دلائل الإعجاز ت شاكر

فصل آخر في أن الفصاحة والبلاغة للمعاني:
فصل: آفة وشبهة في مسألة التعبير عن المعنى بلفظين أحدها فصيح، والآخر غير فصيح
496 - قد أردتُ أنْ أُعيدَ القولَ في شيءٍ هو أصل الفساد ومعظم الآفة، والذيصار حجازاً بين القوم وبَيْنَ التأمُّل، وأخذَ بهم عن طريق النظرِ، وحالَ بينهُم وبينَ أنْ يُصْغُوا إِلى ما يقاَلُ لهم، وأنْ يفتحوا للذي تُبيَّنُ أعينُهم، وذلك قولهُم: "إنَّ العقلاءَ قدِ اتَّفقوا على أنَّه يصِحُّ أنْ يُعبَّر عن المعنى الواحدِ بلفظَينْ، ثم يكونُ أحدُهما فصيحاً، والآخرُ غيرَ فصيحٍ. وذلك، قالوا، يقتضي أن يكونَ لِلَّفظِ نصيبٌ في المزيَّة، لأنها لو كانت مقصورةً على المعنى، لَكان مُحالاً أَنْ يُجعَلَ لأحدِ اللفظَيْنِ فضْلٌ على الآخَر، مع أَنَّ المعبَّرَ عنه واحد".
وهذا شيءٌ تراهُم يُعْجَبون به ويكثروت تردداه، مع أَنهم يؤكَّدونه فيقولون: "لولا أَنَّ الأمرَ كذلك، لكانَ يَنْبغي أنْ لا يكونَ للبيتِ من الشِّعْر فَضْلٌ على تفسيرِ المفسِّر له، لأنه إِن كان اللفظُ إنما يَشْرُفُ مِن أجل منعناه، فإنَّ لفظَ المفسِّر يأتي على المعنى ويؤديه لا محالة، إِذ لو كان لا يؤدِّيه، لكان لا يكونُ تفسيراً له".
ثم يقولون: "وإِذا لزِمَ ذلكَ في تفسيرِ البيتِ من الشِّعْر، لَزمَ مثْلُه في الآيةِ مِنَ القرآنِ" وهُم إِذا انتَهَوْا في الحِجَاج إِلى هذا الموضِع، ظَنُّوا أنهم قد أَتَوْا بما لا يجوزُ أن يُسْمَعَ عليهم معه كلامٌ1، وأنَه نقض ليس بعده إبراهيم، وربما
__________
1 "معه" ليست في "ج"، وفي هامش "س" كتب: "معه"، وكتب فوقها: "لعله"، يريد أن يقول: إن العبارة أجود استقامة إذا زاد "معه"، فكتبها رشيد رضا: "أن يسمع معه لعلة كلام"، فأتى بشيء غريب طريف جدًا.

(1/421)


أَخْرجَهُمُ الإعجابُ به إِلى الضَّحكِ والتعجُّبِ ممَّنْ يرى أن إلى الكلام عليه سبيلًا، وأنه يَسْتطيعَ أنْ يُقيمَ على بُطْلانِ ما قالوه دليلاً.
497 - والجوابُ، وبالله التوفيق، أنْ يُقالَ للمحتجِّ بذلك: قولُك إِنه يَصِحُّ أنْ يُعبَّر عن المعنى الواحدِ بلفظَيْن، يَحْتمِلُ أمرَيْن:
أحدهما: أَن تُريدَ باللفظَيْن كَلِمتَيْنِ مَعْناهُما واحِدٌ في اللغة، مثل "الليث" و "الأسد"، ومثل "شحط" و "بعد"، وأشباهٍ ذلك ممَّا وُضِع اللفظان فيه لِمعْنى.
والثاني: أن تُريد كلامَيْن.
فإنْ أردْتَ الأَوَّلَ خرجْتَ من المسأَلة، لأنَّ كلامَنا نحْنُ في فصاحةٍ تَحْدُثُ مِن بَعْد التأليفِ، دونَ الفصاحة التي تُوصَفُ بها اللفظةُ مفردةً، ومن غير أن يُعْتَبر حالُها مع غيرها.
وإنْ أردْتَ الثاني، ولابد لك مِنْ أَنْ تُريده، فإنَّ ههنا أصْلاً، مَنْ عَرَفَهُ عَرَف سقوطَ هذا الاعتراض. وهو أنْ يَعْلَم أنَّ سبيلَ المعاني سَبيلُ أَشكالِ الحُليِّ، كالخاتَم والشَّنْفِ والسِّوار، فكما أَنَّ مِنْ شأْنِ هذه الأشكالِ أن يكونَ الواحدُ منها غُفْلاً ساذجاً، لم يعمل صانعُه فيه شيئًا أكثر من أن أتى بما يَقْعُ عليه اسْمُ الخاتَمِ إِن كان خاتماً1، والشَّنْفِ إِن كان شَنْفاً، وأن يكونَ مصنوعاً بديعاً قد أَغْرَب صانعُه فيه. كذلك سبيلُ المعاني، أن تَرى الواحدَ منها غُفْلاً ساذجاً عامياً موجوداً في كلام الناس كُلِّهمِ، ثم تَراه نفْسَه وقد عَمَد إِليه البَصيرُ بشأنِ البلاغةِ وإِحداثِ الصُّوَرِ في المعاني، فيَصْنَعُ فيه ما يصنع الصنع الحاذق،
__________
1 في المطبوعة وحدها: "أن يأتي بما يقع ... ".

(1/422)


حتى يُغْرِبَ في الصنعةِ، ويُدِقَّ في العمل، ويُبْدِعَ في الصياغَة. وشواهدُ ذلك حاضِرةٌ لك كيف شئت، وأمثلته نصب عينك من أينَ نظَرْتَ.
تنظرُ إِلى قول الناس: "الطبع لا يتغير"، و "لست تَسْتطيعُ أَنّ تُخْرِجَ الإنسانَ عمَّا جُبِلَ عليه"، فترَى معنى غُفَلاً عامياً معروفاً في كل جيلٍ وأمه، ثم تنظرُ إِليه في قولِ المتنبي:
يُرادُ مِنَ القلبِ نِسْيانُكُمْ ... وتَأْبى الطباعُ عَلَى الناقِلِ1
فتَجدُه قد خَرجَ في أحْسَنِ صورة، وترَاه قد تَحوَّلَ جوهرةً بعد أنْ كانَ خَرْزةً، وصارَ أعجبَ شيءٍ بعد أنْ لم يكن شيئًا.
رد شبهة المعتزلة هذه وفساد قولهم، وهو فصل جيد:
498 - وإذْ قد عرَفْتَ ذلك، فإِن العقلاءَ إِلى هذا قصَدُوا حين قالوا: "إِنه يَصِحُّ أنْ يُعبَّر عن المعنى الواحدِ بلفظَينْ، ثم يكونُ أحدُهُما فصيحاً والآخرُ غيرَ فَصيح"، كأنَّهم قالوا: إنه يصح أن تكون ههنا عبارتان أَصْلُ المعنى فيهما واحدٌ، ثم يكونُ إحداهما في تحسين ذلك المعنى وتزينه، وإِحداثِ خصوصيةٍ فيه تأثيرٌ لا يكونُ للأُِخْرى.
499 - واعلمْ أَن المخالِفَ لا يَخْلو مِنْ أنْ ينكر أن يكون للمعنى إحدى العبارتَيْن حسْنٌ ومزيةٌ لا يكونان له في الأخرى، وأنْ تَحْدُثَ فيه على الجملةِ صورةٌ لم تكُن2 أو يُعْرف ذلك.
فإنْ أَنكرَ لم يُكلم، لأنه يؤديه إِلى أن لا يجعلَ لِلمعنى في قوله:
__________
1 هو في ديوانه.
2 السياق: " .... أَن المخالِفَ لا يَخْلو مِنْ أنْ يُنْكِر .... أو يعرف".

(1/423)


وتأتي الطباعُ على النَّاقلِ
مزيةٌ على الذي يُعقَل من قولهم: "الطبع لا يتغير"، و "لا يَستطيعُ أنْ يُخرجَ الإنسانَ عما جُبِل عليه" وأن لا يرى لقول أبي نواس:
وليس الله بِمُسْتَنْكَرٍ ... أنْ يَجْمَع العالَمَ في واحدِ1
مزيةٌ على أنْ يُقال: "غيرُ بديع في قدرةِ اللهِ تَعالى أن يَجْمعَ فضائِلَ الخَلْقِ كلَّهم في رجُلٍ واحدٍ" ومَن أَدَّاهُ قولٌ يقوله إِلى مثل هذا، كان الكلامُ معه مُحالاً، وكنتَ إِذا كلَّفْتَه أَنْ يعرفَ، كَمَنْ يكلَّفُ أن يميز بحوز الشعرِ بعضِها من بعضٍ، فيَعْرفَ المديدَ من الطويلِ، والبسيطَ من السريع2 مَنْ ليس له ذوقٌ يُقيمُ به الشِّعْرَ مِن أَصْلِه.
وإِنْ اعترفَ بأَنَّ ذلك يكون، قلنا له: أَخْبِرْنا عنكَ، أَتقولُ في قوله:
وتَأْبى الطباعُ على الناقلِ
إنَّهُ غايةٌ في الفصاحة؟ فإِذا قالَ: نعم. قيلَ له: أفكانَ كذلك عندكَ من أجْلِ حروفِه، أمْ من أجْلِ حُسْنٍ ومزيةٍ حَصَلا في المعنى؟ فإِن قال: مِنْ أَجْل حُروفه: دخلَ في الهذيان وإِنْ قال: من أجل حُسْنٍ ومزيّةٍ حصَلا في المعنى، قيل له: فذاكَ ما أَردْناكَ عليه حين قلْنا: إِن اللفظَ يكونُ فَصيحاً من أجْل مزيةٍ تقعُ في معناه، لا مِنْ أجْل جَرْسِه وصداه.
"التشبيه"، يكشف شبهة المعتزلة:
500 - واعلمْ أنه ليس شيءٌ أبْيَن وأوْضَحَ وأَحْرى أن يكشف الشبهة
__________
1 هو في ديوانه، وكتبه في المطبوعة هنا وفيما بعد: "ليس على الله بمستنكر".
2 السياق: "كمن يكلف. من ليس له ذوق ... ".

(1/424)


عن متأمِّلهِ في صحَّةِ ما قلناه1، مِن "التشبيهِ". فإنكَ تقولُ: "زيدٌ كالأسَدِ" أو "مثلَ الأسدِ" أَوْ "شبيهٌ بالأسدِ"، فتجدُ ذلكَ كلَّه تشبيهاً غُفْلاً ساذَجاً ثم تقولُ: "كأنَّ زيداً الأَسَدُ"، فيكونُ تشبيهاً أيضاً، إلاَّ أَنك تَرى بَيْنَه وبينَ الأولِ بَوْناً بعيداً، لأنك تَرى له صورةً خاصةً، وتَجِدُكَ قد فخَّمْتَ المعنى وزدْتَ فيه، بإنْ أفدْتَ أَنه مِن الشجاعةِ وشدةِ البطْشِ، وأَنَّ قلْبَه قلبٌ لا يُخامِرُه الذعْرُ ولا يَدخلُه الروْعُ، بحيثُ يتوهَّم أَنه الأَسَدُ بعينه ثم تقول: "لَئنْ لقِيتَهُ لَيَلْقَينَّكَ منه الأَسَدُ"، فتَجدُه قد أفادَ هذه المبالغةَ، لكنْ في صورةٍ أحْسَنَ، وصِفَةٍ أخَصَّ، وذلك أَنك تَجْعَلهُ في "كأن"، يتوهَّم أَنه الأسَدُ، وتَجعلُه ههنا يُرى منه الأسدُ على القطع، فيَخرُجُ الأَمرُ عن حدِّ التوهُّم إِلى حدِ اليقينِ ثم إِن نظرت إلى قوله:
أَإِن أُرعِشَتْ كفَّا أبيكَ وأصْبَحَتْ ... يداكَ يدَيْ لَيْثٍ فإنَّكَ غالِبُهْ2
وجدَتهُ قد بَدا لكَ في صورةٍ أنقَ وأحْسَنَ ثم إِن نظرْتَ إلى قول أرطاة ابن سهية:
إن تلقني لا ترى غير بِنَاظرةٍ ... تنسَ السِّلاحَ وتعْرِفْ جبهةَ الأَسدِ3
وجدْتَه قد فضَلَ الجميعَ، ورأيتَه قد أُخْرِجَ في صورة غير تلك الصور كلها.
__________
1 السياق: "ليس شيء أبين وأوضح ... من التشبيه ... ".
2 الشعر للفرزدق في ديوانه، وفي الأغاني 21: 327، "الهيئة"، وروايته: "فإنك جاذبه".
3 مطلع شعر له في الأغاني، وقد مضى رقم: 235.

(1/425)


شبهة المعتزلة في قولهم "اللفظ" واستدلالهم بأن تفسير الشعر يجب أن يكون كالمفسر. ورد الشبهة:
501 - واعلمْ أَنَّ من الباطلِ والمُحالِ ما يَعْلمُ الإنسانُ بُطلانَه واستحالتَه بالرجوعِ إِلى النفْس حتى لا يَشُكّ. ثم إِنه إِذا أرادَ بيانَ ما يجِدُ في نفْسِه والدلالةِ عليه، رأَى المَسْلكَ إِليه يَغْمُضُ ويَدِقُّ. وهذه الشبهةُ أعني قولَهم: "إِنه لو كان يجُوزُ أنْ يكونَ الأمرُ على خلافِ ما قالوه مِن أَنَّ الفصاحةَ وصْفٌ لِلَّفظِ مِنْ حيثُ هو لفظٌ، لكانَ يَنْبغي أنْ لا يكونَ للبيتِ من الشعرِ فضْلٌ على تَفسير المفسِّر"1، إِلى آخره2 من ذاك. وقد علقتْ لذلك بالنفوس وقَويتْ فيها، حتى إنَّكَ لا تلقى إِلى أَحدٍ من المتعلِّقين بأمرِ "اللفظ" كلمةً مما نحنُ فيه، إلاَّ كان هذا أوَّلَ كلامهِ، وإِلاَّ عَجِبَ وقال: "إِنَّ التفسيرَ بيانٌ للمفسَّر، فلا يجوز أنْ يبَقى مِنْ معنى المفسَّر شيءٌ لا يؤدِّيه التفسيرُ، ولا يأتي عليه، لأنَّ في تجويزِ ذلك القولِ بالمُحالِ، وهو أن لا يزالَ يَبْقى مِن معنى المفسَّرِ شيءٌ لا يَكونُ إِلى العلم به سبيلٌ. وإِذا كان الأمرُ كذلك. ثبَتَ أنَّ الصحيحَ ما قلْناه، من أنه لا يجوزُ أن يكونَ لِلَّفظِ المفسَّر فضْلٌ من حيثُ المعنى على لفظِ التفسير. وإذا لم يجز أن يكونه الفضلُ من حيثُ المعنى، لم يَبْقَ إلاَّ أنْ يكونَ من حيثُ اللفَظُ نفسُه".
فهذا جملةُ ما يمكِنهُم أنْ يقولوه في نُصْرة هذه الشبهةِ، قد استقصيْتُه لكَ. وإِذ قد عرفْتَه فاسمَعِ الجوابَ. وإِلى اللهِ تعالى الرغبةُ في التوفيق للصواب.
502 - إعلمْ أنَّ قولَهم: "إنَّ التفسيرَ يجبُ أنْ يكونَ كالمفسَّر"، دعوى لا تَصِحُّ لَهم إلاَّ مِن بعْدِ أنْ يُنْكِروا الذي بيَّناه، مِنْ أنَّ مِن شأْن المعاني أن تختلف.
__________
1 انظر قولهم فيما سلف: رقم: 496.
2 السياق: وهذه الشبهة ... من ذاك".

(1/426)


بها الصور، ويدفعوه أصلًا، وحتى يدعوا أنه لا فرق بين "الكناية" و "التصريح"، وأنَّ حالَ المعنى مع "الاستعارةِ" كحالهِ مع تَرْك الاستعارة، وحتى يُبْطلوا ما أَطْبَقَ عليه العقلاءُ مِن أنَّ "المجازَ" يكونُ أبداً أبلغَ من الحقيقة، فَيْزعموا أنَّ قولنا: "طويل النجاد" و "طويل القامةِ" واحدٌ، وأنَّ حال المعنى في بيت ابن هرمة.
وَلا أبتاعُ إلا قريبةَ الأجَلِ1
كحالهِ في قولك: أنا مضيافٌ وأَنَّك إِذا قلتَ: "رأيتُ أسداً"، لم يكنِ الأمرُ أقوى من أَنْ تقولَ: "رأيتُ رجلاً هو مِنَ الشجاعةِ بحيثُ لا ينقصُ عن الأَسد"، ولم تكنْ قد زدتَ في المعنى بأنِ ادَّعيتَ له أنَّه أسَدٌ بالحقيقة ولا بالغْت فيه2 وحتَّى يَزْعمُوا أنه لا فضلَ ولا مزيةَ لقولهم: "أَلقيتُ حَبْلَه على غارِبِه"، على قولك في تفسيره: "خلَّيتُهُ وما يريدُ، وتركْتُه يفَعلُ ما يشاءُ" وحتَّى لا يَجعلوا لِلمعنى في قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93]، مزيةً على أن يقال: "اشتدَّتْ محبتُهم للعجْلِ وغلَبَتْ على قلوبهم"، وأن تكونَ صورةُ المعنى في قولِه عزَّ وجل: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4]، صورتَه في قولِ من يقولُ: "وشابَ رأسي كله" و "أبيض رأْسي كلُّه" وحتى لا يَرَوْا فرْقاً بين قولِه تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16]، وبينَ: "فما رَبِحوا في تجارَتِهم" وحتى يَرْتكبوا جميعَ ما أرَيْناك الشَّناعةَ فيه، من أنْ لا يكون فرق بين قول المتنبي:
__________
1 سلف بيت ابن هرمة برقم: 311، 365، 369.
2 في "ج" والمطبوعة: "ولم تكن قدرت في المعنى"، وهو سيء.

(1/427)


وتَأْبى الطباعُ على الناقلِ1
وبينَ قولهم: "إِنك لا تَقدِرُ أن تغيِّر طبَاعَ الإِنسان" ويَجْعلوا حالَ المعنى في قولِ أبي نواس:
ولَيْسَ للهِ بمستنكَرٍ ... أنْ يَجْمَع العالَمَ في واحدِ2
كحالهِ في قولِنا: "إِنه ليس ببديعٍ في قُدْرة الله أن يجع فضائلَ الخَلْقِ كلِّهم في واحد" ويرتكبوا ذلك في الكلام كلِّه، حتى يَزْعموا أنَّا إِذا قلْنا في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} إنَّ المعنى فيها: "أنه لمَّا كان الإنسانُ إِذا هَمَّ بقَتْلِ آخَر لِشيءٍ غاظَهُ منه، فذَكَر أَنَّه إنْ قَتَله قُتِلَ ارتَدَعَ، صار المهمومُ بِقَتْله كأنه قد استفادَ حياةً فيما يستقبل بالقصاص3 كنا قد أدينا المعنى في تسيرنا هذا على صورتِه التي هو عليها في الآية، حتى لا نَعرفَ فضْلاً، وحتى يكونَ حال الآية والتفسير حال اللفظين إِحداهما غريبةٌ والأخرى مشهورة، فتفسَّرُ الغريبةُ بالمشهورةِ، مثلَ أن تقول مثلاً في "الشَّرجب" إِنه الطويلُ4، وفي "القطَّ" إِنه الكِتاب، وفي "الدُسُّرِ" إِنه المَسامير. ومَنْ صارَ الأمرُ به إِلى هذا، كان الكلامُ معه مُحالاً.
503 - واعلمْ أَنه ليس عجب أعجب من حال من يرى كلامين5،
__________
1 سلف برقم: 497.
2 سلف برقم: 499.
3 السياق: "حتى يَزْعموا أنَّا إِذا قلْنا في قوله تعالى ... كا قد أدينا".
4 في المطبوعة وحدها: "الشوقب".
5 في المطبوعة وحدها: "ليس عجيب".

(1/428)


أجزاءُ أحَدِهما مخالِفةٌ في معانيها لأجزاءِ الآخَر، ثم يَرى أنَّه يَسَعُ في العقْلِ أن يكونَ معنى أحَدِ الكلامَيْن مثْلَ معنى الآخر، سواء حتى يقعد فيقولُ1: "إِنه لو كانَ يكونُ الكلامُ فَصيحاً مِن أجْل مزيَّةٍ تكونُ في معناه، لكانَ يَنبغي أَن تُوجَد تلكَ المزيةُ في تفسيرهِ". ومثْلُه في العَجَب أنه يَنظُرُ إِلى قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُم} [البقرة: 16]، فيرَى إعرابَ الاسْم الذي هو "التجارةُ"، قد تغيَّر فصارَ مرفوعاً بعد أن كان مجروراً، ويرى أنهن قد حُذِفَ من اللفظ بعضُ ما كان فيهِ، وهو "الواوُ" في "ربحوا"، و "في" من قولنا: "في تجارتهم"، ثم لا يَعْلَم أنَّ ذلك يَقْتضي أنْ يكونَ المعنى قد تَغيَّر كما تغيَّر اللفظُ.
الكلام الفصيح قسمان: مزية اللفظ ومزية النظم
504 - واعلمْ أَنه ليسَ للحِجَجِ والدلائل في صحَّةِ ما نحنُ عليه حَدٍّ ونهايةٌ، وكلَّما انتهى منه بابٌ انفتَحَ فيه بابٌ آخر، وقد أردتُ أن آخذَ في نوعٍ آخرَ من الحِجَاج، ومن البَسْط والشرحِ، فتأملْ ما أكْتبُه لك.
505 - إعلمْ أَنَّ الكلامَ الفصيحَ ينقسمُ قسمين: قسمٌ تُعزى المزيةُ والحسْنُ فيه إِلى اللفظِ وقسمٌ يعزى ذلك فيه إلى النظم2.
__________
1 في المطبوعة وحدها: "حى يتصدى فيقول"، وفي هامش "س" عن نسخة: "يقصد".
2 يستمر الإمام عبد القاهر في كلامه، عن القسم الأول حتى ينتهي إلى رقم: 532، ثم يبدأ الكلام عن البقسم الثاني.

(1/429)


القسم الأول: "الكناية" و"الاستعارة" و"التمثيل على حد الاستعارة"
فالقسم الأول: "الكناية" و "الاستعارة" و "التمثيل الكائن على حَدِّ الاستعارة"، وكلُّ ما كان فيه، على الجملةِ، مَجازٌ واتساعٌ وعُدُولٌ باللفظ عن الظاهر، فما مِنْ ضَرْبٍ من هذه الضُّروب إلاَّ وهو إِذا وقَعَ على الصواب وعلى ما يَنْبغي، أوْجَبَ الفضْلَ والمزيَّةَ.
فإِذا قلتَ: "هو كثيرُ رمادِ القدْر"، كان له موقِعٌ وحظٌّ من القَبول لا يكون إِذا قلتَ: "هو كثيرُ القِرى والضِّيافة".
وكذا إِذا قلتَ: "هو طويلُ النِّجاد"، كان له تأثيرٌ في النفس لا يكون إِذا قلتَ: "هو طويلُ القامة".
وكذا إِذا قلتَ: "رأيتُ أسداً"، كان له مزيةٌ لا تكونُ إِذا قلتَ: "رأيتُ رجلاً يُشبهُ الأسدَ ويُساويه في الشجاعة".
وكذلك إِذا قلتَ: "أَراكَ تُقَدِّمُ رِجْلاً وتؤخِّرُ أخرى"، كان له موقعٌ لا يكون إِذا قلت: "أراد تتردَّدُ في الذي دعوتُكَ إِليه، كمَنْ يقولُ: أَخرجُ ولا أخرجُ، فيُقدِّم رِجْلاً ويؤُخِّر أُخرى".
وكذلك إِذا قلتَ: "أَلقى حبْلَه على غاربه"، كان له مأخَذٌ من القَلْب لا يكونُ إِذا قلتَ: "هو كالبعيرِ الذي يُلْقَى حَبْلُه على غاربة حتى يَرْعى كيْفَ يشاءُ ويذهَبَ حيثُ يُريد".
لا يَجْهَلُ المزيةَ فيه إلاَّ عديمُ الحِسِّ ميِّتُ النَّفْس، وإلاَّ مَنْ لا يكلم، لأنه من مبادئ المعرفةِ التي مَن عَدِمَها لم يَكنْ للكلام معه معنى.

(1/430)


النظر في "الكناية":
506 - وإذْ قد عرفْتَ هذه الجملةَ، فينبغي أنْ تنظر إلى هذ هالمعاني واحداً واحداً، وتعْرِفَ مَحْصولَها وحقائقَها، وأنْ تَنظُرَ أولاً إِلى "الكنايةِ"، وإِذا نظرْتَ إِليها وجدْتَ حقيقتهَا ومحْصولَ أمرِها أَنها إثباتٌ لِمعنىً، أنتَ تَعْرِفُ ذلك المعنى مِنْ طريقِ المعقولِ دونَ طَريق اللفظ. ألاَ ترى أَنكَ لَمَّا نظرْتَ إلى قولهم: "هو كثيرُ رَمادِ القِدْر"، وعرفْتَ منه أنَّهم أرادوا أَنه كثيرُ القِرى والضِّيافة، لم تعرِفْ ذلك مِنَ اللفظِ، ولكنَّك عرفْتَه بأن رجَعْتَ إِلى نَفْسك فقلتَ: إِنه كلامٌ قد جاء عنهم في المدح، ولا معنى للمدح بكثرة الرمادِ، فليس إِلا أَنَّهم أرادوا أن يَدلُّوا بكَثرْة الرماد على أَنه تُنْصَبُ له القدورُ الكثيرةُ، ويُطْبخ فيها للقِرى والضيافةِ، وذلك لأَنه إِذا كَثُرَ الطبخُ في القدورِ كثُرَ إحراقُ الحطَبِ تَحتَها، وإِذا كثُرَ إِحراقُ الحطَبِ كَثُرَ الرمادُ لا محالة. وهكذا السبيلُ في كلِّ ما كانَ "كنايةً" فليسَ مِنْ لَفْظِ الشعر عرفتَ أنَّ ابنَ هَرْمة أرادَ بقوله:
ولا أبتاعُ إِلاَّ قريبةَ الأجَلِ1
التمدُّحَ بأنه مضيافٌ، ولكنك عرفْتَه بالنَّظرِ اللطيفِ، وبأنْ علِمْتَ أنه لا معنى للتمدُّح بِظاهرِ ما يَدُلُّ عليه اللفظُ من قُرْبِ أجَلِ ما يَشْتريهِ، فطلبْتَ له تأويلاً، فعلمْتَ أَنه أرادَ أنه يَشْتري ما يَشْتريهِ للأَضياف، فإِذا أشترى شاةً أو بعيراً، كان قد اشترى ما قد دَنا أجلهُ، لأنه يُذْبحُ ويُنْحرُ عن قَريبٍ.
النظر في "الاستعارة":
507 - وإذا قد عرفْتَ هذا في "الكناية"، "فالاستعارةُ" في هذه القضية2. وذاكَ أنَّ موضوعَها على أنك تثبت بها معنى لا يعرف السامع ذاك المعنى من اللفظِ، ولكنَّه يَعرفُه من معنى اللفظ.
__________
1 مضى الشعر برقم: 502، ص: 426، تعليق: 1
2 "في هذه القضية"، يعني أنه القول في "الاستعارة" مشابه للقول في "الكناية".

(1/431)


بَيانُ هذا، أَنَّا نَعْلم أَنَّك لا تقولُ، "رأيتُ أسداً"، إِلاَّ وغَرضُكَ أَن تُثْبِتَ للرجُل أَنه مساوٍ للأَسد في شجاعته وجُرْأته، وشدَّة بطْشه وإقدامه، وفي أنَّ الذعْرَ لا يُخامرُه، والخوف لا يعرف له. ثم تَعْلم أَنَّ السامعَ إِذا عَقَل هذا المعنى لم يَعقِلْه من لفظِ "أسَد"، ولكنَّه يَعقِلُه من معناه، وهو أنه يَعْلم أَنه لا معنى لجعله "أسداً"، مع العلم بأنه "رجُل" إلاَّ أنك أردْتَ أنه بلغَ من شدة مشابهته للأسد وماواته إِياه، مبْلغاً يُتَوهَّم معه أَنه أَسدٌ بالحقيقة، فاعرفْ هذه الجملة وأحسن تأملها.
الاستعارة، يراد بها المبالغة لا نقل اللفظ عما وضع له في اللغة:
508 - واعلمْ أَنكَ تَرى الناسَ وكأنهم يرَوْن أَنك إِذا قلتَ: "رأيتُ أسَداً"، وأنتَ تُريد التشبيهَ، كنتَ نقلْتَ لفْظَ "أسدٍ" عما وُضع له في اللغة، واستعملْتَه في معنى غيرِ معناه، حتى كأنْ ليس "الاستعارةُ" إلاَّ أن تَعْمدَ إِلى اسْم الشيءِ فتجعلَه اسماً لشبيههِ، وحتى كأن لا فصل بين "الاستعارة"، وبين تسمة المطرِ "سماءً"، والنَّبتِ "غيثاً"، والمزادةِ "راوية"، وأشباهِ ذلك مما يوقع فيه اسم الشء على ما هو منه بسبَبٍ، ويَذْهبون عمَّا هو مركوزٌ في الطِّباع من أنَّ المعنى فيه المبالَغةُ1، وأَنْ يُدَّعى في الرجُل أَنه ليسَ برجُل، ولكنه أَسدٌ بالحقيقة، وأَنه إِنما يُعار اللفظُ مِنْ بَعْد أنْ يعارَ المعنى، وأَنه لا يُشْرَكُ في اسم "الأسدِ"، إلاَّ مِنْ بَعْد أن يُدْخَل في جنس الأَسدِ. لا تَرى أحداً يَعْقِل إِلاَّ وهُو يَعْرفِ ذَلك إِذا رجعَ إِلى نفسه أدنى رُجوعٍ.
ومِن أجْل أَنْ كانَ الأمرُ كذلك، رأيتَ العقلاءَ كلَّهم يُثْبِتون القولَ بأنَّ مِن شأْنِ "الاستعارةِ" أن تكونَ أبداً أَبلغَ من الحقيقة، وإِلا فإن كان ليس
__________
1 في المطبوعة وحدها: "المعنى فيها".

(1/432)


ههنا إِلا نقْلُ اسْم من شيءٍ إِلى شيءٍ، فمِنْ أينَ يَجبُ، ليتَ شعري، أَن تكونَ الاستعارةُ أبلغَ من الحقيقة، ويكونَ لِقَوْلنا: "رأيتُ أَسداً"، مزيةٌ على قولنا: "رأيتُ شبيهاً بالأسد"؟ وقد علمنا أنه محال أن يتغر الشيء في نسه، بأن يُنْقَل إِليه اسْمٌ قد وُضِع لِغيره1، من بَعْد أنْ لا يُرادَ مِن معنى ذلك الاسْم فيه شيءٌ بوجْهٍ من الوجوهِ2، بل يُجعلَ كأنه لم يُوضَعْ لذلك المعنى الأصليِّ أصْلاً. وفي أيِّ عَقْلٍ يُتَصوَّر أَنْ يتغيرَ معنى "شبيهاً بالأسد"، بأنْ يُوضَع لفظُ "أسدٍ" عليه، ويُنْقَلَ إِليه؟
509 - واعلمْ أنَّ العقلاءَ بنوا كلامهم، إذا قاسموا وشبَّهوا، على أنَّ الأشياءَ تستحِقُّ الأَسامي لِخَواصِّ معانٍ هي فيها دونَ ما عَداها، فإِذا أثبتوا خاصة شيء لشيء، أثبتوا له أسم، فإِذا جعَلوا "الرجُلَ" بحيثُ لا تَنقصُ شجاعتُه عن شجاعةِ الأَسد ولا يَعدمُ منها شيئاً، قالوا: "هو أَسد" وإِذا وصَفوه بالتَّناهي في الخيرِ والخصالِ الشريفة، أو بالحُسْن الذي يَبْهَرُ قالوا: "هو مَلَكٌ" وإِذا وصَفُوا الشيءَ بغاية الطِّيبِ قالوا: "هو مِسْك". وكذلك الحُكْم أبداً.
ثم إنَّهم إِذا استقْصَوْا في ذلك نفَوْا عن المشبَّه اسْمَ جنسِه فقالوا: "ليس هو بإنسانٍ، وإنما هو أسد"، و "ليس هو آدميّاً، وإِنما هو مَلكٌ"، كما قال الله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيم} [يوسف: 31].
__________
1 "من بعد أن يراد" فبعد "يراد" أسقط كاتب "س" كلامًا كثيرًا جدًا حتى تنتهي إلى أواخر رقم: 530، فكتب: "من بعد أن يراد إذا جئت به صريحًا فقلت"، كلامًا متصلًا كما ترى.
2 أسقط كاتب "ج" لفظ "شيء".

(1/433)


ثم إنْ لم يُريدوا أَنْ يُخرجُوه عن جنسِه جملةً قالوا: "هو أسَدٌ في صورةِ إنسان" و "هو ملَكٌ في صورةِ آدميٍّ" وقد خرَجَ هذا للمتنبي في أحْسَنِ عبارةٍ، وذلك في قوله:
نحنُ ركبٌ مِلْجِنّ في زِيّ ناسٍ ... فَوْقَ طَيْرٍ لها شُخُوصُ الجِمَالِ1
510 - ففي هذه الجملة بيانٌ لمن عَقَل أنْ ليستِ "الاستعارةُ" نْقْلَ اسْم عن شيءٍ إِلى شيءٍ، ولكنَّها ادِّعاءُ معنى الاسْمِ لشيءٍ، إِذ لو كانتْ نَقْلَ اسْمٍ وكان قولُنا: "رأيتُ أسداً"، بمعنى: رأيتُ شبيهاً بالأسد، ولم يكن ادِّعاءَ أَنه أسدٌ بالحقيقة لكانَ مُحالاً أنْ يُقال: "ليس هو بإنسانٍ، ولكنَّه أسدٌ" أو "هو أسدٌ في صورةِ إِنسان"، كما أنه محالٌ أن يقالَ: "ليس هو بإنسانٍ، ولكنَّه شبيهٌ بأَسد" أو يقالَ: "هو شَبيهٌ بأسَدٍ في صورة إِنسان".
511 - واعلمْ أَنه قد كثُرَ في كلامِ الناسِ استعمالُ لفظِ "النَّقْلِ" في "الاستعارة"، فمِنْ ذلك قولُهم: "إنَّ الاستعارةَ تعْليقُ العبارةِ على غير ما وُضِعَت له في أصْل اللغةِ على سبيل النَّقْل"2: وقال القاضي أبو الحسن3: "الاستعارةُ ما اكتُفيَ فيه بالاسْمِ المُستعار عن الأصليِّ، ونُقِلت العبارة فجعلت في مكان غيرها"4.
__________
1 هو في ديوانه: "ملجن"، الأجود أن تكتب "م الجن"، أي "من الجن"، وهو حذف في الحرف مشهور.
2 هذا هو نص لفظ الزماني في كتابه "النكت" في إعجاز القرآن"، ثلاث رسائل في إعجاز القرآن": 79.
3 هو القاضي الجرجاني، "أبو الحسن علي بن عبد العزيز"، صاحب "كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه".
4 هو نص كلام القاضي الجرجاني في الوساطة: 40 "طبعة صيدا"، وتما كلامه هو: "وملاكها: تقريب الشبه، ومناسبة المستعار له للمستعار منه، وامتزاج اللفظ بالمعنى حتى لا يوجد بينهما منافرة، ولا يتبين في أحدهما إعراض عن الآخر".
وانظر ما سيأتي رقم: 514.

(1/434)


ومن شأْنِ ماَ غَمُضَ من المعاني ولَطُف، أن يصْعُبَ تصويرُه على الوجْه الذي هو عليه لعامَّةِ الناس، فيقَعَ لِذلكَ في العبارات التي يُعبَّر بها عنه، ما يُوهمُ الخطَأ، وإطلاقُهم في "الاستعارةِ" أنها "نقلٌ للعبارَةِ عمَّا وُضِعت له"، من ذلك1، فلا يَصِحُّ الأَخذُ به. وذلك أَنك إذا كنتَ لا تُطْلِقُ اسْمَ "الأَسد" على "الرجُلِ"، إلاَّ مِنْ بَعْد أن تُدْخِلَه في جنسِ الأُسود من الجهة التي بيَّنَّا، لم تَكنْ نقلْتَ الاسمَ عما وُضِعَ له بالحقيقةِ، لأنكَ إنما تكونُ ناقِلاً، إِذا أنْتَ أَخرجْتَ معناهُ الأَصْليَّ من أنْ يكونَ مقصودَكَ، ونفَضْتَ به يدَك. فأَمَّا أنْ تكون اقلًا له عن معناه، مع إرادةِ معناهُ، فمحالٌ متناقض.
أمثلة على أن "النقل"، لا يتصور في بعض "الاستعارة":
512 - واعلمْ أنَّ في "الاستعارةِ" ما لا يُتصوْر تقديرُ النقلِ فيه البتَّةَ، وذلك مثلُ قولِ لبيد:
وغداة ربح قد كشفت وقرة ... إذا أصبحت بيد الشمال زمامها2
__________
1 السياق: "وإطلاقهم في الاستعارة ... من ذلك".
2 هو في ديوانه، وقد سلف برقم: 60.

(1/435)


"اليد" قد نُقِلِ عن شيءٍ إلى شيءٍ. وذلك أَنه ليس المعنى على أَنَّه شبَّه شيئاً باليد، فيمُكِنُكَ أن تزعُمَ أنه نقَل لفظ "اليد" إليه، وإنما لامعنى على أَنه أَراد أنْ يُثْبتَ للشَّمال في تصريفِها "الغداةَ" على طبيعتِها، شَبَهَ الإِنسان قد أَخذَ الشيءَ بيدِهِ يُقَلِّبهُ ويُصرِّفُه كيفَ يُريد. فلما أَثبتَ لها مثْلَ فعلِ الإنسانِ باليدِ، استعارَ لها "اليدَ". وكما لا يُمكِنُكَ تقديرُ "النقلِ" في لفظِ "اليَدِ"، كذلك لا يمكنْكَ أنْ تَجْعل الاستعارةَ فيه من صفةِ اللفظِ، ألا تَرى أَنه محالٌ أن تقول: إنه استعارَ لفظَ "اليد" للشَّمال؟ وكذلك سبيلُ نَظائرِه، مما تَجدُهم قد أَثبتُوا فيه للشيءِ عُضْواً مِن أعضاءِ الإِنسان، من أجْل إثباتهم له المعنى الذي يكونُ في ذلك العضو من الإنسان كبيت الحماسة:
إِذا هزَّهُ في عظْم قرنٍ تهلَّلتْ ... نواجذُ أفواهِ المنَايا الضواحِكِ1
فإنَّه لمَّا جعَل "المنايا" تضحَكُ، جعَل لها "الأَفواهَ والنواجِذَ" التي يكونُ الضحك فيها وكبيت المتنبي:
خَميسٌ بِشَرْقِ الأرضِ والغَرْبِ زَحْفُهُ ... وفي أُذُنِ الجَوْزاءِ منهُ زَمَازِمُ2
لمَّا جعَل "الجوزاءَ" تَسْمعُ على عادتِهم في جعْل النجومِ تَعْقِلُ، ووصْفِهم لها بما يوصف به الأناسيُّ أثْبَتَ لها "الأُذُنَ" التي بها يكونُ السمع من الأناسي.
__________
1 الشعر لتأبط شرًا، وهو في شرح الحماسة للتبريزي 1: 49، والضمير في "هزه" للسيف في البيت قبله.
2 هو في ديوانه.

(1/436)


513 - فأنت الآن لاتستطيع أن تزعُمَ في بيت الحماسة أنه استعارَ لفظَ "النواجذ" ولفظَ "الأفواه"، لأَن ذلك يُوجب المُحالَ، وهو أنْ يكونَ في المنايا شيءٌ قد شبَّهة بالنواجِذ، وشيء قد شبَّهه بالأفواه، فليس إلاَّ أن تقولَ: إنه لمَّا ادَّعى أن المنايا تُسَرُّ وتَسْتبشر إِذا هو هزَّ السيف، وجعلهخا لسرورها بذلك تضحُكُ1 أرادَ أن يبالغَ في الأمر، فجعلها في صورةِ مَنْ يضحك حتى تَبدوَ نواجذُهُ من شدَّة السرورِ.
وكذلك لا تستطيعُ أنْ تَزعُمَ أَنَّ المتنبي قد استعارَ لفظَ "الأُذُن"، لأَنه يُوجبُ أن يكونَ في "الجوزاءِ" شيءٌ قد أرادَ تشبيهَهُ بالأذن. وذلك من شنيع المحال.
تحقيق في معنى "الاستعارة":
514 - فقد تبيَّن من غيرِ وجهٍ أنَّ "الاستعارةَ" إنما هي ادَّعاءُ معنى الاسم للشيء، لا تقل الاسم عن الشيء. وإذا ثبتَ أنها ادِّعاءُ معنى الاسم للشيء، علمتَ أنَّ الذي قالوه من "أنها تعليقٌ للعبارة على غير ما وضعت له في اللغة، وقل لها عمَّا وضعتْ له"2 كلامٌ قد تسامحوا فيه، لأَنه إذا كانتِ "الاستعارةُ" ادعاءَ معنى الاسم، لم يكن الاسمُ مُزالاً عمَّا وُضع له، بل مقرًا عليه.
تفسير معنى "جعل" في الكلام وفي القرآن:
515 - واعلمْ أنك تراهُمْ لا يمتنعونَ إذا تكلَّموا في "الاستعارةِ" من أنْ يَقولوا: "إنه أرادَ المبالغةَ فجعلَه أسداً"، بل هُمْ يلجأون إلى القول به. وذلك صريحٌ في أنَّ الأصْل فيها المعنى، وأنه المستعارُ في الحقيقة، وأن قولَنا: "استعيرَ له اسمُ الأسَدَ"، إشارةٌ إلى أنه استُعير له معْناه، وأنه جُعِل إياهُ.
__________
1 السياق: "إنه لما ادعى ... أراد أنه يبالغ".
2 انظر الفقرة السالفة رقم: 511.

(1/437)


وذلك أنا لو لم نَقْلْ ذلك، لم يَكُنْ "لجُعِلَ" ههنا معنى، لأنَّ "جعل" لا يَصْلُحُ إلاَّ حيثُ يُراد إثباتُ صفةٍ للشيء، كقولِنا: "جعلْتُه أميراً" و "جلعته لِصّاً" تريدُ أنَّك أثبَتَّ له الإِمارة، ونسبْتَه إلى اللصوصيَّة وادَّعَيْتَها عليه ورمَيْتَه بها.
وحكْمُ "جعَل"1، إذا تعدَّى إلى مفعولين، حكْمُ "صَيَّر"، فكما لا تقول" صيَّرْته أميراً"، إلا على معنى أنك أثبَتَّ له صفةَ الإِمارة، كذلك لا يَصِحُّ أن تقولَ: "جعلته أسداً"، إلا على معنى أنك أثبت له المعنى الأسد2. وأمَّا ما تَجدُه في بعضِ كلامِهم من أن "جَعَل" يكونُ بمعنى "سَمَى"، فمما تَسامحوا فيه أيضاً، لأنَّ المعنى معلومٌ، وهو مثْلُ أن تَجِدَ الرجُلَ يقولُ: "أنا لا أسَمِّيه إنساناً"، وغرضُه أن يقولَ: إني لا أُثْبِتُ له المعانيَ التي بها كان الإِنسان إنساناً، فأما أن يكون "جعل" في معنى "سمَّى"، هكذا غُفلاً، فمما لا يخفى فسادُه. ألاَ تَرى أنك لا تَجِدُ عاقِلاً يقول: "جعلتُه زيداً"، بمعنى: سمَّيْتُه زيداً ولا يقال للرجل: "إجْعَل ابنَك زيداً"، بمعنى: سمِّه زَيْدا و "وُلِدَ لفلانٍ ابنٌ فجعَلَه عبدَ الله"، أي: سمَّاه عبدَ الله3. هذا مَا لا يَشُكُّ فيه ذو عقلٍ إذا نَظَر.
516 - وأكثَرُ ما يكون منهم هذا التسامحُ، أعني قولَهم إنَّ "جعَل" يكون بمعنى "سمَّى" في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ
__________
1 قد سلف كلامه في "جعل" في رقم: 438 - 440.
2 أسقط كاتب "ج" من أول "صفة الإمارة" إلى قوله هنا: "أثبت له" سهوًا، ففسد الكلام.
3 قد مضى الكلام في معاني "جعل"، فيما سلف رقم: 438 - 440.

(1/438)


إِنَاثًا} [الزخرف: 19]، فقد تَرى في التفسيرِ أنَّ "جعلَ" يكون بمعنى "سمَّى"، وعلى ذاك فلا شبْهةَ في أنْ ليس المعنى على مجرَّدِ التسمية، ولكنْ على الحقيقة التي وصفْتُها لكَ. وذاكَ أنَّهم اثْبَتوا للملائكةِ صفةَ الإناثِ واعتقدوا وُجودَها فيهم، وعن هذا الاعتقادِ صدرَ عنهم ما صدَر من الاسْم أعني إطلاقَ اسْمِ "البنات" وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظَ "الإناثِ" ولفظَ "البناتِ"، من غير اعتقادِ معنى وإثباتِ صفةٍ. هذا محالٌ.
517 - أوَ لا تَرى إلى قولهِ تعالى: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلون} [الزخرف: 19]، فلو كانوا لم يَزيدوا على إجراءِ الاسْمِ على الملائكة، ولم يَعتِقدوا إثباتَ صفةٍ لما قال الله تعالى: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ}. هذا ولو كانوا لم يَقْصِدوا إثباتَ صفةٍ، ولم يكنْ غيرَ أن وَضَعوا اسْماً لا يُريدونَ به معنىً، لَمَا استحقُّوا إلاَّ اليسيرَ من الذَّم، ولما كان هذا القولُ منهم كُفْراً. والتفسيرُ الصحيحُ والعبارةُ المستقيمةُ، ما قاله أبو إسحاقٍ الزجَّاج رحِمَه الله، فإِنه قال: إن "الجعلَ" ههنا في معغنى القَوْلِ والحُكْمِ على الشيء، تقول: "قد جَعَلْتُ زيداً أعلمَ الناسِ"، أي وصفْتَه بذلك وحكمْتَ به1.
تعرف "الاستعارة" من طريق المعقول دون اللفظ، وكذلك "الكناية":
518 - ونَرجع إلى الغرَض فنقولُ: فإِذا ثَبَتَ أنْ ليستِ "الاستعارةُ" نَقْلَ الاسْمِ، ولكنْ ادعاءَ معنى الاسْم وكنَّا إذا عقَلْنا من قولِ الرجُلِ: "رأيتُ أسداً"، أنه أرادَ به المبالَغَةَ في وصْفِه بالشجاعة، وأنْ يقولَ: إنَّه مِنْ قُوَّةِ القلب، ومن فَرْط البَسالةِ وشدَّة البطْشِ، وفي أنَّ الخوفَ لا يخامِرُهُ، والذُّعْرَ لا يَعْرِضُ
__________
1 انظر الفقرة السالفة: 440، وما قبلها.

(1/439)


له، بحيثُ لا يَنْقصُ عن الأسَد1 لم نعقل ذلك من لفظ "أسد"، لكن مِنَ ادِّعائه معنَى الأسد الذي رآه2 ثبت بذلك أنَّ "الاستعارةَ" كالكِنَاية، في أنَّك تَعْرِفُ المعنى فيها من طريف المعقول دون طريق اللفظ3.
519 - وإذا قد عرفت أن طريف العلم بالمعنى في "الاستعارة" و "الكناية" معاً، المعقولُ4، فاعلمْ أنَّ حكْمَ "التمثيلِ" في ذلك حكمهما، بل الأمرُ في "التمثيلِ" أظْهَرُ.
وذلك أنه ليس مِن عاقلٍ يَشُكُّ إذا نظَر في كتابِ يزيدَ بنِ الوليد إلى مروان بن محمدٍ، حينَ بلغه أنه يتلكَّأ في بَيْعَته:
"أما بَعْدُ، فإِني أراك تقدِّم رجْلاً وتؤخرُ أُخرى، فإِذا أتاكَ كتابِي هذا فاعْتمِدْ على أَيَّتِهما شئْتَ، والسلامُ".
يعلم5 أنَّ المعنى أنه يقولُ له: بلَغني أنك في أمْرِ البَيْعة بين رأْيَيْن مختلفين، تَرى تارة أن نبايع، وأخرى أنْ تَمْتنع من البيعة، فإذا أتاك كتابي هذا فاعل على أيِّ الرأيين شئْتَ وإنه لم يَعْرف ذلك من لفْظِ "التقديمِ والتأخيرِ"، أوْ من لفظِ "الرِّجل"، ولكنْ بأنْ علمَ أنه لا معنى لتقديم الرجل
__________
1 السياق: "وكنا إذا عقلنا ... لم تعقل".
2 السياق من عند أول الفقرة: "فإذا ثبت أن ليست الاستعارة .... ثبت بذلك أن الاستعارة".
3 انظر ما قاله في الكناية من الفقرة رقم: 506 إلى آخر الفقرة: 511.
4 "المعقول" خبر "أن طريق العلم".
5 السياق: "إذا نظر يعلم، وهذا الخبر سلف في رقم: 63.

(1/440)


وتأخيرها في رَجُلٍ يُدْعى إلى البيعة، وإنَّ المعنى على أنه أرادَ أن يقولَ: إنَّ مثَلَكَ في تردُّدكَ بين أنْ تُبَايع، وبين أن تَمْتنعَ، مثَلُ رَجُلٍ قائمٍ ليذهَبَ في أمرٍ، فجَعَلَتْ نَفسُه تُريهِ تارةً أنَّ الصوابَ أنْ يذْهَبَ وأُخرى أنه في أنْ لا يَذْهَبَ فجعلَ يُقدّم رِجْلاً تارةً، ويُؤخِّر أُخْرى.
520 - وهكذا كلُّ كلامٍ كان ضرْبَ مثَلٍ، لا يَخْفى على مَنْ له أدنى تمييزٍ أنَّ الأغراضَ التي تكونُ للناس في ذلك لا تُعْرَف من الألفاظِ، ولكنْ تكونُ المعاني الحاصلةٌ من مجموعِ الكلام أدلَّةً على الأغراضِ والمقاصدِ. ولو كان الذي يكونُ غَرَضَ المتكلِّم يُعْلَم من اللفظِ، ما كان لِقولهم: "ضَرَبَ كذا مثلاً لكذا"، معنى، فما اللفظُ "يُضْرَبُ مَثَلاً" ولكنْ المعنى. فإِذا قلْنا في قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكم وخضراءَ الدِّمن" 1، إنَّه ضَرَبَ عليه السلامُ "خضراءَ الدِّمن" مثلاً للمرأة الحَسّناء في مَنْبت السوء، لم يكن المعنى أنه صلى الله عليه وسلم ضرَب لَفْظَ "خضراءِ الدِّمن" مثلاً. لها. هذا ما لا يَظُنُّه مَنْ بهِ مَسٌّ، فضلاً عن العاقل.
521 - فقد زالَ الشكُّ وارتفعَ في أنَّ طريقَ العلْمِ بما يُراد إثباتُه والخُبر به في هذه الأجناس الثلاثةِ، التي هي "الكناية" و "الاستعارة" و "التمثيل" المعقولُ دونَ اللفظِ2، من حيثُ يكونُ القصْدُ بالإثبات فيها إلى معنى ليس
__________
1 هذا خبر مشهور، ولم يرد في شيء من دواوين السنة، ورواه الزامهرمزى بإسناده في "كتاب امثال الحديث" 126، من طريق: "أبي وجزة السعدي الشاعر "يزيد بن عبيد"، عن عطاء ابن يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخدري".
2 "المعقول" خير قوله: "أن طريق العلم".

(1/441)


هو معنى اللفظِ، ولكنَّه معنىَ يُستَدلُّ بمعنى اللفظِ عليه، ويُسْتنبَطُ منه، كنحْوِ ما تَرى من أنَّ القصْد في قولهم: "هو كثيرُ رمادِ القِدْر"، إلى كَثْرة القِرى، وأنتَ لا تعرف ذلكَ من هذا اللفظِ الذي تَسْمَعُهُ، ولكنك تعرفه بأن تستبدل عليه بمعناه، على ما مَضَى الشرحُ فيه1.
الفصاحة وصف للكلام بمعناه لا بلفظه مجردا:
522 - وإذْ قد عرفت ذلك، فينبغي أن يقالَ لهؤلاء الذين اعترضوا علينا في قولنا: "إنَّ الفصاحةَ وصفٌ يجب للكلام من أجل مزيةٍ تكونُ في معناه، وأنها لا تكونُ وصْفاً له من حيثُ اللفظُ مجرداً عن المعنى"، واحتجُّوا بأن قالوا: "إنَّه لو كان الكلامُ إِذا وُصِف بأنه فصيحُ، كان ذلك من أجل مزيةٍ تَكونُ في معناه، لوجَب أن يكونَ تفسيرُه فصيحاً مثله"2 أخبرونا عنكم3، أترونَ أنَّ مِن شأنِ هذه الأجناسِ، إذا كانت في الكلام، أن تكونَ له بها مزيةُ تُوجبُ له الفصاحةَ، أم لا ترون ذلك؟
فإِنْ قالوا: لا ترى ذلك لم يكلَّموا.
وإن قالوا: نَرى للكلام، إذا كانتْ فيه، مزيةٌ تُوجِبُ له الفصاحةَ، قيل لهم: فأخبرونا عن تلك المزية، أتكونُ في اللفظ أم في المعنى؟
فإِن قالوا: في اللفظِ دخَلُوا في الجَهالة، من حيث يَلْزَمُ من ذلك أن تكونَ "الكنايةُ" و "الاستعارة" و "التمثيل" أوصافًا للفظ، لأنه لا يتصور أن
__________
1 انظر رقم: 505، 506.
2 انظر ما سلف رقم: 499، 504 وغيرها.
3 السياق: "فينبغي أن يقال لهؤلاء ..... أخبرونا عنكم".

(1/442)


تكون مزيتُها في اللفظِ حتى تكونَ أوصافاً له. وذلك مُحالٌ، من حيثُ يَعْلَمُ كلُّ عاقل أنه لا يُكنَّى باللفظ عن اللفظ، وأنه إنما يُكَنَّى بالمعنى عن المعنى. وكذلَك يَعْلَمُ أنه لا يُستعار اللفظُ مجرداً عن المعنى، ولكنْ يُستعار المعنى، ثُمّ اللفظُ يكون تِبْعَ المعنىـ على ما قدَّمْنا الشرحَ فيه1. ويَعلمُ كذلك أنه محالٌ أنْ يُضرَبَ "المثَلُ" باللفظ، وأنْ يكونَ قد ضُرِبَ لفظُ: "أراك تُقدِّم رِجْلاً وتؤخْر أخرى" مَثَلاً لتردُّده في أمر البَيْعة.
وإن قالوا: هي في المعنى.
قيل لهم: فهو ما أردْناكُم عليه، فدَعُوا الشكَّ عنكم، وانتبهوا من رقْدَتِكُمْ، فإِنه علْمٌ ضروريٍّ قد أدَّى التقسيمُ إليه، وكلُّ علْم كان كذلك، فإِنه يَجِبُ القَطْعُ على كلِّ سؤالٍ يُسْألُ فيه بأنه خطأ، وأن السائلُ ملّبوسٌ عليه.
كشف الغلط في فصاحة الكلام:
523 - ثم إنَّ الذي يَعرف به وجْهَ دخولِ الغلطِ عليهم في قولِهم: "إنه لو كان الكلامُ يكونُ فصيحاً من أجْل مزيةٍ تكونُ في معناه، لوجَب أن يكونَ تفسيرُه فصيحاً مثْلَه"، هو أنك إذا نظرتَ إلى كلامهم هذا وجدْتَهم كأنَّهم قالوا: "إنه لو كانَ الكلامُ إذا كان فيه كنايةٌ أو استعارةٌ أو تمثيلٌ، كان لذلك فصيحاً، لوَجَب أن يكونَ إذا لمْ توجَدْ فيه هذه المعاني فصيحاً أيضاً". ذاك لأنَّ تفسيرَ "الكنايةِ" أن تتركها ونصرِّحَ بالمُكنَّى عنه فنقولَ: إنَّ المعنى في قولهم: "هو كثيرُ رمادِ القِدْر"، أنه كثيرُ القِرى وكذلك الحكْمُ في "الاستعارة"، فإِنَّ تفسيرها أن تتركها، ونصرِّحَ بالتشبيه فنقولَ في "رأيتُ أسداً": إنَّ المعنى: رأيتُ رجلاً يُساوي الأسدَ في الشجاعة وكذلك الأمر في "التمثيل"، لأن
__________
1 انظر ما سلف رقم: 519 وما بعده.

(1/443)


تفسيرَه أنْ نَذْكر المتمثَّل له فنقول في قوله: "أراكَ تقدِّم رجْلاً وتؤخِّر أُخرى": إنَّ المعنى أنه قال: أراكَ تتردَّد في أمر البَيْعة فتقولُ تارةً أفعلُ، وتارةً لا أفعلُ، كمن يُريدُ الذهابَ في وجْهٍ، فَتُرِيهِ نفسُه تارةً أنَّ الصوابَ في أنْ يذْهَبَ، وأُخرى أنه في أن لا يذهب، فهو يقدم رجلاً ويؤخِّر أُخرى1. وهذا خروجٌ عن المعقول، لأنه بمنزلةِ أن تقول لرجل قد نُصبَ لوصفِ علَّةً: "إنْ كان هذا الوصفُ يَجب لهذه العلةِ، فينبغي أن يجبَ مع عدمها".
524 - ثم إنَّ الذي استهواهُم، هو أنهم نظَروا إلى تفسيرِ ألفاظِ اللغة بعضِها ببعض، فلما رأَوْا اللفظَ إذا فُسِّرَ بلفظٍ، مثْلِ أنْ يقالَ في "الشَّرجب" إنه الطويلُ، لم يَجُزْ أن يكونَ في المفسَّر من حيثُ المعنى، مزيةٌ لا تكونُ في التفسير2 ظَنَّوا أنَّ سبيلَ ما نحن فيه ذلكَ السبيلُ، وذلك غَلَطٌ منهم، لأنه إنما كان للمفسَّر، فيما نحن فيه، الفضلُ والمزيَّةُ على التفسير، من حيث كانت الدلالةُ في المفسَّر دلالةَ معنى على معنى، وفي التفسير دلالة لفظٍ على معنى. وكان من المركوزِ في الطباعِ، والراسخِ في غرائِزِ العقولِ، أنه متى أُريد الدلالةُ على معْنى، فتُرك أنْ يُصرَّحَ به ويُذْكَر باللفظ الذي هو له في اللغة، وعُمد إلى معنى آخر فأُشير به إليه، وجُعل دَليلاً عليه3 كان للكلام بذلك حسْنٌ ومزيَّة لا يكونان إذا لم يُصنَع ذلك، وذكر بلفظه صريحًا.
__________
1 في المطبوعة: "فيقدم رجلًا".
2 السياق من أول الفقرة: "فلما رأوا اللفظ ذا فسر .. ظنوا".
3 السياق: "متى أُريد الدلالةُ على معْنى فتُرك أنْ يصرح به ... كان للكلام".

(1/444)


ولا يكونُ هذا الذي ذكرتُ أنه سببُ فضلِ المفسَّر على التفسير، من كونِ الدلالة في المفسَّر دلالةَ معنى على معنى، وفي التفسير دلالةَ لفظ على معنى1، حتى يكون لِلَّفظِ المفسَّر معنىً معلومٌ يَعرِفُه السامعُ، وهو غيرُ معنى لفظِ التفسير في نفسِه وحقيقتِه، كما تَرى من أنَّ الذي هو معنى اللفظ في قولهم: "هو كثيرُ رمادِ القدر"، غيرُ الذي هو معنى اللفظ في قولهم: "هو كثيرُ القِرى"، ولو لم يكن كذلك، لم يُتصوَّر أن يكون ههنا دلالة معنى على معنى.
525 - وإذا قد عرَفْتَ هذه الجملة، فقد حصَل لنا منها أنَّ المفسَّر يكون له دلالتانِ: دلالةُ اللفظِ على المعنى، ودلالةُ المعنى الذي دلَّ اللفظُ عليه على معنى لَفْظٍ آخَرَ ولا يكونُ للتفسيرِ إلاَّ دلالةٌ واحدةٌ، وهي دلالةُ اللفظِ، وهذا الفرقُ هو سببُ أنْ كان للمفسَّر الفضلُ والمزيةُ على التفسير.
ومحالٌ أن يكونَ هذا قضيةَ المفسَّر والتفسير في ألفاظِ اللغة، ذاكَ لأنَّ معنى المفسَّر يكون دالًا مجهولاً عند السامع، ومحالٌ أن يكونَ للمجهول دلالةٌ.
526 - ثم إنَّ معنى المفسَّر يكون هو معنى التفسيرِ بعينه، ومحالٌ إذا كان المعنى واحداً أن يكون للمفسَّر فضلٌ على التفسيرِ، لأن الفضْلَ كان في مسألتنا بأنْ دلَّ لفظُ المفسَّر على معنىً، ثم دلَّ معناهُ على معنى آخرَ. وذلك لا يكونُ مع كونِ المعنى واحداً ولا يتصوَّر.
بيانُ هذا: أنه محالٌ أنْ يقالَ إنَّ معنى "الشرجب" الذي هو المفسَّر، يكون دليلاً على معنى تفسيره الذي هو "الطويلُ" على وِزان قولِنا
__________
1 السياق: "لا يكون هذا الذي ذكرت ... حتى يكون ... ".

(1/445)


إنَّ معنى: "كثيرُ رمادِ القِدْرِ"، يدلُّ على معنى تفسيرِه الذي هو "كثيرُ القِرى"، لأمرَيْن:
أحدهما: أنك لا تفسر طالشرجب" حتى يكونَ معناهُ مجهولاً عند السامعِ، ومحالٌ أن يكونَ للمجهول دلالةٌ.
والثاني: أن المعنى في تفسيرنا "الشرجب" بالطويل، أن تعلم السامعَ أن معناه هو معنى الطويلِ بعينه. وإِذا كان كذلك، كان محالاً أن يُقال: إن معناه يدل على معنى الطويل، بل الذي يُعقَل أنْ يقالَ: إنَّ معناه هو معنى الطويلِ. فاعرفْ ذلك.
527 - وانظُرْ إلى لَعِب الغَفْلة بالقوم، وإلى ما رأَوا في مَنامهم من الأحلامِ الكاذبةِ! ولو أنهم ترَكُوا الاستنامةَ إلى التقليدِ، والأخذ بالهُوينا، وترْكِ النظر، وأشعروا قلوبهَم أنَّ ههنا كلاماً ينبغي أن يُصْغى إليه1 لَعلِموا، ولَعادَ إعجابُهم بأنفسِهم في سؤالِهم هذا وفي سائر أقوالهم، عجبا منها ومن تطويج الظنون بها.
الوجوه التي تكون للكلام مزية:
528 - وإذا قد بَانَ سقوطُ ما اعتَرَضَ به القومُ وفُحْشُ غلَطِهم، فينبغي أن تَعلَم أنْ ليستِ المزايا التي تَجدها لهذهِ الأجناسِ على الكلامِ المتروكِ على ظاهرِهِ، والمبالغةُ التي تُحِسُّها2 في أنفُس المعاني التي يَقصِدُ المتكلِّم بخَبره إليها، ولكنها في طريق إثباتِه لها، وتقريرِه إياها، وأنَّك إذا سمعتهم يقولون: "إن من
__________
1 السياق: " ...... ولو أنهم تركوا الاستنامة .... لعلموا".
2 السياق: "فينبغي أن تعلم أن ليست المزايا .... في أنفس المعاني ... ".

(1/446)


شأنِ هذهِ الأجناسِ أن تُكْسِبَ المعانيَ مزيةً وفضلًا، وتوجب لها شرفًا ونبلًا، وأن تفحمها في نفوس السامعين"1 فإنهم لا يَعْنون أنفُسَ المعاني، كالتي يَقصِد المتكلِّمُ بخَبره إليها، كالقِرى والشجاعةِ والتردُّدِ في الرأي، وإنما يَعْنون إثْباتَها لما تُثْبَتُ له ويخبر بها عنه. فغّا جَعلوا للكنايةِ مزيةً على التَّصريحِ، لم يَجْعلوا تلكَ المزيةَ في المعنى المكنَّى عنه، ولكنْ في إثباته للذي يثبت له، وذلك أنَّا نَعْلَم أنَّ المعاني التي يُقْصَدُ الخَبرُ بها لا تتَغيَّر في أنفسِها بأن يُكنَّى عنها بمعانٍ سواها، ويُتْرَك أن تذكر بالألفاظ التي هي لها في اللغة. ومَنْ هذا الذي يَشُكُّ أنَّ معنى طولِ القامة وكثرةِ القِرى لا يتغيَّران بأن يُكنَّى عنهما بطولِ النجاد وكثرة رماد القدر، وتقدير التغير فيهما يُؤدي إلى أنْ لا تكونَ الكنايةُ عنهما، ولكنْ عن غيرِهما؟ 2.
529 - وقد ذكرتُ هذا في صدْرِ الكتاب3، وذكرتُ أنَّ السببَ في أنْ كان يكون للإِثبات إذا كان من طريقِ "الكنايةِ" مزيَّة لا تكونُ إذا كان من طريقِ التصريح4، أنك إذا كنَّيْتَ عن كثرةِ القِرى بكثرةِ رمادِ القدر، كنتَ قد أثبتَّ كثرةَ القِرى بإِثباتِ شاهدِها ودليلِها، وما هو علم على وجودها، وذلك
__________
1 السياق: "وأنك إذا سمعتهم يقولون ... فإنهم لا يعنون".
2 في هامش "ج"، بخطه كاتبها ما سأحاول أن أقرأه، لجور التصوير على الهامش، وهذا نصه:
"إنما يكون الكلام كناية، إذا كان [دليلًا على] معنى له لفظ في اللغة موضوع [فلا يدل بهذا] اللفظ عليه، ولكن يدل بمعنى لفظ آخر عليه".
هكذا قرأته على الجور الذي أدركه، فإن أحسنت فبحمد الله، وإبلا فإني استغفره واتوب إليه.
3 مضى في أول الكتاب من الفقرات رقم: 63 - 66.
4 السياق: " ... أن السبب في أن يكون للإثبات .... مزية .... أنك إذا كنيت".

(1/447)


لا مَحالةَ يكون أبلغَ من إثباتِها بنفسِها، وذلك لأَنه يكونُ سبيلُها حينئذٍ سبيلَ الدعوى تكونْ مع شاهدٍ.
وذكرتُ أنَّ السببَ في أَنْ كانت "الاستعارةُ" أبلغَ من الحقيقةِ1، أنك إذا ادَّعيْتَ للرجُل أنه أسدٌ بالحقيقة، كان ذلك ,اشد في تسويته بالأسد في الشجاعة. ذاك لأنه محال أن يكون منَ الأُسود، ثم لا تكونُ له شجاعةُ الأُسودِ. وكذلك الحكْمُ في "التمثيل" فإِذا قلتَ: "أراكَ تُقدَّم رجْلاً وتؤخِّر أخرى"، كان أبلغَ في إثباتِ الترددِ له من أن تقول: "أنتَ كمن يقَدِّم رجلا ويؤخِّر أخرى".
530 - واعلمْ أنه قد يَهْجُسُ في نفسِ الإِنسان شيءٌ يظنُّ مِن أجْله أنه يَنبغي أنْ يكونَ الحُكْمُ في المزيَّة التي تحدُثُ بالاستعارةِ، أنها تَحْدُثُ في المُثْبَت دون الإثباتِ. وذلك أن تقول: إنَّا إِذا نظَرْنا إلى "الاستعارةِ" وجدناها إنما كانت أبلغَ من أجلِ أنها تدلُّ على قوَّةِ الشَّبه، وأنه قد تَناهَى إلى أنْ صارَ المشبَّه لا يتميَّزُ عن المشبَّهِ بهِ في المعنى الذي من أجلهِ شُبِّهَ به. وإذا كان كذلكَ، كانت المزيةُ الحادِثةُ بها حادثةً في الشَّبه. وإِذا كانتْ حادِثَةً في الشَبَه، كانت في المُثْبَت دونَ الإثباتِ.
والجوابُ عن ذلك أنْ يقالَ: إن الاستعارةَ، لعَمْري، تقْتضي قوَّةَ الشَبهِ، وكونَه بحيثُ لا يَتميزُ المشبَّهُ عن المشبَّه به، ولكنْ ليس ذاك سببَ المزيةِ، وذلك لأنه لو كان ذاك سببَ المزيةِ، لكان ينبغي إذا جئت به صريحًا.
__________
1 هي في أول الكتاب رقم: 75 - 70.

(1/448)


فقلتَ1: "رأيتُ رجُلاً مساوياً للأسد في الشجاعةِ، وبحيثُ لولا صورتُه لظنْنتَ أنكَ رأيتَ أسداً"، وما شاكلَ ذلك من ضروبِ المبالغة أنْ تَجِد لكلامِكَ المزيةَ التي تَجدُها لقولك: "رأيتُ أسداً". وليس يَخْفى على عاقلٍ أنَّ ذلكَ لا يكونُ.
531 - فإنْ قال قائلٌ: إنَّ المزيَّة من أجْلِ أَنَّ المساواةَ تُعْلَم في "رأيتُ أسداً" من طريقِ المعنى، وفي "رأيتُ رجلاً مساوياً للأسد" من طريقِ اللفظِ.
قيلَ: قد قلنا فيما تَقدَّم2، إنه محالٌ أن يتغيَّر حالُ المعنى في نفسه، بأنْ يكَنَّى عنه بمعنىً آخر، وأنه لا يُتصوَّر أنْ يتغيَّر معنى طولِ القامة بأن يكنى عنه بطول النِجاد، ومعنى كثرةِ القِرى بأنْ يكنَّى عنه بكثرةِ الرماد. وكما أنَّ ذلك لا يُتصوَّر، فكذلكَ لا يُتصوَّر أن يتغيَّر معنى مساواةٍ الرجلِ الأسدَ في الشجاعةِ، بأن يُكنَّى عن ذلك ويُدَلَّ عليه بأن تَجْعَله "أسداً". فأنتَ الآن إذا نظرت إلى قوله:
فأسبلت لولؤا من نرجس وسقت ... وردًا وغضت على العُنَّابِ بالبَرَدِ3
فرأيته قد أفادَكَ أنَّ "الدمع" كان لا يحرم من شبه الؤلؤ،
__________
1 عند أول قوله: "إذا جئت به صريحًا" ينتهى ما أسقط كاتب "س"، حيث وصل الكلام في أواخر الفقرة رقم: 508، فكتب: "من بعد أن لا يرد إذا جئت به صريحًا، وانظر التعليق هناك.
2 انظر ما سلف رقم: 528.
3 هو للوأواء الدمشقي، في دويانه.

(1/449)


و "العين" من شبَه النرجس1 شيئاً، فلا تَحْسَبنَّ أنَّ سبب الحسن الذي تراه فيه، والأربحية التي تجدها عنده، أنه أفاذك ذلك فحسْبُ. وذاكَ أنك تستطيعُ أنْ تجيءَ به صريحاً فتقول: "فأسبَلَت دمعاً كأنه اللؤلُؤ بعينه، من عينِ كأنها النرجسُ حقيقة"، ثم لا تَرى من ذلك الحسْن شيئاً. ولكن اعلمْ أنَّ سبَب أنْ راقَك، وأَدْخَلَ الأريحيةَ عليك، أنه أفادكَ في إثباتِ شدَّة الشبةِ مزيَّة، وأوْجَدَك فيه خاصةً قد غُرِزَ في طبْع الإنسانِ أن يَرتاحَ لها2، ويَجِدَ في نفسِه هِزَّةً عندها، وهكذا حكْم نظائِرِه كقولِ أبي نواس:
تَبْكي فتُذري الدرَّ عن نرجسٍ ... وتَلْطِمْ الوردَ بعناب3
وقول المتبني:
بدَتْ قَمراً ومالتْ خُوطَ بانٍ ... وفاحَتْ عَنْبَراً ورنت عغزالًا4
إذا ظهر التشبيه في "الاستعارة" فبحت:
532 - واعلمْ أنَّ مِن شأنِ "الاستعارةِ" أنك كلما زدْتَ إرادتَكَ التشبيهَ إخفاءَ، ازدادتِ الاستعارةُ حُسْناً، حتى إنَّك تَراها أغْرَبَ ما تكونُ إذا كان الكلامُ قد أُلِّف تأليفاً إن أردتَ أن تُفْصح فيه بالتشبيه، خرجْتَ إلى شيءٍ تعافه النفس ويلفظه المسع، ومثال ذلك قول ابن المعتز:
__________
1 السياق: "أفادك أن الدمع كأن لا يحرم .... شيئًا"، وكان في المطبوعة وحدها "يحرم"، وقوله "لا يحرم" أي لا يسقط ولا ينقص منه شيئًا.
2 في "س": "قد عرف".
3 هو في ديوانه.
4 هو في ديوانه، وقد مضى برقم: 359.

(1/450)


أثمرت أغصان راحته ... لجناة الحُسْنِ عُنَّابا1
ألا تَرى أنك لو حملتَ نفسَك على أن تُظهرَ التشبيهَ وتُفصِحَ به، احتجَتْ إلى أن تقول: "أثمرتْ أصابعُ يدِه التي هيَ كالأغصانِ لطالبي الحُسْن، شبيهَ العُنَّاب من أطرافها المخضوبة"، وهذا ما لا تَخْفى غثاثَتُه. مِنْ أجْل ذلك كان موقِعُ "العنَّاب" في هذا البيتِ أحسَنَ منه في قوله:
وعضَّتْ على العُنابِ بالبَرَد
وذاك لأنَّ إظهارَ التشبيهِ فيه لا يقبح هذا القبح المفرد، لأنك لو قلْتَ: "وعضَّتْ على أطرافِ أصابعَ كالعنابِ بثغرٍ كالبَرَد"، كان شيئاً يُتكلَّم بمثلِه وإنْ كانَ مَرْذولاً. وهذا موضعٌ لا يَتبيَّنُ سره إلا من كان مهلب الطَّبْعِ حادَّ القريحةِ2. وفي الاستعارةِ علْمٌ كثيرٌ، ولطائِفُ معانٍ، ودقائقُ فروقٍ، وسنقولُ فيها إن شاء الله في موضع آخر.
القسم الثاني: وهو الذي تكون فصاحته في النظم
533 - واعلمْ أنَّا حينَ أخذْنا في الجوابِ عن قولِهم: "إنَّه لو كان الكلامُ يكونُ فصيحاً مِن أجْل مزيَّةٍ تكونُ في معناه، لكانَ ينبغي أن يكونَ تفسيرُه فصيحاً مثلَه"3، قلْنا: "أَنَّ الكلامَ الفصيحَ ينقسمُ قسمين، قسمٌ تُعزى المزيةُ فيه إلى اللفظِ، وقسمٌ تُعْزى فيه إلى النظم"4، وقد ذكرنا في
__________
1 في ديوانه، في باب الفخر، وفي المطبوعة: "بجنان الحسن"، خطأ، وفي "ج": "لجناة الحب"، وهو لا شيء.
2 في "س" والمطبوعة: "ملتهب".
3 انظر رقم: 499، 504، 522.
4 انظر ما سلف رقم 508، وهذا موضع القسم الثاني.

(1/451)


القسمِ الأول من الحِجَج ما لا يَبْقى معه لعاقلٍ، إذا هو تأمَّلَها، شَكٌّ في بُطْلانِ ما تعَلَّقوا به، مِنْ أنه يَلْزَمُنا في قولِنا: "إنَّ الكلام يكونُ فَصيحاً مِن أجْل مزيةٍ تكونُ في معناه"1، أن يكونَ تفسيرُ الكلامِ الفصيحِ فصيحاً مثلَه، وأنَّه تَهُّوسٌ منهم، وتفحم في المحالات2.
وأما القسمُ الذي تُعزى فيه المزيةُ إلى "النظْم"، فإِنَّهم إنْ ظنُّوا أنَّ سؤالَهم الذي اغترُّوا به يتجهُ لهم فيه، كان أمرُهم أعجَبَ، وكان جهلُهم في ذلك أغْرَبَ. وذلك أن "النظم"، كما بينا، إنما هو توخّي معاني النحو وأحكامِه وفروقِه ووُجوهه، والعملُ بقوانينه وأُصولِه، وليستْ معاني النحو معانيَ ألفاظ3، فيتصوَّر أن يكونَ لها تفسيرٌ.
534 - وجملةُ الأمر، أنَّ "النظْمَ" إنما هو أنَّ "الحمدَ" من قولِه تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مبتدأ، و "لله" خبره، و "ربِّ" صفةٌ لاسم الله تعالى ومضافٌ إلى "العالمين" و "العالمينِ" مضافٌ إليه، و "الرحْمنِ الرحَيم" صفتانِ كالرَّبِ، و "مالكِ" من قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} صفة صفةٌ أيضاً، ومضافٌ إلى يوم. و "يومِ" مضافٌ إلى "الدين"، و "إياك" ضميرُ اسم الله تعالى، وهو ضميرٌ يقَعُ موقِعَ الاسمِ إذا كان الاسمُ منصوباً، معنى ذلك أنكَ لو ذكَرْت اسْمَ الله مكانه لقلت: "الله تعبد"، ثم إنَّ "نعْبدُ" هو المقتضي معنى النصْبِ فيه، وكذلك حكم {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} معطوف بالواو على جملة {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، و {الصِّرَاطَ}
__________
1 انظر ما سلف رقم: 506.
2 في المطبوعة وحدها: "في المجادلات".
3 في "س": "معاني لفظ"، وفي المطبوعة: "معاني الألفاظ".

(1/452)


مفعولٌ، و {الْمُسْتَقِيمَ} صفةٌ للصِراط، و {صِرَاطَ الَّذِينَ} بدل من {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، و {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} صلة الذين، {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} صفة {الَّذِينَ}، و {الضَّالِّينَ} معطوفٌ على {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}.
فانظرِ الآنَ هَلْ يتصوَّر في شيءٍ مِن هذه المعاني أن يكونَ معنى اللفظِ؟ وهل يكونُ كونُ "الحمدُ" مبتدأ معنى لفظِ "الحمد"؟ أم يكون كونُ "ربِّ" صفة وكونُه مضافاً إلى "العالمين" معنى لفظ "الرب"؟
535 - فإِنْ قيلَ: إنه إنْ لم تكنْ هذه المعاني معانيَ أنفُسِ الألفاظِ، فإِنها تُعْلَمُ على كلِّ حال من ترتب الألفاظ، ومن الإعراب، فالبرقعة في "الدال" من "الحمد" يُعْلَم أنه مبتدأٌ، وبالجرِّ في "الباء" من "ربِ" يُعْلَم أنه صفة، وبالياء في "العالمينَ" يُعْلم أنه مضافٌ إليه، وعلى هذا قياسُ الكُلِّ.
قيل: ترتيبُ اللفظ لا يكونُ لفظاً، والإعرابُ وإنْ كان يَكونُ لفْظاً، فإِنه لا يُتصوَّر أن يكونَ ههنا لفظانِ كلاهما علامةُ إعرابٍ، ثم يكونُ أحدُهُما تفسيراً للآخَر. وزيادةُ القولُ في هذا من خطَل الرأي، فإنه مما يعلمه العقال ببَديهةِ النظرِ، ومَنْ لَمْ يتنبَّهْ له في أوَّل ما يَسْمَع، لم يَكُنْ أهلاً لأنْ يكلم. ونعوذ إلى رأسِ الحديث فنقول.
536 - قد بطَلَ الآنَ من كلِّ وجهٍ وكلِّ طريقٍ، أنْ تكونَ "الفصاحةُ" وصْفاً لِلَّفظ من حيثُ هو لفظٌ ونطقُ لسانٍ، وإذا كان هذه صورةَ الحالِ وجملةَ الأمرِ، ثم لم تَرَ القومَ تفكَّروا في شيءٍ ممَّا شرحْناه بحالٍ، ولا أخطَرُوه لهم ببالٍ، بانَ وظهَر أنَهم لم يأتوا الأمرَ مِن بابِه، ولم يَطْلبُوه من مَعْدِنه، ولم يسلُكُوا إليه طريقَه، وأنهمْ لم يزيدوا على أنْ أوْهَموا أنفُسَهم وهماً كاذباً أنَّهم قد أبانوا

(1/453)


الوجْه الذي به كان القرآنُ معجِزاً، والوصفَ الذي به بانَ مِن كلام المخلوقينَ، مِنْ غيرِ أنْ يكونوا قد قالوا فيه قولاً يَشْفي من شَاكٍّ غليلاً، ويكونُ علَى عِلْمٍ دليلاً، وإلى معرفة ما قَصدوا إليه سبيلاً1.
الردة على المعتزلة في مسألة "اللفظ":
537 - واعلمْ أنَّه إذا نظرَ العاقِلُ إلى هذه الأدلة فرأى ظهروها، استبعدَ أنْ يكونَ قد ظنَّ ظانٌّ في "الفصاحةِ" أنَّها مِن صفةِ اللفظِ صريحاً، ولعمري إنه لكذلك ينبغي، إلا أنا إنما تنظر إلى جِدِّهم وتَشدُّدِهم وبتِّهمُ الحُكْمَ "بأنَّ المعانيَ لا تتزايدُ، وإنما تتزايدُ الألفاظُ"2، فلئِنْ كانوا قد قالوا "الألفاظُ" وهم لا يُريدونها أنفُسَها، وإنما يريدون لطائفَ معانٍ تُفْهم مِنْها، لقد كان ينبغي أنْ يتَّبعوا ذلك مِن قولِهم ما ينبئ عن غرضهم، وأن يذكروا أنهم عتوا بالألفاظ ضرْباً من المعنى، وأن غرَضَهم مفهومٌ خاصٌّ.
538 - هذا، وأمرُ "النظم" في أنه ليس شيئاً غيرَ توخِّي معاني النحوِ فيما بينَ الكَلم، وأن ترتب المعاني في أنه ليس شيئاً غيرَ توخِّي معاني النحوِ فيما بين الكَلِم، وأنَّك تُرتِّبُ المعاني، أولاً في نفسِك، ثم تحذو على ترتيبها الألفاظَ في نُطْقك، وأنَّا لو فَرَضْنا أن تخلوا الألفاُظُ منَ المعاني، لم يُتصوَّر أنْ يَجبَ فيها نَظْمٌ وترتيبٌ3 في غاية القوَّة والظهورِ، ثم ترَى الذين لَهَجُوا بأمرِ "اللفظِ" قد أبَوْا إلا أن يجعلوا "النظم" في الألفاظ. ترى الرجُلَ منهم يَرى ويَعْلم أنَّ الإنسانَ لا يسَتطيعُ أن يجيءَ بالألفاظ مرتَّبةً إلاَّ من بعد أن يفكر في
__________
1 يعني بهذا القاضي عند الجبار المعتزلي وما كتبه في كتابه "المغني".
2 هذا نص مقالة القاضي عبد الجار المعتزلي، وقد مضى برقم: 55، ورقم: 466.
3 السياق: هذا، وأمر النظم ... في غاية القوة ... ".

(1/454)


المعاني ويرتِّبها في نفسه على ما أعلَمْناكَ، ثم تُفتِّشه فتَراهُ لا يَعرِفُ الأمرَ بحقيقتِه، وتَراه يَنظُر إلى حالِ السامعِ، فإِذا رأى المعانيَ لا تقَعُ مرتَّبةً في نفسِه إلاَّ من بعْدِ أن تقَعَ الألفاظُ مرتَّبة في سَمعِه، نسيَ حالَ نفسِه، واعتَبَر حالَ مَنْ يمسع منه1. وسبَبُ ذلك قِصَرُ الهمةِ، وضَعْفُ العنايةِ، وتركُ النظرِ، والأنسُ بالتقليد. وما يُغْني وضوحُ الدلالةِ مَعَ مَنْ لا ينظر فيها، وإن الصبح لملأ الأفقَ، ثم لا يَراه النائمُ ومَنْ قد أطْبَقَ جفْنَه؟
كلام العلماء في الفصاحة أكثره كالرمز والتعريض دون التصريح:
539 - واعلمْ أنكَ لا تَرى في الدنيا عِلْماً قد جرى الأمرُ فيه بَديئاً وأخيراً على ما جرى عليه في "علمٍ الفصاحةِ والبيانِ".
اما البدئ، فهو أنَّك لا تَرى نوعاً من أنواع العلوم إلا وإذا تأملت كلام الأولين الذي عَلَّموا الناسَ، وجدْتَ العبارةَ فيه أكثرَ من الإِشارة، والتصريحَ أغلبَ من التلويج. والأمرُ في "علمِ الفصاحةِ" بالضِّدِّ مِن هذا.
فإِنك إِذا قرأتَ ما قالَه العلماءُ فيه، وجدْتَ جُلَّه أو كُلَّهَ رمزاً ووَحْياً، وكنايةً وتعريضاً، وإيماءً إلى الغرض من وجْهٍ لا يَفْطِنُ له إلاَّ مَنْ غلغَلَ الفكْرَ وأدَّقَ النظَرَ، ومَنْ يَرجعُ من طَبْعه إلى ألْمَعيَّةِ يَقْوى معها على الغامِض، ويصلُ بها إلى الخفيِّ، حتى كان بَسْلاً حَراماً أن تتجلَّى معانيهم سافرةَ الأوجُهِ لا نِقابَ لها2، وباديةَ الصَّفحةِ لا حجابَ دونَها، وحتى كأنَّ الإفصاحَ بها حَرامٌ، وذكرَها إلاَّ على سبيل الكناية والتعريض غير سائغ.
__________
1 انظر ما سلف رقم: 492.
2 في "س": "بتلًا حرامًا" بالتاء، وقد مضى مثل ذلك في آخر رقم: 441.

(1/455)


وأمَّا الأَخيرُ، فهو أَنَّا لم نَرَ العقلاءَ قد رضُوْا مِن أَنفُسِهم في شيءٍ من العلوم أنْ يحفَظوا كلاماً للأَوَّلينَ ويتدارَسُوه، ويُكلِّمَ به بعضُهم بعضاً، مِنْ غَير أن يعرِفوا له معنى، ويقفوا منه على غرَضٍ صحيحٍ، ويكونَ عندهم، إن يسألوا عنه، بيانٌ له وتفسيرٌ1 إلاَّ "علمَ الفصاحةِ"، فإِنك تَرى طبقاتٍ منَ الناس يتداولونَ فيما بينهم أَلفاظاً للقدماء وعباراتِ، مِنْ غَير أنْ يعرِفوا لها معنًى أَصْلا، أَوْ يستطيعوا إن يسألوا عنها أن يذكروا لها تفسير يصح.
بيان معان في وصف "اللفظ"، كقولهم "لفظ متمكن غير قلق":
540 - فمِنْ أقْرَبِ ذلك، أَنك تَراهم يقولون إذا هُمْ تكلَّموا في مزيَّةِ كلامٍ على كلامٍ: "إنَّ ذلك يكونُ بجزالةِ اللفظِ"2 وإِذا تكلَّموا في زيادةِ نظمٍ على نظمٍ: "إنَّ ذلك يكون لوقوعه على طريقة مخصوصة وعلى وجوه دونَ وجهٍ"3، ثمّ لا تَجدُهَم يُفسِّرون الجزالَةَ بشيء، ويقوون في المراد "بالطريقة" و "الوجه" ما يَحْلَى منه السامعُ بطائل. ويقرؤون في كُتب البلغاءِ ضُروبَ كلامٍ قد وَصفُوا "اللفظَ" فيها بأوصاف يعلم ضرورةً أَنها لا تَرْجعُ إليه من حيثُ هو لفظٌ ونُطْقٌ لسانٍ وصدى حرفٍ، كقولهم: "لفظٌ متمكِّنٌ غيرُ قَلقٍ ولا نابٍ به، مَوْضِعُه، وأَنَّه جيِّدُ السبْكِ صحيحُ الطابعِ، وأنَّه ليس فيه فضْلٌ عن معناهُ" وكقولهم: "إنَّ مِنْ حقِّ اللفظِ أنْ يكونَ طِبْقاً للمعنى، لا يَزيد عليه ولا يَنقُصُ عنه" وكقول بعْضِ مَنْ وصَفَ رجُلاً مِن البُلغاء: "كانت أَلفاظُه قوالبَ لِمعانيه"، هذا إذا مدَحوه وقَولِهم إذا ذَمُّوه: "هو لفظٌ معقَّدٌ، وإنَّه بتعقيده قد استَهْلكَ المعنى" وأشباهٌ لهذا4، ثم لا يخطر ببالهم أنه يجب أن
__________
1 السباق: "لم نر العقلاء رضوا عن أنفسهم في شيء من العلوم .... إلا علم الفصاحة".
2 هذا قول القاضي عبد الجبار المعتزلي في المغني 16: 198.
3 هذا أيضًا من كلام القاضي عبد الجبار.
4 السياق: "ويقرؤون في كتب البلغاء ... ثم لا يخطر".

(1/456)


يُطْلَب لِمَا قالوه معنًى، وتُعْلَمَ له فائدةٌ، ويَجْشَمَ فيه فكْرٌ، وأن يُعتقدَ على الجملة أقلُّ ما في الباب، أَنه كلامٌ لا يصِحُّ حَمْلُه على ظاهِره، وأن يكونَ المرادُ "باللفظِ" فيه نطْقَ اللسانِ.
فالوصفُ بالتمكُّن والقَلَق في "اللفظ" محالٌ، فإنما يتمكَّنُ الشيءُ ويقْلَقُ إذا كان شيئًا يثبت في مكان، و "الألفاظ" حروف لا يجود مِنها حرفٌ حتى يعدَمَ الذي كان قبلَه. وقولُهم: "متمكِّنٌ" أو "قَلِقٌ" وصْفٌ للكلمةِ بأَسرها، لا حرفٍ حرْفٍ منها1.
ثم إنه لو كان يَصِحُّ في حروفِ الكلمةِ أن تكونَ باقيةً بمجموعها، لكانَ ذلك فيها مُحالاً أيضاً، من حيثُ إنَّ الشيءَ إنما يتمكَّنُ وَيقْلقُ في مكانه الذي يُوجَد فيه، ومكانُ الحروفِ إنما هو الحَلْقُ والفمُ واللسانُ والشفتانِ، فلو كان يَصِحُّ عليها أنْ تُوصَف بأنها تتمكَّن وتقْلَقُ، لكانَ يكون ذلك التمكين وذلك القَلَقُ منها في أَماكنها مِنْ الحَلْق والفَم واللسانِ والشفتين.
وكذلك قولُهم: "لفظٌ ليس فيه فضلٌ عن معناه"، محالٌ أنْ يكونَ المرادُ به "اللفظَ"، لأنه ليس ههنا اسمٌ أو فعلٌ أو حرفٌ يَزيد على معناهُ أو ينقُصُ عنه. كيف؟ وليس بالذَّرْع وضعت الألفاظ على المعاني2.
وإذا اعتبْرنا المعانيَ المستفادةَ من الجمل، فكذلك. وذلك أنه ليس ههنا جملةٌ مِنْ مبتدإ وخَبرٍ أو فِعْل وفاعلٍ، يحصل بها الإثبات أو النفي، أثم أو أنقص مما يحصل باخرىز وإنما فضل اللفظ عن المعنى: أن تزيد الدلالةَ بمعنى على معنى، فتُدْخِلَ في أثناءِ ذلك شيئًا لا حاجة باملعنى المدلول عليه إليه.
__________
1 في المطبوعة: "لا حرف منها".
2 "الذرع" يعني به القياس بالذراع.

(1/457)


وكذلك السبيل في "السبك والطابَع" وأشباهِهما، لا يحُتَملُ شيءٌ من ذلك أن يكونَ المُرادُ به "اللفظَ" من حيثُ هو لفظٌ.
مسألة "اللفظ" وغلبتها على المعتزلة وغيرهم:
541 - فإِن أردتَ الصدقَ، فإِنَّك لا تَرى في الدنيا شأناً أَعْجبَ من شأنِ الناسِ مع "اللفظ"، ولا فساد رأى مازج النفوس وخارمها واستحكم يها وصار كإحدى طبائعها، من رأيهم في "اللَّفظ". فقد بلَغَ من مَلَكتهِ لهم وقُوَّتهِ عليهم، أنْ تَرَكهم وكأنَّهم إذا نُوظِروا فيه أخذَوا عن أنفُسِهم، وغيَّبوا عن عقولهم، وحِيلَ بينَهم وبينَ أنْ يكونَ لهم فيما يَسْمعونَه نَظَرٌ، ويُرى لهم إيرادُ في الإِصغاء وصَدَرُ، فلستَ تَرَى إلاَّ نفوساً قد جَعلَتْ تَرْكَ النظرِ دأْبَها، ووَصَلَتْ بالهُوينا أَسبابَها، فهي تعتر بالأضاليلِ وتَتباعَدُ عن التحصيلِ، وتُلْقي بأيديها إلى الشَّبَه، وتُسْرعُ إلى القولِ المموَّه.
542 - ولقد بلغَ مِن قلَّة نظَرِهم أنَّ قوماً منهم لمَّا رَأَوْا الكُتُبَ المصنَّفةَ في اللُّغةِ قد شاعَ فيها أنْ تُوصفَ الألفاظُ المفردةُ بالفصاحةِ، ورأوا أبا العباس ثعلباً قد سمَّى كتاقبه "الفصيح"، ـ مع أنه لم يذكر فيه اللُّغةَ والألفاظَ المفردةَ، وكان مُحالاً إذا قيلَ: إنَّ "الشمَع" بفتح الميم، أفصحُ من "الشمْع" بإِسكانه، أن يكونَ ذلك من أجلِ المعنى، إذا ليس تُفيد الفتحةُ في الميم شيئاً في الذي سُمِّي به1 سبَقَ إلى قلوبهم أنَّ حُكْمَ الوصفِ بالفَصَاحة أَينما كان وفي أي شيءٍ كان، أن لا يكونَ له مرجِعٌ إلى المعنى البتةَ، وأَن يكونَ وصْفاً لِلفَّظِ في نفسه، ومِن حيثُ هو لفظٌ ونطقُ لسانٍ، ولم يعلموا أنَّ المعنى في وصْف الألفاظِ المفردةِ بالفصاحة، أنها في اللغة أثْبَتُ، وفي استعمال الفصحاء أكثر.
__________
1 السياق: "أنَّ قوماً منهم لمَّا رَأَوْا الكُتُبَ المصنَّفةَ .... سبق إلى قلوبهم".

(1/458)


أوْ أنها أَجْرى على مقاييس اللغةِ والقوانينِ التي وَضعوها. وانَّ الذي هو معنى "الفصاحةِ" في أصل اللغة، هو الإنابة عن المعنى، بدلالة قولهم: "فصيح" و "أعجم"، وقولهم: "أفصح الأعجمي"، و "فصح اللحان" و "أفصح الرجُلُ بكذا"، إذا صرَّحَ به وأَنه لو كان وصفهم الكلمات المفردة بالفصاحةِ من أجْل وصْفٍ هُوَ لَها من حيثُ هي ألفاظٌ ونطقُ لسان، لوجب إذا وجت كلمةٌ يقال إنها كلمةٌ فصيحةٌ على صفةٍ في اللفظِ، أن لا تُوجَد كلمةٌ على تلك الصفةِ، إلا وَجَبَ لها أن تكونَ فصيحةً1، وحتى يَجِبَ إذا كانت "فقهتُ الحديثَ" بالكسر أفصحَ منه بالفتح، أن يكونَ سبيلُ كلَّ فعلٍ مثْلِه في الزِّنَةِ أَنْ يكونَ الكَسرُ فيه أفْصَحَ من الفتح.
ثم إنَّ فيما أودَعهُ ثعلبُ كتابَه، ما هو أفصَحُ، مِن أجْل أنْ لم يكُنْ فيه حرفٌ كان فيما جعلَهُ أفصَحَ منه2، مثْلُ إن "وقفت" أفصلح من "أَوْقَفْتُ"، أفتَرى أَنه حدَث في "الواو" و "القاف" و "الفاء" بأنْ لم يكن معها الهمزةُ، فضيلةٌ وجَبَ لها أن تكونَ أفصَحَ؟ وكفى برأيٍ هذا مؤدَّاهُ تَهافتاً وخَطلاً!
وجملةُ الأمر أَنه لا بدَّ لقولِنا "الفصاحةُ" مِنْ معنًى يُعْرَفُ، فإنْ كان ذلك المعنى وصْفاً في ألفاظٍِ الكلمات المفردةِ، فينبغي أنْ يُشارَ لنا إليه، وتوضَعَ اليد عليه.
__________
1 أسقط كاتب "ج" من أول قوله: "على صفة في اللفظ"، إلى هنا.
2 عبارة الشيخ هنا كزة جدًا. يعني أن ثعلبًا أورد كلمات في كتابه، فقال: هذا أفصح من هذه، وفي أفصح الكلمتين، حرف ليس في الأخرى.

(1/459)


"الاستعارة"، تكون في معنى "اللفظ":
543 - ومن أَبْيَن ما يَدلُّ على قلةِ نَظَرِهم، أَنه لا شبْهةَ على مَن نَظَر في كتابٍ تُذْكَر فيه "الفصاحةُ"، أنَّ "الاستعارةَ" عنوانُ ما يُجْعَلُ به "اللفظُ" فصيحاً، وأن "المجازَ" جملته، و "الإيجاز" مِن مُعْظم ما يُوجِبُ لِلََّفظِ الفصاحةَ. وأنتَ تراهم يذكرون ذلك يعتمدونه، ثم يَذْهَبُ عنهم أنَّ إيجابَهم "الفصاحةَ" لِلَّفْظِ بهذه المعاني، اعترافٌ بصحةِ ما نحن نَدْعوهم إلى القولِ به، من أَنه يكونَ فصيحاً لمعناه.
أمَّا "الاستعارةُ"، فإِنهم إنْ أَغْفَلوا فيها الذي قلنا، من أَنَّ المستعارَ بالحقيقةِ يكونُ معنى "اللفظِ"، واللفظُ تِبْعٌ، مِنْ حيثُ إنَّا لا نَقول: "رأيتُ أَسداً"، ونحنُ نَعْني رَجُلاً، إلاَّ على أنَّا ندَّعي أَنَّا رأينا أَسداً بالحقيقة، من حيثُ نَجْعلُه لا يتميزُ عن الأَسد في بأسه وبطشه وجزأه قلْبه فإِنهم على كلِّ حال لا يستطيعون أنْ يَجعلوا "الاستعارةَ" وصْفاً لِلَّفظِ مِن حيثُ هو لفظٌ، مع أَّنَّ اعتقادَهم أَنك إذا قلتَ: "رأيتُ أسداً"، كنتَ نقلْتَ اسْمَ "الأسدِ" إلى "الرجُلِ" أوْ جعلْتَه هكذا غُفْلاً ساذَجاً في معنى شجاعٍ. افتَرى أنَّ لفظَ "الأسدِ" لمَّا نُقِل عن السَّبُع إلى "الرجُلِ" المشبَّه به، أحدثَ هذا النقلُ في أجراسِ حروفهِ ومذاقَتِها وصْفاً صارَ بذلك الوصْفِ فصيحاً؟
544 - ثم إنَّ من "الاستعارَة" قَبيلاً لا يَصِحُّ أنْ يكونَ المستعارُ فيه "اللفظَ" البتَّةَ، ولا يصِحُّ أن تَقعَ الاستعارةُ فيه إلاَّ على المعنى، وذلك ما كان مثْلَ "اليد" في قول لبيد:
وغداة ربح قد كشفت وقرة ... إذا أصبحت بيد الشمال زمامها1
__________
1 قد سلف في الفقرة رقم: 512.

(1/460)


ذاك أنه ليس ههنا شيءٌ يَزْعمُ أَنَّه شبَّهَهُ باليد، حتى يكونَ لفظُ "اليد" مستعاراً له، وكذلك ليس فيه شيءٌ يُتَوهَّمُ أن يكونَ قد شبَّهه بالزِّمام، وإنما المعنى على أنه شبَّه "الشَّمالَ" في تصريفها "الغداةَ" على طبيعتها، بالإنسانِ يكون زمامُ البعيرِ في يَدِه، فهو يُصَرِّفُه على إرادته، ولمَّا أرادَ ذلك جَعَل للشَّمالِ يداً، وعلى الغداة زماماً. وقد شرحْتُ هذا قبْلُ شرْحاً شافياً1.
545 - وليس هذا الضربُ من الاستعارة بدُون الضربِ الأولِ في إيجابِ وصْفِ "الفصاحةِ" للكلام، لا بَلْ هو أَقوى منه فيِ اقتضائها. والمَحاسِنُ التي تَظهرُ به، والصورُ التي تَحْدثُ للمعاني بسببه، آنقُ وأعجبُ. وإنْ أردتَ أن تَزْداد عِلماً بالذي ذكرتُ لكَ من أمرِهِ، فانظرْ إلى قوله:
سقته كف الليل أكواس الكَرى2
وذلك أنَه ليس يَخْفى على عاقلٍ أنه لم يُرد أن يُشبِّه شيئاً بالكفِّ، ولا أراد ذلك في "الأكواس" ولكن لما كان يقال: "سكر الكرى" و "سكر النوم"، استعار للكرى "الأكواس"، كما استعار الآخَرُ "الكأْسَ" في قوله:
وقد سَقَى القومَ كأسَ النعسةِ السَّهَرُ3
ثم إنه لمَّا كان الكَرى يكونُ في الليل، جعلَ الليلَ ساقياً، ولمَّا جَعلَه ساقياً جعلَ له كفًا، إذا كان الساقي يناول الكأس بالكف.
__________
1 انظر ما سلف، الفقرة رقم: 512.
2 لم أعرف قائله. وهكذا هو "ج" و "س"، والمطبوعة هنا، وفيما سيأتي، وهو بلا شك جمع "كأس"، وكأنه سهل الهمزة ثم جمع "كاسًا" على "أكواس".
3 الشعر لأبي دهبل الجمحي، وهو في ديوانه، وروايته: "كأس النشوة"، وصدر البيت:
أقول والركب قد مالت عمائمهم

(1/461)


546 - ومن اللطيفِ النادِرِ في ذلَك، ما تراهُ في آخِرِ هذه الأبياتِ، وهي للحَكَم بْنِ قنبر:
ولَوْلا اعْتِصامي بالمُنَى كلَّما بَدا ... ليَ اليأسُ منها، لم يَقُمْ بالهَوى صَبْري
ولَوْلا انْتِظاري كل يوم جدي غدٍ، ... لراحَ بِنَعْشِي الدّافِنونَ إلى قَبْري
وقَدْ رايني وَهْنُ المُنى وانِقباضُها ... وبَسْطُ جديدِ اليأسِ كَفَّيْهِ في صدْري
ليس المعنى على أَنه استعارَ لفظَ "الكفينِ" لشيءٍ، ولكنْ على أنه أرادَ أنْ يَصِفَ اليأسَ بأنَّه قد غلَب على نفسِه، وتمكَّن في صدْرِه، ولمَّا أرادَ ذلك وصفه بما يصفون فيه الرجل بفضل القدرة على الشيء1، وبأنه ممكن منه، وأن يَفْعلُ فيه كلَّ ما يريدُ2، كقولهم: "قد بَسطَ يديهِ في المال يُنفِقُه ويصنَعُ فيه ما يشاء"، و "قد بَسطَ العامِلُ يدَه في الناحية وفي ظُلْم الناس"، فليس لك إلا أن تقول: "إنما لما أراد ذلك، جعل الليأس "كفَّيْنِ"، واستعارَهما له، فأَمَّا أَنْ تُوقِعَ الاستعارةَ فيه على "اللفظ"، فما لا تخفى استحالتهُ على عاقل3.
"المجاز"، كالاستعارة، إلا أنه أعم:
547 - والقولُ في "المجازِ" هو القولُ في "الاستعارة"، لأنه ليس هو بشيء غيرها، وغنما الفَرْقُ أَنَّ "المجازَ" أعمُّ من حيثُ إنَّ كلَّ استعارةِ مجازٌ، وليس كلُّ مجازٍ استعارةً.
وإذا نظرنا من "المجاز" يما لا يطلق عليه أن "استعارة" ازداد خطأ القوم
__________
1 في المطبوعة "يصفون به"، وفي نسخة عند رشيد رضا "فيه" أيضًا.
2 في المطبوعة: "متمكن عنه وأنه يفعل"، وفي "س": "ومن أن يفعل".
3 في المطبوعة: "فمما".

(1/462)


قبحًا وشناعة. وذلك أن يَلزَمُ على قياس قولهم أنْ يكونَ إنما كان قولُه تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67]، أَفصَحَ مِن أَصْله الذي هو قَوْلُنا: "والنهارَ لِتُبْصِروا أنتُمْ فيه، أو مبصراً أنتم فيه"، من أجْلِ أنه حدَثَ في حروفِ "مُبْصر" بأن جَعَل الفِعْل للنهارِ على سعَةِ الكلامِ1 وصفٌ لم يكن وكذلك يَلزمُ أن يكونَ السببُ في أنْ كان قول الشاعر:
فنام لَيْلي وتجلَّى همِّي2
أفصحَ من قولنا: فنمت في ليل3 أنْ كسبَ هذا المجازُ لفظَ "نام" ولفظ "الليل" مذاقَةً لم تكُنْ لهما. وهذا مما يَنْبغي للعاقل أنْ يستَحيَ منه، وأَنْ يأنفَ من أن يهمل النظر إهمالًا يوديه إلى مثله، وتسأل الله تعالى العصمة والتوفيق.
القول في "الإيجاز":
548 - وإذْ قد عرفْتَ ما لَزِمَهم في "الاستعارةِ" و "المجاز"، فالذي يَلزَمُهم في "الإِيجاز" أَعجبُ. وذلكَ أنه يلزَمُهم إنْ كانَ "اللفظُ" فصيحاً لأَمرٍ يَرْجِعُ إليه نسه دون معناه أن يكون كذلك موجزًا لمر يرجع إلى نفسه، وذلك في المُحَال الذي يُضْحَك منه، لأنه لا معنى للإِيجاز إلاَّ أنْ يَدُلَّ بالقليل منَ اللفظِ على الكَثير من المعنى، وإذا لم تَجعلْهُ وصْفاً لِلَّفظِ من أجْلِ معناه، أبطَلْتَ معناهُ، أعني أبطلت معنى الإيجاز.
__________
1 السياق: "أنه حدث في حروف مبصر .... وصف".
2 الرجز لرؤية، وقد سلف برقم: 348.
3 السياق: "يلزم أن يكون السبب .... أن كسب"، وموقعها خير "يكون".

(1/463)


549 - ثم إنَّ ههنا معنىً شريفاً قد كان ينبغي أن تكون قد ذكرناه في أثناءِ ما مَضَى من كلامِنا، وهو أَنَّ العاقلَ إذا نَظَر عَلِمَ علْم ضرورةٍ أنه لا سبيلَ له إلى أنْ يُكثِرَ معانيَ الألفاظِ أو يُقلِّلَها، لأنَّ المعانيَ المُودَعةً في الألفاظِ لا تتغيَّر على الجملةِ عمَّا أرادَهُ واضعُ اللغةِ، وإِذا ثبَتَ ذلك، ظَهَر منه أَنه لا معنى لقولِنا: "كثرةُ المعنى مع قِلَّة اللفظِ"، غيرَ أنَّ المتكلَّم يتَوصَّل بدلالةِ المعنى على المعنى إلى فوائدَ، لَوْ أَنه أرادَ الدلالةَ عليها باللفظ لاحتاجَ إلى لفظ كثير.
الرأي الفاسد وخطره إذا قاله عالم له صيت ومنزلة:
550 - واعلمْ أَن القولَ الفاسِدَ والرأيَ المدخولَ، إِذا كان صدره عن قوم لهم نَباهةٌ وصيتٌ وعلوٌّ منزلةٍ في أنواعٍ من العلوم غيرِ العِلْم الذي قالوا ذلك القولَ فيه1، ثم وقَعَ في الأَلْسُن فتداولتْه ونَشرَتْه، وفشَا وظَهَر، وكَثُرَ الناقلون له والمُشِيدُون بِذكْره2 صار تَرْكُ النَّظرِ فيه سنَّةً، والتقليدُ ديناً، ورأيتَ الذين همْ أهلُ ذلك العِلْم وخاصَّتُه والممارِسون له، والذينَ هُمْ خُلَقاءُ أنْ يَعرِفوا وجْهَ الغلطِ والخطأ فيه لو أنَّهم نظَروا فيه3 كالأجانب الذين ليسوا من أهله، في قبول والعمل به والركون إليه، ووجدتهم قد أععطوه مقادتهم، وألا نوا له جانِبَهم، وأَوْهَمَهمْ النظَرُ إلى مُنْتَماه ومنْتَسَبهِ، ثم اشتهارِه وانتشارِه وإطباقِ الجمع بعدَ الجمع عليه4 أَنَّ الضَّنَّ به أصوب، والمحامة عليه أَوْلى. ولربما بل كلَّما ظنوا أنه لم يَشِعْ ولم يَتَّسعْ، ولم يَرْوِهِ خلفٌ عن
__________
1 في المطبوعة وحدها: "إذا كان صدوره عن قوم".
2 السياق: "إذا كان صدره عن قوم لهم نباهة ... صار ترك النظر" ..
3 السياق: "ورأيت الذين هم أهل ذلك العلم ... كالأجانب" ..
4 السياق: "وأوهمهم النظر إلى منتماه ... أن الضن به".

(1/464)


سَلَف، وأخِرُ عن أول، إلا لأنَّ له أصْلاً صحيحاً، وأنه أُخذَ من معْدِن صدقٍ، واشتُقَّ من نَبْعةٍ كريمةٍ، وأَنه لو كان مَدْخولاً لظَهَر الدَّخَلُ الذي فيه على تقادُم الزمان وكرورِ الأيام. وكمْ من خَطإٍ ظاهرٍ ورأْيٍ فاسدٍ حظيَ بهذا السبَبِ عندَ الناس، حتى بَوَّأُوه في أَخَصِّ موضعٍ من قلوبهم، ومنحوه المحبَّة الصادقةَ من نفوسهم، وعطفوا عليه عطْفَ الأُمِّ على واحدِها. وكم من داءٍ دَويٍّ قد استحْكَم بهذه العِلَّة، حتى أعْيَا علاجُه، وحتى بَعِلَ به الطبيبُ1.
ولَوْلاَ سلطانُ هذا الذي وصفتُ على الناس، وأَنَّ له أخذه تمنع القلوب على التدبر2، وتقطع عنها ذواعي التفكُّر لمَا كان لهذا الذي ذَهَب إليه القومُ في أمرِ "اللفظِ" هذا التمكُّنُ وهذه القوَّةُ، ولا كان يَرْسُخُ في النفوسِ هذا الرسوخ، وتنشعب عروقه هذا الشعب3، مع الذي بانَ مِن تهافُتهِ وسقُوطهِ4 وفُحْشِ الغلط يه، وأنَّكَ لا تَرى في أَديمهِ مِنْ أَين نظَرْتَ، وكيفَ صرَّفْتَ وقلَّبْتَ مَصَحّاً5، وَلا تَراه باطِلاً فيه شَوْبٌ من الحقِّ، وزَيفاً فيه
__________
1 في هامش "ج": "بعل" أي تحبر"، وأزيد: وبرم به ولم يدر كيف يصنع فيه.
2 "الأخذة" أصلها ضرب من التمائم، نوخذا المرأة به زوجها عن السناء غيرها، وهو من السحر.
3 في المطبوعة: وتشعب عروفه هذا التشعب"، وهي جيدة. و "الشعب"، و "التشعب"، التفرق.
4 أسقط كاتب "س" كلامًا، فكتب: "لما كانلهذا الذي ذَهَب إليه القومُ في أمرِ اللفظِ على تهافته وسقوطه" ثم كتب ما أسقطه هنا بعد قوله فيما سيأتي بعد أسطر، أي بعد قوله: "والغيظ صرفًا"، وهو سهور شديد.
5 السياق: "لا ترى في أديمه ... مصحًا"، و "الأديم" بشرة الجلد وظاهره، يريد لا ترى فيه موضعا صحيحًا لم يتخرق.

(1/465)


شيءٌ من الفِضَّة، ولكنْ تَرى الغِشَّ بَحْتاً والغيظ صرفًا، ونسأل الله التوفيق.
الرد على المعتزلة في مسألة "اللفظ" وبيان تقصيرهم:
551 - وكيف لا يكونُ في إسارِ الأُخْذَةِ1، ومَحُولاً بينه وبين الفِكْرة مَنْ يُسلِّمُ أنَّ الفصاحةَ لا تَكونُ في أفرادِ الكلماتِ، وأنها إنما تَكُونُ فيها إذا ضُمَّ بعضُها إلى بعْضٍ2، ثم لا يَعْلَم أنَّ ذلك يَقْتضي أنْ تكونَ وصْفاً لها، مِن أجْلِ معانيها، لا مِنْ أَجْل أَنفُسِها، ومِنْ حَيثُ هي ألفاظٌ ونُطْقُ لسانٍ؟
ذاكَ لأنه ليس مِنْ عاقلٍ يَفْتَح عينَ قلبهِ، إلاَّ وهو يَعْلَمُ ضرورةَ أنَّ المعنى في "ضَمِّ بعضِها" إلى بعْضٍ"، تعليقُ بعضِها ببعضٍ، وجَعْلُ بعْضِها بسَببٍ من بعض، لا أن ينطق بعضها في أَثر بعضٍ، مِنْ غير أنْ يكونَ فيما بينها تَعلُّقٌ3 ويعْلمُ كذلك ضرورةً إِذا فكرَّ، أنَّ التعلُّقَ يكونُ فيما بين معانيها، لا فيها بينها أَنفُسِها. ألا تَرى أَنَّا لوْ جَهِدْنا كلَّ الجَهْدِ أَنْ نَتصَّورَ تعلُّقاً فيما بينَ لفظين لا معنى تحتهما، لم نتصوَّر؟ ومن أَجْلِ ذلك انقسَمتْ الكَلِمُ قسمَيْنِ:
"مؤتلفٌ" وهو الاسْمُ مع الاسْم، والفعلُ مع الاسْمِ و "غير موتلف" وهو ما عدا ذَلك كالفِعْل معَ الفْعلِ، والحَرْفِ مع الحرفِ. ولو كان التعلُّقُ يكونُ بين الألفاظِ، لكانَ ينبغِي أنْ لا يَختلِفَ حالُها في الائتلافِ، وأنْ لا يكونَ في الدنيا كلمتانِ إلاَّ ويصِحُّ أنْ يأْتلِفا، لأنه تنافي بينهما من حيث هي ألفاظ.
__________
1 سلف تفسيرها في التعليق قريبًا: ص: 465، تعليق: 2.
2 هذا نص القاضي عبد الجبار المعتزلي، وقد سلف برقم: 465، وسيأتي في ىخر هذه الفقرة أيضًا، وانظر ما سيأتي أيضًا في رقم: 554 وما بعدها، بيانه عن "الاحتذاء" عند الشعراء وأهل العلم بالشعر، وهو فصل مهم في الرد على القاضي المعتزلي.
3 في المطبوعة: "فيما بينهما".

(1/466)


وإذا كان كلُّ واحدٍ منهم قد أَعطى يدَه بأنَّ الفصاحةَ لا تكونُ في الكَلِم أَفراداً، وأنها إنما تكونُ إذا ضُمَّ بعضُها إلى بعض، وكان يكون المراد بضم بضعها إلى بعضٍ، تعليقَ معانيها بعضِها ببعضٍ، لا كَوْنَ بعضِها في النُّطقِ على أثرِ بعضٍ1 كان واجباً، إذا عُلِم ذلكَ، أن يُعْلَم أنَّ الفصاحةَ تَجِبُ لها من أجْل معانيها، لا من أجْل أنْفُسها، لأنه محالٌ أن يكونَ سبب ظهور الفصاحة يها، تعلُّقُ معانيها بعضِها ببعضٍ، ثم تكون الفصاحةُ وصفًا تجب لها لأنفسها لا لماعنيها. وغذا كان العلم بهذه ضرورةً، ثم رأيتَهم لا يَعْلمونَه، فليس إلاَّ أن اعتزامَهم على التقليد قد حالَ بينهم وبين الفكرة، وعرض لهم منه شبه الأخذة2.
تعويل المعتزلة على "نسق الألفاظ" في شأن الفصاحة:
552 - وأعلمْ أنكَ إِذا نظرتَ وجدْتَ مَثلَهم مثَلَ مَنْ يرَى خيَالَ الشيءِ فَيحْسبُهُ الشيءَ، وذاك أَنهم قد اعتمدُوا في كلِّ أمرِهم على النسق الذي يرونه في الألفاظ، وجعل لا يحَفِلون بِغيره، ولا يُعَوِّلون في الفصاحةِ وباللاغة على شيء سواء، حتى انتهوا إلى أن زعموا مَن عَمَد إلى شعرٍ فصيح فقرأه ونطقَ بألفاظهِ على النسَقِ الذي وضعَها الشاعرُ عليه، كان قد أتى بمثْلِ ما أتى به الشاعرُ في فصاحَته وبلاغَته، إلاَّ أَنهم زعَموا أنه يكونُ في إتْيانه بهِ مُحْتذياً لا مبتدئًا3.
__________
1 في المخطوطتين والمطبوعة: "وكان واجبًا"، وهو خطأ ظاهر، والصواب إسقاط الواو، لأن السياق: "إذا كان كل واحد قد أعطى بيده .... كان واجبًا".
2 "الأخذة"، سلف منذ قليل تفسيرها ص: 465، تعليق: 2.
3 هذا صريح مقالة القاضي عبد الجبار المعتزلي، وتجدها في المغني 16: 222.

(1/467)


553 - ونحن إذا تأَملْنا وجَدْنا الذي يكونُ في الألفاظِ من تقديمِ شيءٍ منها على شيءٍ، إنما يقَعُ في النفس أَنَه "نَسَقٌ"، إذا اعتبَرْنا ما تُوخِّي من معاني النَّحو في معانيها، فأمَّا مَع تَرْكِ اعتبارِ ذلك، فلا يَقَعُ ولا يُتصوَّرُ بحالٍ، أفلا تَرى أَنَّكَ لو فرَضْتَ في قولهِ:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى حبيبٍ ومنزلِ
أنْ لا يكونَ "نبْكِ" جواباً للأمْر، ولا يكونَ مُعدًّى "بِمنْ" إلى "ذِكْرى" ولا يكونَ "ذكرى" مضافةً إلى "حبيب"، ولا يكونَ "منزل" معطوفاً بالواو على "حبيب"1 لخَرَجَ ما تَرى فيه مِنَ التقديم والتأخيرِ عن أن يكونَ "نَسَقاً"؟ ذاك لأنَّه إنما يكونُ تقديمُ الشيءِ على الشيءِ نَسَقاً وتَرتيباً، إذا كان ذلكَ التقديمُ قد كان لِمُوجِبٍ أوْجَبَ أنْ يقدَّم هذا ويؤخَّر ذاك، فأَمَّا أنْ يكونَ مع عدم الموجِبِ نسَقاً، فَمحال، لأنه لو كان يكونُ تقديمُ اللفظِ على اللفظِ مِنْ غَيْر أنْ يكونَ لهُ مُوْجِبٌ "نَسقاً"، لكان يَنبغي أن يكونَ تَوالي الألفاظِ في النُّطق على أَيِّ وجْهٍ كان "نَسَقاً"، حتى إنك لو قلْتَ: "نبْك قِفا حبيبِ ذكرى من"، لم تَكنْ قد أعدَمْتَه النسَقَ والنظْم وإنما أعدَمْتَه الوزْنَ فقط. وقد تقدَم هذا فيما مضى2، ولكنَّا أعَدْناه ههنا، لأنَّ الذي أَخَذْنا فيه من إسلامِ القوم أنفسهم إلى التقليد، اقتضى إعادته.
"الاحتذاء"، و"الأسلوب":
554 - واعلمْ أنَّ "الاحتذاءَ" عندَ الشعراءِ وأهلِ العلمِ بالشعر وتقديره وتمييزه3، أن يبتدئ الشاعر في معنى له وغرض أسلوبًا و "الأسلوب"
__________
1 السياق: "أفلا ترى لو فرضت في قوله ... لخرج ما ترى".
2 انظر ما سلف رقم: 493.
3 انظر التعليق السالف على آخر الفقرة رقم: 552.

(1/468)


الضْربُ مِنَ النْظم والطريقةُ فيه فيعمَدَ شاعرٌ آخرُ إلى ذلك "الأسلوبِ" فيجيءَ بهِ في شِعره، فيُشبَّه بِمَنْ يقْطَع مِن أَديمه نعْلاً على مثال نعْلٍ قد قطَعها صاحبُها، فيقال: "قدِ احْتذى على مثالِه"، وذلك مثلُ أَنَّ الفرزدق قال:
أنرجو ربيع أن تجديء صِغارُها ... بِخَيرٍ، وَقدْ أَعْيَا رُبَيْعاً كِبارُها1
واحْتَذاه البعيث فقال:
أَترجُو كُلَيْبٌ أنْ يَجيء حديثُها ... بَخير، وقد أَعْيَا كُلَيْباً قَدِيمُها2
وقالوا: إنَّ الفرزدقَ لمَّا سمع هذا البيت قال:
إِذا ما قلتُ قافيةً شَروداً ... تَنَحَّلهَا ابنُ حمراءِ العِجَانِ3
ومثلُ ذلك أَنَّ البعيثَ قال في هذه القصيدة:
كليب لئام الناس قد تعلمونه ... وأنتَ إذا عُدَّت كُلَيبٌ لَئيِمُها4
وقال البحتريُّ:
بنو هاشم في كل مشرق ومغرب ... كرام بنى الدنيا وأنت كريمها5
__________
1 هو في ديوانه، يهجو بني ربيع بن الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة، وانظر لهذا وما بعده النقائض: 124، 125.
2 هو في قصيدة البعث في النقائض: 109، 125.
3 هو في ديوانه، والنقائض: 125، وقال: "تنخلها"أي أخذ خيارها. و "تنحلها" "يعني بالمهملة"، "انتحلها"، و "ابن حمراء العجان"، يعني البعيث، لأن أمه أعجمية غير عربية.
4 هو في قصيدته في النقائض: 109
5 هو في ديوانه.

(1/469)


وحكى العسكريُّ في "صنعة الشَّعر"1 أنَّ ابنَ الروميِّ قال: قال لي البحتريُ: قولُ أبي نواس:
ولم أَدْرِ مَنْ هُمْ غيرَ ما شهِدَتْ لهم ... بشرفي ساباطَ الديارُ البَسَابِسُ2
مأخوذٌ من قول أبي خراش الهذلي:
وَلَمْ أَدْرِ مَنْ أَلْقى عليه رداءَهُ ... سِوى أَنه قَدْ سُلَّ مِنْ ماجدٍ مَحْضِ3
قال فقلتُ: قد اختلفَ المعنى! فقال: أَمَا تَرى حَذْوَ الكلامِ حَذْواً واحداً؟
وهذا الذي كتبتُ من جلى الأخذ في "الحذو"4، ومما هو ي د الخفي قول البحتري:
ولن يَنْقُلَ الحسَّادُ مجْدَكَ بعْدَما ... تمكَّنَ رَضوى وآطمأن متالع5
وقول أبي تمام:
ولقد جهدتهم أَنْ تُزِيلوا عِزَّهُ ... فإِذا أَبانٌ قدْ رَسَا ويلملم6
__________
1 كأنه كتاب آخر غير "ديوان المعاني"، لأبي هلال العسكري.
2 هو في ديوانه، و "ساباط" هو ساباط كسرى بالمدائن، و "البسابس"، القفار.
3 في شرح أشعار الهذلين: 1230، وشرح الحماسة للتبريزي 2: 145.
4 في المطبوعة: "حلى الأخذ"، وشرحه بما لا يحسن أن يقال.
5 هو في ديوانه، و "رضوى" و "متالع" جبلان.
6 هو في ديوانه، و "أبان" و "يلملم" بجلان، وفي "س": "ولقد أرادوا أن يزيلوا"، على غير رواية الديوان.

(1/470)


قد احتذى كل واحد مننهما على قول الفرزدق:
فادْفَعْ بِكفْكَ، إنْ أردُتَ بِناءَنا ... ثهلانَ ذا الهضَباتِ هَل يتحْلَحَلُ1
وجملةُ الأمر أَنهم لا يَجْعلون الشاعرَ "مُحْتذِياً" إلاَّ بما يَجْعلونه بهِ آخذًا ومسترقًا، قال ذو الرمة:
وشعرٍ قَدْ أَرِقْتُ له غريبٍ ... أُجَنّبُهُ المُسانَد والمُحَالا
فبتُّ أُقِيمُهُ وأَقَدُ مِنْهُ ... قَوافِيَ لا أُريد لها مِثَالا2
قال يقول: لا أَحْذوها على شيءٍ سمِعْتُه.
فأَمَّا أنْ يُجْعَل إنشادُ وقراءتُه "احتذاءً" فَما لا يعْلَمونَه كيف؟ وإذا عَمَد عامِدٌ إلى بيتِ شعرٍ فوضَعَ مكانَ كل لفظة لفظًا في معناه، كثل أنْ يقولَ في قولِه:
دَعِ المَكارِمَ لا تَرْحَلْ لِبُغْيتهِا ... واقْعُدْ فإِنَّك أنتَ الطاعِمُ الكاسي3
ذَرِ المآثِرَ لا تَذْهَبْ لِمَطْلَبِها ... واجْلِسْ فإنكَ أنتَ الآكلُ اللابسُ4
لم يجعلوا ذلك "احتذاء" ولم يوهلوا صاحِبَه لأن يُسَمُّوه "مُحْتذِياً"، ولكنْ يُسمُّونَ هذا الصنيع "سلخًا"، ويرذلونه ويسحقون المتعاطيَ له. فمِنْ أينَ يجوزُ لنا أن نقول في صبي يقرأ قصيدة أمرئ القيس: إنه احتذاه في قوله:
__________
1 هو في ديوانه.
2 هو في ديوانه.
3 هو شعر الخطيئة في ديواهه.
4 كتب في "س": "الآكل الشارب"، وهو ليس بشيء، وسيأتي البيتان في رقم: 567.

(1/471)


فقلتُ لهُ لما تَمطَّى بصُلْبه ... وأَرْدَف أَعجازاً وناءَ بِكَلْكَلِ1
والعَجَبُ مِن أنَّهم لم يَنْظروا فيَعْلَموا أَنه لو كان مُنْشِد الشعرِ "مُحْتذياً"2، لكانَ يكونُ قائلُ شعرٍ، كما أنَّ الذي يحذو النْعلَ بالنعلِ يكون قاطِعَ نِعْلِ.
وهذا تقريرٌ يصلح لأن يحفظ للمناظرة
مناقشة "الاحتذاء" و"النسق" في إعجاز القرآن:
556 - ينبغي أن يقال لمن يزعم أن المنشدإذا أنشد شعر آمرئ القيس، كان قد أَتى بِمثْلهِ على سبيلِ "الاحْتِذاء": أخبرْنا عنكَ؟ لماذا زعَمْتَ أنَّ المنشِدَ قد أتى بمثل ما قاله امرئ القيس؟ ألأنه نطقَ بأنفُسِ الألفاظِ التي نطقَ بها، أَمْ لأَنه راعى "النَسَق" الذي راعاه في النطقِ بها؟
فإِنْ قلتَ: "إنَّ ذلكَ لأَنه نطَق بأَنفُسِ الألفاظِ التي نطَقَ بها"، أَحَلْتَ، لأنه إنما يَصِحُّ أنْ يقالَ في الثاين إنه أتى بِمثْلِ ما أتى به الأوَّلُ، إذا كان الأوَّلُ قد سَبقَ إلى شيءٍ فأحدثه ابتداء، وذلك في الألفاظ محجال، إذْ ليس يُمكِنُ أنْ يُقال: إنه لم يَنْطِقْ بهذه الألفاظِ التي هي في قوله:
قفا نبكِ مِنْ ذِكرى حبيبٍ ومنزلِ
قبْل امرئ القيس أحد.
__________
1 امرؤ القيس في معلقته.
2 في "س": "يكون محتذيًا".

(1/472)


وإن قلتَ: إنَّ ذلك لأنه قد راعى في نُطْقه بهذه الألفاظِ "النسَقَ" الذي راعاه امرؤ القس.
قيل: إنْ كنتَ لهذا قضَيْتَ في المُنْشِد أنه قد أَتَى بِمْثل شِعْره، فأخْبِرْنا عنكَ؟ إِذا قلتَ: "إن التحدِّيَ وقَع في القرآن إلى أن يُؤتى بمثله على جهةِ الابتداءِ"1، ما تَعْني به؟ أَتَعْني أَنه يأتي في ألفاظٍ غيرِ أَلفاظ القرآن، بمثل التّرتيبِ والنَّسَقِ الذي تَراه في ألفاظ القرآنِ.
فإِن قال: ذلك أَعْني.
قيل له: أَعلِمْتَ أَنه لا يكونُ الإتيانُ بالأشياءِ بَعْضِها في أَثرِ بعضٍ على التَّوالي نَسَقاً وتَرتيباً، حتى تكونَ الأشياءُ مختلفةً في أَنْفُسها، ثم يكونَ للَّذي يَجيءُ بها مَضموماً بعضُها إلى بعضٍ، غرضٌ فيها ومقصودٌ، لا يَتمُّ ذلك الغرَضُ وذاك المقصود إبلا بأَنْ يتَخيَّر لَها مواضِعَ، فيَجعلَ هذا أولاً، وذاك ثانيصا؟ فإِنَّ هذا ما لا شُبهة فيه على عاقل. وإِذا كان الأمرُ كذلك، لزِمَك أن تُبَيِّنَ الغرضَ الذي اقتضَى أنْ تكونَ ألفاظُ القرآنِ منْسوقةً النَّسَقَ الذي تَراه.
ولا مَخْلَصَ له من هذه المُطالبة، لأنه إذا أبى أن يكون المقتصى والموجِبُ للَّذي تَراه من النَّسق، المعانيَ2 وجَعلَه قد وجب لأمر يرجع
__________
1 هذا كلام القاضي عبد الجبار المعتزلي في المغني 16: 222، يقول بعد كلام: " ... فيجب في القرآن أن يكون التحدي واقعًا بهم على المعتاد، فيكون ما يورده المتحدي في حكم المتبدأ، ويكون مشاركًا للمتحدي في أن يكون ما يورده مبتدئًا، وخارجًا عن أن يكون محتذيًا، لأن الاحتذاء أو الحكاية، لا معتبر لها في هذا الباب".
2 "المعاني" اسم "يكون".

(1/473)


إلى اللفظ، لم تجد شيئًا يحيل في وجوبه عليه البتةَ1، اللهُمَّ إلاَّ أَنَّ يَجْعل الإعجازَ في الوزن، ويَزْعُمَ أنَّ "النَسقَ" الذي تراه في ألفاظ القرآنِ إنما كان معْجِزاً، من أجْل أنْ كان قد حَدث عنه ضربٌ من الوزن يُعجِز الخلقَ عن أنْ يأْتوا بمثله.
وإذا قال ذلك، لم يُمْكِنْه أنْ يقولَ: "إنَّ التحدِّيَ، وقَع إلى أن يأْتوا بمثلِهِ في فصاحَتِه وبلاغَتِه"، لأن الوزن ليس هو في الفصاحة والبلاغة في شيء، إذا لو كان له مَدْخَلٌ فيهما، لكانَ يَجبُ في كل قصيدتين افتقتا في الوزن أن تنفقا في الفصاحة والبلاغةِ.
فإن دعا بعضُ الناس طوال الإِلْفِ لِمَا سَمعَ من أَنَّ الإعجازَ في اللفظ إلى أَنْ يَجْعلَه في مجرَّدِ الوزْنِ، كان قد دَخَل في أمرٍ شنيعٍٍ، وهو أنَه يكونُ قد جَعلَ القرآنَ مُعجِزاً، لا مِن حيثُ هو كلامٌ، ولا بما به كان لِكَلامٍ فضْلٌ على كلامٍ فليسَ بالوزْنِ ما كان الكَلامُ كلاماً، ولا به كان كلامٌ خَيراً من كلام.
سهولة "اللفظ" وخفته في شأن إعجاز القرآن:
557 - وهكذا السبيلُ إنْ زعَم زاعِمٌ أنَّ الوصفَ المعجزَ هو "الجَرَيانُ والسهولَةُ"، ثم يعني بذلك سلامَتَهُ من أن تلتقيَ فيه حروفٌ تَثْقُل على اللسان، لأنه ليس بذلك كان الكلامُ كلاماً، ولا هو بالذي يتنَاهى أَمرُه إنْ عُدَّ في الفضيلةِ إلى أن يكونَ الأَصْلَ، وإلى أن يكونَ المعَّولَ عليه في المفاضَلةِ بين كلامٍ وكلامٍ، فما به كان الشاعرُ مفلقًا، والخطيب مصقعًا، والكاتب بليغًا.
__________
1 في المطبوعة وحدها، كتب "يحيل الإعجاز في وجوبه"، زاد ما أفسد الكلام.

(1/474)


558 - ورأينا العقلاءَ1، حيثُ ذكَروا عجْزَ العربِ عن مُعارَضَةِ القرآن، قالوا: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم تحدَّاهم وفيهم الشعراءُ والخطباءُ والذين يُدِلُّونَ بفصاحةِ اللسان، والبراعةِ والبَيان، وقوةِ القرائحِ والأَذْهان، والذين أُوتوا الحِكْمةَ وفصْلَ الخِطابِ2 ولم نَرهم قالوا: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم تَحدَّاهم وهم العارِفُون بما يَنبغي أن يُصْنَع3، حتى يَسْلَم الكلامُ من أن تلتقيَ فيه حروف تنقل على اللسان.
ولَمَّا ذكَروا معجزاتِ الأنبياءِ عليهم السلام وقالوا: إنَّ اللهَ تعالى قد جَعَل معجزةَ كلِّ نَبيّ فيما كان أغْلَبَ على الذين بُعِثَ فيهم، وفيما كانوا يتباهَوْنَ به، وكانت عوامهم تعظم به خواصهم4 قالوا: إنما لمَّا كان السِّحْرُ الغالِبَ على قومِ فِرْعونَ، ولم يكُنْ قد استَحكَم في زمانِ استحكامَه في زمانِه، جَعَل تعالى معجِزَةَ موسى عليه السلام في إبطاله وتوهينه ولما كان الغلب على زمانِ عيسى عليه السلام الطِّبُ، جعلَ الله تعالى معجزته في إبراه الكمه والأَبْرصِ وإحياءِ الموتى ولما انتَهَوْا إلى ذكْر نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم وذكْرِ ما كان الغالبَ على زمانهِ، لم يذكوا البلاغَة والبيانَ والتصرُّفَ في ضروب النظْم.
وقد ذكرت في الذي تقدم غير ما ذكرته ههنا5، مما يدل على سقوط
__________
1 في "ج"، و "رأيت العقلاء"، والسياق يأباها.
2 في العبارة تقصير.
3 العبارة غير جيدة، وسياقها: "إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم تحدَّاهم ... حتى يسلم الكلام".
4 السياق: "ولما ذكروه معجزات الأنبياء ... قالوا".
5 في "س" "غير ما ذكرته ههنا" وهو الصواب بلا ريب، وفي "ج" والمطبوعة: "عين ما ذكرته، وهذا ليس صحيحًا، لم يذكر ما قاله ههنا بعينه فيما مضى من الكتاب، والذي أشار إليه هو في رد القول بالحروف تثقل على اللسا، وقد مضى ذلك برقم: 49 - 52.

(1/475)


هذا القولِ، وما دعاني إلى إعادةِ ذِكْره إلا أنه ليس لتهالك الناسِ في حديث "اللفظ" والمحاماةُ على الاعتقاد الذي اعتقدوه فيه وضن أنسهم به1 حدٍّ، فأحْبَبْتُ لذلك أن لا أَدعَ شيئاً مما يجوزُ أن يَتعلَّق به متعلِّقٌ، ويلجأَ إليه لاجئ، ويقعَ منه في نفْس سامعٍ شَكًّ، إلا استقصيت في الكشف عن بطلانه.
559 - وههنا أمرٌ عجيبٌ، وهو أنَه معلومٌ لكلٍّ مَنْ نَظَر، أنَّ الألفاظَ من حَيْثُ هي ألفاظٌ وكَلِمٌ ونُطْقُ لسانِ، لا تخْتصُّ بواحدٍ دونَ آخر، وأنها إنما تختص إذا توخي يها النظْمُ2. وإِذا كان كذلك، كان مَنْ رفَعَ "النظْمَ" مِن البين3، وجعَلَ الإعجازَ بجُملته في سهولةِ الحُروف وجَرَيانها4، جاعلاً له فيما لا يصِحُّ إضافتُه إلى الله تعالى. وكَفَى بهذا دليلاً على عَدمِ التوفيق، وشدَّةِ الضلالِ عن الطريق.
__________
1 سياق العبارة: "ليس لتهالك القوم في حديث اللفظ ..... حد"، وهو إشارة لتهالك المعتزلة وشيخهم القاضي عبد الجبار المعتزلي في "حديث اللفظ"، والمحاماة دونه ... ". وقد أشار عبد القاهر إلى ذلك مرارًا قبل ذلك. وكانت هذه العبارة في المطبوعة، وفي "س" و "ج" هكذا: "وما دعاني إلى إعادةِ ذِكْره، إلاَّ أنه ليس "تهالك" الناس فيحديث اللفظ، والمحاماة على الاعتقاد الذي اعتقده فيه، "وظن" أنفسهم به "إلى حد"، وفي "جد"، وحدها "إلى أحد". وهذا الذي وضعته بين الأقواس هو الذي غيرته، لأن هذا نص فاسد جدًا لا معنى له، ولا يستقيم. والذي غيرته هو الصواب إن شاء الله، وهو الذي دل عليه كل كلام عبد القاهر في شأن اللفظ فيما مضى. وقوله "الناس"، هنا يعني المعتزلة، كما سيكون جليًا في رقم: 562.
2 في "س": "وأنها لا تختص إذا توخى فيه النظم"، وهو فساد محض. وفي نسخة عند رشيد رضا: "أنها لا تختص إلا إذا توخى فيها النظم"، وهو الصواب أيضًا.
3 "من البين" يعني من بين ما يجعلها تختص بقائل. وقد سلفت قبل هذه العبارة مرارًا، وسأذكر مواضعها في الفهارس.
4 السياق: "كان من رفع النظم ... جاعلًا له ... ".

(1/476)