دلائل الإعجاز ت هنداوي [فصل: في ترجيح
الكناية والاستعارة والتمثيل على الحقيقة]
قد أجمع الجميع على أن «الكناية» أبلغ من الإفصاح، والتعريض
أوقع من التصريح، وأنّ للاستعارة مزية وفضلا، وأنّ المجاز أبدا
أبلغ من الحقيقة، إلّا أن ذلك، وإن كان معلوما على الجملة،
فإنه لا تطمئن نفس العاقل في كل ما يطلب العلم به حتى يبلغ فيه
غايته، وحتى يغلغل الفكر إلى زواياه، وحتى لا يبقى عليه موضع
شبهة ومكان مسألة. فنحن وإن كنا نعلم أنك إذا قلت: «هو طويل
النجاد، وهو جمّ الرماد»، كان أبهى لمعناك، وأنبل من أن تدع
الكناية وتصرح بالذي تريد. وكذا إذا قلت: «رأيت أسدا»، كان
لكلامك مزيّة لا تكون إذا قلت: رأيت رجلا هو والأسد سواء، في
معنى الشجاعة وفي قوة القلب وشدة البطش وأشباه ذلك. وإذا قلت:
«بلغني أنك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى»، كان أوقع من صريحه «1»
الذي هو قولك:
بلغني أنك تتردد في أمرك، وأنك في ذلك كمن يقول: أخرج ولا
أخرج، فتقدّم رجلا وتؤخّر أخرى. ونقطع على ذلك حتى لا يخالجنا
شك فيه، فإنما تسكن أنفسنا تمام السكون، إذا عرفنا السبب في
ذلك والعلّة، ولم كان كذلك، وهيأنا له عبارة تفهم عنّا من نريد
إفهامه. وهذا هو قول في ذلك:
__________
(1) كان أوقع من صريحه: جملة لجواب الشرط وهو قوله «وإن كنا
نعلم».
(1/53)
اعلم أنّ سبيلك أوّلا أن تعلم أن ليست
المزيّة- التي تثبتها لهذه الأجناس على الكلام المتروك على
ظاهره، والمبالغة التي تدّعي لها- في أنفس المعاني التي يقصد
المتكلم إليها بخبره، ولكنها في طريق إثباته لها وتقريره
إياها.
تفسير هذا: أن ليس المعنى إذا قلنا: «إن الكناية أبلغ من
التصريح»، أنّك لمّا كنيت عن المعنى زدت في ذاته، بل المعنى
أنك زدت في إثباته، فجعلته أبلغ وآكد وأشدّ. فليست المزيّة في
قولهم: «جمّ الرماد»، أنه دلّ على قرى أكثر، بل أنّك أثبتّ له
القرى الكثير من وجه هو أبلغ، وأوجبته إيجابا هو أشدّ،
وادّعيته دعوى أنت بها أنطق، وبصحّتها أوثق.
وكذلك ليست المزية التي تراها لقولك: «رأيت أسدا»، على قولك:
رأيت رجلا لا يتميّز عن الأسد في شجاعته وجرأته أنك قد أفدت
بالأوّل زيادة في مساواته الأسد، بل أن أفدت «1» تأكيدا
وتشديدا وقوة في إثباتك له هذه المساواة، وفي تقريرك لها. فليس
تأثير الاستعارة إذن في ذات المعنى وحقيقته، بل في إيجابه
والحكم به.
وهكذا قياس «التّمثيل»، ترى المزيّة أبدا في ذلك تقع في طريق
إثبات المعنى دون المعنى نفسه. فإذا سمعتهم يقولون: إنّ من شأن
هذه الأجناس أن تكسب المعاني نبلا وفضلا، توجب لها شرفا، وأن
تفخّمها في نفوس السامعين، وترفع أقدارها عند المخاطبين، فإنهم
لا يريدون الشجاعة والقرى وأشباه ذلك من معاني الكلم المفردة،
وإنما يعنون إثبات معاني هذه الكلم لمن تثبت له ويخبر بها عنه.
هذا ما ينبغي للعاقل أن يجعله على ذكر منه أبدا، وأن يعلم أن
ليس لنا- إذا نحن تكلمنا في البلاغة والفصاحة- مع معاني الكلم
«2» المفردة شغل، ولا هي منا بسبيل، وإنّما نعمد إلى الأحكام
التي تحدث بالتأليف والتركيب. وإذ قد عرفت مكان هذه المزيّة
والمبالغة التي لا تزال تسمع بها، وأنها في الإثبات دون
المثبت، فإنّ لها في كل واحد من هذه الأجناس سببا وعلة.
أما «الكناية»، فإنّ السبب في أن كان للإثبات بها مزيّة لا
تكون للتصريح، أنّ كل عاقل يعلم إذا رجع إلى نفسه، أنّ إثبات
الصفة بإثبات دليلها، وإيجابها بما هو شاهد في وجودها، آكد
وأبلغ في الدّعوى من أن تجيء إليها فتثبتها هكذا ساذجا
__________
(1) المعنى: «أن تعلم أن ليست المزية ... في أنفس المعاني».
(2) المعنى: «أن ليس لنا ... مع معاني الكلم».
(1/54)
غفلا. وذلك أنك لا تدّعي شاهد الصفة ودليلها إلّا والأمر ظاهر
معروف، وبحيث لا يشكّ فيه، ولا يظنّ بالمخبر التجوّز والغلط.
وأمّا «الاستعارة»، فسبب ما ترى لها من المزيّة والفخامة، أنك
إذا قلت:
«رأيت أسدا»، كنت قد تلطّفت لما أردت إثباته له من فرط
الشجاعة، حتى جعلتها كالشيء الذي يجب له الثّبوت والحصول،
وكالأمر الذي نصب له دليل يقطع بوجوده. وذلك أنه إذا كان أسدا،
فواجب أن تكون له تلك الشجاعة العظيمة، وكالمستحيل أو الممتنع
أن يعرى عنها. وإذا صرّحت بالتشبيه فقلت: «رأيت رجلا كالأسد»،
وكنت قد أثبتها إثبات الشيء يترجّح بين أن يكون وبين أن لا
يكون، ولم يكن من حديث الوجوب في شيء.
وحكم «التمثيل»، حكم «الاستعارة» سواء، فإنك إذا قلت: «أراك
تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى»، فأوجبت له الصورة التي يقطع معها
بالتحيّر والتردد، كان أبلغ لا محالة من أن تجري على الظاهر.
فتقول: قد جعلت تتردّد في أمرك، فأنت كمن يقول: أخرج ولا أخرج،
فيقدّم رجلا ويؤخّر أخرى. |