هو لاكتساب الخطيئةِ على الانفرادِ، ولا لرمي البرئ بالخَطيئةِ أو الإِثم على الإِطلاق، بل لِرمْي الإنسان البرئ بخطيئةٍ أو إثمٍ كانَ مِنَ الرامي، وكذلك الحكْمُ أبداً. فقولُه تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] لم يُعلَّقِ الحكْمُ فيه بالهجرةِ على الانفراد، بل بها مَقْروناً إليها أنْ يُدرِكَهُ الموتُ عليها.
283 - واعلمْ أنَّ سبيلَ الجُملتين في هذا، وجعْلَهما بمجموعهما بمنزلةِ الجملةِ الواحدةِ، سبيلُ الجزءينِ تُعْقَدُ منهما الجملةُ، ثم يُجْعَلُ المجموعَ خبراً أو صفةً أو حالاً، كقولك: "زيد قام غلامه" و "يزيد أبوه كريم" و "مررت برجل أبوه كريم" و "جاءني زيدٌ يَعدو به فرسُه". فكما يكونُ الخبرُ والصفةُ والحالُ لا محالةَ في مجموعِ الجزْءَيْنِ لا في أحَدهما، كذلك يكونُ الشرْطُ في
__________
1 في المطبوعة وحدها: "ثم جعلنا مجموعهما ... "، وهو خطأ.
2 في المطبوعة: "وإن قلنا إن في واحدة".

(1/246)


مجموعِ الجملتين لا في إحداهُما، وإِذا علمتَ ذلك في الشرطِ، فاحْتذِه في العطفِ، فإِنكَ تجدُه مثلَه سواءً.
284 - ومما لا يكونُ العطْفُ فيه إلا على هذا الحَدِّ قولُه تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص: 44، 45]، لو جرَيْتَ على الظاهرِ فجعَلْتَ كلَّ جملةٍ معطوفةً على ما يَليها، منعَ منه المعنى. وذلك أنه يلزَمُ منهُ أن يكونَ قولُه: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ}، وذلك ما لا يَخْفى فسادُه.
وإِذا كانَ كذلك، بانَ منه أنه ينبغي أن يكون قد عُطِفَ مجموعُ "وما كنتَ ثاوياً في أهل مدين" إلى "مرسلين"، على مجموعِ قولهِ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} إلى قوله "العُمُر".
285 - فإِن قلت: فهَلاَّ قدَّرْتَ أن يكونَ: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} معطوفاً على: {وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ}، دونَ أن تزعمَ أنه معطوفٌ عليه مضموماً إليه ما بعدَهُ إلى قولهِ: "العمرُ"؟
قيل: لأنَّا إنْ قدَّرْنا ذلك، وجبَ أن يُنوى به التقديمُ على قوله: {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا} وأن يكونَ الترتيبُ "وما كنتَ بجانبِ الغربيِّ إذا قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين، وما كنتَ ثاوياً في أهل مَدْيَنَ تتلوا عليهم آياتنا

(1/247)


ولكنا أنشأْنا قروناً فتطاولَ عليهم العمرُ ولكنَّا كنا مُرسِلين" وفي ذلك إزالةُ "لكنَّ" عن موضِعِها الذي ينبغي أن تكونَ فيه. ذاك لأنَّ سبيلَ "لكنَّ" سبيلُ "إلاَّ"، فكَما لا يجوز أن تقولَ: "جاءني القومُ وخرَجَ أصحابُكَ إلا زيدًا وإلا عمرصا" يجعل "إلا زيدًا" استثناء من جانءي القوم" و "إلا عمراً" من "خرج أصحابُك"، كذلك لا يجوز أن تصنعَ مثلَ ذلك "بلكن" فتقول: "ما جاءني زيدٌ، وما خرجَ عمرُو ولكنَّ بكراً حاضرٌ، ولكنَّ أخاكَ خارجٌ"، فإِذا لم يَجُزْ ذلك، وكان تقديُركَ الذي زعمتَ يؤدِّي إليه، وجَبَ أن تَحْكُم بامتناعه. فاعرفْه.
هذا، وإنما تَجوزُ نيَّةُ التأخيرِ في شيءٍ معناه يَقْتضي لهُ ذلكَ التأخيرَ، مثلَ أَنَّ كونَ الاسم مفعولاً، يَقتضي له أنْ يكونَ بعْدَ الفاعلِ، فإِذا قُدِّمَ على الفاعل نُويَ به التأخَيرُ، ومعنى "لكنَّ" في الآية، يقتضي أنْ تكونَ في مَوضِعها الذي هيَ فيه، فكيفَ يجوزُ أن يُنْوى بها التأخيرُ عَنْه إلى موضِعٍ آخرَ؟

(1/248)