دلائل الإعجاز ت شاكر "رسائل وتعليقات"
كتبها عبد القاهر الجرجاني
(1/479)
بسم الله الرحمن الرحيم
إزالة الشبهة في جعل الفصاحة
والبلاغة للألفاظ:
بيان مهم في مسألة "اللفظ" و"المعنى":
561 - إعلمْ أَنه لمَّا كان الغلَطُ الذي دخَل على الناس في
حديثِ "اللفظِ" كالداءِ الذي يَسْري في العروقِ، ويُفْسِد
مِزاجَ البدنِ، وجَبَ أن يُتوخَّى دائباً فيهم ما يتوخَّاه
الطبيبُ في النَّاقِه، من تعهُّدهِ بما يزَيد في مُنَّته1،
ويُبَقِّيه على صحَّتِه، ويؤمّنُهُ النُّكْسَ في علَّتهِ2.
وقد علِمْنا أنَّ أصْل الفسادِ وسبَبَ الآفةِ، هو ذَهابهُم عن
أنَّ مِن شأنِ المعاني أن تَختلِفَ عليها الصورُ، وتَحدُثَ
فيها خواص وموايا من بعد أن لا تكون. وإنك ترَى الشاعرَ قد
عَمدَ إلى معنىً مبتذَلٍ، فصنَعَ فيه ما يَصْنَعُ الصانِعُ
الحاذِقُ إذا هو أغرب ي صَنْعة خاتمٍ وعَمَلِ شَنْفٍ وغيرهما
من أصناف الحِلى. فإنَّ جهْلَهم بذلك من حالِها، هو الذي
أغواهم واستهواهم، وورطهم يما توَرَّطوا فيه من الجهَالات،
وأَدَّاهُم إلى التعلُّق بالمُحالات. وذلك أَنهم لمَّا جَهِلوا
شأنَ الصورةِ، وضَعُوا لأَنفُسِهم أساساً، وبنَوْا على قاعدة
فقالوا: إنه ليسَ إِلاّ المعنى واللفظُ، ولا ثالثَ وإنه إذا
كان كذلكَ، وجَبَ إذا كان لأحدِ الكلامَيْنِ فضيلةٌ لا تَكون
للآخَر، ثم كان الغرَضُ مِنْ أحدِهما هوَ الغَرَضَ من صاحبه3
أن يكون مرجع
__________
1 "المنة" بضم الميم، القوة.
2 "النكس" بضم النون وفتحها، العود في المرضى بعد قرب الشفاء.
3 السياق: "وجب ..... أن يكون".
(1/481)
تلك الفضيلة إلى اللفظ خاصة، وأن لا يكونَ
لها مرجعٌ إلى المعنى، من حيثُ إنْ ذلك، زَعموا، يُؤدِّي إلى
التناقضِ، وأنْ يكونَ معناهُما مُتَغايِراً وغيرَ متغايرٍ
معاً.
ولمَّا أَقَرُّوا هذا في نُفوسِهِم، حَمَلوا كلامَ العلماءِ في
كلِّ ما نَسَبوا فيه الفضيلةَ إلى "اللفظِ" على ظاهرِه،
وأَبَوْا أن ينظُروا في الأوصافِ التي أَتْبعوها نسبتَهم
الفضيلةَ إلى "اللفظِ"، مثلَ قولهم: "لفظٌ متمكِّنٌ غيرُ قَلقٍ
ولا نابٍ به موضِعُه"، إلى سائر ما ذكرْناه قبْلُ1، فيَعْلمَوا
أَنهم لم يُوجِبوا لِلَّفظ ما أوجَبُوه من الفضيلةِ، وهُمْ
يَعْنُونَ نُطْقَ اللسانِ وأجراسَ الحرُوف، ولكنْ جعَلوا
كالمواضَعَة فيما بَيْنَهم أَنْ يقولوا "اللفظَ"، وهُم يُريدون
الصورةَ التي تَحْدُثُ في المعنى، والخاصَّة التي حَدثَتْ فيه،
ويَعْنونَ الذي عَناه الجاحظُ حيث قال.
"وذهبَ الشيخُ إلى استحسانِ المعاني، والمعاني مطروحةٌ وسطَ
الطريقِ، يَعْرِفُها العربيُّ ولاعجمي، والحضريُّ والبدويُّ،
وإنَّما الشعرُ صياغةٌ وضرْبٌ من التَّصوير"2.
وما يعَنونه إذا قالوا: "إنه يأخُذُ الحديث فيشنفه ويقرطه،
ويأخذ المعنىخرزة فيردُّه جَوهرةً، وعباءةً فيجعلُه ديباجَةً،
ويأخذُه عاطِلاً فيرده حاليصا". وليس كون هذا مرادهم، بحيث كان
بنيغي أن يخفى هذا الخفاء ويشتبه هذا الاشتباء، ولكنْ إذا
تعاطَى الشيءَ غيرُ أهلِه، وتولَّى الأمرَ غيرُ البصير به،
أَعْضَلَ الداءُ، واشتدَّ البلاءُ. ولو لم يكن مِنَ الدليلِ
على أنَّهم لم يَنْحَلُوا "اللفظَ" الفضيلةَ وهم يُريدونه
نَفْسَه وعلى الحقيقةِ إلاَّ واحدٌ، وهو وصْفُهم له بأنه يزين
المعنى، وأنه حلى
__________
1 انظر ما سلف رقم: 540، وهذا دليل على أن عبد القاهر هذا
الرسائل والتقبيدات، تعقيبًا على كتابه الذي فرغ منه، وهو
"دلائل الإعجاز".
2 مضى قول الجاحظ وتجريحه فيما سلف الفقرة رقم: 298، ورقم:
577.
(1/482)
له1 لكان فيه الكفايةُ. وذاك أنَّ الألفاظَ
أدلَّةٌ على المعاني، وليس للدليل إلاَّ أنْ يُعْلِمَكَ الشيءَ
على ما يكونُ عليه، فأَما أن يصيرَ الشيء بالدليل، على صفةٍ لم
يكُنْ عليها2، فما لا يقومُ في عقلٍ، ولا يُتَصوَّر في وهم.
562 - وممَّا إذا تفكَّرَ فيه العاقلُ أطالَ التعجُّبَ من أمرِ
الناس3، ومن شدَّةِ غَفْلتهم قولُ العلماء حيث ذكروا "الأخذ" و
"السرقة": "إنَّ مَنْ أخذَ معنًى عارياً، فكَساه لفظاً مِنْ
عندِه كانَ أحقَّ به"4، وهو كلامٌ مشهورٌ متداولٌ يقرأُه
الصبيانُ في أوَّلِ كتابِ "عبد الرَّحمن"، ثم لا ترى أحداً من
هؤلاء الذين لهَجُوا بجعلِ الفضيلةِ في "اللفظ"، يفكِّرُ في
ذلك فيقول: من أَين يُتصوَّر أن يكون ههنا معنىً عارٍ من لفظٍ
يَدلُّ عليه؟ ثم من أين يعقل أن يجئ الواحدُ منا لِمعنىً من
المعانيِ بلفظٍ مِنْ عنده، إنْ كان المرادُ باللفظ نُطْقَ
اللسان؟
ثم هبْ أنَه يصِحُّ له أن يَفْعلَ ذلك، فمن أَينَ يَجِبُ إذا
وَضَع لفظاً على معنىً، أن يصيرَ أَحقَّ به من صاحبه الذي أخذه
منه، إن كانوا هو لا يَصْنَع بالمعنى شيئاً، ولا يُحْدِثُ فيه
صفةً، ولا يَكْسِبُه فضيلةً؟ وإذا كان كذلك، فَهَلْ يكون
__________
1 السياق: "ولو لم يكن من الدليل ... إلا واحدً، وهو وصفهم ...
لكان فيه الكفاية".
2 السياق: "أن يصير الشيء" على صفة لم يكن عليها"، يعني أن
يصير المعنى بواسطة اللفظ على صفة لم يكن عليها.
3 قوله "الناس" هنا، يعني المعتزلة وأصحابه، وانظر ما سلف في
آخر رقم: 528، والتعليق عليه.
4 هو في مقدمة كتاب "الألفاظ الكتابية" لعبد الرحمن بن يعسى
الهمذاني، وتوفي سنة 324.
(1/483)
لكلامهِم هذا وجهٌ سِوى أنْ يكونَ "اللفظُ"
في قولهم: "فكسناه لفظاً من عنده"1، عبارةً عن صورةٍ يُحْدِثها
الشاعرُ أو غيرُ الشاعر للمعنى؟
فإِن قالوا: بل يكونُ، وهو أنْ يستعيرَ لِلمعنى لفظاً.
قيلَ: الشأنُ في أنَّهم قالوا: "إذا أَخذ معنىً عاريا فسكاه
لفظًا من عنده، كان أحق به"1، و "الاستعارة" عندكم مقصورةٌ على
مجرَّد اللفظِ، ولا ترَوْنَ المستعيرَ يَصْنَع بالمعنى شيئاً،
وتَرونَ أنَّه لا يحدثُ فيه مزيَّةٌ على وجهٍ من الوجوه، وإذا
كان كذلك، فمِنْ أَين، ليتَ شِعْري، يكون أحق به، فاعرفه.
أمثلة على ما تفعله صنعة الشاعر في الصورة، والمعنى واحد:
563 - ثُمَّ إنْ أردْتَ مثالاً في ذلك، فإنَّ من أحسن شيء فيه،
ما صمع أبو تمام في بيتِ أَبي نُخَيْلة، وذلك أن أَبا نُخيلةَ
قال في مسلمَةَ بنِ عبد الملك:
أمسلم إني يا ابن كلِّ خَليفةٍ ... ويا جَبَل الدُّنيا ويا
واحِدَ الأرضِ
شكرتُكَ إنَّ الشكْرَ حبْلٌ مِنَ التُّقى ... وما كلُّ مَنْ
أولَيْتَهُ صالحاً يَقْضي
وأَنْبَهْتَ لي ذِكرى وما كانَ خامِلاً ... ولكنَّ بعضَ
الذكْرِ أَنبهُ مِنْ بَعْضِ2
فعَمد أبو تمام إلى هذا البيت الأخير فقال:
لقد زِدْتَ أوْضاحي امْتِداداً، ولمْ أَكُنْ ... بَهيماً ولا
أَرْضي مِنَ الأَرْضِ مَجهلا
ولكنْ أيادٍ صادفَتْني جِسَامُها ... أغرَّ فأَوفَتْ بي أغرَّ
مُحجَّلا3
__________
1 هو في كلام عبد الرحمن في كتابه "الألفاظ الكتابية"، والذي
نقله عنه آنفًا في اول هذه الفقرة.
2 هو لأبي نخيلة الراجز، وشعره في الأمالي 1: 30.
3 في ديوانه، و "الأوضاح" جمع "وضح" بياض محمودًا في الفرس، و
"البهيم" من الخيل، ما ليس به وضح، و "أرضى"، يعني دياره
وديارة قومه، ليست بمجهل من الأرض، يعني شهرتهم. ومن ضبط
"أرضى" فعلًا مضارعًا فقد أخطأ المعنى.
(1/484)
564 - وفي "كتاب الشّعرِ والشُّعراء"
للمرزُباني فصلٌ في هذا المعنى حسَنٌ. قال. ومن الأَمثال
القديمة قولهُم: "حَرًّا أخافُ على جاني كَمأَةٍ لا قُرّاً"1،
يُضرَب مثَلاً للذي يَخافُ مِن شيءٍ فيَسْلمُ منهُ ويُصِيبهُ
غيرهُ مما لم يَخَفْهُ، فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال:
وحَذِرْتُ مِنْ أَمْرٍ فمرَّ بِجانبي ... لم يُنْكِني ولقيت ما
لم أحذر2
وقال لبيد:
أخشى على أربد الحتوف لا ... أرْهَبُ نَوْءَ السّماكِ
والأَسدِ3
قال: وأخذَه البحتريُّ فاحسن وطغى اقتدارًا على العبارة،
واستاعًا في المعنى، فقال:
لو أَنَّني أُوفي التجاربَ حَقَّها ... فيما أرَتْ لرجوت ما
أخاشه4
__________
1 هو في جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري 1: 373، وليس فيه
"لاقرأ"، و "القر" البرد، يضرب مثلًا للرجل يخاف أمرًا وغيره
أخوف منه. ومن هذا الموضع في مخطوطة "ج" المصورة عندي، مطموس
في التصوير أكثره من أول ص: 310 إلى ص: 320، فأنا أقرأ منها ما
استطعت أن أقرأ.
2 هو سهم بن حنظلة بن حلوان، أحد بني غنى بن أعصر، والشعر في
المؤتلف، والمختلف للآمدي: 136، وقبله:
كم من عدو قد رماني كاشح ... ونجوت من أمر أغر مشهر
يقال "نكيت في العدو أنكى كناية، ونكيت العدو أنكي"، إذا كثرت
فيه الجراح والقتل، فوهن أمره. وقال الآمدي: "وقوله في البيت
الأخير: "ما لم أحذر" البحتري فقال:
ينال الفتى ما لم يؤمل وربما ... أتاحت له الأقدار ما لم
يحاذبر
3 الشعر في ديوان لبيد.
4 هو في ديوانه.
(1/485)
565 - وشبيه بهذا الفصل فصل آخر في هذا
الكتاب أيضًا1، أنشد إبراهيم بن المهدي:
يا مَنْ لِقَلْبِ صِيغَ من صَخْرةٍ ... في جسد من لولوء رطْبِ
جرحتُ خدَّيْه بلحْظي فَمَا ... بَرِحْتُ حتى اقتصى مِنْ قلبي2
ثم قال: قالَ عليُّ بنُ هارون: أخذه أحمد بن أبي فَنَن معنىً
ولفظًا فقال:
أَدْمَيْتُ باللحظاتِ وجْنَتَهُ ... فاقتصَّ ناظرُهُ مِنَ
القَلْبِ3
قال: ولكنَّه بنقاءِ عبارتِه وحُسْنِ مأخذهِ، قد صارَ أَوْلى
به.
566 - ففي هذا دليلٌ لِمن عقَلَ أَنهم لا يَعْنونَ بحُسْنِ
العبارةِ مجَّردَ اللفظِ، ولكن صورة وصفة وخصوصية تحدُثُ في
المعنى، وشيئاً طريقُ معرفتِه على الجملة العقلُ دون السمْع،
فإِنه على كلِّ حالٍ لم يَقُلْ في البحتريِّ إنه "أحْسَن فطغى
اقتداراً على العبارةِ"4، من أَجْلِ حروفٍ.
لو أنني أوفي التجاربَ حقَّها
وكذلك لم يصِفْ ابنَ أبي فَنن بنقاءِ العبارةِ، من أجْل حروف.
أدميت باللحظات وجنته
567 - واعلم أنك إذا سيرت أحوالَ هؤلاءِ الذين زَعَموا أنه إذا
كان المعبَّرُ عَنهُ واحداً، والعبارةُ اثنتَيْن، ثم كانتْ
إحدى العبارتَيْن أَفْصَحَ من الأخرى وأحسن،
__________
1 يعني "كتاب العشر والشعراء" للمرزباني، المذكور آنفًا.
2 لم أقف بعد على هذا الشعر.
3 البيت في ديوان المعاني 1: 284.
4 يعني قول المرزباني.
(1/486)
فإِنه يَنبغي أن يكونَ السببُ في كونها
أَفْصَحَ وأحسَنَ، اللفظَ نفسَه1 وجدتَهم قد قالوا ذلك من حيثُ
قاسوا الكلامَيْن على الكلمتَيْن، فلما رأَوْا أَنه إذا قيل في
"الكلمتين" إنَّ معناهُما واحدٌ، لم يكنْ بينهُما تفاوتٌ، ولم
يكن للمعنى في إِحداهما حالٌ لا يكون له في الأخرى2 ظَنُّوا أن
سبيلَ الكلامين هذا السبيلُ ولقد غَلِطوا فأَفْحَشوا، لأنه لا
يُتصوَّرُ أنْ تكونَ صورةُ المعنى في أَحدِ الكلامَينِ أو
البيتين، ثمل صورتِه في الآخَر البتَّةَ، اللَّهُمَّ إلاَّ أنْ
يَعْمدَ عامِدٌ إلى بيتٍ فيضَعَ مكانَ كلِّ لفظة منه لفظةً في
معناها، ولا يَعْرِضُ لنظْمهِ وتأليفه، كمثلِ أن يقولَ في بيت
خطيئة3:
دَعِ المَكارِمَ لا تَرْحَلْ لِبُغْيتهِا ... واقْعُدْ فإِنَّك
أنتَ الطاعمُ الكاسي
ذَرِ المفاخرَ لا تَذْهَبْ لِمَطْلَبِها ... واجْلِسْ فإنكَ
أنتَ الآكِلُ اللابسْ
وما كان هذا سبيله، كان بمعزلي من أنْ يكونَ به اعتدادٌ، وأنْ
يَدخُلَ في قبيلِ ما يفاضَلُ فيه بين عبارتين، بل لا يصِحُّ
أنْ يُجعلَ ذلك عبارةً ثانية، ولا أن يجعل الذي تعاطاه
بِمَحَلِّ، مَنْ يوصَف بأنه أخذَ معنىً. ذلك لأنه لا يكونُ
بذلك صانِعاً شيئاً يَستحقُّ أنْ يُدْعى من أجْلهِ واضعَ
كلامٍ، ومستأنِفَ عبارة واقئل شعر. ذاك لأن بيت خطيئة لم يكُن
كلاماً وشعراً مِن أجْل معاني الألفاظ المفردة التي تراها فيه،
مجرَّدةً معرَّاةً من معاني النظْمِ والتأليفِ، بل منها
مُتَوخىًّ فيها ما ترَى من كَوْن "المكارِم" مفعولاً "لدع"،
وكونِ قوله: "لا ترحلْ لبغيتها" جملةً أكَّدتْ
__________
1 السياق: "واعلم أنك إذا سبرت أحوال هؤلاء .... وجدتهم".
2 السياق: "فلما رأَوْا أَنه إذا قيل في الكلمتين .... ظنوا".
3 كتبه بغير لام التعريف، هنا وفيما بعد، والبيت الذي بعده قد
مضيا في رقم: 525.
(1/487)
الجملةُ قبلها، وكون "اقعدْ" معطوفاً
بالواو على مجموعِ ما مضى، وكون جملةِ "أنتَ الطاعِمُ الكاسي"،
معطوفة بالفاء على "اقعد"، فالذي يَجيء فلا يُغيِّر شيئاً من
هذا الذي به كان كلاماً وشعراً، لا يكونُ قد أتى بكلامٍ ثانٍ
وعبارةٍ ثانية، بل لا يكونُ قد قالَ من عندِ نفْسِه شيئاً
البتةَ.
568 - وجملةُ الأمر أَنه كما لا تكون الفِضّةُ أو الذَهَب
خاتماً أو سِواراً أو غيرَهُما من أصناف الحِلَى بأنفُسِهما،
ولكنْ بما يحدُثُ فيهما من الصُّورة، كذلك لا تكونُ الكَلِمُ
المفردةُ التي هي أسماءٌ وأفعالٌ وحروفٌ، كلاماً وشعراً، من
غير أن يحدُثَ فيها النظْمُ الذي حقيقَتُه توَخِّي معاني النحو
وأَحكامِه.
فإذنْ ليس لمن يتصدَّى لمَا ذكَرْنا، مِن أَنْ يَعْمَد إلى
بيتٍ فيضَعُ مكانَ كلِّ لفظةٍ منها لفظة في معناها، إلاأن
يُسْتَرَكَّ عقلُه1، ويُسْتَخفَّ، ويُعدَّ معدَّ الذي حُكي أنه
قال: "إني قلتُ بيتاً هو أَشعَرُ من بيت حسان، قال حسان:
يغشون حتى ما نهر كلابُهُمْ، ... لا يَسْأَلون عَنِ السوادِ
المُقْبِلِ2
وقلتُ:
يغشون حتى ما نهر كِلابُهُمْ ... أَبَداً ولا يَسَلُونَ مَنْ
ذا المُقبِلُ3
فقيلَ: هو بيتُ حَسّان، ولكنَّك قد أفسدتَه.
__________
1 "يسترك"، أي يعد ركيكًا متهالكًا.
2 هو في ديوانه، و "السواد"، الشخص الذي يرى كأنه سواد من
بعيد، لا تتبين العين معارفه،.
3 في المطبوعة: "ولا يسألون"، واختل وزن الكلام.
(1/488)
الموازنة بين المعنى
المتحد واللفظ المتعدد
569 - واعلمْ أنه إنما أُتِيَ القومُ مِنْ قِلَّة نظرهم في
الكتب التي وضعها العلماء اختلافِ العبارتَين على المعنى
الواحد، وفي كلامهم في أَخْذ الشاعرِ مِنَ الشاعرِ، وفي أنْ
يقولَ الشاعرانِ على الجملةِ في معنى واحدٍ، وفي الأَشعارِ
التي دوَّنوها في هذا المعنى. ولو أنهم كانوا أخَذُوا أنفُسَهم
بالنظرِ في تلك الكتبِ، وتدبَّروا ما فيها حقَّ التدَبُّر،
لكان يكونُ ذلك قد أيقظَهم مِن غفْلَتهم، وكشف الغطاء عن
أعينهم.
الشاعران يقولان في معنى واحد وهو قسمان:
570 - وقد أردتُ أن أكتبَ جملةً من الشِّعْر الذي أنتَ ترى
الشاعرَيْن فيه قدْ قالا في معنىً واحدٍ، وهو يَنقَسِمُ قسمين:
قَسمٌ أنتَ ترَى أحدَ الشاعرَين فيه قد أتى بالمعنى غُفْلاً
ساذَجاً، وترى الآخَرَ قد أخرجَه في صورةٍ تَروقُ وتُعْجِبُ.
وقسمٌ أنتَ ترى كلَّ واحدٍ من الشاعرَين قد صَنعَ في المعنى
وصور.
القسم الأول: أحدهما غفل، والآخر مصور
571 - وأبدأُ بالقسمِ الأول الذي يكونُ المعنى في أحد البيتين
غفلًا، وفي القسم الأول: الآخَرِ مصوَّراً مَصْنوعاً، ويكونُ
ذلك إمَّا لأنَّ متأَخِّراً قصَّر عن مُتقدِّم، وإمَّا لأنْ
هُدى متأخرٍ لشيءٍ لم يَهْتدِ إليه المتقدِّمُ.
ومثالُ ذلك قول المتنبي1:
بسئ اللَّيالي سَهِدْتُ مِنْ طَرَبي ... شَوْقاً إِلى مَنْ
يَبيتُ يَرْقُدُها2
__________
1 أكثر اختيار عبد القاهر هنا عن أبي تمام والبحترى والمتبني
وغيرهم من أصحاب الدواوين المطجبوعة، فسأترك الإشارة إلى
دواوينهم في التعليق إلا عند وجود اختلاف.
2 هو في ديوانه، وكان في المطبوعة: "سهرت".
(1/489)
مع قول البحتري:
لَيلٌ يُصَادِفُنِي ومَرْهَفَةَ الحَشَا ... ضِدَّيْنِ
أَسْهَرُهُ لَهَا وتنامه1
وقول البحتري:
وَلو ملَكتُ زَماعاً ظَلَّ يَجْذِبُني ... قَوْداً لَكَانَ
نَدَى كَفَّيكَ من عقلي2
مع قول المتبني:
وقَيَّدتُ نَفْسي في ذَرَاك مَحَبةً ... ومَنْ وَجَدَ الإحسان
قيدًا تقيدا
وقول المتنبي:
إذا اعتل سيف الدولة اغتلت الأَرضُ ... وَمَنْ فَوْقَهَا
وَالْبَأسُ وَالْكَرَمُ الْمَحْضُ
مع قول البحتري:
ظَلِلْنا نَعودُ الجودَ من وَعْكِكَ الذي ... وجَدْتَ وقلنا
اغتل عضو من المجد
وقول المتنبي:
يعطيك مبتدرًا فَإِنْ أَعْجَلْتَهُ ... أَعْطَاكَ مُعْتَذِراً
كَمَنْ قَدْ أَجْرَما3
مع قول أبي تمام:
أخو عَزماتٍ فِعْلُهُ فِعلُ مُحْسِنٍ ... إلَيْنَا وَلكنْ عذره
عذر مذنب4
__________
1 هو في مطبوعة الصيرفي "المعارف"، وليس في غيرها.
2 "الزماع"، العزم على الرحيل، و "العقل" جمع "عقال"، وهو ما
يعقل به البعير لحبسه.
3 في المطبوعة: "يعطيط مبتدئًا".
4 هذه رواية أشير إليها، ورواية الديوان، وهي أجود:
أخو أزمات بذله بذل محسن
(1/490)
وقول المتنبي:
كريم مني اسْتُوهِبْتَ ما أَنتَ رَاكِبٌ ... وَقَدْ لقِحَتْ
حَرْبٌ فإنك نازل
مع قول البحتري:
مَاضٍ عَلَى عَزْمِهِ في الْجُودِ لَوْ وَهَبَ الشـ ... ـبَابَ
يَوْمَ لِقَاءِ الْبِيضِ مَا نَدِمَا
وقولُ المتنبي:
وَالَّذِي يَشْهَدُ الوَغَى سَاكِنُ الْقَلْـ ... ـبِ كَأَنَّ
القتال فيها ذمام
مع قول البتحري:
لَقَدْ كَانَ ذَاكَ الجَأْشُ جَأْشَ مُسَالمٍ ... عَلَى أَنَّ
ذَاكَ الزّيَّ زِيُّ مُحَارِبِ
وقولُ أبي تمام:
الصُّبْحُ مَشْهُورٌ بِغَيْرِ دَلاَئِلِ ... مِنْ غَيْرِهِ
ابتْغِيَتْ ولا أعلام
مع قول المتبني:
وليس يصح في الأفهام شَيْءٌ ... إذَا احْتَاجَ النَّهَارُ
إِلَى دَلِيلِ
وقولُ أبي تمام:
وَفِي شَرَفِ الْحَدِيثِ دَلِيلُ صِدْق ... لِمُخْتَبِرٍ عَلَى
الشرف القديم1
مع قول المتنبي:
أَفْعَالُه نَسَبٌ لوْ لمْ يقُلْ مَعَهَا ... جَدِّي الخصيب
عرفنا العرق بالغصن
وقول البحتري:
وأَحَبُّ آفاقِ البلادِ إِلى الفَتى ... أرضٌ يَنالُ بها كريم
المطلب2
__________
1 كان في المطبوعة: "على شرف".
2 في المطبوعة: "إلى فتى".
(1/491)
مع قول المتنبي:
وكل امرئ يُولِي الْجَمِيلَ مُحَبَّبٌ ... وَكلُّ مكَانٍ
يُنْبِتُ العِزَّ طيب
وقول المتنبي:
يُقِرُّ لَهُ بالْفَضْلِ مَنْ لاَ يَوَدُّهُ ... وَيقْضِي لَهُ
بِالسَّعْدِ مَنْ لاَ يُنَجِّمُ
مع قولِ البحتري:
لا أدَّعي لأبي العلاءِ فَضيلَةً ... حتَّى يُسَلِّمَها إليه
عداه
وقول خالد الكاتب:
رَقَدْتَ وَلَمْ تَرْثِ للِسَّاهِرِ ... وَلَيلُ الْمُحِبِّ
بِلاَ آخر1
مع قول بشار:
لخدك مِنْ كَفَّيكَ فِي كُلِّ لَيلةٍ ... إِلى أنْ تَرَى
ضَوْءَ الصبَّاحِ وِسادُ
تبِيتُ تُرَاعي اللَّيلَ تَرْجُو نفَادَهُ ... وَليْسَ لِلَيلِ
العَاشِقينَ نفَادُ2
وقولُ أبي تمام:
ثوى بالمشرقين لها ضَجَاجٌ ... أطارَ قُلوبَ أَهْلِ
المَغْرِبَيْنِ3
وقولُ البحتري:
تَناذَرَ أهلُ الشَّرقِ منه وقائعاً ... أطاعَ لها العاصفون في
بلد العرب
__________
1 أمالي القالي 1: 100، ومعه بيت آخر:
ولم تدر بعد ذهاب الرقا ... د ما صنع الدمع من ناظري
ولما سمعهما دعبل بن علي الشاعر قال: "لقد أدمن الرمية، حتى
أصاب الثغرة".
2 في ديوانه، وكان في المطبوعة: "لخديك"، وهو خطأ، وفي
الديوان: "ترى وجه الصباح".
3 في المطبوعة: "لهم ضجاج"، و "لها" ضمير "الوقائع" مما في
البيت الذي قبله.
(1/492)
مع قول مسلم:
لمَّا نزلتُ على أَدْنى ديارِهم ... أَلْقَى إليكَ الأقاصي
بالمقاليد1
وقول محمد بن بشير:
أُفْرُغْ لحاجَتِنا ما دمتَ مشغولاً ... فلو فَرَغْتَ لكنتَ
الدهرَ مَبْذولا2
مع قول أبي عليٍّ البصير:
فقُلْ لسعيدٍ أسعدَ اللهُ جَدَّه ... لقد رَثَّ حتى كادَ
ينصرمُ الحبْلُ
فلا تعتذرْ بالشُّغْلِ عنا فإِنما ... تُناطُ بك الآمالُ ما
اتَّصل الشغل3
وقول البحتري:
مِنْ غادةٍ مُنِعَتْ وتَمْنَعُ وَصْلَها ... فَلَوَ أنْها
بُذِلَتْ لنا لم تَبْذُلِ4
مع قولِ ابنِ الرومي:
ومِنَ البَليَّة أَنَّني ... عُلّقتُ ممنوعاً مَنوعا5
وقولُ أبي تمام:
لئنْ كانَ ذنبي أنَّ أحْسَنَ مَطْلبي ... أساءَ ففي سوء القضاء
لي العذر
__________
1 في ديوانه.
2 لم أقف عليه.
3 أبو علي البصير، الفضل بن جعفر بن الفضل بن يونس النخعي
الكاتب، وبين البيتين بيت متصل معناه بالثاني، وهو في معجم
الشعراء للمرزباني، 314:
فكن عند اأملت فيك فإننا ... جميعًا لما أوليت من حسن أهل
4 في الديوان: "وتمنع نيلها".
5 ديوانه: 1462.
(1/493)
مع قول البحتري:
إذا محاسني آلاتي أُدِلُّ بها ... كانتْ ذُنوبي فقلْ لي كيف
أعتذر
وقول أبي تمام:
قد يقدم العير من ذغر على الأسد1
مع قول البحتري:
فجاءَ مجيءَ العَيْرِ قادتْه حَيْرةٌ ... إِلى أهْرَتِ
الشِّدْقَينِ تَدْمَى أظافِرُهُ
وقولُ معنِ بن أوس:
إِذا انصرَفَتْ نفسي عَنِ الشيءِ لم تَكَدْ ... إليه بوجهِ
آخِرَ الدهرِ تُقْبِلُ
مع قولِ العباس بن الأحنف:
نَقْلُ الجبالِ الرواسيِ مِنْ أَماكِنها ... أَخَفُّ من ردِّ
قلبٍ حينَ يَنْصرِفُ2
وقولُ أمية بن أبي الصلت:
عطاؤك زين لامرئ إِنْ أصبتَهُ ... بخيرٍ وما كلُّ العطاءِ
يزينُ3
مع قول أبي تمام:
تُدْعى عطاياه وَفراً وهْيَ إنْ شُهرتْ ... كانتْ فخارا لمن
يعفوه موتنفا
ما زلتُ منتظراً أعجوبة عَنَناً ... حَتى رأيتُ سؤالًا يجتنى
شرفًا
__________
1 صدر البيت في ديوانه:
أطلبت ردعك حتى صرت لي غرضًا
2 في ديوانه، وفيه: "أخف من نقل قلب"، وهذه أجود.
3 في ديوانه، وفيه: "إن حبوته بخير"، وهي أجود.
(1/494)
وقول جرير:
بعَثْنَ الهوَى ثمَّ ارتَمَيْنَ قلوبنَا ... بأَسْهُمِ أعداءِ
وهن صديق1
مع قول أبي نواس:
إِذا امتَحَنَ الدُّنيا لبيبٌ تكَشَّفَتْ ... لهُ عنْ عدو في
ثياب صديق
وقول كثير:
إِذا ما أرَادتْ خُلَّةٌ أنْ تُزيلَنا ... أَبَيْنا وقُلْنا
الحاجِبيَّةُ أَوَّلُ2
مع قولِ أبي تمام:
نَقّلْ فؤادَك حيثُ شِئْتَ مِنَ الهوى ... ما الحب إلا للحبيب
الأول
وقول المتنبي:
وعندَ مَنِ اليومَ الوفاءُ لصاحبٍ ... شَبيبٌ وأَوْفى مَنْ
تَرى أخَوانِ
مع قولِ أَبي تمام:
فلا تَحْسبَا هِنداً لها الغَدْرُ وحدَها ... سَجيَّةُ نفس كل
غانية هند
وقول البحتري:
فلم أر في زنق الصَّرى ليَ مَوْرِداً ... فحاولتُ وِرْدَ
النيلِ عندَ احتفاله3
__________
1 في ديوانه، وفيه: "دعون الهوى".
2 في ديوانه.
3 في ديوانه، وروايته: "ولم أرض في رنق الصرى"، و "الرنق"،
الماء القليل الكدر، و "الصرى"، الماء الذي طال استنقاعه
فتغير. و "النيل" نهر من أنهار الرقة، حفره الرشيد، وسمى باسم
نيل مصر.
(1/495)
مع قول المتنبي:
قَواصِدُ كافورٍ تَوارِكُ غَيْرِهِ ... ومَنْ قَصَدَ البحرَ
استقل السواقيا
وقول المتنبي:
كأنما يولد الندى معهم ... لا عاذر ولا هرم
مع قول البحتري:
عريقون في الإفضال يونتف الندى ... لناشئهم من حيث يونتف العمر
وقول البحتري:
فلا تعلين بالسيفِ كلَّ غَلائِهِ ... لِيمضي فإنَّ الكَفَّ لا
السيف تقطع
مع قول المتنبي:
إذا الهند سوت بين سيفي كريهة ... فسيفكط في كف تزيل التساويا
وقول البحتري:
سامَوْكَ من حَسَدٍ فأفضلَ منهمُ ... غيرُ الجَوادِ وجاد غير
المفضل
فبذلك فينا ما بذَلْتَ سَماحةً ... وتَكَرُّماً وبذَلْتَ ما لم
تبذل
مع قول أبي تمام:
أَرى الناسَ مِنهاجَ الندى بعدَ ما عَفَتْ ... مهايعه المثلى
ومحت لواجبه1
ففي كلِّ نَجَدِ في البلادِ وغائرٍ ... مواهبُ ليست منه وهي
مواهبه
وقول المتنبي:
بيضاءُ تُطمِعُ فيما تَحْتَ حُلَّتِها ... وعزَّ ذلكَ مطلوبًا
إذا طلبا
__________
1 "المهايع"، جمع "مهيع"، وهو الطريف الواسع المنبسط. و
"اللواحب" جمع "لاحب"، وهو الطريق المستوى الواضح. و "محت"،
بليت ودرست.
(1/496)
مع قول البحتري:
تبدو بعطفة مطمع حتى إذا ... شغل الحلى ثنت بصدقة موبس
وقول المتنبي:
إذْكارُ مِثْلِكَ تَرْكُ إِذكاري لهُ ... إذْ لا تُريدُ لِمَا
أُريدُ مُتَرجِما
مع قولِ أبي تمام:
وإذا المَجْدُ كان عَوْني على المَرْ ... ءِ تقاضيته بترك
التقاضي
وقول أبي تمام:
فنَعِمْتِ مِن شمسِ إِذا حُجبت بَدتْ ... مِنْ خِدرِها فكأَنها
لم تُحْجَبِ
مع قولِ قيس بن الخطيم:
قضى لها الله حين صورها الـ ... ـخالق أن لا يكنها سدف1
وقول المتنبي:
رامياتٍ بأسْهُمِ ريشُها الهُدْ ... بُ تشُقُّ القُلوبَ قبلَ
الجلودِ
مع قولِ كُثيرِّ:
رمتني بسهمٍ ريشُهُ الكُحْلُ لم يجُزْ ... ظواهرَ جِلدي وهْوُ
في القلبِ جارحُ2
وقولُ بعضِ شعراء الجاهلية، ويُعْزَى إِلى لبيد:
__________
1 رواية ديوانه: "حين يخلقها الخالق"، و "السدف"، ظلمة الليل،
يريد أن وجهها يضيء في ظلمة الليل.
2 هو ي ديوانه "إحسان عباس"، وفيه: "لم يصب ظواهر جلدي".
(1/497)
ودَعوتُ رَبي بالسلامةِ جاهِداً ...
ليُصِحَّني فإِذا السَّلامةُ داء1
مع قول أبي العتاهية:
أسرع في نقص امرئ تمامه ... تدبر في إقبالها أيامه2
وقوله:
أقلل زيارتك الحبيـ ... ـب تكون كالثوب استجده
إن الصديق بمله ... أنْ لا يزالَ يَراكَ عندَهْ
مع قولِ أبي تمام:
وطولُ مُقامِ المرءِ في الحيِّ مُخْلقٌ ... لديباجَتيْهِ
فاغترب تتجدد
وقول الحريمي:
زادَ مَعْروفَك عندي عِظَما ... أَنَّه عندَك محقورُ صَغيرُ
تَتناساهُ كأَنْ لم تَأتِهِ ... وهُوَ عِنْدَ الناس مشهور
كبير3
مع قول المتبني:
تَظْنُّ مِن فقْدِكَ اعتدادَهَمُ ... أَنَّهُم أَنْعَموا وما
علموا
__________
1 في الكامل للمبرد 1: 128، ولم يذكر فيما نسب إلى لبيد، في
ديوانه "إحسان عباس"، وقبله متصلًا به:
كانت قناتي لا تلين لغامز
فألانها الإصباح والإمساء
2 في تكملة الديوان، وكأنه من أرجوزته "ذات الأمثال".
3 الخريمي هو "أبو يعقوب": إسحق بن حسان بن قوهي الأعور"،
والبيتان في الشعر والشعراء لابن قتيبة: 833، وشرح ديوان
المتنبي للواحدي: 152، مع خلاف في الرواية.
(1/498)
وقول البحتري:
ألمْ تَرَ للنوائبِ كيفَ تَسْمُو ... إِلى أهْلِ النوافل
والفضول
مع قول المتنبي:
أَفاضلُ الناسِ أَغراضٌ لِذا الزَّمنِ ... يخْلُو مِن الهم
أخلاهم من الفطن
وقول المتنبي:
تَذَلَّلْ لها واخضَعْ على القربِ والنَّوَى ... فما عاشِقٌ
مَنْ لا يَذِلُّ ويَخْضَعُ
مع قولِِ بعض المحدثين:
كنْ إِذا أحببتَ عَبْداً ... للذي تَهوى مُطِيعا
لن تَنالَ الوصْلَ حتى ... تُلْزِمَ النفسَ الخُضوعا
وقولُ مضرِّس بن ربعي:
لَعمرُكَ إِنِّي بالخليلِ الذي لَهُ ... عليَّ دلالٌ واجبٌ
لمُفَجَّعُ
وإنيَ بالمَولى الذي ليسَ نافعي ... ولا ضَائري فُقدانُهُ
لمُمَتَّعُ1
مع قولِ المتنبي:
أَمَا تَغْلَطُ الأَيامُ فيَّ بأَنْ أَرى ... بَغيضاً ثنائي أو
حبيبًا تقرب
وقول المتنبي:
مظلومةُ القَدّ في تشبيهِهِ غُصُناً ... مظلومةُ الريقِ في
تشبيه ضربا2
__________
1 هكذا نسب الشعر لمضرس بن ربعي، وهو خطأ وسهو يما أرجع، إنما
هو للبراء بن ربعي الفقعسى، يرثى أخاه سليمًا، وهو في شرح
الحماسة للتبريزي 2: 167، 168، وفي مقطعات مراث لابن الأعرابي
رقم: 43.
2 أمام هذا البيت حاشية بخط كاتبها، وهي كما سلف، من كلام عبد
القاهر هذا نصها:
"سبب ما ترى فيه من القصور: أن الواجب أن تجعل هي نفسها مظلومة
من أحل تشبيه قدها بالغصن، وريقها بالضرب، لا أن يجعل القد
والريق مظلومين. ألا ترى أن اللائق أن يقول: إن شبهت قدها
بالغصن ظلمتها، ولا يحسن أن يقول: إن شبهت قدها بالغصن ظلمته".
و"الضرب"، العسل.
(1/499)
القسم الثاني: من الموازنة بين الشعرين،
والإجادة فيهما من الجانبين
مع قوله:
إذا نحن شبهناك بالبدر طالعًا ... بخسانك حَظّاً أنتَ أَبْهى
وأَجمَلُ
ونَظْلِمُ إنْ قِسْناك بالليثِ في الوغَى ... لأَِنكَ أحْمى
للحريمِ وأَبسَلُ
572 - ذكرُ ما أنتَ ترى فيه في كلِّ واحدٍ من البيتين صنعةً
وتصويراً واستاذيةً على الجملة، فمن ذلك، وهو في النادر، قول
لبيد:
واكذِبِ النفسَ إِذا حدَّثْتَها ... إنَّ صدْقَ النفسِ يُزري
بالأَمَلْ1
مع قولِ نافعِ بنِ لَقيط2:
وإِذا صدقتَ النفسَ لم تَتركْ لها ... أَملاَ ويأمُلُ ما
اشْتَهى المكذوبُ3
وقولُ رجلٍ من الخوارج أُتِيَ به الحجاج في جماعةٍ من أصحاب
قَطَرِيٍّ فقتلَهم، ومنَّ عليه لِيَدٍ كانت عنده، وعاد إلى
قطري، فقال له قطرىك عاود قتال عدو الله الحججاج. فأبى وقال:
__________
1 هو في ديوانه.
2 نافع بن لقيط الفقعسى، ويقال له أيضًا "نويفع"، ويقال: "نافع
بن نفيع الفقعسى"، طبقات فحول الشعراء: 367.
3 هو من قصيدته نافع الطويلة، رواها الزجاجي في اماليه: 126 -
128، عن الأخفش، عن ثعلب، وهي أيضًا في لسان العرب بتمامها
"مرط"، وهذا البيت ليس فيها، ولكنه منها بلا ريب.
(1/500)
أَأُقاتِل الحجَّاجَ عَنْ سُلْطانه ...
بِيدٍ تُقِرُّ بأَنها مَولاتُهُ
ماذا أقولُ إذا وقفتُ إزاءَهُ ... في الصفِّ واحتجَّتْ لَهُ
فَعَلاتُهُ
وتحدَّثَ الأَقوامُ أنَّ صَنائعاً ... غُرِسَتْ لَدَيَّ
فَحَنْظَلَتْ نَخلاتُهُ1
مع قول أبي تمام:
أُسَرْبِل هُجْرَ القولِ مَنْ لو هَجَوْتُهُ ... إذَنْ لهجانى
عنه معروفه عندي
وقول النابغة:
إذا ما غزا بالجيشِ حلَّقَ فَوْقَهُ ... عَصائِبُ طيرٍ
تَهْتَدي بعَصَائبِ
جوانحَ قَدْ أيقنَّ أن قَبِيلَهُ ... إِذا ما التَقى الصفَّانِ
أولُ غالِبِ2
مع قولِ أَبي نواس:
وإِذا مَجَّ القَنا عَلَقَا ... وتراءَى الموتُ في صُوَرِهُ
راحَ في ثِنْيَيْ مُفاضَتِهِ ... أَسَدٌ يَدمى شَبا ظفُرهْ
تتأيى الطيرُ غُدْوَته ... ثِقةً بالشِبْع من جَزَرِهُ3
المقصودُ البيت الأخير.
__________
1 هذه الأبيات وقصتها لعامر بن حطان الخارجي، وهو أخو عمران بن
حطان، وخرجها إحسان عباس في "ديوان شعر الخوارج": 217، وفاته
أنها في الموازنة للآمدي، وفي "إعتاب الكتاب": 61، 62، وفي
كتاب "العفو والاعتدار" لرقام البصرى: 559، وهي عنده ثلاثة عشر
بيتًا، وعند الآخرين ستة أبيات، وقبل البيت الثاني، بيت متصل
به:
إني أذن لأخو الدناءة والذي ... عفت على عرفانه جهلاته
2 كان في المطبوعة: "إذا ما غدا"، وكأنه تصحيف، ويرى: "أبصرت
فوقهم عصائب طير، كما في ديوانه, وفيه أيضًا: "إذا ما التقى
الجمعان".
3 في ديوانه. "العلق"، الدم، و "المفاضة" الدرع، و "تتأيي"
تتحرى وتتوخى وتتعمد. "جزره"، يعني القتلى الذين جزرتهم سيوفه،
وانظر الفقرة التالية، وفي الديوان: "تتأيي الطير غزوته".
(1/501)
573 - وحكى المرزباني قال: "حدثني عمرو
الوراق قال: رأيتُ أبا نواس يُنْشد قصيدتَه التي أولها:
أيها المنتاب عن عفره1
فسحدته، فلما بلغ إلى قوله:
تتأيى الطيرُ غدوتَهُ ... ثِقةً بالشِّبْع مِن جَزَرِهُ
قلتُ له: ما تركتَ للنابغة شيئاً حيثُ يقولُ: "إِذا ما غدَا
بالجيش"، البيتين، فقال: اسكُتْ، فلئن كان سَبَقَ فما أسأْتُ
الاتِّباعَ".
وهذا الكلام من أبينواس دليلٌ بيِّنٌ في أنَّ المعنى يُنْقَل
من صورةٍ إِلى صورة. ذاك لأنه لو كان لا يكونُ قد صنَعَ
بالمعنى شيئاً، لكانَ قوله: "فما أسأتُ الاتِّباع" مُحالاً،
لأنه على كل حالٍ لم يَتْبَعْه في اللفظ. ثم إنَّ الأَمر ظاهرٌ
لِمَن نظَر في أنه قد نَقَل المعنى عن صورته التي هو عليها في
شِعْر النابغَة إِلى صورةٍ أُخرى. وذلك أن ههنا معنيَيْنِ:
أحدُهما: أصْلٌ، وهو: عِلْمُ الطَّير بأنَّ الممدوحَ إِذا غزا
عَدُوّاً كان الظفَرُ له، وكان هو الغالبَ.
والآخرُ فرْعٌ، وهو: طمَعُ الطيرِ في أن تتَّسع عليها
المطاعِمُ من لحوم القتلى.
__________
1 في هامش المخطوطة، بخط كاتبها، ما نصه:
"يقال: لقيته عن عفر: أي بعد شهر ونحوه".
وكان في المطبوعة: "من عفر"، وهو في الديوان على الصواب.
(1/502)
وقد عَمَد النابغةُ إِلى "الأَصْل"، الذي
هو علْمُ الطير بِأنَّ الممدوحَ يكونُ الغالبَ، فذَكَره
صريحاً، وكَشَفَ عن وجهه، واعتمَدَ في "الفرع" الذي هو طمَعُها
في لحوم القتلى، وأَنها لذلك تُحَلِّقُ فوقه على دلالةِ
الفَحْوى.
وعكَسَ أبو نواس القصَّة، فذكَر "الفرْعَ"الذي هو طمَعُها في
لحوم القتلى صريحاً، فقال كما ترى:
ثقة بالشِّبْعِ مِنْ جزرهُ
وعوَّلَ في "الأَصْل"، الذي هو علمُها بأنَّ الظفرَ يكونُ
للمدوح، على الفحوى. ودلالةُ الفحوى على عِلْمِها أنَّ الظفر
يكون للمدوح، هي في أَنْ قال: "من جَزَرِه"، وهي لا تثق بأن
شبعها يكون في جَزَر الممدوح، حتى تعلمَ أَنَّ الظَّفر يكونُ
له.
أفيكونُ شيءٌ أظهرَ من هذا في النقلِ عن صورةٍ إِلى صورة؟
574 - أرجِعُ إِلى النَّسق ومن ذلك قول أبي العتاهية:
شِيمٌ فَتَّحَتْ من المدْحِ ما قَدْ ... كانَ مُسْتَغلَقاً على
المُدَّاحِ1
مع قولِ أبي تمام:
نظمتْ له خرَز المديحِ مَواهِبٌ ... يَنْفُثْنَ في عقد اللسان
المفحم
وقول أبي وجزة:
أتاكَ المَجْدُ منْ هَنَّا وهَنَّا ... وكنتَ له بمجتمع
السيول2
__________
1 في ملحقات ديوانه: 515، عن "الصبح المبى"، و "الإبانة"
للعبيدي، هو عند الواحي في شرح ديوانه المتنبي ص: 100.
2 هو لأبي وجزة السعدي، يزيد بن عبيد، في ديوانه المعاني
للعسركي 1: 59، وكان في المطبوعة: "مجتمع"، وهو خطأ.
(1/503)
مع قول منصور النمرى:
إنَّ المكارِمَ والمعروفَ أَوديةٌ ... أَحلَّكَ اللهُ منها حيث
تجتمع1
وقول بشار:
الشّيبُ كُرْهٌ وكُرْهٌ أنْ يُفارِقَني ... أَعْجِبْ بشيءٍ على
البغضاء مودود2
مع قول البحتري:
تعيب العانيات عليَّ شَيبي ... ومَنْ لي أن أمتَّعَ بالمَعيبِ
وقول أبيتمام:
يشتاقُهُ مِنْ كمَالِهِ غدُهُ ... ويُكْثِرُ الوَجْدَ نحوهُ
الأمس
مع قول ابن الرومي:
إمامٌ يَظَلُّ الأمسُ يُعمِلُ نَحْوهُ ... تَلَفُّتَ ملْهوفٍ
ويَشْتاقُهُ الغَدُ3
لا تنظرْ إِلى أنه قال: "يشتاقُه الغَدُ"، فأعادَ لفظَ أبي
تمام، ولكنَّ انْظُرْ إِلى قوله: يُعملُ نحوَهُ تلفتَ ملهوفٍ.
وقولُ أبي تمام:
__________
1 هو من قصيدته المشهورة في الرشيد، الأغاني 13: 145 "الدار"،
والقصيدة منشورة في أحد أعداد مجلة المجتمع بدمشق.
2 هذا البيت ينسب لبشار، ولمسلم بن الوليد، وليس في ديوانهما،
وهو لبشار في أمالي المرتضى 1: 607، وفي مجموعة المغاني: 124،
وهو لمسلم في ديوانه المعاني 2: 158، وسمط اللآلئ: 334، وهو له
في تاريخ بغداد 13: 97، 98 ثلاثة أبيات أولها، عن أبي تمام:
نام العواذل واستكفين لائمتي ... وقد كفاهن نهض البيض والسود
أما الشباب فمفقود له خلف ... والشيب يذهب مفقودًا بمفقود
3 هو في ديوانه: 787، وفيه: "كريم يظل الأمس".
(1/504)
لئن ذمت الأعداء سوء صباحها ... فليس يودى
شكرها الذئب والنسر
مع قول المتبني:
وأنْبتَّ مِنْهُمْ ربيعَ السِّباعِ ... فأَثْنَتْ بإحسانِكَ
الشاملِ
وقولُ أبي تمام:
ورُبَّ نائي المَغاني رُوحُهُ أبداً ... لَصِيقُ رُوحي ودان
ليس بالدانى
مع قول المتنبي:
لنا ولأَهْلِهِ أبَداً قُلوبٌ ... تلاَقى في جسومٍ ما تلاقى
وقول أبي هفان:
أصبحَ الدهرُ مُسيئاً كلُّهُ ... مالَهُ إلاَّ ابنَ يَحْيى
حَسَنهْ
مع قولِ المتنبي:
أزالتْ بِكَ الأيامُ عَتْبي كأنما ... بَنُوها لَها ذَنْبٌ
وأنتَ لَها عذْرُ
وقولُ علي بنِ جبلة:
وأَرى الليالي ما طوَتْ مِنْ قُوَّتي ... رَدَّته في عِظتي وفي
إِفهامي1
مع قولِ ابن المعتز:
وما يُنتقَصْ من شَبابِ الرِّجال ... يَزِدْ في نهاها
وألبابها2
__________
1 هو في مجموع شعره مخرجًا، وبعده:
وعلمت أن المرء من سنن الردى ... حيث الرمية من سهام الرامي
2 هو في ديوانه، في باب الفخر.
(1/505)
وقول بكر بن النطاح:
ولوْ لم يكنْ في كفِّهِ غيرُ روحِهِ ... لجَاد بِها فلْيتَّقِ
اللهَ سائِلُهْ1
مع قول المتنبي:
إِنكَ مِنْ مَعْشَرٍ إِذا وَهَبوا ... ما دُونَ أعمارهم فقد
بخلوا
وقول البحتري:
ومن ذاا يلومُ البحرَ أَنْ باتَ زاخراً ... يفيضُ وصوبَ
المزْنِ أَنْ راحَ يَهْطِلُ
مع قولِ المتنبي:
وما ثَناكَ كلامُ الناسِ عَنْ كَرَمٍ ... ومَنْ يسد طريق
العارض الهطل
وقول الكندي:
عَزُّوا وعَزَّ بِعزِّهمْ مَنْ جَاوَرُوا ... فهُمُ الذُّرى
وجماجم الهامات
إن يطلبوا بتتراتهم يُعطَوا بها ... أو يُطلَبوا لا يُدْرَكوا
بتِراتِ2
مع قول المتنبي:
تُفيتُ الليالي كلَّ شيءٍ أخذْتَه ... وهنَّ لِمَا يأخذن منك
غوارم
وقول أبي تمام:
إذا سيفه أضحى على اللهام حاكِماً ... غَدا العَفْوُ منهُ
وهْوَ في السيفِ حاكم
مع قول المتنبي:
لهُ مِنْ كَريمِ الطَّبْع في الحرْبِ مُنْتَضٍ ... ومن عادة
الإحسان والصفح غامد
__________
1 هذا بيت يقحم في شعر أبي تمام، وهو في ديوانه.
2 أعياني أن أجدهما، وهما موجودان.
(1/506)
575 - فانظُرِ الآنَ نظرَ مَنْ نَفَى
الغفْلةَ عن نفسِه، فإنكَ ترَى عِياناً أنَّ لِلْمعنى في كل
واجد من البيتِ الآخَر وأنَّ العلماءَ لم يُريدوا حيثُ قالوا:
"إنَّ المعنى في هذا هو المعنى في ذاك"، أن الذي يعقل من هذا
لا يخالف الذي يعقل مِن ذاك وأنَّ المعنى عائدٌ عليكَ في
البيتِ الثاني على هيئَتهِ وصِفَتهِ التي كانَ عليها في البيتِ
الأول وأنْ لا فرْقَ ولا فصل ولا تباني بوجهٍ من الوجوه وإنَّ
حكْم البيتينِ مثَلاً حكْمُ الاسمينِ قد وُضِعا في اللغة لشيءٍ
واحدٍ، كالليثِ والأَسد1 ولكنْ قالوا ذلك على حَسَبِ ما يقولُه
العُقَلاء في الشيئينِ يَجْمَعهما جنسٌ واحدٌ، ثم يفترقانِ
بخواصَّ ومَزايا وصفاتٍ، كالخاتم والخاتَم، والشَّنْف
والشَّنْف، والسِّوارِ والسوار، وسائرِ أصنافِ الحِلَى التي
يَجْمعها جنسٌ واحدٌ، ثم يكونُ بينهما الاختلافُ الشديدُ في
الصَّنْعة والعَمَل.
576 - ومَنْ هذا الذي يَنظُر إِلى بيتِ الخارجِي وبيتِ أبي
تمام2، فلا يَعْلَمُ أنَّ صورةَ المعنى في ذلك غيرُ صورتِه في
هذا؟ كيفَ، والخارجيُّ يقول:
"واحتجَّتْ له فَعْلاتُه"
ويقولُ أبو تمام:
إذن لَهجاني عنْه مَعْروفُه عندي
ومتى كان "احتجَّ" و "هجا" واحدًا في المعنى؟
__________
1 السياق: "وأن العلماء لم يريدوا حيث قالوا ... ولكن قالوا
ذلك".
2 هو فيما سلف قريبًا ص: 501.
(1/507)
وكذلك الحكْمُ في جميع ما ذكرْناه، فليسَ
يُتَصوَّرُ في نفسِ عاقلِ أنْ يكونَ قولُ البحتري:
وأَحَبُّ آفاقِ البلادِ إِلى الفَتى ... أرضٌ يَنالُ بها
كَريمَ المَطْلَبِ
وقولُ المتنبي:
وكلُّ مكانٍ يُنبِتُ العزَّ طيِّبُ1
سواءً
577 - واعلمْ أنَّ قولَنا "الصورةُ"، إِنما هو تمثيلٌ وقياسٌ
لما نَعْلَمه بعقولنا على الذي نرَاه بأبصارنا، فلما رأَينْا
البَيْنونة بين آحادِ الأجناسِ تكونُ مِنْ جِهةَ الصورةِ، فكان
تبين إنسانٍ مِنْ أنسانٍ وفرَسٍ من فرسٍ2، بخصوصيةٍ تكونُ في
صورةِ هذا لا تكونُ في صورةِ ذاك، وكذلك كان الأمرُ في
المصنوعاتِ، فكانَ تَبَيُّنُ خاتَمٍ من خاتمٍ وسِوَارٍ من
سِوَارٍ بذلك، ثم وجَدْنا بينَ المعنى في أحد البيتين وبينه في
الآخر بينونةً في عقولِنا وفَرْقاً3، عَبَّرْنا عن ذلك الفرقِ
وتلكَ البينونةِ بأَنْ قلْنا: "لِلمعنى فيِ هذا صورةٌ غيرُ
صورتهِ في ذلك". وليس العبارة من ذلك بالصورةِ شيئاً نحن
ابتدأناه فيُنْكِرَهُ مُنْكِرٌ، بل هو مُستعمَلُ مشهورٌ في
كلام العلماءِ، ويكفيك قول الجاحظ: "وإنما الشعر صياغة وضرب من
التصوير"4.
__________
1 هو فيما سلف قريبًا ص: 491.
2 في المطبوعة: "بين إنسان"، وبعده بقليل "بين خاتم".
3 السياق: "فلما رأينا البينونة .... عبرنا عن ذلك الفرق وتلك
البينونة".
4 سلف فيما مضى في الفقرة رقم: 298، وفي المطبوعة: "صناعة".
(1/508)
578 - واعلمْ أنه لو كانَ المعنى في أَحدِ
البيتين يكونُ على هيئتِه وصِفَته في البيتِ الآخَر، وكانَ
التالي من الشاعِرَيْن يَجيئُك به مُعَاداً على وجهه لم
يُحدِثْ فيه شيئاً، ولم يُغيِّر له صِفةً، لكان قولُ العلماءِ
في شاعرٍ: "إِنه أَخَذَ المعنى مِنْ صاحِبِه فأحْسَنَ وأجادَ"،
وفي آخَرَ "إِنه أسَاءَ وقصَّر"، لغوْاً من القولِ، من حيثُ
كان مُحالاً يُحْسِنَ أو يسيءَ في شيءٍ لا يَصْنع به شيئاً.
وكذلك كانَ يكونُ جَعْلُهم البيتَ نظيراً للبيتِ ومناسِباً له،
خطأً منهم، لأنه مُحال أن يُناسِبَ الشيءُ نفسَه، وأن يكونَ
نَظيراً لنفسِه.
وأمرٌ ثالث: وهو أنهم يقولون في واحد: "إنه أخذ المعنى فظر
أَخْذُه"، وفي آخر: "إِنه أَخذَه فأخفَى أخْذَه"، ولو كان
المعنى يكونُ مُعاداً على صورتِه وهيئتِه، وكانَ الأَخْذ له
مِنْ صاحِبه لا يَصْنع شيئاً غيرَ أن يُبدِّل لفظاً مكانِ
لفظٍ، لكان الإخفاءُ فيه مُحالاً، لأن اللفظ لا يُخْفى المعنى،
وإنما يُخْفيه إخراجُه في صورةٍ غيرِ التي كانَ عليها.
579 - مثالُ ذلك إن القاضي أبا الحَسَن1، ذكَر فيما ذكرَ فيه
"تناسب المعاني"، بيت أبي نواس:
خُلِّيَتْ والحُسْنَ تَأخذُهُ ... تَنْتقي منهُ وتَنْتخِبُ2
وبيتَ عبدِ الله بن مصعب:
كأنَّك جئتَ محتكِماً عليهمْ ... تَخيَّرُ في الأبوَّةِ ما
تشاء
__________
1 يعني القاضي الجرجاني أبا الحسن علي بن عبد العزيز في كتابه
"الوساطة بين المتنبي وخصومه، وهذا كلها في "الوساطة": 160،
وشعر أبي نواس وبشار وأبي تمام في دواوينهم.
2 هو في ديوانه، وذكر القاضي بعده:
فاكتست منه طرائفه ... واستزادت فضل ما تهب
(1/509)
وذكر أنهما معًا من بيت بشار:
خُلِقتُ على ما فيَّ غيرَ مُخَيَّرٍ ... هوايَ، ولو خُيِّرْتُ
كنتُ المهذَّبا
والأمرُ في تناسب هذه الثلاثةِ ظاهرٌ. ثم إنه ذكَرَ أنَّ أبا
تمام قد تناوله فأخفاه وقال:
فلَوْ صوَّرْتَ نفسَك لم تَزِدْها ... على ما فيكَ من كَرمِ
الطِّباعِ
580 - ومن العجَب في ذلك ما تراه إِذا أنتَ تأملْتَ قولَ أبي
العتاهية:
جزى البخيل على صالحة ... غنى بخفته على ظَهْري
أَعلى وأَكْرمَ عن يَدَيْهِ يَدي ... فَعلَتْ، ونزَّه قدْرُه
قدْري
وُرزِقتُ مِن جَدْواهُ عافيةً ... أنْ لا يَضيقَ بشكْرهِ
صَدْري
وغَنِيتُ خلوًا من تفضله ... أحنوا عليه بأحسن العذر
ما فاتني خير امرئ وَضَعتْ ... عَنّي يَداهُ مؤونةَ الشكْرِ1
ثم نظرتَ إلى قول الذي يقول:
أعتقني سوء ما صنعت من الرق ... فيا برْدَها على كَبِدي
فصرتُ عَبْداً للسُّوءِ منك وما ... أحسن سوء قبلي إلى أحد2
__________
1 الشعر في ديوانه "بيروت": 345، وأسرار البلاغة: 143.
2 الشعر في أسرار البلاغة: 143، وحماسة ابن الشحرى 1: 291
"الملوحى" وفيها التخريج، غير معزو إلى أحد، وكان من الأسرار
والمطبوعة: "للسوء فيك". وبعد هذا في المخطوطة سقط ورقتين: من
ص: 324، إلى ص: 327، وسأشير إلى ذلك بعد قليل.
(1/510)
وصف الشعر والإدلال
به
581 - وممَّا هو في غاية النُّدرة من هذا الباب، ما صنعه
الجاحظ بقول نصيب:
ولو سَكتوا أثنتْ عليكَ الحقائبُ
حين نثرَه فقال، وكتبَ به إِلى ابن الزيات:
"نحنُ، أَعزك اللهُ، نَسْحَرُ بالبيان، ونُموِّه بالقول،
والناسُ ينظرون إِلى الحالِ، ويقْضُونَ بالعِيان، فأَثِّرْ في
أَمرنا أَثراً ينطِقُ إِذا سكَتْنا، فإنَّ المدَّعي بغير بينة
متعرض للتكذيب".
قول الشعراء في وصف الشعر:
582 - وهذه جملة منْ وَصْفهم الشعرَ وعملِه، وإدلالهِمْ به.
1أبو حية النميري:
إنَّ القصائدَ قد عَلِمْنَ بأنَّني ... صنَعُ اللسانِ بهنَّ،
لا أَتَنحَّلُ
وإِذا ابتدأتُ عروضَ نَسْجٍ ربض ... جعلت تذل لما أريد وتسهل
__________
1 من حر الشعر ونفيسه ما قاله أبو يعقوب الخريمي في صفة شعره،
رواه الخالديان في الأشباه والنظائر1: 226.
من كل غائرة إذا وجههتها ... طلعت بها الركبان كل نجاد
طورًا تمثلها الملوك، وتارة ... بين الثدى تراض والأكباد
يعني بالغائرة، قصيدة يقولها في الغور، ثم يوجهها، فتسير به
الركبان مصعدة في كل نجد، ويناشهدها ملوك الناس وملوك البيان،
ويتمثلون بها، ويفتن بها أهل الغناء، فيروضونها بالتلحين، فهي
تلحن على العيدان المحتضنة بين الثدى والأكباد، شغفًا بها.
وهذا شعر فاخر كان يقال مثله يوم كان ملوك الناس ملوكًا، ويوم
كان شعر الناس شعرًا، وكان غناء الناس غناء!
(1/511)
حتى تُطاوِعَني، ولو يَرْتاضُها ... غَيْري
لحاوَلَ صَعْبةً لا تقبل1
583 - تميم بن مقبل:
إِذا مُتُّ عن ذكْر القوافي فلَنْ تَرى ... لها قائلاً بَعْدي
أَطبَّ وأشْعَرا
وأكثرَ بَيْتاً سائراً ضُرِبَتْ له ... حُزونُ جبالِ الشعرِ
حتَّى تَيَسَّرا
أغرَّ غريباً يَمْسَحُ الناسُ وجْهَهُ ... كما تمسح الأيدي
الأغز المشهرا2
584 - عدى بن الرقاع:
وقصيدةِ قد بِتُّ أجْمَعُ بَينها ... حَتَّى أُقوِّمَ ميلَها
وسِنادَها
نظرَ المُثَقِّفُ في كعوبِ قنَاتِهِ ... حتَّى يُقيمَ ثِقَافهُ
مُنْآدَها3
585 - كَعْبُ بن زهير
فَمَنْ للقوافي، شَانَها مَن يَحُوكُها ... إِذا ما توى كعب
وفوز جزول
يُقَوِّمُها حَتَّى تَلِينَ مُتُونُها ... فَيقْصُرُ عَنْهَا
كلُّ ما يتمثل4
586 - بشار
عَمِيتُ جَنِيناً، والذكاءُ مِنَ العَمَى، ... فجئتُ عجيبَ
الظن للعلم موئلا
__________
1 في شعره المجموع، عن دلائل الإعجاز: وقوله: "أتنحل"، أي لا
أغير على شعر غيري، فأسترق معانيه وأدعيها لنفسي، , "العروض"
ناقة صعبة لم تذلل، ولم تقبل الرياضة بعد. وأراد بالنسخ نسخ
الشعر، و "الربض" من الدواب وغيرها، الذي لا يقبل الرياضة، ولم
تذل لراكبها بعد. و "تذل"، تلين وتسهل بعد صعوبة.
2 الشعر في ديوانه، وهو فيه "لها تاليًا بعدي"، و "بيتًا
ماردًا"، وهو أجود وأدق. و "الأغر المهشر"، الفرس، يعني جاء
سابًا فمسح الناس وجهه إكرامًا له، وحبا له.
3 في قصيدته، نشرها الأستاذ الميمنى في الطرائف الأدبية،
"الثقاف" آلة تسوى بها قناة الرمح. و "المنآد" الذي فيه عوج.
4 في ديوانه. و "جرول" هو الخطيئة. و "توى" و "فوز" هلك.
(1/512)
وغاص ضياءُ العينِ لِِلْعِلْم رافداً ...
لِقَلْبٍ إِذا ما ضَيِّع الناسُ حَصِّلا
وشِعرٍ كنَورِ الروْضِ لاءمْتُ بَيْنَهُ ... بقولٍ إِذا ما
أحزنَ الشعرُ أَسْهَلا1
587 - وله
زَوْرُ ملوكٍ عليه أُبَّهةٌ ... يُغرَفُ مِن شِعْره ومن
خُطَبِهُ
للهِ ما راحَ في جوانحِهِ ... من لولؤ لا يُنَامُ عَنْ طَلَبهْ
يَخرجُ مِن فيهِ للندى، كما ... يخرج ضوء السراج من لهبه2
588 - أبو شريح العمير
فإنْ أَهلِكْ فقد أَبقَيْتُ بَعْدي ... قوافيَ تُعْجِبُ
المتمثِّلينا
لَذِيذاتِ المَقَاطعِ محْكَماتٍ ... لوَ أنَّ الشِّعْرَ يلبس
لارتدينا3
589 - الفرزدق
بلغنا لشمس حين تكونُ شَرْقا ... ومسقَطَ قَرنِها من حيثُ غابا
__________
1 في زيادات ديوانه.
2 في ديوانه. و "الزور"، الزائر، يستوى فيه المذكر والمؤنث،
والمفرد والجمع.
3 لم أعرف "أبا شريح العمير"، وهو مجموعة المعاني: 178 لشاعر
جاهلي، وفي البيان والتبيين 1: 222، وديوان المعاني: 1: 8 غير
منسوب، وانفرد صاحب حماسة الشجرى بنسبته إلى ابن ميادة، وهذا
خطأ أو سهو، لأنه فيما أرجع أخذه من البيان والتبيين، لأن
الجاحظ عقد بابًا فقال: "ووصفوا كلامهم في أعشارهم، فجعلوها
كبرود العصب، وكالحلل والمعاطف، والديباج والوشى، وأشباه ذلك.
وأنشدني أبو الجماهر جندب بن مدرك الهلالي" وذكر أبياتًا ثم
قال: "وأنشدني لابن ميادة:
نعم إنني مهد ثناء ومدحة ... كبرد اليماني يربح البيع تاجره
وأنشد" ثم ذكر البيتين، فاختلط الأمر على الشجرى في نقله إلى
حماسته، فنسبه لابن ميادة.
وهذا شعر فاخر.
(1/513)
بِكلِّ ثنِيَّةٍ وبكلِّ ثَغرٍ ...
غرائبهُنَّ تَنتَسِبُ انْتِسابا1
590 - ابن ميادة
فَجَرْنا ينابيعَ الكَلامِ وبَحْرَهُ ... فأصْبَحَ فيهِ ذو
الروايةِ يَسْبَحُ
وما الشعرُ إِلاّ شعرُ قيسٍ وخِنْدِفٍ ... وشِعْرُ سواهُمْ
كُلْفَةٌ وتَملُّحُ2
591 - وقال عقالُ بن هشام القيني يرد عليه:
ألا أبلغ الرَّمَّاحَ نقْضَ مقالةٍ ... بها خَطِلَ الرَّمَّاحُ
أو كان يَمزَحُ
لئن كان في قيسٍ وخِنْدِفَ ألسُنٌ ... طِوالٌ، وشِعرٌ سائرٌ
ليس يُقْدَحُ
لقد خَرَّقَ الحيُّ اليمانون قَبْلَهم ... بُحورَ الكلام
تُسْتقَى وهْيَ طفَّحُ
وهُمْ عَلَّموا مَنْ بَعْدَهُمْ فتعلَّموا ... وهمْ أَعْرَبوا
هذا الكَلامَ وأَوْضَحوا
فلِلسَّابقينَ الفَضْلُ لا يجحدونه ... وليس لمسبوق عليهم
تبجح3
592 - أبو تمام
كَشَفْتُ قِناعَ الشّعرِ عن حُرِّ وجْهِهِ ... وطيَّرتُه عن
وكره وهو واقع
بغر يراها ن يراها بسمعه ... ويدنوا إليها ذو الججى وهو شاسع
__________
1 في ديوانه، بقوله لجرير، وقبله، يعني شعره وقصائده:
وغر قد نسقت مشهرات ... طوالع، لا تطيق لها جوابا
"غر"، كالفرس الأغر يعرف من بين الخيل، "مشهرات"، يردن كل بلد
فتطلع على أهله فيتناشدونها، ونسجها يدل على نسبها، يعني أن
يقال: هذا الفرزدق يقول. "والتثنية" الطريق في الجبل يسكله
الناس، و "الثغر" فرجة في بطن واد أو في جبل، أو في طريق
مسلوك.
2 هو في الأغاني 2: 309 (الدار).
3 هو في الأغاني 2: 309 "الدار"، وسماه عقال بن هاشم"، و
"الرماح" هو "ابن ميادة".
(1/514)
يَودُّ وِداداً أنَّ أَعضاءَ جِسْمِهِ ...
إِذا أُنشِدَتْ شوقًا إليها مسامع1
593 - وله
حذّاءَ تَملأُ كلَّ أُذْنٍ حكْمةً ... وبَلاغةً، وتُدِرُّ كل
وريد
كالرد والمرجانِ أُلّف نَظْمُهُ ... بالشَّذْر في عُنُقِ
الفتاةِ الرُّودِ
كَشقيقةِ البُرْدِ المُنَمنَمِ وشيُهُ ... في أرضِ مَهرةَ أو
بلادِ تَزِيد
يُعطَى بها البشرىالكريم ويَرْتدي ... بردِائها في المحفِلِ
المَشْهودِ
بُشْرَى الغَنيِّ أبي البنات تتابعت ... بشراوه بالفارس
المولود2
594 - وله:
جاءتْكَ مِنْ نَظْمِ اللسانِ قِلاَدَةٌ ... سِمْطانِ، فيها
اللؤلؤُ المَكْنونُ
أحْذَاكَها صَنَعُ الضَّميرِ يَمُدُّه ... جَفْرٌ إِذا نَضَبَ
الكلامُ مَعِين3
595 - أخذ لفْظَ "الصَّنَع" من قوله أبي حَيّة:
بأنني صنَعُ اللسانِ بهنَّ لا أتنحَّلُ
ونقله إِلى الضمير، وقد جعل حسَّانُ أيضاً اللسانَ "صنعًا"،
وذلك في قوله:
أهدى لهم مدحًا قلب موازره ... فيمنا أحب لسان حائك صنع4
__________
1 شعر أبي تمام هذا، والآتي بعده في ديوانه. و "شاسع"، هو
البعيد.
2 "حذاء" خفيفة السير في البلاد، و "تدر كل وريد"، تذبح من
يحسده أو يحاول ما حاوله. و "الشذر"، ما يصاغ من ذهب أو فضة
على هيئة الؤلؤة. و "الفتاة الرود"، الناعمة المتمايلة دلًا. و
"الشقيقة"، ما يشق من البرود، و "المنمنم" المنقوش نقشًا
دقيقًا. و "مهرة" من بلاد اليمن، و "بنو تزيد" من قضاعة، تنسب
إليها البرود النفيسة.
3 يقال: "أحذاه من الغنيمة"، أي أعطاه. و "الجفر"، البئر
الواسعة المستديرة التي لم تطو بعد. و "معين" يجري على وجه
الأرض ماؤها.
4 هو في ديوانه.
(1/515)
596 - ولأبي تمام:
إليك أرحنا عازب الشعر بعد ما ... تمهَّل في روضِ المعاني
العجَائِبِ
غرائبُ لاقتْ في فنائكَ أُنسَها ... مِن المَجْدِ فَهْيَ الآنَ
غيرُ غَرائبِ
ولو كان يفنَى الشعرُ أفناهُ ما قَرَتْ ... حياضُكَ منهُ في
السنين الذَّواهِبِ
ولكنّهُ صَوْبُ العقولِ، إِذا انْجَلَتْ ... سحائبُ منه أعقبت
بسحائب1
597 - البحترى
ألستُ المُوالِي فيكَ نَظْمَ قصائدٍ ... هي الأنجُم اقْتَادَتْ
معَ الليلِ أَنْجُمَا
ثناءٌ كأَنَّ الروضَ منهُ مُنوِّرا ... ضُحَى، وكأَنَّ الوشْيَ
منهُ منَمْنما2
598 - وله:
أحسن أبا حسن بالشعر، إذا جعلت ... عليك أنجمه بالمدح تنتثر
فقد أئتك القوافي غب فائدة ... كمكا تفتح غب الوابل الزهر3
599 - وله
إليك القوافي نازعات قواصدًا ... يُسَيَّرُ ضاحِي وَشْيها
ويُنَمْنَمُ
ومُشْرِقَةٌ في النظْمِ غر يزينها ... بهاء وحسنًا أنها فيك
تنظم4
__________
1 "العازب" من الإبل، التي خرج يرعى بها راعيها كلًا بعيدًا عن
ديار الحي. و "أراح الإبل"، إذا ردها إلى مراحها بعد غروب
الشمس، حيث تأوى إلى مراحها ليلًا لتبيت فيه. و "قرت حياضك"،
"قرى الماء في الحوض" جمعه، ورواية الديوان "في العصور
الذواهب"، و "الصواب"، المطر.
2 في ديوانه، "فيه مسهمًا"، أي منقوشًا على هيئة السهام.
3 في المطبوعة: "تنتشر"، وهو خطأ.
4 "يسير"، أي ينسج على هيئة الحلة السيراء، ذات الخطوط. وفي
المطبوعة: "أنها لك".
(1/516)
600 - وله
بمنقوشة نقش الدنانير ينتفي ... لها اللفظُ مُختاراً كما
يُنْتقى التِّبْرُ
601 - وله
أيذهَبُ هذا الدهرُ لم يُرَ مَوْضِعي ... ولم يُدْرَ ما
مِقدارُ حَلّي ولا عَقْدِي
ويَكْسِدُ مثلى وهو تاجر سودد ... يَبيعُ ثميناتِ المكارِمِ
والمَجْدِ
سوائرُ شِعرٍ جامعٍ بِدَدَ العُلى ... تعلَّقنَ مَنْ قَبلي
وأتعبْنَ مَن بَعْدي
يقدِّرُ فيها صانعٌ مُتعمِّلٌ لأحكامِها تقديرَ داود في السرد1
602 - وله
تاله يَسهرُ في مديحِكَ ليلَهُ ... مُتَمَلْمِلاً وتَنامُ دونَ
ثوابه
يقظان ينتخل الكلامَ كأنهُ ... جيشٌ لديهِ يُريدُ أَنْ يَلْقَى
بِهِ
فأتَى بهِ كالسيفِ رَقَرَقَ صَيْقَلٌ ... ما بَيْنَ قائمٍ
سِنْخِهِ وذُبابِهِ2
603 - ومن نادر وصفه للبلاغة قوله:
في نظام من البلاغة ما شك ... أمْرُؤٌ أنَّه نظامُ فَريدِ
وبَديعٍ كأنَّه الزَّهَرُ الضاحك ... في رونق الربيع الجديد
__________
1 "البدد"، المتفرق. و "تعلقن"، يعني أنها فتنت الشعراء قبلهم،
فتعلقنها حب علاقة. و "السرد" حلق الدروع، وإلى داود عليه
السلام تنسب صنعة الدروع. لقوله تعالى له: {أَنِ اعْمَلْ
سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 11].
2 في المطبوعة: "لله"، وهو خطأ لا شك فيه. وفي الديوان "ينتخب
الكلام"، وكان في المطبوعة: "ينتحل الكلام"، بالحاء المهملة
وهو تصحيف وفساد .... و "نحل الشيء وتنحله وانتخله"، بالخاء
المعجمة، صفاه واختاره، وعزل عنه ما يكدره أو يفسده. و
"الصيقل" الذي يجلو السيوف حتى يترقرق ماؤها من حدتها. و
"السنخ" مغرز السيف في مقبضه، و "الذباب" طرف السيف.
(1/517)
عود إلى الاحتجاج
على بطلان مذهب اللفظ
مشرق في جوانب السمع ما ... يحلقه عَوْدُهُ على المُسْتَعيدِ
حُجَجٌ تُخْرِسُ الألدَّ بألفا ... ظِ فُرادى كالجوهرِ
المعْدودِ
ومَعانٍ لو فصَّلَتْها القَوافي ... هجنت شعر جرول ولبيد
جزن مُستعمَلَ الكلامِ اخْتياراً ... وتجنَّبْنَ ظُلمَةَ
التَّعقيدِ
ورَكبْنَ اللّفظَ القريبَ فأدركْنَ ... بهِ غايةَ المرادِ
البَعيدِ
كالعَذارَى غَدَوْنَ في الحُلَلِ الصُّفْـ ... ـرِ إِذا رُحْنَ
في الخطوط السود1
عرضه من ذكر وصف الشعراء الشعر، وأنه يدرك بالعقل، لا بمذاقة
الحروف:
604 - الغرضُ من كَتْبِ هذه الأبياتِ، الاستظهارُ، حتى إنْ
حَمَل حاملٌ نَفْسَه على الغَرَرِ والتقحُّم على غيرِ بصيرةٍ،
فَزَعَمَ أنَّ الإعجازَ في مذاقةِ الحروفِ، وفي سلامَتِها مما
يَثقُل على اللسانِ علِمَ بالنظرِ فيها فَسادَ ظنِّه وقبْحَ
غَلَطِه، من حيثُ يَرى عياناً أنْ ليس كلامهم كلام من خطر ذلك
منه يبالي، ولا صفاتُهم صفاتٍ تَصْلُحُ له على حالٍ. إذْ لا
يَخْفَى على عاقلٍ أنْ لم يكن ضرب
__________
1 في ديوانه، يقوله في بلاغة محمد بن عبد الملك الزيات الكاتب
الوزير، وذكر قبل البيت الأول "عبد الحميد الكاتب" فقال لابن
الزيات:
لتفننت في الكتابة حتى ... عطل الناس فن عبد الحميد
و"الفريد"، اللؤلؤ. و "جرول"، الحطيئة، و "لبيد بن ربيعة"
الفحل، وفي الديوان والمطبوعة قوله: "حزن مستعمل الكلام"
بالحاء المهملة، وهكذا يجري في الكتب، وهو عندي خطأ لا شك فيه،
وتصحيف مفسد للكلام والشعر معًا، وإنما هو "جزن" بالجيم
المعجمة، من "جاز المكان" إذا تعداه وتركه خلفه. يقول: إن
معانيه تعدين مبتذل اللفظ والكلام وتركته، "وتجنبن ظلمة
التعقيد، وركبن اللفظ القريب"، وهو اللفظ المختار الجيد الذي
لا ابتذال فيه ولا تعقيد. وهو في بعض نسخ الديوان "جزن"
بالجيم، وهو الصواب المحض، وأما "حزن" فهو تصحيف يتقي، وكلام
يرغب عن مثله. وفي بعض نسخ الديوان: "كالعذارى غدون في الحلل
البيض"، وهي جيدة.
(1/518)
"تميمٍ" لحُزونِ جبالِ الشعر، لأنْ تسْلَم
ألفاظُه من حروفٍ تثقُل على اللسان ولا كان تقويم "عدى" لشعره
وتشبيهه نظرَه فيه بنَظَر المثقِّفِ في كُعوبِ قناتِهِ لذلك
وأَنه مُحالٌ أنْ يكونَ له جعلَ "بشار" نورَ العينِ قد غاضَ
فصار إلى قلبه1، وأن يكون الؤلؤ الذي كان لا ينامُ عن طلبهِ
وأنْ ليس هو صَوْبَ العقولِ الذي إِذا انجلَتْ سحائبُ منه
أعقبتْ بسحائب وأنْ ليس هو الدرَّ والمرجانَ مؤلَّفاً بالشذْرِ
في العَقْد ولا الذي له كان "البحتريُّ" مقدِّراً "تقديرَ
داودَ في السَّرد". كيف؟ وهذه كلُّها عباراتٌ عما يدرك بالعقل
ويتسنبط بالفكر، وليس الفكرُ الطريقَ إِلى تمييزِ ما يَثْقُلُ
على اللسان مما لا يَثْقُل، إِنَّما الطريقُ إِلى ذلك الحسُّ.
605 - ولولا أنَّ البلوى قد عظُمَتْ بهذا الرأي الفاسدِ، وأنَّ
الذين قد استهلكوا قفيه قد صاروا من فرط شعفهم به يصغون إلى كل
شيء سمعونه، حتى لو أنا إنسانًا قال: "باقلي حار"، يريهم أن
يريد نصرة مذهبهم، لأقبلوا بأوجههم عليه وألقوا أسماعَهم
إِليه2 لكان اطَّراحُه وترْكُ الاشتغالِ بهِ أصْوبَ، لأنه قولٌ
لا يتصلُ منه جانبٌ بالصواب البتة. ذاك لأنَّه أولُ شيءٍ
يؤدِّي إِلى أن يكونَ القرآنُ مُعْجِزاً، لا بما بهِ كان
قرآناً وكلامَ اللهِ عزَّ وجَلَّ، لأنه على كلِّ حال إِنما كان
قُرآناً وكلامَ اللهِ عزَّ وجلَّ بالنظْمِ الذي هو عَليه.
ومعلومٌ أن ليس "النظْمُ" مِن مذاقةِ الحروفِ وسلامَتِها مما
يثقل على اللسان في شيء.
__________
1 في المطبوعة: "قد غاص"، وهو تصحيف.
2 في المطبوعة: "فألقوا".
(1/519)
ثم إِنه اتفاقٌ منَ العقلاء أنَّ الوصْفَ
الذي به تَنَاهى القرآنُ إِلى حدٍّ عجزَ عنه المَخلُوقونَ، هو
الفصاحةُ والبلاغةُ. وما رأيْنا عاقلاً جعلَ القرآن فصيحاً أو
بليغاً، بأنْ لا يكونَ في حروفِه ما يَثْقُل على اللسان، لأنه
لو كان يَصِحُّ ذلك، لكان يَجبُ أن يكونَ السوقيُّ الساقِطُ من
الكلامِ، والسفساف الردئ من الشعرِ، فصيحاً إِذا خفَّت حروفُه.
606 - وأعْجَبُ من هذا، أنه يلزم منه أن لو عَمَد عامِدٌ إلى
حرَكاتِ الإِعراب فجعَل مكانَ كلِّ ضَمَّةٍ وكَسْرةٍ فتحةً
فقال: "الحمدَ للهَ"، بفتح الدالِ واللام والهاءِ، وجرَى على
هذا في القرآنِ كلِّه، أنْ لا يَسْلُبَه ذلك الوصفَ الذي هو
معْجِزٌ به، بل كان يَنْبغي أن يزيدَ فيه، لأنَّ الفتحةَ كما
لا يَخْفَى أخفُّ من كلِّ واحدةٍ من الضَّمةِ والكَسْرة.
فإِنْ قال: إنَّ ذلك يُحيل المعنى.
قيلَ له: إِذا كان المعنى والعلةُ في كونهِ معجزاً خفةَ اللفظِ
وسهولَتَه، فينبغي أنْ يكونَ مع إحالةِ المعنى مُعْجِزاً، لأنه
إذا كان معجزًا لوصف يخصُّ لفظَه دون معناهُ، كانَ مُحالاً أن
يَخْرجَ عن كونهِ معجِزاً، مع قيام ذلك الوصف فيه.
بيان أن قولهم في اللفظ، يسقط "الكناية" و"الاستعارة"
و"التمثيل" و"المجاز" و"الإيجاز":
607 - ودعْ هذا، وهَبْ أنه لا يَلزَمُ شيءٌ منه، فإِنه يكْفي
في الدلالةِ على سقوطهِ وقلَّةِ تمييز القائل به، أنه يَقْتضي
إسقاطُ "الكناية" و "الاستعارة" و "التمثيل" و "المجاز" و
"الإيجاز" جملةٌ، واطِّراحُ جميعها رأساً، مع أنها الأقطابُ
التي تَدورُ البلاغةُ عليها، والأعضادُ التي تَسْتَنِدُ
الفصاحةُ إِليها، والطَّلِبةُ التي يتنازَعُها المُحْسِنونَ،
والرِّهانُ الذي تُجرَّبُ فيه الجيادُ، والنضالُ الذي تُعْرَفُ
به الأيدي الشِّدَادُ، وهي التي نَوَّهَ بذكْرِها البلغاءُ،
ورفَعَ من أقدارِها العلماءُ،
(1/520)
وصنفوا فيها الكتب، ووكلوا بها الهم،
وصرَفوا إِليها الخواطِرَ، حتى صارَ الكلامُ فيها نوعاً من
العِلْم مفْرَداً، وصناعةً على حِدَة، ولم يَتَعاطَ أحَدٌ من
الناس القولَ في الإعجازِ إلاَّ ذكَرَها وجعَلَها العُمُدَ
والأركانَ فيما يوجب الفضل والمزية، وخصوصًا "الاستعارة" و
"الإيجاز"1، فإِنكَ تَراهُمْ يجعلونَهُما عنوانَ ما يَذكُرونَ،
وأولَ ما يُورِدون.
وتَراهُم يَذْكرون من "الاستعارةِ" قولَه عز وجل: {وَاشْتَعَلَ
الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4]، وقولَه: {وَأُشْرِبُوا فِي
قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93]، وقولَه عزَّ وجَلَّ:
{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس:
37]، وقوله عزَّ وجلَّ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر} [الحجر:
94]، وقولَه: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا
نَجِيًّا} [يوسف: 80]، وقولَه تعالى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ
أَوْزَارَهَا} [محمد: 4]، وقولَه: {فَمَا رَبِحَتْ
تِجَارَتُهُم} [البقرة: 16].
ومن "الإيجازِ" قولَه تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ
خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]،
وقولَه تعالى: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير} [فاطر: 14]،
وقوله {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57]،
وتراهم على لسانٍ واحدٍ في أنَّ "المجازَ" و "الإيجاز" من
الأركانِ في أمْر الإِعجاز.
608 - وإِذا كان الأمرُ كذلك عندَ كافَّةِ العلماءِ الذينَ
تكلَّموا في المزيا التي للقُرآن، فَيَنْبغي أن يُنْظَر في
أمْر الذي يُسَلَّمُ نفسَه إِلى الغرورِ، فَيزعُم أنَّ الوصوف
الذي كانَ له القرآنُ مُعجزاً، هو سَلامةُ حروفه مما يثقل على
اللسان،
__________
1 في المطبوعة: "والمجاز"، ومثل الذي هنا في نسخة عند رشيد
رضا. وهو الصواب، يدل عليه ما يأتي.
(1/521)
أيصِحُّ له القولُ بذلك إلاَّ مِنْ بَعْد
أنْ يدَّعي الغَلطَ على العقلاءِ قاطبةً فيما قالوه، والخطأَ
فيما أجْمعوا عليه؟ وإِذا نظَرْنا وجْدَناه لا يَصِحُّ له ذلك
إلاَّ بأنْ يَقْتَحِمَ هذه الجهالةَ، اللهُمَّ إلاَّ أنْ
يَخْرُجَ إِلى الضُّحْكَةِ فيزعمَ مَثلاً أنَّ من شأنِ
"الاستعارة" و "الإيجاز" إِذا دَخلا الكَلامَ، أنْ يَحْدُثَ
بهما في حروفه خفة، وتتجدد فيها سهولةٌ، ونسألُ اللهَ تعالى
العِصْمَةَ والتوفيقَ.
609 - واعلم أنا لا نأتي أَنْ تكونَ مذاقةُ الحروفِ وسلامتُها
مما يَثْقُل على اللِّسانِ داخِلاً فيما يُوجِبُ الفضيلةَ،
وأنْ تكونَ مما يُؤكِّدُ أمرَ الإِعجازِ، وإِنما الذي
نُنْكِرُه ونُفَيِّلُ رأيَ مَنْ يَذْهَبُ إِليه1، أن يَجْعَلَه
معجِزاً به وَحْدَه، ويَجعلَه الأصْلَ والعُمْدةَ، فيَخرجَ إلى
ما ذكرنا من الشناعات.
بيان آخر في شأن "اللفظ"، وفساد القول به:
610 - ثم إنَّ العجَبَ كلَّ العجَبِ ممَّنْ يَجعَلُ كلَّ
الفضيلةِ في شيءٍ هو إِذا انْفَرَد لم يَجِبْ به فضْلٌ
البتَّةَ، ولم يَدْخُل في اعتداد بحال. وذاك أنه لا يَخْفى على
عاقلٍ أنه لا يكونُ بسهولةِ الألفاظِ وسلامَتِها مما يثْقُل
على اللسان، اعتداد، حتى يكون قد ألف منهنا كلامٌ، ثم كان ذلك
الكلامُ صحيحاً في نَظْمه والغرضِ الذي أُريدَ به، وأنه لو
عَمد عامدٌ إِلى ألفاظٍ فجَمعها مِن غيرَ أن يُراعيَ فيها
معنىً، ويُؤلِّف منها كلاماً، لم تَرَ عاقلاً يعتدُّ السهولةَ
فيها فضيلةً، لأنَّ الألفاظَ لا تُرادُ لأنفسِها، وإِنما
تُرادُ لتُجعَلَ أدلَّةَ على المعاني. فإِذا عَدِمَتِ الذي لهُ
تُرادُ، أو اختَلَّ أمرُها فيه، لم يعتد بالوصاف التي تكون في
أنفُسها عليها، وكانتِ السهولةُ وغير السهولة فيها واحدًا.
__________
1 "قيل رأيه"، قبحه وخطأه لفساده.
(1/522)
ومن ههنا رأيتُ العلماءَ يذمُّون مَنْ
يحمِلُه تطلُّبُ السَّجَعِ والتجنيس على أن يضيم لها المعنى1،
ويدخل الخلل عليه من أجلها، وعلى أَنْ يتعسَّف في الاستعارةِ
بسَبَبهما، ويَرْكَبَ الوعورةَ، ويسلُكُ المسالِكَ المجهولةَ،
كالذي صنَع أبو تمام في قوله:
سيف الإمام الذي سمته هييته ... لمَّا تَخَرَّم أهلَ الأرضِ
مخْترِما
قَرَّت بِقُرَّانَ عينُ الدينِ وانتشرتْ ... بالأشترينِ عيونُ
الشِّرْكِ فاصطُلِما2
وقوله:
ذهبَتْ بمَذْهَبهِ السماحةُ والْتَوَتْ ... فيه الظنونُ
أمَذهَبُ أم مُذْهَبُ3
ويَصْنعه المتكلفونَ في الأسجاعِ. وذلك أنه لا يُتصوَّر أن
يَجِبَ بهما، ومِنْ حيثُ هما، فضلٌ، ويقعَ بهما مع الخُلوِّ
منَ المعنى اعتدادٌ. وإِذا نظرتَ إِلى تجنيسِ أبي تمام:
"أمَذهَبٌ أم مُذهَبُ" فاستضعفتَه، وإِلى تجنيس القائل:
حتَّى نجا من خَوفِهِ وما نَجا4
وقولِ المحدث:
ناظراها فيما جَنَى ناظِراهُ ... أو دَعَاني أمُتْ بما
أودعاني5
__________
1 في المطبوعة: "بضم"، وفسرها تفسير من لا ينظر. و "يضيم"
بظلمه ويبخسه.
2 في ديوانه. و "تخرم"، استأصل.
3 في ديوانه.
4 البيت في أسرار البلاغة: 70، وهو في البيان والتبيين 1: 150/
3: 72، والحيوان 3: 75، وروى: "من شخصه" و "من جوفه" وقال:
"ومن الإيجاز المحذوف قول الراجز، ووصف سهمه حين رمى غيرًا،
كيف نفذ سهمه، وكيف صرعه"، وهكذا الكلام عندي من أوهام الجاحظ،
وإنما الصواب: "من خوفه" بالخاء المعجمة من فوق، , "نجا"
الأولى من "النجو" وهو ما يخرج من البطن من الغائط، يريد أنه
من خوفه أحدث، ثم لم نج. أما الذي قاله الجاحظ، فهو لا شيء.
5 خرجه في أسرار البلاغة، وهو لشمسويه البصري، وينسب لغيره
فراجعه هناك.
(1/523)
فاستحسنْتَه، لم تَشُكَّ بحالِ أنَّ ذلك لم
يَكُنْ لأمرٍ يرجعُ إِلى اللفظِ، ولكنْ لأنَّكَ رأيت الفائدة
ضعفت في الول، وقويَتْ في الثاني. وذلك أنكَ رأيتَ أبا تمام لم
يَزِدْكَ بمذهب ومذهب، على أنْ أسْمَعَكَ حُروفاً مكرَّرة لا
تجدُ لها فائدة إِن وُجدتْ، إِلاّ متكلَّفة متمحَّلة، ورأيتَ
الآخَر قد أعادَ عليك اللفظةَ كأنَّه يَخدَعُكَ عَنِ الفائدة
وقد أعطاها، ويُوهِمُكَ أنه لم يَزِدْك وقد أحْسَن الزيادةَ
ووفَّاها. ولهذهِ النكتةِ كانَ التجنيسُ، وخصوصاً المستوفَى
منه، مثلَ "نجا" و "نجا"، من حِلى الشعر. والقولُ فيما يَحْسنُ
وفيما لا يَحْسُنُ من التجنيسِ والسجعِ يَطولُ، ولم يكنْ
غَرضُنا من ذكْرِهما شَرْحَ أمرهما1، ولكنْ توكيدَ ما انتهى
بنا القولُ إِليه مِن استحالةِ أن يكونَ الإعجازُ في مجرَّد
السهولةِ وسلامةِ الألفاظِ مما يَثقُلُ على السان.
611 - وجملة المر، أنَّا ما رأينا في الدنيا عاقلاً اطَّرَحَ
النظْمَ والمحاسِنَ التي هو السببُ فيها من "الاستعارة" و
"الكناية" و "التمثيل"، وضروب "المجاز" و "الإيجاز"، وصدَّ
بوجهه عنْ جَميعِها، وجعلَ الفَضْلَ كلَّه والمزيةَ أجمَعها في
سلامَةِ الحروفِ مما يَثْقُلُ. كيفَ؟ وهو يؤدِّي إِلى
السُّخْفِ والخُروجِ من العقْلِ كما بيَّنَّا.
612 - واعلمْ أنه قد آنَ لنا نعودَ إِلى ما هو الأمْرُ
الأعظَمُ والغَرضُ الأهَمُ، والذي كأنه هو الطَّلِبة، وكلُّ ما
عَداهُ ذرائعُ إِليه. وهو المَرامُ، وما سواهُ أسبابٌ للتسلُّق
عليه، وهو بيانُ العِلل التي لها وَجَبَ أن يكونَ لِنظْمٍ
مزيةٌ على نظم، وأن يعظم أمر التفاضل فيه وتيناهى إِلى
الغاياتِ البعيدةِ2. ونحنُ نسألُ الله تعالى العون على ذلك،
والتوفيق له والهداية له.
__________
1 في "ج" "ولكن غرضنا"، وهو لا يستقيم.
2 في المطبوعة: "وإن يعم امر التفاضل"، وهو خطأ.
(1/524)
بسم الله الرحمن الرحيم
الخبر وما يتحقق به الإسناد:
"النظم"، هو توخي معاني النحو، وهو معدن البلاغة:
613 - ما أظن بك أيها القارئ لكتابِنا، إِن كنتَ وفَّيته حقَّه
من النظرِ، وتدبَّرتَه حقَّ التدبرِ، إِلاّ أنكَ قد علمتَ
علماً أَبى أن يكون للشكِّ فيه نصيبٌ، وللوقف نحوكَ مذهبٌ، أنْ
ليس "النظمُ" شيئاً إلاَّ توخِّي معاني النحو وأحكامِه ووجوهِه
وفروقه فيما بَيْنَ معاني الكلم1 وأنك قد تبيَّنت أنه إِذا
رُفعَ معاني النَّحو وأحكامُه مما بينَ الكَلم حتى لا تُرادَ
فيها في جملةٍ ولا تفصيلٍ، خرجت الكلم المنطوقُ ببعضِها في
أثرِ بعضٍ في البيتِ من الشعرِ والفصلِ من النَثْر2، عن أنْ
يكونَ لكونِها في مواضِعِها التي وُضِعَتْ فيها مُوجبٌ
ومُقتضٍ3، وعنْ أن يُتصوَّر أن يقالَ في كلمة منها إِنها
مرتبطةٌ بصاحبةٍ لها، ومتعلِّقةٍ بها، وكائنةٌ بسببٍ منها4
وإنْ حَسُنَ تصوُّرك لذلك، قد ثبت فيك قَدَمَكَ، وملأ مِنَ
الثقةِ نفسَك، وباعَدَك من أن تَحنَّ إِلى الذي كنتَ عليه، وأن
يَجُرَّك الإلفُ والاعتيادُ إِليه وأنك جعلتَ ما قلناه نَقْشاً
في صدركَ، وأثبتَّه في سويداءِ قلبكَ، وصادقتَ بينَه وبينَ
نفسِك. فإِنْ كانَ الأمرُ كما ظنناه. رجونا أن يصادفَ الذي
نريدُ أن نستأنفَه بعونِ الله تعالى منكَ نية حسنة تقيكَ
المللَ5، ورغبة صادقة تدفعُ
__________
1 معطوف على قوله: "إلا أنك علمت علمًا".
2 السياق: "خرجت الكلم. عن أن يكون".
3 السياق: يعني: وخرجت عن أيتصور.
4 السياق: "إلا أنك قد علمت علمًا وأنك قد بيينت وأن حسن
تصورك، قد ثبت".
5 السياق: "أن يصادف نية حسنة".
(1/525)
عنكَ السأمَ، وأَرْيحيةً يخفُّ معها عليك
تعبُ الفِكْر وكدُّ النظر، واللهُ تعالى وليُّ توفيقك وتوفيقنا
بمنّهِ وفضلهِ. ونبدأ فنقول:
614 - فإِذا ثبتَ الآن أنْ لا شَكَّ ولا مِرْيَةَ في أنْ ليسَ
"النظمُ" شيئاً غيرَ توخِّي معاني النحو وأحكامه فيما بين
معاني الكلم، ثبتَ من ذلك أنَّ طالبَ دليلِ الإِعجازِ مِنْ
نَظْمِ القرآنِ، إِذا هو لم يطلبْهُ في معاني النحو وأحكامه
ووجوه وفروقِه، ولم يَعْلمْ أنها مَعْدنِه ومَعانُه1، وموضعه
ومكانُه، وأنه لا مُستنبَط له سِواها، وأنْ لا وجْهَ لطلبهِ
فيما عداها2، غارٌّ نفْسَه بالكاذِب من الطَمَع، ومُسْلمٌ لها
إِلى الخُدَع، وأنهُ إِنْ أبى أن يكونَ فيها، كان قد أبى أنْ
يكون القرآنُ معجزاً بنظمه، ولزمه أن يُثبت شيئاً آخر يكون
معجزًابه، وأنْ يلحقَ بأصحابِ "الصَّرفة" فيدفعَ الإِعجازَ من
أصلِه3، وهذا تقريرٌ لا يدفعه إِلا مُعانِدٌ يَعُدّ الرجوعَ عن
باطلٍ قد اعتقدَه عجزاً، والثَّباتَ عليه مِنْ بَعْدِ لزوم
الحجَّةِ جلداً4، ومن وضعه نفسَه في هذه المنزلةِ، كان قد
باعَدَها من الإِنسانية. ونسألُ الله تَعالى العصمةَ
والتوفيقَ.
"الخبر"، أصل في معاني الكلام، في النفي والإثبات:
615 - وهذه أصولٌ يحتاجُ إِلى معرفَتِها قبل الذي عمدنا له.
اعلمْ أن معاني الكلام كلَّها معانٍ لا تتصور إلا فيما بين
شيئين، والأصل
__________
1 "المعان" المباءة والمنزل، ويعد بعضهم ميمه أصلية، وبعضهم
أنه على وزن "مفعل".
2 السياق: "أن طالب دليل الإعجاز إذا هو لم يطلبه ولم يعلم
أنها معدنه غار نفسه"، فهو خير "أن".
3 "أصحاب الصرفة"، هم المعتزلة.
4 "جلدًا"، ساقطة من "ج"، و "الجلد"، القوة والشدة.
(1/526)
والأولُ هو "الخبر". وإِذا أحكمتَ العلم
بهذا المعنى فيه، عرفتَه في الجميع. ومن الثابتِ في العقولِ
والقائمِ في النفوسِ، أنه لا يكونُ خبرٌ حتى يكونَ مخبَرٌ به
وَمُخبرٌ عنه، لأنه، ينقسم إلى "إثبات" و "نفي". و "الإثبات"،
يقتضي مثبتًا ومثبتًاله، و "النفي" يقتضي مَنفياً ومنفياً عنه.
فلو حاولتَ أنْ تتصور إثبات معنى أو نَفْيُهُ مِنْ دون أن
يكونَ هناكَ مُثبتٌ له ومنفيٌّ عنه، حاولتَ ما لا يَصِحُّ في
عَقْلِ، ولا يقعُ في وهم. ومن أجل ذلك امتنع أنت يكون لك قصد
إلى فعل من غير أن تريد إسناده إلى شيء مظهر او مقدر1، وكان
لفظُكَ به، إِذا أنتَ لم تُرِدْ ذلك، وصوتًا توصته سواء2.
616 - وإِن أُردتَ أن تستحكم معرفةُ ذلكَ في نفسك، فانظرإليك
إذا قبل لك: "ما فعلَ زيدٌ؟ " فقلتَ: "خرجَ"، هَلْ يتصوَّرُ أن
يقعَ في خَلَدِك من "خرج" معنى من دون أن ينوي فيه ضميرَ
"زيد"؟ وهل تكونُ، إِن أنتَ زعمتَ أنك لم تنوِ ذلك، إِلا
مُخْرِجاً نفسك إلى الهَذَيان؟
وكذلكِ فانظر إِذا قيلَ لك: "كيفَ زيدٌ؟ "، فقلتَ: "صالحٌ"، هل
يكونُ لقولِكَ "صالح" أثرٌ في نفسِك، من دون أن تريدَ "هو
صالح"؟ أم هل يَعْقِلُ السامعُ منه شيئاً إِن هو لم يعتقد ذلك؟
فإِنه مما لا يبقَى معه لعاقل شَكٌّ أن "الخبرَ" معنى لا
يتصوَّر إِلا بين شيئينِ، يكونُ أَحدُهما مثْبَتاً، والآخَرُ
مثبَتاً له، أو يكونُ أحدُهما منْفِيّاً، والآخَرُ منفيّاً عنه
وأنه لا يُتصوَّر مثُبَتٌ من غَيْر مثبَتٍ له، ومنفي من دون
منفي عنه.
__________
1 في المطبوعة: "أو مقدر مضمر".
2 في هامش "ج" بخطه ما نصه: "أي مع صوت". ثم انظر الفقرة
التالية رقم: 636 مكررة.
(1/527)
ولما كان الأمرُ كذلكَ، أَوجَبَ ذلك أنْ لا
يُعْقَلَ إلاَّ من مجموع جملةِ فعْلٍ واسمٍ كقولِنا: "خرجَ
زيدٌ"، أو اسمٍ واسْمٍ، كقولنا: "زيد منطلق"، فليس في الدنيا
خير يعرف من غير هذا السبيل، ويبغير هذا الدليلِ. وهو شيء
يعرفُه العقلاء في كل جبل وأمة، وحكمٌ يجري عليه الأمرُ في
كلِّ لسان ولغة.
لابد للخبر من مخبر به، يوصف هو بالصدق والكذب:
617 - وإِذْ قَدْ عَرَفْتَ أنه لا يُتصوَّر الخبرُ إِلاّ فيما
بينَ شيئين: مخبرٍ به ومخبرٍ عنه، فينبغي أن تعلم أنهُ يحتاجُ
مِنْ بَعد هذين إِلى ثالثٍ. وذلك أنه كما لا يتصوَّر أن يكونَ
ههنا خبرٌ حتى يكونَ مخبَرٌ به وَمُخبرٌ عنه، كذلك لا يُتصوّر
أن يكونَ خبرٌ حتى يكونَ له "مُخبِرٌ" يصدرُ عنه ويحصلُ من
جهته، ويكونَ له نِسبةٌ إِليه، وتعودُ التَّبعةُ فيه عليه،
فيكونَ هو الموصوفَ بالصدق إِن كان صدقاً، وبالكَذِب إِن كان
كَذباً. أفلا تَرى أن من المعلوم أنه لا يكون إِثباتٌ ونفيٌ
حتى يكونَ مثبتٌ ونافٍ يكون مصدرُهما من جهته، ويكون هو
المُزْجِيَ لهما، والمبرم والنقاض فيهما، ويكونَ بهما مُوافقاً
ومُخالفاً، ومصيباً ومخطئاً، ومحسناً ومسيئاً1.
618 - وجملةُ الأمرِ، إنَّ "الخبرَ" وجميعَ الكلامِ، معانٍ
ينشِئُها الإِنسانُ في نفسهِ، ويُصرِّفها في فكره، ويناجي بها
قلبه، ويارجع فيها عقلَه، وتوصَفُ بأنَّها مقاصدُ وأغراضٌ،
وأعظمُها شأناً "الخَبرُ"، فهو الذي يُتصوَّر بالصُوَرِ
الكثيرة، وتقعُ فيه الصناعاتُ العجيبةُ، وفيه يكونُ، في الأمرِ
الأعمِّ، المزايا التي بها يقعُ التفاضلُ في الفصاحَةِ، كما
شرحنا فيما تقدَّم، ونشرحُه فيما تقول من بعد إن شاء الله
تعالى2.
__________
1 انظر الفقرة التالية رقم: 638.
2 انظر الفقرة التالية رقم: 639، والفقرة: 641.
(1/528)
619 - واعلمْ أنك إِذا فتشتَ أصحابَ
"اللفظِ" عما في نفوسهم، وجدتهم قد تهوهموا في "الخبر" أنه
صِفَةٌ للفظ، وأن المعنى في كونِه إِثباتاً، أنه لفظ يدلُّ على
وجود المعنى من الشيء أو فيه وفي كونه نفياً، أنه لفظ يدل على
عدمه وانتفائه عن الشيء. وهو شيءٌ قد لَزمَهم، وسَرَى في
عروقِهم، وامتزجَ بطباعِهم، حتى صارَ الظَنُّ بأكثرهم أن
القولَ لا ينجعُ فيهم.
بطلان دعوى أصحاب "اللفظ" في توهمهم أن "الخبر" صفة "للفظ":
620 - والدليلُ على بطلانِ ما اعتقدوه، أنه محالٌ أن يكون
"اللفظُ" قد نُصِبَ دليلاً على شيءٍ، ثم لا يحْصُل منه
العِلْمُ بذلك الشيء، إِذ لا معنى لكونِ الشيء دليلاً إِلا
إِفادته، إِياكَ العلمَ بما هو دليلٌ عليه. وإِذا كان هذا
كذلك، عُلِم منه أنْ ليسَ الأمرُ على ما قالوه، من أن المعنى
في وصفنا "اللفظَ" بأنَّه خبرٌ، أنه قد وُضِعَ لأن يدلَّ على
وجودِ المعنى أو عدمه، لنه لو كانَ كذلكَ، لكانَ ينبغي أن لا
يقع في سامِعٍ شكٌّ في خبرٍ يَسْمَعُه، وأن لا تسمعَ الرجلَ
يثبتُ وينفي إِلا علمتَ وجودَ ما أثبتَ وانتفاء ما نفى، وذلكَ
مما لا يشك في بطلانه. فإذا لم يكنْ ذلك مما يُشَكُّ في
بطلانِهِ، وَجَبَ أن يُعْلَمَ أنَّ مدلولَ "اللفظ" ليس هو
وجودَ المعنى أو عدمَه، ولكنِ الحكمُ بوجود المعنى أو عَدمِه،
وأن ذلك، أي الحكمُ بوجود المعنى أو عدمِه، حقيقةُ الخبر،
إِلاّ أنه إِذا كان بوجودِ المعنى منَ الشيء أو فيه يسمى
"إِثباتاً"، وإِذا كان بِعَدَم المعنى وانتفائهِ عن الشيء
يسمَّى "نفياً".
ومن الدليل على فسادِ ما زعموه، أنه لوكان معنى "الإثبات"،
الدلالةَ على وجود المعنى وإِعلامَه السامع أيضًا، وكان معنى
طالنفي" الدلالة على عدمه وإِعلامَه السامعَ أيضاً، لكان ينبغي
إِذا قال واحدٌ: "زيد عالم"، وقال أخر: "زيدٌ ليس بعالمٍ"، أن
يكونَ قد دلَّ هذا على وجودِ العلم وهذا على عدمه، وإِذا قال
الموحِّدُ: العالَمُ مُحْدَثٌ، وقال المُلْحِدُ: "هو قديمٌ"،
أن يكونَ قد دَلَّ الموحِّدُ على حدوثِه، والملحِدُ على
قِدَمِه، وذلك ما لا يقوله عاقل.
(1/529)
621 - تقريرٌ لذلك بعبارة أخرى:
لا يتصوَّر أن تَفْتَقِرَ المعاني المدلولُ عليها بالجمل
المؤلَّفة إلى دليلٍ يدُلُّ عليها زائدٍ على اللفظ. كيف؟ وقد
أجمعَ العقلاءُ على أن العِلْمَ بمقاصِد الناس في محاوراتِهم
علمُ ضرورةٍ، ومن ذَهَب مذهباً يقتضي أن لا يكونَ "الخبرُ"
معنى في نفسِ المتكلِّمِ، ولكن يكونُ وصفاً للفظ من أجلِ
دلالتِه على وجودِ المعنى من الشيءِ أو فيه، أو انتفاءِ وجودِه
عنه، كان قد نقضَ منه الأصْلَ الذي قَدَّمناه، من حيثُ يكونُ
قد جعلَ المعنى، المدلول عليه باللفظ، لا يعرفُ إِلا بدليلٍ
سوى اللفظِ. ذاك لأنَّا لا نعرفُ وجودَ المعنى المُثْبَتِ
وانتفاءَ المنفيِّ باللفظ، ولكنا نَعْلَمُه بدليلٍ يقومُ لنا
زائدٍ على اللفظِ. وما منْ عاقلٍ إِلاّ وهو يعلمُ ببديهةِ
النظر أن المعلومَ بغيرِ اللفظ، لا يكونُ مدلولَ اللفظ.
622 - طريقة أخرى: الدلالةُ على الشيء هي لا محالة إِعلامُك
السامعَ إِياه، وليس بدليلٍ ما أنتَ لا تعلمُ به مدلولاً عليه.
وإِذا كان كذلك، وكان مما يُعْلم ببدائه المعقولِ أن الناسَ
إِنما يكلِّم بعضُهم بعضاً ليعرفَ السامع غرض المتكلم ومقصوده،
فينبغي أن يَنْظُرَ إِلى مقصودِ المُخْبر من خببره، ما هو؟ أهو
أن يعلم السامع المخبر به والمخبر عنه، أم أن يعلمَه إثبات
المعنى المخبرَ به للمخبَرِ عنه؟
فإِنْ قيلَ: إِن المقصودَ إِعلامُه السامعَ وجودَ المعنى من
المخبر عنه، فإِذا قال: "ضربَ زيدٌ" كان مقصودُه أن يُعلمَ
السامعَ وجودَ الضرب من زيدٍ، وليس الإثبات لا إِعلامَه
السامعَ وجودَ المعنى.
قيل له: فالكافرُ إِذا أثبتَ مع الله، تعالى عما يقول
الظالمون، إلهاً آخر،
(1/530)
يكونُ قاصداً أن يَعْلَم، نعوذ بالله
تعالى، أن مع الله تعالى إلهاً آخر؟ تعالى الله عن ذلك علواً
كبيراً1، وكفى بهذا فضيحة.
623 - وجملةُ الأمرِ، أنه ينبغي أنْ يقالَ لهم: أتشكُّونَ في
أنه لا بُدَّ منْ أَن يكونَ لخبر المخبر معنى يعلمُه السامعُ
علماً لا يكونُ معه شكٌّ، ويكون ذلكَ معنى اللفظِ وحقيقته؟
فإِذا قالوا: لا نشكُّ.
قيل لهم: فما ذلك المعنى؟
فإِن قالوا: هو وجودُ المعنى المخبرَ به مَن المخبر عنه أو
فيه، إِذا كان الخبرُ إِثباتاً، وانتفاؤه عنه إِذا كان نفياً
لم يمكنهم أن يقولوا ذلك إِلاّ من بعد أن يكابروا فيدعوا أنهم
إذا مسعوا الرجلَ يقولُ: "خرجَ زيدٌ"، علموا علماً لا شَكَّ
معه، وجودَ الخروج من زيد. وكيف يدَّعون ذلكَ، وهو يقتضي أن
يكونَ الخبرُ على وفق المخبر عنه أبدًا، وأنه لا يجوزَ فيه أن
يقع على خلافِ المخبر عنه، وأن يكونَ العقلاءُ قد غَلِطوا حين
جعلوا من خاص وصفه أن يحتملُ الصدقَ والكذبَ، وأن يكونَ الذي
قالوه في أخبارِ الآحادِ وأخبارِ التَّواترِ2 من أنَّ العلم
يقع بالتواتر دون دونَ الآحادِ سَهواً منهم، ويقتضي الغنى عن
المعجزة، لأنه إنما احتيج إليها لي حصل العلم يكون الخبر على
وِفْق المخبَرِ عنه، فإِذا كان لا يكون إِلاّ على وفقِ المخبر
عنه، لم تقع الحاجة إلى دليل بدل على كونه كذلك، فاعرفه.
__________
1 قوله: "آخر، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً"، ليس في "ج".
2 هذا إشارة إلى مقالة المعتزلة في شأن أخبار الآحاد.
(1/531)
624 - واعلمْ أنه إِنما لزمهُمْ ما قُلناه،
من أن يكونَ الخبرُ على وفقِِ المخبَرِ عنه أبداً، من حيثُ
إِنه إِذا كان معنى الخبر عندهم، إِذا كان إِثباتاً، أنه لفظٌ
موضوعٌ ليدلَّ على وجود المعنى المخَبر به من المخبر عنه أو
فيه، وجبَ أن يكون كذلك أبداً، وأن لا يصحَّ أن يقالَ: "ضرب
زيد"، إِلاّ إِذا كانَ الضربُ قد وُجِد من زيد. وكذلك يجبُ في
النفي أن لا يصحَّ أن يقالَ: "ما ضربَ زيد"، إِلاّ إِذا كان
الضربُ لم يوجد منه، لأن تجويزَ أنْ يقالَ: "ضربَ زيدٌ"، من
غير أن يكون قد كان منه ضرب، وأنه يُقال: "ما ضربَ زيدٌ، وقد
كانَ منه ضربٌ، يوجبُ على أصلهم إِخلاءَ اللفظ من معناه الذي
وُضِعَ ليدلَّ عليه. وذلك ما لا يشك في فساده.
ولا يلزمنا ذلك على أصلِنا، لأن معنى "اللفظ" عندنا هو الحكمُ
بوجودِ المخبر به من المخبر عنه أو فيه، إِذا كان الخبر
إِثباتاً، والحكم بعدمِه إِذا كان نفياً، واللفظ عندنا لا ينفك
من ذلك لاو يخلو منه. وذلك لأن قولنا: "ضرب" و "ما ضربَ"،
يدلُّ من قولِ الكاذب على نفس ما يدل عليه من قولِ الصادق،
لأنَّا إِن لم نقل ذلك، لم يخلُ من أن يزعمَ أن الكاذبَ يُخلي
اللفظ من المعنى، أو يزعم أنه يجعل للفظ معنًى غيرَ ما وضع له،
وكلاهما باطلٌ.
625 - ومعلومٌ أنه لا يزالُ يدورُ في كلامِ العقلاء في وصفِ
الكاذبِ: "أنّه يثبتُ ما ليس بثابتٍ، وينفي ما ليس بمنتفٍ"،
والقولُ بما قالوه يؤدي إِلى أن يكونَ العُقَلاءُ قد قالوا
المحالَ، من حيثُ يجب على أصلِهم أن يكونوا قد قالوا: إِن
الكاذبَ يدل على وجودِ ما ليس بموجودٍ، وعلى عدمِ ما ليس
بمعدومٍ. وكفى بهذا تهافُتاً وخَطَلاً، ودخولاً في اللغو من
القول.
(1/532)
وإِذا اعتبرنا أصلنا كان تفسيرهُ: أن
الكاذبَ يحكمُ بالوجود فيما ليس بموجودٍ، وبالعدم فيما ليس
بمعدوم، وهو أسدُّ كلام وأحسنه.
626 - والدليلُ على أن اللفظَ من قولِ الكاذب يدلُّ على نفس ما
يدل عليه من قولِ الصادق، إنهم جعلوا خاصَّ وصفِ الخبر أنه
يحتَمِل الصدقَ والكَذِبَ، فلولا أنَّ حقيقتَهُ فيهما حقيقةٌ
واحدةُ، لما كانَ لحدِّهم هذا معنى، ولا يجوزُ أن يقالَ: إِن
الكاذبَ يأتي بالعبارةِ على خلافِ المعبَّر عنه لأن ذلك إِنما
يقال فيمن أرادَ شيئاً، ثم أتى بلفظ لا يصح للذي أراد، ولا
يمكننا أن نزعمَ في الكاذب أنه أرادَ أمراً، ثم أتى بعبارةٍ لا
تصلح لما أراد.
توهمهم أن "المفعول"، زيادة في الفائدة والاحتجاج لبطلانه:
627 - ومما ينبغي أن يحصل في هذا الباب، أنهم قد أصَّلوا في
"المفعولِ" وكلِّ ما زاد على جزئي الجملة، أنه يكون زيادة في
الفائدة. وقد يتخيل إلى من ينظر إلى ظاهرِ هذا من كلامهم، أنهم
أرادوا بذلك أنك تضمُّ بما تزيده على جزئي الجملة فائدة أخرى،
وينبني عليه أن ينقطعَ على الجملة، حتى يتصوَّر أن يكون فائدة
على حدة، وهو ما لا يعقل، إذا لا يتصوَّر في "زيدٍ" من قولك:
"ضربتُ زيدًا"، أن يكون شيئًا برأسه، حتى تكون بتعديتك "ضربت"
إليه قد ضممتَ فائدة إلى أخرى. وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن
يعلمَ أن الحقيقة في هذا: أن الكلامَ يخرج بذكرِ "المفعول" إلى
معنى غيرِ الذي كان، وأن وِزانَ الفعل قد عُدِّي إلى مفعولٍ
معهُ، وقد أطلق فلم يقصدْ به إلى مفعولٍ دونَ مفعول، وزانُ
الاسم المخصَّص بالصفةِ مع الاسم المتروك على شَياعه، كقولك:
"جاءَني رجلٌ ظريفٌ"، مع قولك: "جاءني رجلٌ"، في أنك لستَ في
ذلك كمن يضمُّ معنى إلى معنى وفائدة إلى فائدة، ولكن كمن يريد
ههنا شيئاً وهناك شيئاً آخر. فإِذا قلتَ: "ضربتُ زيداً"، كان
المعنى غيره إذا قلت: "ضربت" ولم تزد "زيداً".
(1/533)
وهكذا يكون الأمرُ أبداً، كلَما زدتَ
شيئاً، وجدتَ المعنى قد صارَ غير الذي كان. ومن أجلِ ذلكَ
صَلُح المجازاةُ بالفعل الواحد، إذا أتى به مطلقًا في الشطر،
ومعدى إلى شيء في الجزاء، كقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ
أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7]، وقولِه عزَّ وجل:
{وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِين} [الشعراء: 130]،
مع العلم بأن الشرطَ ينبغي أن يكونَ غيرَ الجزاء، من حيثُ كان
الشرطُ سبباً والجزاءُ مسبِّباً، وأنه محال أن يكونَ الشيء
سبباً لنفسِه. فلولا أن المعنى في "أحسنتُم" الثانية، غيرُ
المعنى في الأولى، وأَنها في حكيم فعلٍ ثانٍ، لما سَاغ ذلك،
كما لا يسوغ أن تقول: "إنْ قمتُ قمتَ، وإن خرجتُ خرجتَ"،
ومثلُه من الكلام قولُه: "المرءُ بأصغريه، أن قال قال بيان،
وإن صالَ صالَ بجَنانٍ"1، ويجري ذلك في الفعلين قد عُدِّيا
جميعاً، إلا أن الثاني منهما قد تعدى إلى شيء زاد على ما
تعدَّى إليه الأول، ومثالهُ قولُك: "إن أتاك زيدٌ أتاك لحاجة"،
وهو أصلٌ كبير. والأدلةُ على ذلك كثيرة، ومن أولاها بأن يحفظ:
أنك ترى البيتَ قد استحسنه الناسُ وقَضَوا لقائله بالفضلِ فيه،
وبأنَه الذي غاصَ على معناه بفكره، وأنه أبو عُذْره، ثم لا ترى
ذلك الحسنَ وتلك الغرابة كانا، إلا لِما بناهُ على الجملةِ
دونَ نفسِ الجملةِ. ومثالُ ذلك قول الفرزدق:
وما حملت أم أمرئ في ضُلوعها ... أعقَّ منَ الجاني عَليها
هِجائيا2
فلولا أن معنى الجملة يصيرُ بالبناءِ عليها شيئاً غيرَ الذي
كان، ويتغيَّر في ذاتِه، لكان محالاً أن يكونَ البيتُ بحيثُ
تراه من الحسن والمزية، وأن يكون معناه
__________
1 من كلام ضمرة بن ضمرة، لما دخل على النعمان بن المنذر،
البيان والتبيين 1: 171.
2 في ديوانه، ثم انظر الفقرة التالية رقم: 640، ولهذا البيت،
ولما قبله من هذه الفقرة، ورقم: 632، أيضًا.
(1/534)
خاصاً بالفرزدقِ، وأن يقضيَ له بالسبق
إليه، إذ ليس في الجملة التي بُني عليها ما يوجب شيئاً من ذلك،
فاعرفه.
628 - والنكتة التي يجب أن تُراعَى في هذا، أنه لا تتبينُ لك
صورةُ المعنى الذي هو معنى الفرزدق، إلا عند آخر حروف من
البيت، حتى إن قطعتَ عنه قولَه "هجائيا" بل "الياء" التي هيَ
ضمير الفرزدق، لم يكن الذي تعقلُه منه ممَّا أراده الفرزدق
بسبيل، لأن غرضه تهويلُ أمر هجائه، والتحذيرُ منه، وأن من
عرَّض أمَه له، كان قد عرَّضَها لأعظم ما يكونُ من الشرِّ.
629 - وكذلك حكمُ نظائِرهِ من الشِّعْرِ، فإِذا نظرت إلى قول
القطامي:
فهنَّ يَنْبُذنَ من قولٍ يُصبْنَ بهِ ... مَواقعَ الماء من ذي
الغلة الصادي1
وجدتك لاتحصل على معنى يصحُّ أن يقالَ إنه غرضُ الشاعرِ
ومعناه، إلا عند قولهِ "ذي الغلة".
630 - ويزيدك استبصاراً فيما قلناه، أن تنظرَ فيما كانَ من
الشِّعْرِ جُملاً قد عُطِفَ بعضُها على بعض بالواو، كقوله:
النشر مسك، والوجوه دنا ... نير وأطراف الاكف عنم2
وذلك أنه ترى الذي تعقِلُه من قولِه: "النَشرُ مسكٌ"، لا يصيرُ
بانضمام قوله: "والوجوهُ دنانيرُ"، إليه شيئاً غير الذي كان،
بل تراه باقياً على حاله.
كذلك ترى ما تعقلِ من قوله: "والوجوه دنانير"، لا يلحقه تغيير
بانضمام قوله: و "أطراف الأكف غنم"، إليه.
__________
1 هو في ديوانه.
2 هو للمرقش من قصيدته الجليلة، في المفضليات.
(1/535)
631 - وإِذ قد عرفتَ ما قررناه من أنَّ من
شأنِ الجملة أن يصير معناها بالبناء عليها شيئاً غيرَ الذي
كان، وأنه يتغيِّر في ذاته، فاعلم أن ما كان من الشعر مثل بيت
بشار:
كأن مثار النقع فوق روسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه1
وقول امرئ القيس:
كأنَّ قُلوبَ الطيرِ رَطْباً ويابساً ... لَدى وَكْرِها العناب
والحشف البالي2
وقول زياد:
وإِنّا وما تُلقِي لَنا إنْ هجَوْتَنا ... لَكالبحر مَهْما
يُلْقَ في البحرِ يَغْرَقِ3
كان له مزيةٌ على قول الفرزدق فيما ذكرنا، لأنك تجدُ في صدرِ
بيتِ الفرزدق جملة تؤدي معنى، وإِن لم يكن معنى يصحُّ أن يقال
إنه معنى فلان، ولا تجدُ في صدر هذه الأبيات ما يصح أن بعد
جملة تؤدي معنى، فضلاً عن أن تؤدي معنى يقال إنه معنى فلان.
ذاك لأن قولَه: "كأَنَّ مُثارَ النقع" إلى: "وأسيافنا"، جزءٌ
واحدٌ و "ليل تهاوى كواكبه" بجملته الجزء الذي ما لم تأتِ به
لم تكن قد أتيت بكلام.
وهكذا سبيل البيتين الآخرين. فقولهُ: "كأنَّ قُلوبَ الطيرِ
رَطْباً ويابساً لدى وَكْرِها" جزءٌ وقولهُ: "العنابُ والحَشفُ
البالي" الجزء الثاني وقوله: "وإنَّا وما تُلْقي لنا إِنْ
هَجَوتَنا" جزء، وقوله: "لكالبحرِ، الجزء الثاني، وقولُه:
"مهما تلقِ في البحر يغرقِ"، وإن كان جملة مستأنفة ليس لها في
الظاهر تعلق بقوله: "لكالبحر"، فإِنها لما كانت مبيِّنة لحال
هذه التشبيه، صارتْ كأنَّها متعلَّقة بهذا التشبيه، وجرى مجرى
أن تقول: "كالبحر في أنَّه لا يُلقى فيه شيء إلا غرق".
__________
1 سلف في رقم: 84، 485.
2 سلف في رقم: 84.
3 سلف في رقم: 84.
(1/536)
الخبر وما يتحقق به
الإسناد: فصل منه
فصل:
"الإثبات" معنى تكون به المزية في الكلام:
632 - وإِذا ثبَتَ أنَّ الجملةَ إذا بُنيَ عليها حصَلَ منها
ومِن الذي بُنِيَ عليها في الكثير، معنىً يَجب فيه أن يُنْسَب
إلى واحدٍ مخصوصٍ، فإنَّ ذلك يقتضي لا محالَة أن يكونَ
"الخبرُ" في نفسه معنىً هو غيرُ المخبَر به والمخبَر عنه. ذاك
لِعِلْمنا باستحالة أنْ يكونَ لِلمعنى المخبَر به نسبةٌ إلى
المخبِر، وأن يكون المستنبَط والمستخرَجَ والمستعانَ على
تصويره بالفِكْر.
فليس يَشُكُّ عاقلٌ أنه مُحالٌ أن يكونُ لِلْحَمْل في قوله:
"وما حمَلتْ أم امرئ في ضلوعها"، نسبةٌ إلى الفرزدق، وأن يكونَ
الفكْرُ منه كانَ فيه نفْسَه، وأن يكونَ معناهُ الذي قيل إنَّه
استَنْبَطه واستخرجه وغاصَ عليه. وهكذا السبيلُ أبداً، لا
يُتصوَّر أنْ يكونَ لِلمعنى المخبَر به نسبةٌ إلى الشعر، وأن
يَبلُغَ من أمره أن يَصير خاصاً به، فاعرفْه.
633 - ومن الدليل القاطع فيه، ما بيَّنَّاهُ في "الكناية"، و
"الاستعارة" و "التمثيل" وشرحناه، من أَنْ من شأن هذه الأجناسِ
أن توجِبَ الحسْنَ والمزيَّةَ، وأنَّ المعاني تُتصوَّرُ مِنْ
أجْلها بالصوَرِ المختلفة، وأن العلمَ بإيجابها ذلك ثابتٌ في
العقولِ، ومركوزٌ في غَرائز النفوسِ1. وبيَّنَّا كذلك أنه
محالٌ أنْ تكونَ المزايا التي تَحدُثُ بها، حادثة في المعنى
المْخبَرِ به، المثْبَت أو المَنْفيِّ، لِعلْمنا باستحالة أَنْ
تكونَ المزيةُ التي تجدها لقولنا: "هو طويلُ النجاد" على قولنا
"طويل القامة" في الطول، والتي تَجدها لقولنا: "هو كثيرُ رمادِ
القدر" على قولنا: "هو كثير القرى
__________
1 انظر رقم: 50، 524، وآخر: 531.
(1/537)
والضيافة في كَثْرةِ القِرى1. وإذا كان ذلك
مُحالاً، ثبَتَ أنَّ المزيةَ والحسْنَ يكونان في إثبات ما
يُراد أن يُوصفَ به المذكورُ، والإِخبارُ به عنه. وإذا ثبَت
ذلك، ثبَتَ أنَّ "الإِثبات" معنىً، لأنَّ حصولَ المزيةِ
والحُسْن فيما ليس بمعنى، محال2.
__________
1 انظر ما سلف من رقك/ 505، 506.
2 الفصل التالي في المخطوطة وص: 343 من "ج" تتضمن آخر هذا
الفصل، عند قوله: "محال"، ثم يبدأ بعدها ما سيأتي برقم: 642،
موصولًا به. واقرأ التعليق التالي.
(1/538)
هذا مما نقل مسودته بخطه بعد وفاته رحمه
الله
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي وعيه اعتمادي1
"ألفاظ اللغة" لم توضع إلا لضم بعضها إلى بعض، ويضمها تكون
الفائدة. وهذا موضع "الخبر" و"الإسناد":
634 - آعلم أن ههنا أصْلاً أنتَ ترى الناسَ فيه في صورةِ مَنْ
يَعرِفُ مِن جانبٍ ويُنْكِر مِن آخَر، وهو أن الألفاظ المفردة
التي هو أوضاع اللغة، لم توضح لِتُعْرفَ معانيها في أنفسها،
ولكن لأن يُضَمَّ بعضها إلى بعض، فيعرف فيما بينهما فوائدُ.
وهذا علِمٌ شريفٌ، وأَصْلٌ عظيم.
والدليلُ على ذلك، أن إنْ زعمنا أنَّ الألفاظَ، التي هي أوضاعُ
اللغة، وإنما وُضِعتْ ليُعرَفَ بها معانيها في أَنفُسها،
لأَدَّى ذلك إلى ما لا يَشُكَّ عاقِلٌ في استحالته2، وهو أن
يكونوا قد وضَعُوا لِلأجناسِ الأسماءَ التي وضَعُوها لها
لتَعرِفَها بها، حتى كأنهم لو لم يكونوا قالوا: "رجل" و "فرس"
و "دار"، لما كان يكون
__________
1 هذا الفصل من رقم: 634، إلى رقم: 641 هو في المخطوطة "ج"،
يأتي بعد رقم: 652، ويبدأ في المخطوطة من ص: 352، إلى أوسط ص:
356. وقد أبقيته في موضعه هذا من مطبوعة رشيد رضا، وأثبته كما
هو في موضعه منها، إذ لا ضير في ذلك، لأن هذه كلها فصول ملحقة
بأصل كتاب "دلائل الإعجاز"، وأكثر هذا الفصل مكرر بعض ما مضى،
كما سأشير إليه في تعليقاتي. وهو دليل على أن الشيخ رحمه الله
كان يكتب هذه الفصول في أوراق منفصلة، ليلحقها في مواضعها في
كتابه "دلائل الإعجاز". فلما توفي رحمه الله، وجمعوا أوراقه،
نقلها الناقلون كما هي، دون نظر إلى التكرار الذي فيه. ومع ذلك
في إثباته كما هو فائدة، نعرف منها طريقة شيخنا عبد القاهر في
عمله وتأليفه. ومثل هذا نادر في شأن المؤلفين. وأيضًا فربما
كان هذا دليلًا على أن "دلائل الإعجاز"، كان آخر ما ألفه عبد
القاهر، وأنه لو طال به العمر، لنفي وأثبت، وأنزل كل فصل منها
في منزله من كتابه.
2 في "ج": "أدى ذلك" بغير لام.
(1/539)
لنا علم بهذه الأجناس ولو لم يكونوا وضعوا
أمثلة الأفعال لما كان لنا علم بمعانيها1 حتى لو لم يكونوا
قالوا: "فعل" و "يفعل"، لمَا كنَّا نَعْرِفُ الخبرَ في نفسه
ومن أصلِه ولو لم يكونوا قَدْ قالوا: "إفْعَل"، لمَا كنَّا
نَعرِفُ الأمرَ مِنْ أَصْله، ولا نَجده في نفوسِنا وحتى لو لم
يكونوا قد وَضَعوا الحروفَ، لكنَّا نَجْهلُ معانيهَا، فلا
نعقلُ نَفْياً ولا نَهْياً ولا استفهاماً ولا استثناء. كيف؟
والمواضَعةُ لا تكونُ ولا تُتصوَّرُ إلاَّ على مَعْلوم، فمحالٌ
أن يُوضَع اسْمٌ أو غيرُ اسم لغير معلوم، أن المواضَعةَ
كالإِشارة، فكما أنكَ إذا قلتَ: "خذْ ذاك"، لم تكُنْ هذه
الإشارةُ لتَعرِّفِ السامعَ المشارَ إليه في نفسِه، ولكن
ليعلمَ أنه المقصود من بين سائر الأشياء التي نراها ونبصرها.
كذلك حكْمُ "اللفظِ" مع ما وُضِعَ له. ومَن هذا الذي يَشُكُّ
أَنَّا لم نَعْرِف "الرجل~" و "الفرس" و "الضرب" و "القتل"
إلاَّ مِن أَساميها؟ 2 لو كان لذلكَ مَساغٌ في العقل، لكان
ينبغي إِذا قيل: "زيد" أن تَعْرِفَ المسمَّى بهذا الاسمِ من
غَير أن تكونَ قد شاهدْتَه أو ذُكِرَ لك بصفة.
635 - وإذا قلنا في العلم باللغات من متبدأ الأمر أنه كان
إلهامًا3، فإن الإلهام لا يَرجِعُ إلى معاني اللغات4، ولكنْ
إلى كون ألفاظ اللغات سمات
__________
1 في المطبوعة "لمَا كان يكونُ لنا عِلمٌ بمعانيها، وحتى لو لم
يكونوا قالوا".
2 في "ج" "من أساميها" بحذف "إلا".
3 في المطبوعة: " ... في العلم واللغات"، وهو خطأ.
4 كان في المطبوعة هنا ما يأتي: "فإِنَّ الإِلهامَ في ذلك إنما
يكونُ بين شيئينِ، يكونُ أَحدُهما مثْبَتاً والآخَرُ مثبَتاً
له، أو يكون أحدها منْفِيّاً، والآخَرُ منفيّاً عنه، وأنه لا
يُتصوَّر مثُبَتٌ من غَيْر مُثبَتٍ له، ومنفيٍّ من غير
مَنْفيٍّ عنه. فلما كان الأمرُ كذلك، أَوجَبَ ذلك أنْ لا
يُعْقَلَ إلاَّ من مجموع جملةِ فعْلٍ واسمٍ، كقولِنا: "خرجَ
زيدٌ"، فما عقلناه منه، وهو نسبةٌ الخُروج إلى "زيد" لا يرجع
إلى معاني اللغات"، وهو إقحام مفسد للكلام بلا ريب. فإن أول
الكلام في "الإلهام"، والذي بعده كلام في الخبر" والذي أثبته
هو ما في "ج" على الصواب والاستقامة. وسأشير بعد إلى موقع هذا
الكلام في "ج"، في الفقرة: 637.
(1/540)
لتلك المعاني1، وكونِها مُرادةً بها. أفلاَ
تَرى إلى قولهِ تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا
ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي
بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31]،
أَفتَرى أَنَّه قيلَ لهم: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ
هَؤُلاءِ}، وهم لا يعرفون المشار إليهم بهؤلاء؟
636 - وإذْ قد عرفتَ هذه الجملةَ، فاعلمْ أَنَّ معاني الكلام
كلَّها معانٍ لا تُتصوَّر إِلا فيما بين شيئين، والأصل والأولُ
هو "الخبر"، وإِذا أحكمتَ العلم بهذا المعنى فيه عرفتَه في
الجميع. ومن الثابتِ في العقولِ والقائمِ في النفوسِ، أنه لا
يكونُ خبرٌ حتى يكونَ مخبَرٌ به وَمُخبرٌ عنه، لأنه ينقَسِم
إلى "إثبات" و "نفي"، و "الإثبات" يقتضي مثبتًا ومثبتًا له، و
"النفي" يقتضي مَنفياً ومنفياً عنه. فلو حاولتَ أنْ تتصور
إثبات معنى او نفيه، من غير أن يكونَ هناكَ مُثبتٌ له ومنفيٌّ
عنه، حاولتَ ما لا يَصِحُّ في عَقْلِ، ولا يقع في وهم. من أجل
ذلك امته أن يكون لك قصد إلى فعل من غير أن تريد إسناده إلى
شيء2، وكنت إذا قلت: "ضرب"، لم تستطيع أن تريد منه معنى في
نفسك، من غير أن تريد الخبر به عن شيء مظهر أو مقدر، وكان
لفظُكَ به، إِذا أنتَ لم تُرِدْ ذلك، وصوتًا تصوته، سواء3.
367 - وإن أردت أن يستحكم معرفةُ ذلكَ في نفسِكَ، فانظرْ إِليك
إِذا قيلَ لك: "ما فعلَ زيدٌ"؟ فقلتَ: "خرجَ"، هَلْ يتصوَّرُ
أن يقعَ في خَلَدِك من
__________
1 في المطبوعة: "لذلك المعنى"، وهو كلام فاسد.
2 في المطبوعة: "ومن ذلك امتنع"، وهو لا شيء.
3 الفقرة: 636، هي مكرر الفقرة السالفة: 615.
(1/541)
"خرج" معنى مِنْ دون أن تَنويَ فيه ضميرَ
"زيد"؟ 1 وهل تكونُ إِن أنتَ زعمتَ أنك لم تنوِ ذلك إِلا
مُخْرِجاً نفسَك إلى الهَذَيان؟ 2 وكذلكِ فانظر إِذا قيلَ لك:
"كيفَ زيدٌ"؟، فقلتَ: "صالحٌ": هل يكونُ لقولِكَ: "صالح" أثرٌ
في نفسِك من دون أن تريدَ "هو صالح"3؟ أم هل يعقل السامع شيئًا
إن هو لم يعتقد ذلك؟ 4.
إذا ثبت ذلك5، فإنه مالًا يبقَى معه لعاقل شَكٌّ6، أن الخبرَ
معنى لا يتصوَّر إِلا بين شيئينِ يكونُ أَحدُهما مثْبَتاً،
والآخَرُ مثبَتاً له، أو يكونُ أحدُهما منفييًا، والآخَرُ
منفيّاً عنه وأنه لا يُتصوَّر مثُبَتٌ من غيرِ مثبَتٍ له،
ومنفيٌّ من دونِ مَنْفيٍّ عنه. فلما كان الأمرُ كذلك، أَوجَبَ
ذلك أنْ لا يُعْقَلَ إلاَّ من مجموع جملةِ فعْلٍ واسمٍ7،
كقولِنا: "خرجَ زيدٌ"، أو اسمٍ واسمٍ، كقولنا: "زيدٌ منطلقٌ".
فليس في الدنيا خبرٌ يعرفُ من غيرِ هذا السبيلِ، وبغيرِ هذا
الدليلِ، وهو شيء يعرفُه العقلاء في كل جبل وأمة، وحكمٌ يجري
عليه الأمرُ في كلِّ لسان ولغة8.
__________
1 في المطبوعة: "أن يقع في خلدك معنى من دون"، وأسقط فاختل
الكلام.
2 في المطبوعة: "وهل تكون وأنت زعمت أنك"، وهو كلام فاسد.
3 في المطبوعة: "أثر فيك"، وهو كلام سقيم.
4 في المطبوعة: "وهو لم يعتقد ذلك"، سيء.
5 "إذا ثبت ذلك" سقط من كاتب "ج" سهوًا.
6 في المطبوعة: "فإنه لا ينبغي لعاقل"، كلام سقيم.
7 كان في المطبوعة هنا: "أن الخبر لا يتصور إلا من فعل واسم،
كقولنا "زيد خارج"، فليس في الدنيا خير"، أسقط هنا ما أثبته في
أول الفقرة: 635، فأفسد بالإثبات والإسقاط الكلامين جميعًا.
8 الفقرة: 637، هي مكرر الفقرة السالفة: 616.
(1/542)
638 - وإذا قَدْ عَرَفْتَ أنه لا يُتصوَّر
الخبرُ إِلاّ فيما بينَ شيئين: مخبرٍ به ومخبرٍ عنه، فينبغي أن
تعلم أنهُ يحتاجُ مِنْ بَعد هذين إِلى ثالثٍ، وذلك أنه كما لا
يتصوَّر أن يكونَ ههنا خبرٌ حتى يكونَ مخبَرٌ به وَمُخبرٌ عنه،
كذلك لا يتصور حتى يكونَ له مُخبِرٌ يصدرُ عنه ويحصلُ من جهته،
وتعودُ التَّبعةُ فيه عليه، فيكونَ هو الموصوفَ بالصدق إِن كان
صدقاً، وبالكَذِب إِن كان كذبًا. أفلا ترى أن من المعلوم ضرورة
أنه لا يكون إِثباتٌ ونفيٌ، حتى يكونَ مثبتٌ ونافٍ يكون
مصدرُهما من جهته، ويكون هو المُزْجِيَ لهما، والمبرِمَ
والناقِضَ فيهما، ويكونَ بهما موافقًا ومخالفًا، ومصيبًا
ومخطئًا، ومسيئًا ومحسنًا1.
"الخبر" وجميع معاني الكلام، معانٍ يُنْشئُها الإنسانُ في
نفسِه:
639 - وجملة الأمر أن الخبر وجميع معماني الكلامِ معانٍ
ينشِئُها الإِنسانُ في نفسهِ، ويُصرِّفها في فكره2، ويناجي بها
قلبه، ويارجع فيها عقلَه، وتوصَفُ بأنَّها مقاصدُ وأغراضٌ.
وأعظمُها شأناً الخَبرُ، فهو الذي يُتصوَّر بالصُوَرِ الكثيرة،
وتقع فيه الصناعات العجيبة، وفيه تكون المزايا التي بها يقعُ
التفاضلُ في الفصاحَةِ على ما شرحنا3.
640 - ثم إنا نظرنا في المعنى التي يَصفُها العقلاءُ بأنها
معانٍ مستنْبَطة، ولطائفْ مستخْرَجةٌ، ويجعلون لها اخْتِصاصاً
بقائلٍ دونَ قائلٍ، كمثل قولهم في معاني أبيات من الشعر4: "إنه
معنىً لم يُسْبَق إليه فلان، وأنه الذي فطن له.
__________
1 الفقرة: 638 هي مكرر الفقرة السالفة: 617.
2 في المطبوعة: "وجمع معاني الكلام ينشئها"، وهو لا شيء.
3 الفقرة: 639، هي الفقرة فيها سلف رقم: 618، ولم يكن في
المطبوعة هنا قوله: "على ما شرحنا".
4 في المطبوعة: "في معان من الشعر"، وهو لا شيء.
(1/543)
واستخْرَجَه، وإنه الذي غاصَ عليه
بفِكْرِهِ، وإنه أبو عُذْرِه، لم تَجدْ تلك المعانيَ في الأمر
الأَعمِّ شيئاً غيرَ الخَبر الذي هو إثبات المعنى للشيء ونفيه
عنه. ويدلك على ذلك أنك لا تنظر إلى شيءٍ من المعاني الغريبةِ
التي تخْتَصُّ بقائلٍ دونَ قائل1، إلاَّ وجدتَ الأَصْل فيه
والأَساسَ الإثباتَ والنَّفْيَ. وإن أردْتَ في ذلك مثالاً
فانظرْ إلى بيتِ الفرزدق:
وما حملَتْ أم أمرئ في ضُلوعها ... أعقَّ منَ الجاني عَليها
هِجائيا
فإنَّك إذا نظَرْتَ لم تَشُكَّ في أنَّ الأصْل والأساسَ هو
قولُه: "وما حملتْ أُمُّ امرئ"، وأنَّ ما جاوزَ ذلك مِنَ
الكلمات إلى آخر البيتِ، مستَنِدٌ إليه ومبنيٍّ عليه2، وأنك
إنْ رفعتَهُ لم تجِدْ لشيءٍ منها بَياناً، ولا رأيتَ لذِكْرها
مَعنى، بل تَرى ذِكْرك لها إن ذكَرْتَها هَذَياناً. والسبَبُ
الذي مِنْ أجْله كان كذلك، أنَّ مِنْ حُكْم كل ما عدا جزئي
الجملة "الفعل والفاعل" و "المبتدأ والخبر"، أن يكون تخصيصًا
للمعنى المثبت أو المنفي3، فقولُه: "في ضلوعِها"، يُفيدُ أولاً
أنه لم يُرِدْ نفْيَ الحَمْلَ على الإِطلاق، ولكنِ الحَمْلَ في
الضلوع، وقولهُ: "أعقَّ"، يُفيد أنه لم يُرِد هذا الحَمْلَ
الذي هو حَملٌ في الضلوع أيضاً على الإِطلاق، ولكنْ حمْلاً في
الضلوع محمولهُ أعقُّ من الجاني عليها هجاءه. وإِذا كان ذلك
كلُّه تخصيصاً للحَمْل، لم يُتصوَّر أن يُعْقَل من دون أن
يُعْقَلَ نفي الحمل، لأنه لا يتصور
__________
1 في المطبوعة: "أنا لا تنظر".
2 في المطبوعة: "مستند ومبنى عليه" أسقط "إليه".
3 في المطبوعة: "تحقيقًا للمعنى المثبت والمنفي" وهو خطأ يتضح
صوابه مما يلي، وهو على الصواب في "ج".
(1/544)
تخصيصُ شيءٍ لم يدخلْ في نفيٍ ولا إثبات،
ولا ما كان في سبيلهما من الأمر به، والنهي عنه, والاستخبار
عنه1.
641 - وإذْ قد ثبَتَ أَن الخَبر وسائرَ معاني الكلام، معانٍ
ينشِئُها الإِنسانُ في نفسهِ، ويُصرِّفها في فِكْره، ويناجي
بها قلبَه، ويراجعُ فيها لُبَّهُ2، فاعلمْ أَنَّ الفائدةَ في
العلم بها واقعةٌ من المنشئ لها، وصادرة عن القاصد إليها. وإذا
قلنا في الفعل: "إنه موضوعٌ للخَبَرِ"3 لم يكنِ المعنى فيه أنه
موضوع لن يُعْلَم به الخبَرُ في نفسِه وجنسِه، ومن أَصْلهِ،
وما هو؟ ولكنَّ المعنى أنه موضوعٌ، حتى إذا ضممته إلى اسم، عقل
به ومن ذلك الاسم، الخبر4، بالمعنى الذي اشتق ذلك الفعل منه من
مسمى ذلك الاسم5، واقعًا منك أيها المتكلم، فاعرفه6.
__________
1 هذه الفقرة: 640، ليست مكررة يتفاصليها، ولكنها إعادة كتابة
لما تضمنته أواخر الفقرة السالفة رقم: 627، قبيل ذكره بيت
الفرزدق، ثم الفقرة: 632، وهذا الاختلاف موضع نظر مهم، في
طريقة عبد القاهر في تأليفه، وفي مراجعته لما كتب، وفي شأن ما
يجيء بعد انتهاء "كتاب دلائل الإعجاز"، كما كتبه، أو سوده،
والذي انتهى عند آخر الفقرة رقم: 560، كما أشرت إليه هناك.
2 في المطبوعة: "ويرجع فيها إليه"، تصحيف لا ريب فيه.
3 في المطبوعة: وإذا قلت"، لا شيء.
4 السياق: "عقل به ... الخبر"، "الخبر" نائب فاعل.
5 كان في المطبوعة هكذا: "عُقِلَ منه ومن الاسمِ أنَّ الحكْمَ
بالمعنى الذي اشتقَّ ذلك الفِعلُ منه على مسمّى ذلك الاسم واقع
منك" وهو كلام لا يستقيم، وفيه تغيير ظاهر. و "واقعًا" حال.
6 الفقرة: 641، انظر لهذه الفقرة ما سلف رقم: 618، ورقم: 639.
(1/545)
إدراك البلاغة
بالذوق وإحساس النفس
بسم الله الرحمن الرحيم
بيان في "النظم"، ودخول الشبهة في أمره، وأن مرده إلى "الذوق"
1:
642 - أعلمْ أنك لن تَرى عجَباً أعْجبَ من الذي عليه الناسُ
فِي أمرِ النَّظْم"، وذلك أنه ما مِن أَحدٍ لهُ أدنى معرفةٍ
إِلاَّ وهو يَعلمُ أن ههنا نظْماً أحْسَنَ من نظْمٍ، ثم
تراهُمْ إذا أنتَ أردْتَ أن تُبَصْرَهم ذلك تَسْدَرُ
أعينُهُم2، وتضلُّ عنهم أفهامُهم. وسببُ ذلك أنهم أولُ شيء
عَدِموا العِلْمَ به نفسَه، من حيث حَسِبوه شيئاً غيرَ تَوخِّي
معاني النحو، وجعلوه يَكونُ في الألفاظِ دونَ المعاني. فأنتَ
تَلْقى الجَهْد حتى تُمِيلَهم عن رأيهم، لأنكَ تُعالِجُ مرَضاً
مُزْمناً، وداءً متمكِّناً. ثم إِذا أنتَ قُدْتَهم بالخَزَائم
إلى الاعترافِ بأنْ لا معنى له غيرُ توخِّي معاني النحو3،
عَرَض لهم من بَعْد خاطِرَ يَدهَشُهُمْ، حتى يكادوا يَعودون
إلى رأسِ أمرهم. وذلك أنَّهم يَرَوْنَنا ندَّعي المزيةَ
والحُسْن لِنَظْم كلامٍ من غير أن يكونَ فيه من معاني النحو
شيءٌ يُتَصوَّرُ أنْ يتفاضَلَ الناسُ في العلمِ به، ويرونَنا
لا نَستطيعُ أن نضَع اليَدَ من معاني النحو ووجوه على شيء تزعم
أنَّ مِنْ شأنِ هذا أنْ يُوجِبَ المزيَّةَ لكلِّ كلامٍ يكونُ
فيه، بل يَرَوْننا ندَّعي المزيةَ لكلِّ ما ندَّعيها له مِن
معاني النحو ووجوه وفُروقهِ في موضعٍ دونَ مَوْضِعٍ، وفي كلامٍ
دون كلامٍ، وفي الأقلِّ دونَ الأَكثرِ، وفي الواحدِ من
الأَلْف. فإِذا رأَوْا الأمرَ كذلكَ، دخلَتْهم الشُّبْهَةُ
وقالوا: كيف يصَيرُ المعروفُ مَجهولاً؟ ومِنْ أَين يُتصوَّر أن
يكونَ للشيءِ في كلام مزيةٌ عليه في كلامٍ آخَر، بعْدَ أن تكون
حقيقته فيهما حقيقة واحدة.
__________
1 هذا الفصل يأتي في "ج"، في ص: 343 منها، بعد آخر الفقرة: 633
مباشرة، وما بينهما زيادة في المطبوعة ليست في "ج".
2 "سدر بصره يسدر سدرًا"، تحير فلم يكد يبصر.
3 "الخزائم" جمع "خزامة"، وهي حلقة من شعر تجعل في وترة أنف
البعير، يشد بها الزمام.
(1/546)
فإذا رأوا التنكير يكون فيما لا يصحى منَ
المواضِعِ ثم لا يَقْتضي فَضْلاً، ولا يُوجِبُ مزيةً،
اتَّهمونا في دَعْوانا ما ادَّعيناه لتنكير الحياة في قوله
تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، من
أنَّ له حُسْناً ومزيةً، وأنَّ فيه بلاغة عَجيبة، وظَنُّوه
وهْماً منَّا وتخيُّلاً.
ولسنا نَستطيعُ في كشْفِ الشُبهة في هذا عنهم، وتصويرِ الذي هو
الحقُّ عندهم، ما استطعناهُ في نَفْس النظْم، لأنَّا ملَكْنا
في ذلك أن نَضْطرَّهم إلى أن يَعْلموا صحَّةَ ما نقولُ. وليس
الأمرُ في هذا كذلك، فليس الداءُ فيه بالهيِّن، ولا هو بحيثُ
إذا رُمْتَ العلاجَ منه وجدتَ الإمكانَ فيه مع كلِّ أحدٍ
مُسْعِفاً، والسعيَ مُنْجِحاً، لأنَّ المزايا التي تحتاجُ أن
تُعْلِمَهم مكانَها وتصورَ لهم شأنها، أمور خفيفة، ومعان
روحاية، أنتَ لا تستطيعُ أن تُنَبِّه السامِعَ لها، وتحدث له
علمًا بها، حتى يكون مهيئًا لإدراكها، وتكونَ فيه طبيعةٌ
قابلةٌ لها، ويكونَ له ذوق وقريجة يَجِدُ لهما في نفسه إحساساً
بأنَّ مِن شأن هذه الوجوه والفروق أن تعرض فيه المزية على
الجملة ومن إذا تصفَّح الكلامَ وتدبَّر الشعرَ، فرَّقَ بين
موقع شيء منها وشيء، ومن إذا أنشدته قوله:
لي منْكَ ما للنَّاس كلِّهِمُ ... نَظَرٌ وتَسليمٌ على الطرق1
__________
1 لشمروخ، وهو "أبو عمارة" "محمد بن أحمد بن أبي مرة المكي"،
وهي أبيات في معجم الشعراء: 438، والزهرة: 10، ومصارع العشاق
ص: 174، غير منسوب. وأبياته هي:
يا من بدائع حسن صورته ... تثنى إليه أعنه الحدق
لي منْكَ ما للنَّاس كلِّهِمُ ... نَظَرٌ وتَسليمٌ على الطرق
لكنهم سعدوا بأمنهم ... وشقيت حين أراك بالفرق
سلموا من البلوى ولي كبد ... حرى ودمعة هائم ملق
(1/547)
وقول البحتري:
وسَأَسْتَقِلُّ لكَ الدموعَ صبابَةً ... وَلَو أنَّ دِجْلةَ لي
عليك دموع1
وقوله:
رأت فلتات الشَّيبِ فابتسمتْ لها ... وقالتْ نجومٌ لو طَلَعْنَ
بأسعد2
وقول أبي نواس:
ركبٌ تَساقَوا على الأكْوارِ بَينَهُمُ ... كأسَ الكرَى،
فانتشَى المَسْقيُّ والساقي
كأنَّ أعناقَهُمْ، والنومُ واضِعُها ... على المناكب لم تعمد
بأعناق3
وقوله:
يا صاحبي عصيت مصطبحًا ... وغدوت للذات مطروحًا
فتزُّودوا منِّي مُحادَثةً ... حَذرُ العَصَا لم يُبقِ لي
مرحا4
وقول إسمعيل بن يسار:
حتى إذا الصبح بدا ضوءه ... وغبت الجوزاءُ والمِرْزمُ
خرجتُ والوطءُ خفيٌّ كما ... يَنْسابُ من مكمنه الأرقم5
__________
1 في ديوانه، في وداع إبراهيم بن الحسن بن سهل.
2 في ديوانه، وفي المطبوعة: "مكنات الشيب" وشرحها شرحًا غير
لائق. و "فلتات الشيب".
أول ما أسرع إليه من الشيب فلتة.
3 في ديوانه، آخر باب المدائح، وانظر التشبيهات لابن أبي عون:
189، والحيوان 7: 258، والبرصان: 531، وفي رواية البيت الثاني
"لم تعمد". في هامش المخطوطة: "لم تعدل"، وفي الديوان: "لم
تدعم"، وكل جيد في معنى واحد.
4 في ديوانه، في الخمريات.
5 شعره في الأغاني 4: 417، "الدار"، و "الجوزاء" يعني نظم
الجوزاء، وهو أحد المبرزمين، وهما من النجوم التي تغيب عند دنو
الصبح. و "الأرقم"، الحية.
(1/548)
أنق لها، وأخذته الأربحية عندها، وعرف لطف
موقع "الحذف" و "التنكير" في قوله:
نظرٌ وتسليمٌ على الطرقِ
وما في قولِ البحتري: "لي عليكَ دموعُ" مِنْ شبْه السِّحر،
وأنَّ ذلك من أجْل تقديم "لي" على "عليك"، ثم تنكيرِ "الدموع"
وعرَفَ كذلك شرَفَ قولِه:
وقالتْ نجومٌ لو طلعْن بأسعد
وغلو طبقتِه، ودقةَ صنعتِه.
643 - والبلاءَ1، والداءَ العياء، إنَّ هذا الإِحساسَ قليلٌ في
الناس، حتى إنه ليكونُ أن يقعَ للرجل الشيءُ من هذه الفروقِ
والوجوهِ في شِعْرٍ يقوله: أو رسالةٍ يكتُبها، الموقعَ الحسَن.
ثم لا يعلمُ أنه قد أحْسَنَ. فأمَّا الجهلُ بمكانِ الإِساءة
فلا تَعْدمُه، فلستَ تملكُ إذاً من أمرِكَ شيئاً حتى تظفرَ
بمَنْ له طبعٌ إذا قدحْتَه وَرَى، وقلبٌ إذا أرْيتَهُ رأى،
فأمَّا وصاحبُك مَنْ لا يرى ما تُريه، ولا يهتدي للذي تَهديه،
فأنتَ رام في غيرِ مَرْمًى، ومُعَنٍّ نفسَك في غيرِ جَدْوى،
وكما لا تُقيم الشعرَ في نفسِ مَن لا ذوقَ له، كذلك لا تُفهِمُ
هذا الشأنَ مَنْ لم يؤْتَ الآلة التي بها يَفْهم، إلاَّ أنه
إنما يكونُ البلاءُ إذا ظنَّ العادِمُ لها أنه أُوتيَها، وأنه
ممَّنْ يكملُ للحكْم، ويصحُّ منه القضاءُ، فجعَل يقول القولَ
لو علِمَ غبه لاستحى منه. فاما الذي يحسن بالنقص من نفسه،
ويعلم أنه قد عدم علمًا قد أوتيته مِنْ سِواه، فأنتَ منه في
راحة، وهو رجلٌ عاقلٌ قد حماهُ عقلُه أنْ يعْدُو طورَهُ، وأن
يتكلَّف ما ليس بأهلٍ لَهُ.
__________
1 هذه الفقرة كلها: 643، هي ختام الرسالة الشافية رقم: 50 كما
سيأتي ورحم الله الشيخ الكبير عبد القاهر، فكأنه يتكلم في هذا
كله عن زماننا نحن، لا عن زمانه.
(1/549)
وإِذا كانَتِ العلومُ التي لها أصولُ
معروفةٌ، وقوانينُ مضبوطةٌ قد اشتركَ الناسُ في العِلْم بها،
واتَّفقوا على أنَّ البناءَ عليها، إذا أخطأ فيها المخطئ ثم
أعجب برأيه، لم تستطع رَدُّه عن هواه، وصَرْفُه عن الرأي الذي
رآه، إلاَّ بَعْدَ الجهْدِ، وإلاَّ بعد أن يكونَ حَصيفاً
عاقِلاً ثَبْتاً إذا نُبِّهَ انْتَبَهَ، وإِذا قيلَ: إنَّ
عليكَ بقيةً مِنَ النَّظَرِ، وقفَ وأصْغى، وخَشِيَ أن يكونَ قد
غُرَّ، فاحتاطَ باستماعِ ما يُقال له، وأنِفَ من أن يلجَّ من
غير بيِّنة، ويستطيلَ بغيرِ حُجَّة، وكان مَنْ هذا وصْفُه
يَعزُّ ويقِلُّ1 فكيف بأنْ تَرُدَّ الناسَ عن رأيهم في هذا
الشأنِ، وأصلُك الذي تردُّهم إليه، وتعقول في محاجَّتهم عليه،
استشهادُ القرائحِ، وسَبْرُ النفوسِ وقلبها، وما يعرض فيها من
الأريحية عندما تمسع، وكانَ ذلك الذي يَفتحُ لك سمعَهم،
ويكشِفُ الغِطاءَ عن أعيُنهمْ، ويَصْرِفُ إليكَ أوجُهَهُم، وهم
لا يَضعُون أنفُسَهم موضِعَ منَ يرى الرأيَ ويُفتي ويَقْضي،
إلاَّ وعندَهم أنهم ممَّن صفتْ قريحَتُه، وصحَّ ذوقُه، وتمَّتْ
أداتُه. فإِذا قلتَ لهم: "إنكم قد أُتيتُمْ مِن أنفْسِكم"،
رَدُّوا عليكَ مثلَه وقالوا: "لا، بل قرائِحُنا أصحُّ، ونظرُنا
أصْدَقُ، وحِسُّنا أَذْكى، وإنما الآفةُ فيكُم لأنكم خيلتم إلى
أنفسكم أُموراً لا حاصِل لها، وأوهَمَكُم الهوى والميلُ أنْ
تُوجِبوا لأحدِ النظْمَيْنِ المتساويَيْن فضْلاً على الآخَرِ،
مِن غيرِ أن يكونَ ذلك الفضْلُ معقولاً" فتبقى في أيدهم
حَسِيراً لا تَملكُ غيرَ التعجُّب. فليس الكلامُ إذن بمعن عنك،
ولا القولُ بنافعٍ، ولا الحُجَّةُ مسموعةً، حتى تجدَ مَنْ فيه
عونٌ لكَ على نفسه، ومن إذا أبى عليكَ، أبى ذَاك طبعُه فردَّه
إليكَ، وفتَحَ سمعه لك، ورفع الحجاب بينك
__________
1 السياق آت من أول الفقرة: "وإِذا كانَتِ العلومُ التي لها
أصولُ معروفةٌ .... فكيف بأن ترده".
(1/550)
وبينَه، وأخذَ به إلى حيثُ أنتَ، وصرَفَ
ناظِرَه إلى الجهة التي إليها أوْمأتَ، فاستبدَلَ بالنِّفار
أُنْساً، وأراكَ مِنْ بَعْد الإِباء قَبُولاً.
644 - ولم يكنِ الأمرُ على هذه الجملةِ إلاَّ لأنه ليس في
أصنافِ العلومِ الخفيَّةِ، والأُمور الغامضةِ الدقيقةِ، أعجبُ
طريقاً في الخفاء من هذا. وإنَّكَ لَتُتْعِبُ في الشيء نفْسَك،
وتُكِدُّ فيه فكْرَك، وتَجْهَدُ فيه كلَّ جَهْدِك، حتى إِذا
قلتَ قد قتَلْتُه عِلْماً، وأحكَمْتُه فَهْماً، كنت بالذيلا
يزال يتراءى لك فيه من شبهة، ويعرض فيه من شك1، كما قال أبو
نواس:
أَلاَ لا أَرى مثْلَ امترائيَ في رَسْمِ ... تغص به عيني
ويلظفه وهمي
أنت صُوَرُ الأشياءِ بَيني وبينَهُ ... فظَنِّي كَلاَ ظَنِّ،
وعِلْمي كَلاَ عِلْمِ2
645 - وإنكَ لتنظرُ في البيتِ دهراً طويلاً وتفسره، ولا ترى
أنه فيه شيئاً لم تَعلَمْه، ثم يبدو لكَ فيه أمرٌ خفيٌّ لم
تكنْ قد علِمْتَه، مثال ذلك بيت المتنبي:
خطأ خفي في "النظم":
عَجَباً لهُ! حِفْظُ العِنَانِ بأنْمُلٍ ... ما حِفْظُها
الأشياءَ مِنْ عاداتِها3
مضى الدهرُ الطويلُ ونحن نقرؤه فلا نُنْكِرُ منه شيئاً، ولا
يَقَعُ لنا أنَّ فيه خطأَ، ثم بانَ بأَخِرةٍ أنه قد أخطأ. وذلك
أنه كان ينبغي أن يقولَ: "ما حفظُ الأشياءِ من عادتها"، فيضيفُ
المصدرَ إلى المفعولِ، فلا يَذكُر الفاعلَ، ذاك لأن المعنى على
__________
1 يقول: كنت بهذا الذي يتراءى لك، كما قال أبو نواس.
2 في ديوانه، "في باب الخمريات"، وفيه: "فجهل كلا جهل".
3 في ديوانه، وفي "ج"، "حفظ البنان"، خطأ صرف.
(1/551)
أنه ينفي الحفْظَ عن أنامله جُملةً، وأنه
يزْعُم أنه لا يكونُ منها أصْلاً، وإضافَتُه الحفظَ إلى
ضميرِها في قوله: "ما حفظُها الأشياءَ"، يقتضي أن يكون قد
أثبْتَ لها حِفْظاً1. ونظيرُ هذا أنك تقول: "ليس الخروجُ في
مثل هذا الوقت من عادي"، ولا تقولُ: "ليس خُروجي في مثلِ هذا
الوقت من عادتي"، وكذلك تقولُ: "ليس ذمُّ الناسِ مِنْ شأني"،
ولا تقولُ: "ليس ذمِّي الناسَ مِنْ شأني"، لأن ذلك يُوجِبُ
إثباتَ الذمِّ ووجودَه منك. ولا يصِحُّ قياسُ المصْدَرِ في هذا
على الفعل، أعني أنه لا ينبغي أن يُظَنَّ أنه كما يجوز أن
يُقال: "ما مِن عادتها أن تَحْفظَ الأشياءَ"، كذلك ينبغي أن
يجوزَ: "ما مِنْ عادتها حفظها الأشياء"، ذاك أن إضافة المضدر
إلى الفاعل يقتضي وجودَه، وأنه قد كان منه، يُبيِّنُ ذلك أنك
تقولُ: "أمرْتُ زيداً بأن يَخْرج غداً"، ولا تقول: "أمرتُه
بخروجهِ غداً".
646 - ومما فيه خطأ هو في غاية الخفاء قوله:
ولا تشك إلى خلق فتشمته ... شكوى الخريج إلى الغِربانٍ
والرَّخَمِ2
وذلك أنك إِذا قلتَ: "لا تضجر ضجر زيد"، كانت قد جعلْتَ زيداً
يضجرُ ضَرْباً من الضجر، مثْلَ أن تجعله يُفرِّطُ فيه أو
يُسْرعُ إليه. هذا هو مُوجِبُ العُرْفِ. ثم إنْ لم تعتبر
خصوصًا وصْفٍ، فلا أقلَّ من أن تَجعلَ الضجَرَ على الجملةِ من
عادتِهِ، وأنْ تَجعلَه قد كان منه. وإذا كان كذلك، اقتضَى
قولُه:
__________
1 في هامش "ج" بخط كاتبها ما نصه:
"فيكون المعنى أن حفظ الأشياء ليس عادة له، فالمنفي حينئذ كون
الحفظ عادة له، والمراد عدم ثبوت الحفظ له أبدًا".
2 هو في ديوانه.
(1/552)
شكوى الجريحِ إلى الغربانِ والرخَمِ
أنْ يكونَ ههنا "جريح"، قد عرف من حاله أنه يكون له "شكوى إلى
الغربان والرخم"، وذاك مُحال. وإنما العبارةُ الصحيحةُ في هذا
أن يقال: "لا تَشَكَّ إلى خَلْقٍ، فإنَّكَ إنْ فعلتَ كان مثَلُ
ذلكَ مثَلَ أنْ تُصوِّرَ في وهْمِك أنَّ بَعيراً دَبِراً كشَفَ
عن جرحه1، ثم شكاه إلى الغربان والرخم".
خطأ آخر في اتباع تأويل لبعض العلماء:
647 - ومن ذلك تَرى من العلماءِ مَن قد تأوَّلَ في الشيء
تأويلاً وقَضى فيه بأمرٍ، فتَعْتَقِدُه اتِّباعاً له، ولا
تَرتابُ أنه على ما قَضى وتأوَّلَ، وتَبْقى على ذلك الاعتقادِ
الزمانَ الطويلَ، ثم يلوحُ لك ما تعلَم به أنَّ الأمرَ على
خِلاف ما قَدَّرَ. ومثالُ ذلك أنَّ أبا القاسم الآمديَّ، ذكَر
بيتَ البحتريِّ:
فصاغَ ما صاغَ مِنْ تِبْرٍ ومِنْ وَرِقٍ ... وحاكَ ما حاكَ من
وَشْي وديباجِ2
ثم قال: "صَوْغُ الغيث وحَوكُه للنبات ليس باستعارةِ، بلْ هو
حقيقةٌ، ولذلك لا يقالُ: "هو صائغٌ" ولا "كأنه صائغ" وكذلك لا
يقال: "هو حائك" و "كأنه حائك"، قال: "على أنَّ لفظَ "حائك" في
غايةِ الركاكة إذا أُخرج على ما أخرجَهُ أبو تمام في قوله:
إِذا الغيثُ غادى نَسْجَهُ خِلْتَ أنه ... خَلَتْ حُقُبٌ
حَرْسٌ له وهْوَ حائكُ3
قال: وهذا قبيح جدًا"4.
__________
1 "دبر البعير"، إذا تقرح ظهره من الحمل أو القتب، فهو "دبر".
2 هو في ديوانه، و "الورق"، الفضة.
3 هو في ديوانه، و "الحرس"، الدهر الطويل.
4 هذا الذي نقله عن الآمدي هو في الموازنة 1: 497، 498، "دار
المعارف".
(1/553)
فقلتُ: لمَ ترَكَ الأستاذُ هذا البيتَ؟
فقال: لعلَّ القلمَ تجاوَزَهُ؟ قال: "ثم رآني من بَعْدُ
فاعتذرَ بعُذرٍ كان شَرّاً مِنْ تَرْكه. قال: إنما تركْتُه
لأنه أعادَ السيفَ أربعَ مرّاتٍ. قال الصاحِبُ: لَوْ لم
يُعِدْه أربعَ مراتٍ فقال:"بجهلٍ كجهلِ السيف وهو مُنْتَضى،
حلم كحِلم السيفِ وهو مغمدُ"، لفسَدَ البيْتُ".
والأمرُ كما قال الصاحبُ، والسببُ في ذلك أنك إذا حدَّثْتَ عن
اسمٍ مُضافٍ، ثم أردْتَ أن تَذْكُر المضافَ إليهِ، فإِن
البلاغَة تقتضي أن تذكره باسمه الظاهر ولا تضمره.
649 - تفسير هذا أنَّ الذي هوَ الحسَنُ الجميلُ أن تقولَ:
"جاءني غلامُ زيدٍ وزيدٌ"، ويقبُحُ أن تقول: "جاءني غلامُ زيدٍ
وهُو"، ومن الشاهِد في ذلك قول دعيل:
أضيافُ عِمران في خِصْبٍ وفي سَعةٍ ... وفي حِبَاءِ وخَيرٍ
غيرِ ممنوعِ
وضيفُ عمرٍو وعمرٌو يَسْهرانِ معاً ... عمرو لبِطْنَتِه
والضيفُ للجُوعِ1
وقولُ لآخر:
وإنْ طُرَّةٌ راقَتْكَ فانْظُرْ فرُبَّما ... أَمَرَّ مذاقُ
العود والعود أخضر2
__________
1 هو في مجموع ديوانه، وفي الكامل للبمرد 2: 104، وروايته:
أضياف سالم في خفض وفي دعة ... وفي شراب ولحم غير ممنوع
2 هو في أسرار البلاغة: 104، و "الطرة" في الأصل حاشية الثوب،
وموع هدبه. و "طرة الجارية"، أن يقطع لها في مقدم ناصيتها
كالعلم أو كالطرة تحت التاج، تتجمل بذلك.
(1/555)
وقول المنتبى:
بمن نضرب الأمثال أم من نفيسه ... إليكَ وأهْلُ الدهرِ دونكَ
والدهرُ1
ليس بخفيٍّ على مَنْ لَهُ ذوقٌ أنه لو أتى موضعُ الظاهرِ في
ذلك كله بالضمير فقيل: "وضيفُ عمروِ وهو يسهران معاً"، و "ربما
أمرَّ مذاقُ العودِ وهو أخضر"، و "أهلُ الدهر دونَكَ وهو"،
لعُدِمَ حُسْنٌ ومزيةٌ لا خفاءَ بأمرِهما، ليس لأنَّ الشعرَ
يَنكَسِرُ، ولكنْ تنكره النفس.
650 - وقد يرى في بادئ الرأي أنَّ ذلك من أجْل اللَّبْسِ،
وأنكَ إذا قلتَ: "جاءني غلامُ زيدٍ وهو"، كان الذي يقَعُ في
نفسِ السامعِ أنَّ الضميرَ للغلام، وأنكَ على أنْ تجيءَ له
بخَبر، إلا أنَّه لا يستمرُّ، من حيثُ إنَّا نقول: "جاءني
غلمانُ زيدٍ وهو"، فتَجِدُ الاستنكارَ ونبُوَّ النفسِ، مع أنْ
لا لَبْسَ مثْلَ الذي وجدْناه. وإذا كان كذلك، وجَب أن يكونَ
السببُ غيرَ ذلك.
651 - والذي يوجُبِه التأمُّلُ أن يُردَّ إلى الأصْل الذي
ذَكَره الجاحِظُ: من أنَّ سائلاً سألَ عن قولِ قيسِ بنِ خارجة:
"عندي قِرى كلِّ نازلٍ، ورضَى كلِّ ساخِطٍ، وخُطبةٌ مِنْ
لَدُنْ تطْلُعُ الشمسُ إلى أن تَغْرُبَ، آمرُ فيها
بالتَّواصُل، وأَنْهى فيها عن التقاطُع"، فقال: أليسَ الأمرُ
بالصِّلة هو النهيُ عن التقاطعِ؟ قال فقال أبو يعقوب: أما
علمتَ أنَّ الكنايةَ والتعريضَ لا يَعملان في العقولِ عملَ
الإِفصاحِ والتكشيف"، 2 وذكرتُ هناك أن هذا الذي ذُكِر، من
أنَّ للتصريحِ عملاً لا يكون
__________
1 هو في ديوانه.
2 هو فيما سلف رقم: 174، وفيه في البيان: "فقيلَ لأبي يعقوب:
هلاَّ اكْتَفى بالأمِر بالتواصلِ والنهي علن التقاطع، أو ليس
الأمرُ بالصلةِ هو النهْيُ عن التقاطعِ؟ قال: أو ما علمت أن
الكناية ... ".
(1/556)
مثلُ ذلك العملِ للكنايةِ، كان لإعادةِ
اللفظِ في قولهِ تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ
وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105]، وقولِه: {قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1، 2]، عملٌ
لولاها لم يَكنْ. وإِذا كان هذا ثابتاً معلوماً، فهو حكْم
مسألتنا.
652 - ومن البيِّنِ الجليِّ في هذا المعنى، وهو كبيتِ ابن
الرومي سواءٌ، لأنه تشبيهٌ مثْلُه بيتُ الحماسة:
شَدَدْنا شَدَّةَ الليثِ ... غدا والليثُ غضبانُ1
ومن الباب قول النابغة:
نفْسُ عصامٍ سوَّدتْ عِصاما ... وعلَّمَتْهُ الكرَّ
والإِقداما2
لا يخفَى على مَنْ له ذوقٌ حسَنٌ هذا الإظهارَ، وأنَّ له
موقعاً في النفس، وباعثًا للأربحية، لا يكون إِذا قيل: "نفسُ
عصامٍ سَوَّدته"، شيء منه البتة.
"تم الكتاب"
"في أواسط شهر ربيع الول سنة ثمان وستين وخمسئة. غفر الله
لكاتبه ولوالديه ولجميع المؤمنين والمؤمنات برحمته إنه أرحم
الراحمين وخير الغافرين".
__________
1 الشعر للفند الزماني، شرح حماسة أبي تمام للتبريزي 1: 13،
وروايته: "مشينا مشية الليث"، رواية أخرى.
2 للنابغة، يقول لبواب النعمام بن المنذر: "عصام بن شهبرة
الجرمي"، الفاخر للمفضل بن سلمة: 145 وغيره.
(1/557)
فصول ملحقة بالكتاب:
مسئلة يرجع فيها الكلام إلى "الإثبات":
653 - العلم بالإثبات والنفي وسائر معاني الكلام في غرائز
النفوس، ولم توضع أمثلة الأفعال لتعلم المعاني في أنفسها، بل
لتعلم، واقعة من المتكلم توضع أمثلة الأفعال لتعلم هذه المعاني
في أنفسها، بل لتعلم، واقعة من المتكلم وكائنة في نفسه1. فواضع
اللغة لما [قال]: "ضرب"، كأنه قال إنه موضوع [للضرب] 2، حتى
إذا أردت إثبات "الضرب" لشيء، ضممته إلى اسم ذلك الشيء فعلم
بذلك [أن] إثبات الضرب له واقعًا منك وكائنًا في نفسك، محصول
قولنا في "ضرب"، إنه خبر، وانه موضوع ليعرف به. وإذا ضم إلى
اسم إثبات "الضرب" لمسمى ذلك الاسم، فهو. موضوع ليدل على وضوع
إثبات منك ووجوده في نفسك، وليس في أن "الإثبات" لا يقع إلا
متعلقًا بشيئين، ما يمنع أن يكون "الإثبات" معنى مستقلًا بنفسه
معلومًا ومثله أنه لا يصح وجود صفة من غير موصوف، ثم لا يمنع
ذلك أن تكون "الصفة" في نفسها معلومة.
تفسير ذلك: أنه لا يصح وجود سواد وحركة في غير محل، ثم لم يمنع
ذلك أن يكونا معلومين في أنفسهما.
وجملة الأمر أن حاجة الشيء في وجوده إلى شيء آخر، لا يمنع أن
يكون شيئًا مستقلًا بنفسه معلومًا، وليس ههنا شيء أكثر من أن
هذا يقتضي ذاك،
__________
1 انظر ما سلف في اوائل الفقرة رقم: 634.
2 ما بين القوسين زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها، وكذلك ما
سيأتي بعده.
(1/561)
و "الاقتضاء" وصف في المقتضى لا في
المقتضى، فاقتضاء "العلم" معلومًا، وصف في "العلم" وكائن في
حقيقته، وليس بوصف في المعلوم. وإذا كان كذلك، كان محالًا أن
يظن أنه لا يصح أن يكون "العلم" في نفسه وعلى الانفراد
معلومًا.
فإن قيل: لو جاز أن يكون "العلم" على الانفراد معلومًا، جاز أن
يكون على الانفراد موجودًا.
قيل: إنا [لا] نعني بقولنا: "إنه يصح أن يكون "العلم" على
الانفراد معلومًا، "العلم" مطلقًا من غير نص على معلوم. ووجود
"العلم" مطلقًا مبهمًا ومن غير معلوم منصوص عليه، محال.
(1/562)
فصل:
654 - يصح توهم وجود "السواد" في محل هو في حال التوهم أبيض
وتكون حقيقة هذا أنه يتوهم في هذا المحل الأبيض، وجود مثل
اللون الذي يراه في المحل الأسود، ولو فرضنا أن لا يكون رأى
محلًا أسود قط، لم يتصور منه هذا التوهم. وإذا ثبت هذا، فإنه
ما من فاعل إلا وهو يجد في نفسه إثبات معنى لشيء، فنحن إذا
قلنا في "ضرب" أنه موضع لإثبات المعنى لشيء، كنا أشرنا له إلى
هذا المعنى الذي عرفه في نفسه، كما أنا إذا قلنا إن لفظ "رجل"
موضوع للآدمي الذكر، كنا أشرنا له إلى ما عرفه بعينه، إلا أن
الشأن أنا نشير له في الاسم إلى شيء قد عرفه موجودًا. فيجب أن
ينظر إذا قلنا: "إن الفعل موضوع لإثبات المعنى للشيء"، أنكون
أشرنا إلى معنى قد علمه موجودًا، أم إلى شيء يعلم صحة وجوده1.
__________
1 هنا حاشية في هامش "ج" بخط كاتبها: "أول ما يولد المعنى يعلم
الشيء، وإنما [يكون قد] علمه من قبل موجودًا"، هكذا قرأته، مع
تآكل في الهامش.
(1/563)
فصل:
655 - إن كان أبو الفتح بن جني قال: ما قال في قول المتنبي:
وفيها قيت يوم للقراد1
حتى تكون فضيلة يكون بيت المتنبي بها أشعر من بيت الحطيئة2،
فمحال أن يكون البيت بزيادة تقع في مجرد الإغراق من دون صنعة
تكون في تلك الزيادة3 أشعر من البيت ذي الصنعة، ولا سيما مثل
صنعة الخطيئة، التي لا يبلغ المتأمل لها غاية في الاستحسان،
إلا رأى أن يزيد. ومن سلك في الموازنة.
__________
1 هو في ديوانه، وصدر البتي، في صفة ناقته:
فلم تلق ابن إبراهيم عنسى
ورواية الديوان: "قوت يوم"، وهما سواء، و "القوت" و "القيت" ما
يمسك الرمق.
2 كأنه يعني بيت الخطيئة، والله أعلم، قوله:
قروا جارك العيمان، لما تركته ... وقلص عن برد الشراب مشافره
سنامًا ومحضًا أنبت اللحم واكتست ... عظام امرئ ما كان يشبع
طائره
"قروا"، أضافوه وأطعموه. و "العيمان". الشديد الشهوة إلى شرب
اللبن. و "قلص عن برد الشراب مشافره"، أي لم يزل في زمن الشتاء
والجدب يشرب الماء البارد حتى قلصت شفتاه. و "المحض" اللبن
الذي لم يخالده ماء. والشاهد فيه قوله: "ما كان يشبع طائره،
يعني أنه قد بلغ من هزاله ما لو وقع عليه طائر، لما شبع، لأنه
لا يجد مما يأكله منه إلا القليل التافه. وهذا موضع المقارنة
بينه وبين قول المتنبي في هزال ناقته، حيث يقول: إنه لم يبلغ
أرض ممدوحة، وفي ناقته ما يقوت القراد على ضآلته يومًا واحدًا.
3 السياق: "فمحال أن يكون البيت من غير صنعة أشعر من البيت ذي
الصنعة".
(1/564)
بين الشعرين هذا المسلك، أداه ذلك إلى ما
سخف من الرأى، وهو أن يجعل المتنبي في قوله:
وصدرك في الدنيا ولو دخلت بنا ... وبالجن فيه، ما درت كيف
ترجع1
أشعر من البحترى في قوله:
مفازة صدر لو تطرق لم يكن ... ليسلكها فردًا سليك المقانب2
__________
1 هو في ديوانه، وروايته: "وقلبك في الدنيا"، وهذا هو الصواب،
لأنه متعلق. ببيت قبله ذكر فيه "الصدر" في الثوب، ثم جعل هنا
"القلب" في الصدر.
2 هو في ديوانه، "سليك المقانب" هو سليك بن السكة الصعلوك
العداء، و "المقانب"، وهي جمع "مقنب"، وهي جماعة الخيل عليها
فرسانها، و "تطرق"، أي يصير فيها طرق تسلك.
(1/565)
فصل:
565 - إذا قلت: "هذا ينحت من صخر، وذاك يعرف من بحر"، لم تكن
شبهت قيل الشعر بالنحت والغرف، لكن تكون قد شبهت هذا في صعوبة
قول الشعر عليه، وفي آحتياجه إلى أن يكد نفسه بمن ينحت من
الصخر وشبهت الآخر في سهولة قوله عليه، وفي أنه يناله عفوًا،
بمن يعرف من بحر.
يبين ذلك: أن ليس الشبه بوصف يرجع إلى "النحت" و "الغرف" على
ذاك. وإذا كان كذلك، كان المعنى على تشبيه الذي يحتاج إلى أن
يكد النفس بالذي ينحت الصخر، والذي يسهل عليه ويأتيه عفوًا
بالذي يعرف من بحر، لا على تشبيه قول الشعر في نفسه من حيث هو
قول شعر وتأليف كلام وإقامة وزن وقافية، بالنحت والغرف، هذا
محال.
ثم إن المزية التي تجدها لترك التصريح بالتشبيه، وأنك لم تقل:
"هو كمن ينحت من صخر"، ليست لأنك لما قلت: "هو ينحت من صخر"
جعلته أشبه بالناحت من الصخر، ولكن بأنك جعلت شبه الناحت من
الصخر له أثبت، فاعرفه.
(1/566)
"مسئلة":
657 - قال النمرى في قوله في الحماسة1:
لنا إبل لم تهن ربها ... كرامتها والفتى ذاهب
"يقول: لم يكرمها فتهينه كرامتها، قال: وهذا كقولك: "لم تبدلني
صيانة مالي"، أي لم أصنه فأبتدل، لا أنه أكرمها فلم يهنه ذاك.
قال ومثله قول النابغة:
مثل الزجاجة، لم تكحل من الرمد2
أي: لم ترمد فتكحل منه3.
قال الشيخ الإمام: الأولى أن يكون المعنى: لم تمنعنا كرامتها
أن تنحرها للأضياف ونسخو بها. ونظر هو إلى ما جرت به العادة من
أن يقال في وصف الجواد: إنه لا خطر للمال عنده. وذلك وإن كان
معروفًا من كلام الناس، فإنهم يقولونه على معنى أنه كأنه من
حيث الحمد والذكر والذكر الجميل، لا يكون النفيس من المال عنده
نفيسًا، وأنه يبذله بذل الشيء الذي لا يكون له قيمة. وإنهم
ليخرجون
__________
1 من شعر حزاز بن عمرو، في الحماسة.
2 في ديوانه، في ذكر ابنة الخس، أو عنز اليمامة، وهي زرقاء
اليمامة، ويذكر حدة بصرها، وصدره:
يحفه جانبًا نيق وتتبعه
3 هذا هو نص كلام أبي عبد الله النمرى في كتابه "معاني أبيات
الحماسة"، الذي نشره أخيرًا ولدنا الدكتور عبد الله بن عبد
الرحيم العسيلان، وهو فيه التعليق على الحماسية: 741، ص: 225.
(1/567)
لطلب المبالغة في ذلك إلى أن يزعموا أنه
يبغض المال ويريد هلاكه، وأنه يطلبه بترة، وأنه حنق عليه كما
قال:
حنقعلى بدرا للجين1
وكل ذلك على تقدير "كأن". وإلا فلو كان الأمر على الظاهر، لكان
ذلك يخرج به إلى أن لا يستحق على بذله الحمد، ولكان يكون ذلك
للجهالة بنفاسة النفيس. ومن كان إعطاؤه المال على هذا السبيل،
كان مؤوفًا. ولهذا قال الفضل بن يحيى: "أيظن الناس أنا لا نجد
بأموالنا ما يجد البخلاء؟ ". ولو كان لا يكون النفيس من المال
نفيسًا عند جواد، لكان قولهم: "إنه يشتري الحمد بالغلاء"،
محالًا، لأنه لا يكون المشترى الشيء غاليًا حتى يبذل فيه من
المال ما يكون له خطر عظيم عنده. هذا ويجوز أن يكون المعنى في
قوله: "كرامتها"، نفاستها في أنفسها، وأن لا تقدر فيه التعدية،
وأن يقال: "كرامتها علينا أو عليه، أي على ربها" كما يقولون:
يهينون كرائم أموالهم لأضيافهم، ولا تهينهم بأن تدعوهم إلى
الضن بها، فتورثهم الهون والسقوط في أقدارهم، فاعرفه.
هذا آخر ما وجد على سواد الشيخ من هذا الكتاب.
كتب في شعبان المبارك سنة ثنتين وسبعين وخمسمئة
__________
1 هو قول المتنبي في ديوانه:
حنق على بدر اللجين وما أتت ... بإساءة، وعن المسيء صفوح
(1/568)
"مسئلة":
658 - إذا قلنا في الفعل: "إنه يدل على الزمان"، لم يكن المعنى
أنه يدل على الزمان في نفسه، ولكن أنه يدل على كون الزمان
الماضي زمانًا للمعنى الذي أخبرت به عن "زيد". وإذا كان ذلك
كذلك في الحقيقي من الأفعال، فهو كذلك في "كان". فإذا قلنا:
إنه عبارة عن الزمان فقط، كان الغرض فيه أنا نستفيد من "كان"
أن زمان وقوع الانطلاق من "زيد" هو الزمان الماضي، فاعرفه.
(1/569)
|