دلائل الإعجاز ت شاكر باب اللفظ والنظم:
فصل: إزالة شبهة في شأن "النظم والترتيب"
426 - اعلم أنه لا يصحل تقدير الحكاية في "النظم والتتريب"، بل
لن تعدُوَ الحكايةُ الألفاظَ وأجراسَ الحروفِ، وذلك أنَّ
الحاكي هو مَنْ يأتي بمثْلِ ما أتى به المحكي عنه، ولابد من أن
تكونَ حكايتُه فعلاً لَهُ، وأَنْ يكونَ بها عاملًا عملًا مثل
عمل المحي عنهُ، نحو أَن يصوغَ إنسانٌ خاتَماً فيُبْدعَ فيه
صنعة، ويأتي في صناعته بخاصة تستعرب، فيعمد واحد آخر فيعل
خاتماً على تلك الصُّورةِ والهيئةِ، ويجيءَ بمِثْلِ صنْعَتهِ
فيه، ويُؤدِّيها كما هي، فيقالُ عند ذلك: "إنه قد حكى عمل
فلان، وصنة فلان".
427 - و "النظم والترتيبُ" في الكلامِ كما بيَّنَّا، عَملٌ
يَعْمَلُه مؤلف الكلام في معاني الكلام لا في ألفاظِها، وهو
بما يَصْنعُ في سبيلِ مَنْ يأخذُ الأصباغَ المختلفةَ فيتوخَّى
فيها ترتيبًا يحدث عنه ضروب من النقشِ والوَشْي. وإذا كانَ
الأمرُ كذلك، فإنَّا إنْ تعدَّينا بالحكايةِ الألفاظَ إلى
النظمْ والترتيبِ، أدَّى ذلك إلى المُحال، وهو أنْ يكونَ
المُنْشِدُ شعرَ أمرئ القيس، قد عَمِلَ في المعاني وترتيبها
واستخراج النتائجِ والفوائدِ، مثْلَ عملِ امرئ القيس، وأنْ
يكونَ حالُه إذا أَنشدَ قولَه:
فقلتُ لهُ: لما تَمطَّى بصُلْبه ... وأَرْدَف أَعجازاً وناءَ
بِكَلْكَلِ1
حالَ الصائغِ يَنْظُر إلى صورةٍ قد عَمِلها صائغٌ مِنْ ذهبٍ
لهُ أو فضة، فيجيء بمثلها من ذبه وفضَّتهِ. وذلك يخْرجُ
بمُرتكِبٍ، إنْ ارْتَكَبَه، إلى أن يكون
__________
1 هو شعر امرئ القيس، كما هو معروف.
الراوي مستحقًا لأن يوصف بأنه: "استعار" و "شبه"، وأن يُجْعَل
كالشّاعرِ في كل ما يكونُ به ناظماً، فيُقال: إنه جعَلَ هذا
فاعلاً، وذاك مفعولاً، وهذا مبتدأ، وذاك خبراً، وجعلَ هذا
حالاً، وذاكَ صفةً، وأنْ يُقالَ: "نَفَى كذا" و "أثبت كذا"، و
"أبدل كذا من كذا". و "أضاف كذا إلى كذا"، وعلى هذا السبيل، كا
يقال ذاك في الشاعر. وإذا قيل ذلك، لزمه منه أنْ يُقال فيه:
"صدَقَ، وكَذَبَ"، كما قال في المحْكيِّ عنه، وكفَى بهذا
بُعْداً وإحالةً. ويجمع هذا كله، أنه يلزم مننه أن يُقال: "إنه
قال شعراً"، كما يقال فيمنْ حَكَى صَنعةَ الصّائغِ في خاتَمٍ
قد عَمِلَه: "إنه قد صاغ خاتماً".
(1/359)
الراوي مستحقًا لأن يوصف بأنه: "استعار" و
"شبه"، وأن يُجْعَل كالشّاعرِ في كل ما يكونُ به ناظماً،
فيُقال: إنه جعَلَ هذا فاعلاً، وذاك مفعولاً، وهذا مبتدأ، وذاك
خبراً، وجعلَ هذا حالاً، وذاكَ صفةً، وأنْ يُقالَ: "نَفَى كذا"
و "أثبت كذا"، و "أبدل كذا من كذا". و "أضاف كذا إلى كذا"،
وعلى هذا السبيل، كا يقال ذاك في الشاعر. وإذا قيل ذلك، لزمه
منه أنْ يُقال فيه: "صدَقَ، وكَذَبَ"، كما قال في المحْكيِّ
عنه، وكفَى بهذا بُعْداً وإحالةً. ويجمع هذا كله، أنه يلزم
مننه أن يُقال: "إنه قال شعراً"، كما يقال فيمنْ حَكَى صَنعةَ
الصّائغِ في خاتَمٍ قد عَمِلَه: "إنه قد صاغَ خاتماً".
وجُملةُ الحديثِ أن نَعْلَمُ ضرورةَ أنه لا يتأتَّى لنا أن
تنظم كلاماً من غير رَويَّةٍ وفكْرٍ، فإِنْ كانَ راوي الشعرِ
ومُنْشِدُه يَحْكي نَظْم الشاعرِ على حقيقته، فَيْنبغي أنْ لا
يتأتَّى له روايةُ شعرِهِ إلا برويَّةٍ، وإلاَّ بأنْ يَنْظُرَ
في جميعِ ما نَظَرَ فيه الشاعرُ مِنْ أَمْرِ "النظْم". وهذا ما
لا يَبقى معه موضعُ عذر للشاك.
إزالة شبهة في حكاية ألفاظ الشعر:
429 - هذا، وسببُ دخولِ الشُّبهَةِ على من دَخَلَتْ عليه، أنه
لمَّا رأى المعانيَ لا تَتَجلَّى للسامعِ إلاَّ مِنَ الألفاظِ،
وكان لا يوقَفُ على الأمورِ التي بِتَوخِّيها يكونُ "النظْمُ"،
إلاَّ بأنْ يَنْظُر إلى الألفاظ مرتَّبةً على الأنحاء التي
يوجب ترتيبُ المعاني في النفسِ1 وجرتِ العادةُ بأن تكونَ
المعاملةُ مع الألفاظِ فيقالُ: "قد نَظَم ألفاظاً فأحْسَنَ
نظْمَها، وألَّفَ كَلِماً فأجادَ تأليفَها"2 جعل الألفاظَ
الأصْلَ في "النظمِ"، وجعلَه يُتوخَّى فيها أنفسها، وترك
__________
1 "وجرت العادة"، معطوف على قوله في أول الكلام: "أنه لما رأى
المعاني لا تتجلى ... ".
2 السياق: "أنه لما رأى المعاني لا تتجلى ..... وجرت العادة
.... جعل الألفاظ".
(1/360)
أنْ يُفكَّر في الذي بيَّنَّاهُ من أنَّ
"النظْمَ" هو توخِّي معاني النحوِ في معاني الكلم، وأنَّ
توخِّيها في متونِ الألفاظِ مُحال. فلما جعلَ هذا في نفسِه،
ونشِبَ هذا الاعتقادُ به، خَرَجَ له من ذلك أنَّ الحاكي إذا
أدَّى ألفاظَ الشعرِ على النَّسق الذي سَمِعَها عليه، كان قد
حكَى نظْمَ الشاعرِ كما حكَى لفظَه.
وهذه شُبْهةٌ قد مَلَكَتْ قلوبَ الناس، وعشَّشَتْ في صُدورِهم،
وتَشَرَّبَتْها نفوسُهم، حتى إنكَ لَتَرى كثيراً منهم وهو من
حلوها عندَهم محلِّ العلمِ الضروري، بحيثُ إنْ أومأتْ له إلى
شيءٍ مما ذَكَرْناه أشمازَّ لك، وسَكَّ سَمْعَهُ دَونك، وأظهرَ
التعجُّبَ منك. وتلك جريرةُ تَرْكِ النظرِ، وأخْذِ الشيءِ من
غيرِ معدنه، ومن الله التوفيق.
(1/361)
فصل: النظم والترتيب
وتوخي معاني النحو
430 - إعْلَمْ أنَّا إذا أضفْنَا الشعرَ أو غيرَ الشعرِ من
ضروب الكلامِ إلى قائلِهِ، لم تكنْ إضافتُنا له من حيثُ هو
كَلِمٌ وأوضاعُ لغةٍ، ولكنْ من حيثُ تُوُخِّيَ فيها "النظمُ"
الذي بيَّنا أنه عبارةٌ عن تَوخِّي معاني النحو في معاني
الكلم. وذلك أنَّ مِنْ شأنِ الإضافةِ الاختصاصَ، فهي تتناولُ
الشيءَ من الجهةِ التي تُختصُّ منها بالمضافِ إليه، فإذا قلتَ:
"غلامُ زيدٍ"، تناولتِ الإضافةُ التي تُختصُّ منها بالمضافِ
إليه، فإذا قلتَ: "غلامُ زيدٍ"، تناولتِ الإضافةُ "الغلامَ" من
الجهة التي تختص منها بزيد، وهي كونه مملوكًا.
بيان الجهة التي يختصُّ منها الشعرُ بقائلهِ:
431 - وإِذا كان الأمرُ كذلِك، فينبغي لنا أن نَنْظرَ في الجهة
التي يختصُّ منها الشعرُ بقائلهِ.
وإِذا نَظَرْنا وجَدْناه يختصُّ به من جهةِ تَوخِّيه في معاني
الكَلمِ التي ألَّفه منها، ما توخَّاه من معاني النحو، ورأيْنا
أنفُسَ الكلمِ بمعزَلٍ عن الاختصاص، ورأيْنا حالَها معه حالَ
الإبريسَم مع الذي يَنسِجُ منه الديَباجَ، وحالُ الفضةِ
والذهبِ معَ مَنْ يصوغُ منهما الحُليَّ. فكما لا يشْتبِهُ
الأمرُ في أنَّ الديباجَ لا يُخْتَصُّ بناسجهِ من حيثُ
الإِبْرِيسَمُ، والحليَّ بصائِغها من حيثُ الفضةُ والذهبُ،
ولكنْ من جهة العمل والصنعة، وكذلك يَنْبغي أنْ لا يَشْتَبِهَ
أنَّ الشعرَ لا يختص بقائله من جهة أنفس الكلم وأضواع اللغة.
432 - وتزداد تبينًا لذلك بأن تنظر في القائل إذا أضفْتَه إلى
الشعر فقلتَ: "امرؤُ القَيْس قائلُ هذا الشعر"، مِنْ أينَ
جعلْتَه قائلاً له؟ أمِنْ حيثُ
(1/362)
نَطَق بالكَلِم وسمعْتَ ألفاظَها مِن فيهِ،
أمْ من حيث صنع في معانيها ما نصع، وتوخَّى فيها ما توخَّى؟
فإنْ زعمتَ أنكَ جعلْتَه قائلاً له من حيثُ إنه نَطَقَ
بالكَلِم وسمعْتَ ألفاظَها مِنْ فيهِ على النَّسقِ المخصوص،
فاجعلْ راويَ الشعرِ قائلاً له، فإِنه يَنطِقُ بها ويُخْرِجُها
مِنْ فيهِ على الهيئة والصورةِ التي نطقَ بها الشاعرُ. وذلك ما
لا سبيلَ لك إليه.
433 - فإِن قلتَ: إنَّ الراويَ وإنْ كان قد نطقَ بألفاظِ
الشعرِ على الهيئةِ والصورةِ التي نطقَ بها الشاعرُ، فإنَّه هو
لم يبتدئْ فيها النَّسَقَ والترتيبَ، وإنما ذلك شيءٌ ابتدأَهُ
الشاعرُ، فلذلك جعلْتَه القائلَ له دونَ الراوي.
قيل لكَ: خَبِّرْنا عنك، أَترى أنه يتصوَّر أن يجبُ لألفاظ
الكلم التي تراها في قولهِ:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى حبيبٍ ومَنْزِل1
هذا الترتيبُ، من غيرِ أنْ يتوخَّى في معانيها ما تَعْلم أنَّ
امرأ القيس توخَّاه مِنْ كونِ "نَبْكِ" جواباً للأمرِ، وكونِ
"مِنْ" مُعدِّيةً له إلى "ذكرى"، وكونِ "ذكرى" مضافةً إلى
"حبيبٍ"، وكونِ "منزلِ" معطوفاً على "حبيبٍ"، أم ذلك محالٌ؟
فإِن شكَكْتَ في استحالتِه لم تُكلَّم2.
وإن قلتَ: نعَمْ، هو محال.
__________
1 هو شعر امرئ القيس، كما تعلم.
2 "لم تكلم"، لأنك فقدت العقل والتمييز، وهذا كثير في زماننا!!
(1/363)
قيل لك: فإِذا كان مُحالاً أن يَجِبَ في
الألفاظ ترتِيبٌ مِنْ غيرِ أنْ يتوخَّى في معانيها معانيَ
النحو، كان قولُكَ: "إنْ الشاعرَ ابتدأ فيها ترتيباً"، قولاً
بما لا يتحصل.
لا يكون ترتيب حتى يكون قصد إلى صورة وصفة:
434 - وجملةُ الأمرِ أنَّه لا يكونُ ترتيبٌ في شيءٍ حتَّى
يكونَ هناكَ قصْدٌ إلى صورةٍ وصنْعةٍ إنْ لم يُقدَّم فيه ما
قُدِّم، ولم يُؤخَّر ما أُخِّر، وبُدئَ بالذي ثُنيَ به، أو
ثنِّي بالذي ثُلِّث به، لم تحْصلْ لكَ تلكَ الصورةُ وتلك
الصفة، وإذا كان كذلك، فينبغي أن تنظر إلى الذي يَقْصِدُ واضعُ
الكلامِ أنْ يحصُلَ له من الصورةِ والصَّنعةِ: أفي الألفاظِ
يَحصُلُ له ذلك، أم في معاني الأَلفاظِ؟ وليس في الإمكان أنت
يَشُكَّ عاقلٌ إِذا نَظَر، أنْ ليس ذلك في الألفاظِ، وإنَّما
الذي يُتصوَّرُ أنْ يكونَ مقصوداً في الألفاظِ هو "الوزنُ"،
وليس هو مِنْ كلامِنا في شيءٍ، لأنَّا نحنُ فيما لا يكونُ
الكلامُ كلاماً إلاَّ به، وليس لِلْوزنِ مدخلٌ في ذلك.
(1/364)
فصل: عود إلى مسألة "اللفظ" و"المعنى" وما
يعرض فيه من الفساد
435 - واعلمْ أني على طول ما أعدتُ وأبدأتُ، وقلتُ وشرحتُ، في
هذا الذي قامَ في أوهام الناس من حديثِ "اللفظِ"، لربما ظننتَ
أني لم أصنع شيئًا، وذاك أنى ترى الناسَ كأنه قد قُضِيَ عليهم
أنْ يكونوا في هذا الذي نحنُ بصَدَدِه، على التقليدِ البحْت،
وعلى التوهُّم والتخيُّلِ، وإطلاقُ اللفظِ منْ غيرِ معرفةٍ
بالمعنى، قد صارَ ذاكَ الدأبَ والدَّيْدَنَ، واستحْكَمَ الداءُ
منهُ الاستحكامَ الشديدَ، وهذا الذي بيِّناه وأوْضحْناه، كأنك
ترى أبداً حجازًا بينهم بين أن يعرفوه1، وكأنك تسمعهم من شيئاً
تَلفِظُه أسماعُهم، وتُنكره نفوسُهم2، وحتى كأَنه كلما كان
الأمرُ أَبْينَ، كانوا عن العلم به، وفي توهُّم خلافهِ أَقعد،
وذاك لأَنَّ الاعتقادَ الأوّلَ قد نَشِب في قلوبهم، وتأشَّب
فيها، ودخَلَ بعروقهِ في نواحيها، وصارَ كالنبات السوءِ الذي
كلَّما قلعْتَه عادَ فنبَتَ3.
436 - والذي له صاروا كذلك، أنهم حينَ رأوْهُمُ يُفْرِدون
"اللفظَ" عن "المعنى"، ويَجْعلون له حُسْناً على حدة، ورأوْهم
قد قَسَموا الشِّعرَ فقالوا: "إنَّ منه ما حَسُنَ لفظُه
ومعناه، ومنه ما حَسُن لفظُه دونَ معناهُ، ومنه ما حَسُن
معناهُ دونَ لفظِه"، ورأوهم يَصِفون "اللفظَ" بأوصافٍ لا
يصفونَ بها "المعنى"، ظنوا أنَّ للفظ، مِنْ حيثُ هو لفظٌ
حُسْناً ومزيَّةً ونُبْلاً.
__________
1 في المطبوعة وحدها: "حجابًا بينهم"
2 في المطبوعة وحدها: "وتنكره"
3 ماذا كان يقول عبد القاهر لو أدرك زماننا هذا؟
(1/365)
وشَرَفاً، وأنَّ الأوصافَ التي نَحلُوه
إياها هي أوصافهُ على الصحَّة، وذهَبوا عمَّا قدَّمْنا شرْحَه
مِنْ أنَّ لهم في ذلك رأياً وتدبيراً، وهو أنْ يَفْصِلوا بينَ
المعنى الذي هو الغرضُ، وبين الصورةِ التي يَخْرجُ فيها،
فنَسَبوا ما كانَ منَ الحُسْن والمزيَّةِ في صورةِ المعنى إلى
"اللفظِ"، ووصفوه في ذلك بأوصافٍ هي تُخْبِرُ عن أنفُسها
أنَّها ليستْ له، كقولهم: "إنه حَلْيُ المعنى، وإنه كالوشيْ
عليه، وإنه قد كسب المعنى ذلًا وشَكْلاً1، وإنه رشيقٌ أنيقٌ،
وإنه متمكِّنٌ، وإنَّه على قَدْرِ المعنى لا فاضلٌ ولا
مقصِّرٌ"، إلى أشباهِ ذلك ممَّا لا يُشَكُّ أنه لا يَكونُ
وصْفاً له من حيثُ هو لفظٌ وصَدَى صوتٍ، إلاَّ أنهم كأنَّهم
رأوْا بَسْلا حراماً أنْ يكونَ لهم في ذلك فِكْرٌ ورويةٌ2، وأن
يميِّزوا فيه قَبيلاً من دبير.
437 - وممَّا الصفةُ فيه للمعنى، وإنْ جرى في ظاهرِ المعاملةِ
على "اللفظِ"، إلاَّ أنه يَبْعُد عند الناسِ كلَّ البعدِ أن
يكونَ الأمرُ فيه كذلك، وأنْ لا يكونَ من صفةِ "اللفظِ"
بالصحةِ والحقيقةِ3 وصْفُنا اللفظَ بأنه "مَجازٌ".
وذاك أنَّ العادةَ قد جرتْ بأنْ يُقال في الفرق بين "الحقيقة"
و "المجاز": إنَّ "الحقيقةَ"، أَنْ يُقَرَّ اللفظُ على أصْلِهِ
في اللغة، و "المجاز"، أنْ يُزالَ عن موضعِه، ويُسْتعملَ في
غيرِ ما وُضِع له، فيقالُ: "أسدٌ" ويرادَ "شُجاع"، و "بحر"
ويراد جواد.
__________
1 "الشكل" بكسر الشين وسكون الكاف، هو عنج المراة، وغزلها،
وحسن دلها.
2 "البسل"، الحرام الكريه، وفي "س"، كتب "بتلًا" بالتاء
وضبطها، وهو خطأ، وسيأتي في "س" مثله في رقم: 53.
3 السياق: ومما الصفة فيه للمعنى ... وصفنا اللفظ".
(1/366)
وهو وإنْ كانَ شيئاً قد استَحْكمَ في
النفوسِ حتَّى إنك تَرى الخاصَّةَ فيه كالعامَّة، فإن الأمر
بعد على خلافهِ. وذاك أنَّا إذا حقَّقْنا، لم نجدْ لفظَ "أسدٍ"
قد استُعمِل على القطْع والبتِّ في غيرِ ما وُضِع له. ذاك لأنه
لم يُجْعَل في معنى "شجاعٍ" على الإِطلاقِ، ولكنْ جُعِل الرجلُ
بشجاعته أسداً، فالتجوُّزُ في أنِ ادَّعَيْتَ للرجل أنه في
معنى الأسدِ1، وأنه كأنَّه هو في قوة قَلْبه وشدَّةِ بطْشِه،
وفي أنَّ الخوفَ لا يخامِرُهُ، والذُّعْرَ لا يَعْرِضُ له.
وهذا إن أنتَ حصَّلْتَ، تجوُّزٌ منك في معنى اللفظِ لا اللفظِ،
وإنما يكونُ اللفظُ مُزالاً بالحقيقةِ عن موضِعِهِ، ومنقولاً
عما وُضِعَ له. أنْ لو كنتَ تَجد عاقلاً يقول: "هو أسَد"، وهو
لا يُضمِر في نفسِه تشبيهاً له بالأسدِ، ولا يُريد إلاَّ ما
يريدُه إذا قال: "هو شجاعٌ". وذلك ما لا يُشَكُّ في بطلانه.
التجوز في ذكر "اللفظ"، وأنه المراد به "المعنى":
438 - وليس العجبُ إلاَّ أنهم لا يَذْكُرون شيئاً من "المجازِ"
إلاَّ قالوا: "إنَّه أبلغُ من الحقيقة". فليتَ شعري، إنْ كان
لفظُ "أسد" قد نُقِل عما وُضِعَ له في اللغة، وأزيلَ عنه،
وجُعِل يرادُ به "الشجاعُ" هكذا غُفْلاً ساذجاً، فمن أين يجبُ
أنْ يكونَ قولنا: "أسد"، أبلغ من قولنا "شجاع"؟
إزالة شبهة في شأن "المجاز":
وهكذا الحُكْم في "الاستعارة"، هي، وإنْ كانت في ظاهرِ
المعاملة من صفةِ "اللفظِ"، وكنَّا نقول: "هذه لفظة مستعارة" و
"قد استُعِيرَ له اسمُ الأسد" فإنَّ مآلَ الأمرِ إلى أنَّ
القصدَ بها إلى المعنى.
__________
1 في "ج"، حاشية بخط كاتب النسخة هذا نصها:
"تجوزه أنه ادعى لما ليس بأسد أنه أسد".
(1/367)
بيان مهم في معنى "جعلته أسدا" ونحو ذلك:
439 - يدلك على ذلك أن تقول: "جعله أسدًا" و "جعله بدرًا" و
"جعله بحْرا"، فلو لم يكنِ القصْد بها إلى المعنى، لم يكنْ
لهذا الكلام وَجْهٌ، لأنَّ "جعَل" لا تصْلح إلاَّ حيثُ يُراد
إثباتُ صفة للشيء، كقولنا: "جعلته أميرًا" و "جعلته واحدَ
دهره"، تُريد أثبتُّ له ذلك. وحكْمُ "جعَل" إذا تعدَّى إلى
مفعولين حكْمُ "صَيَّر"، فكما لا تقول: "صيَّرْته أميراً"، إلا
على معنى أنك أثبَتَّ له صفةَ الإِمارة، كذلك لا يَصِحُّ أن
تقولَ: "جعلته أسداً"، إلا على معنى أنك جعلتَه في معنى الأسد
ولا يقال: "جعلتُه زيداً"، بمعنى "سمَّيْتُه زيداً"، ولا يقال
للرجل: "إجْعَل ابنَك زيداً" بمعنى: "سمِّه زَيْدا" و "وُلِدَ
لفلانٍ ابنٌ فَجَعله زيداً"، وإنما يَدخُل الغَلطُ في ذلك على
من لا يحصل1.
بيان في قوله: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ
عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا}
440 - فأما قولُه تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ
هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19]، فإنما جاء
على الحقيقة التي وصفتها، وذلك أنَّ المعنى على أنهم أثْبَتوا
للملائكةِ صفةَ "الإِناث"، واعتقدوا وُجودَها فيهم. وعن هذا
الاعتقادِ صدرَ عنهم ما صدَر من الاسْم، أعني إطلاقَ اسْمِ
"البنات"، وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظَ "الإناثِ" أو لفظَ
"البناتِ" اسْماً من غير اعتقاد معنى وإثبات صفة. وهذا محال لا
يقوله له عاقلٌ. أَما تَسْمَعُ قولَ الله تعالى: {أَشَهِدُوا
خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلون} [الزخرف:
19] فإنْ كانوا لم يزيدوا على أنْ أجرَوْا الاسْم على
الملائكةِ ولم يَعْتقدوا إثباتَ صفةٍ ومعنىً بإجرائه عليهم،
فأيُّ معنىً لأنْ يقال: "أشْهدوا خَلْقَهم"؟ هذا، ولو كانوا
__________
1 انظر ما سيقوله في معاني "جعل" فيما سيأتي رقم: 507، 508.
(1/368)
لم يَقْصِدوا إثباتَ صفةٍ، ولمْ يزيدوا على
أنْ وضَعوا اسْماً1، لما استحقُّوا إلاَّ اليسيرَ من الذَّم،
ولما كان هذا القولُ منهم كفْراً. والأمرُ في ذلك أظْهَرُ مِنْ
أن يَخْفى2.
441 - وجملةُ الأمر أنه إنْ قيل: "إنَّه ليس في الدنيا علم قد
عرض الناس فيه مِن فحشِ الغلط، ومن قبيح التورُّطِ، ومِنَ
الذهاب معَ الظنونِ الفاسدةِ3 ما عرَضَ لهم في هذا الشأن"4،
ظننْتَ أنْ لا يُخْشَى على من يقوله الكَذِبُ. وهل عجَبٌ
أعْجَبُ من قومٍ عُقَلاء يتْلون قولَ الله تعالى: {قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا
بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ
كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإِسراء: 88] ويؤمنون
به، ويدينون بأن القرآن معجزٌ، ثُمَّ يَصدُّون بأوجُهِهم عن
برهانِ الإِعجازِ ودليلهِ، وَيَسْلكونَ غيرَ سبيلِه؟ ولقَدْ
جَنوْا، لو دَرَوْا ذاك، عظيمًا.
__________
1 في المطبوعة وحدها: "ووضعوه اسمًا"، وليس بشيء.
2 سيأتي مثل هذه الفقرة في رقم: 508، 509.
3 السياق: " ... علم قد عرض للناس فيه ... ما عرض لهم ... ".
4 والسياق: " ... أنه إن قيل: .... ظننت ... ".
(1/369)
تمام القول في النظم
وأنه توخى معاني النحو
442 - واعلمْ أنه وإنْ كانت الصورةُ في الذي أعَدْنا وأبْدأْنا
فيه من أنَّه لا معنى للنظم غيرُ توخِّي معاني النحوِ فيما
بينَ الكَلم، قد بلغَتْ في الوضوح والظهورِ والانكشافِ إلى
أقصى الغايةِ، وإلى أنْ تكونَ الزيادَةُ عليه كالتكلُّف لِمَا
لا يُحْتاجُ إليه، فإِنَّ النفْسَ تنازعُ إلى تتبُّعِ كلِّ
ضربٍ منَ الشبْهَةِ يُرَى أنه يعرضُ للمُسلمِ نفسِه عند اعتراض
الشكِّ.
443 - وإنَّا لنرَى أنَّ في الناس من إذا رأى أن يَجري في
القياس وضربِ المثَل أن تشبِّه الكلمَ في ضمِّ بعضِها إلى
بعضٍ، بضَمِّ غَزَل الإبْرَيْسم بعضِه إلى بعضٍ ورأى أنَّ الذي
يَنْسِجُ الديباجَ ويَعمَلُ النقْشَ والوشْيَ لا يَصْنَعُ
بالإِبريسم الذي يَنْسِجُ منه1، شيئاً غيرَ أنْ يَضُمَّ بعضَه
إلى بعضٍ، ويتخيَّر للأَصباغِ المختلفةِ المواقعَ التي يعلمُ
أنه إِذا أوْقَعَها يها حدثَ له في نَسْجه ما يُريد منَ
النَقْش والصورةِ2 جرى في ظنَّه أنَّ حالَ الكلمِ في ضَمِّ
بعضِها إلى بعضٍ، وفي تخيُّر المواقع لها3، حالُ خيوطِ
الإِبريسم سواءٌ، ورأيَتَ كلامَه كلامَ مَنْ لا يعَلم أنه لا
يَكونُ الضمُّ فيها ضمّاً، ولا المَوْقِعُ مَوْقعاً، حتى يكونَ
قد توخَّى فيها معانيَ النحو4 وأنك إن عمدت إلى الألفاظ فجعلتَ
تُتْبعُ بعضَها بعضاً من غيرْ أنْ تتوخَّى فيها معانيَ النحوِ،
لم تكن صنَعْتَ شيئًا تدعي به.
__________
1 السياق: " ... لا يصنع بالإبريسم ... شيئًا غير أن يضم".
2 السياق: "وإنا لنرى في الناس مَنْ إِذا رأى أنَّه يَجري في
القياس ... ورأى أن الذي ينسج الديباج ... جرى في ظنه".
3 السياق: "أن حال الكلم ... حال خيوط".
4 السياق: "أنه لا يكون الضم ضمًا. وأنك إن عمدت".
(1/370)
مؤلِّفاً، وتُشَبَّهُ معه بِمَنْ عَمِلَ
نَسْجاً أو صنَعَ على الجملةِ صَنيعاً، ولم يُتصوَّر أنْ تكون
قد تخيرت لها المواقع.
استدلال على أن "النظم" هو توخي معاني النحو، وهو مهم:
444 - وفساد هذا وشبهه من الظنِّ، وإنْ كان معلوماً ظاهراً،
فإنَّ ههنا استدلالًا لطيفًا تكثر بسببه الفائدة. وهو أن
يُتصَوَّر أنْ يعمَدَ عامِدٌ إلى نظْم كلامٍ بعينهِ فيُزيلَه
عنِ الصورةِ التي أرادَها الناظمُ له ويُفْسِدَها عليه، من غير
أَن يُحَوِّلَ منه لفظاً عن موضِعه، أَو يُبَدِّلَه بغيره، أو
يُغيِّر شيئاً من ظاهر أمرهِ على حالٍ.
مثالُ ذلك: أنَّكَ إنْ قدَّرْتَ في بيت أبي تمام:
لعاب الأفاعي القاتلات لغابه ... وأَرْيُ الجَنى اشتارَتْه
أيْدٍ عواسِلُ1
أنَّ "لعابَ الأفاعي" مبتدأٌ و "لعابُه" خبرٌ، كما يُوهِمُه
الظاهر، أفسدْتَ عليه كلامَه، وأبطلْتَ الصورةَ التي أرادها
فيه. وذلك أنَّ الغرضَ أنْ يُشَبِّه مداد قلمهِ بلعاب الأفاعي،
على معنى أنه إذا كتب في إقامة السياسات أتلف به النفوس، وكذلك
الغرضَ أنْ يُشَبِّه مِدادَهُ بأرْي الجنَي2، على معنى أنه
إِذا كتَبَ في العطايا والصِلاتِ أوصَلَ به إلى النفوس ما
تَحْلو مذاقَتُه عندها، وأدْخَل السرورَ واللذةَ عليها. وهذا
المعنى إنما يكونُ إِذا كان "لعابُه" مبتدأ، و "لعاب الأفاعي"
خبرًا، فأما تقديرك أنت يكون "لعاب الأفاعي" مبتدأ
__________
1 في ديوانه، وهو من جيد شعره في وصف القلم. و "الأرى"، العسل،
و "اشتارته"، جنته من الخلايا. و "العواسل" التي تطلب العسل.
2 من أول قوله: "مداد قلمه بلعاب الأفاعي" إلى أول قوله:
"مداده بلعاب الأفاعي"، ساقط في "ج" سهوًا من الناسخ، وكذلك
سقط من المطبوعة سهوًا عن صحة المعنى.
(1/371)
و "لعابُه"، خبراً فيُبْطِل ذلك ويَمْنَع
منه البتَّةَ، ويَخْرجُ بالكلام إلى ما لا يجوزُ أن يكونَ
مُراداً في مثل غَرَض أبي تمام، وهو أنْ يكون أرادَ أنْ
يُشَبِّه "لعابَ الأفاعي" بالمِداد، ويشبِّه كذلك "الأرْيَ"
به.
فلو كان حالُ الكلم في ضمِّ بعضِها إلى بعضٍ كحالِ غَزْل
الإبرَيْسَم، لكانَ ينْبغي أن لا تتغيَّر الصورةُ الحاصلةُ من
نَظْمِ كَلِمٍ، حتى تُزال عن مواضِعها، كما لا تتغيرُ الصورةُ
الحادِثةُ عن ضَمِّ غزلِ الإِبريسم بعضه إلى بعض، حتى نزال
الخيوط مواضِعها.
445 - واعلمْ أنَّه لا يَجوزُ أن يكونَ سبيلُ قولِه: "لعابُ
الأفاعي القاتلاتِ لعابُه"، سبيلَ قولِهم: "عتابُك السيفُ".
وذلك أن المعنى في بيت أبي تمام على أنك مشبه شيئًا بشيء،
وجامع بينهما في وصفٍ1، وليس المعنى في: "عتابُكَ السيفُ"، على
أنك تُشَبِّه عتابَه بالسيفِ، ولكنْ على أنْ تَزْعُم أنه
يَجْعَلُ "السيفَ" بدلاً من "العتاب". أفلا تَرَى أنه يصحُّ
أنْ تقولَ: مدادُ قلمِه قاتلٌ كسمِّ الأفاعي"، ولا يَصِحُّ أن
تقولَ: "عتابك كالسيفِ"، اللَّهمَّ إلاَّ أنْ تَخْرجَ إلى بابٍ
آخرَ، وشيءٍ ليس هو غرضَهم بهذا الكلام، فتُريد أنه قد عاتَب
عتاباً خَشِناً مؤلماً. ثم إنك إنْ قلتَ: "السيفُ عتابُك"،
خرجْتَ به إلى معنى ثالثٍ، وهو أن تزْعُم أنَّ عتابَه قد بلغَ
في إيلامهِ وشدةِ تأثيرهِ مبلغاً صارَ له السيفُ كأنه ليس
بسيفٍ.
446 - واعلمْ أنَّهُ إنْ نظَر ناظرٌ في شأن المعاني والألفاظ
إلى حال
__________
1 في المطبوعة: تشبه شيئًا بشيء لجامع .. ".
(1/372)
السامع، نفإذا رأي المعانيَ تقعُ في نفْسِه
من بَعْد وقوعِ الألفاظِ في سَمْعِه. ظنَّ لذلك أنَّ المعانيَ
تِبْعٌ للألفاظِ في ترتيبها. فإنَّ هذا الذي بيَّنَّاهُ يُريه
فسادَ هذا الظنِّ. وذلك أنه لو كانتْ المعاني تكونُ تِبْعاً
للألفاظ في ترتيبها، لكان مُحالاً أنْ تتغيَّر المعاني
والألفاظُ بحالها لم تَزُلْ عن تَرْتيبها. فلمَّا رأينا
المعانيَ قد جازَ فيها التغيُّر مِن غَيْر أنْ تتغيَّرَ
الألفاظُ وتزولَ عن أماكِنِها، عَلِمْنا أنَّ الألفاظَ هي
التابعةُ، والمعاني هي المتبوعة.
الإشكال في معرفتين، هما مبتدأ وخبر، وفصل الإشكال بالمعنى:
447 - واعلمْ أنه ليس مِن كلام يعمدُ واضِعُه فيه إلى
معرِفَتَيْنِ فيجعلُهما مبتدأً وخبراً، ثم يقدِّمُ الذي هو
الخبرُ، إلاَّ أشكلَ الأمرُ عليكَ فيه، فلَمْ تَعْلَمْ أنَّ
المقدَّمَ خبرٌ، حتى ترجِعَ إلى المعنى وتُحْسِن التدبُّرَ.
أنشدَ الشيخ أبو علي في "التذكرة"1:
نَمْ وإنْ لم أنَمْ كرايَ كَراكا2
ثم قال: "ينبغي أن يكونَ "كرايَ" خبراً مقدَّماً، ويكونَ
الأصلُ: "كراكَ كرايَ"، أي نَم، وإن لم أَنَمْ فنومُكَ نومي،
كما تقول: "قُمْ، وإن
__________
1 "أبو علي" هو الفارسي.
2 في هامش المخطوطة هنا ما نصه:
"أوله:
شاهدى الدمع أن ذاك كذا كا
لأبي تمام الطائي".
وهي في ديوانه، وروايته"
شاهد منك أن ذاك كذا كذا
(1/373)
جلسَتَ، فقيامُكَ قيامي، هذا هو عُرْفُ
الاستعمال في نحوِه" ثم قال: "وإِذا كان كذلك، فقد قُدِّم
الخبرُ وهو معرفةٌ، وهو يُنْوى به التأخيرُ من حيث كان
خَبَراً" قال: "فهو كبيت الحماسة:
بَنُونا بَنُو أبنائِنا وبَنَاتُنا ... بَنوهُنَّ أبناءُ
الرجالِ الأَباعدِ1
فقدَّمَ خبرَ المبتدأ وهو معرفةٌ، وإنما دلَّ على أنه ينوي
التأخيرَ المعنى2، ولولا ذلك لكانتِ المعرفةُ، إذا قُدّمتْ، هي
المبتدأ لتقدمها، فافهم ذلك". هذا كله لفظه.
بيان السبب في تعدد أوجه تفسير الكلام:
448 - واعلمْ أنَّ الفائدةَ تَعْظُم في هذا الضربِ من الكلامِ،
إذا أنتَ أحسنْتَ النظَرَ فيما ذكرتُ لك، من أنكَ تستَطيعُ أنْ
تَنقُلَ الكلامَ في معناه عن صورةٍ إلى صورةٍ، من غير أن تغير
من لظفه شيئاً، أو تحوّلَ كلمةً عن مكانها إلى مكانٍ آخرَ، وهو
الذي وَسَّعَ مجالَ التأويلِ والتفسيرِ، حتى صاروا يتأولون ي
الكلام الواحدِ تأويلَيْنِ أوْ أكثر، ويُفَسِّرون البيتَ
الواحدَ عدَّةَ تفاسيرَ. وهو، على ذاك3، الطريقُ المزلَّةُ
الذي ورَّط كثيراً من الناس في الهَلَكة، وهو مما يَعْلم به
العاقلُ شدَّةَ الحاجةِ إلى هذا العِلْم، وينْكشِفُ معه
عُوَارُ الجاهلِ به، ويُفتضَحُ عنده المُظْهِرُ الغِنى عنه.
ذاك لأنه قد يَدْفع إلى الشيءِ لا يصح
__________
1 هذا البيت في شرح التبريزي للحماسة 2: 41، في آخر شرح بيتي
غسان بن وعلة، وهو في الحماسة، طبعة عبد الله عسيلان في متن
الحماسة برقم: 175، ويؤيد ذلك ما جاء ههنا. وذكر صاحب الخزانة:
213 أنه ينسب للفرزدق.
2 في هامش "ج" ما نصه: "أي: دل المعنى على أنه".
3 أي: وهو الطريق المزلة، مع ذلك ...
(1/374)
إلاَّ بتقديرِ غَير ما يُريه الظاهرُ، ثم
لا يكونُ له سبيلٌ إلى معرفةِ ذلك التقديرِ إذا كان جاهلاً
بهذا العلم، فيتسكَّع عند ذلك في العَمَى، ويقع في الضَّلال.
مثال في تفسير قوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا
الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ
الْحُسْنَى}
449 - مثالُ ذلك أنَّ مَنْ نظَر إلى قوله تعالى {قُلِ ادْعُوا
اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ
الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإِسراء: 110] ثم لم يَعْلمْ أنْ
ليسَ المعنى في "ادعوا" الدعاءَ، ولكنِ الذكْرَ بالاسمِ،
كقولك: "هو يدعي زيدًا" و "يدعي الأميرَ"، وأنَّ في الكلام
محذوفاً، وأنَّ التقديرَ: قُل ادعوهُ اللهَ، أو ادعوهُ
الرحمنَ، أيَّاً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى1 كان بغرض أنْ
يقعَ في الشركِ، من حيثُ إنه إنْ جرى في خاطره أنَّ الكلامَ
على ظاهره، خرج ذلك به، والعياد باللهِ تعالى، إلى إثبات
مَدْعُوَّيْنَ، تعالى اللهُ عن أنْ يكونَ له شريكٌ. وذلك مِن
حيثُ كان مُحالاً أن تَعْمِدَ إلى اسمَيْن كلاهما اسمُ شيءٍ
واحدٍ، فتعطِفَ أحدَهما على الآخَر، فتقولَ مثلاً: "اُدْعُ لي
زيداً أو الأمير"، و "الأمير" هو زيد. وكذلك محال أن تقول:
"أياما ندعوا" وليس هناك إلاَّ مَدْعوٌّ واحدٌ، لأن مِنْ شأن
"أي" أنْ تكونَ أبداً واحداً من اثنين أو جماعةٍ، ومِن ثَمَّ
لم يكن له بدٌّ من الإضافةِ، إما لفظاً وإما تقديرًا.
مثال في قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ}
بغيرِ تنوينٍ "عزير"
450 - وهذا بابٌ واسعٌ2. ومِن المُشْكِلِ فيه قراءةُ مَن قرأ3:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]،
بغيرِ تنوينٍ. وذلك أنَّهم قد حَملوها على وجهين:
__________
1 السياق: ... " أن من نظر ... ثم لم يعلم ... كان بغرض ... ".
2 في المطبوعة وحدها: "وهناك باب".
3 قرأه بتنوين "عزيز" بعض المكيين والكوفيين، عاصم والكسائي
ويعقوب، وقرأه الباقون بغير تنوين، ضمة واحدة.
(1/375)
أحدُهما: أنْ يكون القارئ له أرادَ
التنوينَ ثم حذفَه لالْتقاءِ الساكنَيْن، ولم يحرِّكْهُ،
كقراءةِ مَنْ قرأ1: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدُ اللَّهُ
الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1، 2] بتركِ التَنوين مِنْ "أحَد:، وكما
حُكيَ عن عمارةَ بنِ عَقيل أنه قرأ2: {وَلا اللَّيْل سَابِق
النَّهَار} [يس: 40]، بالنْصب، فقيلَ له: ما تُريد؟ فقال:
أريدُ سابقٌ النهارَ. قيل: فهلاَّ قلْتَه؟ فقال: فلو قلْتُه
لكان أوزَنَ وكما جاءَ في الشعر من قوله:
فأَلْفَيْتُهُ غيرَ مستعتِبٍ ... ولاَ ذاكِرَ اللهَ إلاَّ
قليلا3
إلى نظائرِ ذلك، فيكونُ المعنى في هذه القراءةِ مثْلَه في
القراءة الأُخرى، سَواء.
والوجهُ الثاني: أنْ يكونَ الابنُ صفةً، ويكونَ التنوينُ قد
سقَط على حدِّ سقوطِهِ في قولنا: "جاءَني زيدُ بنُ عمروٍ"،
ويكونَ في الكلام محذوفٌ. ثم اختَلَفوا في المحذوف، فمنهم من
جعله مبتدأً فقدَّرَ: "وقالتِ اليهودُ هو عزير بن الله" ومنهم
من جَعَلَه خبراً فقدَّر؟ "وقالتِ اليهودُ عزيرُ ابنُ اللهِ
معبودُنا".
وفي هذا أمرٌ عظيم، وذلك أنك إِذا حكَيْتَ عن قائلٍ كلاماً
أنتَ تُريد أن تُكَذِّبه فيه، فإنَّ التكذيبَ ينصرفُ إلى ما
كان فيه خبرصا، دون ما كان صفةً.
تفسيرُ هذا: أَنَّك إِذا حكيتَ عن إنسانٍ أنَّه قال: "زيدُ بن
عمرو
__________
1 ذكر أبو حيان في البحر المحيط 8: 528، من قرأ بهذه القراءة.
2 انظر شواذ القراءات لابن خالويه: 125.
3 هو لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه، والأغاني 11: 17، والبيت
في سيبويه 1: 58، وتفسير الطبري 3: 306.
(1/376)
سيِّدٌ"، ثم كذَّبْتَه فيه، لم تكُنْ قد
أنكرتَ بذلك أن يكون زيدَ ابن عمروٍ، ولكنْ أنْ يكونَ سيِّداً
وكذلك إذا قال: "زيدٌ الفقيهُ قد قَدِم"، فقلتَ له: "كَذَبْتَ"
أو "غَلِطْتَ". لم تَكُن قد أنكرْتَ أن يكونَ زيدٌ فقيهاً،
ولكنْ أن يكون قد قَدِم1. هذا ما لا شُبهةَ فيه، وذلك أنك إذا
كذَّبْتَ قائلاًَ في كلامٍ أو صدَّقْته، فإِنما يَنْصرِف
التكذيبُ منك والتصديقُ إلى إثباته ونفيه، والإثبات والنفي
يتناولات الخبرَ دونَ الصفةِ. يدلُّكَ على ذلك أنَّكَ تَجِدُ
الصفةَ ثابتةً في حالِ النفي، كثُبوتها في حالِ الإِثبات.
فإِذا قلتَ: "ما جاءني زيدٌ الظريفُ"، كانَ "الظَّرْفُ" ثابتاً
لزيدٍ كثبوته إذا قلتَ: "جاءني زيدٌ الظريفُ" وذلك أنْ ليس
ثُبوتُ الصفةِ لِلذي هي صفةٌ له، بالمتكلِّم وبإِثباته لها
فتنتفي بنَفْيه، وإنما ثُبوتُها بنفسها، ويتقرَّرُ الوجودُ
فيها عندَ المخاطَب، مثلَه عند المتكلِّم، لأنه إذا وقعتِ
الحاجةُ في العلم إلى الصفةِ، كان الاحتياجُ إليها من أجْل
خِيفةِ اللَّبْس على المخاطَبِ.
تفسيرُ ذلك: أنكَ إذا قلتَ: "جاءني زيدٌ الظريفُ"، فإنك إنما
تحتج إلى أنْ تصِفَه بالظريفِ، إذا كان فيمن يجيءُ إليكَ واحدٌ
آخرُ يُسمَّى "زيداً"، فأنتَ تَخْشى إنْ قلْتَ: "جاءني زيدٌ"
ولم تَقُل: "الظريفُ"، أنْ يَلْتَبِس على المخاطَبِ فلا
يَدْرِي أهذا عنيتَ أم ذاك؟ وإذا كان الغرضُ من ذكْرِ الصفة
إزالةَ اللَّبس والتبيين، كان مُحالاً أن تكونَ غيرَ معلومةٍ
عند المخاطَب، وغير ثابتة، لأنه يؤدي إلى أن ترم تبيينَ الشيءِ
للمخاطَب بوصفٍ هو لا يَعلَمُه في ذلك الشيء. وذلكَ ما لا
غايةَ وراءه في الفساد.
__________
1 من أول قوله: "فقلت له: كذبت" إلى هنا، ساقط من كاتب "ج"
سهوًا.
(1/377)
وإذا كان الأمر كذلك، كان جل "الابنِ" صفةً
في الآية، مُؤديًا إلى الأمْرِ العظيم، وهو إخراجُه عن موضعِ
النفي والإنكارِ، إلى موضع الثبوتِ والاستقرارِ، جلَّ الله
تعالى عن شَبَهِ المخلوقين، وعن جَميع ما يقولُ الظالمونَ،
علوّاً كبيراً.
451 - فإِن قيلَ: إنَّ هذه قراءةٌ معروفةٌ، والقولُ بجواز
الوصفيَّةِ في "الابن" كذلك معروفٌ ومدوَّنٌ في الكتبِ، وذلك
يَقْتضي أن يكونوا قد عرَفوا في الآيةِ تأويلاً يَدخُل به
"الابْن" في الإِنكار مع تقديرِ الوصفيَّة فيه.
قيل: إنَّ القراءةَ كما ذكرتُ معروفةٌ، والقولُ بجَواز أن
يكونَ "الابْنُ" صفةً مثْبَتٌ مسطورٌ في الكتبِ كما قلتُ،
ولكنَّ الأصلَ الذي قدَّمناه منْ أنَّ الإِنكارَ إِذا لَحِقَ
لَحِقَ الخبرَ دونَ الصفة1 ليس بالشيءِ الذي يعترضُ فيه شكٌّ
أو تتسلطُ عليه شبْهَةٌ. فليس يَتَّجه أن يكونَ "الابنُ" صفةً
ثم يَلْحقُهُ الإنكارُ مع ذلك، إلاَّ على تأويلٍ غامضٍ، وهو أن
يقالَ: إنَّ الغرضَ الدلالةُ على أنَّ اليهودَ قد كان بلغَ من
جَهْلهم ورُسوخِهم في هذا الشِّرْكِ، أنهم كانوا يَذْكُرون
"عُزيراً" هذا الذكْرَ، كما تقولُ في قومٍ تريدُ أن تصفَهم
بأنهم قد استُهلِكوا في أمرِ صاحبِهم وغَلَوْا في تعظيمه: "إني
أراهُمْ قد اعتقَدوا أمْراً عظيماً، فهم يقولون أبداً: زيدٌ
الأميرُ"، تريدُ أنه كذلك يكون ذكْرُهُم إذا ذكَروهُ، إلاَّ
أنَّه إنما يستقيمُ هذا التأويلُ فيه، إذا أنتَ لم تقدِّر له
خبَراً معيناً، ولكنْ تريدُ أنهم كانوا لا يخبرون عنه بخببر
إلا كان ذكرهم له هكذا.
__________
1 السياق: "ولكن الأصل الذي قدمناه .... ليس بالشيء ... ".
(1/378)
مثال آخر في بيان قوله: {وَلا تَقُولُوا
ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ}
452 - ومما هو من هذا الذي نحنُ فيه قولُه تعالى: {وَلا
تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 171].
وذلك أنَّهم قد ذَهبوا في رفْع "ثلاثةٍ" إلى أنها خبرُ مبتدأ
محذوفٍ، وقالوا: إنَّ التقديرَ: "ولا تقولوا آلهتُنا ثلاثةٌ".
وليس ذلك بمستقيمٍ. وذلك أنَّا إذا قلْنا: "ولا تقولوا آلهتُنا
ثلاثة"، كان ذلك، والعياذُ بالله، شبيه الإثباتِ أنَّ ههنا
آلهةً، من حيثُ إنَّكَ إذا نفيْتَ، فإنما تَنفي المعنى
المستفادَ من الخَبر عن المبتدأ، ولا تنفي معنى المبتدأ، فإِذا
قلتَ: "ما زيدٌ منطلقاً" كنتَ نفيْتَ الانطلاقَ الذي هو معنى
الخبرِ عن زيدٍ، ولم تَنْفِ معنى زيد ولم تُوجِبْ عدَمَه.
وغذاكان ذلك كذلك، فإِذا قُلْنَا: "ولا تقولوا آلهتُنا
ثلاثةٌ"، كنَّا قد نفَيْنا أن تكونَ عِدَّةُ الآلهة ثلاثةً،
ولم تنف أن تكونَ آلهةً، جلَّ الله تعالى عن الشريكِ والنظيرِ
كما أنك إِذا قلتَ: "ليس أُمراؤنا ثلاثةً"، كنتَ قد نفَيْتَ أن
تكونَ عِدَّةُ الأمراءِ ثلاثةً، ولم تَنْفِ أن يكون لكُمْ
أمراءُ. هذا ما لا شبْهةَ فيه. وغذا أدَّى هذا التقديرُ إلى
هذا الفسادِ، وَجَبَ أنْ يَعْدِل عنه إلى غيره.
والوجهُ، واللهُ أعلمُ، أن تكونَ "ثلاثة" صفةَ مبتدأ لا خبرَ
مبتدإٍ، ويكونَ التقديرُ: "ولا تقولوا لنا آلهةٌ ثلاثة أو: في
الوجود آلهة ثلاثة"، ثم حُذِفَ الخبرُ الذي هو "لنا" أو "في
الوجود" كما حُذِفَ من: "لا إله إلاَّ الله" و {مَا مِنْ
إِلَهٍ إِلَّا اللَّه} [آل عمران: 62]، فبقي "ولا تقولوا آلهةٌ
ثلاثةٌ"، ثم حُذِف الموصوفُ الذي هو "آلهة"، فبقي: "ولا تقولوا
ثلاثةٌ". وليس في حذْف ما قدَّرْنا حذْفَه ما يتوقّفُ في
صحَّته. أما حذفُ الخبر الذي قلْنا إنه "لنا" أو "في الوجود"،
فمطَّردٌ في كلِّ ما معناهُ التوحيدُ، ونفيُ أن يكون معَ الله،
تعالى عن ذلك، إلهٌ.
(1/379)
حذف الموصوف بالعدد شائع:
453 - وأما حذْفُ الموصوفِ بالعدد، فكذلك شائعٌ، وذلك أَنه كما
يَسوغُ أن تقولَ: "عندي ثلاثة"، وأنتَ تريدُ "ثلاثةَ أثوابٍ"،
ثم تَحذفُ، لعِلْمكَ أنَّ السامعَ يَعْلمُ ما تُريد، كذلك
يسَوغُ أنْ تَقولَ: "عندي ثلاثةٌ"، وأنت تُريد "أثوابٌ ثلاثة"،
لأنه لا فَصْلَ بين أن تَجْعَل المقصودَ بالعددِ مميَّزاً،
وبين أنْ تَجعلَهُ موصوفاً بالعدد، في أَنه يَحْسُنُ حذْفُه
إِذا عُلِمَ المراد.
يبين ذلك أنكَ تَرى المقصودَ بالعددِ قد تُرِكَ ذكرُهُ، ثم لا
تستطيعُ أن تُقدِّرَه إِلا موصوفًا، وذلك في قولك: "عندي
اثنان"، و "عندي واحد"، يكونُ المحذوفُ ههنا موصوفاً لا
محالةَ، نحو: "عندي رجلانِ اثنانِ" و "عندي درهمٌ واحدٌ"، 1
ولا يكونُ مميَّزاً البتةَ2، من حيث كانوا قد رفضوا إضافة
"الواحد" و "الاثنين" إلى الجِنْس، فتركوا أن يقولوا: "واحدُ
رجالٍ" و "آثنا رجالٌ" على حدِّ "ثلاثةُ رجالٍ"، ولذلك كان
قولُ الشاعر:
ظَرْفُ عجوزٍ فيه ثِنْتَا حَنْظَلِ3
شاذًا
__________
1 من أول قوله: "يكون المحذوف ... " إلى هذا الموضع، ساقط من
كاتب "ج"، سهوًا.
2 في هامش "ج"، ما نصه:
"أي: ولا يكون المحذوف مميزًا".
3 الرجز لخطام الريح المجاشعي، وفي شرح الحماسة للتبريزي 4:
166 غير منسوب، وقبله:
كأن خصييه من التذلدل
ولكن أورده أبو تمام برواية:
سحق جراب فيه ثنتا حنظل
وذكر أبو محمد الغندجاني الرجز كله لخطام في "إصلاح ما غلط فيه
النمري".
(1/380)
هذا، ولا يمتنع أن يجعل المحذوفَ من الآية
في موضعِ التمييز دونَ موضع الموصوف، فيجعل التقديرَ، "ولا
تقولوا ثلاثة آلهة"، ثم يكونُ الحكْمُ في الخَبرِ على ما مضى،
ويكونَ المعنى، والله أعلم، ولا تقولوا لنا ثلاثة آلهة، أو في
الوجود ثلاثةُ آلهة"1.
454 - فإنْ قلتَ: فلِمَ صار لا يَلْزمُ على هذا التقديرِ ما
لَزِمَ عَلَى قولِ مَنْ قدَّر: "ولا تَقولوا آلهتنا ثلاثةٌ"؟
2 فذاكَ لأنَّا إذا جعَلْنا التقديرَ3: ولا تقولوا لنا، أو: في
الوجود، آلهةٌ ثلاثةٌ، أو ثلاثةُ آلهةٍ"، كنَّا قد نفينا
الوجود على الآلهةِ، كما نفَيْناه في "لا إله إلا الله"، و
{مَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّه} [آل عمران: 62].
وإِذا زعَموا أنَّ التقديرَ "ولا تقولوا آلهتُنا ثلاثةٌ"،
كانوا قد نَفَوْا أَنْ تكونَ عِدَّةُ الآلهةِ ثلاثةً، ولم
يَنْفُوا وُجودَ الآلهة.
فإنْ قيل: فإنَّه يَلزَمُ على تقديركَ الفسادُ من وجْهٍ آخرَ،
وذاكَ أنَّه يَجوزُ إذا قلتَ: "ليس لنا أمراءُ ثلاثةٌ"، أنْ
يكونَ المعنى: ليس لنا أمراءُ ثلاثةٌ4، ولكنْ لنا أميرانِ
اثنانِ، وإذا كان كذلكَ: كان تقديرُكَ وتقديرُهُمْ جميعاً
خطأً.
__________
1 في "ج"، من أول قوله: "ثم يكون الحكم ... " إلى أول قوله:
"ثلاثة آلهة"، سقط سهوًا من كاتبها.
2 "فذاك" جواب السؤال.
3 أسقط كاتب "ج" فكتب "لَزِمَ عَلَى قولِ مَنْ قدَّر، ولا
تَقولوا آلهتنا ثلاثة، فذاك لأنا". سها سهوًا أخل بالكلام.
4 "أنْ يكونَ المعنى: ليس لنا أمراءُ ثلاثةٌ"، سقط من كاتب "ج"
سهوًا.
(1/381)
قيل: إنَّ ههنا أمراً قد أغْفَلْتَه، وهو
أن قولهم {أَآلِهَتُنَا}، يُوجِبُ ثُبوتَ آلهةٍ، جلَّ اللهُ
وتعالى عَمَّا يقولُ الظالمونَ عُلوًّا كبيراً. وقولُنا: "ليس
لنا آلهةٌ ثلاثةٌ"، لا يُوجبُ ثبوتَ اثنينِ البتةَ.
فإنْ قلتَ: إن كانَ لا يُوجبُه، فإنَّه لا يَنْفِيه.
قيل: يَنْفيهِ ما بَعْدَهُ مِنْ قولِه تعالى: {إِنَّمَا
اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171].
فإنْ قيلَ: فإنَّه كما يَنْفي الإلهَيْن، كذلك ينفي الآلهةَ.
وإِذا كان كذلك، وجَبَ أنْ يكونَ تقديرُهم صحيحاً كتقديركَ.
قيل: هو كما قلتَ ينفي الآلهةَ، ولكنَّهم إذا زعَموا أنَّ
التقديرَ: "ولا تقولوا آلهتُنا ثلاثةٌ"، وكان ذلك والعياذُ
باللهِ من الشِّرْك يَقْتضي إثباتَ آلهةٍ، كانوا قد دفَعوا هذا
النفيَ وخالفوه وأخرجوا إلى المناقَضَة. فإِذا كان كذلك، كان
مُحالاً أن يكون للصحة سبيل إلى ما قالوا. وليس كذلك الحالُ
فيما قدَّرْناه، لأنَّا لم تقدر شيئاً يقتضي إثباتَ إلهيَنْ،
تعالَى اللهُ، حتى يكونَ حالُنا حالَ مَنْ يَدفَعُ ما يُوجِبُه
هذا الكلامُ من نَفْيهِما.
يُبيِّنُ لك ذلِكَ: أَنه يَصِحُّ لنا أَنْ نَتَّبعَ ما
قدَّرناه نفْي الاثنينِ، ولا يَصِحُّ لهم.
تفسيرُ ذلك: أنَّه يصِحُّ أن تقولَ: "ولا تَقولوا لنا آلهةٌ
ثلاثةٌ ولا إلهان"، لأنَّ ذلك يَجْري مَجرْى أَنْ تقولَ: "ليس
لنا آلهةٌ ثلاثةٌ ولا إلهان"، وهذا صَحيحٌ ولا يصِحُّ لهم أَنْ
يقولوا: "ولا تقولوا آلهتُنا ثلاثةٌ ولا إلهانِ"1، لأنَّ ذلك
يجري
__________
1 كتب كاتب "ج": "ليس لنا آله ولا إلهان، لأن ذلك يجري مجرى
... "، فأسقط وأفسد الكلام.
(1/382)
مَجْرى أنّ يقولوا: "ولا تقولوا آلهتُنا
إلهَانِ". وذلك فاسدٌ، فاعرفْه وأَحْسِنْ تأمُّلَهُ.
455 - ثم إنَّ ههنا طريقاً آخَرَ، وهو أَنْ تُقَدِّر: "ولا
تقولوا الله والمسيح وأمه ثلاثة"، أي نبعدهما كما نَعبدُ
اللهَ.
يُبيِّنُ ذلك قولُه تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا
إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73]، وقد استقرَّ
في العُرْفِ أنَّهم إذا أرادوا إلحاقَ اثنينِ بواحدٍ في وصفٍ
منَ الأوصافِ، وأن يجعلوها شَبيهَيْن له، قالوا: "هُمْ
ثلاثةٌ"، كما يقولونَ إذا أرادوا إلحاقَ واحدٍ بآخرَ وجَعْلَه
في معناه، "هما اثنانِ"، وعلى هذا السبيل كأنَّهم يقولون: "هُم
يُعَدُّونَ معَداً واحداً" ويُوجِبُ لهم التساويَ والتشارُكَ
في الصفةِ والرتبةِ، وما شاكَل ذلكَ.
456 - واعلمْ أنه لا معنى لأن يقالَ: إنَّ القولَ حكايةٌ،
وإنَّه إِذا كان حكايةً لم يلزَمْ منه إثباتُ الآلهةِ، لأنه
يَجْري مَجْرى أنْ تقولَ: "إنَّ مِنْ دين الكفَّارِ أنْ
يقولوا: الآلهةُ ثلاثةٌ"1، وذلك لأنَّ الخطابَ في الاية
للنصارى أنسهم. ألا ترى إلى قوله تعالى: {يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى
__________
1 في هامش "ج" بخط كاتبها ما نصه:
"هذا تعليل لقولي: لم يلزم من إثبات الآلهة".
وهذا نص قاطع على أن جميع حواشي "ج"، من كلام عبد القاهر، كما
استظهرت قبل أن أقرأ هذا، وانظر التعليق السالف على رقم: 404.
(1/383)
مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا
خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 171]. وإِذا كان الخطابُ للنصارى،
كان تقديرُ الحكايةِ مُحالاً، فـ "ـلا تَقولوا" إذنْ في معنى:
"لا تعْتَقِدوا"، وإِذا كانَ في معنى الاعتقادِ، لَزِمَ إذا
قدَّرَ "ولا تقولوا آلهتُنا ثلاثةٌ"، ما قُلْنا إنَّه يَلْزمُ
مِن إثباتِ الآلهةِ. وذلك لأن الاعتقادَ يَتعلَّق بالخبر لا
بالمُخْبَرِ عَنْه. فإِذا قلتَ: "لا تعتقدْ أنَّ الأمراءَ
ثلاثةٌ"، كنتَ نهَيْتَه عن أنْ يعتقدَ كونَ الأُمراءِ على هذه
العِدَّة، لا عنْ أَنْ يَعْتَقِدَ أنَّ ههنا أُمراءَ. هذا ما
لا يَشُكُّ فيه عاقلٌ. وإنَّما يكونُ النهْيُ عن ذلك إذا قلتَ:
"لا تَعْتقِدْ أَنَّ ههنا أُمراءَ"، لأنَّك حينئذٍ تَصيرُ
كأنَّك قلَْتَ: لا تعتقِدْ وجودَ أمراءَ.
هذا، ولو كان الخطابُ معَ المؤمنينَ، لكانَ تَقديرُ الحكايةِ
لا يَصِحُّ أيضاً. ذلك لأنه لا يجوزُ أنْ يُقالَ: "إنَّ
المؤمنينَ نهوا عن أن يحكموا عن النصارى مقالَتَهم، ويُخْبروا
عنْهم بأنَّهم يقولونَ كَيْتَ وكيْتَ"، كيفَ؟ وقد قال اللهُ
تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ
وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]
ومِنْ أينَ يَصِحُّ النهْيُ عَنْ حكايةِ قولِ المُبْطِل، وفي
تَرْك حكايتهِ تركٌ له وكفره، وامتناعٌ من النعْي عليه،
والإنكارِ لِقَوْلِه، والاحتجاجِ عليه، وإقامةِ الدليل على
بُطْلانه، لأنه لا سبيلَ إلى شيءٍ من ذلك إلاَّ مِنْ بَعْدِ
حكايةِ القولِ والإِفصاحِ به، فاعرِفْه.
(1/384)
بسم الله الرحمن الرحيم
تحرير القول في الإعجاز والفصاحة
والبلاغة:
457 - قد أردنا أن نستأنِفَ تقريراً نزيدٌ به الناسَ تَبصيراً
أنَّهم في عمياءَ من أمرِهم حتَّى يسلكوا المسلَكَ الذي
سلكناه، ويُفْرِغوا خواطِرَهُم لتأمُّلِ ما استخرجناه وأنَّهم،
ما لم يأخذوا أنفسَهم بذلك، ولم يُجرِّدوا عناياتِهم له1 في
غرورٍ، كمن يَعِدُ نفسه الريَّ من السَّرابِ اللامع، ويخادعها
بأكاذيب المطامع.
بيان في معنى "التحدي"، وأي شيء طولبوا أن يأتوا به؟ وهو مهم:
458 - يقال لهم: إنكم تتْلون قولَ اللهِ تعالى: {قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا
بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [هود:
13]، وقوله: {بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِه} [البقرة: 23]، فقولوا
الآن: أيجوزُ أنْ يكونَ تعالى قد أمرَ نبيه صلى الله عليه وسلم
بأنْ يتحدَّى العربَ إلى أن يُعارضوا القرآنَ بمثلِهِ، من غيرِ
أن يكونوا قد عَرَفوا الوصفَ الذي إذا أتَوا بكلامٍ على ذلك
الوصفِ، كانوا قد أَتَوا بمثلِه؟
ولا بُدَّ من "لا"، لأنَّهم إنْ قالوا: "يجوزُ"، أبطلوا
التحدِّي، من حيث إنَّ التحدي -كما لا يخفى- مطالبةٌ بأن يأتوا
بكلامٍ على وصفٍ، ولا تصحُّ المطالبةُ بالإِتيان به على وصفٍ
من غيرِ أن يكونَ ذلك الوصفُ معلوماً للمطالَبِ2 ويبطلُ بذلك
دعوى الإِعجاز أيضاً؛ وذلك لأنه لا يتصور أن
__________
1 السياق: "وأنهم ... في غرور".
2 السياق: " ... إن قالوا: يجوز، أبطلوا التحدي ... ويبطل
بذلك".
(1/385)
يقالَ: إنه كانَ عَجْزٌ، حتى يثبتَ معجوزٌ
عنه معلوم؛ فلا يقومُ في عَقْل عاقلٍ أن يقول لخصمٍ له: "قد
أعجزَك أن تفعل مثل فعلي"، وهو لا يشير له إلى وصفٍ يَعلَمُه
في فعله، ويراهُ قد وقعَ عليه؛ أفلا تَرى أنَه لو قالَ رَجلٌ
لآخرَ: "إني قد أحدثتُ في خاتَمٍ عملتهُ صنعة أنتَ لا تستطيعُ
مثلَها"، لم تَتَّجه له عليه حجةٌ، ولم يثبُتْ به أنه قد أتى
بما يعجزُه، إلا من بعدِ أن يرِيَهُ الخاتمَ، ويشيرَ له إلى ما
زعمَ أنه أبدعَه فيه منَ الصَّنعة، لأنه لا يصحُّ وصفُ
الإِنسانِ بأنه قد عَجزَ عن شيءٍ، حتى يريدَ ذلك الشيءَ ويقصدَ
إليه، ثم لا يتأتَّى له. وليس يتصوَّرُ أن يقصِدَ إلى شيءٍ لا
يعلَمُه. وأن تكونَ منه إرادةٌ لأمرٍ لم يعلمْه في جملةٍ ولا
تفصيلٍ.
459 - ثم إنَّ هذا الوصفَ ينبغي أنْ يكونَ وصْفاً قد تجدَّد
بالقرآن، وأمر لم يُوجَدْ في غيرهِ، ولم يُعْرف قَبْلَ نزولِه.
وإِذا كان كذلك؛ فقد وَجَب أنْ يُعْلَم أَنه لا يجوزُ أن يكونَ
في "الكَلم المفردةِ"، لأَن تقديرَ كونِه فيها يؤدِّي إلى
المُحال، وهو أن تكونَ الألفاظُ المفردةُ التي هي أوضاعُ
اللُّغة، قد حدَثَ في مذاقة حروفِها وأصدائها أوصافٌ لم
تكُنْ1، لتكونَ تلك الأوصاف فيها أقبل السامعون عليها إِذا
كانتَ متلوَّة في القرآن، لا يَجدونَ لها تلكَ الهيئاتِ
والصفاتِ خارِجَ القرآنِ2. ولا يجوزُ أن تكونَ في "معاني الكلم
المفردة"، التي هي لها بوضع
__________
1 في المطبوعة وحدها: "حذاقة حروفها"، خطأ صرف.
2 معطوف على قوله في أول البقرة: " .... لا يجوزُ أن يكونَ في
الكَلم المفردةِ ... ".
(1/386)
اللغة؛ لأنه يؤدي إلى أن يكونَ قد تجدد في
معنى "الحمد" و"الرب"، ومعنى "العالمين" و"الملك" و"اليوم"
و"الذين"، وهكذا، وصْفُ لم يكُنْ قَبْل نزولِ القرآن. وهذا ما
لَوْ كان ههنا شيءٌ أَبَعدُ من الحال وأشنعُ لكان إيَّاه1.
ولا يجوزُ أَن يكون هَذا الوصفُ في "ترتيب الحَركاتِ
والسَّكَناتِ"، حتى كأَنهم تُحُدُّوا إلى أن يأتوا بكلام تكون
كلماته على تواليه في زِنَةِ كلماتِ القرآنِ، وحتى كأنَّ الذي
بانَ به: القرآنُ مِن الوَصْف في سبيلِ بَيْنُونَة بِحُور
الشِّعْر بعضِها مِنْ بَعضٍ، لأنه يخرج إلى ما تعاطه
مُسيلِمَةُ من الحماقة في: "إنا أعطيناكَ الجَماهر، فَصَل
لِربِّك وجاهِرْ"، "والطَّاحناتِ طحناً".
وكذلك الحكْمُ إنْ زَعم زِاعمٌ "أنَّ الوصْفَ الذي تُحُدُّوا
إليه هو أَن يَأْتوا بكلامٍ يَجعلونَ له مَقاطعَ، وفواصلَ،
كالذي تَراهُ في القرآن"؛ لأنه أيضاً ليس بأكثرَ مِن
التَّعويلِ على مراعاةِ وزْنٍ. وإنَّما الفواصلُ في الآيِ
كالقوافي في الشِّعر، وقد عَلِمْنا اقتدارَهم على القوافي كيف
هوَ، فلَوْ لم يكنِ التحدِّي إلا إلى فُصولٍ منَ الكلامِ يكونُ
لها أواخرُ أشباهِ القوافي، لم يُعْوِزْهُم ذلك، ولم يتعذَّرْ
عليهم. وقد خُيِّل إلى بعضهم إن كان الحكاية صححية شيءٌ من
هذا، حتى وَضعَ على ما زَعموا فصولَ كلام أواخرُها كأواخرِ
الآيِ2، مثْلَ "يعلمون" و "يؤمنون" وأشباه ذلك3.
__________
1 أيضًا، معطوف آخر على أول البقرة.
2 في المطبوعة وحدها: فصول الكلام، خطأ.
3 معطوف على ما أشرت إليه في الفقرة السالفة. وهذه العبارة
الآتية كلها ليست في "س".
(1/387)
ولا يَجوزُ أَن يكونَ الإِعجازُ بأن لم
يُلْتَقَ في حُروفه ما يَثْقُلُ على اللسانِ.
أي شيء بهر العقول من القرآن، وكلام الوليد بن المغيرة، وابن
مسعود، والجاحظ:
460 - وجملةُ الأمرِ أَنه لَن يَعرِضَ هذا وشَبهُهُ من الظنونِ
لِمَنْ يَعرِضُ لهُ إلاَّ مِن سوءِ المعرفةِ بهذا الشأنِ، أوْ
للخذلانِ، أو لِشهوةِ الإِغرابِ في القولِ. ومَنْ هذا الذي
يَرْضى مِنْ نَفْسه أنْ يَزعمَ أنَّ البرهانَ الذي بان لهم،
والأمر الذي بهرهم، والهيبة التي ملأتْ صدُورَهم1، والروعةَ
التي دخلتْ عليهم فأزعَجَتْهم حتَّى قالوا: "إنَّ له لحلاوةً،
وإنَّ عليه لطولاة، وأن أسفله لمعذق، وإنَّ أعلاه لَمْثْمِرٌ2،
إنما كان لِشيءٍ راعَهُم من مَواقعِ حركاتِه، ومِن تَرتيبٍ
بيْنَها وبَيْنَ سكناته؟ أم لِفَواصلَ في أواخرِ آياته؟ مِنْ
أَيْنَ تَليقُ هذه الصفةُ وهذا التشبيهُ بذلك؟
أم ترَى ابنَ مَسْعود حين قال في صفةِ القرآن: "لا يَتْفَه ولا
يَتَشَانُّ"3، وقال: "إِذا وقعتُ في آلِ حم، وقعتُ في روضاتٍ
دَمِثاتٍ
__________
1 في المطبوعة وحدها: "والهيئة"، خطأ.
2 هذه رواية مشهورة، والذي في كتب السير "سيرة ابن هشام" وأن
الوليد بن املغيرة قال: "إن لقوله حلاوة، وإن أصله لعذق، وإن
فرعه لجناة"، هذه رواية ابن إسحاق، وروى ابن هشام "إن أصله
لغذق". و "الغذق"، النخلة التي ثبت أصلها، وطاب فرعها إذا جنى،
و "الغذق"، الروي المخصب، وكذلك تفسير "المغذقط الذي ثبتت
أصوله، و "المغذق"، المخصب. وكان في المطبوعة "لمغذق" بالغين
المعجمة والدال المهملة، والذي في "ج" و "س": "لمغذق" بالغين
المهملة والذال المعجمة.
3 الخبر بهذا اللفظ في غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام
3: 153/ 4: 55، بغير إسناد، وهو في مسند أحمد بن حنبل رقم:
3845 من حديث طويل: "إن هذا القرآ لا يختلف، ولا يستشن، ولا
ينفه لكثرة الرد" و "ينشان" لا يخلق، وهو مأخوذ من "الشن" وهو
الجلد الخلق البالي، و "يستشن"، يصير شنًا باليًا. و "يتفه"،
من الشيء "التافه"، أي لا يبتذل حتى يلحق بالخسيس.
(1/388)
أتأنَّق فيهنَّ"1، أي أَتتبَّع محاسنَهنَّ
قال ذلك من أجْل أوزانِ الكلماتِ، ومن أجْل الفواصِلِ في
أواخرِ الآيات؟
أم تَرى أنَّهم لذلك قالوا: "لا تَفْنى عجائِبُه، ولا يَخْلُقُ
على كثرة الردِّ"2.
أم تَرى الجاحظَ حينَ قال في كتابِ النبوَّة: "ولو أَنَّ رجلاً
قرأَ على رجُل مِن خطبائِهم وبُلغائهم سورةً واحدةً، لَتبيَّنَ
له في نظامِها ومَخْرجها، منْ لفظِها وطابَعِها أنه عاجز عن
مثلها، لو تَحدَّى بها أبلَغَ العربِ لأَظْهَر عجْزَه عنها"3
لغا ولغط4.
فليسَ5 كلامُه هذا مما ذهَبوا إليه في شيء.
461 - وَينبغي أن تكونَ موازَنَتُهم بيْنَ بعضِ الآي وبين ما
قاله الناس في
__________
1 خبر عبد الله بن مسعود هذا في تفسير ابن كثير في أول سورة
غافر (7: 275) غير مسند. و "ذمثاث"، جمع "ذمثة"، وهي المخصبة
اللينة السهلة المعيشة.
2 انظر ما سلف في التعليق رقم: 3، ص: 388 وهو في خبر علي رضي
الله عنه في صحيح الترمذي، كتاب "ثواب القرآن"، "باب ما جاء في
فضل القرآن، بإسناد فيه كلام".
3 مضى كلام الجاحظ هذا آنفًا برقم: 290.
4 "لغا يلغو" أتى باللغو من الكلام، وهو ما لا يمتد به، ولا
يحصل منه على فائدة ولا نفع.
و"لفظ يلغط لغطًا"، أتى بأصوات مبهمة وألفاظ ذات جلبة لا يفهم
لها معنى. وكان في المطبوعة وحدها: "لغًا ولفظًا"، وهو سيء
جدًا، لأن السياق: "أم ترى الجاحظ حين قال ... لغا ولغط".
5 الصرف في "لامه" مرودد إلى الجاحظ.
(1/389)
معناها، كموازنَتِهِمْ بيْن: {وَلَكُمْ فِي
الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، وبَيْن: "قَتْلُ البعضِ
إحياءٌ للجميع"1 خطأً مهم2؛ لأنَّا لا نَعْلم لحديثِ التحريكِ
والتسْكينِ وحديثِ الفاصلةِ مذهباً في هذه الموازنة، ولا
نَعْلمهُم أرادوا غيرَ ما يُريده الناسُ إذا وازَنُوا بين
كلامٍ وكلامٍ في الفصاحةِ والبلاغةِ ودقَّةِ النظم وزيادة
الفائدة. ولولا أن الشطيان قد استحوذَ على كثيرٍ من الناس في
هذا الشأنَ، وأنهم -بِتَرْك النظرِ، وإهمالِ التدبُّر وَضعفِ
النيَّةِ، وقِصَر الهِمَّة- قد طرَّقوا له حتى جعَل يُلْقي في
نفوسِهم كلَّ محالٍ وكلَّ باطلٍ3، وجَعَلوا هُمْ يُعطون الذي
يُلْقيه حَظَّا من قبولهم، ويبوؤونه مكاناً مِن قلوبهم، لمَا
بلغَ من قَدْر هذه الأقوالِ الفاسدةِ أنْ تدخُلَ في تصنيفٍ،
ويعادَ ويُبْدأَ في تبيينٍ لوجهِ الفسادِ فيها وتعريف.
الحجة على إبطال "الصرفة" وهي مقالة المعتزلة:
462 - ثُم إنَّ هذه الشناعاتِ التي تقدَّمَ ذِكْرُها، تَلزَمُ
أصحابَ "الصَّرْفة" أيضاً؛ وذاكَ أَنه لو لم يكنْ عجْزُهم عن
مُعَارضةِ القرآن وعن أنْ يأتوا بمثلِه، لأنه مُعْجِزٌ في
نفسه؛ لكنْ لأن أُدخِلَ عليهمُ العَجزُ عنه، وصُرفَتْ
هِمَمهُمُ وخَواطرُهم عن تأليفِ كلامٍ مثْلهِ، وكان حالُهم على
الجملةِ حالَ مَن أُعْدِمَ العلمَ بشيءٍ قد كان يَعلَمُه، وحيل
بينَه وبينَ أمرٍ قد كانَ يَتَّسِعُ له4، لكانَ ينبغي أنْ لا
يتعاظَمَهُمْ، ولا يكون منهم ما يدل على إكبارهم امره،
__________
1 مضى ذلك في رقم: 303.
2 السياق: "وينبغي أن تكون موازنتهم ... خطأ منهم".
3 "طرفوا له"، جعلوا له طريقًا يسلكه إلى ما يسوله لهم من
الفساد.
4 السياق: "وذاك أنه لو لم يكن عجزهم ... لكان ينبغي".
(1/390)
وتعجُّبهم منه، وعلى أَنه قد بَهَرَهُم،
وعظُمَ كل العظم عندهم؛ بل كان ينبغي أن يكون الإكبار منهم
والتعجب للذي دخل من العجز عليهم1، ورأوه مِن تَغيُّرِ حالِهم،
ومِنْ أَن حِيلَ بينَهم وبينَ شيءٍ قد كانَ عليهِمْ سَهْلاً،
وأنْ سُدَّ دونَه بابٌ كانَ لهُم مفتوحا، أرأيتَ لو أنَّ نبياً
قال لقومِهِ: "إنَّ آيتي أنْ أَضعَ يدي على رأسي هذه الساعةَ،
وتُمْنَعون كلُّكُم من أَن تستطيعوا وَضْعَ أَيديكُمْ على
رؤسكم"، وكان الأمرُ كما قال، مِمَّ يكونُ تعجُّبُ القومِ،
أَمِنْ وضعِه يدَه على رأسهِ، أمْ من غجزهم أن يضعوا أيديهم
على رؤسهم؟
"النظم" و"الاستعارة" هما موضع الإعجاز:
463 - ونعودُ إلى النَّسَق فنقولُ: فإِذا بطَلَ أن يكونَ
الوصْفُ الذي أعجزَهم من القرآنِ في شيءٍ ممَّا عدَدَناه، لم
يَبْقَ إلاَّ أن يكون في "النظم"؛ لأنه ليس مِنْ بَعْدِ ما
أَبطَلْنا أن يكون فيه إلا "النظم" و"الاستعارة". ولا يمكنُ
أنْ تُجْعَلَ "الاستعارةُ" الأَصْلَ في الإعجاز وأن يُقْصَرَ
عليها؛ لأنَّ ذلك يؤدي إلى أَن يكونَ الإِعجازُ في آيٍ معدودةٍ
في مواضعَ مِن السورِ الطوالِ مخصوصةٍ، وإذا امتنع ذلك فيها،
ثبت أن "النظم" مكانه الذي ينبغي أن يكون فهي. وإذا ثبت أنه في
"النظم"، و"التأليف"2، وكنَّا قد عَلِمْنا أنْ ليسَ "النظمُ"
شيئاً غير
__________
1 في "ج": "وعظم كل العظم عندهم، ورواه من تغير حالهم"، أسقط
فأفسد الكلام. وفي المطبوعة: "وعظم كل العظم عندهم، والتعجب
للذي دخل عليهم من العجز، ولما رأوه"، وهو فاسد أيضًا.
2 كان في المطبوعة مختلًا، وغير مطابق لما في "س"، وهو الذي
أثبتناه هنا، أما كاتب "ج"، فقدسها فأسقط جملًا كثيرة، وهذا نص
سياق "ج": "فإذا بطل أن يكون الوصوف الذي أعجزَهم من القرآنِ
في شيءٍ ممَّا عددناه؛ إلاَّ أَن يكونَ في النظْمِ والتأليفِ،
لأنه ليس مِنْ بَعْدِ ما أَبطَلْنا أن يكونَ فيه إلاَّ
النظْمُ، وإذا ثبتَ أنَّه في النظم والتأليف ... " = وأما
المطبوعة، فكان كما يلي، فمرا على مواضعه: "لم يبق إلا أن تكون
في الاستعارة ولا يمكن الاستعارة"؛ فأسقط ما بين الكلامين عند
موضع العلامة، ثم أتى به بعد قوله: "من السور الطوال مخصوصة،
على هذا السياق: "وإِذا امتنعَ ذلكَ فيها لم يبْقَ إلاَّ أَن
يكونَ في النظْمِ والتأليفِ، لأنه ليس مِنْ بَعْدِ ما
أَبطَلْنا أن يكونَ فيه إلا النظم". ولم يرد في المطبوعة ما
ههنا: "وإذا امتنع ذلك فيها ثبت أن النظم مكانه .. ". وأيضًا
كتب مكان "يقصر عليها" "يقصد إليها"؛ فكان ما في المطبوعة
كلامًا ملفقًا سيئًا.
(1/391)
توخي معاني النحو وأحكامِه فيما بينَ
الكلمِ، وأنا إن يقينا الدهر تجهد أفكارَنا حتى نَعْلَم،
للكلِمِ المفردةِ سِلْكاً يَنْظِمُها، وجامعاً يَجْمعُ شمْلَها
ويؤلِّفها، ويَجْعل بعضَها بسبَبٍ مِنْ بعضٍ، غيرَ توخِّي
معاني النحو وأحكامهِ فيها1، طَلَبنا ما كلُّ محالٍ دُونَه2؛
فقد بانَ وظهَرَ أنَّ المتعاطيَ القَوْلَ في "النظم"، والزاعمَ
أنه يحاولُ بيانَ المزيةِ فيه، وهو لا يَعْرِض فيما يُعيدُه
ويُبديهِ للقوانين والأصول التي قدَّمْنا ذِكْرَها، ولا يَسْلك
إليه المَسالِكَ التي نَهَجْناها3، في عمياءَ مِنْ أمره، وفي
غرورٍ من نفسه، وفي خِداعٍ من الأماني والأضاليلِ4؛ ذاك لأنَّه
إذا كان لا يكونُ "النظمُ" شيئاً غيرَ توخِّي معاني النحو
وأَحكامهِ فيما بينَ الكَلِمِ، كان مِن أَعجْب العَجَبِ أَنْ
يزَعُمَ زاعم أنه يطلب المزية في
__________
1 السياق هنا: "وأنا إن بقيا الدهر، نجهد أفكارنا .... طلبنا
ما كل محال دونه".
2 والسياق هنا: "وإذا ثبت أنه في النظم، وكنا قد علمنا ... فقد
بان وظهر"، وهو جواب "إذا" في صدر الجملة.
3 السياق: "بان وظهر أن المتعاطي ... في عمياء من أمره".
4 يعني بقوله "المتعاطي القول في النظم" و"الزاعم أنه يحاول
بيان المزية .... وهو لا يعرض فيما يعيده ويبديه للقوايين
والأصول التي قدمنا ذكرها ... في عمياء من أمره، ومن غرور في
نفسه"، يعني بهذا كله المعتزلي الكبير القاضي عبد الجبار، وما
كتبه في "المغني" 16: 197، وما بعدها؛ لأنه هو الذي استخدام
لفظ "النظم"، فأكثر، ولم يخرج بطائل، وقد أشرت إلى ذلك فيما
سلف في رقم: 55، التعليق رقم: 2.
(1/392)
"النَّظْم"، ثم لا يَطْلبُها في معاني
النحو وأحكامِه التي "النظْمُ" عبارةٌ عن توخِّيها فيما بين
الكلم.
"الاستعارة" و"الكناية" و"التمثيل" من مقتضيات "النظم":
464 - فإنْ قيل: قولُكَ "إلاَّ النظم"1، يقتضي إخراجَ ما في
القرآنِ مِن الاستعارةِ وضروبِ المجازِ من جملةِ ما هوَ به
مُعْجِزٌ؛ وذلك ما لا مَساغَ له.
قيلَ: ليس الأمرُ كما ظننْتَ؛ بل ذلك يقتضي دُخولَ الاستعارةِ
ونَظائرِها فيما هو بهِ مُعْجزٌ؛ وذلك لأنَّ هذه المعاني التي
هي "الاستعارة"، و"الكناية" و"التمثيل"، وسائرُ ضُروبِ
"المجاز" مِن بَعْدِها من مُقْتَضياتِ "النظم"، وعنه يحدث وبه
يكونُ2؛ لأنه لا يُتصوَّر أن يَدخُلَ شيءٌ منها في الكَلِم وهي
أفرادٌ لم يُتَوخَّ فيما بينَها حكْمٌ من أحكام النحو؛ فلا
يُتَصَّورُ أن يكونَ ههنا "فعلٌ" أو "اسمٌ" قد دَخلَتْهُ
الاستعارةُ، مِن دونِ أنْ يكونَ قد أُلِّفَ مع غيره؛ أفلا تَرى
أَنه إنْ قدَّر في "اشتعلَ" من قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ
الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4]، أنْ لا يكونَ "الرأسُ"، فاعلاً
له، ويكونَ "شيباً" منصوباً عنه عَلَى التمييز، لم يُتصوَّرْ
أن يكونَ مستعاراً؟ وهكذا السبيلُ في نظائرِ "الاستعارةِ"،
فاعرفْ ذلك3.
خطأ المعتزلة في ظنهم أن المزية في "اللفظ"، واضطرابهم في ذلك:
465 - واعلمْ أَن السببَ في أنْ لم يقع النظر منهم موقعه، أنهم
__________
1 يعني قوله في أول الفقرة السالفة: "لأنه ليس مِنْ بَعْدِ ما
أَبطَلْنا أن يكون فيه إلا النظم والاستعارة".
2 في المطبوعة: "وعنها يحدث، وبها يكون".
3 هذه الفقرة "464" كلها ساقطة من "س".
(1/393)
حين قالوا: "تطلب المزية"1، ظنوا أن
موضعَها "اللفظُ" بناءً على أنَّ "النظْمَ" نظْمُ الألفاظِ،
وأنه يَلْحقُها دونَ المعاني وحِينَ ظَنُّوا أنَّ موضِعَها ذلك
واعتقدُوه، وقَفوا على "اللفظِ"، وجعَلوا لا يَرْمون
بأَوهامِهم إلى شيءٍ سِواهُ؛ إلاَّ أَنهمْ، على ذاكَ، لم
يَسْتطيعوا أن ينطِقوا في تصحيح هذا الذي ظَنّوه بحَرْف؛ بل لم
يتكلَّموا بشيءٍ إلاَّ كان ذلك نَقْضاً وإبِطالاً لأنْ يكونَ
"اللفظُ" -مِنْ حيَثُ هو لفظٌ- مَوْضعاً للمزيَّةِ وإلا
رأيتَهم قدِ اعتَرفُوا، من حيثُ لم يذروا، بِأنْ ليسَ
لِلْمزيةِ التي طلَبوها موضِعٌ ومكانٌ تكونُ فيه، إلاَّ معاني
النحوِ وأحكامِه.
وذلك أنهم قالوا: "إنَ الفصاحةَ لا تَظْهرُ في أفرادِ
الكلماتِ. وإنما تَظْهرُ بالضمِّ على طريقةٍ مخصوصةٍ"2،
فقولُهم "بالضم"، لا يَصِحُّ أن يُرادَ به النطقُ باللفظةِ
بعْدَ اللفظةِ، مِنْ غيرِ اتصالٍ يكونُ بين مغعنييهما؛ لأنه لو
جازَ أنْ يكونَ لِمجرَّدِ ضَم اللفظِ إلى اللفظِ تأثيرٌ في
الفصاحةِ، لكانَ يَنبغي إذا قيلَ: "ضَحِكَ، خَرَجَ" أنْ
يَحْدُثَ في ضَمِّ "خرجَ" إلى "ضحكَ" فصاحةٌ! وإِذا بطَل ذلك،
لم يَبْقَ إلا أنْ يكونَ المعنى في ضمِّ الكلمةِ إلى الكلمةِ
توَخِّيَ معنًى من معاني النحو فيما بينَهُما.
وقولُهم: "على طريقةٍ مخصوصةٍ"، يُوجِبُ ذلك أيضاً؛ وذلك أَنه
لا يكونُ للطريقةِ إذا أنتَ أردْتَ مجرَّدَ اللفظ معنى.
__________
1 إنما يعني بهذا كله القاضي عبد الجبار المعتزلي، كما أشرت
إليه في ص: 392، تعليق: 4.
2 هذا لفظ القاضي عبد الجبار بنصه في المغني 16: 199، "فصل في
الوجه الذي له يقع التفاضل في فصاحة الكلام".
(1/394)
وهذا سبيلُ كلِّ ما قالوه، إِذا أنتَ
تأمَّلتَهُ تَراهُمْ في الجميعِ قد دفَعوا إلى جَعْل المزية في
معاني النحو وأحكامِه مِنْ حيثُ لم يَشْعروا؛ ذلك لأنه أَمرٌ
ضروريٌّ لا يمكن الخروج منه.
رد قول عبد الجبار المعتزلي: "إنَّ المعاني لا تَتزايد؛ وإِنما
تتزايدُ الألفاظُ"
466 - ومما تَجِدُهم يَعْتمِدونَه ويرجعِونَ إليه قولُهم:
"إنَّ المعاني لا تتزايدُ؛ وإنَّما تَتزايدُ الألفاظُ"1، وهذا
كلامٌ إذا تأملْتَه لم تَجِدْ له معنًى يَصِحُّ عليه؛ غيرَ أنْ
تَجْعلَ "تزايُدَ الألفاظِ" عبارة على المزايا التي تَحْدُثُ
مِن توخِّي معاني النحوِ وأَحكامهِ فيما بينَ الكَلِم؛ لأنَّ
التزايُدَ في الألفاظِ من حيثُ هي ألفاظٌ ونُطْقُ لسانٍ،
مُحالٌ.
467 - ثم إنَّا نَعْلمُ أَنَّ المزيةَ المطلوبةَ في هذا
البابِ، مزيةٌ فيما طريقُهُ الفكْرُ والنظَرُ مِن غَيرِ
شُبْهة. ومحالٌ أَنْ يكونَ اللفظُ له صفةٌ تُسْتَنْبَطُ
بالفِكْرِ، ويُسْتعانُ عليها بالرويَّة، أللهمَّ إلاَّ أنْ
تُريد تأليفَ النغَمِ. وليس ذلك ممَّا نحنُ فيه بسبيلٍ.
ومِنْ ههنا لم يَجُزْ، إذا عُدَّ الوجوهُ التي تَظهر بها
المزيةُ، أنْ يُعَدَّ فيها الإعرابُ؛ وذلك أنَّ العِلْم
بالإِعرابِ مشترَكٌ بينَ العَربِ كلِّهم، وليس هو مما
يُسْتنبَط بالفكْرِ، ويُسْتعانُ عليه بالرويَّة؛ فليسَ أحدُهم،
بأنَّ إعرابَ الفاعل الرفعُ أو المفعولِ النصبُ، والمضاف إليه
الجرُّ، بأعلم من غيره ولا ذاك مما يَحتاجون فيه إلى حِدَّةِ
ذهنٍ وقوةِ خاطرِ2، إنما الذي تقَعُ الحاجةُ فيه إلى ذلك،
__________
1 هذا أيضًا قول القاضي عبد الجبار المعتزلي في المغني: 16:
199، وقد مضى آنفًا رقم: 55، تعليق: 2، وص: 392، تعليق: 4، وص
394، تعليق: 2.
2 في المطبوعة: "ولا ذاك المفعولُ به مما يَحتاجون فيه" زيادة
لإفساد الكلام لا غير.
(1/395)
العلمِ بما يُوجِبُ الفاعليةَ للشيءِ إذا
كان إيجابُها من طريقِ المجازِ، كقولهِ تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ
تِجَارَتُهُم} [البقرة: 16]، وكقولِ الفرزْدق:
سقْتها خروقٌ في المسامِعِ1
وأشباهِ ذلِكَ، مما يَجعلُ الشيءَ فيه فاعلاً على تأويلٍ
يَدقُّ، ومن طريقٍ تَلْطُفُ، وليس يكونُ هذا علماً بالإِعراب،
ولكن بالوصْفِ الموجبِ للإِعراب.
ومن ثَمَّ لا يجوزُ لنا أنْ نَعْتدَّ في شأنِنا هذا بأنْ يكونَ
المتكلِّمُ قد اسْتَعملَ من اللغتين في الشيءِ ما يقالُ: "إنه
أفصحهما"، أو بأن يكونَ قد تَحفَّظ مما تخطئ فيه العامَّة، ولا
بأن يكونَ قد استعْمَلَ الغريبَ؛ لأنَّ العلمَ بجميع ذلك لا
يعدو أن يكونَ عِلْماً باللغةِ، وبأَنْفُس الكَلِمِ المفردة،
وبما طريقُهُ طريقُ الحِفْظِ، دونَ ما يُستَعانُ عليه
بالنظَرِ، ويُوصَلُ إليه بإعمالِ الفِكْر، ولئن كانتِ
العامَّةُ وأشباهُ العامَّةِ لا يكادونَ يعرِفونَ الفصاحةَ
غيرَ ذلك؛ فإنَّ مِن ضَعْف النَّحيزَة إِخطارَ مثْلِه في
الفكْرِ2، وإجراءَه في الذكْرِ، وأنتَ تزعمُ أَنكَ ناظرٌ في
دلائلِ الإعجازِ. أترَى أنَّ العَرب تُحُدُّوا أن يَختاروا
الفَتْحَ في الميمِ من "الشَّمَع"، والهاءِ منَ "النهْر" على
الإسْكان وأنْ يتحفَّظوا مِن تخليطِ العامَّة في مثْلِ: "هذا
يَسْوَى أَلفا"3 أو إلى أنْ يأْتوا بالغريبِ الوحشيِّ في كلام
يعارِضون به القرآنَ؟ 4 كيفَ؟ وأنتَ تقرَأُ السورةَ من السور
الطوال فلا
__________
1 مضى في الفقرة رقم: 347، بتمامه.
2 "النحيزة"، الطبيعة المغروزة في الإنسان.
3 لأن صوابه "هذا يساوي ألفًا".
4 في "ج" والمطبوعة: "في الكلام" بالتعريف.
(1/396)
تجد فيها من الغريب شيئًا، وتتأمل ما
جَمَعهُ العلماءُ في غَريب القرآن؛ فترى الغريبَ منه إلا في
القليلِ، إنما كان غريباً من أَجْل استعارةٍ هي فيهِ، كمِثْل
{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93]،
ومثْل: {خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف: 80]، ومثْلِ {فَاصْدَعْ
بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]، دون أن تكون اللفظةُ غريبةً في
نفسها؛ إنما ترى ذلك في كلماتٍ معدودةٍ كَمِثلِ: {عَجِّلْ
لَنَا قِطَّنَا} [ص: 16] و {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُر} [القمر:
13]، و {جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 24].
غريب اللغة، ليس له مكان في الإعجاز:
468 - ثم إنَّه لو كان أَكْثَرُ ألفاظِ القرآنِ غريباً، لكانَ
محالاً أن يَدْخُلَ ذلك في الإِعجازِ، وأنْ يَصِحَّ التحدِّي
به. ذاك لأنه لا يَخْلو إذا وقَعَ التحدِّي به من أن يُتحدَّى
مَنْ له علْمٌ بأمثالهِ منَ الغريبِ، أو مَنْ لا عِلْمَ له
بذلك.
فلو تُحدِّي بهِ مَن يَعْلَمُ أمثالَه، لم يتَعذَّر عليه أن
يعارِضَه بمثله.
ألا تَرى أنه لا يتعذَّرُ عليكَ إذا أنتَ عرفْتَ ما جاء منَ
الغريبِ في معنى "الطويل" أَنْ تعارِض مَنْ يقولُ: "الشوقَبُ"،
بأن تقولَ أنتَ "الشوذَبُ"، وإِذا قال: "الأمَقُّ" أن تقول
"الأَشقُّ"؟ 1 وعلى هذا السبيل.
ولو تُحُدِّي به مَنْ لا عِلْمَ له بأمثالِ ما فيه من الغريبِ،
كان ذلك بمنزلةِ أن يُتَحدَّى العربُ إلى أن يتكلموا بلسانِ
التركِ.
469 - هذا، وكيفَ بأنْ يدْخلَ الغريبُ في بابِ الفضيلة، وقد
ثَبتَ عنهم أَنهم كانوا يَروْنَ الفضيلةَ في تَرْك استعمالِه
وتجنُّبهِ؟ أفلاَ تَرى إلى قول عمر
__________
1 هذه الألفاظ بمعنى الطويل مع فروق فيها.
(1/397)
رضي اللهُ عنه في زهيرٍ: "إنه كان لا
يُعاظِل بَيْنَ القَوْل، ولا يَتَتَبَّعُ حُوشيِّ الكلام"؟
فقرنَ تَتَبُّعَ "الحُوشيِّ" وهو الغريبُ مِنْ غيرِ شُبْهة إلى
"المُعاظلةِ" التي هيَ التعقيد1.
وقال الجاحظُ في "كتاب البيان والتبيين"2: "ورأيتُ الناس
يتداولون رسالة يحيى بن يعمر على لسانِ يزيدَ بنِ المهلَّب إلى
الحجَّاج3: "إنَّا لقينا العدو فقتلنا طائفة [وأسرنا طائفةً،
ولحقتْ طائفةٌ] بعراعرِ الأَودية وأهضامِ الغِيطان، وبتْنا
بعُرْعُرَةِ الجبلِ، وباتَ العدوُّ بحضيضِه"؛ فقال الحجَّاج:
ما يزيدُ بأبي عُذْرِ هذا الكلامِ! [فقيل له: إن يحيى بن يعمر
معه! فأمر بأن يحمل إليه؛ فلما "أتاه] قال: أينَ ولدتَ؟ فقال:
بالأهواز؛ فقال: فأنى لك هذه الفصاحةُ؟ قال: أخذتُها عن أبي"4.
قال: "ورأيتُهم يُديرون في كتُبِهم: أنَّ امرأةً خاصمتْ زوجَها
إلى يحيى بنِ يَعْمر؛ فانْتَهَرها مراراً، فقال له يحيى: إنْ
سألتُكَ ثَمَنَ شَكْرها وشَبْرِك، أنشأتَ تطلها وتضهلها"5.
__________
1 انظر طبقات فحول الشعراء رقم: 79، ص: 63.
2 في هذا الموضع كتب "كتاب البيان والتبيين"، مضبوطة في "ج" و
"س" معًا. وهو خلاف مشهور، ومع ذلك سيأتي في النسختين أيضًا
"البيان والتبيين"، كما سأشير إليه في التعليق.
3 في المطبوعة: "عن لسان .. ".
4 هو في البيان والتبيين: 1: 377، 378، وشرح الجاحظ ألفاظه
فقال: "عراعر الأودية" أسافلها. و "عراعر الجبال" أعاليها. و
"أهضام الغيطان"، مداخلها. و "الغيطان" جمع "غائط"، وهو الحائط
ذو الشجر".
وقوله: "ما يزيد بأبي عذر هذا الكلام"، أي ليس هو قائله،
والمبتدئ به.
5 هو في كتاب البيان 1: 378، وفسره الجاحظ فقال: "قالوا:
"الضهل"، التقليل و "الشكر"، الفرج، و "الشبر"، "النكاح. و
"تطلها"، تذهب بحقها يقال: دم مطول. ويقال: "بئر ضهول"، أي
قليلة الماء".
(1/398)
ثم قال: "وإن كانوا إنما قَدْ روَوْا هذا
الكلامَ لكي يَدلَّ على فصاحةٍ وبلاغةٍ؛ فقد باعدَه اللهُ من
صفةِ البلاغة والفصاحة"1.
أصل فساد مقالة المعتزلة في ظنهم أن أوصاف "اللفظ" أوصاف له في
نفسه:
470 - واعلمْ أنك كلَّما نظرتَ وجدْتَ سببَ الفسادِ واحداً،
وهو ظنُّهم الذي ظنُّوه في "اللفظِ"، وجعلهم الأوصاف التي تجري
عليها كلَّها أوصافاً له في نفسِه، ومن حيثُ هو لفظٌ، وترْكُهم
أن يُميِّزوا بينَ ما كان وصْفاً لهُ في نفسِه، وبيْنَ ما
كانوا قد كسبوه إياه من أجْلِ أمرٍ عَرَضَ في معناه2. ولمَّا
كان هذا دأْبَهم، ثم رأَوْا الناسَ وأظهرُ شيءٍ عندَهم في معنى
"الفصاحةِ"، تقويمُ الإِعرابِ، والتحفظُ منَ اللَّحْن، لم
يَشُكُّوا أنه ينبغي أن يُعتَدَّ به في جملةِ المزايا التي
يفاضَلُ بها بينَ كلامٍ وكلامٍ في الفصاحةِ، وذهبَ عنهم أنْ
ليس هُو من "الفصاحةِ" التي يَعْنينا أمرُها في شيء، وأنَّ
كلاَمنا في فصاحةٍ تجبُ للَّفظِ لا من أجْلِ شيءٍ يدْخُلُ في
النطقِ؛ ولكنْ من أجْل لطائفَ تُدْرَكُ بالفَهم، وإنَّا
نعْتبرُ في شأنِنا هذا فضيلةً تَجبُ لأَحَدِ الكلامَيْنِ على
الآخَر، مِن بَعْد أن يكونا قَد برِئا من اللَّحْن، وسَلِمَا
في ألفاظِهما من الخَطَأ.
471 - ومن العَجَب أنَّا إذا نظَرْنا في الإعرابِ، وجَدْنَا
التفاضُل فيه مُحالاً؛ لأنه لا يُتَصَوَّرُ أن يكونَ للرَّفْع
والنصْبِ في كلامٍ، مزيةٌ عليهما في كلامٍ آخَر؛ وإنما الذي
يُتَصَوَّرُ أنْ يكون ههنا: كلامانِ قد وقعَ في إعرابهما خللٌ،
ثم كان أحَدُهما أكْثَر صواباً من الآخر، وكلامانِ قد استمرَّ
أحدُهما على.
__________
1 هو في البيان 1: 378، وفي نسخ الدلائل زيادة "وبلاغة"،
وقوله: "والفصاحة"، زيادة ألحقتها من البيان.
2 في المطبوعة وحدها: "أكسبوه إياه".
(1/399)
الصَّوابِ ولم يَسْتمرَّ الآخَرُ، ولا
يكونُ هذا تفاضُلاً في الإِعراب، ولكن تركاً له في شيء،
واستعمالًا في آخَرَ، فاعرفْ ذلك.
472 - وجملةُ الأمرِ أنك لا تَرى ظنَّاً هو أَنْأَى بصاحبِه عن
أن يصِحَّ له كلامٌ، أو يستمِرَّ له نظامٌ، أو تَثْبُتَ له
قدَمٌ، أو يَنْطِقَ منه إلاَّ بالمُحال فمٌ1، مِنْ ظَنِّهم هذا
الذي حامَ بهم حَوْلَ "اللفظِ"، وجعلهم لا يعدونه، ولا يرون
للمزية مكانًا دونه.
قوله: "إن الفصاحة تكون في المعنى" ورد شبهة المعتزلة وغيرهم
في فهم ذلك
473 - واعلمْ أنه قد يَجْري في العبارة منَّا شيءٌ، هو يُعيدُ
الشُّبهةَ جَذَعة عليهم، وهو أنَّه يقَعُ في كلامِنا أنَّ
"الفصاحةَ" تكونُ في المعنى دون اللفظ، فإذا سَمِعوا ذلك
قالوا: كيف يكونُ هذا، ونَحْنُ نَراها لا تَصْلُح صفةً إلاَّ
لِلَّفظِ، ونراها لا تَدخلُ في صفةِ المعنى البتَّةَ، لأنَّا
نرى الناسَ قاطبةً يقولون: "هذا لفظٌ فصيحٌ، وهذه ألفاظٌ
فصيحةٌ"، ولا نَرى عاقِلاً يقولُ: "هذا معنى فصيحٌ، وهذهِ
معانٍ فِصاحٌ". ولو كانتِ "الفصاحةُ" تكونُ في المعنى، لكانَ
ينبغي أن يقال ذلك، كما أنا لمَّا كان الحُسْنُ يكونُ فيهِ
قيل: "هذا معنى حَسَنٌ، وهذه معانٍ حَسَنَةٌ".
وهذا شيء يَأخُذُ من الغِرِّ مأخذاً: والجوابُ عنه أنْ يُقالَ:
إنَّ غَرَضَنا مِن قولنا: "إنَّ الفصاحةَ تكونُ في المعنى"،
أنَّ المزيَّةَ التي مِنْ أجلها استحق اللفظ الوصف بأنه
"فصيح"، هي في المعنى دون اللفظ، لأنه لو كانت بها المزية التي
__________
1 السياق "لا ترى ظنًا هو أنأى بصاحبه .... من ظنهم هذا ... ".
(1/400)
من أجلها يستحق اللفظ الوصف بأنه فصيح،
تكونُ فيه دونَ معناهُ1، لكان ينبغي إِذا قلنا في اللفظةِ:
"إِنها فصيحةٌ"، أن تكونَ تلك الفصاحة واجبة لها بكل حالي.
ومعلومٌ أنَّ الأمْرَ بخلافِ ذلك، فإنَّا نَرى اللفظةَ تكونُ
في غايةِ الفصاحةِ في موضعٍ، ونَراها بِعَيْنِها فيما لا
يُحْصى من المواضِع وليس فيها مِن الفصاحةِ قليلٌ ولا كثيرٌ2.
وإِنما كان كذلك، لأنَّ المزيَّةَ التي مِنْ أجْلها نَصِفُ
اللفظَ في شأننا هذا بأنه فصيحٌ، مزيةٌ تحدث من عبد أنْ لا
تكونَ، وتظهرُ في الكَلِم من بَعْدِ أنْ يَدخُلَها النظْمُ.
وهذا شيءٌ إِن أنتَ طلَبْتَه فيها وقد جئْتَ بها أفراداً لم
تَرُمْ فيها نَظْماً، ولم تُحْدِث لها تأليفاً، طلبْتَ
مُحالاً. وإِذا كان كذلك، وَجَبَ أن يعلم قطعًا وضورة أنَّ تلك
المزيةَ في المعنى دونَ اللفظِ.
474 - وعبارةٌ أُخرى في هذا بعينِه، وهي أن يُقال: قد علِمْنا
عِلْماً لا تَعْترِضُ معَه شُبْهةٌ: أنَّ "الفصاحةَ" فيما نحنُ
فيه، عبارةٌ عن مزيَّةٍ هي بالمتكلِّم دونَ واضِع اللغةِ. وغذا
كان كذلك، فينبغي لنا أنْ ننظُرَ إِلى المتكلم، هل يستطيعُ أن
يَزيد مِنْ عنْدِ نفْسِه في اللفظِ شيئاً ليس هو له في اللغة،
حتى يَجعَلَ ذلك من صَنيعِه مزيةً يُعبَّر عنها بالفصاحة؟
وإِذا نظَرْنا وجَدْناه لا يستطيعُ أن يصْنَعَ باللفظِ شيئاً
أصْلاً، ولا أن يحدث فيها وصفًا. كيف؟ وهو إن فعل.
__________
1 الذي كان في المطبوعة: " ... التي من أجلها استحق اللفظ بأنه
فصيحٌ، عائدةٌ في الحقيقةِ إِلى معناه، ولو قيل إِنها تكونُ
فيه دونَ معناهُ، لكان ينبغي". أسقط ما بين الكلامين كما ترى،
والذي أثبتناه هو الصواب المحض، كما هو في "ج" و "س" وفي نسخة
بغداد التي أشار إليها رشيد رضا، ونقل نصها مطابقًا لما في
مخطوطتينا.
2 سها كاتب "ج" فأسقط بعض اللفظ فساق الكلام هكذا: "تكون في
غاية الفصاحة قليل ولا كثير".
(1/401)
ذلك أفسَدَ على نفسِه، وأبطلَ أن يكونَ
متكلِّماً، لأنه لا يكون متكلِّماً حتى يَسْتَعمِل أوضاعَ لغةٍ
على ما وضعت عليه1.
وإذا ثبت في حالِه أنه لا يستطيعُ أن يَصْنع بالألفاظِ شيئاً
ليس هو لها في اللغة، وكنَّا قد اجتمعْنا على أنَّ "الفصاحةَ"
فيما نحن فيه، عبارةٌ عن مزيةٍ هي بالمتكلِّم البتَّةَ وجب أن
تعلم قطعًا وضورة أنَّهم وإِن كانوا قد جَعَلوا "الفصاحةَ" في
ظاهرِ الاستعمالِ مِنْ صفةِ اللفظِ، فإِنَهم لم يَجْعلوها
وصْفاً له في نفسه، ومِن حيثُ هو صدى صوتٍ ونطقُ لسانٍ، ولكنهم
جَعلُوها عبارة عن مزية أفادها المتكلم في المعنى، لأنه إذا
كان اتفاقًا أنها عبارة عن مزية أفادها المتكلم، ولم نره أفاد
في اللفظِ شيئاً، لم يَبْقَ إِلا أنْ تكون عبارة عن مزية
أفادها المتكلم، ولم نره أفاد في اللفظِ شيئاً، لم يَبْقَ إِلا
أنْ تكون عبارة عن مزية أفادها في المعن2.
"فصاحة اللفظ"، لا تكون مقطوعة بل موصولة بغيرها مما يليها:
475 - وجملةُ الأمْرِ أنَّا لا نُوجِبُ "الفصاحَة" لِلْفَظةٍ
مقطوعةٍ مرفوعةٍ من الكلامِ الذي هي فيه، ولكنا نوجبها لفها
موصولةً بغيرها، ومعلَّقاً معناها بمعنى ما يَليها. فإِذا قلنا
في لفظةِ "اشتعل" مِنْ قولِه تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ
شَيْبًا} [مريم: 4]، إنها في أعلى رتبة من الفصاحة3، لم توجب
تلك
__________
1 في المطبوعة: "على ما وضعت هي عليه"، زيادة بلا طائل.
2 في "ج"، أسقط الكاتب سهوًا ما ترى هنا فاختل المعنى. كتب:
"ولكنهم جعلوها عبارة عن مزية أفادها في المعنى. وجملة الأمر"
وأما في المطبوعة فقد أسقط أيضًا وكتب: "ولكنهم جَعلُوها
عبارةً عن مزيةٍ أفادَها المتكلِّمُ، ولمَّا لم تَزِدْ إفادتُه
في اللفظِ شيئاً لم يَبْقَ إِلا أنْ تَكونَ عبارة عن مزية في
المعنى"، وهذا لا شيء.
3 في المطبوعة وحدها "أعلى المرتبة".
(1/402)
"الفصاحةَ" لها وحَدْها، ولكِنْ موصولاً
بها "الرأسُ" معرَّفاً بالألف واللام، ومَقْروناً إليهما
"الشيبُ" منكَّراً منصوباً.
476 - هذا، وإِنما يقعُ ذلك في الوَهْم لِمَنْ يَقَعُ له أعني
أن يوجب الفصاحةُ للَّفظةِ وحدَها1 فيما كان "استعارةً"،
فأمَّا ما خَلاَ منَ الاستعارةِ من الكلامِ الفصيح البليغِ،
فلا يَعْرِض توهُّمُ ذلك فيه لعاقلٍ أصْلاً.
أفلا تَرَى أنه لا يقَعُ في نفسِ مَن يَعْقِلُ أدنى شيءٍ، إِذا
هو نظَرَ إِلى قولهِ عزَّ وجلَّ: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ
عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4]،
وإلى إِكبارِ الناس شأنَ هذه الآيةِ في الفصاحة، أن يضَعَ
يدَهُ على كلمةٍ كلمةٍ منها فيقولَ: "إِنها فصيحة؟ " كيفَ؟
وسبَبُ الفصاحةِ فيها أمور لا شك عاقلٌ في أنها معنويَّةٌ:
أوَّلُها: أنْ كانت "على" فيها متعلقةً بمحذوفٍ في موضِع
المفعولِ الثاني.
والثاني: أنْ كانت الجملةُ التي هي "هُم العدوُّ" بعْدَها
عاريةً من حرفِ عطفٍ.
والثالث: التعريفُ في "العدوِّ" وأنْ لم يقل: "هُمْ عدوٌّ".
ولو أنك علَّقْتَ "على" بظاهرٍ، وأدخلْتَ على الجملة التي هيَ
"هم العدوُّ" حرف عطف، وأسقطت "الألف والألام" من "العدو"
فَقُلْتَ: "يحسَبُون كلَّ صيحةٍ واقعة عليهم، وهُمْ عدوٌّ"،
لرأيتَ الفصاحةَ قد ذهبتْ
__________
1 السياق: "إنما يقعُ ذلك في الوَهْم لِمَنْ يَقَعُ له ...
فيما كان استعارة".
(1/403)
عنها بأسْرها، ولو أنك أخْطَرْتَ ببالِكَ
أنْ يكونَ "عليهم" متعلِّقاً بنَفْس "الصَّيحة"، ويكونَ حالُه
معها كحالِه إِذا قلتَ: "صحْتُ عليه". لأخرجْتَه على أنْ يكونَ
كلاماً، فضْلاً عن أن يكونَ فصيحًا. وهذا هو الفيصل لمن عقل.
القول في "مات حتف أنفه":
477 - ومِنَ العجيبِ في هذا، ما رُويَ عن أمير المؤمنين عليِّ
رضوانُ اللهُ عليه أنه قال: "ما سَمِعتُ كلمةً عربيةً مِن
العَربِ إلاَّ وسمعْتُها من رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم،
وسمِعْتُه يقول: "مات حتْفَ أنفِهِ"، وما سمعتُها من عَربيٍّ
قبله"1 لا شُبْهَةَ في أنَّ وصْفَ اللفظِ "بالعربيّ" في مثْلِ
هذا يكون في
__________
1 هذا خبر مشهور نسبته إلى علي رضي الله عنه، ولكن لم أقف عليه
منسوبًا إلى على في غير كتب الأدب، وإنما هو من حديث عبد الله
بن عتيك رضي الله عنه، وهو في مسند أحمد: 4: 36 من زيادات ابنه
عبد الله قال:
"حدثنا عبد الله، حدثي أبي، حدثنا يزيد بن هرون قال: أنبأنا
محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن محمد بن عبد
الله بن عتيك، أحد بني سلمة، عن أبيه عبد الله بن عتيك قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خرج من بيته
مجاهدًا في سبيل الله عز وجل ثم قال بأصابعه هؤلاء، الثلاث،
الوسطى والسبابة والإبهام، فجمعهن، وقال: وأين المجاهدون فخر
عن دابته ومات، فقد وقع أجره على الله، أو لدغته دابة فمات،
فقد وقع أجره على الله أو مات حتف أنفه، فقد وقع أجره على الله
عز وجل والله" إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول
الله صلى الله عليه وسلم "فمات فقد وقع أجره على الله، ومن مات
قعصًا فقد استوجب المآب".
وانظر أيضًا ترجمة "عبد الله بن عتيك" رضي الله عنه في أسد
الغابة، وانظر أيضًا غريب، الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام 2:
67، 68.
(1/404)
معنى الوصْف بأنه فصيحٌ. وإِذا كانَ الأمرُ
كذلك، فانظُرْ هل يَقَعُ في وهْم مُتوهِّم أنْ يكونَ رضيَ
اللهُ عنه قد جعَلَها "عربيةً" مِنْ أجْل ألفاظِها؟ وإِذا
نظرْتَ لم تشك في ذلك.
بيان آخر في "النظم" وتوخي معاني النحو:
478 - واعلمْ أنكَ تَجِدُ هؤلاءِ الذين يَشكُّون فيما قلناه،
تجري على ألسنتهم ألفاظٌ وعباراتٌ لا يَصِحُّ لها معنى سِوى
توخِّي معاني النحو وأحكامِه فيما بَيْن معاني الكَلِم، ثم
تَراهُمْ لا يَعْلَمون ذلك.
فمِن ذلك ما يقولُه الناسُ قاطبةً من أنَّ العاقلَ يُرتِّبُ في
نفسِه ما يُريد أن يَتكلَّم به. وغذا رجَعْنا إِلى أنفُسِنا لم
نَجِدْ لذلك معنىً سوى أنه يَقْصِدُ إِلى قولِكَ "ضَرَبَ"
فيجعلُه خبراً عن "زيدٍ"، ويجعلُ "الضرْبَ" الذي أخْبَرَ
بوقوعِه منه واقعاً على "عمروٍ" ويجعلُ "يومَ الجمعةِ" زمانَه
الذي وقَعَ فيه، ويجعَلُ "التأديبَ" غرَضَه الذي فعَل
"الضَرْبَ" من أجْله، فيقولُ: "ضَرَبَ زيدٌ عَمراً يومَ
الجمعةِ تأديباً له". وهذا كما تَرى هُو تَوخِّي معاني النحو
فيما بين معاني هذه الكَلِم.
ولو أنك فرضْتَ أنْ لا تتوخَّى في "ضرَب" أن تَجْعَلَه خبراً
عن "زيدٍ" وفي "عمرو" أن تجعله مفعولاً به الضرب، وفي "يومِ
الجمعة" أن تَجْعله زماناً لهذا الضرْب، وفي "التأديبِ"، أنْ
تَجعله غَرَض زيدٍ من فعلٍ الضرب ما تصوِّرَ في عقلٍ، ولا
وَقَع في وَهْم، أن تكونَ مرتِّباً لهذه الكَلِم، وإذْ قد
عرفْتَ ذلك، فهو العِبْرةُ في الكلام كلِّه، فمَنْ ظَنَّ ظناً
يؤدِّي إِلى خِلافِه، ظَنَّ ما يخرُج به عن المعقول.
ومِنْ ذلك إثباتُهم التعلُّقَ والاتِّصالَ فيما بينَ الكلم
وصواحِبها تارة،
(1/405)
ونفيهم لهما أُخْرى. ومعلومٌ علْمَ
الضرورةِ أنْ لن يُتصوَّرَ أن يكونَ لِلَّفظِةِ تعلُّقٌ بلفظةٍ
أُخرى من غير أن يعتبر حال معنى هذا مع معنى تِلكَ، ويُراعى
هناك أمرٌ يصلُ إحداهما بالأُخرى، كمراعاةِ كون: "نَبْكِ"،
جواباً للأمر في قوله: "قفانبك"، وكيف بالشك في ذلك؟ ولو كنت
الألفاظُ يتَعلَّقُ بعضُها ببعضٍ من حيثُ هي ألفاظٌ، ومع
اطِّراح النظرِ في معانيها، لأدَّى ذلك إلى أنْ يكونَ الناسُ
حينَ ضَحِكوا مَّما يصنَعُه المجان من قراءة أنصافِ الكتب،
ضَحِكوا عن جهالةٍ، وأن يكونَ أبو تمام قد أخطأ حين قال:
عَذَلاً شَبيهاً بالجنونِ كأَنَّما ... قرأتْ بِهِ الوَرْهاءُ
شَطْرَ كتابِ1
لأنَّهم لم يَضْحكوا إلاَّ من عَدمِ التعلُّقِ، ولم يجعلْهُ
أبو تمام جُنوناً إلاَّ لذلك. فانظرْ إِلى ما يلزَمُ هؤلاءِ
القوم من طرائف الأمور.
__________
1 هو في ديوانه.
(1/406)
|