دلائل الإعجاز ت شاكر باب اللفظ والنظم:
فصل منه
فصل:
مسألة في تفسير: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ
قلب"، ومعنى "القلب"
360 - هذه مسئلة قد كنتُ عمِلْتُها قديماً، وقد كتبتُها ههنا
لن لها اتصالاً بهذا الذي صارَ بنا القولُ إليه. قولُه تعالى:
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق:
27]، أي لِمَنْ أعْمَلَ قلْبَه فيما خُلِق القلبُ لهُ مِنَ
التدبُّر والتفكُّر والنظرِ فيما ينبغي أن يُنْظَرَ فيه. فهذا
على أن يُجْعلَ الذي لا يَعِي ولا يسَمعُ ولا يَنْظرُ ولا
يتفكَّرُ، كأنه قد عَدِمَ القلبَ من حيثُ عَدِمَ الانتفاعَ به،
وفاتَه الذي هو فائدةُ القلبِ والمطلوب منه كما يجعل الذي لا
يَنْتفِعُ بِبصرِهِ وسَمْعه ولا يُفكِّر فيما يؤدِّيان إليه،
ولا يَحْصُل من رؤية ما يُرَى وسَماعِ ما يُسْمَعُ على فائدةٍ،
بمنزلةِ مَنْ لا سَمْعَ له ولا بَصَرَ.
فأمَّا تفسيرُ مَنْ يُفَسِّرهُ على أنه بمعنى "من كان له
عقلٌ"، فإِنه إنما يَصحُّ على أن يكونَ قد أرادَ الدلالةَ على
الغرضِ على الجملة، فأمَّا أن يؤخذَ به على هذا الظاهر حتى
كأنَّ "القلبَ" اسمٌ "للعقل"، كما يتوهمه الحَشْوِ ومَنْ لا
يَعرِفُ مخارِجَ الكلامِ1، فمحالٌ باطلٌ، لأنه يؤدي إلى إبطالِ
الغرَضِ من الآيةِ، وإلى تَحْريفِ الكلامِ عن صورتِه، وإزالةِ
المعنى عن جهته. وذاك أنَّ المرادَ به الحثُّ على النظرِ،
والتقريعُ على تَرْكه، وذمُّ مَنْ يُخِلُّ به وَيغْفِل عنه.
ولا يَحْصُل ذلك إلا بالطريقِ الذي قدَّمْتُه، وإلاَّ بأنْ
يكونَ قد جُعِل من لا يَفْقَه بقلبهِ ولا يَنْظُر ولا
يَتفكَّر، كأنه ليس بذي قلبٍ، كما يُجْعَل كأنه جمادٌ، وكأنه
ميْتٌ لا يَشْعر ولا يُحِسّ. وليس سبيلُ مَنْ فسَّر "القلبَ"
ههنا على "العقل"، إلا سبيلَ من
__________
1 في المطبوعة: "أهل الحشو"، وهو فساد. و "الحشو" من الكلام،
الفضل الذي لا يعتمد عليه. و "الحشو" من الناس صغارهم
وأراذلهم.
(1/304)
فسر عليه "العين" و "السمع" في قول الناس:
"هذا بَيِّنٌ لمن كانت له عَينٌ، ولِمَنْ كان له سَمْع"
وفسَّرَ "العمى" و "الصمم" و "الموت" في صفةِ من يُوصَفُ
بالجهالة، على مُجرَّد الجهل، وأجْرى جميعَ ذلك على الظاهر،
فاعرفْه.
361 - ومن عادةِ قومٍ ممَّن يتعاطى التفسيرَ بغير علمٍ، أن
يتوهَّموا أبداً في الألفاظ الموضوعةِ على المجاز والتمثيلِ،
أنها على ظواهرِها، فُيُفسدوا المعنى بذلك، ويُبطلوا الغرضَ،
ويمنعوا أنفسَهم والسامعَ منهم العلمَ بموضع البلاغة، ومكان
الشرف. وناهيكَ بهم إِذا هم أخذوا في ذكرِ الوجوه، وجعَلوا
يُكثرون في غيرِ طائل، هناكَ تَرى ما شئتَ من بابِ جهلٍ قد
فتَحُوه، وزنْدِ ضلالةٍ قد قَدَحوا به، ونسألُ الله تعالى
العصمة والتوفيق.
(1/305)
فصل:
فصل دقيق في "الكناية"، وإثبات الصفة عن طريقها، وأمثلة ذلك:
362 - هذا فنٌّ من القول دقيق المسلك، لطيفُ المأخذ، وهو
أَنَّا نراهم كما يصنعون في نفسِ الصفة بأن يذهبوا بها مذهب
الكنايةِ والتعريضِ، كذلك يذهبون في إِثباتِ الصفة هذا
المذهبَ. وإذا فعلوا ذلك، بدتْ هناك محاسنُ تملأ الطرْفَ.
وَدقائقُ تُعجزُ الوصفَ، ورأيتَ هنالك شعراً شاعراً، وسحْراً
ساحراً، وبلاغةً لا يكمل لها إلا الشاعرُ المُفْلِق، والخطيبُ
المِصْقَع. وكما أنَّ الصفةَ إذا لم تأتِكَ مُصرَّحاً
بذِكْرها، مكشوفاً عن وجهها، ولكن مدلولاً عليها بغيرها، كان
ذلك أفخمَ لشأنها، وألطفَ لمكانِها، وكذلك إثباتك الصفة للشيء
ثبتها له، إِذا لم تُلْقِه إلى السامع صريحاً، وجئتَ إليه من
جانبِ التعريضِ والكنايةِ والرمزِ والإِشارة، كان له من الفضلَ
والمزيَّة، ومن الحسْن والرونق، ما لا يقلُّ قليلُه، ولا
يُجْهَلُ موضِعُ الفضيلةِ فيه.
363 - وتفسيرُ هذه الجملةِ وشرحُها: أنهم يرومون وصْفَ الرجل
ومدْحَه، وإثباتَ معنًى من المعاني الشريفةِ له، فيَدَعونَ
التصْريحَ بذلك، ويُكَنُّونَ عن جَعْلها فيه بِجَعْلها في شيءٍ
يَشْتمِلُ عليه وَيتَلبَّس به، ويتوصَّلون في الجملة إلى ما
أَرادوا من الإِثباتِ، لا من الجهةِ الظاهرةِ المعروفةِ، بل من
طريقٍ يَخْفى، ومَسْلكٍ يَدِقُّ؟ ومثالُه قولُ زيادٍ الأعجمِ:
إنَّ السَّماحَةَ والمُروءةُ والنَّدَى ... في قُبَّةِ
ضُرِبَتْ على ابْنِ الحَشْرجِ1
__________
1 الشعر في الأغاني 15: 386 "الدار"، وكان زياد الأعجم نزل على
عبد الله بن الحشرج وهو باسبور، فأنزله وألطفه. وفي هامش
المخطوطة "ج" ما نصه: وبعده.
ملكٌ أغَرُّ مُتَوَّجٌ ذُو نائِلٍ ... للمُعْتَفِيْنَ،
يَمِيْنهُ لَم تَشْنَجِ
يا خَيْرَ من صَعِدَ المنابِرَ بالتُّقى ... بعدَ النَّبِيِّ
المُصْطفى المُتَحَرِّجِ
لمَّا أَتَيْتُكَ رَاجِياً لِنَوالِكُمْ ... أَلفَيْتُ بَابَ
نوالِكُمْ لَمْ يرتج
(1/306)
أرادَ، كما لا يخفى، أنْ يُثْبِتَ هذه
المعاني والأوصافَ خلالاً للمدوح وضرائبَ فيه1، فتركَ أنْ
يُصرَّحَ فيقولَ: "إنَّ السماحةَ والمروءةَ والندى لمجموعةٌ في
ابنِ الحَشْرج، أو مقصورةٌ عليه، أو مختصَّة به"، وما شاكَلَ
ذلك مما هو صريحٌ في إثباتِ الأوصافِ للمذكورين بها، وعدَلَ
إِلى ما تَرى مَن الكناية والتَّلويح، فجعل كونَها في القُبَّة
المضروبةِ عليه، عبارةً عن كونها فيه، وإِشارةً إِليه، فخرَجَ
كلامُه بذلك إِلى ما خَرَجَ إِليه منَ الجَزالةِ، وظهرَ فيه ما
أنت تَرى منَ الفخَامة، ولو أنه أَسْقَط هذه الواسِطَة من
البَيْن، لما كان إِلاَّ كلاماً غُفْلاً، وحديثاً ساذَجاً.
364 - فهذه الصنعةُ في طريقِ الإثباتِ، هي نظيرُ الصنعةِ في
المعاني، إِذا جاءتْ كناياتٍ عن معانٍ آخَر، نحو قوله:
وما يَكُ فيِّ مِنْ عيبٍ فإنِّي ... جبانُ الكلبِ مهزولُ
الفَصيل2
فكما أَنَّه إِنَّما كان مِنْ فاخرِ الشِّعر، وممَّا يقَعُ في
الاختيار3، لأجل أنه أَرادَ أنْ يذْكُرَ نفسَه بالقرى
والضيافةِ، فكنَّى عن ذلك بجُبْنِ الكَلْب وهُزالِ الفصيلِ،
وتَرَكَ أن يُصرِّحَ فيقولَ: "قد عُرِفَ أنَّ جَنابِي مألوف،
وكلبي
__________
1 "الضرائب" جمع "ضريبة". وهي الخليقة والسجية والطبيعة.
2 غير منسوب، في شرح الحماسة للتبريزي 4: 93، والحيوان 1: 384،
وهو بيت عائر، إلا ثاني له، وقد سلف شطره في رقم: 306.
3 يعني اختيار أبي تمام له في الحماسة.
(1/307)
مؤدَّبٌ لا يَهِرُّ في وجوهِ مَنْ يَغْشاني
من الأضياف، وأني أنحر المتالي من إبل، وأَدَعُ فِصالَها
هَزْلى"1 كذلك، إِنما راقَكَ بيتُ زياد، لأنه كنَّى عن إثباتِه
السماحةَ والمروءةَ والندى كائنةً في الممدوحِ، بجعلها كائنةً
في القبةِ المضروبةِ عليه.
365 - هذا، وكما أنَّ مِنْ شأنِ الكنايةِ الواقعةِ في نفسِ
الصفةِ أن تجيءَ على صورٍ مختلفةٍ، كذلك مِنْ شأنها إذا وقعَتْ
في طريقِ إثباتِ الصفةِ أنْ تجيءَ على هذا الحدِّ، ثم يكونُ في
ذلك ما يتناسَبُ، كما كان ذلك في الكنايةِ عن الصفةِ نفسِها.
تفسيرُ هذا: أنك تَنظُرُ إِلى قولِ يزيد بن الحَكَم يمدح به
يزيدَ بنَ المهلَّبِ، وهو في حَبْسِ الحَجّاجِ:
أَصْبَحَ في قَيْدِكَ السَّمَاحَةُ والمجدُ ... وفَضْلُ
الصَّلاحِ والحسَبُ2
فتراه نظيراً لبيتِ "زياد"، وتَعْلم أنَّ مكان "القيد" ههنا هو
مكانُ "القبَّة" هناك.
كما أنَّك تَنْظُر إلى قوله: "جبانُ الكلب"، فتعلمُ أنَّه
نظيرٌ لقوله:
زجرت كلابي أن يهر عقورها3
__________
1 "المتالي" الأمهات من النوق تتلوها أولادها وتتبعها.
2 هو من شعره في الأغاني 12: 291، "الدار".
3 هو شعر شبيب بن البرصاء، في الأغاني 12: 275، "الدار"
وتمامه:
ومستنبح يدعو وقد حال دونه ... من الليل سجفا ظلمة وستورها
رفعت له ناري، فلما اهتدى بها ... زجرتُ كلابي أَنْ يهِرَّ
عَقُورها
(1/308)
مِنْ حَيثُ لم يكُنْ ذلك "الجبنُ" إلاَّ
لأَنْ دامَ منهُ الزجْرُ واستمرَّ، حتى أخرجَ الكَلْبَ بذلك
عمَّا هو عادتُه منَ الهَريرِ والنَّبْح في وجْه مَنْ يَدْنو
مِنْ دارٍ هو مُرْصَدٌ لأن يَعُسَّ دونها.
وتنظُرُ إلى قولهِ: "مهزولُ الفصيل"، فتعلمُ أنه نظيرُ قولِ
ابن هَرْمَةَ:
لا أُمْتِع العُوذَ بالفصال1
وتنظُر إلى قول نصيب:
لِعَبْدِ العَزيزِ على قَوْمِهِ ... وغيرهمُ منَنٌ ظاهِرَهْ
فبابك أسهل أبوابهم ... ودارك مأهولةعامرة
وكلبك آنس بالزائين ... مِنَ الأُمّ بالإبْنَةِ الزائرَهْ2
فَتَعلمُ أنه من قول الآخر:
يكادُ إذا ما أبصرَ الضيفَ مَقْبلاً ... يَكلّمه مِنْ حُبِّهِ
وهْوَ أَعْجَمُ3
وأنَّ بينهُما قرابةً شديدة ونسبًا لاصقًا، وأن صورتهما فيفرط
التناسُب صورةُ بيتَي "زيادٍ" و"يزيدَ".
366 - ومما هو إثباتٌ للصفةِ على طريقِ الكنايةِ والتَّعريض،
وقولهم "المجْدُ بَيْنَ ثَوْبَيْه، والكَرَمُ في بُرْدَيْه"،
وذلك أن قائلَ هذا يتَوصَّلُ إلى إثباتِ المجدِ
__________
1 هو شعر إبراهيم قبن هرمة، وقد سلف برقم: 311، وسيأتي بعد
قليل برقم: 369.
2 هو في شعره المجموع، والرواية الصحيحة: "أرأف بالزائرين"،
كما سيأتي برقم: 368.
3 هو لإبراهيم بن هرمة في شعره المجموع، والبيان والتبيين 3:
205.
(1/309)
والكَرَم للممدوحِ، بأن يَجعلَهما في ثوبِه
الذي يلْبَسُه، كما توصَّل "زيادٌ" إلى إثباتِ السماحةِ
والمروءة والنَّدى لابنِ الحَشْرج، بأنْ جَعَلَها في القُبَّة
التي هو جالسٌ فيها. ومن ذلك قوله:
وحيْثُما يكُ أمرٌ صالحٌ فَكُنِ1
وما جاءَ في معناه من قوله:
يَصيرُ أَبانٌ قَرينَ السَّماحِ ... والمَكْرُماتِ مَعاً حيثُ
صارا2
وقولُ أبي نُواسَ:
فَما جازَهُ جُوْدٌ ولا حلَّ دُونَه ... ولكنْ يَصيرُ الجُودُ
حَيْثُ يَصيرُ3
كلُّ ذلك تَوصُّلٌ إلى إثباتِ الصِّفة في الممدوح بإِثباتها في
المكانِ الذي يكونُ فيه، وإلى لُزومها له بلُزومها الموضِعَ
الذي يَحُلُّه. وهكذا إنِ اعتبرْتَ قولَ الشَّنفَرى يصف امرأة
بالعفة:
يبيتُ بمنجاةٍ مِنَ اللَّوْم بيْتُها ... إِذا ما بُيوتٌ
بالملامَةِ حُلَّتِ4
وجدْتَهُ يَدْخُل في معنى بيتِ "زيادٍ"، وذلك أنه توصَّلَ إلى
نفي اللوم
__________
1 هو شعر زهير بن أبي سلمى، وكان في المطبوعة والمخطوطة، "تكن"
بالتاء، وهو خطأ. والشعر يقوله لهرم بن سنان، وصدره:
هناك ربك ما أعطاك من حسن
2 هو للكميت في شعره المجموع
3 هو في ديوانه.
4 هي من المفضلية رقم: 20، وفي هامش المخطوطة بخط كاتبها فوق
كلمة: "بمنجاة"، وكأنه قول عبد القاهر، ما نصه:
"الرواية الصحيحة: بمنحاة، بالحاء غير المعجمة".
(1/310)
عنها وإبعادِها عنه، بأن نَفَاه عن بيتها
وباعَدَ بينَهُ وبَيْنَهُ، وكان مَذْهبُه في ذلك مذْهَبَ
"زيادٍ" في التوصُّلِ إلى جَعْلِ "السماحةِ والمروءةِ
والنَّدى" في ابنِ الحَشْرَجِ، بأن جعَلَها في القبَّة
المضروبةِ عليه. وإنَّما الفرقُ أنَ هذا يَنْفي، وذاك
يُثْبِتُ. وذلك فَرْقٌ لا في موضِعِ الجمعِ، فهو لا يَمْنَعُ
أن يكونا من نصاب واحد.
367 - ومما هو حُكْم المناسِب لبيتِ "زيادٍ" وأمثالهِ التي
ذكَرْتُ، وإنْ كانَ قد أُخْرِجَ في صورةٍ أغربَ وأبدع، قول
حسان رضي الله عنه:
بَنَى الْمَجْدَ بَيْتاً فَاسْتَقَرَّتْ عِمَادُه ... عَليْنا،
فأعْيى الناس أن يتحولا1
وقول البحتري:
أوما رأيتَ المجدَ أَلْقى رحْلَه ... في آلِ طلحةَ ثُمَّ لَمْ
يَتحوَّلِ2
ذاكَ لأنَّ مدَارَ الأمرِ على أنَّه جَعَلَ المجْدَ والممدوحَ
في مكانٍ، وجعَلَه يكونُ حيثُ يكونُ.
368 - واعلمْ أنه ليس كلُّ ما جاء كنايةً في إثباتِ الصفةِ
يَصْلحُ أَنْ يُحْكَمَ عليه بالتناسُبِ.
معنى هذا: أنَّ جعْلَهمُ الجُودَ والكَرَمَ والمجْدَ يَمْرضُ
بِمَرضِ الممدوح كما قال البحتري:
ظَلِلْنا نَعودُ الجودَ من وَعْكِكَ الذي ... وجَدْتَ وقلنا
اعتل عضو من المجد3
__________
1 في ديوانه.
2 في ديوانه.
3 في ديوانه.
(1/311)
وإنْ كان يَكونُ القصْدُ منه إثباتَ الجودِ
والمجدِ للممدوحِ، فإِنَّه لا يَصِحُّ أنْ يقالَ إِنه نظيرٌ
لبيتَ "زيادٍ" كما قلنا ذاك في بيتِ أبي نواس:
ولكنْ يصَيرُ الجودُ حيثُ يصَيرُ
وغيرِه مما ذكَرْنا أنه نظيرٌ له كما أنه لا يجوزُ أن يُجْعَل
قَولُه:
وكلبُكَ أرافُ بالزائرينَ1
مثلاً، نظيراً لقوله:
مهزولُ الفصيل2
وإنْ كان الغَرضُ منهما جميعاً الوصفَ بالقِرى والضيافةِ،
وكانا جميعاً كنايتين عن معنى واحدٍ، لأنَّ تعاقُبَ الكناياتِ
على المعنى الواحدِ لا يُوجِبُ تَناسُبَها، لأنه في عَرُوض أنْ
تَتَّفِقَ الأشعارُ الكثيرةٌ في كونها مَدْحاً بالشجاعة
مَثَلاً أو بالجودِ أو ما أشبه ذلك.
كيف تختلف "الكنايتان"، فلا تكون إحداهما نظيرا للأخرى:
369 - وقد يَجْتمِعُ في البيت الواحدِ كنَايتانِ، المغْزى
منهما شيءٌ واحدٌ، ثم لا تكونُ إِحداهما في حكْم النظيرِ
للأُخرى. مثالُ ذلك أنه لا يكون قوله: "جبان الكلب" نظير
لقوله: "مهزولُ الفصيل"، بل كلُّ واحدةٍ من هاتينِ
الكنايَتْينِ أَصْلٌ بنفسِه، وجنسٌ على حدة، وكذلك قولِ ابن
هَرْمَةَ:
لا أُمْتِع العُوذَ بالفصال ولا ... أَبْتاعُ إلا قريبةَ
الأَجَلِ3
ليس إحدى كنايتَيْه في حُكْمِ النظيرِ للأخرى، وإن كانَ المكنى
بهما عنه واحدًا، فاعرفه.
__________
1 انظر رقم: 365، والتعليق عليك هناك.
2 انظر رقم: 364.
3 انظر ما سلف رقم: 311، 365.
(1/312)
370 - وليس لِشُعَبِ هذا الأصْلِ وفروعِه
وأمثلتِه وصُورهِ وطُرُقِهِ ومسالِكِه حدٌّ ونهايةٌ. ومن لطيفِ
ذلك ونادره قول أبي تمام:
أَبَيْنَ فمَا يَزُرْنَ سِوى كَريم ... وحسْبُكَ أَن يَزُرْنَ
أبا سَعيدِ1
ومثلُه، وإنْ لم يَبلُغْ مبلغه، قول الآخر:
مَتى تَخْلُو تَميمٌ مِنْ كَريمٍ ... ومَسْلمَةُ بْنُ عَمْروٍ
مِنْ تميمِ2
وكذلك قولُ بعضِ العربِ:
إذا لله لم يَسْقِ إلاَّ الكِرامَ ... فسقَى وجوهَ بني
حَنْبَلِ
وسَقى ديارَهُمُ باكِراً ... مِنَ الغَيْثِ في الزمن الممحل3
__________
1 في ديوانه، وفي هامش "ج" بخط كاتبها، وكأنه تعليق لعبد
القاهر.
" أي: وحسبك في الدلالة على أنهن لا يزرن سواه، أنهن يزرن أبا
سعيد، والخطاب في مثل هذا لكل من سمع الشعر".
2 لم أقف عليه بعد.
3 هذا الشعر في الأغاني 22: 269 - 371 منسوبًا لزهير بن عروة
بن جلهمة بن حجر بن خزاعي، التميمي المازني، ولقبه السكب" وهو
في الأزمنة والأمكنة 2: 46، 247، لبعض بني مارن، ونسب المبرد
بيتًا منه في الكامل 2: 68 للمازني مبهمًا، وذكر بعضه في
اللسان (ربب"، وقال ابن بري: "ورأيت من نسبه لعروة بن جلهمة
المازني"، وذلك لأن صاحب اللسان نسبه لعبد الرحمن بن حسان، إذا
روى عن الأصمعي، أنه قال: "أحسن بيت قالته العرب في وصف الرباب
"السحاب" يعني قوله:
كأن الرباب دوين السحاب ... نعام تعلق بالأرجل
ونسبه لعبد الرحمن أيضًا أبو عبيد القاسم بن سلام (معجم
الأدباء 6: 165"، ورواية البيت الثاني في الأغاني:
فنعم بنو العم والأقربون ... لدى حطمة الزمن الممحل
وأخشى أن يكون الشيخ جمع بين بيتين في بيت.
(1/313)
وفنٌّ منه غريبٌ، قَولُ بعضِهم في
البرامكة:
سألت الندى والجود مالي أراكُما ... تَبدَّلتُما ذُلاَّ
بِعِزٍّ مؤيَّدِ
وما بالُ ركْنِ المجْدِ أَمْسَى مُهَدَّما ... فَقالا:
أُصِبْنا بابنِ يَحيى مُحمَّدِ
فقلتُ فهلاَّ مُتَّمَا عِنْدَ موتهِ ... فقَدْ كُنْتُما
عبْدَيْه في كُلِّ مَشْهدِ
فقالا: أقمنا كي نعزى بفقده ... سافة يوم، ثم تتلوه في غد1
__________
1في البيت الأول "عز مؤيد"، من "أيده" إذا قواه وعزره، وكان في
المطبوعة والمخطوطتين "مؤيد" بالباء الموحدة، وهو عندي ليس
بشيء.
(1/314)
باب اللفظ والنظم: فصل في "إن" ومواقعها
فصل:
خبر الكندي الفيلسوف مع ثعلب وزعمه أن في كلام العرب حشوا:
371 - واعلمْ أَنّ ممَّا أَغمضَ الطريقَ إِلى معرفَةِ ما نحنُ
بصدده، أَنَّ ههنا فروقاً خفيَّةً تَجهلُها العامَّةُ وكثيرٌ
من الخاصة، ليس أَنَّهم يَجْهلونَها في موضعٍ ويَعْرفونها في
آخرَ، بل لا يَدْرون أَنها هي، ولا يَعْلمونها في جملةٍ ولا
تفْصيل.
رُويَ عن ابن الأنباريِّ أَنه قال: ركبَ الكنْديُّ المتفلسِف
إلى أبي العبّاس وقال له: إني لأَجِدُ في كلامِ العَرب
حَشْواً! فقال له أبو العباس: في أي وضع وجَدْتَ ذلك؟ فقال:
أَجدُ العربَ يقولون: "عبدُ الله قائمٌ"، ثم يقولون "إنَّ عبدَ
الله قائمٌ"، ثم يقولونَ: "إنَّ عبدَ اللهَ لقائمٌ"، فالألفاظُ
متكررةٌ والمعنى واحدٌ. فقال أبو العباس: بل المعني مختلفةٌ
لاختلافِ الألفاظِ، فقولُهم: "عبدُ الله قائمٌ"، إخبار عن
قيامه وقولهم: "إن عبد عبدَ الله قائمٌ"، جوابٌ عن سؤالِ سائلٍ
وقوله: "إنَّ عبدَ اللهِ لقائمٌ"، جوابٌ عن إنكارِ مُنْكِرٍ
قيامَهُ، فقد تَكرَرَّت الألفاظُ لتكرُّرِ المعاني. قال فما
أَحَارَ المتفلسِفُ جواباً1.
وإِذا كان الكنديُّ يذَهْبُ هذا عليهِ حتى يَرْكَبَ فيه ركُوبَ
مستفهِمٍ أو معْترِضٍ، فما ظنُّكَ بالعامَّة، ومَنْ هو في
عِدادِ العامَّة، ممَّنْ لا يَخْطُرُ شبْهُ هذا بباله؟
دخول "إن" في الكلام، وخصائصها:
372 - واعلمْ أنَّ ههنا دقائقَ لو أنَّ الكنديَّ استقرى
وتصفَّحَ وتَتَبَّع مواقِعَ "إنَّ"، ثم ألْطَفَ النظرَ وأكثرَ
التدبُّرَ، لعَلِمَ عِلْمَ ضرورةٍ أنْ ليس سواء دخولها وأن لا
تدخل.
__________
1 ضل عني موضع هذا الخبر الآن.
(1/315)
فأوَّلُ ذلك وأعْجَبُه ما قدَّمتُ لك
ذكْرَه في بيتِ بشارٍ:
بكِّرا صاحبيَّ قبلَ الهَجيرِ ... إنَّ ذاكَ النَّجاحَ في
التبكيرِ1
وما أنشدتُه معه من قولِ بعضِ العرب:
فغَنِّهَا وهْي لكَ الفِداءُ ... إنَّ غناءَ الإِبِلِ
الحُداءُ2
وذلك أنه هَلْ شيءٌ أَبْينُ في الفائدةِ، وأَدلّ على أنْ ليس
سواءً دخولُها وأنْ لا تدخل، أنكَ ترى الجملةَ إذا هيَ دخلَتْ
تَرتبِطُ بما قبْلَها وتأتلفُ معه وتَتَّحدُ به، حتى كأنَّ
الكلامَيْنِ قد أُفرِغا إفراغاً واحداً، وكأَن أحدَهُما قد
سُبِكَ في الآخَرِ؟
هذه هي الصورةُ، حتى إذا جئتَ إلى "إنَّ" فأسقطتَها، رأيتَ
الثاني منهما قد نَبَا عن الأولِ، وتجافى معناه عن معناه،
ورأيْتَه لا يتَّصلُ به ولا يكونُ منه بسبيلٍ، حتى تجيءَ
"بالفاءِ" فتقولُ: "بكِّرا صاحبيَّ قبلَ الهجيرِ، فذاكَ
النجاحُ في التبكير"، و "غنِّها وهيَ لكَ الفداءُ، فغناءُ
الإِبلِ الحُداءُ"، ثم لا ترَى "الفاء" تعيد الجملتين إل ما
كانتا عليه مِنَ الألفة، ولا تردُّ عليك الذي كنت تجد "بإن" من
المعنى.
373 - وهذا الضربُ كثيرٌ في التَّنزيلِ جدَّاً، من ذلك قولُه
تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ
زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1]، وقولُه عزَّ
اسمُه {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ
وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى
__________
1 مضى في رقم: 315.
2 مضى في رقم: 316.
(1/316)
مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ} [لقمان: 17]، وقولُه سبحانه {خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:
103]، ومن أبْيَن ذلك قولُه تعالى: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي
الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 27/
المؤمنون: 27] وقد يتكرَّرَ في الآيةِ الواحدةِ كقوله عزَّ
اسمُه: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ
بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ
رَحِيمٌ} [يوسف: 53]، وهي عَلَى الجملةِ من الكَثْرة بحيثُ لا
يدركها الإحصاء.
محاسن دخول "إن" على ضمير الشأن وأمثلته:
374 - ومِنْ خصائِصِها أَنك تَرى لِضميرِ الأمرِ والشأنِ معها
منَ الحُسْنِ واللطفِ ما لا تَراه إذا هي لم تَدْخُل عليه، بل
تراه لا يصلحُ حيثُ صَلَحَ إلاَّ بها، وذلك في مثْلِ قولهِ
تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 9]، وقولِه {أَنَّهُ
مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ
جَهَنَّمَ} [التوبة: 63]، وقولِه: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ
مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ} [الأنعام: 54]
وقوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117]،
ومن ذلك قولُه: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَار} [بالحج:
46] وأجاز أبو الحَسنِ فيها وجْهاً آخرَ1 وهو أنْ يكونَ
الضميرُ في "إنها" للأَبصار، أُضْمِرَتْ قبْلَ الذكْرِ على
شَريطة التفسير. والحاجةُ في هذا الوجْه أيضاً إلى "أنَّ"
قائمةٌ، كما كانت في الوجهِ الأولِ فإِنه لا يُقال: "هيَ لا
تَعْمى الأَبصار" كما لا يُقالُ: "هوَ مَنْ يَتَّقِ ويَصْبِرُ
فإنَّ الله لا يُضيع".
فإِن قلتَ: أوَ ليسَ قد جاء ضميرُ الأمرِ مبتدأً به مُعرًّى
مِن العوامِلِ في قولِهِ تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد}؟
__________
1 "أبو الحسن"، هو الأخفش.
(1/317)
قيل: هو وإنْ جاء ههنا، فإِنه لا يكادُ
يُوجَدُ مع الجملة منَ الشَّرْط والجزاء، بل تراهُ لا يجيءُ
إلاَّ "بإن" على أنهم قد أجازوا {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد}،
أنْ لا يكونَ الضميرُ للأَمر.
375 - ومن لطيفِ ما جاء في هذا الباب ونادرِهِ، ما تجدُه في
آخِرِ هذه الأبيات، أنشدها الجاحظ لبعض الحجازيين:
إذا طمع يومًا عراني قريته ... كتائب بأس كرَّها وطِرادَها
أَكُدُّ ثِمَادي والمياهُ كثيرةٌ ... أُعالِجُ مِنها حفْرَها
واكْتِدادَها
وأَرْضى بها مِنْ بحرِ آخرَ، إنَّه ... هُوَ الرّيُّ أن
تَرْضَى النفوسُ ثِمادَها1
المقصودُ قولُه: "إنه هو الرّيُّ"، وذلك أَن الهاءَ في "إنه"
تحتَملُ أمرَيْن:
أحدُهما: أن تكونَ ضميرَ الأَمْرِ، ويكونَ قولُه: "هو" ضمير:
"أن ترضى"، وقد أضمره قبل الذكْر على شريطةِ التفسير. الأصل:
"إنَّ الأمرَ، أن ترضى النفوسُ ثِمادَها، الرِّيُّ"، ثم أُضمِر
قبل الذكْرِ كما أُضمرِت "الأبصارُ" في "فإنها لا تَعْمَى
الأبصار" على مذهب أبي الحسنِ، ثم أتى بالمضْمَرِ مصرَّحاً به
في آخر الكلام2، فعُلِمَ بذلك أن الضميرَ السابقَ له، وأنَّه
المراد به.
__________
1 هو في البيان والتبيين 3: 338، والبيتان الأخيران في مجالس
ثعلب: 664، واللسان "كدد". "عراني"، غشيني ونزل على نزول
الضيف. "وكذا الشيء يكده"، و "أكنده"، نزعه بيده، يكون ذلك في
السائل الجامد. و "الثماد"، الماء القليل، يقول: أرضى القليل
وأقنع به. وفي هامش "ج" بخطه، ما نصه:
" من بحر آخر، أي: بدلًا من بحر آخر".
2 في المطبوعة وحدها: "ثم أتى بالمفسر".
(1/318)
والثاني: أن تكون الهاء في "إنه" ضميرَ
"أنى تَرْضى" قبلَ الذكْرِ، ويكونَ "هو" فَصْلاً، ويكونُ أصْلُ
الكلام: "إنَّ أنْ تَرضى النفوسُ ثِمادها هو الرِّيُّ" ثُم
أُضمِر على شريطةِ التفسير.
وأَيَّ الأمَرْينِ كان، فإِنه لا بدَّ فيه من "إِنَّ"، ولا
سبيلَ إلى إِسقاطها، لأنَّكَ إنْ أسقطْتَها أَفْضَى ذلكَ بكَ
إلى شيءٍ شنيعٍ، وهو أن تقولَ: "وأَرْضى بها من بحر آخر هو
الرى أن ترضى النفوس ثمادها".
"إن" تربط الجملة بما قبلها:
376 - هذا، وفي "إنَّ" هذه شيءٌ آخرُ يُوجِبُ الحاجةَ إليها،
وهو أَنها تَتولَّى من رَبْط الجملةِ بما قبْلَها نحواً مما
ذكرتُ لك في بيتِ بشارٍ1. ألا ترى أَنك لو أَسقطْتَ "إنَّ"
والضميرَيْنِ معاً، واقتصَرْتَ على ذكرِ ما يَبْقى من الكلامِ،
لم تَقلْهُ إلا "بالفاء" كقولك: "وأرضَى بها من بحرِ آخرَ،
فالريُّ أن ترضَى النفوسُ ثِمادها".
فلو أنَّ الفيلسوفَ قد كان تَتَبَّع هذه المواضعَ2، لَما ظَنَّ
الذي ظنَّ. هذا، وإِذا كان خلَفُ الأحمرُ وهو القدوةُ، ومَنْ
يُؤخذُ عنه، ومَن هُو بحيثُ يَقول الشعرَ فيَنْحَلُه الفحولَ
الجاهليينَ فيخفَى ذلك له، ويجوزُ أَنْ يَشْتبه ما نحن فيه
عليه حتى يقَعَ له أن يَنْتَقِد على بشَّار3، فلا غروَ أن
تَدْخُلَ الشُّبهةُ في ذلك على الكندي.
__________
1 انظر رقم: 372.
2 انظر الخبر في رقم: 371.
3 انظر ما سلف رقم: 315.
(1/319)
"إن"، تهيء النكرة لأن يكون لها حكم
المبتدأ في الحديث عنها:
377 - ومما تَصنعُه "إنَّ" في الكلام، أنَّك تَراها تهيئ
النكِرةَ وتُصْلِحُها لأن يكونَ لها حكْمُ المبتدأ، أعنى أن
تكونَ محدَّثاً عنها بحديثٍ من بعدها. ومثال ذلك قوله:
إنَّ شِواءَ ونَشْوَةً ... وخَبَب البازلِ الأمُونِ1
قد تَرى حسنَها وصحَّةَ المعنى معها، ثم إنَّك إنْ جئتَ بها من
غيرِ "إنَّ" فقلتَ: "شواءٌ ونشوةٌ وخبَبُ البازلِ الأمونِ" لم
يكنْ كلاماً.
378 - فإنْ كانتِ النكرةُ موصوفةً، وكانتْ لذلك تَصْلحُ أن
يبتدأ بها، فإن تَراها مع "إِنَّ" أحْسَنَ، وترى المعنى حينئذٍ
أَوْلى بالصِّحَّة وأمْكَنَ، أفلاَ تَرى إلى قوله:
إنَّ دَهْراً يلفُّ شَملي بسُعدى ... لَزَمانٌ يَهُمُّ
بالإحسانِ
ليس بخفيٍّ وإنْ كانَ يستقيمُ أنْ تقولَ: "دهرٌ يلفُّ شملي
بسُعدى دهرٌ صالحٌ"2 أنْ ليسَ الحالانِ على سواءٍ، وكذلك ليس
بِخَفيِّ أَنَّك لو غمدت إلى قوله:
إن أمرًا فادحًا ... عن جوابي شغلك3
__________
1 الشعر لسلمى بن ربيعة التيمي، شرح الحماسة للتبريزي 3: 83،
وخبر "إن" في البيت الخامس، وهو:
من لذة العيش، والفتى ... للدهر، والدهر ذو فنون
و"البازل" من الإبل الذي تناهت قوته في السنة التاسعة، و
"المون"، الناقة الموثقة الخلق.
2 السياق: "ليس بخفي .... أن ليس الحالان على سواء".
3 الشعر لأم الليك بن السلكة، ترثى ولدها. وشعرها الجيد في شرح
الحماسة للتبريزي 2: 191، 192
(1/320)
فأسقطتَ منه "إِن" لَعدِمْتَ منه الحسْنَ
والطلاوةَ والتمكُّنَ الذي أنتَ واجِدُهُ الآنَ، ووجَدْتَ
ضعفاً وفتورًا.
"إن"، أثرها في الجملة، أنها تغني عن الخبر، ومثال ذلك:
379 - ومن تأثير "إن" في الجملة، أنها ت غني إذا كانتْ فيها عن
الخَبر، في بعضِ الكلامِ1. ووَضَعَ صاحبُ الكتاب في ذلك باباً
فقال: "هذا بابُ ما يَحْسُنُ عليه السكوتُ في هذه الأحرُفِ
الخمسةِ، لإضمارِكَ ما يكونُ مستقرًّا لها وموضعًا لو أظهرته.
وليس هذا المضمطر بنفس المظهر، وذلك: "إن مالًا" و "إن ولدًا"،
و "إن عدداً"، أي: "إنَّ لَهُمْ مالاً" فالذي أضمرتَ هو "لهم"
ويقولُ الرجلُ للرَّجل: "هلْ لكُم أحدٌ؟ إنَّ الناسَ أَلْبٌ
عليكمْ"، فَيَقول: "إنَّ زيداً وإِنَّ عَمراً" أَي: "لنا"،
وقال [الأعشى]:
إنَّ مَحَلاًّ وإنَّ مُرْتحلا ... وإِنَّ في السَّفْرِ إذا
مَضَوْا مَهَلا2
ويقول: "إنَّ غيرَها إبلاً وشاءَ" كأنه قال: "إنَّ لنا، أو:
عندَنا، غيرَها"، قال: وانتصبَ "الإِبلُ" و "الشاء" كانتصابِ
"الفارسِ" إذا قلتَ: "ما في الناسِ مثله فارسًا"، وقال: ومثل
ذلك قوله:
يا لَيْتَ أيَّام الصِّبَا رَوَاجِعا3
قال: فهذا كقولِهم: "أَلاَ ماءً بارداً"، كأنه قال: "ألا ماءً
لنا بارداً: وكأنه قال: يا ليتَ أيام الصبا أقبلت رواجع"4.
__________
1 في "س": " ... أنها إذا كانت فيها حذف الخبر"، ومثله في نسخة
عند رشيد رضا.
2 الشعر في ديوان الأعشى، وفي المطبوعة: "وإن في النفس إن
مضوا"، وهو خطأ، وفي "ج" "إن مضوا"، والذي في نص سيبويه "وإن
في السفر ما مضىِ".
3 البيت للعجاج عند ابن سلام في طبقات فحول الشعراء رقم: 101،
وهو في محلقات ديوانه طبع أوربة.
4 هذا النص كاملًا في كتاب سيبويه 1: 283، 284.
(1/321)
380 - فقد أراك في هذا كلِّه أنَّ الخبرَ
محذوف، وقد نرى حُسْنَ الكلامِ وصحَّتَه مع حذفِه وترْكِ
النطقِ به. ثم إنَّك إِنْ عمَدْتَ إلى "إِنَّ" فأسقطتَها،
وجدْتَ الذي كان حسُنَ من حذفِ الخبرِ، لا يَحْسُنُ أو لا
يَسوغُ. فلو قلت: "مال"، و "عدد" و "محل" و "مرتحل" و "غيرها
إبلاً وشاءً" لم يكنْ شيئاً. وذلك أنَّ "إِنَّ" كانت السَّببَ
في أنْ حَسُنَ حذفُ الذي حُذِفَ من الخَبر، وأنها حاضِنتُهُ،
والمترجِمُ عنه، والمتكفل بشأنه.
بيان في شأن "إن"، و"الفاء" التي يحتاج إليها إذا أسقطت "إن":
381 - واعلمْ أنَّ الذي قلنا في "إنَّ" من أنَّها تدخلُ على
الجُملة1، من شأنها إذا هي أُسقطتْ منها أن يُحتاجَ فيها إلى
"الفاءِ"2 لا يَطِّردُ في كلِّ شيءٍ وكلِّ موضعٍ، بل يكونُ في
موضعٍ دونَ موضعٍ، وفي حالٍ دونَ حالٍ، فإِنك قد تَراها قد
دَخَلتْ على الجملةِ ليستْ هي مما يَقْتضي "الفاءَ"، وذلك فيما
لا يُحصى كقولهِ تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ
أَمِينٍ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}، وذاكَ أنَّ قبله {إِنَّ
هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُون} [الدخان: 50 - 52].
ومعلومٌ أنَّك لو قلتَ: "إنَّ هذا ما كنتُم به تمترون،
فالمتقون فيج ناب وعيونٍ"، لم يكنْ كلاماً وكذلك قولُه: {إِنَّ
الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ
عَنْهَا مُبْعَدُونَ}، لأنَّك لو قلتَ: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ
وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياءِ100 - 101] فالذين
سبقت لهم من الحسنى، لم تَجِدْ لإِدخالِك "الفاء" فيه وجهاً
وكذا قولُه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ
أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ} [الحج: 87]، {الَّذِينَ آمَنُوا}
__________
1 في "ج": "تدخل على المبتدإ"، والسياق يأباه.
2 السياق: و "اعلم أن الذي قلنا في "إن" لا يطرد".
(1/322)
اسم "إنَّ"، وما بعدَه معطوفٌ عليه،
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ} 1 جملةٌ في موضعِ الخبرِ، ودخولُ "الفاء" فيها
محالٌ، لأنَّ الخَبر لا يُعطَف على المبتدأ، ومثلُه سواءٌ:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ
نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30].
382 - فإذنْ، إنما يكونُ الذي ذكَرْنا في الجملة من حديثِ
اقتضاءِ "الفاءِ"، إذا كان مصدرُها مصدرَ الكلام يُصحَّحُ به
ما قبلَه، ويُحْتَجُ له، ويُبَيَّنُ وجهُ الفائدة. فيه. ألاَ
ترى أنَّ الغرضَ من قوله:
إنَّ ذاكَ النجاحَ في التبكير2
جُلُّه أن يُبيِّن المعنى في قوله لصاحبيه: "بَكِّرا"، وأن
يحْتجَّ لنفسه في الأَمرِ بالتبكير، ويُبيَّنَ وَجْهَ الفائدةِ
فيه؟
وكذلكَ الحكْم في الآي التي تَلَوْناها فقولُه: {إِنَّ
زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} 3، بيانٌ للمعنى في
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ}،
ولِمَ أُمروا بأَنْ يَتَّقُوا وكذلك قولُه: {إِنَّ صَلاتَكَ
سَكَنٌ لَهُمْ} 3، بيانٌ للمعنى في أمر النبي صلى الله عليه
وسلم بالصلاة، أي بالدعاء لهم. وهذا سبيلُ كلِّ ما أنتَ تَرى
فيه الجملةَ يُحتاجُ فيها إلى "الفاء"، فاعرفْ ذلك.
383 - فأمَّا الذي ذُكر عن أبي العباس4، مِنْ جَعْله لها جواب
__________
1 من أول قوله: "إن الذي آمننوا: اسم إن ... "، إلى هنا من "س"
وحدها.
2 انظر ما سلف رقم: 372.
3 انظر ما سلف رقم: 373.
4 انظر رقم: 371.
(1/323)
سائلٍ إذا كانتْ وحدَها، وجوابَ مُنْكِر
إذا كان معها اللامُ، فالذي يدلُّ على أنَّ لها أصْلاً في
الجوابِ، أنَّا رأيناهُمْ قد ألزمُوها الجملةَ من المبتدأ
والخبر إذا كانت جواباً للقَسَم، نحو: "واللهِ إِنَّ زيداً
مُنْطلِقٌ" وامتنعوا مِنْ أن يقولوا: "واللهِ زيدٌ منطِلقٌ".
مجيء "إن" في الجواب عن سؤال سائل، وأمثلته:
384 - ثم إنَّا إذا استقرَيْنا الكلامَ وجَدْنا الأمرَ بيِّناً
في الكثير من مواقِعها، أنه يُقصَدُ بها إلى الجوابِ كقولهِ
تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو
عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا، إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي
الْأَرْضِ} [الكهف: 83، 84]، وكقولِه: عزَّ وجَلَّ في أَوَّلِ
السورة: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ
إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} [الكهف: 13]، وكقوله
تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا
تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 216]، وقولِه تعالى: {قُلْ إِنِّي
نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ} [الأنعام: 56]، [سورة غافر: 66]، وقوله: {وَقُلْ
إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} [الحجر: 89]، وأشباه ذلك
مما يعلم قبه أنَّه كلامٌ أُمِرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم
بأن يُجيبَ به الكفارَ في بعضِ ما جادَلوا وناظَروا فيه. وعلى
ذلكَ قولُه تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا
رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16]، وذاك أنَّه
يَعْلم أنَّ المعنى: فأتياهُ، فإِذا قالَ لَكُما ما شأْنُكُما؟
وما جاءَ بكُما؟ وما تقولانِ؟ فقُولا: إنَّا رسولُ ربِّ
العالمينَ. وكذا قولُه: {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي
رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 14]، هذا
سبيلُهُ.
ومَنِ البيِّن في ذلك قولُه تعالى في قِصَّةِ السَّحَرة:
{قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقلِبُونَ} [الأعراف: 125]،
وذلك لأنه عِيَانٌ أنه جوابُ فرعونَ عن قولِه: {آمَنْتُمْ بِهِ
قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الأعراف: 123]، فهذا هو وجْهُ
القولِ في نُصْرةِ هذه الحكاية.
(1/324)
بيان في "إن" ومجيئها للتأكيد:
385 - ثم إنَّ الأصْلَ الذي ينبغي أنْ يكونَ عليه البناءُ، هو
الذي دُوِّن في الكتبِ، من أنها للتأكيدِ، وإذا كانَ قد ثَبَت
ذلكَ، فإِذا كان الخبرُ بأمْرٍ ليس للمخاطَبِ ظنٌّ في خِلافهِ
البتَّةَ، ولا يكونُ قد عقد في نسه أنَّ الذي تزعُم أَنه كائنٌ
غيرُ كائنٍ، وأنَّ الذي تزعُم أنه لم يكنْ كائنٌ فأنتَ لا
تحتاجُ هناك إلى "إنَّ"، وإنما تحتاجُ إليها إذا كاَن له ظَنُّ
في الخلاف، وعقد قلب على نفي ما ثبت أو إثبات ما ننفي. ولذلك
تَراها تزدادُ حُسْناً إذا كان الخبرُ بأمرٍ يَبْعُدُ مثْلُه
في الظنِّ، وبشيءٍ قد جرتْ عادةُ الناسِ بخلافِهِ، كقول أبي
نُوَاس:
عليكَ باليأسِ منَ الناسِ ... إنَّ غِنى نَفْسِك في الياسِ1
فقد تَرى حُسْنَ موقعِها، وكيف قبولُ النفسِ لها، وليسَ ذلك
إلاَّ لأنَّ الغالِبَ على الناس أنهم لا يَحمِلون أنفسَهم على
اليأس، ولا يدَعُونَ الرجاءَ والطمَعَ، ولا يعترفُ كلُّ أحدٍ
ولا يُسلِّمُ أنَّ الغِنى في اليأس. فلمَّا كان كذلك، كان
الموضعُ مَوْضعَ فقرٍ إلى التأكيدِ، فلذلك كان من حُسْنها ما
تَرى.
ومثلُه سواءٌ قولُ محمد بن وهب:
أجَارتَنا إنَّ التَّعَفُّفَ باليَاسِ ... وصَبْراً على
اسْتِدْرارِ دُنْيا بإبْساسِ
حَرِيَّانِ أنْ لا يَقْذِفا بمذلَّةٍ ... كَريماً وأنْ لا
يُحوِجاهُ إلى الناسِ
أجارَتنا إنَّ القِداحَ كواذبٌ ... وأكْثرُ أَسْبابِ النّجاحِ
معَ الياس2
__________
1 في ديوانه، في باب العتاب، وروايته هنا: "إن الغني ويحك في
اليأس".
2 هو في الأغاني 19: 75، "الهيئة"، في خبر يدل على أن عدة
أبيات القصيدة اثنان وسبعون بيتًا، يقولها في الحسن بن رجاء
حين تولى الجبل. و "الإبساس" أن يمسح ضرع الناقة وصوت بها،
لتسكن له وتذر، يريد الترفق بالدنيا إذا ضنت، حتى يأتي ما شاء
الله من الرزق. وخبر "إن" هو قوا "حريان" في البيت الثاني.
فالسياق: إن التعفف باليأس وإن صبرا على استدرار دنيا بإساس
... حريان".
(1/325)
هو: كما لا يَخْفَى، كلامٌ معَ مَنْ لا
يَرى أنَ الأمْرَ كما قال، بل يُنْكِرهُ ويَعْتقد خلافَه.
ومعلومٌ أنه لم يقلْه إلاَّ والمرأةُ تَحْدوهُ وتبعثُه على
التعرُّضِ للناس، وعلى الطلب.
"إن"، ومجيئها في التهكم، وشرطها إذا كانت في جواب سائل:
386 - ومن لطيفِ مواقعِها أنْ يُدَّعى على المخاطَب ظَنَّ لم
يظنَّه، ولكنْ يُرادُ التهكُّم به، وأنْ يُقالَ: "إنَ حالَكَ
والذي صنَعْتَ يَقْتضي أن تكونَ قد ظننْتَ ذلكَ". ومثالُ ذلكَ
الأول:
جاء شقيق عارضًا محه، ... إنَّ بَني عَمِّكَ فيهمْ رِماحْ1
يقولُ: إنَّ مجيئَه هكذا مُدِلاً بنَفْسِه وبشجاعَتِهِ قد وضعَ
رمْحَه عرضاً، دليلٌ على إعجابٍ شديدٍ، وعلى اعتقاد منه أنه لا
يقوم لهأحد، حتى كأنْ ليس مع أحدٍ منَّا رمحٌ يدفَعَهُ به،
وكأنَّا كلَّنا عُزْلٌ.
وإِذا كان كذِلكَ، وَجَبَ إذا قيلَ أنَّها جوابُ سائلٍ، أنْ
يُشْتَرَطَ فيه أنْ يكونَ للسائلِ ظنٌّ في المسئول عنه على
خلافِ ما أنتَ تُجيبُهُ به. فأمَّا أَنْ يُجْعل مجرَّدُ
الجوابِ أصْلاً فيه فلا، لأنه يؤدي إلى أنْ لا يَسْتقيم لنا
إذا قال الرجلُ: "كيفَ زيد؟ " أنْ تقولَ: "صالحٌ"، وإِذا قال:
"أينَ هو؟ " أن تقول: "في الدار" وأنْ لا يصحَّ حتى تقولَ:
"إنه صالحٌ"، "وإنه في الدار"، وذلك ما لا يقولُه أحَد.
__________
1 الشعر لخجل بن نضلة، أحد بني عمروبن عبد بن قتيبة بن معن بن
أعصر، في البيان والتبيين 3: 340، والمؤتلف والمختلف: 82.
(1/326)
وأمَّا جعْلُها إذا جُمِعَ بينها وبين
"اللام" نحو: "إنَّ عبدَ الله لقائم" للكلامِ مع المنكَّر،
فجيِّدٌ، لأنَّه إذا كان الكلامُ مع المُنَكَّر، كانت الحاجةُ
إلى التأكيدِ أشدَّ. وذلك أنَّك أحوجُ ما تكونُ إلى الزيادة في
تثبيت خيرك، إذا كانَ هناك مَنْ يَدْفعُه ويُنْكِر صحَّتَه،
إلاَّ أنه يَنبغي أن يُعْلَم أنه كما يكونُ للإنكارِ قد كانَ
مِن السامعِ، فإِنه يكون للإنكار يعلم أو يرى أن يكون من
السامعين. وجلمة الأمر أنك لا تقولُ: "إنَّه لكذلك"، حتى تريد
أن تضع كلامك وضع من يزغ فيه عن الإنكار1.
"إن" تدخل للدلالة على أن ظنك الذي ظننت مردود:
387 - واعْلَمْ أنها قد تَدْخلُ للدلالة على أنَّ الظنَّ قد
كان منكَ أيُّها المتكلِّمُ في الذي كان أنَّه لا يكونُ. وذلك
قولُكَ لِلشيءِ هو بمرأى من المُخاطَبِ ومَسْمع: "إنه كان من
الأمْر ما تَرى، وكان منِّي إلى فلانٍ إحسانٌ ومعروفٌ، ثم إنه
جَعلً جَزائي ما رأيْت"، فتجعلُكَ كأنك تَردُّ على نفْسِك
ظَنَّكَ الذي ظنَنْتَ، وتُبيِّنُ الخطأ الذي توهَّمْتَ. وعلى
ذلك، واللهُ أعلمُ، قولُه تعالى حكايةً عن أمِّ مريم رضي الله
عنهما: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى والله
أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36]، وكذلك قولُه عزَّ
وجَلَّ حكايةً عن نوحٍ عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنَّ
قَوْمِي كَذَّبُون} [الشعراء: 117]، وليس الذي يَعْرِضُ بسببِ
هذا الحرفِ من الدقائق والأُمور الخفيَّةِ، بالشيء يُدْرَك
بالهُوَينا. ونحن نَقْتصِر الآن على ما ذكَرْنا، ونأخذُ في
القولِ عليها إذا اتصلتْ بها "ما".
__________
1 "وزعه عن الأمر يزعه وزعًا"، كفه ورده، ودفعه عنه.
(1/327)
|