دلائل الإعجاز ت هنداوي

فصل «في النظم يتّحد في الوضع، ويدقّ فيه الصّنع»
واعلم أنّ ممّا هو أصل في أن يدقّ النظر، ويغمض المسلك، في توخّي المعاني التي عرفت: أن تتّحد أجزاء الكلام ويدخل بعضها في بعض، ويشتدّ ارتباط ثان منها بأوّل، وأن تحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النفس وضعا واحدا، وأن يكون حالك فيها حال الباني يضع بيمينه هاهنا في حال ما يضع بيساره هناك. نعم.
وفي حال ما يبصر مكان ثالث ورابع يضعهما بعد الأوّلين. وليس لما شأنه أن يجيء على هذا الوصف حدّ يحصره، وقانون يحيط به، فإنه يجيء على وجوه شتّى، وأنحاء مختلفة.
فمن ذلك أن تزاوج بين معنيين في الشرط والجزاء معا، كقول البحتري: [من الطويل]
إذا ما نهى النّاهي فلجّ بي الهوى، ... أصاخت إلى الواشي فلجّ بها الهجر «1»
وقوله: [من الطويل]
إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها، ... تذكّرت القربى ففاضت دموعها «2»
فهذا نوع.
ونوع منه آخر، قول سليمان بن داود القضاعيّ: [من الوافر]
فبينا المرء في علياء أهوى، ... ومنحطّ أتيح له اعتلاء
وبينا نعمة إذ حال بؤس، ... وبؤس إذ تعقّبه ثراء
ونوع ثالث وهو ما كان كقول كثير: [من الطويل]
وإنّي وتهيامي بعزّة بعد ما ... تخلّيت ممّا بيننا وتخلّت
لكالمرتجى ظلّ الغمامة كلّما ... تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت «3»
وكقول البحتري: [من الطويل]
__________
(1) البيت في التبيان للطيبي (2/ 400) بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي ويروى (أصاخ) بدل (أصاخت).
(2) البيت في ديوانه، وفي الإيضاح (ص 310).
(3) البيتان لكثير عزة في ديوانه، والأول منهما في خزانة الأدب (5/ 214)، والخصائص (1/ 340)، وسر صناعة الإعراب (ص 139)، وشرح شواهد المغني (ص 812)، ولسان العرب (هيم)، ومغني اللبيب (389)، والمقاصد النحوية (2/ 409) ..

(1/68)


لعمرك إنّا والزّمان كما جنت ... على الأضعف الموهون عادية الأقوى «1»
ومنه «التقسيم»، وخصوصا إذا قسّمت ثم جمعت، كقول حسان: [من البسيط]
قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوّهم ... أو حاولوا النّفع في أشياعهم نفعوا
سجيّة تلك منهم غير محدثة، ... إنّ الخلائق، فاعلم، شرّها البدع «2»
ومن ذلك، وهو شيء في غاية الحسن، قول القائل: [من البسيط]
لو أنّ ما أنتم فيه يدوم لكم ... ظننت ما أنا فيه دائما أبدا
لكن رأيت اللّيالي غير تاركة ... ما سرّ من حادث أو ساء مطّردا
فقد سكنت إلى أنّي وأنّكم ... سنستجدّ خلاف الحالتين غدا «3»
قوله: «سنستجد خلاف الحالتين غدا»، جمع فيما قسّم لطيف، وقد ازداد لطفا بحسن ما بناه عليه، ولطف ما توصّل به إليه من قوله: «فقد سكنت إلى أنّي وأنّكم».
وإذ قد عرفت هذا النّمط من الكلام، وهو ما تتّحد أجزاؤه حتى يوضع وضعا واحدا، فاعلم أنه النّمط العالي والباب الأعظم، والذي لا ترى سلطان المزيّة يعظم في شيء كعظمه فيه.
ومما ندر- منه ولطف مأخذه، ودقّ نظر واضعه، وجلّى لك معن شأو قد تحسر دونه العتاق «4»، وغاية يعيا من قبلها المذاكي «5» القرّح «6» - الأبيات المشهورة في تشبيه شيئين بشيئين، كبيت امرئ القيس: [من الكامل]
كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالي «7»
__________
(1) الموهون: الذي أصابه وجمع وإن كانت أنثى يقال لها واهنة، يقال: أوهنه الله فهو موهون كما يقال أحمّه الله فهو محموم.
(2) البيتان لحسان بن ثابت في ديوانه (ص 238)، والطراز (3/ 144)، والمصباح (ص 249)، والإيضاح (ص 316).
(3) الأبيات لإبراهيم بن العباس الصولي ونسبها البعض إلى ابن الرومي.
(4) عتاق الطير: الجوارح منها، الأرحبيات العتاق: النجائب منها. اللسان/ عتق/ (10/ 235).
(5) هي الخيل التي أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان. اه اللسان مادة/ ذكا/ (14/ 288).
(6) جمع قارح وهي الناقة أول ما تحمل. اه اللسان/ قرح/ (2/ 559).
(7) البيت في ديوانه من قصيدة مطلعها:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وفي الأغاني (3/ 192)، وشرح التصريح (1/ 382)، وشرح شواهد المغني (1/ 342، 2/ 595، 819)، والصاحبي في فقه اللغة (ص 244)، ولسان العرب (أدب)، والمقاصد النحوية (3/ 216)، والمنصف (2/ 117)، وتاج العروس (بال)، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر

(1/69)


وبيت الفرزدق: [من الكامل]
والشّيب ينهض في الشّباب كأنّه ... ليل يصيح بجانبيه نهار «1»
وبيت بشّار: [من الطويل]
كأنّ مثار النّقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا، ليل تهاوى كواكبه «2»
ومما أتى في هذا الباب مأتى أعجب مما مضى كله، قول زياد الأعجم: [من الطويل]
وإنّا وما تلقي لنا إن هجوتنا ... لكالبحر، مهما يلق في البحر يغرق «3»
وإنما كان أعجب، لأن عمله أدقّ، وطريقه أغمض، ووجه المشابكة فيه أغرب.
واعلم أنّ من الكلام ما أنت تعلم إذا تدبرته أن لم يحتج واضعه إلى فكر ورويّة حتى انتظم، بل ترى سبيله في ضمّ بعضه إلى بعض، سبيل من عمد إلى لآل فخرطها في سلك، لا يبغي أكثر من أن يمنعها التفرّق، وكمن نضد أشياء بعضها على بعض، لا يريد في نضده ذلك أن تجيء له منه هيئة أو صورة، بل ليس إلا أن تكون مجموعة في رأي العين. وذلك إذا كان معناك، معنى لا تحتاج أن تصنع فيه شيئا غير أن تعطف لفظا على مثله، كقول الجاحظ:
__________
- (7/ 64)، وأوضح المسالك (2/ 329)، ومغني اللبيب (1/ 218، 2/ 392، 439). والعنّاب:
ثمر يطلق على شجر العنّاب وهو أحمر حلو لذيذ الطعم على شكل ثمرة النبق. والحشف من التمر:
أردؤه، وهو الذي يجف قبل نضجه فلا يكون له نوى ولا لحاء ولا حلاوة ولا لحم.
(1) البيت للفرزدق في ديوانه من قصيدة مطلعها:
أعرفت بين رويتين وحنبل ... دمنا تلوح كأنها الأسطار
ورويتين وحنبل: موضعان. الأسطار: أراد الأثر الخفي محته الأمطار، يقال: صاح العنقود يصيح إذا استتم خروجه من أكمته وطال وهو في ذلك غضّ، وتصيّح البقل والشّعر أي: تشقق، وقول رؤية: كالكرم إذ نادى من الكافور: أراد: صاح.
(2) البيت لبشار بن برد في ديوانه (1/ 318)، والمصباح (106) ويروى «رءوسهم» بدل «رءوسنا».
الأغاني (3/ 192)، والنقع: الغبار، وتهاوى: تتهاوى أي: تتساقط.
(3) البيت في الأغاني (15/ 392)، قاله حينما همّ الفرزدق أن يهجو عبد القيس فأسمعه زياد بيتين وكان هذا البيت أحدهما قال: أي زياد:
وما ترك الهاجون لي إن هجوته ... مصحّا أراه في أديم الفرزدق
فإنّا وما تهدي لنا إن هجوتنا ... لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق
فقال له الفرزدق: حسبك وما عاوده بشيء. والبيت في الإيضاح (231). ويروى البيت «وإنّا» بدل «فإنا».

(1/70)


«جنّبك الله الشبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعرفة نسبا، وبين الصّدق سببا، وحبّب إليك التثبّت، وزيّن في عينك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التّقوى، وأشعر قلبك عزّ الحق، وأودع صدرك برد اليقين، وطرد عنك ذلّ اليأس، وعرّفك ما في الباطل من الذّلة، وما في الجهل من القلّة» «1».
وكقول بعضهم: «لله درّ خطيب قام عندك، يا أمير المؤمنين، ما أفصح لسانه، وأحسن بيانه، وأمضى جنانه، وأبلّ ريقه، وأسهل طريقه».
ومثل قول النابغة في الثناء المسجوع: «أيفاخرك الملك اللّخمي، فو الله لقفاك خير من وجهه، ولشمالك خير من يمينه، ولأخمصك خير من رأسه، ولخطؤك خير من صوابه، ولعيّك خير من كلامه، ولخدمك خير من قومه».
وكقول بعض البلغاء في وصف اللسان: «اللّسان أداة يظهر بها حسن البيان، وظاهر يخبر عن الضمير، وشاهد ينبئك عن غائب، وحاكم يفصل به الخطاب، وواعظ ينهى عن القبيح، ومزيّن يدعو إلى الحسن، وزارع يحرث المودّة، وحاصد يحصد الضّغينة، ومُلهٍ يونق الأسماع».
فما كان من هذا وشبهه لم يجب به فضل إذا وجب، إلّا بمعناه أو بمتون ألفاظه، دون نظمه وتأليفه، وذلك لأنه لا فضيلة حتى ترى في الأمر مصنعا، وحتى تجد إلى التخيّر سبيلا، وحتى تكون قد استدركت صوابا.
فإن قلت: أفليس هو كلاما قد اطّرد على الصواب، وسلم من العيب؟ أفما يكون في كثرة الصواب فضيلة؟
قيل: أمّا والصواب كما ترى فلا. لأنا لسنا في ذكر تقويم اللسان، والتحرّز من اللحن وزيغ الإعراب، فنعتدّ بمثل هذا الصواب. وإنما نحن في أمور تدرك بالفكر اللطيفة، ودقائق يوصل إليها بثاقب الفهم، فليس درك صواب دركا فيما نحن فيه حتّى يشرف موضعه ويصعب الوصول إليه، وكذلك لا يكون ترك خطاء تركا حتى يحتاج في التحفّظ منه إلى لطف نظر، وفضل رويّة، وقوّة ذهن، وشدة تيقّظ. وهذا باب ينبغي أن تراعيه وأن تعنى به، حتى إذا وازنت بين كلام وكلام دريت كيف تصنع، فضممت إلى كلّ شكل شكله، وقابلته بما هو نظير له، وميّزت ما الصنعة منه في لفظه، ممّا هي منه في نظمه.
واعلم أن هذا- أعني الفرق بين أن تكون المزية في اللفظ، وبين أن تكون في النّظم- باب يكثر فيه الغلط، فلا تزال ترى مستحسنا قد أخطأ بالاستحسان موضعه،
__________
(1) انظر الحيوان للجاحظ (1/ 3). في المقدمة.

(1/71)


فينحل اللّفظ ما ليس له، ولا تزال ترى الشّبهة قد دخلت عليك في الكلام قد حسن من لفظه ونظمه، فظننت أن حسنه ذلك كلّه للّفظ منه دون النظم.
مثال ذلك: أن تنظر إلى قول ابن المعتز: [من الطويل]
وإنّي على إشفاق عيني من العدى ... لتجمح منّي نظرة ثمّ أطرق «1»
فترى أنّ هذه الطّلاوة وهذا الظرف، إنما هو لأن جعل النّظر «يجمح» وليس هو لذلك، بل لأن قال في أول البيت «وإنّي» حتى دخل اللّام في قوله «لتجمح»، ثم قوله: «منّي» ثم لأن قال «نظرة» ولم يقل «النّظر» مثلا، ثم لمكان «ثم» في قوله:
«ثم أطرق»، وللطيفة أخرى نصرت هذه اللطائف، وهي اعتراضه بين اسم «إن» وخبرها بقوله: «على إشفاق عيني من العدى».
وإن أردت أعجب من ذلك فيما ذكرت لك، فانظر إلى قوله، وقد تقدم إنشاده قبل: [من البسيط]
سالت عليه شعاب الحيّ حين دعا ... أنصاره بوجوه كالدّنانير «2»
فإنك ترى هذه الاستعارة، على لطفها وغرابتها، إنما تمّ لها الحسن وانتهى إلى حيث انتهى، بما توخّى في وضع الكلام من التقديم والتأخير، وتجدها قد ملحت ولطفت بمعاونة ذلك ومؤازرته لها. وإن شككت فاعمد إلى الجارّين والظرف، فأزل كلّا منها من مكانه الذي وضعه الشاعر فيه، فقل: «سالت شعاب الحيّ بوجوه كالدنانير عليه حين دعا أنصاره»، ثم انظر كيف يكون الحال، وكيف يذهب الحسن والحلاوة؟
وكيف تعدم أريحيّتك التي كانت؟ وكيف تذهب النّشوة التي كنت تجدها؟.
وجملة الأمر أن هاهنا كلاما حسنه للّفظ دون النظم، وآخر حسنه للنظم دون اللفظ، وثالثا قد أتاه الحسن من الجهتين، ووجبت له المزيّة بكلا الأمرين. والإشكال في هذه الثالث، وهو الذي لا تزال ترى الغلط قد عارضك فيه، وتراك قد حفت فيه «3» على النّظم، فتركته وطمحت ببصرك إلى اللفظ، وقدّرت في حسن كان به وباللّفظ، أنه للّفظ خاصة. وهذا هو الذي أردت حين قلت لك: «إن في الاستعارة ما لا يمكن بيانه إلّا من بعد العلم بالنظم والوقوف على حقيقته».
__________
(1) انظر ديوان ابن المعتز (1/ 307).
(2) تقدم تخريجه.
(3) الحيف: الميل في الحكم والجور والظلم. اه اللسان مادة/ حيف/ (9/ 60).

(1/72)


ومن دقيق ذلك وخفيّه، أنك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4]، لم يزيدوا فيه على ذكر الاستعارة، ولم ينسبوا الشرف إلا إليها، ولم يروا للمزيّة موجبا سواها. هكذا ترى الأمر في ظاهر كلامهم. وليس الأمر على ذلك، ولا هذا الشرف العظيم، ولا هذه المزيّة الجليلة، وهذه الرّوعة التي تدخل على النفوس عند هذا الكلام لمجرّد الاستعارة، ولكن لأن سلك بالكلام طريق ما يسند الفعل فيه إلى الشيء، وهو لما هو من سببه، فيرفع به ما يسند إليه، ويؤتى بالذي الفعل له في المعنى منصوبا بعده، مبيّنا أن ذلك الإسناد وتلك النسبة إلى ذلك الأوّل، إنّما كانا من أجل هذا الثاني، ولما بينه وبينه من الاتصال والملابسة، كقولهم: «طاب زيد نفسا»، و «قرّ عمرو عينا»، و «تصبّب عرقا»، و «كرم أصلا»، و «حسن وجها»، وأشباه ذلك مما تجد الفعل فيه منقولا عن الشيء إلى ما ذلك الشيء من سببه.
وذلك أنّا نعلم أنّ «اشتعل» للشيب في المعنى، وإن كان هو للرأس في اللّفظ، كما أن «طاب» للنفس، و «قرّ» للعين، و «تصبّب» للعرق، وإن أسند إلى ما أسند إليه. يبيّن أنّ الشرف كان لأن سلك فيه هذا المسلك، وتوخّي به هذا لمذهب أن تدع هذا الطريق فيه، وتأخذ اللّفظ فتسنده إلى الشيب صريحا فتقول: «اشتعل شيب الرأس»، أو «الشيب في الرأس»، ثم تنظر هل تجد ذلك الحسن وتلك الفخامة؟ وهل ترى الرّوعة التي كنت تراها؟
فإن قلت: فما السبب في أن كان «اشتعل» إذا استعير للشيب على هذا الوجه، كان له الفضل؟ ولم بان بالمزية من الوجه الآخر هذه البينونة؟
فإنّ السبب أنه يفيد، مع لمعان الشيب في الرأس الذي هو أصل المعنى، الشمول، وأنه قد شاع فيه، وأخذه من نواحيه، وأنه قد استغرقه وعمّ جملته، حتى لم يبق من السواد شيء، أو لم يبق منه إلا ما لا يعتدّ به. وهذا ما لا يكون إذا قيل:
«اشتعل شيب الرأس، أو الشيب في الرأس»، بل لا يوجب اللفظ حينئذ أكثر من ظهوره فيه على الجملة. ووزان هذا أنك تقول: «اشتعل البيت نارا» فيكون المعنى: أن النار قد وقعت فيه وقوع الشّمول، وأنها قد استولت عليه وأخذت في طرفيه ووسطه. وتقول: «اشتعلت النار في البيت»، فلا يفيد ذلك، بل لا يقتضي أكثر من وقوعها فيه، وإصابتها جانبا منه. فأما الشمول، وأن تكون قد استولت على البيت وابتزّته، فلا يعقل من اللفظ البتة.
ونظير هذا في التنزيل قوله عز وجل: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [القمر: 12]،

(1/73)


«التفجير» للعيون في المعنى، وأوقع على الأرض في اللفظ، كما أسند هناك الاشتعال إلى الرأس. وقد حصل بذلك من معنى الشّمول هاهنا، مثل الذي حصل هناك. وذلك أنه قد أفاد أنّ الأرض قد كانت صارت عيونا كلّها، وأن الماء قد كان يفور من كل مكان منها. ولو أجري اللفظ على ظاهره فقيل: «وفجّرنا عيون الأرض، أو العيون في الأرض»، لم يفد ذلك ولم يدلّ عليه، ولكان المفهوم منه أن الماء قد كان فار من عيون متفرّقة في الأرض، وتبجّس من أماكن منها.
واعلم أنّ في الآية الأولى شيئا آخر من جنس «النظم»، وهو تعريف «الرأس» بالألف واللام، وإفادة معنى الإضافة من غير إضافة، وهو أحد ما أوجب المزيّة. ولو قيل: «واشتعل رأسي»، فصرّح بالإضافة، لذهب بعض الحسن، فاعرفه.
وأنا أكتب لك شيئا مما سبيل «الاستعارة» فيه هذا السبيل، ليستحكم هذا الباب في نفسك، ولتأنس به.
فمن عجيب ذلك قول بعض الأعراب: [من الرجز]
اللّيل داج كنفا جلبابه ... والبين محجور على غرابه
ليس كلّ ما ترى من الملاحة لأن جعل للّيل جلبابا، وحجر على الغراب، ولكن في أن وضع الكلام الذي ترى، فجعل «الليل» مبتدأ، وجعل «داج» خبرا له وفعلا لما بعده وهو «الكنفان»، وأضاف «الجلباب» إلى ضمير «الليل»، ولأن جعل كذلك «البين» مبتدأ، وأجرى محجورا خبرا عنه، وأن أخرج اللفظ على «مفعول». يبيّن ذلك أنك لو قلت: «وغراب البيت محجور عليه، أو: قد حجر لي غراب البيت»، لم تجد له هذه الملاحة. وكذلك لو قلت: «قد دجا كنفا جلباب الليل»، لم يكن شيئا.
ومن النادر فيه قول المتنبي: [من الخفيف]
غصب الدّهر والملوك عليها ... فبناها في وجنة الدّهر خالا «1»
__________
(1) البيت لأبي الطيب المتنبي في ديوانه (ص 168) من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة ويذكر نهوضه إلى ثغر الحدث لمّا بلغه أن الروم أحاطت به وذلك في جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وثلاث مائة (955 م) والقصيدة مطلعها:
ذي المعالي فليعلون من تعالى ... هكذا هكذا وإلا فلا لا
وذي اسم إشارة، وهو خبر مقدم على اسمه المعالي. وفي البيت الآخر: غصب بمعنى قهر، شبهه بالخال الذي يزين الوجه. ويروى البيت ب «الأرض» بدل «الدهر».

(1/74)


قد ترى في أوّل الأمر أنّ حسنه أجمع في أن جعل للدهر «وجنة»، وجعل البنيّة «خالا» في الوجنة، وليس الأمر على ذلك، فإن موضع الأعجوبة في أن أخرج الكلام مخرجه الذي ترى، وأن أتى «بالخال» منصوبا على الحال من قوله «فبناها». أفلا ترى أنك لو قلت: «وهي خال في وجنة الدهر»، لوجدت الصورة غير ما ترى؟ وشبيه بذلك أنّ ابن المعتز قال: [من المجتث]
يا مسكة العطّار ... وخال وجه النهار «1»
وكانت الملاحة في الإضافة بعد الإضافة، لا في استعارة لفظة «الخال»؛ إذ معلوم أنه لو قال: «يا خالا في وجه النهار» أو «يا من هو خال في وجه النهار»، لم يكن شيئا.
ومن شأن هذا الضّرب أن يدخله الاستكراه، قال الصاحب «2»: «إياك والإضافات المداخلة، فإن ذلك لا يحسن»، وذكر أنه يستعمل في الهجاء كقول القائل: [من الخفيف]
يا عليّ بن حمزة بن عماره ... أنت والله ثلجة في خياره «3»
ولا شبهة في ثقل ذلك في الأكثر، ولكنه إذا سلم من الاستكراه لطف وملح.
ومما حسن فيه قول ابن المعتز أيضا: [من الطويل]
وظلّت تدير الرّاح أيدي جآذر ... عتاق دنانير الوجوه ملاح «4»
ومما جاء منه حسنا جميلا قول الخالديّ في صفة غلام له: [من المنسرح]
__________
(1) البيت في ديوانه (ص 253) فانظره، ويليه:
ولعبة أحكتها عناية النجّار ... من آبنوس تسمى باليمن بين الجواري.
(2) هو الصاحب بن عباد وزير البويهيين.
(3) البيت لم أعثر على قائله، وهو في الإيضاح (ص 9)، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي، ولعلي بن حمزة المهجو في هذا البيت ترجمته في الجزء الخامس من معجم الأدباء لياقوت، وفي قوله:
«ثلجة في خياره» قلب والأصل خيارة في ثلجة.
(4) البيت في ديوانه (145) (طبعة دار صادر) وهو ثاني بيتين في الديوان والبيت الذي قبله:
لبسنا إلى الخمار والنجم غائر ... غلالة ليل طرّزت بصباح
والبيت في الإيضاح (ص 10)، والراح: الخمر، الجآذر: جمع جؤذر وهو ولد البقرة الوحشية، وعتاق: جمع عتيق أي كريم، وإضافة دنانير إلى الوجوه من إضافة المشبه به إلى المشبه، والشاهد في قوله: عتاق دنانير الوجوه.

(1/75)


ويعرف الشّعر مثل معرفتي ... وهو على أن يزيد مجتهد
وصيرفيّ القريض، وزّان دينا ... ر المعاني الدّقاق، منتقد «1»
ومنه قول أبي تمام: [من الكامل]
خذها ابنة الفكر المهذّب في الدّجى ... واللّيل أسود رقعة الجلباب «2»
ومما أكثر الحسن فيه بسبب النظم، قول المتنبي: [من الطويل]
وقيّدت نفسي في ذراك محبّة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيّدا «3»
الاستعارة في أصلها مبتذلة معروفة، فإنك ترى العامّي يقول للرجل يكثر إحسانه إليه وبرّه له، حتى يألفه ويختار المقام عنده: «قد قيّدني بكثرة إحسانه إليّ، وجميل فعله معي، حتى صارت نفسي لا تطاوعني على الخروج من عنده»، وإنما كان ما ترى من الحسن، بالمسلك الذي سلك في النّظم والتأليف.