دلائل الإعجاز ت شاكر باب اللفظ والنظم:
هذه فصول شتى في أمر "اللفظ" و "النظم" فيها فضل شحذ للبصيرة،
وزيادة كشف عما فيها من السريرة
فصل:
غلط منكر في شأن البلاغة، والرد عليه:
286 - وغلَطُ الناسِ في هذا البابِ كثيرٌ. فمِنْ ذلك أَنك
تَجدُ كثيراً ممَّن يتكلَّمُ في شأن البلاغة، إذا ذكَر أنَّ
للعربِ الفضلَ والمزيةَ في حسْنِ النظمِ والتأليفِ، وأنَّ لها
في ذلك شأْواً لا يبلُغُه الدخلاءُ في كلامِهم والمولَّدونَ،
جعَلَ يُعلِّل ذلك بأنْ يقولَ: "لا غرْوَ، فإنَّ اللغَةَ لها
بالطَّبعِ ولنا بالتكلف، ولن يبلغ الدخيل في اللغات والأنسة
مبْلَغَ مَنْ نشأَ عليها، وبُدئ مِن أولِ خَلْقهِ بها"،
وأشباهِ هذا مما يُوهِمُ أنَّ المزيَّةَ أَتتْها من جانبِ
العِلْم باللغة. وهو خَطأٌ عظيمٌ وغلَطٌ منْكَرٌ يُفْضِي
بقائله إلى رفْع الإعجازِ مِنْ حيثُ لا يَعْلَم1. وذَلكَ أنه
لا يَثْبتُ إعجازٌ حتى تَثْبُتَ مَزايا تَفُوقُ علومَ البشرِ،
وتَقْصُرُ قِوى نَظَرِهم عنها، ومعلومات ليس في متن أفكارهم
وخواطرهم أن تقضي بهم إليا، وأنْ تُطْلِعهَم عليها، وذلك محالٌ
فيما كان علْماً باللغة، لأنَّه يؤدِّي إلى أن يحدُثَ في
دلائلِ اللغةِ ما لم يتواضَعْ عليه أهلُ اللغةِ. وذلك ما لا
يَخْفى امتناعُه على عاقلٍ.
287 - واعلمْ أَنَّا لم نُوجِبْ المزيَّةَ من أجلِ العِلْم
بأنفُسِ الفروقِ والوجوهِ فتستند إلى اللغة، ولكنَّا أوجبْناها
للعلم بمواضِعها، وما ينبغي أن يصنع فيها،
__________
1 في "س": "دفع الإعجاز"، وهي جيدة جدًا، بمعنى: إنكار
الإعجاز، كما سيأتي في رقم: 299.
(1/249)
فليس الفضْلُ للعلم بأنَّ "الواو" للجمع،
و"الفاء" للتعقيب بغير تَراخٍ، و"ثم" له بشرطِ التَراخي،
و"إنْ" لكذا و"إذا" لكذا، ولكنْ لأَنْ يتأتَّى لكَ إِذا
نظَمْتَ شعراً وألَّفْتَ رسالةً أنْ تُحْسِنَ التخيُّرَ، وأن
تَعْرِفَ لكلٍّ مِنْ ذلك مَوضِعَه.
288 - وأمرٌ آخرُ إذا تأمَّله الإِنسان1 أَنِفَ من حِكايةِ هذا
القولِ، فضْلاً عن اعتقادِه، وهو أنَّ المزيَّةَ لو كانت تَجبُ
من أجْلِ اللغةِ والعِلْم بأوضاعِها وما أرادَهُ الواضعُ فيها،
لكانَ يَنَبْغي أنْ لا تَجِبَ إلا بِمْثل الفرْقِ بين "الفاء"
و "ثم" و "إنْ" و "إذا" وما أشبَهَ ذلك، مما يعبِّرُ عنه وضعٌ
لغوي، فكانت لا تَجِبُ بالفصْل وتَرْك العْطفِ، وبالحذْفِ
والتكرارِ، والتقديمِ والتأخيرِ، وسائرِ ما هو هيئةٌ
يُحْدِثُها لك التأليفُ، ويَقْتضيها الغَرضُ الذي تَؤُم،
والمعنى الذي تَقْصِد، وكانَ ينبغي أن لا تَجب المزيةُ بما
يَبْتدِئه الشاعرُ والخطيبُ في كلامِهِ منِ استعارةِ اللفظ
لشيءِ لم يُسْتَعَر له، وأنْ لا تكونَ الفضيلةُ إلاَّ في
استعارةٍ قد تُعورِفَتْ في كلامِ العربِ. وكفى بذلك جَهْلاً.
289 - ولم يكنْ هذا الاشتباهُ وهذا الغَلطُ إلاَّ لأنَّه ليس
في جُملة الخفايا والمُشْكِلات أغربُ مَذْهباً في الغموض، ولا
أَعْجَبُ شأناً، من هذه التي نحنُ بصَدَدِها، ولا أَكثرُ
تفلُّتاًَ منَ الفَهْم وانْسلالاً منها وإنَّ الذي قاله
العلماءُ والبلغاءُ في صفتِها والإِخبارِ عنها، رموزٌ لا
يَفْهمُها إلاَّ مَنْ هُوَ في مثْلِ حالِهمْ مِنْ لُطْفِ
الطَّبْع، ومَنْ هو مُهَيَّأٌ لِفَهْم تلكَ الإشاراتِ، حتى
كأنَّ تلكَ الطباعَ اللطيفةَ وتلكَ القرائحَ والأذهانَ، قد
تواضعَتْ فيما بينها على ما سَبيلُه سبيلُ الترجمةِ يِتَواطأُ
عليها قومٌ فلا تَعْدُوْهم، ولا يعرفها من ليس منهم.
__________
1 في المطبوعة وحدها: "إنان" بلا تعريف.
(1/250)
كلام الجاحظ في شأن إعجاز القرآن:
290 - وليتَ شِعْري مِنْ أينَ لِمَنْ لَمْ يتْعَبْ في هذا
الشأن، ولم يمارسْه، ولم يوفرْ عنايَتَه، عليه، أنْ يَنْظُرَ
إلى قولِ الجاحظِ وهو يذكر عجاز القرآن:
"وَلو أَنَّ رجلاً قرأَ على رَجُلٍ منْ خُطبائهم وبُلَغائهم
سورةً قصيرةً أو طويلةً، لَتبيَّنَ له في نظامِها ومَخْرجها
منْ لفظِها وطابعها، أنه عاجز من مِثْلها، ولو تَحدَّى بها
أبلَغَ العربِ لأَظْهَر عجْزَه عنها"1.
وقولِه وهو يَذكُر رواةَ الأَخبار:
"ورأيتَ عامتَهم، فقد طالَتْ مُشاهَدتي لَهُم وهُم لا يَقفونَ
إلاَّ على الألفاظِ المتخيَّرةِ، والمعاني المنتخَبة،
والمخَارِج السهلةِ، والديباجةِ الكريمةِ، وعلى الطبعِ
المتمكِّن، وعلى السَّبْك الجيِّد، وعلى كلِّ كلامٍ له ماء
ورونق".
وقوله في بت الحطيئة:
متَى تَأَتِهِ تَعْشُو إِلى ضَوْءِ نارِهِ ... تَجدْ خيرَ نارٍ
عندَها خيرُ مَوْقِدِ
"وما كانَ ينبغي أن يُمدَح بهذا البيتِ إلاَّ مَنْ هُوَ خيرُ
أهلِ الأرضِ، على أَني لم أُعْجَب بمعناه أكثرَ من عَجَبي
بلفظهِ، وطَبْعه، ونَحْته، وسَبْكه، فيَفْهَمُ منه شيئاً أو
يقفُ للطابَع والنظامِ والنحْتِ والسَّبْكِ والمَخَارجِ
السَّهْلةِ، على معنى، أو يَحْلى منه بشيءٍ، وكَيْفَ بأنْ
يَعْرفه؟ ولربَّما خفيَ على كثيرٍ من أَهْله".
291 - واعلمْ أن الداءَ الدَّويَّ، والذي أعيا أمرُهُ في هذا
الباب، غَلطُ منْ قدَّمَ الشعرَ بمعناه، وأقلَّ الاحتفالَ
باللفظِ، وجعَلَ لا يُعطيهِ من المزية إن هو
__________
1 هو في كتابه "حجج النبوة"، انظر رسائل الجاحظ 3: 229، وفيها:
"وفي لفظه وطبعه".
(1/251)
أَعطى إلاَّ ما فَضَل عن المعنى يقولُ: "ما
في اللفظِ لولا المعنى؟ وهلِ الكلامُ إلا بمعناه؟ ". فأنتَ
تراهُ لا يُقدِّم شعراً حتى يكونَ قد أَوْدَعَ حكمةً وأَدباً،
واشتملَ على تشبيهٍ غريبٍ ومعنى نادرٍ، فإنْ مالَ إلى اللفظِ
شيئاً، ورأى أنْ ينحلَه بعضَ الفضيلةِ، لم يَعِرفْ غيرَ
"الاستعارةِ"، ثم لا يَنْظُر في حالِ تلك "الاستعارةِ"
أَحَسُنَتْ بمجرَّدِ كونِها استعارةً، أَمْ مِن أجْل فَرْقٍ
ووَجْهٍ أم للأمرَيْن؟ لا يحفلُ بهذا وشبههِ، قد قَنَعَ
بظواهرِ الأمورِ، وبالجُمَل، وبأنْ يكونَ كَمَنْ يَجْلُبُ
المتاعَ للبيعِ، إِنما همُّه أن يروِّجَ عنه. يرى أنَّه إِذا
تكلمَ في الأخذ والسرقةِ، وأحْسَنَ أن يقولَ: "أخذَهُ من
فلانٍ، وألمَّ فيه بقولِ كذا"، فقدِ استكمل الفضْلَ، وبلغَ
أقصى ما يرادُ.
292 - واعلمْ أنَّا وإنْ كنَّا إذا اتَّبَعْنا العُرفَ
والعادةَ وما يَهْجسُ في الضَّميرِ وما عليه العامَّةُ، أرَانا
ذلكَ أنَّ الصوابَ معهم، وأنَّ التعويلَ ينبغي أن يكونَ على
المعنى. وأنَّه الذي لا يَسوغُ القولَ بخلافِه1 فإنَّ الأمرَ
بالضدِّ إذا جئْنا إلى الحقائقِ، وإلى ما عليه المحصِّلون،
لأنَّا لا نَرى متقدِّماً في علمِ البلاغةِ، مبرِّزاً في
شأوِها، إلاَّ وهو يُنْكِرُ هذا الرأيَ وَيعيبُه، ويُزْري على
القائل به ويغض منه.
معرفة الشعر وتمييزه، والأخبار في ذلك:
293 - ومن ذلك ما رُويَ عن البحتَريِّ. رُويَ أنَّ عبيد الله
بن عبد الله ابن طاهرٍ سألَه عن مُسْلم وأبي نُوَاس: أيُّهما
أشعرُ؟ فقال: أبو نُوَاس. فقالَ: إنَّ أبا العباسِ ثَعْلباً لا
يوافقُك على هذا. فقال: ليس هذا من شأن ثعلب
__________
1 السباق: "واعلمْ أنَّا وإنْ كنَّا إذا اتَّبَعْنا العُرفَ
.... أرانا ذلك أن الصواب معهم .... فإنَّ الأمرَ بالضدِّ إذا
جئْنا إلى الحقائقِ".
(1/252)
وذويهِ، مِن المُتعاطينَ لعلْمِ الشعرِ
دُون عَمله، إنما يعلُم ذلك من دُفع في مَسْلك طريقِ الشعرِ
إلى مُضَايِقه وانتهى إلى ضَروراته1.
294 - وعن بعضِهم أنه قال: رآني البحتري ومعي دفترُ شعرٍ فقال:
ما هذا؟ فقلتُ: شعرَ الشَّنفرى. فقال: وإلى أينَ تَمْضي؟
فقلتُ: إلى أبي العباس أقرؤه عليه. فقال: قد رأيتُ أَبا
عبَّاسِكم هذا منذُ أيامٍ عندَ ابنِ ثَوَابة فما رأيتُه ناقداً
للشعرِ ولا مُميزاً للألفاظِ، ورأيتُه يَستجيد شيئاً
ويُنشِدُه، وما هو بأَفضَلِ الشعر. فقلتُ له: أمَّا نَقْدُه
وتَمييزُه فهذه صناعةٌ أُخرى، ولكنَّه أعرفُ الناس بإِعرابهِ
وغَريبهِ، فما كان يُنْشِدُ؟ قالَ قولَ الحارثِ بنِ وَعْلَة:
قَومي هُمُ قَتلُوا أُمَيمَ أَخي ... فإِذا رَمَيْتُ يُصِيبني
سَهْمي
فلِئنْ عفَوْتُ لأَعْفُوَنْ جَلَلاً ... ولئنْ سَطَوْتُ
لأُوهِنَنْ عَظْمي2
فقلتُ: واللهِ ما أَنْشَد إلاَّ أحْسَن شعرٍ في أحسنِ معنًى
ولفظٍ. وقال: أَين الشعرُ الذي فيهِ عُروقُ الذهبِ؟ فقلتُ:
مثْلُ ماذا؟ فقالَ: مثلُ قولِ أبي ذؤَاب:
إن يَقْتُلوكَ فقَدْ ثَلَلْتَ عُروشَهُمْ ... بِعُتَيْبَةَ بنِ
الحارثِ بِنِ شِهاب
بأَشَدِّهم كَلَباً عَلَى أَعْدائِهِ ... وأعزهم فقدًا على
الأصحاب3
__________
1 ستأتي في الفقرة رقم: 314.
2 الشعر للحارث بن وعلة الذهلي، شرح الحماسة للتبريزي 1: 107،
والمؤتلف والمختلف للآمي: 197، و "أميم"، متأذى "يا أميم"،
مرخم، و "أوهنن"، من الوهن، وهو الضعف.
و"جللًا"، أي صفحت عن أمر جليل عظيم.
3 الشعر لأبي ذؤاب ربيعة بن عبيد الأسدي، في المؤتلف والمختلف
للآمدي: 126، والأمالي: 2: 72، والسمط: 706، وفي روايته
اختلاف. وكان في المطبوعة وحدها "على أعدائهم".
(1/253)
295 - وفي مثل هذا قال الشاعر:
زَوامِلُ للأشعارِ لا عِلْمَ عندهُمْ ... بجيِّدها إلاَّ
كَعِلْم الأَباعِرِ
لعمرُكَ ما يَدْرِي البعَيرُ إذا غَدَا ... بأَوْسَاقِه أَوْ
راحَ ما في الغرائرِ1
وقال الآخر:
يا أبا جعفر تَحَكَّمُ في الشعْـ ... ـرِ ومَا فيكَ ألةُ
الحُكَّامِ
إنَّ نَقْدَ الدينارِ إلاَّ على الصَّيْـ ... ـرَف صَعْبٌ
فكَيْفَ نَقْدُ الكَلامِ
قَدْ رأيناكَ لسْتَ تَفْرُق في الأشْـ ... ـعارِ بَيْنَ
الأَرْواحِ والأَجْسَامِ
296 - واعلْمْ أَنَّهم لم يَعيبوا تقديمَ الكلام بمعناه من
حيثُ جَهِلوا أنَّ المعنى إذا كان أدباً وحكْمةً وكان غَريباً
نادراً، فَهو أَشَرَفُ مما ليس كذلكَ بل عابوه مِن حيثُ كان
مِنْ حُكْمِ مَنْ قَضى في جنسٍ من الأجناسِ بفضلٍ أو نقصٍ، أنْ
لا يَعْتبرَ في قَضِيَّتِهِ تلك إلى الأوصافَ التي تَخصُّ ذلك
الجنسَ وتَرْجعُ إلى حقيقته، وأن لا ينظر يها إلى جنس آخر، وإن
كان من الأولى بسبيلٍ، أو متصلاً به اتصالَ ما لا ينفك منه.
سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة:
297 - ومعلومٌ أنَّ سبيلَ الكلامِ سبيلُ التصويرِ والصياغةِ،
وأنَّ سبيلَ المعنى الذي يُعَبَّرُ عنه سبيلُ الشيءِ الذي يقعُ
التصويرُ والصَّوْغُ فيه، كالفضةِ والذهبِ يُصاغ منهما خاتَمٌ
أو سوارٌ. فكما أنَّ مُحالاً إِذا أنتَ أردْتَ النظرَ في
__________
1 الشعر لمروان من أبي حفصة. و "الزوامل" جمع "زاملة"، وهو
البعير يحمل عليه الرجل زاده ومناعه. و "الأوساق"، جمع "وسق"،
الحمل. و "الغرائر" جمع "غرارة"، وهي الحوالق، الكامل للمبرد
2: 90، اللسان "زمل".
(1/254)
صَوْغَ الخاتَم، وفي جودةِ العملُ
ورداءتهِ، أن تنظر إلى الفضةِ الحاملةِ تلك الصورةِ، أو الذهبِ
الذي وقع فيه ذلك العملُ وتلكَ الصنعةُ1 2 كذلك مُحالٌ إِذا
أردتَ أن تَعرف مكانَ الفضلِ والمزيةِ في الكلامِ، أن تَنظُرَ
في مجرَّد معناهُ وكما أنَّا لو فضَّلْنا خاتَماً على خاتمٍ،
بأنْ تكونَ فضة هذه أجودَ، أو فَصُّه أنفسَ، لم يكنْ ذلك
تفضيلاً له من حيثُ هو خاتمَ كذلك ينبغي إذا فضَّلنا بيتاً على
بيتٍ من أجلِ معناه، أن لا يكون ذلك تَفضيلاً له مِنْ حيثُ هو
شِعرٌ وكلامِ. وهذا قاطع، فاعرفه.
مقالة الجاحظ في أن المعاني مطروحة في الطريق، وبيان ذلك:
298 - واعلمْ أَنك لستَ تنظرُ في كتابٍ صُنِّفَ في شأنِ
البلاغةِ، وكلامٍ جاءَ عن القدماءِ، إلاَّ وجدْتَه يَدلُّ على
فسادِ هذا المذهبِ، ورأيتَهُمْ يَتشدَّدُون في إنكارِه وَعْيبه
والعَيْبِ به.
وإِذا نظرتَ في كتب الجاحظَ وجدتَه يبلغُ في ذلك كلَّ مَبلغٍ،
ويتشدَّد غايةَ التشدُّد، وقد انتهى في ذلك إلى أنْ جعلَ
العِلْم بالمعاني مشتركاً، وسوَّى فيه بينَ الخاصَّة والعامَّة
فقالَ: "ورأيتُ ناساً يُبَهرِجونَ أشعارَ المولَّدينَ،
ويَستَسْقطون مَنْ رَواها، ولم أرَ ذلكَ قطُّ إلاَّ في روايةِ
غيرِ بَصيرٍ بجوهَر ما يُرْوَى، ولو كان له بَصرٌ لَعَرف
موضِعَ الجيِّد ممَّن كانَ، وفي أيِّ زمانٍ كان. وأنا سمعتُ
أبا عمرِو الشيبانيَّ، وقدْ بلغَ مِنِ استجادته لهذين البيتينِ
ونحنُ في المسجد الجامعِ يومَ الجمعةِ، أن كلَّفَ رجلاً حتَّى
أَحضرَهُ قِرطاساً ودواةً حتى كتَبَهما. قال الجاحظُ: وأنا
أَزعمُ أنَّ صاحبَ هذين البيتين لا يقولُ شعراً أبدًا، ولولا
أن
__________
1 "ذلك" ساقطة من المطبوعة.
2 السياق: "فكما أن محالًا ...... كذلك محال".
(1/255)
أَدخَلَ في الحكومةِ بعضَ الغَيْبِ1،
لزعمتُ أنَّ ابنَه لا يقولُ الشعر أيضاً، وهما قولُه:
لا تحسبنَّ الموتَ موْتَ البِلَى ... وإنَّما الموتُ سؤالُ
الرجالْ
كِلاَهُما موتٌ، ولكنَّ ذَا ... أَشَدُّ مِنْ ذاكَ عَلى كُلِّ
حالْ
ثم قال: "وذهبَ الشيخُ إلى استحسانِ المعاني، والمعاني مطروحةٌ
في الطريقِ يَعْرفُها العجميُّ والعربيُّ، والقرويُّ
والبدويُّ، وإنما الشأنُ في إقامةِ الوزنِ وتَخيّر اللفظِ،
وسهولَة المَخْرج، وصحَّةِ الطَّبْعِ، وكَثْرةِ الماءِ، وجودةِ
السَّبْك، وإنما الشِّعرُ صياغةٌ وضربٌ من التصوير"2.
فقد تَراهُ كيفَ أَسْقَطَ أمرَ المعاني، وأبَى أن يجب لها فضل
فقال: "هي مطروحةٌ في الطريقِ"، ثمَّ قال: "وأنا أزعمُ أن
[ابن] صاحبَ هذين البيتين لا يقولُ شعراً أبداً" فأعْلَمَكَ
أنَّ فَضْلَ الشعرِ بلفظِه لا بمعناهُ، وأنه إذا عَدِمَ
الحُسْنَ في لفظِه ونَظْمه، لم يستحقَّ هذا الاسمَ بالحقيقة.
وأعادَ طَرَفاً منْ هذا الحديثِ في "البيان" فقال:
"ولقد رأيتُ أبا عمرو الشيباني يكتبُ أشعاراً منْ أفواهِ
جلسائهِ ليُدخِلَها في بابِ التحفُّظ والتذكُّر3، وربَّما
خيِّل إليَّ أنَّ أبناءَ أولئكَ الشعراءِ لا يستطيعونَ أبداً
أن يقولوا شعراً جيداً، لمكان أعراقهم من أولئك
__________
1 "بعض الغيب"، أي أن يقول رجمًا بالغيب، وفي الحيوان: "بعض
الفتك"، وفي "س"، "بعض العيب"، وأولاها ما أثبت.
2 هذا الفصل كله في كتاب الحيوان 3: 130 - 132، وفيه: "فإنما
الشعرصياغة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير"، والشعر فيه، وفي
البيان والتبيين 2: 171.
3 في المطبوعة والبيان: "يكتب".
(1/256)
الآباءِ" ثم قال: "ولولا أنْ أكونَ
عيَّاباً، ثُمَّ للعلماء خاصة، لصورتُ لكَ بعضَ ما سمعتُ من
أبي عبيدَة، ومَن هو أبعدُ في وهْمك من أبي عبيدة"1.
299 - واعلمْ أَنهم لم يَبْلغوا في إِنكارِ هذا المذهبِ ما
بلَغوه إلاَّ لأنَّ الخطأَ فيه عظيمٌ، وأنه يُفْضي بصاحبه إِلى
أنْ يُنْكِر الإعجازَ ويُبْطِلَ التحدِّي من حيثُ لا يَشعر.
وذلك أنه إنْ كان العملُ على ما يَذهبون إليه، من أنْ لا
يَجِبَ فضلٌ ومزيةٌ إلاَّ من جانِبِ المعنى، وحتى يكونَ قد
قالَ حكمةً أو أدباً، واستخرجَ معنًى غريباً أو تشبيهاً
نادراً2، فقد وَجَب اطِّراحُ جميعِ ما قالَه الناسُ في
الفصاحةِ والبلاغةِ، وفي شأنِ النظمِ والتأليفِ، وبَطَلَ أنْ
يجِبَ بالنظم فضْلٌ، وأنْ تَدْخُلَه المزيةُ، وأن تتفاوتَ فيه
المنازلُ. وإِذا بطَلَ ذلك، فقد بطَل أنْ يكَون في الكلامِ
مُعْجِزٌ، وصارَ الأمرُ إلى ما يقولُه اليهودُ ومَنْ قالَ
بمثْلِ مقَالِهم في هذا البابِ، ودخلَ في مثلِ تلك الجَهالات،
ونَعُوذ بالله من العمى بعد الإبصار.
__________
1 هذا الفصل في كتاب البيان والتبيين 4: 24.
2 في المطبوعة وحدها: "أو شبيهًا نادرًا".
(1/257)
|