دلائل الإعجاز ت هنداوي [فصل: في تفاوت
الكناية والاستعارة والتمثيل]
اعلم أنّ من شأن هذه الأجناس أن تجري فيها الفضيلة، وأن تتفاوت
التفاوت الشديد. أفلا ترى أنك تجد في الاستعارة العاميّ
المبتذل، كقولنا: «رأيت أسدا، ووردت بحرا، ولقيت بدرا».
والخاصّيّ النادر الذي لا تجده إلّا في كلام الفحول، ولا يقوى
عليه إلّا أفراد الرجال، كقوله: [من الطويل] وسالت بأعناق
المطيّ الأباطح «1» أراد أنها سارت سيرا حثيثا في غاية السرعة،
وكانت سرعة في لين وسلاسة، حتى كأنها كانت سيولا وقعت في تلك
الأباطح فجرت بها.
ومثل هذه الاستعارة في الحسن واللّطف وعلوّ الطبقة في هذه
اللفظة بعينها قول الآخر: [من البسيط]
__________
(1) البيت لكثير عزة في ديوانه وصدره:
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وفي زهر الآداب (ص 349)، وبلا
نسبة في اللسان (طرف)، وفي الإيضاح (264)، وعروس الأفراح
كلاهما بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي، وأساس البلاغة (سيل)،
وتاج العروس (طرف) ومعجم البلدان (منى). والأبطح: مسيل واسع
فيه دقاق الحصى. اللسان (بطح).
(1/55)
سالت عليه شعاب الحيّ حين دعا ... أنصاره،
بوجوه كالدّنانير «1»
أراد أنّه مطاع في الحيّ، وأنهم يسرعون إلى نصرته، وأنه لا
يدعوهم لحرب أو نازل خطب، إلا أتوه وكثروا عليه، وازدحموا
حواليه، حتى تجدهم كالسيول تجيء من هاهنا وهاهنا، وتنصبّ من
هذا المسيل وذلك، حتى يغصّ به الوادي ويطفح منها.
ومن بديع الاستعارة ونادرها، إلا أنّ جهة الغرابة فيه غير
جهتها في هذا، قول يزيد بن مسلمة بن عبد الملك يصف فرسا له،
وأنّه مؤدّب، وأنه إذا نزل عنه وألقى عنانه في قربوس سرجه، وقف
مكانه إلى أن يعود إليه: [من الكامل]
عوّدته فيما أزور حبائبي ... إهماله، وكذاك كلّ مخاطر
وإذا اختبى قربوسه بعنانه ... علك الشّكيم إلى انصراف الزّائر
«2»
فالغرابة هاهنا في الشبه نفسه، وفي أن استدرك أنّ هيئة العنان
في موقعه من قربوس السرج، كالهيئة في موضع الثّوب من ركبة
المحتبي.
وليست الغرابة في قوله: [من الطويل] وسالت بأعناق المطيّ
الأباطح «3» على هذه الجملة «4»، وذلك أنه لم يغرب لأن جعل
المطيّ في سرعة سيرها وسهولته كالماء يجري في الأبطح، فإنّ هذا
شبه معروف ظاهر، ولكن الدّقة واللطف في خصوصيّة أفادها، بأن
جعل «سال» فعلا للأباطح، ثم عدّاه بالباء، بأن أدخل الأعناق في
البين،: فقال «بأعناق المطيّ»، ولم يقل: «بالمطيّ»، ولو قال:
«سالت المطيّ في الأباطح»، لم يكن شيئا.
وكذلك الغرابة في البيت الآخر، ليس في مطلق معنى «سال»، ولكن
في تعديته
__________
(1) هو لابن المعتز في الإيضاح (265)، وينسب أيضا إلى محرز بن
المكعبر، ولد حاجة بن عبد قيس التيمي، وهو بلا نسبة في أساس
البلاغة (سهل)، وقيل: لسبيع بن الخطيم التيمي، وانظر المؤتلف
والمختلف للآمدي (112).
(2) البيتان ليزيد بن مسلمة، والثاني منهما في عروس الأفراح،
والإيضاح (264)، والقربوس: حنو السّرج، وجمعه: قرابيس، والشكيم
والشكيمة في اللجام: الحديدة المعترضة في فم الفرس. اه
القاموس/ شكم/ (1455).
(3) سبق تخريجه.
(4) يعني على هذا الوجه والمعنى.
(1/56)
بعلى والباء، وبأن جعله فعلا لقوله «شعاب
الحيّ»، ولولا هذه الأمور كلّها لم يكن هذا الحسن. وهذا موضع
يدقّ الكلام فيه.
وهذه أشياء من هذا الفنّ: [من البسيط]
اليوم يومان مذ غيّبت عن بصري، ... نفسي فداؤك، ما ذنبي فأعتذر
أمسي وأصبح لا ألقاك، وا حزنا، ... لقد تأنّق في مكروهي القدر
سوار بن المضرّب، وهو لطيف جدّا: [من الوافر]
بعرض تنوفة للرّيح فيها ... نسيم لا يروع التّرب وان «1»
بعض الأعراب: [من الكامل]
ولربّ خصم جاهدين ذوي شذا ... تفذي صدورهم بهتر هاتر «2»
لدّ ظأرتهم على ما ساءهم ... وخسأت باطلهم بحقّ ظاهر «3»
المقصود لفظ: «خسأت».
ابن المعتز: [من الرجز]
حتّى إذا ما عرف الصّيد الضّار ... وأذن الصّبح لنا في الإبصار
«4»
المعنى: حتى إذا تهيأ لنا أن نبصر شيئا لمّا كان تعذّر الإبصار
منعا من الليل، جعل إمكانه عند ظهور الصبح إذنا من الصّبح.
وله: [من المجزوء الموافر]
بخيل قد بليت به ... يكدّ الوعد بالحجج «5»
__________
(1) البيت من قصيدة له في الأصمعيات رقم (91)، وجاء برواية
لفظها:
بكل تنوفة للريح فيها ... حفيف لا يروع الترب وان
في الإيضاح (264)، وفي لسان العرب لجحدر اليماني (ونى)، وتاج
العروس (ونى).
(2) البيت لثعلبة بن صعير المازني في لسان العرب (خصم) برواية:
ولرب خصم قد شهدت ألدّة ... تغلي ......... هاتر
وهو في تاج العروس (خصم). وقول هتر: كذب، والهتر: بالكسر:
السقط من الكلام والخطأ فيه.
ويقال: هتر هاتر وهو توكيد له.
(3) انظر السابق في المفضليات رقم (24)، ولدّه: خصمه فهو لادّ
ولدود، والخصم الشحيح والجمع لدّ ولداد. انظر القاموس المحيط
(لدد). وظأرتهم: عطفتهم على الصلح، الجوهري: في المثل:
الطعن يظئره: أي يعطفه على الصلح والظئار: أن تعطف الناقة على
ولدها. اللسان (ظأر).
(4) في الإيضاح. وانصار أي انضم وانجمع يصف بازي الصيد. وجاءت
كلمة «انصار» في نسخة «الضار» يعني «الضاري» وهو الكلب.
(5) البيت لابن المعتز في ديوانه وروايته:
بخيل قد سقيت به ... يكدّ الوعد باللّجج
واللجج: التمادي في العناد.
(1/57)
وله: [من الطويل]
يناجيني الإخلاف من تحت مطله ... فتختصم الآمال واليأس في صدري
«1»
وممّا هو في غاية الحسن، وهو من الفنّ الأول، قول الشاعر أنشده
الجاحظ:
[من الطويل]
لقد كنت في قوم عليك أشحّة ... بنفسك، إلّا أنّ ما طاح طائح
يودّون لو خاطوا عليك جلودهم، ... ولا تدفع الموت النّفوس
الشّحائح «2»
قال: وإليه ذهب بشار في قوله: [من الرجز]
وصاحب كالدّمّل الممدّ ... حملته في رقعة من جلدي «3»
ومن سرّ هذا الباب، أنك ترى اللفظة المستعارة قد استعيرت في
عدة مواضع، ثم ترى لها في بعض ذلك ملاحة لا تجدها في الباقي.
مثال ذلك أنك تنظر إلى لفظة «الجسر» في قول أبي تمام: [من
البسيط]
لا يطمع المرء أن يجتاب لجّته ... بالقول ما لم يكن جسرا له
العمل «4»
وقوله: [من البسيط]
بصرت بالرّاحة العظمى فلم ترها ... تنال إلّا على جسر من
التّعب «5»
فترى لها في الثاني حسنا لا تراه في الأول، ثم تنظر إليها في
قول ربيعة الرّقيّ:
[من البسيط]
__________
(1) البيت في ديوانه برواية:
تجاذبني الأطراف بالوصل والقلى ... فتختصم الآمال واليأس في
الصدر
والقلى: البغض.
(2) البيت الثاني منهما للنطاح وهو في تاج العروس برواية:
«بودّي» بدلا من «يودّون»، انظر التاج (ودد). والبيتان في
البيان والتبيين (1/ 50)، وقال: «ذهب إلى قول الأغر الشاعر»
وأنشد البيتين.
وطاح: هلك وسقط، والطائح: الهالك المشرف على الهلاك. اللسان
(طوح).
(3) في ديوانه، وفي البيان (1/ 50). والدّمّل: واحد دماميل
القروح، والممدّ: الجرح فيه مدّة، وأمدّ الجرح يمدّ إمدادا:
صارت فيه مدة. اللسان (دمل)، (مدد).
(4) في ديوانه، وروايته: «أن يجتاب غمرته» ويروى «ويجتاز
غمرته» وجاب الشيء جوبا واجتابه:
خرقه، ورجل جوّاب: معتاد لذلك إذا كان قطاعا للبلاد سيارا
فيها. اللسان (جوب). واللّجة من لجّ يلجّ، ولجّة البحر: حيث لا
يدرك قعره. ولج الوادي: جانبه، ولج البحر: عرضه، قيل: ولج
البحر: الماء الكثير الذي لا يرى طرفاه، واللّجّ: السيف تشبيها
بلجّ البحر.
(5) في ديوانه برواية: بالراحة الكبرى» والراحة والرّويحة
بمعنى واحد. قيل: قعدنا في الظل نلتمس الراحة، والراحة: الكف
وجمعها «راح»، انظر اللسان (روح).
(1/58)
قولي نعم، ونعم إن قلت واجبة ... قالت: عسى
وعسى جسر إلى نعم
فترى لها لطفا وخلابة «1» وحسنا ليس الفضل فيه بقليل.
ومما هو أصل في شرف الاستعارة، أن ترى الشاعر قد جمع بين عدّة
استعارات، قصدا إلى أن يلحق الشكل بالشكل، وأن يتمّ المعنى
والشّبه فيما يريد، مثاله قوله امرئ القيس: [من الطويل]
فقلت له لمّا تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل «2»
لما جعل للّيل صلبا قد تمطّى به، ثنّى ذلك فجعل له أعجازا قد
أردف بها الصّلب، وثلّث فجعل له كلكلا قد ناء به، فاستوفى له
جملة أركان الشّخص، وراعى ما يراه الناظر من سواده، إذا نظر
قدّامه، وإذا نظر إلى خلفه، وإذا رفع البصر ومدّه في عرض
الجوّ.
واعلم أن هاهنا أسرارا ودقائق، لا يمكن بيانها إلّا بعد أن
تقدّم جملة من القول في «النظم» وفي تفسيره والمراد منه، وأيّ
شيء هو؟ وما محصوله ومحصول الفضيلة فيه؟ فينبغي لنا أن نأخذ في
ذكره، وبيان أمره، وبيان المزيّة التي تدّعى له من أين تأتيه؟
وكيف تعرض فيه؟ وما أسباب ذلك وعلله؟ وما الموجب له؟
وقد علمت إطباق العلماء على تعظيم شأن «النظم» وتفخيم قدره،
والتنويه بذكره، وإجماعهم أن لا فضل مع عدمه، ولا قدر لكلام
إذا هو لم يستقم له، ولو بلغ في غرابة معناه ما بلغ، وبتّهم
«3» الحكم بأنه الذي لا تمام دونه، ولا قوام إلّا به، وأنه
القطب الذي عليه المدار، والعمود الذي به الاستقلال. وما كان
بهذا المحلّ من الشّرف، وفي هذه المنزلة من الفضل، وموضوعا هذا
الموضع من المزيّة، وبالغا هذا المبلغ من الفضيلة، كان حري بأن
توقظ له الهمم، وتوكّل به النفوس، وتحرّك له الأفكار، وتستخدم
فيه الخواطر، وكان «4» العاقل جديرا أن لا يرضى من نفسه بأن
__________
(1) أن تخلب المرأة قلب الرجل بألطف القول وأخلبه. ا. هـ
اللسان/ خلب/ (1/ 364) والخلابة استخدمها المؤلف على المجاز.
(2) انظر معلقته المشهورة في ديوانه (ص 117)، وجاء بلفظ
«بجوزه» بدلا من «بصلبه» والبيت في الإيضاح بتحقيق د. هنداوي
(ص 265)، والتبيان للطيبي بتحقيقنا كذلك (ص 320). يقال:
ناء بحمله ينوء نوءا: نهض بجهد ومشقة ومنها قوله تعالى: ما
إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ.
والكلكل: الصدر. والبيت في وصف «ليل المهموم».
(3) معطوفة على «إطباق العلماء»، والبتّ: القطع.
(4) معطوف على: «كان حري».
(1/59)
يجد فيه سبيلا إلى مزيّة علم، وفضل
استبانة، وتلخيص حجّة «1»، وتحرير دليل، ثمّ يعرض عن ذلك صفحا،
ويطوي دونه كشحا «2»، وأن يربأ بنفسه «3»، وتدخل عليه الأنفة
من أن يكون في سبيل المقلّد الذي لا يبتّ حكما، ولا يقتل الشيء
علما، ولا يجد ما يبرئ من الشبهة، ويشفى غليل الشاكّ، وهو
يستطيع أن يرتفع عن هذه المنزلة، ويباين من هو بهذه الصفة،
فإنّ ذلك دليل ضعف الرأي وقصر الهمّة ممن يختاره ويعمل عليه.
اعلم أن ليس «النّظم» إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه «علم
النحو»، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا
تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك، فلا تخلّ بشيء منها.
وذلك أنا لا نعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في
وجوه كل باب وفروقه، فينظر في «الخبر» إلى الوجوه التي تراها
في قولك: «زيد منطلق» و «زيد ينطلق»، و «ينطلق زيد» و «منطلق
زيد»، و «زيد المنطلق» و «المنطلق زيد» و «زيد هو المنطلق»، و
«زيد هو منطلق».
وفي «الشرط والجزاء» إلى الوجوه التي تراها في قولك: «إن تخرج
أخرج» و «إن خرجت خرجت» و «إن تخرج فأنا خارج» و «أنا خارج إن
خرجت» و «أنا إن خرجت خارج».
وفي «الحال» إلى الوجوه التي تراها في قولك: «جاءني زيد
مسرعا»، وجاءني يسرع»، و «جاءني وهو مسرع أو وهو يسرع» و
«جاءني قد أسرع» و «جاءني وقد أسرع».
فيعرف لكلّ من ذلك موضعه، ويجيء به حيث ينبغي له.
وينظر في «الحروف» التي تشترك في معنى، ثم ينفرد كل واحد منها
بخصوصية في ذلك المعنى، فيضع كلّا من ذلك في خاص معناه، نحو أن
يجيء ب «ما» في نفس الحال، ب
«لا» إذا أراد نفي الاستقبال، وب «إن» فيما يترجح بين أن يكون
وأن لا يكون، وب «إذا» فيما علم أنه كائن.
وينظر في «الجمل» التي تسرد، فيعرف موضع الفصل فيها من موضع
الوصل،
__________
(1) أي: شرحها وبيانها.
(2) وهو ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف وطوى كشحه على الأمر:
أضمره وستره. القاموس/ كشح/ (305).
(3) قوله: وأن يربأ بنفسه. جملة معطوفة على: (أن لا يرضى من
نفسه).
(1/60)
ثم يعرف فيما حقّه الوصل موضع «الواو» من
موضع «الفاء»، وموضع «الفاء» من موضع «ثم»، وموضع «أو» من موضع
«أم»، وموضع «لكن» من موضع «بل».
ويتصرّف في التعريف، والتنكير، والتقديم، والتأخير، في الكلام
كله، وفي الحذف، والتكرار، والإضمار، والإظهار، فيصيب بكلّ من
ذلك مكانه، ويستعلمه على الصّحة وعلى ما ينبغي له.
هذا هو السبيل، فلست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا،
وخطؤه إن كان خطأ إلى «النظم»، ويدخل تحت هذا الاسم، إلّا وهو
معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه، ووضع في حقه، أو عومل
بخلاف هذه المعاملة، فأزيل عن موضعه، واستعمل في غير ما ينبغي
له، فلا ترى كلاما قد وصف بصحّة نظم أو فساده، أو وصف بمزيّة
وفضل فيه، إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك
المزية وذلك الفضل، إلى معاني النحو وأحكامه، ووجدته يدخل في
أصل من أصوله، ويتّصل بباب من أبوابه.
هذه جملة لا تزداد فيها نظرا، إلا ازددت لها تصوّرا، وازدادت
عندك صحة، وازددت بها ثقة. وليس من أحد تحرّكه لأن يقول في أمر
«النظم» شيئا، إلا وجدته قد اعترف لك بها أو ببعضها، ووافق
فيها درى ذلك أو لم يدر. ويكفيك أنّهم قد كشفوا عن وجه ما
أردناه حيث ذكروا فساد «النظم»، فليس من أحد يخالف في نحو قول
الفرزدق: [من الطويل]
وما مثله في النّاس إلّا مملّكا ... أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه
«1»
وقول المتنبي: [من الكامل]
ولذا اسم أغطية العيون جفونها ... من أنّها عمل السّيوف عوامل
«2»
وقوله: [من الكامل]
الطّيب أنت إذا أصابك طيبه، ... والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل
«3»
__________
(1) البيت في ديوانه يمدح فيه هشام بن عبد الملك بن مروان أحد
ملوك بني أمية، وخاله الممدوح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل
المخزومي. انظر اللسان (ملك)، ومعاهد التنصيص (1/ 43)، وهو بلا
نسبة في الخصائص (1/ 146، 329)، (2/ 393).
(2) في ديوانه فانظره، ضمير أنها للعيون، أي: أنها تعمل عمل
السيوف، ولذا سميت أغطية العيون جفونا، والجفون: أغماد السيوف،
أي: لأنها تعمل عمل السيوف.
(3) في ديوانه، والمعنى: إذا أصابك الطيب يتنشق طيبك لأنك أنت
طيبة، وإذا اغتسلت بالماء فأنت الغاسل له.
(1/61)
وقوله: [من الطويل]
وفاؤكما كالرّبع أشجاه طاسمه ... بأن تسعدا، والدّمع أشفاه
ساجمه «1»
وقول أبو تمام: [من الكامل]
ثانيه كبد السّماء، ولم يكن ... كاثنين ثان إذ هما في الغار
«2»
وقوله: [من البسيط]
يدي لمن شاء رهن لم يذق جرعا ... من راحتيك درى ما الصّاب
والعسل «3»
وفي نظائر ذلك «4» مما وصفوه بفساد النظم، وعابوه من جهة سوء
التأليف، أن الفساد والخلل كانا من أن تعاطى الشاعر ما تعاطاه
من هذا الشأن على غير الصواب، وصنع في تقديم أو تأخير، أو حذف
وإضمار، أو غير ذلك مما ليس له أن يصنعه، وما لا يسوغ ولا يصحّ
على أصول هذا العلم. وإذا ثبت أن سبب فساد النظم واختلاله، أن
لا يعمل بقوانين هذا الشأن، ثبت أنّ سبب صحّته أن يعمل عليها،
ثم إذا ثبت أنّ مستنبط صحّته وفساده من هذا العلم، ثبت أن
الحكم كذلك في مزيّته والفضيلة التي تعرض فيه، وإذا ثبت جميع
ذلك، ثبت أن ليس هو شيئا غير توخّي معاني هذا العلم وأحكامه
فيما بين الكلم، والله الموفق للصواب.
وإذ قد عرفت ذلك، فاعمد إلى ما تواصفوه بالحسن، وتشاهدوا له
بالفضل، ثمّ جعلوه كذلك من أجل «النظم» خصوصا، دون غيره مما
يستحسن له الشعر أو غير الشعر، من معنى لطيف أو حكمة أو أدب أو
استعارة أو تجنيس أو غير ذلك مما لا يدخل في النظم، وتأمّله،
فإذا رأيتك قد ارتحت واهتززت واستحسنت، فانظر إلى حركات
الأريحيّة ممّ كانت؟ وعند ماذا ظهرت؟ فإنك ترى عيانا أن الذي
قلت لك كما قلت. اعمد إلى قول البحتري: [من المتقارب]
__________
(1) البيت في ديوانه فانظره، والتبيان (2/ 254). وشجاه شجوا:
أحزنه وأشجاه تفضيل من شجى، والطاسم: الدارس، والساجم: السائل
سجم الدمع سجوما وسجاما: سال وانسجم، وسجمت العين دمعها وعين
سجوم وأسجمت السماء: صبت. والمعنى: الشاعر يخاطب صاحبيه الذين
عاهداه على مساعدته بالبكاء عند ربع الأحبة، ويبرر شدة حزنه
بقلة مساعدتهما له بالبكاء، ويعذر دمعه لأن صاحبيه خاليان ولا
يعرفان ما فيه من حزن.
(2) البيت في ديوانه (ص 145)، ونهاية الإعجاز (ص 279)،
والموازنة (ص 29)، والإيضاح (ص 160).
(3) البيت في ديوانه (ص 215)، والصاب: عصير نبات مرّ، وقيل:
شجر إذا اعتصر خرج منه كهيئة اللّبن.
(4) الجملة مرتبطة ببداية الكلام، وهو قوله: «فليس من أحد
يخالف».
(1/62)
بلونا ضرائب من قد نرى ... فما إن رأينا
لفتح ضريبا
هو المرء أبدت له الحادثا ... ت عزما وشيكا ورأيا صليبا
تنقّل في خلقي سؤدد ... سماحا مرجّا وبأسا مهيبا
فكالسّيف إن جئته صارخا، ... وكالبحر إن جئته مستثيبا «1»
فإذا رأيتها قد راقتك وكثرت عندك، ووجدت لها اهتزازا في نفسك،
فعد فانظر في السبب واستقص في النظر، فإنك تعلم ضرورة أن ليس
إلا أنه قدّم وأخّر، وعرّف ونكّر، وحذف وأمر، وأعاد وكرّر،
وتوخّى على الجملة وجها من الوجوه التي يقتضيها «علم النحو»،
فأصاب في ذلك كله، ثم لطّف موضع صوابه، وأتى مأتى يوجب
الفضيلة.
أفلا ترى أن أول شيء يروقك منها قوله: «هو المرء أبدت له
الحادثات»، ثم قوله: «تنقّل في خلقي سؤدد» بتنكير «السؤدد»
وإضافة «الخلقين» إليه، ثم قوله:
«فكالسيف» وعطفه بالفاء مع حذفه المبتدأ، لأن المعنى لا محالة:
فهو كالسيف ثم تكريره «الكاف» في قوله: «وكالبحر»، ثم أن قرن
إلى كل واحد من التشبيهين شرطا جوابه فيه، ثم أن أخرج من كل
واحد من الشرطين حالا على مثال ما أخرج من الآخر، وذلك قوله
«صارخا» هناك «ومستثيبا» هاهنا؟ لا ترى حسنا تنسبه إلى النظم
ليس سببه ما عددت، أو ما هو في حكم ما عددت، فاعرف ذلك.
وإن أردت أظهر أمرا في هذا المعنى، فانظره إلى قول إبراهيم بن
العباس:
فلو إذ نبا دهر، وأنكر صاحب، ... وسلّط أعداء، وغاب نصير
تكون عن الأهواز داري بنجوة، ... ولكن مقادير جرت وأمور
وإنّي لأرجو بعد هذا محمّدا ... لأفضل ما يرجى أخ ووزير «2»
فإنك ترى ما ترى من الرّونق والطّلاوة، ومن الحسن والحلاوة، ثم
تتفقّد السبب في ذلك، فتجده إنّما كان من أجل تقديمه الظرف
الذي هو «إذ نبا» على
__________
(1) الأبيات في ديوانه، في مدح الفتح بن خاقان، والضرائب جمع
ضريبة وهي الطبيعة والسّجية وهذه ضريبته التي ضرب عليها وهي
الخليقة. يقال: خلق الناس على ضرائب شتى. وإنه لكريم الضرائب.
والضريب: الشكل في القدّ والخلق، يقال: فلان ضريب فلان أي:
نظيره وضريب الشكل مثله وشكله. والمستثيب: طالب الثواب.
(2) في ديوانه قالها لمّا عزل عن الأهواز في أيّام محمد بن عبد
الملك الزّيات. الأغاني (10/ 61، 62). والنجوة: ما ارتفع من
الأرض فلم يعله السّيل، والأهواز سبع كور بين البصرة وفارس،
لكل كورة منها اسم ويجمعهن الأهواز ..
(1/63)
عامله الذي هو «تكون»، وأن لم يقل: فلو تكون عن الأهواز داري
بنجوة إذ نبا دهر، ثم أن ساق هذا التنكير في جميع ما أتى به من
بعد، ثم أن قال: «وأنكر صاحب» ولم يقل: وأنكرت صاحبا، لا ترى
في البيتين الأوّلين شيئا غير الذي عددته لك تجعله حسنا في
«النظم»، وكله من معاني النحو كما ترى. وهكذا السبيل أبدا في
كل حسن ومزية رأيتهما قد نسبا إلى «النظم»، وفضل، وشرف أحيل
فيهما عليه. |