دلائل الإعجاز ت هنداوي

فصل «في أن هذه المزايا في النظم، بحسب المعاني والأغراض التي تؤمّ».
وإذ قد عرفت أنّ مدار أمر «النظم» على معاني النحو، وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه، فاعلم أنّ الفروق والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها، ونهاية لا تجد لها ازديادا بعدها، ثمّ اعلم أن ليست المزيّة بواجبة لها في أنفسها، ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض.
تفسير هذا: أنه ليس إذا راقك التنكير في «سؤدد» «1» من قوله «تنقّل في خلقي سؤدد»، وفي «دهر» من قوله: «فلو إذ نبا دهر»، فإنه يجب أن يروقك أبدا وفي كل شيء، ولا إذا استحسنت لفظ ما لم يسمّ فاعله في قوله «وأنكر صاحب»، فإنه ينبغي أن لا تراه في مكان إلا أعطيته مثل استحسانك هاهنا، بل ليس من فضل ومزيّة إلا بحسب الموضع، وبحسب المعنى الذي تريد والغرض الذي تؤمّ. وإنما سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تعمل منها الصور والنقوش، فكما أنك ترى الرجل قد تهدّى في الأصباغ التي عمل منها الصّورة والنقش في ثوبه الذي نسج، إلى ضرب من التخيّر والتدبّر في أنفس الأصباغ وفي مواقعها ومقاديرها وكيفية مزجه لها وترتيبه إياها،
إلى ما لم يتهدّ إليه صاحبه، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب، وصورته أغرب، كذلك حال الشاعر والشاعر في توخّيهما معاني النّحو ووجوهه التي علمت أنها محصول «النّظم».
واعلم أنّ من الكلام ما أنت ترى المزيّة في نظمه والحسن، كالأجزاء من الصّبغ تتلاحق وينضمّ بعضها إلى بعض حتى تكثر في العين، فأنت لذلك لا تكبر شأن
__________
(1) كلمة وردت سابقا في أبيات البحتري «ودهر» وردت في أبيات الصولي.

(1/64)


صاحبه، ولا تقضي له بالحذق والأستاذية وسعة الذّرع وشدة المنّة «1»، حتى تستوفي القطعة وتأتي على عدة أبيات. وذلك ما كان من الشعر في طبقة ما أنشدتك من أبيات البحتري، ومنه ما أنت ترى الحسن يهجم عليك منه دفعة، ويأتيك منه ما يملأ العين ضربة، حتى تعرف من البيت الواحد مكان الرجل من الفضل، وموضعه من الحذق، وتشهد له بفضل المنّة وطول الباع، وحتى تعلم، إن لم تعلم القائل، أنّه من قيل شاعر فحل، وأنه خرج من تحت يد صناع، وذلك ما إذا أنشدته وضعت فيه اليد على شيء فقلت: هذا، هذا! وما كان كذلك فهو الشّعر الشاعر، والكلام الفاخر، والنّمط العالي الشريف، والذي لا تجده إلّا في شعر الفحول البزّل «2»، ثم المطبوعين الذين يلهمون القول إلهاما.
ثم إنّك تحتاج إلى أن تستقري عدّة قصائد، بل أن تفلي «3» ديوانا من الشعر، حتى تجمع منه عدّة أبيات. وذلك ما كان مثل قول الأوّل، وتمثّل به أبو بكر الصّدّيق رضوان الله عليه حين أتاه كتاب خالد بالفتح في هزيمة الأعاجم: [من الوافر]
تمنّانا ليلقانا بقوم ... تخال بياض لأمهم السّرابا
فقد لاقيتنا فرأيت حربا ... عوانا تمنع الشّيخ الشرابا «4»
انظر إلى موضع «الفاء» في قوله:
فقد لاقيتنا فرأيت حربا ومثل قول العباس بن الأحنف: [من البسيط]
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا، ... ثمّ القفول، فقد جئنا خراسانا «5»
__________
(1) بالضم: القوة. القاموس/ منن/ (1594).
(2) تقول جمل وناقة بازل وبزول جمل بزّل أي في تاسع سنة والرجل الكامل في تجربته. القاموس/ بزل/ (1248).
(3) تقول فلاه بالسيف يفليه وفلي الشعر تدبره واستخرج معانيه. فلى رأسه بحث عن القمل.
القاموس/ فلي/ (1407).
(4) من شعر الصحابي الجليل زياد بن حنظلة التميمي وهما من قصيدة وردت في خبر ذكره الطبري في تاريخه (3/ 222 - 225). اللأم: جمع لأمة: الدرع. القاموس/ لأم/ (1492).
(5) في ديوانه من أبيات قالها للرشيد، وهو ذاهب إلى أرمينية ومنها:
ما أقدر الله أن يدني على شحط ... سكان دجلة من سكان جيحانا
متى الذي كنت أرجوه وآمله ... أمّا الذي كنت أخشاه فقد كانا
عين الزمان أصابتنا فلا نظرت ... وعذّبت بصنوف الهجر ألوانا
انظر الأغاني (8/ 388)، وجيحان: نهر بالمصيصة بالثغر الشامي، ومخرجه من بلاد الروم ويمر حتى يصب بمدينة تعرف بكفربيّا بإزاء المصيصة.

(1/65)


انظر إلى موضع «الفاء» و «ثم» قبلها.
ومثل قول ابن الدّمينة: [من الطويل]
أبيني أفي يمنى يديك جعلتني ... فأفرح، أم صيّرتني في شمالك
أبيت كأنّي بين شقّين من عصا ... حذار الرّدى، أو خيفة من زيالك
تعاللت كي أشجى، وما بك علّة، ... تريدين قتلي قد ظفرت بذلك «1»
انظر إلى الفصل والاستئناف في قوله: «تريدين قتلي، قد ظفرت بذلك».
ومثل قول أبي حفص الشّطرنجيّ، وقال على لسان عليّة أخت الرّشيد، وقد كان الرشيد عتب عليها: [من البسيط]
لو كان يمنع حسن الفعل صاحبه ... من أن يكون له ذنب إلى أحد
كانت عليّة أبرى النّاس كلّهم ... من أن تكافا بسوء آخر الأبد
ما أعجب الشّيء ترجوه فتحرمه! قد كنت أحسب أنّي قد ملأت يدي «2» انظر إلى قوله: «قد كنت أحسب» وإلى مكان هذا الاستئناف.
ومثل قول أبي دؤاد: [من الخفيف]
ولقد أغتدي يدافع ركني ... أحوذي ذو ميعة إضريج «3»
سلهب شرجب، كأنّ رماحا ... حملته، وفي السّراة دموج «4»
__________
(1) الأبيات لابن الدمينة في ديوانه، والأغاني (17/ 96). وزيالك: فراقك.
(2) أبو حفص الشطرنجي، شاعر علية بنت المهدي بن المنصور أخت هارون الرشيد الأديبة الشاعرة والشعر في الأغاني (22/ 52). وسقط من الأبيات بيت قام عليه معنى البيت الرابع وهو:
ما لي إذا غبت لم أذكر بواحدة؟ ... وإن سقمت فطال السّقم لم أعد
(3) البيت لأبي دؤاد الإيادي في ديوانه (ص 299)، ولسان العرب (ضرج)، وتاج العروس (ضرج)، وتهذيب اللغة (10/ 553)، وكتاب العين (6/ 42)، والأغاني (16/ 406)، وبلا نسبة في لسان العرب (جول)، وكتاب العين. والأحوذيّ: السريع في كل ما أخذ وقيل: الخفيف في الشيء بحذقه، وقيل: المشمر في الأمور القاهر لها. وكل المعاني تدور في فلك السرعة والإقدام والحذق في كل شيء. اللسان (حوذ). والإضريج: الجيد من الخيل، وقيل: الواسع اللّبان وقيل:
الفرس الجواد الشديد العدو.
(4) البيت لأبي دؤاد في ديوانه، وهو بلا نسبة في لسان العرب (سرا)، وأساس البلاغة (ص 135 دمج)، وتاج العروس (سرو)، والأغاني (16/ 406)، وجاءت الرواية بلفظ: «شوقب» بدلا من «سلهب». والسلهب من الخيل: الطويل على وجه الأرض وفرس مسلهبّ: ماض. وسلهب:
الطويل العظام، والسّراة: الظهر والجمع: سروات. والدّموج: دخول الشيء في الشيء. ويقال:
تدامج القوم على فلان إذا تعاونوا واتحدوا وتضافروا عليه، ويقال صلح دماج: محكم، والشرجب:
الطويل وهو نعت للفرس الجواد وقيل: الفرس الكريم. اللسان (شرجب).

(1/66)


انظر إلى التنكير في قوله «كأن رماحا».
ومثل قول ابن البواب: [من مجزوء الوافر]
أتيتك عائذا بك من ... ك لمّا ضاقت الحيل
وصيّرني هواك وبي ... لحيني يضرب المثل
فإن سلمت لكم نفسي ... فما لاقيته جلل
وإن قتل الهوى رجلا، ... فإني ذلك الرّجل «1»
انظر إلى الإشارة والتعريف في قوله: «فإني ذلك الرجل».
ومثل قول عبد الصمد: [من السريع]
مكتئب ذو كبد حرّى ... تبكي عليه مقلة عبرى
يرفع يمناه إلى ربّه ... يدعو، وفوق الكبد اليسرى «2»
انظر إلى لفظة: «يدعو» وإلى موقعها.
ومثل قول جرير: [من الكامل]
لمن الدّيار ببرقة الرّوحان ... إذ لا نبيع زماننا بزمان
صدع الغواني؛ إذ رمين، فؤاده ... صدع الزّجاجة، ما لذاك تدان «3»
انظر إلى قوله: «ما لذاك تدان»، وتأمّل حال هذا الاستئناف.
ليس من بصير عارف بجوهر الكلام، حسّاس متفهّم لسرّ هذا الشأن، ينشد أو يقرأ هذه الأبيات، إلّا لم يلبث أن يضع يده في كل بيت منها على الموضع الذي أشرت إليه، يعجب ويعجّب ويكبر شأن المزيّة فيه والفضل.
__________
(1) الأبيات في الأغاني (6/ 178)، منسوبة إلى سليم بن سلام الكوفي المغني صاحب إبراهيم الموصلي.
(2) هو «عبد الصمد بن المعذل» والشعر في ديوانه المجموع، وهي في الزهرة (1/ 24)، أربعة أبيات هذان ثم بعدهما:
يبقى إذا كلّمته باهتا ... ونفسه ممّا به سكرى
تحسبه مستمعا ناصتا ... وقلبه في أمة أخرى
(3) البيتان لجرير في ديوانه وهما على غير هذا الترتيب، وجاء الثاني برواية لفظها:
صدع الظعائن يوم بنّ فؤاده ... صدع الزجاجة، ما لذاك تدان

(1/67)