دلائل الإعجاز ت هنداوي

 [المدخل في دلائل الإعجاز- وهو مقدمة الكتاب لمؤلفه]
بسم الله الرحمن الرحيم توكّلت على الله وحده قال الشّيخ الإمام، مجد الإسلام، أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني رحمه الله تعالى.
الحمد لله ربّ العالمين حمد الشاكرين، وصلواته على محمد سيّد المرسلين، وعلى آله أجمعين.
هذا كلام وجيز يطّلع به الناظر على أصول النحو جملة، وكلّ ما به يكون النّظم دفعة «1»، وينظر منه في مرآة تريه الأشياء المتباعدة الأمكنة قد التقت له حتى رآها في مكان واحد، ويرى بها مشئما «2» قد ضمّ إلى معرق «3»، ومغرّبا قد أخذ بيد مشرّق، وقد وصلت بأخرة «4» إلى كلام من أصغى إليه وتدبّره تدبّر ذي دين وفتوّة «5»، دعاه إلى النّظر في الكتاب الذي وضعناه «6»، وبعثه على طلب ما دوّنّاه، والله تعالى الموفّق للصواب، والملهم لما يؤدّي إلى الرّشاد، بمنّه وفضله. قال رضي الله تعالى عنه:
معلوم أن ليس النّظم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب «7» من بعض.
__________
(1) الدفعة من المطر وغيره بالضم مثل الدّفقة، والدّفعة، بالفتح: المرة الواحدة. اه الصحاح مادة/ دفع/ (1/ 406).
(2) أشأم الرجل والقوم: أتوا الشام أو ذهبوا إليها. اه اللسان مادة/ شأم/ (12/ 316).
(3) مصدر أعرق الرجل فهو معرق إذا أخذ في بلد العراق أي أتاها. اه اللسان مادة/ عرق/ (10/ 348).
(4) يقال: جاء فلان بأخرة بفتح الخاء، وما عرفته إلّا بأخرة، أي أخيرا. اه الصحاح مادة/ أخر/ (1/ 12).
(5) الفتى: الشاب وجمعه فتاء والاسم منه فتوّة انقلبت الياء فيه واوا. اه اللسان مادة/ فتا/ (15/ 146).
(6) الهاء في قوله وضعناه عائدة على كتاب «دلائل الإعجاز».
(7) هو كلّ شيء يتوصّل به إلى غيره، والجمع أسباب. اه اللسان. مادة/ سبب/ (1/ 258).

(1/7)


والكلم ثلاث: اسم، وفعل، وحرف. وللتعليق فيما بينها طرق معلومة، وهو لا يعدو ثلاثة أقسام: تعلّق اسم باسم، وتعلّق اسم بفعل، وتعلّق حرف بهما.
فالاسم يتعلّق بالاسم بأن يكون خبرا عنه، أو حالا منه، أو تابعا له صفة أو تأكيدا، أو عطف بيان، أو بدلا، أو عطفا بحرف، أو بأن يكون الأوّل مضافا إلى الثّاني، أو بأن يكون الأوّل يعمل في الثّاني عمل الفعل، ويكون الثاني في حكم الفاعل له أو المفعول. وذلك في اسم الفاعل كقولنا: «زيد ضارب أبوه عمرا» «1».
وكقوله تعالى: أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها [النساء: 75]، وقوله تعالى:
وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء: 2 - 3]، واسم المفعول كقولنا: «زيد مضروب غلمانه»، وكقوله تعالى: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ [هود: 105] والصفة المشبّهة كقولنا: «زيد حسن وجهه، وكريم أصله، وشديد ساعده»، والمصدر كقولنا: «عجبت من ضرب زيد عمرا»، وكقوله تعالى: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً [البلد: 14 - 15]، أو بأن يكون تمييزا قد جلاه، ومنتصبا عن تمام الاسم- ومعنى «تمام الاسم»، أن يكون فيه ما يمنع من الإضافة، وذلك بأن يكون فيه نون تثنية، كقولنا: «قفيزان «2» برّا»، أو نون جمع كقولنا: «عشرون درهما»، أو تنوين كقولنا: «راقود «3» خلّا»، و «ما في السّماء قدر راحة سحابا»، أو تقدير تنوين كقولنا: «خمسة عشر رجلا»، أو يكون قد أضيف إلى شيء، فلا يمكن إضافته مرّة أخرى، كقولنا: «لي ملؤه عسلا»، وكقوله تعالى: مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً [آل عمران: 91].
وأمّا تعلّق الاسم بالفعل، فبأن يكون فاعلا له، أو مفعولا، فيكون مصدرا قد انتصب به كقولك: «ضربت ضربا»، ويقال له المفعول المطلق. أو مفعولا به كقولك: «ضربت زيدا»، أو ظرفا مفعولا فيه، زمانا أو مكانا، كقولك: «خرجت يوم الجمعة، ووقفت أمامك»، أو مفعولا معه كقولنا: «جاء البرد والطّيالسة» و «لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها»، أو مفعولا له «4» كقولنا: «جئتك إكراما لك، وفعلت ذلك
__________
(1) فاعل لاسم الفاعل (ضارب) وعمرا: مفعول به (له).
(2) القفيز: مكيال من المكاييل: معروف وهو ثمانية مكاكيك عند أهل العراق، وهو من الأرض قدر مائة وأربع وأربعين ذراعا. اه اللسان مادة «قفز» (5/ 395).
(3) الراقود: دنّ طويل الأسفل كهيئة الإردبّة يسيّع داخله بالقار والجمع الرواقيد وهو معرّب. اه اللسان مادة/ رقد/ (3/ 183).
(4) هو المفعول لأجله نحو «إكراما».

(1/8)


إرادة الخير بك»، وكقوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [النساء:
114]، أو بأن يكون منزّلا من الفعل منزلة المفعول، وذلك في خبر كان وأخواتها، والحال والتمييز المنتصب عن تمام الكلام، مثل: «طاب زيد نفسا، وحسن وجها، وكرم أصلا»، ومثله الاسم المنتصب على الاستثناء، كقولك: «جاءني القوم إلّا زيدا»، لأنّه من قبيل ما ينتصب عن تمام الكلام.
وأما تعلّق الحرف بهما، فعلى ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يتوسّط بين الفعل والاسم، فيكون ذلك في حروف الجرّ التي من شأنها أن تعدّي الأفعال إلى ما لا تتعدّى إليه بأنفسها من الأسماء، مثل أنّك تقول:
«مررت»، فلا يصل «1» إلى نحو «زيد، وعمرو»، فإذا قلت: «مررت بزيد، أو على زيد»، وجدته قد وصل «بالباء» أو «على». وكذلك سبيل الواو الكائنة بمعنى «مع» في قولنا: «لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها»، بمنزلة حرف الجر في التوسّط بين الفعل والاسم وإيصاله إليه، إلّا أنّ الفرق أنّها لا تعمل بنفسها شيئا، لكنها تعين الفعل على عمله النّصب. وكذلك حكم «إلّا» في الاستثناء، فإنها عندهم بمنزلة هذه «الواو» الكائنة بمعنى «مع» في التوسط، وعمل النّصب في المستثنى للفعل، ولكن بوساطتها وعون منها.
والضّرب الثاني من تعلّق الحرف بما يتعلّق به: «العطف»، وهو أن يدخل الثاني في عمل العامل في الأول، كقولنا: «جاءني زيد وعمرو» و «رأيت زيدا وعمرا»، و «مررت بزيد وعمرو».
والضّرب الثالث: تعلّق بمجموع الجملة، كتعلّق حرف النّفي والاستفهام والشّرط والجزاء بما يدخل عليه، وذلك أن من شأن هذه المعاني أن تتناول ما تتناوله، وبعد أن يسند إلى شيء.
معنى ذلك: أنك إذا قلت: «ما خرج زيد»، و «ما زيد خارج»، لم يكن النفي الواقع بها متناولا الخروج على الإطلاق، بل الخروج «2» واقعا من «زيد» ومسندا إليه.
ولا يغرّنّك قولنا في نحو «لا رجل في الدار»: إنها لنفي الجنس، فإن المعنى في ذلك أنها لنفي الكينونة في الدار عن الجنس. ولو كان يتصوّر تعلّق النفي بالاسم
__________
(1) أي: فلا يتعدى بنفسه.
(2) بل كان الخروج.

(1/9)


المفرد، لكان الذي قالوه في كلمة التوحيد من أن التقدير فيها: «لا إله لنا، أو في الوجود، إلّا الله»، فضلا من القول، وتقديرا لما لا يحتاج إليه. وكذلك الحكم أبدا.
وإذا قلت: «هل خرج زيد» لم تكن قد استفهمت عن الخروج مطلقا، ولكن عنه واقعا من «زيد». وإذا قلت: «إن يأتني زيد أكرمه»، لم تكن جعلت الإتيان شرطا، بل الإتيان من «زيد»، وكذا لم تجعل الإكرام على الإطلاق جزاء للإتيان، بل الإكرام واقعا منك. كيف؟ وذلك يؤدي إلى أشنع ما يكون من المحال، وهو أن يكون هاهنا إتيان من غير آت، وإكرام من غير مكرم، ثم يكون هذا شرطا وذلك جزاء.
ومختصر كلّ الأمر أنه لا يكون كلام من جزء واحد، وأنه لا بدّ من مسند ومسند إليه، وكذلك السبيل في كل حرف رأيته يدخل على جملة، كإنّ وأخواتها، ألا ترى أنك إذا قلت: «كأنّ»، يقتضي مشبّها ومشبّها به؟ كقولك: «كأنّ زيدا الأسد». وكذلك إذا قلت «لو» و «لولا»، وجدتهما يقتضيان جملتين، تكون الثّانية جوابا للأولى.
وجملة الأمر أنه لا يكون كلام من حرف وفعل أصلا، ولا من حرف واسم، إلا في النداء نحو: «يا عبد الله»، وذلك إذا حقّق الأمر كان كلاما بتقدير الفعل المضمر الذي هو «أعني» و «أريد» و «أدعو»، و «يا» دليل عليه، وعلى قيام معناه في النفس.
فهذه هي الطرق والوجوه في تعلّق الكلم بعضها ببعض، وهي، كما تراها، معاني النحو وأحكامه.
وكذلك السبيل في كلّ شيء كان له مدخل في صحّة تعلّق الكلم بعضها ببعض، لا ترى شيئا من ذلك يعدو أن يكون حكما من أحكام النحو ومعنى من معانيه، ثم إنّا نرى هذه كلّها موجودة في كلام العرب، ونرى العلم بها مشتركا بينهم.
وإذا كان ذلك كذلك، فما جوابنا لخصم يقول لنا: إذا كانت هذه الأمور وهذه الوجوه من التعلّق التي هي محصول النظم، موجودة على حقائقها وعلى الصحة وكما ينبغي في منثور كلام العرب ومنظومه، ورأيناهم قد استعملوها وتصرّفوا فيها وكملوا بمعرفتها، وكانت حقائق لا تتبدّل ولا يختلف بها الحال؛ إذ لا يكون للاسم- بكونه خبرا لمبتدإ، أو صفة لموصوف، أو حالا لذي حال، أو فاعلا أو مفعولا لفعل في كلام- حقيقة «1» هي خلاف حقيقته في كلام آخر، فما هذا الذي تجدّد بالقرآن من
__________
(1) اسم يكون مرفوع والتقدير (لا يكون حقيقة للاسم).

(1/10)


عظيم المزيّة، وباهر الفضل، والعجيب من الرّصف، حتى أعجز الخلق قاطبة، وحتى قهر من البلغاء والفصحاء القوى «1» والقدر «2»، وقيّد الخواطر والفكر، حتى خرست الشّقاشق «3»، وعدم نطق الناطق، وحتى لم يجر لسان، ولم يبن بيان، ولم يساعد إمكان، ولم ينقدح لأحد منهم زند، ولم يمض له حدّ، وحتى أسال الوادي عليهم عجزا، وأخذ منافذ القول عليهم أخذا؟ أيلزمنا أن نجيب هذا الخصم عن سؤاله، ونردّه عن ضلاله، وأن نطبّ لدائه، ونزيل الفساد عن رائه «4»؟ فإن كان ذلك يلزمنا، فينبغي لكل ذي دين وعقل أن ينظر في الكتاب الذي وضعناه «5»، ويستقصي التأمّل لما أودعناه، فإن علم أنه الطريق إلى البيان، والكشف عن الحجة والبرهان، تبع الحقّ وأخذ به، وإن رأى له طريقا غيره أومأ لنا إليه، ودلّنا عليه، وهيهات ذلك! وهذه أبيات في مثل ذلك:
إنّي أقول مقالا لست أخفيه ... ولست أرهب خصما، إن بدا، فيه
ما من سبيل إلى إثبات معجزة ... في النّظم، إلّا بما أصبحت أبديه «6»
فما لنظم كلام أنت ناظمه ... معنى سوى حكم إعراب تزجّيه «7»
اسم يرى وهو أصل للكلام، فما ... يتمّ من دونه قصد لمنشيه
وآخر هو يعطيك الزّيادة في ... ما أنت تثبته أو أنت تنفيه
تفسير ذلك: أنّ الأصل مبتدأ ... تلقى له خبرا من بعد تثنيه
وفاعل مسند، فعل تقدّمه، ... إليه، يكسبه «8» وصفا ويعطيه
هذان أصلان، لا تأتيك فائدة ... من منطق لم يكونا من مبانيه
وما يزيدك من بعد التّمام، فما ... سلّطت فعلا عليه في تعدّيه
__________
(1) وهي جمع «القوّة». اه اللسان مادة/ قوا/ (15/ 207).
(2) مفردها القدر وهو القوّة. اه اللسان مادة/ قدر/ (5/ 76).
(3) مفردها الشّقشقة: وهي لهاة البعير ولا تكون إلا للعربي منها. وقيل: هو شيء كالرئة يخرجها البعير من فيه إذا هاج والجمع الشقاشق ويقال للفصيح هدرت شقشقته. ومنه سمّي الخطباء شقاشق.
اه اللسان مادة/ شقق/ (10/ 185).
(4) أي: رأيه.
(5) الهاء في قوله: وضعناه عائدة على هذا الكتاب «دلائل الإعجاز».
(6) يريد بذلك نظم القرآن وأسلوبه وفي هذا البيت تصريح بأنه الواضع للفن. اه (عن الشيخ رشيد رضا).
(7) زجّى الشيء تزجية دفعه برفق. اه مختار الصحاح مادة «زجا» (269).
(8) يكسبه: من الثلاثي، ومنه الحديث «تكسب المعدوم» اه الشيخ رشيد رضا.

(1/11)


هذي قوانين تكفي من تشعّبها، ... ما يشبه البحر فيضا من نواجيه
فلست تأتي إلى باب لتعلمه، ... إلّا انصرفت بعجز عن تقصّيه «1»
هذا كذاك، وإن كان الذين ترى ... يرون أنّ المدى دان لباغيه «2»
ثمّ الذي هو قصدي أن يقال لهم، ... بما يجيب الفتى خصما يماريه
نقول: من أين أن لا نظم يشبهه ... وليس من منطق في ذاك يحكيه
وقد علمنا بأنّ النظم ليس سوى ... حكم من النحو نمضي في توخّيه «3»
لو نقّب الأرض باغ غير ذاك له ... معنى، وصعّد «4» يعلو في ترقّيه
ما عاد إلّا بخسر في تطلّبه ... ولا رأى غير غيّ في تبغّيه «5»
ونحن ما إن بثثنا الفكر ننظر في ... أحكامه ونروّي في معانيه
كانت حقائق تلقى العلم مشتركا ... بها، وكلّا تراه نافذا فيه
فليس معرفة من دون معرفة ... في كل ما أنت من باب تسمّيه
ترى تصرّفهم في الكلّ مطّردا ... يجرونه باقتدار في مجاريه
فما الذي زاد في هذا الذي عرفوا ... حتى غدا العجز يهمي «6» سيل واديه
قولوا، وإلّا فأصغوا للبيان تروا ... كالصّبح منبلجا «7» في عين رائيه
الحمد لله وحده، وصلواته على رسوله محمد وآله.
__________
(1) أي: التتبع.
(2) الباغي الطالب، والجمع بغاة وبغيان، وبغيتك الشيء طلبته لك. اه اللسان مادة/ بغا/ (14/ 67).
(3) توخيت الشيء أتوخاه توخّيا إذا قصدت إليه وتعمدت فعله وتحريت فيه. اه اللسان مادة/ وخي/ (15/ 383).
(4) صعّد: بالتشديد ارتقى. اه اللسان مادة «صعد» (3/ 251).
(5) أي تطلبه كما مرّ.
(6) همى الماء والدمع يهمي هميا وهميانا إذا سال. اه الصحاح (2/ 648) مادة «همي».
(7) البلوج الإشراق تقول بلج الصبح يبلج بالضم أي أضاء، وانبلج وتبلّج مثله. اه الصحاح مادة/ بلج/ (1/ 108).

(1/12)


فاتحة المؤلف فى بيان مكانة العلم
بسم الله الرّحمن الرّحيم حسبي ربّي الحمد لله ربّ العالمين حمد الشاكرين، نحمده على عظيم نعمائه، وجميل بلائه، ونستكفيه نوائب الزمان، ونوازل الحدثان «1»، ونرغب إليه في التوفيق والعصمة، ونبرأ إليه من الحول والقوّة ونسأله يقينا يملأ الصّدر، ويعمر القلب، ويستولي على النفس، حتّى يكفّها إذا نزغت «2»، ويردّها إذا تطلّعت، وثقة بأنه عزّ وجلّ الوزر «3»، والكالئ والراعي والحافظ، وأنّ الخير والشّرّ بيده، وأن النّعم كلّها من عنده، وأن لا سلطان لأحد مع سلطانه، نوجّه رغباتنا إليه، ونخلص نيّاتنا في التوكّل عليه، وأن يجعلنا ممن همه الصدق، وبغيته الحقّ، وغرضه الصواب، وما تصحّحه العقول وتقبله الألباب، ونعوذ به من أن ندّعي العلم بشيء لا نعلمه، وأن نسدّي «4» قولا لا نلحمه، وأن نكون ممّن يغرّه الكاذب من الثناء، وينخدع للمتجوّز في الإطراء، وأن يكون سبيلنا سبيل من يعجبه أن يجادل بالباطل، ويموّه
على السامع، ولا يبالي إذا راج عنه القول أن يكون قد خلّط فيه، ولم يسدّد في معانيه، ونستأنف الرغبة إليه عزّ وجلّ في الصلاة على خير خلقه، والمصطفى من بريّته، محمد سيد المرسلين، وعلى أصحابه الخلفاء الراشدين، وعلى آله الأخيار من بعدهم أجمعين.
وبعد فإنّا إذا تصفّحنا الفضائل لنعرف منازلها في الشّرف، ونتبيّن مواقعها من العظم؛ ونعلم أيّ أحقّ منها بالتّقديم، وأسبق في استيجاب التعظيم، وجدنا العلم أولاها بذلك، وأوّلها هنالك؛ إذ لا شرف إلّا وهو السبيل إليه، ولا خير إلّا وهو الدّليل عليه، ولا منقبة «5» إلّا وهو ذروتها وسنامها، ولا مفخرة إلّا وبه صحّتها وتمامها. ولا
__________
(1) حدثان الدهر وحوادثه نوبه وما يحدث منه. اه اللسان مادة/ حدث/ (2/ 132) والحدثان:
الليل والنهار.
(2) نزغ الشيطان بينهم ينزغ نزغا أي أفسد وأغرى. اه الصحاح مادة/ نزغ/ (2/ 556).
(3) الوزر بفتحتين الملجأ. اه مختار الصحاح مادة/ وزر/ (718).
(4) وهي خلاف لحمة الثوب وهو ما يمد طولا في النسج. اه اللسان مادة/ سدى/ (14/ 375).
(5) المنقبة الفعل الكريم وهي ضد المثلبة. اه اللسان مادة/ نقب/ (1/ 768) بتصرف.

(1/13)


حسنة إلّا وهو مفتاحها؛ ولا محمدة إلّا ومنه يتّقد مصباحها، هو «1» الوفيّ إذا خان كلّ صاحب، والثقة إذا لم يوثق بناصح، لو لاه لما بان الإنسان من سائر الحيوان إلّا بتخطيط صورته، وهيئة جسمه وبنيته، لا، ولا وجد إلى اكتساب الفضل طريقا، ولا وجد بشيء من المحاسن خليقا. ذاك لأنّا وإن كنّا لا نصل إلى اكتساب فضيلة إلّا بالفعل، وكان لا يكون فعل إلّا بالقدرة، فإنّا لم نر فعلا زان فاعله وأوجب الفضل له، حتى يكون عن العلم صدره «2»، وحتى يتبيّن ميسمه «3» عليه وأثره. ولم نر قدرة قطّ كسبت صاحبها مجدا وأفادته حمدا، دون أن يكون العلم رائدها فيما تطلب، وقائدها حيث يؤمّ ويذهب، ويكون المصرّف لعنانها «4»؛ والمقلّب لها في ميدانها.
فهي إذن مفتقرة في أن تكون فضيلة إليه، وعيال في استحقاق هذا الاسم عليه، وإذا هي خلت من العلم أو أبت أن تمتثل أمره؛ وتقتفي أثره ورسمه، آلت ولا شيء أحشد للذمّ على صاحبها منها، ولا «شين أشين «5»» من أعماله لها.
فهذا في فضل العلم لا تجد عاقلا يخالفك فيه، ولا ترى أحدا يدفعه أو ينفيه.
فأما المفاضلة بين بعضه وبعض، وتقديم فنّ منه على فنّ، فإنك ترى الناس فيه على آراء مختلفة، وأهواء متعادية، ترى كلّا منهم لحبّه نفسه، وإيثاره أن يدفع النقص عنها، يقدّم ما يحسن من أنواع العلم على ما لا يحسن، ويحاول الزّراية «6» على الذي لم يحظ به، والطّعن على أهله والغضّ منهم، ثم تتفاوت أحوالهم في ذلك، فمن مغمور قد استهلكه هواه، وبعد في الجور مداه، ومن مترجّح فيه بين الإنصاف والظلم، يجور تارة ويعدل أخرى في الحكم، فأمّا من يخلص في هذا المعنى من الحيف حتى لا يقضي إلّا بالعدل، وحتى يصدر في كل أمره عن العقل، فكالشيء الممتنع وجوده. ولم يكن ذلك كذلك، إلا لشرف العلم وجليل محلّه، وأنّ محبته مركوزة في الطباع، ومركّبة في النفوس، وأن الغيرة عليه لازمة للجبلّة، وموضوعة في
__________
(1) أي: العلم.
(2) وهو نقيض الورد. وهو الطريق إلى الماء للارتواء. اه اللسان مادة/ صدر/ (4/ 448).
(3) هو اسم الآلة التي يوسم بها الدواب والجمع مواسم ومياسم. اه اللسان مادة/ وسم/ (12/ 636).
(4) بكسر العين وهو السير الذي تمسك به الداية والجمع أعنّة. اه اللسان مادة/ عنن/ (13/ 291).
(5) هو العيب. اه اللسان مادة/ شين/ (13/ 244).
(6) زريت عليه وزرى عليه بالفتح زريا وزراية: عابه وعاتبه. اه الصحاح مادة/ زري/ (14/ 356).

(1/14)


الفطرة، وأنه لا عيب أعيب عند الجميع من عدمه، ولا ضعة أوضع من الخلوّ عنه، فلم يعاد إذن إلّا من فرط المحبة، ولم يسمح به إلا لشدة الضّنّ.
ثم إنّك لا ترى علما هو أرسخ أصلا، وأبسق «1» فرعا، وأحلى جنى، وأعذب وردا، وأكرم نتاجا، وأنور سراجا، من علم البيان، الذي لولاه لم تر لسانا يحوك الوشي، ويصوغ الحلي، ويلفظ الدّرّ، وينفث السّحر، ويقري الشّهد «2»، ويريك بدائع من الزّهر، ويجنيك الحلو اليانع من الثّمر، والذي لولا تحفّيه بالعلوم، وعنايته بها، وتصويره إيّاها، لبقيت كامنة مستورة، ولما استبنت لها يد الدهر «3» صورة، ولاستمرّ السّرار «4» بأهلّتها، واستولى الخفاء على جملتها، إلى فوائد لا يدركها الإحصاء، ومحاسن لا يحصرها الاستقصاء.
إلّا أنّك لن ترى على ذلك نوعا من العلم قد لقي من الضّيم ما لقيه، ومني من الحيف بما مني به، ودخل على الناس من الغلط في معناه ما دخل عليهم فيه، فقد سبقت إلى نفوسهم اعتقادات فاسدة وظنون رديّة، وركبهم فيه جهل عظيم وخطأ فاحش، ترى كثيرا منهم لا يرى له معنى أكثر ممّا يرى للإشارة بالرأس والعين، وما يجده للخطّ والعقد «5»، يقول: إنّما هو خبر واستخبار، وأمر ونهي، ولكل من ذلك لفظ قد وضع له، وجعل دليلا عليه، فكل من عرف أوضاع لغة من اللغات، عربية كانت أو فارسية، وعرف المغزى من كلّ لفظة، ثم ساعده اللسان على النطق بها، وعلى تأدية أجراسها وحروفها، فهو بين في تلك اللغة، كامل الأداة، بالغ من البيان المبلغ الذي لا مزيد عليه،
منته إلى الغاية التي لا مذهب بعدها. يسمع الفصاحة والبلاغة والبراعة فلا يعرف لها معنى سوى الإطناب في القول، وأن يكون المتكلم في ذلك جهير الصوت، جاري اللسان، لا تعترضه لكنة «6»، ولا تقف به حبسة «7»،
__________
(1) بسق النخل بسوقا أي طال. اه الصحاح مادة/ بسق/ (1/ 93).
(2) وهو العسل ما دام لم يعصر من شمعه واحدته شهدة. اه اللسان مادة/ شهد/ (3/ 243).
(3) وهي الأبد وقولهم: لا أفعله يد الدهر أي: أبدا.
(4) بفتح السين وكسرها آخر ليلة في الشهر وتقول: استسر القمر أي خفي ليلة السرار. اه اللسان مادة/ سرر/ بتصرف (4/ 357).
(5) قال في اللسان: قال الحربي: الخط هو أن يخط ثلاثة خطوط ثم يضرب عليهن بشعير أو نوى ويقول: يكون كذا وكذا وهو ضرب من الكهانة. اه اللسان مادة/ خطط/ (7/ 288). والعقد:
التفاهم بعقد الأصابع.
(6) اللكنة: هي عجمة في اللسان وعيّ. اه. اللسان مادة/ لكن/ (13/ 390).
(7) وهي تعذر الكلام عند إرادته. اه اللسان. مادة/ حبس/ (6/ 46).

(1/15)


وأن يستعمل اللفظ الغريب، والكلمة الوحشيّة، فإن استظهر للأمر وبالغ في النظر، فأن لا يلحن فيرفع في موضع النصب، أو يخطئ فيجيء باللفظة على غير ما هي عليه في الوضع اللغويّ، وعلى خلاف ما ثبتت به الرواية عن العرب.
وجملة الأمر أنه لا يرى النقص يدخل على صاحبه في ذلك، إلّا من جهة نقصه في علم اللغة، لا يعلم أن هاهنا دقائق وأسرارا طريق العلم بها الرّويّة والفكر، ولطائف مستقاها العقل، وخصائص معان ينفرد بها قوم قد هدوا إليها، ودلّوا عليها، وكشف لهم عنها، ورفعت الحجب بينهم وبينها، وأنّها السبب في أن عرضت المزيّة في الكلام، ووجب أن يفضل بعضه بعضا، وأن يبعد الشأو في ذلك، وتمتدّ الغاية، ويعلو المرتقى، ويعزّ المطلب، حتّى ينتهي الأمر إلى الإعجاز، وإلى أن يخرج من طوق البشر.
ولما لم تعرف هذه الطائفة هذه الدقائق، وهذه الخواصّ واللطائف، لم تتعرّض لها ولم تطلبها، ثمّ عنّ لها بسوء الاتفاق رأي صار حجازا بينها وبين العلم بها وسدّا دون أن تصل إليها وهو أن ساء اعتقادها في الشعر الذي هو معدنها، وعليه المعوّل فيها، وفي علم الإعراب الذي هو لها كالناسب الذي ينميها إلى أصولها، ويبيّن فاضلها من مفضولها، فجعلت تظهر الزّهد في كل واحد من النوعين، وتطرح كلّا من الصنفين، وترى التشاغل عنهما أولى من الاشتغال بهما، والإعراض عن تدبرهما أصوب من الإقبال على تعلّمهما.
أما الشّعر فخيّل إليها أنه ليس فيه كثير طائل، وأن ليس إلّا ملحة «1» أو فكاهة، أو بكاء منزل أو وصف طلل، أو نعت ناقة أو جمل، أو إسراف قول في مدح أو هجاء، وأنه ليس بشيء تمسّ الحاجة إليه في صلاح دين أو دنيا.
وأما النّحو، فظنّته ضربا من التكلّف، وبابا من التعسّف، وشيئا لا يستند إلى أصل، ولا يعتمد فيه على عقل، وأنّ ما زاد منه على معرفة الرّفع والنّصب وما يتّصل بذلك مما تجده في المبادئ، فهو فضل لا يجدي نفعا، ولا تحصل منه على فائدة، وضربوا له المثل بالملح كما عرفت «2»، إلى أشباه لهذه الظنون في القبيلين، وآراء لو علموا مغبّتها وما تقود إليه؛ لتعوّذوا بالله منها، ولأنفوا لأنفسهم من الرّضا بها، ذاك
__________
(1) وهي الكلمة الطيبة وهي المليحة. اه اللسان. مادة/ ملح/ (2/ 602).
(2) وهو قولهم: «النحو في الكلام كالملح في الطعام». إذ المعنى أن الكلام لا يستقيم ولا تحصل منافعه التي هي الدلالات على المقاصد إلّا بمراعاة أحكام النحو من الإعراب والترتيب الخاص.

(1/16)


لأنه بإيثارهم الجهل بذلك على العلم، في معنى الصادّ عن سبيل الله، والمبتغي إطفاء نور الله تعالى.
وذاك أنّا إذا كنّا نعلم- أن الجهة التي منها قامت الحجة بالقرآن وظهرت، وبانت وبهرت، هي أن كان على حدّ من الفصاحة تقصر عنه قوى البشر، ومنتهيا إلى غاية لا يطمح إليها بالفكر، وكان محالا أن يعرف كونه كذلك، إلّا من عرف الشّعر الذي هو ديوان العرب، وعنوان الأدب، والذي لا يشكّ أنّه كان ميدان القوم إذا تجاروا في الفصاحة والبيان، وتنازعوا فيهما قصب الرّهان، ثم بحث عن العلل التي بها كان التباين في الفضل، وزاد بعض الشعر على بعض- كان الصّادّ «1» عن ذلك صادّا عن أن تعرف حجة الله تعالى، وكان مثله مثل من يتصدّى للناس فيمنعهم عن أن يحفظوا كتاب الله تعالى ويقوموا به ويتلوه ويقرءوه، ويصنع في الجملة صنيعا يؤدّي إلى أن يقلّ حفّاظه والقائمون به والمقرءون له. ذاك لأنّا لم نتعبّد بتلاوته وحفظه، والقيام بأداء لفظه على النّحو الذي أنزل عليه، وحراسته من أن يغيّر ويبدّل، إلّا لتكون الحجة به قائمة على وجه الدهر، تعرف في كل زمان، ويتوصّل إليها في كل أوان، ويكون سبيلها سبيل سائر العلوم التي يرويها الخلف عن السّلف، ويأثرها الثاني عن الأوّل، فمن حال بيننا وبين ما له كان حفظنا إيّاه، واجتهادنا في أن نؤدّيه ونرعاه، كان كمن رام أن ينسيناه جملة ويذهبه من قلوبنا دفعة، فسواء من منعك الشيء الذي تنتزع منه الشاهد والدليل، ومن منعك السبيل إلى انتزاع تلك الدلالة، والاطّلاع على تلك الشهادة، ولا فرق بين من أعدمك الدواء الذي تستشفى به من دائك، وتستبقي به حشاشة نفسك، وبين من أعدمك العلم بأنّ فيه شفاء، وأنّ لك فيه استبقاء.
فإن قال منهم قائل: إنك قد أغفلت فيما رتّبت، فإنّ لنا طريقا إلى إعجاز القرآن غير ما قلت، وهو علمنا بعجز العرب عن أن يأتوا بمثله وتركهم أن يعارضوه، مع تكرار
التّحدّي عليهم، وطول التقريع لهم بالعجز عنه «2». ولأن الأمر كذلك، ما «3» قامت به الحجّة على العجم قيامها على العرب، واستوى الناس قاطبة، فلم يخرج الجاهل بلسان العرب من أن يكون محجوجا بالقرآن.
قيل له: خبرنا عما اتّفق عليه المسلمون من اختصاص نبيّنا صلى الله عليه وسلم بأن كانت
__________
(1) قوله: كان الصاد. جواب إذا في قوله: «وذاك أنّا إذا كنا نعلم» في بداية الفقرة.
(2) مثال ذلك قوله تعالى في سورة الإسراء الآية (17): قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً.
(3) ما هنا مصدرية.

(1/17)


معجزته باقية على وجه الدهر، أتعرف له معنى غير أن لا يزال البرهان منه لائحا معرضا لكل من أراد العلم به، وطلب الوصول إليه، والحجة فيه وبه ظاهرة لمن أرادها، والعلم بها ممكنا لمن التمسه؟ فإذا كنت لا تشك في أن لا معنى لبقاء المعجزة بالقرآن إلّا أنّ الوصف الذي له كان معجزا قائم فيه أبدا، وأنّ الطريق إلى العلم به موجود، والوصول إليه ممكن، فانظر أيّ رجل تكون إذا أنت زهدت في أن تعرف حجّة الله تعالى، وآثرت فيه الجهل على العلم، وعدم الاستبانة على وجودها، وكان التقليد فيها أحبّ إليك، والتعويل على علم غيرك آثر لديك، ونحّ الهوى عنك، وراجع عقلك، واصدق نفسك، يبن لك فحش الغلط فيما رأيت، وقبح الخطأ في الذي توهّمت. وهل رأيت رأيا أعجز، واختيارا أقبح، ممّن كره أن تعرف حجة الله تعالى من الجهة التي إذا عرفت منها كانت أنور وأبهر، وأقوى وأقهر، وآثر أن لا يقوى سلطانها على الشّرك كلّ القوة، ولا تعلو على الكفر كل العلوّ؟ والله المستعان.